الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

ياسر برهامي

[1]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [1] إن الله سبحانه وتعالى اختص قوماً بولايته؛ لأنه علم منهم أهلية لذلك، وذلك مقام رفيع، فلما سمع قوم بذلك أرادوا أن يبلغوا الولاية ولكنهم لم يلتزموا بشرع الله، ولا اتبعوا أوامره، فادعوا الولاية وافتروا على الله، بل بعضهم جعل ما يفعله من الحرام دلالة على ولايته، ولكن الله جعل لأوليائه علامات تميز الدخيل فيهم ممن ليس منهم، فهيهات أن يدرك درجة الولاية قوم تمنوها دونما عمل وطاعة واتباع.

مقدمة المؤلف في الكلام عن أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

مقدمة المؤلف في الكلام عن أولياء الرحمن وأولياء الشيطان الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فبقراءة شرح الوصايا المهمة من وصايا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي رسالة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. قال شيخ الإسلام رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله. فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن. ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أولياء الشيطان. وقد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء. ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64] وقال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196]]. فقد ذكر الله عز وجل صفة أوليائه أنهم المؤمنون المتقون، وبين عز وجل عاقبة أمرهم أنهم لا خوف عليهم مما هم يقبلون عليه ويقدمون عليه، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم أو حصل لهم. وبين عز وجل أن لهم البشرى في الحياة الدنيا، فمن عاجل بشرى المؤمن ما يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلوب وفي ألسنة الخلق من محبة أوليائه والثناء عليهم. ومن البشرى في الدنيا كذلك الرؤيا الصالحة التي يراها المؤمن أو ترى له. وأما في الآخرة فما تبشرهم به الملائكة عند احتضارهم وعند قيامهم من قبورهم، وعندما تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. وكذلك من البشرى في الآخرة ما يبشر به العمل الصالح صاحبه حين يأتيه في صورة رجل طيب، حسن الوجه طيب الريح يقول: (أبشر بما يسرك هذا يومك هذا الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح). قال المؤلف رحمه الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]. إذاً لله أولياء كما في الآية: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)) والله عز وجل وليهم وهم أولياؤه، فهو يخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلال إلى نور الإيمان والعلم والتوحيد. ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)) ورأس الطواغيت الشيطان، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله وهو راض، وهؤلاء بعضهم أولياء بعض، وهم يتعاونون على الكفر والفسوق والعصيان. ((يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)) أي: يتركون الإيمان والعلم والعدل والحق الذي أخبر الله به وأمر به عز وجل إلى ظلمات الظلم والشرك والشك والنفاق وغير ذلك مما يحصل لمن يعبد غير الله. ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:51 - 56]]. فالله عز وجل له أولياء من المؤمنين وهو وليهم، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]. ولا شك أن ذكر هذه الولاية عقب إيجاب البراءة من الكفار، من اليهود والنصارى، وعدم اتخاذهم أولياء دليل واضح على أنه لا تحصل الولاية لله إلا ببغض أعداء الله. أما النفاق فتدل الآية على أنه يسبب موالاة الكفار، قال تعالى: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: مرض النفاق والشبهات والشهوات ((يُسَارِعُونَ فِيهِم)) أي: يسارعون في موالاة اليهود والنصارى والكفار بزعم أنهم يخشون وقوع الهزيمة على المسلمين، فيضمنون أنهم قد أعدوا لهذا اليوم عدته بأن والوا أعداء الله، فيتخذون عندهم يداً يحمون بها أنفسهم إذا غلبوا. قال عز وجل: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)) و (عسى) من الله واجبة، فمن تولى الله عز وجل، وتولى دين رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته، وتولى عباد الله المؤمنين، فإن الله يفتح عليه، ويأتي الكفار أمر من عنده عز وجل فيجعل باطلهم ومكرهم وكيدهم هباءً منثوراً، وعند ذلك يندم المنافقون على ما أسروا في أنفسهم من موالاة الكفار. وبين عز وجل أن المؤمنين يتعجبون من هؤلاء المنافقين، كيف يجمعون بين النقيضين؟ بين كونهم يقسمون أقوى الأيمان -وقد بذلوا الجهد في المبالغة في القسم- أنهم مع المؤمنين، وفي نفس الوقت هم يتخذون الكفار أولياء، فكيف يجتمع هذان النقيضان؟ لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً، وهو في نفس الوقت يتخذ الذين كفروا أولياء. وقد بين عز وجل أن موالاة الكفار تستوجب - والعياذ بالله - حبوط العمل، وتجلب الخسران، وبين أنها تجر إلى الردة فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) وهذه صفات أولياء الله أنهم يحبون الله والله يحبهم، وكذلك من صفاتهم: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) وأضافوا إلى ذلك الجهاد في سبيل الله، وأنهمولن يخافون لومة اللائمين الذين يلومون من يجاهد في سبيل الله، ومن يعمل لإعلاء كلمة الله. ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) فمن تفضل الله عز وجل عليه بحبه، وبالذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين، والجهاد في سبيله، فهذا قد آتاه الله عز وجل من فضله، والله واسع عليم. ثم حصر عز وجل الموالاة أنها تكون لمن لديهم صفات معينة، وهي: أنهم المؤمنون، والمقيمون للصلاة، والمؤتون للزكاة، والذين يركعون ويخضعون لله عز وجل. وبين الله انتصار هذا الحزب الذي يشترط لعضويته: أن يكون الإنسان مؤمناً مصلياً مزكياً مطيعاً لله عز وجل. والغرض المقصود من هذه الآية في هذا الباب هو قوله: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) فلله عز وجل أولياء. قال المؤلف رحمه الله: [قال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44]]. أي: هو يتولى أمور عباده عموماً، وأمور عباده المؤمنين بالحفظ والعناية خصوصاً. قال المؤلف رحمه الله: [قال تعالى: وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100]]. إذاً: هناك من يتولى الشيطان، والشيطان وليه. قال المؤلف رحمه الله: [وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]]. فسماهم أولياء الشيطان وأمر بقتالهم؛ لأنهم يصدون عن سبيل الله ويشركون به، ويظهرون الفساد في الأرض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: وقال تعال

وجوب التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

وجوب التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما. فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]]. قال المؤلف رحمه الله: [وفي الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة (أو فقد آذنته بالحرب) وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، (وفي رواية) فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه). فهذا أصح حديث يروى في الأولياء. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى ولياً لله فقد بارز الله بالمحاربة. وفي حديث آخر: (وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب)]، أي: الليث الذي يحارب أو نحو ذلك، وهذا التشبيه إنما هو في شدة البأس، وهو لتقريب الأمر إلى أذهان العباد، وإلا فالله ليس كمثله شيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث ثأره. وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما ينهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله). وفي حديث آخر رواه أبو داود وقال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)].

بيان مفهوم الولاية والعداوة

بيان مفهوم الولاية والعداوة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والولاية: ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد. وقد قيل: إن الولي سمي ولياً من موالاته للطاعات، أي: متابعته لها، والأول أصح، والولي: القريب، يقال: هذا يلي هذا أي: يقرب منه، ومنه قوله النبي صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر) أي: لأقرب رجل إلى الميت وأكده بلفظ الذكر؛ ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيه الذكور والإناث] ,أيضاً لكي لا يتوهم أن ذلك خاص بالرجال دون الصبيان وسائر الذكور. قال المؤلف رحمه الله تعالى: كما قال صلى الله عليه وسلم في الزكاة: (فابن لبون ذكر). فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه كان المعادي لوليه معادياً له. كما قال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]. فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، ولهذا قال: (ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)].

الأنبياء أفضل أولياء الله

الأنبياء أفضل أولياء الله قال المؤلف رحمه الله [وأفضل أولياء الله (الأنبياء، وأفضل الأنبياء المرسلون) منهم، وأفضل المرسلين أولوا العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليه الله وسلامه عليهم أجمعين. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]] وأولوا العزم على قول جمهور العلماء: هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الآية. والقول الآخر: أن كل الرسل أولي عزم. واستدل الأولون بقول الله عز وجل عن آدم: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] والأصل في (من) أنها للتبعيض، ولا شك في أفضيلة هؤلاء، وقد نص الله على ذكرهم، وذلك دليل على فضلهم.

فضل الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته

فضل الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأفضل أولي العزم: محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون]. وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خطيبهم إذا وفدوا على الله، وإن كان الحديث لم يصح نصاً، ولكن في حديث الشفاعة ما يدل عليه؛ فإن الذي يتقدم ويسجد بين يدي الله، ويشفع عند الله سبحانه وتعالى في أمر خلقه هو النبي عليه الصلاة والسلام، فهو خطيبهم إذا وفدوا على الله، وهو صاحب المقام المحمود أي: الشفاعة التي يتراجع عنها أولو العزم من الرسل، وهذا المقام يغبطه به الأولون والآخرون. قال المؤلف رحمه الله: [صاحب لواء الحمد]. أي: يوم القيامة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لواء الحمد بيدي وآدم ومن دونه تحت لوائي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله عز وجل يفتح عليه من أنواع المحامد والثناء مالم يفتحه على أحد قبله عليه الصلاة والسلام، فيجعل الله لواء يسمى: (لواء الحمد) يعرف به عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وصاحب الحوض المورود]. والحوض قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أن: (آنيته كعدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة]. وهذه منزلة لا تنبغي إلا لعبد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أن من سأل له الوسيلة حقت له الشفاعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بعثه الله بأفضل الكتب، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم]. أي: أنه قد يكون في بعض الأمم بعض الفضائل، أما هذه الأمة فاجتمعت فيها كل الفضائل في العلم والعمل. قال المؤلف رحمه الله: [وهم آخر الأمم خلقاً، وأول الأمم بعثاً، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة)]، أي: نحن الآخرون زمناً السابقون يوم القيامة إلى الله عز وجل منزلة وقدراً]. قال المؤلف رحمه الله: [قال: (بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه) -يعني: يوم الجمعة- فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: (غداً لليهود وبعد غد للنصارى)]. أي: أنهم اختلفوا في يوم الجمعة، وقد كان شرع لهم ابتداء، لكن لما اختلفوا فيه رفع ذلك عنهم ولم يعد مشروعاً لهم أن يعظموا يوم الجمعة؛ حرماناً لهم من ثوابه وفضله، بل لهم تعظيم السبت وتعظيم الأحد بدلاً من تعظيم الجمعة. قال المؤلف رحمه الله: [وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر) أي: أن أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك). وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة].

الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا دليل على ولاية الله تعالى

الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهراً وباطناً دليل على ولاية الله تعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون ولياً لله إلا من آمن به وبما جاء به، واتبعه باطناً وظاهراً، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم]. أي: امتحاناً لهم إن كانوا صادقين في حب الله فليتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله: [وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان منهم، بل يدعون أنهم أبناء الله، وأحباؤه، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة:18]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:111 - 112]]. قال المؤلف رحمه الله: [وكان مشركوا العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:66 - 67]. وقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:30 - 34]. فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون]. وهذه القضية مهمة جداً، وهي: أن ظن الإنسان أنه ولي لله عز وجل لا يلزم منه أن يكون ولياً في الحقيقة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً من غير سر: (إن آل فلان ليسوا لي بأولياء) -أي: طائفة من أقاربه- (إنما وليي الله وصالح المؤمنين)، وهذا موافق لقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. وصالح المؤمنين هو من كان صالحاً من المؤمنين وهم المؤمنون المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة كلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، ومثل هذا الحديث الآخر: (إن أوليائي المتقون من كانوا وحيث كانوا)].

ادعاء الولاية من بعض الكفار والمنافقين

ادعاء الولاية من بعض الكفار والمنافقين قال المؤلف رحمه الله: [كما أن من الكفار من ادعى أنه ولي الله وليس ولياً لله بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل أن لا يوقروا في الباطن بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان ملكاً مطاعاً ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون: إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى] ويوافقهم في ذلك طوائف ممن لا يخطِّئ اليهود والنصارى، ولا يلزم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، وهذا من المنافقين الذين يعتقدون خلاف ما يظهرون حين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو رسولنا نحن، وهم لهم أنبياؤهم ورسلهم والعياذ بالله، وهذا من النفاق الأكبر. يقول المؤلف رحمه الله: [أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته. كما كان الخضر مع موسى] وهذا الكلام هو أيضاً كلام بعض الصوفية الغلاة الذين يقولون مثل هذه الضلالات الكفرية. وتجد هؤلاء يركزون على قصة الخضر وموسى، ويحرفونها عما تدل عليه، وموسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل، ولم يكن رسولاً إلى الناس كافة، ولا مانع من وجود نبي في زمنه يوحى إليه، فالخضر إما نبي وإما متبع لنبي يأتيه وحي قاطع من عند الله عز وجل بهذه الأفعال، ويقولون: إن أهل الالتزام بما جاء به الأنبياء هم أهل الشريعة، وأما أهل الباطن فهم أهل الحقيقة، فمن كان على حال الخضر فهو يعرف بواطن الأمور التي لا يعرفها أهل الشريعة، وقد يفعلون أشياء منكرة وهي في الحقيقة من المعروف، مثل قتل من لا يستحق القتل ونحو ذلك، وهم بهذا يؤصلون أن الولي مهما فعل من أموراً مستنكرة فلا ينكر عليه؛ لأن الذي ينكر عليهم لا يعرف الباطن، كما أن موسى كان مخطئاً حين أنكر على الخضر كما يقولون، وفتح هذا الباب يؤدي إلى الفواحش والمنكرات باسم الكرامات، لذلك تجد أهل الضلال والكفر والعياذ بالله يعظون ليستحلوا المحرمات فقط. ويقول بعضهم: إن من كرامة سيدي فلان الفلاني والعياذ بالله أنه خطب يوماً فقال: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: كفر كفر، فسل السيف ونزل من على المنبر، قال: وفعل ذلك ثلاثين جمعة! فمن يرضى بهذا الكلام يكون كافراً والعياذ بالله. ويذكرون أن من كرامات فلان الفلاني أنه كان ينزل شيخ البلد من على بغلته، فإن امتنع تسمر في مكانه، فيفعل بالدابة، والعياذ بالله، وهذه من أفضع الفضائع ومع ذلك يعدونها كرامات!! لذا من اعتقد أن أحداً يسعه الخروج عن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شرع موسى كان كافراً، فهذا من نواقض الإسلام كما ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله: [أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة، وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته. وقد يقول بعض هؤلاء: إن أهل الصفة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم]. ولذلك تجدهم لا يهتمون بالسنة، ولا يبحثون في تهذيب النفوس من خلال سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل عندهم وسائلهم الخاصة بهم.

إبطال ما يزعمه أدعياء الولاية في أهل الصفة

إبطال ما يزعمه أدعياء الولاية في أهل الصفة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج فصار أهل الصفة بمنزلته]. فهم ظنوا أن كلمة الصوفية مأخوذة من الصفة، وهي ليست كذلك، لذا فإن من الكفر والعياذ بالله أن يقال: إنه يوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج. وأهل الصفة كانت بدايتهم أن هناك من يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجد مأوى، فجعل لهم في مؤخرة المسجد مكان يأوون إليه. قال المؤلف رحمه الله: [وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]. وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم، فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذر عليه ذلك نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه. ولم يكن أهل الصفة ناساً بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها أياماً ثم ينتقل منها، والذين ينزلون بها هم من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزية في علم ولا دين، بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة أي: استوخوهما]. أي: مرضوا من جوها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح أي: إبل لها لبن، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتي بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم] أي: جعلت المسامير فيها كما فعلوا بالراعي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون] والحرة: أرض فيها حجارة سوداء على أطراف المدينة. قال المؤلف رحمه الله: [وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة، فكان ينزلها مثل هؤلاء ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل عنها، ونزلها أبو هريرة وغيره، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي (تاريخ من نزل الصفة)]. وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة، وكذلك أكابر المهاجرين كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبي عيدة بن الجراح وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة]. وهؤلاء هاجروا في سبيل الله وكانت لهم أموال فاتخذوا بها مساكن، أو تاجروا وربحوا حتى كانت لهم مساكن. والعرنيين نزلوا مصلحة وطمعوا في المال، فقتلوا راعي إبل الصدقة وأخذوا الإبل طمعاً في المال.

عدم صحة الأحاديث في عدة الأولياء والأبدال وأمثلة لذلك

عدم صحة الأحاديث في عدة الأولياء والأبدال وأمثلة لذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روي أنه كان بها غلام للمغيرة بن شعبة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذا واحد من السبعة) وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية، وكذا لك كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثة عشر أو القطب الواحد فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم]. وبعض هذه التسميات وردت لكن لغير ما يقصده هؤلاء، فالنقباء وردت في نقباء الأنصار في بيعة العقبة، والأبدال ورد في حديث موقوف، وأما في فضل الأولياء فتوجد أحاديث صحيحة كثيرة، وأصح حديث في ذلك ما رواه البخاري: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وأما الأوتاد والأقطاب فلم ترد لا في كتاب ولا سنة فيما أعلم. وكلمة الأبدال يعنون بها: أنه كل ما مات منهم أحد جعل الله عز وجل بدلاً منه من أهل الخير لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة). فإذا مات في الأمة عالم مثلاً فإن الله يبدل مكانه من هو مثله في العلم، وكذلك في القيام بالحق ونحو ذلك، ولا يلزم أن يكون مثله تماماً، ولكن مثله في الطريقة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك من خلفه مثله، وأبو بكر لم يكن هناك مثله، فالله يقيم في مقامه بدلاً عنه؛ لأن الحق لا يضيع من هذه الأمة بحمد الله تبارك وتعالى، فالأبدال هم الذين جعلهم الله عز وجل بدلاً ممن سبقهم من الأولياء الذين يقومون بالحق علماً وعملاً في هذه الأمة، هذا الذي ورد، أما الأقطاب والأوتاد الذين يدعي الصوفية أنه يدور حولهم روح الكون كله، وأن القطب الواحد تدور الدنيا كلها حول أمره والعياذ بالله فهذا كلام باطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن علياً ومن معه من الصحابة أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي، وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، فكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما]. إذاً: هذا الحديث حديث ضعيف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد: قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه] أي: اهتز وتمايل ووجد من شدة المحبة. وقوله: (لسعت حية الهوى) تشبيه قبيح جداً، وهو أن الهوى والحب فعلان، وذلك هو أكثر تشبيهات الصوفية في أشعارهم إذ يشبهون المحبة بالخمر ونعوذ بالله، ويسموها: (القصيدة الخمرية) وقد يسمون بالمقامات العالية مقام السكر مثلاً، ومقام الدهش، ومقام الهيمان، ومصيبة تحصل للإنسان، فكيف يكون مقاماً ممدوحاً؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه فرق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش]. وهذا من خزعبلات الصوفية الموجودة في كتبهم والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذباً عليه. وكذلك ما يروونه عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي] أي: يكلمونه بلغة لا يفهمها، ولذا فهم دائماً يكثرون من استعمال الكلام الغامض. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث] فمن يقر برسالته العامة في الظاهر ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويعتقد والعياذ بالله عقيدة وحدة الأديان، أو في وحدة الوجود، أو في الخروج عن الشريعة -والعياذ بالله- ونحو ذلك، فهو منافق. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقاً، وهو يدعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عناداً وإما جهلاً]. وهذا الجهل ليس معتبراً في هذه الحالة؛ لأنه جهل نشأ عن الإعراض؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وشريعته هي شريعة الخلق جميعاً الإنس والجن. وأذكر أن شخصاً رأى آخر، فقال له: لماذا لا تصلي؟ فأجاب: أنه رجل واصل فلم يعد يكلف بالصلاة، لأنه وصل إلى المراتب العالية والعياذ بالله، وبعضهم من المجانين يقولون: جذبته المحبة فأصبح لا يحتاج إلى هذه التكاليف. وهذا الرجل لو كان مجنوناً حقيقة فهو معذور، وأما لو كان عاقلاً فهو كافر؛ لأنه مستحل لترك الصلاة، وكان أبي رحمه الله يحكي لي عن بعض الأقارب ممن له مقام -كما يقولون- أنه كان عندما يأتي رمضان لا يصوم ولا يصلي، فيقول له خالي: صل. فيقول: الصلاة وسيلة لا غاية، ونحن قد وصلنا إلى الغايات، فلا حاجة بنا إلى الوسائل. والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما أن كثيراً من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن يقولون: إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب وأنه لا يجب علينا إتباعه؛ لأنه أرسل إلينا رسولاً قبله، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله، وإنما أولياء الله هم الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].

وجوب الإيمان بجميع الكتب والرسل

وجوب الإيمان بجميع الكتب والرسل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولابد في الإيمان -وهو الوصف الأول من وصف أولياء الله وهم الذين آمنوا- من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بكل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:136 - 137]. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] إلى آخر السورة. وقال في أول السورة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:51 - ].

وجوب الإيمان بأن محمدا خاتم النبيين

وجوب الإيمان بأن محمداً خاتم النبيين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلابد في الإيمان من أن يؤمن أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلاً عن أن يكون من أولياء الله المتقين، ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:150 - 152]]. واستدل بهذه على أن من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض فهو كافر، ومن آمن ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر ببعض فهو كافر، كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]. وهذا دليل على أن فاعل هذا كاف لكفره؛ لأن أشد العذاب لا يكون لعصاة الموحدين، وإنما يكون للكفرة والمنافقين والعياذ بالله، وهذا دليل أيضاً على لزوم الإيمان بكل الرسل، ولزوم الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

لا طريق إلى الله إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم

لا طريق إلى الله إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن الإيمان به: الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال: ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام: ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين: ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريق إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان]. فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبلغاً عن الله جميع ما أمر الله عز وجل به لجميع الإنس والجن، فليس لأحد أن يخرج عن تحليل وتحريم هذه الشريعة التي جاء بها؛ لأن كثيراً من أهل الزندقة والنفاق -ممن يعتقدون أن هناك طائفة لهم أن يرتكبوا المنكرات والمحرمات وأن يتركوا الواجبات- يزعم أن لهم طريقاً آخر مع الله عز وجل، ويزعم أن هذا الأمر هو للعامة أي: التحليل والتحريم، وأما الخاصة فلا يلزمهم ذلك، وأن هذه العبادات والتحليلات والتحريمات إنما هي لمن لم يصل بعد، وأما من وصل فلا تلزمه والعياذ بالله، فهذا كله من الكفر الناقل عن الملة، وهؤلاء غالباً يحتجون بقصة موسى والخضر؛ فإن الخضر لم يكن ملزماً باتباع شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وأعلمه الله بأشياء من علوم الغيب، وأن الخضر شرفه الله بوحي مباشر له، أو شريعة بلغها له نبي من الأنبياء في زمنه، فقتل الغلام، وإصلاح الجدار بلا مقابل، وخرق السفينة، لا يمكن أن يبنى عليه مع وجود شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أي حال من الأحوال، بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يدعي أنه قد علم ما أخفاه الله عز وجل عن غيره من العباد، وبناء على ذلك يجوز له أن يرتكب المحرمات الظاهرة بزعم أنها في الباطن ليست حراماً، أو أن هناك أسباباً تجعل هذه المحرمات له حلال، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بين الله وبين خلقه. فهذه الفرق القائلة بذلك هي فرق خارجة من الملة؛ لأنهم يقرون أن الله حرم هذا الشيء، وأوجب هذه العبادة، ثم يفترون على الله الكذب، وأنه جعلهم خارجين عن هذا التكليف، ولذا فمن أركان الإيمان: الإيمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من يبلغ الأوامر والنواهي لنا عن الله، ويبلغنا الأخبار والوعد والوعيد، فلو أن إنساناً رأى نفسه خارجاً عن هذا كان كافراً بالرسول صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما خلق الله تعالى للخلق ورزقه إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا واسطة الرسل]. فبعضهم يقولون: إن من الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة، أي: أنه ينفع الناس ويضرهم على سبيل الشفاعة، وأنه يدعى من دون الله ويستنصر به على الأعداء، ويطلب منه الإغاثة والمدد، وهذا الكلام شرك بالله، فإن الله هو الذي خلق الخلق وهو الذي يرزقهم ويجيب دعائهم، ويهدي قلوبهم وينصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار لله وحده لا شريك له، وليس معنى وساطة الرسل الدخول في هذا، بل وساطة الرسل إنما هي في إبلاغ التحليل والتحريم، وفي تبليغ الوعد والوعيد، والأوامر والأخبار، فالأخبار فيما يتعلق بأمور الاعتقاد كأمور الغيب، والأوامر والنواهي في التحليل والتحريم.

كفر من لم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وإن بلغ الرجل ما بلغ من العلم والزهادة والعبادة

كفر من لم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وإن بلغ الرجل ما بلغ من العلم والزهادة والعبادة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن] أي: أنه لا بد أن يؤمن بجميع ما جاء مجملاً، وأن كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق من عند الله، ولذا فلو اعتقد أن الرسول يقول كلاماً من عنده وفيه بعض حق فهو كافر. قال المؤلف رحمه الله تعالى. : [ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم]. وعبادهم هم الأحبار وهم دون العلماء، والرهبان هم العباد الذين يتعبدون عبادات شديدة جداً، وربما مكثوا السنين في الفيافي والقفار والخلوات والصوامع لا يفعلون غير ما يظنونه عبادة، ويتخلون عن كل زخرف الدنيا، ومع ذلك ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله: [وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من المشركين: مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك]. أي: أنه كان هناك حكماء يعلمون الناس الحكمة، بزعمهم أن الحكمة ليست الحكمة الشرعية، وعندهم زهد رياضات نفسية لتحرير النفس من سلطان الشهوات، وهذا موروث عن عبادتهم أصلاًَ، وأنه يريد أن يستخدم الطاقات الكاملة من خلال التحكم في الجسم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن له علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمناً بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً] فليست القضية أن يكون الإنسان هو زاهداً أو متخففاً من الدنيا، بقدر ما يكون متبعاً مطيعا ًللشرع. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك حكماء اليونان مثل: أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل زمن المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيراً للسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذي تؤرخ به تواريخ الروم واليونان ويؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذا القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه كما يظن بعض الناس]. فذو القرنين رجل مؤمن موحد، والإسكندر معروف في كل آثاره بأنه عابد أوثان. قال المؤلف رحمه الله: [كما يظن بعض الناس أن أرسطو كان وزيراً لـ ذي القرنين لما رأوا أن ذلك اسمه الاسكندر، وهذا قد يسمى بالاسكندر فظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه]، وابن سينا هو رجل معظم جداً لـ أرسطو، والحقيقة أن الذي في القرآن لم يسم الاسكندر، وإنما في كلمة ذي القرنين. قال المؤلف رحمه الله: [وليس الأمر كذلك بل هذا الاسكندر المشرك الذي كان أرسطو وزيره متأخر عن ذلك، ولم يبن هذا السد، ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج. وهذا الاسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف. وفي أصناف المشركين من مشركي العرب، ومشركي الهند، والترك واليونان، وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل صلى الله عليهم وسلم، ولا مؤمن بما جاءوا به، ولا يصدقوهم بما أخبروا به، ولا يطيعوهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تتنزل عليهم الشياطين، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:221 - 223]. وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلابد أن يكذبوا وتكذيبهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]. وذكر الرحمن هو الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل القرآن، فمن لم يؤمن بالقرآن ولم يصدق خبره ولم يعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائماً ليلاً ونهاراً مع غاية الزهد، وعبده مجتهداً في عبادته ولم يكن متبعاً لذكره الذي أنزله وهو القرآن: كان من أولياء الشيطان، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء، فإن الشيطان يحمله في الهواء وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

اجتماع الإيمان والنفاق في الشخص الواحد

اجتماع الإيمان والنفاق في الشخص الواحد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإذا عاهد غدر). في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فبين صلى الله عليه وآله وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها. وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لـ أبي ذر وهو من خيار المؤمنين: (إنك امرؤ فيك جاهلية. فقال: يا رسول الله! أعلى كبر سني؟ قال: نعم)، وثبت في الصحيح عنه أنه قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الموت، والاستسقاء بالنجوم)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). وفي صحيح مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم). وذكر البخاري عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:166 - 167]. فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، فعلم أنهم مخلطون، وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطاً وإيمانه يكون أقوى]. فإذا كان الرجل فيه إيمان ونفاق فهذا لا يكون ولياً، بل إن المؤمن الذي يكون ولياً لله هو المؤمن الذي اكتمل إيمانه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى كان أكمل ولاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق. قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. وقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]،] فالكفر يزيد وينقص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]. وقال في المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]. فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية بحسب إيمانه وتقواه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]. وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].

[2]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [2] الأولياء قسمان: مقربون وأبرار، كما أن الأنبياء قسمان: عبد رسول، ونبي ملك. وقد تواترت الأدلة بأن أهل الكبائر من الموحدين إذا دخلوا النار يخرجون منها.

طبقات أولياء الله

طبقات أولياء الله

طبقات أولياء الله في سورة الواقعة

طبقات أولياء الله في سورة الواقعة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأولياء الله على طبقتين: سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وفي آخرها وفي سورة الإنسان والمطففين وفي سورة فاطر] كما قال تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7 - 11]. وأصحاب الميمنة: هم أصحاب اليمين، كما ذكرهم بعد السابقين مرة أخرى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27]. وقال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:88 - 91]. وفي سورة المطففين قال الله عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27 - 28]. فالمقربون يشربون من التسنيم خالصاً، ويمزج لأصحاب اليمين. وقال عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:5 - 6]، فعباد الله الذين يشربون يشربونها خالصة. وفي المطففين: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27]. في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها. يعني: الموت. فقال في أولها، وذكرهم تفصيلاً، فقال في أولها: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:1 - 6]]. أي: خافضة لأقوام ورافعة لآخرين. {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4]، أي: زلزلت. ((وَبُسَّتِ))، أي فتتت الجبال تفتيتاً. ((فَكَانَتْ هَبَاءً)): وهو الغبار الذي يرى في ضوء الشمس. ((مُنْبَثًّا)): متفرقاً. قال المؤلف رحمه الله: وقال تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة. {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ} [الواقعة:8 - 13]] أي: جماعة كبيرة كثيرة من الأولين. قال المؤلف رحمه الله: [{وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14]. فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع. ثم قال تعالى في آخر السورة: ((فَلَوْلا)) أي: فهلا، ((إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ))]. أي: إذا غلبت الروح حلق الإنسان، تشبيهاً بالشيء الذي يتغرغر الإنسان به؛ لأنه يردده في حلقه. {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:83 - 84] أي: وأنتم أصحاب الميت وأقاربه تنظرون إليه ماذا يفعل به، وماذا تستطيعون أن تفعلوا له؟ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، قرباً يليق بجلاله وعظمته، قرب علم وإحاطة وقدرة ومراقبة. قال: {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:85 - 86]: هلا إن كنتم غير محاسبين. {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87]: ترجعون هذه الروح إن كنتم صادقين أنكم لا تحاسبون على ما تفعلون، وذلك أن من أخذت روحه فإنها تؤخذ رغماً عنه ورغماً عمن حوله، ومن يحبه فهو لا يملك الأمر، فكيف يجزم أنه لا يحاسب؟ فالروح لم يكن يملكها الإنسان ولا كان يملك الجسد، فإذا كان ذلك كذلك كان هذا دليلاً على أنك لا تملك الحياة وإنما هي ملك لله، فسوف تسأل عما تصرفت فيه من ملك غيرك. {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:86 - 88]، أي أما إن كان المحتضر من المقربين، {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89]: أي: راح، ((وَرَيْحَانٌ)) أي: الطيب، أو ريحان من الجنة. ((وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)). {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90 - 91] أي: فيقال له: سلام لك أنت من أصحاب اليمين. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:92 - 94]. والنزل: هو ما يعد للضيف فإذا كان هذا نزله كان ما يعد لهم أقبح وأشد، والإنسان إذا توقع خيراً وإذا به يجد شراً يكون ذلك أشد عليه مما لو توقع سوءاً وشراً، والعياذ بالله. قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]: والإنسان إذا كان مبشراً يتوقع أن يجد خيراً فلو رأى خلافه كانت حسرة عظيمة. {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:93]: وهو الماء الحار الذي انتهى في حرارته. {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:94]: يصلى في النار ويحرق فيها. {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:73 - 74].

طبقات أولياء الله في سورة الإنسان

طبقات أولياء الله في سورة الإنسان قال المؤلف رحمه الله: [وقال تعالى في سورة الإنسان: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:3 - 4]]. ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)) أي: بينا له السبيل، فمنهم شاكر ومنهم كفور، أو ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)) بمعنى: قذف الله عز وجل في قلوبهم إرادة أحد الطريقين، فجعل بعضهم شاكرين، وجعل بعضهم كفاراً، والعياذ بالله. فالقول الأول: بينا السبيل لكل إنسان وخير بين أن يكفر، وبين أن يشكر. والقول الثاني: هداية توفيق، وما يقذفه الله عز وجل في قلب العبد، فقد قذف في قلوب المؤمنين إرادة الشكر، ومحبة وطريق الخير، وقذف في قلوب الكفار الكفران والبعد عن طاعة الله. قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:4]، السلاسل: ما تقيد به الأيدي والأرجل، والأغلال: ما يوضع في الأعناق، والسعير: النار المشتعلة. قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5]، قوله تعالى: ((إِنَّ الأَبْرَارَ)): أصحاب اليمين، ((يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا)) تمزج من الكافور، ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ))، أي: عيناً يشرب بها المقربون، ((يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)): في كل موطن يريدون أن تتفجر منه أنهار الأرض هذا الماء من هذا الشراب العذب الذي يمنع لغيرهم منه، فهم في كل موضع يريدون أن تتفجر ولا يحتاجون إلى الذهاب إلى أماكن معينة لشرب الماء، بل هو حاضر في كل موضع بإرادتهم، إذا فجروه في أي موضع تفجر. قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، أي: كان شره منتشراً. وقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، أي: رغم أنهم يحبون ويحتاجون إلا أنهم يطعمون الطعام رغم حبهم له ((مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))، ويقولون في أنفسهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9 - 10] أي: شديداً. {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:11 - 12] الآيات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] أي: سجن، كلما ثقل ضاق ولم يطق. إلى أن قال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:18 - 20]، بدل من كتاب، ليس بدلاً من عليين, {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18]، هو كتاب مرقوم أي: رقم، كتب فيه ما أمر الله عز وجل، {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21]، فهم يشهدون ما في هذا الكتاب العارف بأعمالهم. {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:22 - 28]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا: يمزج لأصحاب اليمين مزجاً ويشرب بها المقربون صرفاً، وهو كما قالوا، فإنه تعالى قال: ((يَشْرَبُ بِهَا))، ولم يقل: يشرب منها؛ لأنه ضمن قوله: يشرب معنى يروى، تقول: ضمنت فعل ما، ما هنا: فعل آخر، ولذلك عداه بآلته، فكلمة يروى: يشرب بها، فكلمة يشرب: ليس معناها: يشربها ويشرب منها، لكن يشرب بها؛ لأنه ضمنها معنى الارتواء، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل: يشربون منها لم يدل على الري، وإذا قيل: يشربون بها كان المعنى: يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صرفاً، بخلاف أصحاب اليمين، فإنها مزجت لهم مزجاً، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:5 - 6]، فعباد الله هم: المقربون المذكورون في تلك السورة؛ وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم في الصحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء). قال الترمذي: حديث صحيح. وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته) -أي: قطعته- وقال: (ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله) ومثل هذا كثير.

عمل المقربين وأصحاب اليمين

عمل المقربين وأصحاب اليمين وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء، فقال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها). فالأبرار أصحاب اليمين: هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم في المندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات، وأما السابقون المقربون: فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبَّهم الله حباً تاماً كما قال الله تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) يعني: الحب المطلق أي: الكامل، الحب الذي أعلنه بين ملائكته وصار محبوباً من كل وجه، فكذلك كان محبوباً منه تقواه، ومحبوباً منه إحسانه، فالله يحب المحسنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، فهذا مطلق الحب وأما: (حتى أحبه)، فهو الحب الكامل المطلق. قوله: (كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] أي: أنعم عليهم الإنعام المطلق التام، وإذا رزق الله كل خلقه، فقد أنعم عليهم. قوله: ((صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) أي: الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات، يتقربون بها إلى الله عز وجل، فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفاً كما عملوا صرفاً). والجزاء من جنس العمل، وهو أنهم لما عملوا لله فقط صرفاً شربوا منها صرفاً، أما في أعمالهم المباحة فقد اتبعوا الذين جعلوا المباحات طاعات، حتى السمع والبصر والملابس والمشي، كل ذلك كان لله، فلما عملوه لله صرفاً صار جزاءهم، أي: أنهم يأخذون الجزاء صرفاً، والمحتجزون بسبب أعمالهم عفا عنهم ليفوزوا برضاء الله، كما يستحضرون النية فيها. والمقتصدون: كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفاً، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا).

انقسام الأنبياء نحو انقسام الأولياء

انقسام الأنبياء نحو انقسام الأولياء ونظير هذا انقسام الأنبياء عليهم السلام إلى عبد رسول ونبي ملك، وقد خير الله محمداً صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبداً رسولاً وبين أن يكون نبياً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:35 - 39] أي: اعط من شئت واحرم من شئت، لا حساب عليك، فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه، ويترك ما حرم الله عليه، ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختاره من غير إثم عليه، وأما العبد الرسول فلا يعطي أحداً إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم، بل روي عنه أنه قال: (إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت)، ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، وقوله تعالى: {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7]، وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] يعني: الفرق بين النبي الملك وبين العبد الرسول: أن النبي الملك يأمر وينهى أحياناً في الأموال وغيرها، على كونه ملتزماً ألا يخرج عن طاعة الله، ولكن العبد الرسول بالإضافة إلى كونه لا يخرج عن الطاعة أبداً فإنه فيما يستغرق الناس فيه من المباحات فهو يفعل ما أمر به، وإذا كان محمدٌ العبد الرسول أعلى قدراً فإنه كان لا يعيش منعماً وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نام على حصير قد أثر في جنبه، ورأى عمر حاله فبكى، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة). ولهذا كان أظهر أقوال العلماء في قوله تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] يعني: افعل ما شئت فهو أمر مردود إليك، أما العبد الرسول فإنه ينتظر أمر الله في الإعطاء أو عدم الإعطاء، ولا عن المال أصلاً، ولا يريد أن يجمع منه يعني لحظ نفسه شيئاً، ولا ينتقم لنفسه قط، ولا يطالب بحقه قط أما سيدنا سليمان عليه السلام له ذلك، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ملكاً عليه الصلاة والسلام ولم {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13] يعني: تماثيل على غير ذوات الأرواح إن شاء الله، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] أي: قدور هائلة وكبيرة لا للطعام والشراب، وهذه أحوال الملوك دائماً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يعيش متقشفاً، فكان يأكل كما يأكل العبد الرسول ويتصور بذلك الأكل أنه مع الملوك، وخلفاؤه لم يكونوا ملوكاً، فقد ضربوا أروع الأمثلة في الإيمان والزهد، حتى إن جنودهم قبضوا على رؤوس الأجناد من الدول المجاورة ويدخلون عليهم بلا بواب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول وهناك فرق بين الرسالة والنبوة، فالنبي يبعث لتكميل العبودية، أما الرسالة فقد انحصرت له عليه الصلاة والسلام بكتاب وشريعة جديدة، وقد خُيّر في آخر عمره في أن يكون عبداً رسولاً أو أن يكون نبياً ملكاً، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، والنبي رسول كما قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]. خلاصة الكلام: أن العبد الرسول أعلى قدراً عند الله وأقل في سلطان الدنيا من غيره من المقربين، والأنبياء الملوك أعلى قدراً من المقربين بالإجماع ولا يوجد نزاع بين أن أفضل أولياء الله سبحانه وتعالى هم الأنبياء، وقد فضل الله بعضهم على بعض، والمفضول من الأنبياء أعلى باتفاق المسلمين من كل الأولياء. ومن ضمن ضلالات ابن عربي أنه قال: إن الولي في درجة فوق النبي ودون الرسول. فجعل أولاً النبي ثم الولي ثم الرسول في التفضيل، ولكن بإجماع: أن الأولياء دون الأنبياء، والأنبياء أعلى الأولياء قدراً. قال المؤلف رحمه الله: (ولهذا كان أظهر أقوال العلماء: أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف، ويذكر هذا رواية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة، كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل على ثلاثة، كقول أبي حنيفة رحمه الله، يعني: أن الشافعي وأحمد المشهور عنهما: أنهما يجعلان الخمس لخمسة، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] والإمام مالك قال: لا، الخمس يصرف في أي واحد من هؤلاء الخمسة، مثل الصدقات، والصدقات تصرف على ثمانية: فتصرف للفقراء وتصرف للمساكين وتصرف للمحتاجين، إذاً: فلا يلزم القسمة بالتساوي فيما بين هذه الأصناف. والمقصود هنا: أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك، كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين، الذين ليسوا مقربين سابقين، فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه، ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك. أي: السابقين، أصحاب اليمين أقل درجة من المقربين، وأنهم كذلك أبرار بروا في أعمالهم، ولكن المقربين كما ذكرنا أدوا الواجبات وتركوا المحرمات، ويزاد على ذلك أنهم ما فعلوا المباحات إلا تقرباً منهم إليه سبحانه.

تفسير آية فاطر: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية) بأصناف المصطفين من هذه الآية، وأنهم يدخلون الجنة

تفسير آية فاطر: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية) بأصناف المصطفين من هذه الآية، وأنهم يدخلون الجنة وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:32 - 35]، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم: أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة وليس ذلك مختصاً بحفاظ القرآن، بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات، بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين والإنسان والانفطار، فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة مؤمنهم وكافرهم، وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالظالم لنفسه هم: أصحاب الذنوب المصرون عليها، والمقتصد: المؤدي الفرائض المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات. وهذا ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية لأحد القولين، وهو إن شاء الله القول الراجح، ومن العلماء: من يجعل قسم أصحاب النار في آخر سورة الواقعة وأولها أنهم: أصحاب المشأمة، وهو الموضع الوحيد الذي ذكر فيه المفرطون من الموحدين، وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59] فالذين اصطفاهم الله في البداية لابد أن يكون لهم السلام، وقد قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] إذاً: فالراجح أن هؤلاء في النهاية لا بد أن يكون لهم سلام، وهذا أقرب الأقوال والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن تاب من ذنبه -أي ذنب- كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين، كما في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136]].

تواتر السنن بدخول كثير من أهل الكبائر النار وخروجهم منها

تواتر السنن بدخول كثير من أهل الكبائر النار وخروجهم منها قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد:23]، مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد). فالقول الراجح: أن هؤلاء الأصناف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل النار إلا الكفرة وأهل الكبائر، وأما جنات عدن يدخلها السابقون بالخيرات، والمقتصدون في الخيرات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الكبائر، وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره.

تأويل المعتزلة والمرجئة لآية فاطر، والرد على الطائفتين

تأويل المعتزلة والمرجئة لآية فاطر، والرد على الطائفتين قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فمن قال: إن أهل الكبائر مخلدون في النار، وتأول الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة، فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار، ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب). فقول المرجئة: إن كل أهل الكبائر لا يخرجون من النار، والراجح قطعاً: خروجهم منها، وهذه أخبار متواترة: أن منهم من يدخل النار ثم يخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره، وهؤلاء بمشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. (وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب، كما يقوله من يقوله من المعتزلة؛ لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضاً للتائب فلا تعلق بالمشيئة). أي: أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن تاب، هذا قول المعتزلة، وهو قول غير صحيح، فإن الشرك إذا تاب منه صاحبه يغفره الله له، فالشرك لا يغفر وما دونه يغفر لمن شاء الله فالآية في غير التائب، وفيها رد واضح على من يكفر من أصر على الكبيرة أو على المعصية، والمصر هو الذي لم يتب من المعصية ويعزم على أن يفعلها، يقولون له: تب إلى الله، فيأتي ويعزم على ألا يتوب إلى أن يموت، على سبيل المثال: يظل قاطع رحمه قاطعاً للرحم إلى أن يموت فهذا مصر، ومعناه: أنه قاطع مطلقاً وتارك لجنس صلة الرحم، تارك لجنس بر الوالدين، وهكذا، وهذا كلام المعتزلة والخوارج والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]]. فمن تاب من الشرك بالله غفر الله له ذلك الشرك، لكن هذا في حق التائب المعترف بذنبه، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]، ولكن نص الحديث قال: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فالشرك ذنب عظيم، وهو أعظم الذنوب ويغفره الله بالتوبة ولا يغفره لمن أصر عليه. قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفره الله له، ففي آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه، كالتعطيل للخالق وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر للبعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفوراً له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة. وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] دليل على أنه يغفر للبعض دون البعض فبطل النفي والعفو العام]. أي: بطل أننا ننفي المغفرة لأهل الكبائر من الموحدين، وهو قول المعتزلة، وبطل الاعتقاد بالعفو العام لكل المذنبين بما فيهم المشركون والكفرة، على أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وهو قول المرجئة، وهو قول باطل.

[3]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [3] الإيمان بالله تبارك وتعالى قسمان: إيمان مجمل وإيمان مفصل، والذي يطلَب من عوام المسلمين: هو أن يؤمنوا بأركان الإيمان إيماناً مجملاً، وهم غير مطالبين بالتفصيل ما دام التفصيل لم يبلغهم بعد، وما بلغهم من ذلك وجب عليهم الإيمان به واعتقاده. وعلى المسلم أن يبحث عن الحق بدليله؛ لكي يعبد الله على بصيرة، وأن يبتعد عن الشبهات قدر المستطاع.

تفاضل الناس في الولاية والعداوة

تفاضل الناس في الولاية والعداوة فال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل: وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق، كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك. وأصل الإيمان والتقوى: هو الإيمان برسل الله، وجماع ذلك: الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله).

شرط العذاب قيام الحجة

شرط العذاب قيام الحجة قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وأصل الكفر والنفاق: هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:163 - 165]). وهذا هو الشاهد من هذه الآية مثل التي قبلها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. قوله (وقال تعالى عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9]. فأخبر أنه كلما ألقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير). وعلى هذا فمن لم يأته نذير لم يلق في جهنم، ومن لم يكذب النذير لم يلق في جهنم. قوله: وقال تعالى في خطابه لإبليس: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]. فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه، فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم، فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له، فإنه ممن لم يتبع الشيطان ولم يكن مذنباً، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل).

الإيمان يكون مجملا ويكون مفصلا

الإيمان يكون مجملاً ويكون مفصلاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل: ومن الناس من يؤمن بالرسل إيماناً عاماً مجملاً، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك، فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه، ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيماناً مجملاً). يعني: عنده إيمان مجمل يقول: كمل ما جاء به الرسول فأنا أصدق، لكنه لا يعرف كل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يعرف بعضاً ويجهل بعضاً. قوله: (فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع إيمانه وتقواه، فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة، فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسول وآمن به إيماناً مفصلاً وعمل به، فهو أكمل إيماناً وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلاً ولم يعمل به، وكلاهما ولي الله تعالى). الشرط في ذلك: أن يكون غير مقصر في طلب العلم، ولو قصر في طلب العلم يكون آثماً، لكن عنده الإيمان المجمل، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبر، ويجب الاتباع فيما أمر به، وهذا هو أصل الإيمان، وكونه يعرف التفصيل بعد ذلك يزداد به إيماناً، وهذه القضية قصرت عنها عقول وقلوب المبتدعة من الخوارج والمعتزلة وجماعة التكفير والتوقف ونحوها؛ ممن رأى وجوب تفاصيل معينة وإقامة الأدلة، والأدلة قامت عنده على وجوب هذه التفاصيل، وهذا حق، أن هذه التفاصيل واجبة، تفاصيل الإيمان بالله وتوحيده وأنواع التوحيد والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لكنه جهل أن الإيمان المجمل يحصل للإنسان، ويوجب أصل الإيمان به، ولا يلزم التفصيل لأصول الإيمان المجمل، فالإيمان المجمل أن يقول: كل ما جاء به الرسول فهو حق وأنا ملتزم به، وكونه يلزمه معرفة تفصيل شيء معين، هذا لو اشترط في ثبوت أصل الإيمان، إذا بلغه صار هذا في حقه لازماً، بحيث لو كذب شيئاً بعد أن بلغه ما جاء به الرسول كفر، وهذا ليس له حد معين، يعني: لن نقول: إن جزءاً من التفصيل هو الذي به يتم أصل الإيمان، وما بعد ذلك هو مثلاً من كمال الإيمان، بل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، يلزم كل مؤمن إذا بلغه أن يصدقه، وأن يعتقد لزومه له، ثم يلزمه بعد ذلك أن يعمل به، لكن أصل الدين يثبت بهذا الإجمال، وأهل البدع لما خالفوا في هذه القضية ترددوا واختلفوا وتناقضوا، فتجدهم يشترطون بعض الأشياء، ولا يشترطون البعض الآخر، مع أن الدليل على وجوب الأمرين واحد، وهذا أصل ضلال الفرق المعاصرة المخالفة في قضايا الإيمان والقدر، وهو الذي جعلهم يقولون: بأن الإيمان المجمل لا يكفي في حصول أصل الإيمان.

المؤمن إيمانا مجملا لا يلزمه أن يكون مؤمنا إيمانا مفصلا إن لم يعلم ذلك ولم يبلغه ولم يعرفه

المؤمن إيماناً مجملاً لا يلزمه أن يكون مؤمناً إيماناً مفصلاً إن لم يعلم ذلك ولم يبلغه ولم يعرفه ومعنى قوله لم تقم عليه الحجة: لم يعرفها، لم يعلمها، لم تبلغه، ولو بلغته لآمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو بلغته الصلاة فرضت عليه بإجماع المسلمين شرقاً وغرباً، ويلزمه أن يقر بأن الصلاة فرض، ويعتقد لزوم الصلاة له ويلتزم بها، فإنه يرى نفسه ملزماً بالصلاة، فإذا لم يصلِّ بعد ذلك فإنه لم يعمل في هذه الحالة، يعني: في إقرار تصديق وانقياد ما وقر في القلب، وبعد ذلك عمل بالجوارح، فإذا لم يصل أو لم يزك إذا بلغه، فالخلاف فيه مشهور بين العلماء في تكفير من تركه تكاسلاً، وقول الجمهور: إنه لا يخرج من الملة فيما عدا الأركان الأربعة، فهو متفقون فيما عدا الصلاة والزكاة والصوم والحج على أنه لو ترك شيئاً من العمل لم يخرج بذلك من الملة، وإنما صدق وانقاد بقلبه، وأقر بأن هذا يلزمه، ولكن نحن نتكلم عن الولاية، فمن الممكن أن يكون ولياً لله عز وجل وهو لا يعرف بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يجهل بعض ما جاء به الرسول فلم تقم عليه الحجة به ولم يقصر في طلب العلم، حتى لو كان هذا في أي من مسائل الدين، نقول: أهل البدع عندما حددوا نقاطاً معينة، قالوا: بدون هذه لا يكون مسلماً ابتداء، ولا يكون مؤمناً بأسماء الله عز وجل، وهذه هي نقطة البدعة، ولذلك تناقضوا في هذه المسألة، لأنهم لم يختاروا إلا المعنى هذا، فهم يشترطون ثلاث مسائل: النسك، والولاية، والحكم، ولا يشترطون بقية شروط الإيمان، ولا يقفون عند الحدود التي وقف عندها رسول الله، فلو افترضنا أن الشروط الثلاثة فيها إجمال وتفصيل أيضاً، فإن النسك تشملها عبادة على مذهبه وعلى كلام أهل العلم، فالنسك تشمل: الركوع، والسجود في الصلاة، والصيام، والذبح، والنذر، والحب، والخوف والرجاء، ومن الممكن أن تقسم تقسيمات أخرى، فنقول: هذه النسك عبادات ظاهرة بالقول والعمل، ومن الممكن أن نضع عبادات خاصة بالقلب قسماً مستقلاً مادام التقسيم شرعياً، إذاً: فإنَّ فيه سعة الاطلاع، فمن الممكن أن نجعل الولاية أنواعاً: ولاية إجمال، وتفصيل، وفيها: متابعة وحب ونصرة وطاعة ومعاونة وصداقة، فكل هذه من معاني الموالاة، فهل أنت ستشترط كل تفصيل أو ستشترط الإجمال؟ ولو اشترطت الإجمال فالأحرى بك ألا تقبله فيما هو أعم من ذلك، والأحرى بك ألا تخترع تفصيلاً من عندك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد هذه الثلاث، لكنه فصل غيرها، فقال: الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، فلماذا لم تقولوها، ولم تشترطوها؟ فلو أن أحداً يقول: أومن بأسماء الله وصفاته فقط، أو قال إنه يؤمن أن النبي حدد له أسماء الله تسعة وتسعين مثلاً، وصفات الله عز وجل كذا في الكتاب والسنة، فلو أن واحداً قرأها في آية وعرف معناها وكذب بها فإنه سيكون كافراً، والإيمان بالقرآن فيه إجمال وفيه تفصيل، والإيمان بالرسل فيه إجمال وفيه تفصيل؛ فنحن نؤمن بكل رسل الله، ولا نعرف من هؤلاء الرسل إلا خمسة وعشرين، وأكثرهم لا نعرف أسماءهم، ففي قصة داود عليه السلام لا نعرف اسم النبي الذي أرسل طالوت ملكاً في قومه، قال تعالى: {قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] فربنا لم يسمهم، قال: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)) [النساء:164]، والملائكة من أسمائهم المعروفة ثلاثة أو أربعة معروفة، وغير هذه الأسماء لا نعرفها، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فنقول: لو أن شخصاً كذب بجبريل بعد أن بلغته حقيقته فهو كافر، وقد كذب بالقرآن، ولو كذب بالقرآن يكون كافراً، لكن هل يشترط على من يكون مؤمناً إيماناً مجملاً أن يعرف القرآن آية آية نوقفه عليها؟ نقول: لا يشترط ذلك، بل يكفيه الإيمان مجملاً بأن القرآن كلام الله، ويشهد أن محمداً رسول الله، وما دام أنه لم يعرف أن هناك شيء اسمه القرآن، فهو ليس بكافر حتى يبلغه ذلك، فنبدأ في تعليمه أولاً القرآن، فيمكث سنين حتى يتعلم القرآن، ومن الناس من لا يعرف قراءة القرآن، وبالتالي فما تتضمنه الآيات من عقائد وأحكام لا يعرفها من باب أولى؛ لأن آيات القرآن هي الحجة والدليل، فهو لا يعرف الدليل نفسه فضلاً عما تضمنه الدليل، فإذا كان ثبت إيمانه بدون معرفة الدليل نفسه وكان معروفاً أن هناك دليل فلابد أن يثبت إيمانه ولو لم يعرف ما يدل عليه الدليل، أو لم يعرف مضمون الدليل. وشروط لا إله إلا الله هذه من أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله، لكن في الحقيقة كل أعمال القلوب تدخل في صحة لا إله إلا الله عند الله يوم القيامة، ولكننا لا نستطيع أن نسأل شخصاً ونمتحنه ونقول له: أتشك فيها أم توقن؟ أتعلم تفاصيل معناها أم لا تعلم؟ أتصدق بها بقلبك أم لا يوافق قلبك لسانك؟ فهذه كلها عبادات قلبيه، فنعلمه بوجوبها ونبلغه بانعدام الإيمان بدونها، فلو أنك لا تحب الله سبحانه وتعالى فأنت غير مؤمن، ولو أنك لا تخاف من الله لكنت غير مؤمن، قال تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فعلينا أن نعرفه بوجوبها، ولكن لن نتعامل معه في الدنيا بناء على ذلك، فهي متعلقة من أجل أن تنفعه في الآخرة عند الله.

شروط لا إله إلا الله لم يحددها الشارع وإنما هي من باب التعليم للناس

شروط لا إله إلا الله لم يحددها الشارع وإنما هي من باب التعليم للناس إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد هذه الشروط ولم يجعلها سبعة، ولم يثبت في الكتاب والسنة زيارتها على سبعة، فمن الممكن أن تجعلها شرطاً واحداً ثمّ تفرع منها باقي الشروط، فالناس يعرفون أن مقتضاها على الإجمال، ولكن لا يعرفونها حقيقة على التفصيل، وأبو طالب يعرف أن كلمة لا إله إلا الله معناها: ألا يعبد إلا الله ولا إله غيره، إذاً: فما كانت آلهة من دونه فيلزم ألا تسمى آلهة، والناس في هذا الزمان يعرفون ذلك، لكن قد لا يعرفون أنهم عندما يتحاكمون مثلاً إلى قانون يخالف الشريعة أن هذا ألوهية، وقد لا يعرفون أنهم عندما يذهبون إلى قبر ولي ويقولون له: أغثنا يا فلان! أو يشكون له شكوى، أو ينذرون له نذراً أن هذا ألوهية، فلو كان هؤلاء يؤاخذون على ذلك من باب الإيمان مفصلاً فإنهم مناقضون للا إله إلا الله في التفصيل الذي فصلوه، ولكنهم إجمالاً يقولون: إنه لا إله إلا الله، ولو قلت لأحدهم: أنت تعبد غير الله، فسيقول لك: أعوذ بالله، أعبد غير الله؟!! ولذلك أقول تصريحاً للذي يقول: إن هناك آلهة غير الله تصح عبادتها من دونه: إنه خارج من الملة ابتداء؛ لأنها مسألة لا يتصور الجهل بها؛ فهو يعلم أنه لا إله إلا الله. لكن من الممكن أن يكون لا يعرف أن هذه عبادة وأنها بهذا الشكل تكون عبودية، إذاً: فيحتاج أن يعرف التفصيل، وهذه هي النقطة الأساسية التي عملت خللاً كبيراً جداً لدى المتأخرين، فقد فهموا كلام بعض أهل العلم غلطاً، وبالتالي عمموا الحكم على الناس أنهم في هذا الزمان لا يفهمون لا إله إلا الله، وإذا كانوا لا يفهمون لا إله إلا الله فكأنهم لا يقولونها، وكل الفرق الضالة أتيت من هذا الجانب، من جانب قضية الإجمال والتفصيل، ويقولون: إن أبا طالب وأبا جهل يعرفان كلمة لا إله إلا الله، وكانا يقولان: اللات والعزى آلهة، قال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، ولم يقولا: إنها إله وسنصرف إليها أنواعاً من العبادات، وكذلك الموجودون في هذا الزمان فهم لا يعرفون أن ما يعملونه عبادة، ولو كانوا يسمونه عبادة لانتهى الموضوع، أي: لو قال: أنا أعبد البدوي أو أعبد الحكام مثلاً لانتهى الموضوع، وخرج من الملة ونقض لا إله إلا الله، ولا يوجد مسلم يجهل هذه القضية، ولا يوجد مسلم يقول: إني لا أعرف أن الرسل جاءت بألا يعبد إلا الله، فلو كان لا يعرف ذلك فهو جاهل، إذاً: نبين له دعوة الرسل؛ وأن كلمة لا إله إلا الله معناها: أنه لا يوجد شيء يعبد غير الله، فلو قال: نعم، أنا مقر بألا يعبد غير الله، ثم يأتي يناقشنا في هذا العمل الذي عمله عند القبر أو في المحكمة، أو في حب الكفرة أو في الاحتفال بأعيادهم، وهل كل هذه موالاة وعبادة أم ليست موالاة؟ إذاً: فهو كافر خرج من الملة، فإذاً: لابد من التفريق بين قضية الإجمال والتفصيل، فالذي يثبت به أصل الدين: هو الإجمال، كما قال شيخ الإسلام: أصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله، وجماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لو أن شخصاً شهد أن محمداً رسول الله ودخل في الإسلام وأخبرناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله، ثم فهم ذلك وقال: أنا ليست على لا إله إلا الله فسيكون خارجاً مرتداً، وهذا افتراض نظري محض؛ إذ كيف يكون عرف أن محمداً رسول الله من غير أن يعرف لا إله إلا الله؟ إنَّ هذا الذي يعبد غير الله إما أن يصرح ويقول: أنا أعبد غير الله، وإما أن يقول: هناك آلهة غير الله، فهذا فيه تناقض صريح، وإما أن يعمل عملاً هو عبادة، ثم يقول: هذه ليست عبادة، فعلينا أن نقيم عليه الحجة على أن هذا العمل عبادة، فإن أصر بعدما أعطيناه الحجة فهو مصر على أن يعبد غير الله، فهو خارج عن الملة؛ لأن الحجة أقيمت عليه، فالتفصيل في ذلك: أنه قال: أنا أصدق بشهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قالوا له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ هناك ملكاً اسمه جبريل جاءه بكتاب، فقال: فأخذوا يبينون له الأدلة من القرآن فقالوا: قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102] ثم قال: لا، حتى لو ظل يقول: محمداً رسول الله، ومصدق أنه رسول الله، ولكنه غير مصدق بأن جبريل جاء بالقرآن، فهو كافر، وإذا قال: إن القرآن حق، هذا إجمال، ثم يأتي إلى التفصيل فيقول: ولكن في المواريث: يجب أن يكون الذكر مثل الأنثى، ولابد أن تأخذ الأنثى مثل الذكر، لأن هذا ظلم وتخلف ورجعية، نقول له: ولكن الله يقول: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فقال: لا أعترف بذلك، وأصر على ما هو عليه، فهو كافر، مع أنه يقول: محمد رسول الله، ومع أنه يقول: لا إله إلا الله والقرآن حق، ولكن بالتفصيل أقيمت عليه الحجة، وكذلك الذي يقول: إن أحكام القطع والرجم أعمال وحشية، نقول له: هذه موجودة في القرآن قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، يقول لك: أنا أعرف، لكن هذا كان في العصور الوسطى، فهذا تخلف ورجعية، فهو بذلك خارج من الملة مرتد، مع أنه يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكن التفصيل بلغ به ما بلغ، فنقول: لو أقر بهذا التفصيل يكون مسلماً وإذا لم يقر به يكون كافراً؛ لأنه عرف أن القرآن جاء بها، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها، فلو عرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالسواك، ثم قال: إني أستحبث السواك والعياذ بالله فلا بد أن تقام الحجة عليه، ونوضح له الحديث، واللحية كذلك، فمعظم الناس في هذه الأيام لا يعرفون حكم اللحية، فلا نستطيع أن نقيم الحجة عليهم؛ لأن هذا الأمر لم ينتشر ولم يعلم، وقد يشكون في أن الأحاديث التي وردت بتحريم حلق اللحية أحاديث ضعيفة، فلو تواتر لديهم ذلك، فهم مخطئون عندما يقولون: أحاديث ضعيفة في البخاري ومسلم وليست ضعيفة، وليس فيها نقاش مثلاً، ومع ذلك لا نستطيع أن تحكم عليه أنه يكذب القرآن أو يكذب حديثاً؛ لأن الحديث غير متواتر، لكن لو كذب بالصلاة في رمضان وبالحج إلى الكعبة، وبالأحاديث المتواترة في ذلك، فهذا قطعاً غير متأكد بأن هناك فريضة حج، ومن قال بتوزيع الحج على شهور السنة مع إقامة الحجة عليه، فهذا خروج من الملة، فالذين يقولون: لا بد أن يحج الناس في صفر من أجل الزحمة، فهذا في الحقيقة خروج من الملة فعلاً؛ لأن هذا معلوم من الدين بالضرورة، والملايين من المسلمين يعرفون أن الناس يحجون في ذي الحجة، فإذا قيل: إنَّ الحج في غير ذي الحجة وفي غير عرفة، فهو تكذيب للقرآن؛ لأنه أمر متواتر. ومن يقول: إن الحج هذا عبادات وثنية، وبقايا الجاهلية التي كانت موجودة من قبل، وإن الناس تطوف بأحجار، وتضرب أحجاراً في أحجار وغير ذلك، فإن هذه تصرفات لا يقبلها العقل، مع أن المسلمين بالملايين يعرفون أن الحجر الأسود يقبل، وأن الجمرة ترجم مثلاً، فإن هذه العبادات في الحج متواترة يعرفها الملايين جيلاً بعد جيل، إذاً: فهذا نفس القرآن تماماً، وبالتالي فالإنسان الذي يكذب مثل هذا خارج من الملة. وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فهذا محتاج إلى بيان أن هذا الشيء أو ذاك يدخل في ضمن معنى الموالاة؛ لأجل أن يتبين الشخص أن هذا من الموالاة، فلا يقعد يتمدح فيمن يدعي حب الصليب؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157]. إذاً: نحتاج إلى تفصيل لإقامة الحجة على من يوالي الكفار. وأما التهنئة فإنها محتملة، لأن التهنئة قد تكون متضمنة للإقرار، وهو لم يصرح بالإقرار بذلك، فإنه عندما يقول لك: هذا عيدهم هم، وأنا أقول لهم مثل آلاف المسلمين؛ لأجل أنهم يهنونا في عيدنا، فهو من باب المجاملة، فلهذا لا نقدر أن نجزم بأن تفصيل العلم في ذلك بلغ كل المسلمين. والمعلوم من الدين بالضرورة: هو الذي اشترك في معرفته الجاهل والعالم، وأنا أجزم بأن المسلمين يعتقدون أن النصراني كافر، والذي يقول: إنه ليس بكافر، يكون مكذباً للقرآن. والمعلوم من الدين بالضرورة يتفاوت من زمن لآخر، ومن مكان لآخر، ومن شخص لآخر إذا كان هناك قرينة؛ لأن كلمة (الضرورة) معناها: انتشر علمه، يعني: انتشر علمه وسط المسلمين، فعرفه الخاص والعام، فشرط كلمة: بالضرورة: أن يكون قد انتشر حتى علمه العالم والجاهل. ونحن نعلم أن الإسلام دين يقول: لا نعبد إلا الله، فهذا العلم جزماً منتشر، فمن صرح بأنه يعبد غير الله فهذا يستثنى من المعلوم من الدين بالضرورة، وما كان الجهل بها يصير المسألة غير معلومة، فتعريف المعلوم من الدين بالضرورة: هو ما انتشر علمه، فلو أنّ مسألة لم تنتشر فإنها لا تكون معلومة من الدين بالضرورة، إذاً: لا بد أن أتوقف فيها. فمن فهم حكم الله في مسألة بعد أن فصلت له فقد قامت عليه الحجة، وقامت عليه الحجة بالتفصيل هذا، إذاً: فقد لزمه الأمر، ولو ردها لأصبح كافراً. ولو كان يعتقد صحة عقيدة النصارى في الصليب فإنه لا يعذر؛ لأن قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، لا تحتمل؛ لأن المعلوم من الدين بالضرورة لا يحتاج إلى تفكير. وفي التهنئة لو كانت الألفاظ التي هنأهم بها متضمنة الإقرار بهذه العقيدة، فإن هذا الكلام يصبح كفراً مخرجاً من الملة. والتهنئة من لوازمها: الإقرار، لكن ليس كل لازم بلازم، يعني: من الممكن أن نلزمك حينما تهنئه بأنك تصحح عقيدتهم، ولكنه يقول لك: لا يلزم الكلام هذا؛ فإن الكلام الذي قلته قد حصل عند عشرات وآلاف المسلمين؛ فإنه يعرف فساد عقيدتهم، وهو لم يلتزم اللازم هذا، وليس عنده أن التهنئة يلزم منها الإقرار بهذه العقيدة الفاسدة، ولو التزمها لخرج من الملة، لكنه يقول: إنها مجرد مجاملة.

تصحيح عقائد الكفار كفر مخرج عن الملة

تصحيح عقائد الكفار كفر مخرج عن الملة ولقد تكررت هذه المأساة من سنين طويلة، ولكنه من باب المجاملات، وهو لا يلتزم بلوازمها، وأحياناً بعضهم يلتزم بلوازمها ويصحح عقائد الكفار، فالذي يصحح عقائد الكفار، ويصحح أن المسيح صلب، ويصحح أنه من الأموات يخرج من الملة؛ والذي لم يلتزم بهذه اللوازم ويقول: أنا لا أقول: إنهم على حق، ولا أقول: إن اعتقاداتهم صحيحة، ولا أقول: إنَّ الله ثالث ثلاثة، وإنما هنأتهم، فإن تهنئتهم لا تجوز، ويغلظ تحريم التهنئة لهم إذا كانت التهنئة على معصية كالزنا وشرب الخمر وغير ذلك، ويحتمل أن المشاركة في احتفالاتهم أهون من التهنئة، ولكن كل ذلك لا يجوز قطعاً؛ لأن في ذلك موالاة لهم ومعاداة لله ورسوله، وقد يخرج من يفعل هذا من الملة.

تهنئة اليهود والنصارى أشد من الاحتفال معهم

تهنئة اليهود والنصارى أشد من الاحتفال معهم فإن قال قائل: أيهما أشد التهنئة أم الاحتفال؟ ف A التهنئة أشد من الاحتفال من جهة أنها تستلزم التصحيح أو الإقرار بهذه العقيدة الفاسدة، فإن احتفالهم هو مجرد لعب، فإن اليومين الذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية كان لهم فيها سبب، والسبب: أنَّ عيسى مات، وبقي اللعب، فإن من أعيادهم التي لم يعرف سببها: يوم اليهود عند الفراعنة، أو يوم الزينة، أو عيد الربيع، أو يوم القيامة عند النصارى، فلو عملت بحثاً للنظر في هذه الأعياد من أين أتت؟ فإنك لن تصل إلى نتيجة قطعية، هل هي من عند الفراعنة أم من عند النصارى؟ والنصارى هؤلاء هل درسوه فعرفوا السبب فجعلوه عيداً؟ أم أنه أخذ وعطاء ورأيت الناس قد اجتمعوا فاجتمعت معهم؟ فإن أعيادهم ذهاب إلى البحر، وأكل للفطير، وغيره من المأكولات، والأولاد يلعبون، وأصبح الموضوع كله لعباً ولهواً وانتهى الموضوع ومات السبب أياً كان السبب، فإن هذا له ارتباط بالتأكيد بالعقيدة الكافرة عقيدة النصارى، وهؤلاء الناس الذين يشاركونهم في هذه الاحتفالات، الأمر عندهم مجرد لهو ولا يلتزمون اللوازم الكفرية، فهذه قضية تحتمل التفصيل والإجمال، فالتفصيل لا بد فيه من إقامة الحجة، أما الإجمال فلا يجوز مشاركتهم في احتفالاتهم، فلو أن شخصاً قال: اعذروا النصارى أيضاً، فإنَّ اليهود والنصارى كفروا إجمالاً، وكذبوا الرسول إجمالاً، وأشركوا بالله إجمالاً، فقالوا: الله أكثر من إله، أو ثالث ثلاثة، أو كذبوا القرآن إجمالاً، فليس لهم دخل في القرآن، بخلاف عوام المسلمين فإنهم صدقوا إجمالاً، فهؤلاء هم هؤلاء، فالرد على من قال ذلك هو: أن ليس هؤلاء كهؤلاء قطعاً بلا شك، أي: عوام المسلمين ليسوا كعوام الكفار، فالكفار قد زرع في نفوسهم الكفر فهم مكذبون، وقد كذبوا بالحق اتباعاً للباطل، وأما أهل الإيمان فقد وجدوا أهلهم مصدقين فصدقوا اتباعاً للحق، فإنَّ التسوية بين الفريقين ظلم وإهدار لأعظم كلمة جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ألا وهي: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.

[4]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [4] الجنة درجات متفاضلة تفاضلاً عظيماً، وأولياء الله فيها بحسب إيمانهم وتقواهم، وكل مؤمن تقي فهو لله ولي، وليس كل من يقع له خارقة للعادة يكون ولياً.

المؤمنون المتقون في درجات الجنة بحسب إيمانهم وتقواهم

المؤمنون المتقون في درجات الجنة بحسب إيمانهم وتقواهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيماً، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم، قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:18 - 21] فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظوراً من بر ولا فاجر). أي: ليس ممنوعاً منه بر ولا فاجر، بل يعطى منه المؤمن والكافر، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)) أي: عطاؤه لكل الخلق، كلهم خلقهم الله ورزقهم. ثم قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21] فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا، وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا.

بعض الأدلة على تفاضل النبيين والمؤمنين

بعض الأدلة على تفاضل النبيين والمؤمنين وقد بين الله تفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين فقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)). يعني: هناك تفاضل، فهناك مؤمن حبيب إلى الله، وهناك مؤمن أحب إلى الله من هذا المؤمن، فهناك تفاوت في الدرجات. قوله: (وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)). يعني: التفاوت في الأجور والتفاوت في الاجتهاد. قوله: [وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]] هذه صريحة في تفاوت درجات المؤمنين وأولياء الله. وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:95 - 96]، وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:19 - 22]). وهذه الآية على الصحيح كما ورد في صحيح مسلم أنها نزلت في أهل الإسلام الذين يسقون الحاج ويعمرون المسجد الحرام، ومع ذلك جعل الله ظالماً من سوى بين هذا وبين الإيمان والجهاد في سبيل الله، حتى لو وقع هذا العمل من مسلم، فإن الجهاد أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهذا يدلنا على تفاوت أهل هداية الله عز وجل، ولا شك أن سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام عمل صالح وهو من أعمال أولياء الله الصالحين، لكن أفضل منه وأكمل الجهاد في سبيل الله، فالجهاد أنواع ومراتب، فليحدث أحكم نفسه بالغزو. قوله: (وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11].

الإيمان والتقوى شرط في ولاية الله

الإيمان والتقوى شرط في ولاية الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فصل: وإذا كان العبد لا يكون ولياً لله إلا إذا كان مؤمناً تقياً لقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. وفي صحيح البخاري الحديث المشهور -وقد تقدم- يقول الله تبارك وتعالى فيه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ولا يكون مؤمناً تقياً حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحداً من الكفار والمنافقين لا يكون ولياً لله، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة) أي: لا إثم عليهم، ومع ذلك ليس عندهم إيمان، ولا يقال: إنهم من أولياء الله سبحانه وتعالى، رغم أنهم غير معذبين حتى يمتحنوا. يقول: (وإن قيل: إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسول فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين) والصحيح: أن الله يوم القيامة يرسل إليهم رسولاً يأمرهم بدخول النار، فمن دخل النار كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها فإنه يعذب فيها.

الكشف والإلهام والمخاطبة يستأنس بها ولا يستدل بها

الكشف والإلهام والمخاطبة يستأنس بها ولا يستدل بها ثم يذكر ابن تيمية القاعدة في التعامل مع الإلهام الذي يلقى في القلب فيقول: (ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقاً، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاماً ومحادثة وخطاباً من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد؛ فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه). وهذا يتضح فيما حصل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أحداث صلح الحديبية، إذ وقع في نفسه أن ما كان في صلح الحديبية دنية في الدين مع أن ذلك كان عزة في الدين، ولم يكن ذلك إلا من الشيطان، ولا يبعد أن يأمر الشيطان ولي الله عز وجل كما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا يأكل مع الأضياف لما امتنعوا من الأكل، فقال لما رجع عنها: الأولى من الشيطان، فعلم أن اليمين التي أقسم من الشيطان ليؤدي إلى فساد العلاقة بينه وبين أضيافه، وبينه وبين أفراد أسرته. فإذا كان هؤلاء هم سادة الأولياء وأفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل أفضل الناس بعد الأنبياء على الإطلاق وأفضل أصحاب الأنبياء، فهل يمكن أن يكون من دونهم في الولاية لا يأتيه الشيطان؟! A لا، فهذا كلام فاسد ولكن لهم فضيلة ومنزلة، فإنهم كلما يغلبون من الشيطان سرعان ما يرجعون لما عندهم من العلم. وأهل السنة يثبتون الإلهام، والكشف، والمخاطبة، ولكن يستأنسون بها ولا يستدلون بها، فهي ليست أدلة قاطعة، ولذا لا تصلح دليلاً شرعياً تثبت به العبادات مثلاً، وفرق كبير جداً بين الصوفية وبين أهل السنة في هذه مسألة: فإنهم يأتون بالأوراد الكثيرة بحيث تكون كل طريقة لها وردها من خلال أنهم يدعون الإلهام والكشف، التي لا تصلح دليلاً، بل إذا عرضتها على الأدلة ظهر أنها محدثة بدعة، فلا يجوز أن يبنى عليها حكم شرعي باستحباب كذا أو بكراهية كذا، أو لزوم كذا، وأحياناً يلزمون السائر في الطريقة بأشياء معينة لم ترد في الكتاب ولا السنة، ولا قول صحابي ولا غيره. فمن هنا نقول: فرق كبير بين من يجعلها أموراً يستأنس بها كالرؤى والمنامات والكشف والإلهام، فيستأنس بها بعد أن تعرض على الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون مقوية لقلوب أهل الإيمان في الخير، ويجب أن ترد إذا كانت مخالفة، وبين الاستئناس من حيث كونه دليلاً معضداً أو دليلاً مرجحاً أحياناً؛ وكونه دليلاً مستقلاً دون نظر إلى الكتاب والسنة، فهم يستأنسون بها ولا يستدلون بها.

أقسام الناس في الكشف والإلهام

أقسام الناس في الكشف والإلهام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله ووافقه في كل ما يظن أنه حدث به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهداً مخطئاً]. والموقف الصحيح ممن يقع في شيء من ذلك أن يقول كما قال المصنف: [خيار الأمور أوساطها، وهو ألا يجعل معصوماً ولا مأثوماً إذا كان مجتهداً مخطئاً، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده]، لكن لا شك أن صدور أمور من الكفر والعياذ بالله مع القول بأنها أمور اجتهادية فيه نظر، فإذا قلنا: إن هذا كفر فهذا بمخالفته المقطوع به في الشريعة، وهذا بعد بيان القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت الأمور الكبرى التي بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام من أصول الإسلام والإيمان والإحسان معلومة لكل من يطلبها، وغالباً ما يكون هناك نوع من التفريط في البحث والسؤال والتحري في مخالفتها، بمعنى: أن من خالفها فغالباً ما يكون هناك نوع تفصيل لكن كقاعدة: من كان مجتهداً حتى ولو كان خطؤه كائناً ما كان، فهذا فيه نظر، ولكن لو بذل كل الجهد في معرفة الحق والصواب وخفي عليه فعلاً، ولم يكن متبعاً للهوى فهو مأجور وخطؤه مغفور، وكما ذكرنا أن وقوع الكفر غالباً يكون بتقصير من الشخص نفسه، والله عز وجل أعلى وأعلم. لكن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية منطبق على هذا الأمر كقاعدة.

اتباع الله ورسوله واجب على الناس

اتباع الله ورسوله واجب على الناس قال المصنف رحمه الله تعالى: [والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين فلم يكن لأحد أن يلزمه بقول مخالف ويقول: هذا خالف الشرع] أي: أنه لا يجعل معصوماً ولا مأثوماً، يقول: منهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه من الشرع بالكلية، وابن تيمية يرى أن هذا خطأ؛ لأنه يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً فلا يخرج عن ولاية الله، ويمكن من باب أولى أن يكون خالف بعض الفقهاء ولم يخالف الشرع، فكلمة خالف الشرع لا تطلق إلا على الأمر الذي يكون بيناً من البينات التي جاءت من عند الله، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، فالذي يقال عنه: خالف الشرع هو الذي خالف البينات، أما إذا خالف قول بعض الفقهاء وهو عند تابعه هو الذي وافق الشرع، فهذا لا يقال عنه خالف الشرع، لكن لا بد أن ينتبه فلا يقال: هذا خالف الشرع لكونه خالف الشافعي أو مالكاً أو أحمد أو أبا حنيفة، فالخلاف بخلاف البينات.

عرض الكشف والإلهام على الكتاب والسنة

عرض الكشف والإلهام على الكتاب والسنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فـ عمر منهم). وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر). وفي حديث آخر: (إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه) رضي الله عنه. وفيه: (لو كان نبي بعدي لكان عمر). وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر]. يعني: أن الله أنزل سكينة في قلبه جعلها تظهر على لسانه، وثبت هذا عنه من رواية الشعبي. [وقال ابن عمر: ما كان عمر يقول في شيء: إني لأراه كذا إلا كان كما يقول. وعن قيس بن طارق قال: كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك] أي: ملك يسدده. [وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تنجلي لهم أمور صادقة. وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها تتجلي للمطيعين: هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات، فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ فإن خير هذا الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما. وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدث في هذه الأمة، فأي محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فـ عمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر رضي الله عنه يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر؛ كما نزل القرآن بموافقته في غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك؛ كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخاري وغيره؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة، ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القادم، وشرط لهم شروطاً فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه، ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، أو نطوف به؟ قال: بلى، قال: أقلت لك: أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: إنك آتيه ومطوف به) فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن أبو بكر قد سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله عليه وسلم من عمر، وعمر رضي الله عنه رجع عن ذلك، وقال: فعملت بذلك أعمالاً. كذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عمر موته أولاً، فلما قال أبو بكر: إنه مات رجع عمر عن ذلك. وكذلك في مانعي الزكاة قال عمر لـ أبي بكر: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فوالله! ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه حق)]. يقصد من ذلك أن عمر رضي الله عنه كان يرجع عما يقع في قلبه من أمور امتثالاً لما ورد في الشرع، فهذا هو الواجب على كل أحد. وعندما مات النبي كان يظن أنه أغمي عليه وسوف يرجع مرة أخرى، فأسكته أبو بكر فلم يسكت، فجاء أبو بكر فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. فبمجرد ما إن قرأ أبو بكر الآية قعد عمر على الأرض وهدأ. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر رضي الله عنهما، مع أن عمر رضي الله عنه محدَّث؛ فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث]، ومعنى محدث أي: تحدثه الملائكة، وتقذف في قلبه شيئاً، وهناك واعظ من الله عز وجل في قلب كل مؤمن، والمحدثون ربما يسمعون الخطاب مباشرة أو يلقى في قلوبهم، وهذا التحديث أرفع من عامة المؤمنين، وأرفع من مرتبة التحديث مرتبة الصديق. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم]، ومن هنا نعرف أن إثبات كرامة الإلهام والكشف والتحديث ليس معناه إثبات أنها من مصادر التشريع؛ لأنها قابلة للخطأ والصواب، فلا بد أن تعرض على الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهي في الحقيقة يستأنس بها ولا يستدل بها -كما ذكرنا- بل القياس يقدم على التحديث والإلهام ونحو ذلك؛ لأن القياس الصحيح مرده إلى الوحي، وغلبة الظن في صحته أقوى من غلبة الظن في صحة الإلهام أو الكشف. والكشف: أن يكشف الله عز وجل له أموراً غابت عن غيره. كما وقع لـ عمر بقوله: يا سارية الجبل! فقد انكشف له أنهم لو لجئوا إلى الجبل لنجاهم الله عز وجل. وأعظم من درجات الكشف الكشف عن الحق، وانشراح صدر أبي بكر للقتال كان كشفاً، فهو كشف عن الحق بأدلته الظاهرة بأن يقع في قلبه أن الأمر سيكون كذلك. وقد يكون منه الاستخارة، فقد يكون فيها انشراح الصدر لأمره، ولكن هذه يستأنس بها ولا يستدل بها، فمثلاً: كان شيخ الإسلام يجزم في بعض الوقائع مع التتار أن المسلمين ينتصرون في هذه الواقعة، وأنهم يردون التتار؛ وذلك للصفات الموجودة في المسلمين التي تغيرت عما كانت عليه فتوقع لهم النصر، بل كان يجزم بذلك وكانوا يقولوا له: قل: إن شاء الله، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ولا بد أن يعلق الأمر بمشيئة الله؛ لأن ظن الإنسان قابل للخطأ والصواب. والكشف والإلهام باب واحد، فكلاهما من أنواع العلوم التي تقع في القلوب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته] كما حصل مثلاً مع عمار عندما أنكر عمر التيمم للمحدث حدثاً أكبر فذكره عمار يوم حصلت له الجنابة فتمرغ عمار في التراب، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يكفيك أن تضرب بكفيك الأرض ثم تمسح بوجهك وكفيك) فـ عمر رضي الله عنه لم يكن يتذكر هذه الواقعة وترك عمار يحدث بذلك، لكنه حذره من الخطأ ونحو ذلك. والمقصود أن عمر رضي الله عنه أقرهم على مناظرته وعلى كونهم ينازعونه ويناظرونه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يقول لهم: أنا محدَّث، ملهم، مخاطب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني]. وهذا هو الفرق في الإلهام عند أهل السنة وعند الصوفية، فالصوفية يقولون: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، ومن اعترض يطرد ونحو ذلك، فلا يوجد عندهم احتمال أصلاً لمناقشة الشيخ ولو أتى بالمنكرات، ويعد فعل الشيخ مهما كان هذا الفعل من المنكرات لسر بينه وبين الله عز وجل، فيكون هذا من الطاعات العمياء التي قد تصل بصاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.

تخطيء كل من يلزم أتباعه بطاعته الطاعة العمياء

تخطيء كل من يلزم أتباعه بطاعته الطاعة العمياء قال المصنف رحمه الله تعالى: [فأي أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولي لله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ولو كان من أفضل الناس، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله، وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم؛ فإن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يجب الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء؛ فإنه لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردوداً، وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهداً معذوراً فيما قاله له أجر على اجتهاده، لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئاً وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وهذا تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]. قال ابن مسعود وغيره: (حق تقاته) أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. أي: بحسب استطاعتكم؛ فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42]. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152]]، فـ ابن مسعود يرد على من يقول أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، بل يقول: هي مفسرة بها وليست منسوخة، وإن حق التقوى هي ما استطاعه الإنسان.

الأمر بالإيمان بما جاء به الأنبياء دون غيرهم

الأمر بالإيمان بما جاء به الأنبياء دون غيرهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع، كقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]]، إذاً ربنا أمر بالإيمان بما أوتي النبيون وليس الأولياء، فالأولياء يخطئون ويصيبون. ويقل المصنف رحمه الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2 - 5]]، والشاهد قوله تعالى: ((يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)) أي: على الأنبياء. والمبتدعون في ذلك يرون وقوع الإلهام وحياً قاطعاً لا يقبل أن يكون فيه تردد، فهذا يلحقه بالوحي المنزل من عند الله، فيترتب على ذلك الخلل الكبير جداً، فتأتي البدع من أوسع أبوابها من خلال هذا الإلهام المدعى والكشف المدعى. ويقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]]. الشاهد من الآية قوله تعالى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)). قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل]. ومنبع العصمة من الرافضة فإن أول بدعة في إثبات العصمة لغير الأنبياء كانت عند الرافضة الذين يقولون بعصمة الائمة الإثني عشر، ومن خلالهم تسرب هذا إلى مشايخ الصوفية وغيرهم. يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ومن خالف في هذا فليس من أولياء الله الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافراً وإما أن يكون مفرطاً في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ]. أي: أن هذا الأمر متفق عليه من عرض ما يقع في الكتاب والسنة وموجود في كلام المشايخ.

كلام مشايخ الصوفية الحقة في الولاية

كلام مشايخ الصوفية الحقة في الولاية قال المصنف رحمه الله تعالى: [كقول الشيخ أبي سليمان الداراني: إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة]. قوله: (النكتة) أي: الفائدة ونحو ذلك، ولذلك عندما نعرض مثلاً بعض المنازل التي يعدونها من منازل الفضل إذا عرضناها على الكتاب والسنة وجدناها لا حقيقة لها ولا أصل لها كالدهش والهيمان والسكر المعدودة عندهم من مقدمات الفناء؛ فإن هذا لا يدل عليها شيء من كتاب ولا سنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا، أو قال: لا يقتدى به]. فمثلاً إنسان فقأ عينه لما نظر إلى امرأة، نقول: إن هذا أمر محرم، فلا يجوز أن يفقأ الإنسان عينه؛ لأجل أنه نظر إلى امرأة محرم عليه أن ينظر إليها، فيعاقبها بذلك؛ لأن هذا لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن هذا إفساد لما وهبه الله عز وجل، وليس من حقه أن يفعل ذلك، مع أن هذا كان غرضه غض البصر ونحو ذلك، فيقول: علمنا هذا -أي علم تهذيب النفوس وعلم أحوال القلوب- لا بد أن يعرض على الكتاب والسنة كسائر أنواع العلوم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. وقال أبو عمرو بن نجيد: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل]. والوجد: ما يجده السالك في قلبه من رقة وميل إلى المحبة ونحو ذلك، أو منازل من أحوال العباد قد تقع في قلبه فهو ينظر إلى هذه الأحوال ويعرضها على الكتاب والسنة وإذا خالفها كان باطلاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولاً إلى البدعة والضلال، وآخراً إلى الكفر والنفاق والعياذ بالله، ويكون له نصيب من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]، ومن قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66 - 68]. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167]. وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. وفي مسند الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية: لما سأل صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (ما عبدوهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحرام فأطاعوهم وكانت هذه عبادتهم إياهم). ولهذا قيل في مثل هؤلاء: إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول؛ فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وعلمائهم وعبادهم، وملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطناً وظاهراً حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81 - 82]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:60 - 65]. وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مقلداً في ذلك من يظن أنه ولي لله فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لن يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء] أي: إبريقاً فارغاً يملأه ماءً من الهواء من غير محل. يقول المصنف رحمه الله تعالى: [أو ينفق بعض الأوقات من الغيب] بمعنى أنه يخبر بعض الأوقات عن أمور قد تكون غيبية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه. وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله] يعني: من صار عندهم من ذلك أشياء يخدعون بها عوامهم، كالبوذيين والهندوس وغيرهم ممن يقوم بأعمال السحر.

التصرفات الخارقة ليست دليلا على الولاية

التصرفات الخارقة ليست دليلاً على الولاية قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحفاوة الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة. مثال ذلك: أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون مجالساً للنجاسات، معاشراً للكلاب، يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية ولا يتنظف. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب ولا كلب)، وقال عن هذه الأخلية: (إن هذه الحشوش) -أي: أماكن قضاء الحاجة-، (إن هذه الحشوش محتضرة) -أي: يحضرها الشيطان-، وقال: (من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم). وقال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، وقال: (إن الله نظيف يحب النظافة) -وهذا حديث حسن-وقال: (خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور)، وفي رواية: (الحية والعقرب). وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب]، وهذا منسوخ، فقد نسخه بعد ذلك، ونهى عن قتل الكلاب إلا الأسود قال المصنف رحمه الله: [وقال: (من اقتنى كلباً لا يغني عنه زرعاً ولا ضرعاً) أي: حماية الماشية، (نقص من عمله كل يوم قيراط) وقال: (لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب)، وقال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب). وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر ولاسيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن؛ فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله. قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل. وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل. وإن كان الرجل خبيراً بحقائق الإيمان الباطنة فارقاً بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله بقلبه من نوره كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد:28]] يعني: تحقيق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى حصول الفرقان والنور. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فهذا من المؤمنين] الذي هو الفارق بين الأحوال الرحمانية والشيطانية. قال المصنف رحمه الله: [الذي جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) قال الترمذي: حديث حسن، وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال فيه: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه). فإذا كان العبد من هؤلاء: فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي -صاحب الصرافة- بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق والمتنبئ الكاذب فيفرق بين محمد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين وموسى والمسيح بن مريم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين، كذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين].

[5]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [5] لقد أرسل الله عز وجل جميع الرسل بدعوة واحدة هدفها واحد وشرائعها مختلفة، فكل الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده دون ما سواه، ونبذ كل آلهة تعبد من دون الله سواء من البشر أو البقر أو الحجارة والأضرحة وغير ذلك. وإن من أعظم الضلال في هذه الأمة ضلال الصوفية الغلاة، وانحرافهم الشديد جاء بالزندقة وادعاء الألوهية، وتنقص الأنبياء والرسل، ومدح الكفار والمحاربين لله ورسوله.

الإسلام دين جميع الرسل

الإسلام دين جميع الرسل الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله: [فصل: والحقيقة: حقيقة الدين دين رب العالمين هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج. فالشرعة: هي الشريعة، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18 - 19]. والمنهاج: هو الطريق، قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:16 - 17]. فالشرعة: بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج: هو الطريق الذي سلك فيه، والغاية المقصودة: هي حقيقة الدين، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام، وهو: أن يستسلم العبد لله رب العالمين، لا يستسلم لغيره، فمن استسلم لله ولغيره كان مشركاً، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]]. وهذان النوعان هما أساس كل كفر والعياذ بالله، الأول شرك قوم نوح ومشركي العرب، ومعظم الأمم التي تعبد الله، ولكن في نفس الوقت تشرك به وخصوصاً في الدعاء وصرف العبادات لغيره. النوع الثاني: شرك إبليس، وهو شرك فرعون وأمثاله ممن جحد دين الله عز وجل ورده ولا يقبل بالخضوع والانقياد له، كالشرك المنتشر في زماننا من فصل الدين عن الحياة، والإباء والرد لدين الله سبحانه وتعالى، وكلا النوعين مازال منتشراً يقع فيه كثير من الناس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ودين الإسلام: هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم، ويعقوب، والأسباط، وموسى، وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام]. الحواريون ليسوا من الأنبياء ولا من المرسلين، ولكنهم أتباع المسيح صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى عن نوح: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] إلى قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، وقال السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقالت بلقيس: {أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44]، وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة:44]، وقال الحواريون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم]. دينهم الذي هو عبادة الله، والخضوع لله عز وجل والاستذلال له.

ذم التفرق في الدين

ذم التفرق في الدين قال المؤلف رحمه الله: [كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معشر الأنبياء ديننا واحد)، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]]. إذاً: الدين الذي فرضه الله على الأنبياء وشرعه لهم هو دين واحد لا يجوز التفرق فيه، والتفرق بمعنى: أن يجعل شيء لله وشيء لغيره، أي: شيء من العبادة لله وشيء لغيره، هذا -والعياذ بالله- هو التفرق المذموم. [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:51 - 53]]. فبدلاً من أن يقيموا الدين كله، ويلتزموا بما جاءت به الرسل كله، قطعوا أمرهم فكل طائفة أخذت قطعة ((زُبُرًا)) أي: قطعاً وأجزاءً، فكل منهم تمسك بشيء زعم أنه يتمسك به وترك غيره، وتركه لغيره تضييع لما تمسك به، فلا يكون متمسكاً بشيء، فلو قلنا مثلاً: إن النصارى زعموا تمسكهم بحب المسيح، لكنهم لما غلوا فيه ورفعوه فوق منزلته صاروا غير متمسكين، ولما زعم اليهود تمسكهم بالإيمان بموسى صلى الله عليه وسلم وتركوا الإيمان بمن جاء بعده صاروا غير متمسكين بموسى، فهؤلاء الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً، ((كُلُّ حِزْبٍ)) كل طائفة، ((بِمَاَ لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)). كذلك أهل البدع تجدهم يزعمون التمسك ببعض النصوص ويتركون البعض الآخر، وكل طائفة مبتدعة تفعل ذلك وتقع فيه، فهذا الذي حذر الله منه، ومن هنا يحدث التفرق في الدين، فالدين واحد، ولذلك ليس هناك حقيقة مخالفة للشريعة، وهذا الذي يذكره شيخ الإسلام فيقول: (والحقيقة: حقيقة الدين دين رب العالمين: هي ما اتفق عليه الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج)، والحقيقة هذه أن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن يستسلم له وحده لا شريك له، وبالتالي فلا يوجد شيء اسمه الحقيقة الذي عند أهل التصوف بمعنى: أن أصحاب الحقيقة لا يلتزمون بشريعة، فهذا وهم باطل ليس من الدين، وحقيقة الدين: هي أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نلتزم بشريعته ظاهراً وباطناً، فلا يجوز أن نجعل خلافاً بين الحقيقة والشريعة إذ هما شيء واحد في الحقيقة، والحقيقة: أن يكون الإنسان مستسلماً لله سبحانه وتعالى على ما جاءت به الرسل، فهذه هي حقيقة دين الإسلام، أما أن يقال: هؤلاء أصحاب الشريعة يتمسكون بها ظاهراً، والآخرون أصحاب الحقيقة لا يلزمهم الشريعة الظاهرة، فهذا خلاف دين الإسلام الذي جاءت به كل الرسل. نحن قلنا: من استسلم لله ولغيره يكون مشركاً، ومن أبى الاستسلام بالكلية يكون مستكبراً كافراً مشركاً؛ لأنه اتبع هواه، وعبد الشيطان في الحقيقة الذي وسوس له هذا الأمر، فهو شرك من هذه الجهة، وإن كان هذا شرك إبليس والعياذ بالله، فكل كافر مشرك، وكل مشرك كافر بالتلازم، وإن كان واحد يغلب عليه شيء، والثاني يغلب عليه شيء آخر، فإذا نظرت إلى اليهود فهم مغضوب عليهم، والنصارى ضالون، فاليهود مغضوب عليهم وضالون، والنصارى مغضوب عليهم وضالون، ولكن هؤلاء أحق بوصف الغضب، وهؤلاء أحق بوصف الضلال، لكن بلا شك أن الذي علم الحق ولم يعمل به ضال أيضاً، وليس فقط مغضوب عليه؛ لأن هذا نوع من الضلال، لكونه يعلم الحق ولا يلتزم به، وكذا الذي ضل عن الحق ولم يعلمه مغضوب عليه، فكذلك: كل كافر مشرك، وكل مشرك كافر، فشخص يشرك في عبادة الله والآخر يتكبر عن عبادة الله، الذي يتكبر عن عبادة الله هذا يتبع إبليس والعياذ بالله وهواه؛ لأنه اتخذ إلهه هواه فصار مشركاً والعياذ بالله، وهذا أشرك بالله وقد فطر على التوحيد.

تفضيل الأنبياء ومراتب السعداء

تفضيل الأنبياء ومراتب السعداء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء]. فالأنبياء هم خاصة أولياء الله، فكل نبي ولي، وليس كل ولي نبياً، فاتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، إلا الرافضة الذين قولهم قول كفري والعياذ بالله، فغلاة الرافضة يقولون: إن بعض الأولياء أفضل من الأنبياء، يقول الخميني: إننا معشر الشيعة الإمامية نعتقد أن لأئمتنا أحوالاً مع الله لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل والعياذ بالله! ومثل هؤلاء غلاة الصوفية الذين يقولون: مقام الولي في برزخ دون الرسول وفوق النبي؛ لأن الترتيب عندهم الرسول ثم الولي ثم النبي وهذا كفر والعياذ بالله! يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب: فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]]. وبالنسبة لتقسيم ابن تيمية الكافر إلى نوعين قد يقول قائل: والساحر والكاهن الذي يأتيه ويصدقه هل يكون كافراً؟ نحن نقول: ابن تيمية هنا يتكلم عن الخروج الذي هو الكفر الأكبر الذي استسلم فيه العبد لله ولغيره فيكون مشركاً، ومن استكبر على عباده كان مستكبراً، فهذان الاثنان شركهما أكبر من إتيان الكاهن أو الساحر، فهذا منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر، فلو أن شخصاً ذهب إلى الكاهن واعتقد فيه علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله فهذا كفر أكبر، لكن إن صدقه فيما هو من خصائص الربوبية كأن صدقه في الغيب النسبي من أنه سيحضر له الحاجة المسروقة ويعرف مكان الضالة، وهو الغيب الذي غاب عن البعض وعرفه البعض والعياذ بالله! فهذا يعتقد أنه يعلم الغيب عن طريق الكلمة التي أخذها من السماء ونحوها، فهذا النوع كفر دون كفر، لكن الذي يذهب إلى الساحر ويقول له: من أجل أن أعمل لك هذا العمل لابد أن ترمي المصحف في القاذروات، ولابد أن تذبح للجني، ولابد أن تسجد للصنم، ففعل ذلك فهذا أشرك بالله، ولو اعتقد أن الساحر يضر وينفع من دون الله، وأن الكواكب تفعل ما يطلب منها، فهذا يكون كفراً أكبر والعياذ بالله! وشخص آخر ذهب إلى الساحر وأراد منه أن يعمل له شيئاً فأقنعه الساحر أن عنده ملائكة أو جناً مسلمون يساعدونه في الخير، وسيعمل له العمل من غير ما يصرف العبادة لغير الله، فوافقه؛ فهذا شرك أصغر، فهنا في هذا المقام يقول ابن تيمية: إن الله عز وجل رتب عباده السعداء أربع مراتب. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الحديث: (ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر)]. هذا حديث ضعيف، لكن معناه صحيح بلا شك، فـ أبو بكر الصديق أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل من كل أصحاب الأنبياء إلى قيام الساعة، إلا ما كان من شأن عيسى صلى الله عليه وسلم فإنه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه رسول، ونحن نقول: هناك اتفاق على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، ونقول: إن سيدنا أبا بكر أفضل هذه الأمة بغض النظر عن عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم

أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي في المسند -الحديث الصحيح-: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه]. وفي رواية: (خير الناس قرني) وهذا عام يشمل كل الناس، إذاً: الأمم السابقة واللاحقة خير القرون منها جملة هو قرن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبالتالي إذا قلنا: خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر فهو خير الناس بعد الأنبياء. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [في الصحيحين أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة]. وهذا لا شك فيه، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة، وبالتالي هم أفضل من كل من يأتي بعدهم، لا يبلغ أحد منزلتهم، لكن لا يلزم من هذا أن كل واحد من الصحابة أفضل من كل واحد ممن يأتي بعد ذلك، والظاهر أنه كان فيهم من قال الله عنهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فإذاً: كان هناك مسلمون وليسوا بمنافقين النفاق الأكبر، وكان منهم من ارتكب الكبائر، فلا يصح أن يقال: إن كل واحد من الصحابة أفضل من كل من يأتي بعدهم، لكن كل واحد من السابقين الأولين أفضل من كل من يأتي بعدهم؛ لأن الله إنما مدح الذين جاءوا من بعدهم باتباعهم لهم، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. والصحابي هو: كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولو لحظة، فـ محمد بن أبي بكر معدود في الصحابة، وهو ولد في حجة الوداع قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ببضعة وثمانين يوماً، ومع هذا فإنه معدود ضمن الصحابة رضي الله عنهم. فالصحابي كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على ذلك؛ لأجل ذلك نقول: هذا الأمر الصحيح فيه ما ذكرنا، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]، وهذا أحسن حد، يعني: التحديد بالفتح الذي هو صلح الحديبية هو أفضل ما قيل في الفرق بين السابقين الأولين وبين من أتى بعدهم، فمن أسلم وقاتل قبل صلح الحديبية -وهو الفتح الذي سماه الله فتحاً مبيناً- فهو أعظم وأفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلاً وعد الله الحسنى. يقول: [والسابقون الأولون: هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح: صلح الحديبية، فإنه كان أول فتح في مكة، وفيه أنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، (فقالوا: يا رسول الله! أوفتح هو؟! قال: نعم). وأفضل السابقين الأولين: الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، هذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في (منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية)]. كتاب المنهاج هذا من أفضل ما كتب في الرد على الشيعة والمعتزلة، والشيعة أصلاً هم معتزلة في العقائد. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء]. الشيعة يقولون: هو علي، وأهل السنة جميعاً يقولون: هو أبو بكر الصديق.

قياس ملاحدة الصوفية خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء

قياس ملاحدة الصوفية خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة، وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم واتباعاً له، كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملاً به، فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وقد ظنت طائفة غالطة أن خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياساً على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي]. الحكيم الترمذي ليس هو صاحب السنن، وإنما هو صاحب كتاب اسمه: نوادر الأصول، وقد طعن العلماء في كثير من مؤلفاته. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفاً غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما يزعم ذلك ابن عربي صاحب كتاب: (الفتوحات المكية) وكتاب (الفصوص) -فصوص الحكم- فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم: لا عقل ولا قرآن]. السقف يكون فوق، فعندما يقول شخص: من تحتهم إذاً: لا عقل ولا قرآن ولا شيء معه.

فضل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء

فضل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف يكون الأنبياء كلهم والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء!]. أفضل الأولياء أبو بكر فهو أول شخص أسلم، وليس الأفضل من الذين سيكون في آخر الزمان. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت في النصوص الدالة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر!)، وقوله: (آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول -الخازن-: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم، فكان أحقهم بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] إلى غير ذلك من الدلائل، والأنبياء كل منهم يأتيه الوحي من الله لاسيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجاً إلى غيره، فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق، بخلاف غيره، فإن المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة]. وكذلك لم يكن هناك تشريعات للنصارى إلا بالاعتماد على العهد القديم التوراة. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وشريعة التوراة جاء المسيح يكملها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أغناهم به، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث]. يعني: لسنا محتاجين أن نبحث في الكتب السابقة، يكفينا ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنة، إذاً: لن نحتاج إلى كتب متقدمة، ولن نحتاج إلى محدثين ملهمين. وعيسى هو آخر الأربعة والعشرين نبياً المذكورين في القرآن. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [بل جمع له من الفضائل -لمحمد صلى الله عليه وسلم- والمعارف والأعمال ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله به ما أنزله إليه، وأرسله إليه لا بتوسط بشر وهذا بخلاف الأولياء، فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون ولياً إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه، ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمداً رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفاراً بذلك، وكذلك الذي يقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة]. من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث بهذا العلم الشريف وإنما بعث بالعلم الظاهر، هذا أكفر من اليهود والنصارى فعلاً. [فإذا ادعى المدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم دون البعض الآخر، وهو شر ممن يقول: أؤمن ببعض وأكفر ببعض، ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين]. اليهود لا يقولون: شريعتكم هذه أقل من الشريعة الأولى، لكن هم يقولون: لا تلزمنا؛ لأن كل عاقل ينظر إلى شريعة الإسلام يقول: هي أحسن الشرائع، وأكمل مما سبقها بالتأكيد، وهذا بالموازنة العقلية المحضة، فلا يشك عاقل أن شريعة الإسلام أكمل، ومع ذلك فمن قال: لا تلزمني وإنما يلزمه الذي آمن به كان كافراً، فكيف إذاً من يقول: إن الذي جاء به هذا هو الأدنى، والذي لم يأت به هو الأعلى قدراً وأنا لا أحتاج إليه؟!

ملاحدة الصوفية وتفضيلهم الولاية على النبوة

ملاحدة الصوفية وتفضيلهم الولاية على النبوة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته، وهم ملاحدة الصوفية]! من أجل أن يلبسوا على الناس يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ولي وولايته أفضل من نبوته. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وينشدون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد صلى الله عليه وسلم لم يماثله فيها أحد، لا إبراهيم ولا موسى فضلاً عن أن يماثله هؤلاء الملحدون، وكل رسول نبي وكل نبي ولي، فالرسول نبي ولي، ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لولايته، وإذا قدروا -قدر هؤلاء الملاحدة- مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع]. يعني: كيف يقول: إنه نبي من غير أن يكون ولياً؟! الذي يقول: إن الله جعله يأتي بالأنباء دون أن يكون ولياً! فهذا تقدير ممتنع.

علاقة ملاحدة الصوفية الاتحادية بالمتفلسفة

علاقة ملاحدة الصوفية الاتحادية بالمتفلسفة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا ولياً لله، ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلاً للرسول في ولايته، وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربي: إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول]. أعوذ بالله! يقولون: نحن نأخذ من الأصل الذي يأخذ منه الملك، يعني: ليس من الذي يأخذ منه الرسول، بل الملك يبلغ الرسول فيأخذه من الأصل ويأخذ منه الملك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة ملاحدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة؛ وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا: إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها، كما يقوله أرسطو وأتباعه: أولها موجب بذاته -موجب وواجب الوجود- كما يقوله متأخروهم كـ ابن سينا وأمثاله ولا يقولون: إنها لرب خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما أن ينكروا علمه مطلقاً كقول أرسطو -الذي هو واجب الوجود كالأول- أو يقولوا: إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقول ابن سينا]. فهو ينكر علم الجزئيات. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وحقيقة هذا القول: إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي، والأفلاك كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره، فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون: إن الله خلق السماوات والأرض، وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من متفلسفة اليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية، وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم -متأخرو الفلاسفة- كـ ابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة وركبوا مذهباً قد يعتزي إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا موضع]. ابن عربي كان من الصوفية المتفلسفة، ولذلك الصوفية المتفلسفة هم طور من التصوف هو شر الأطوار على الإطلاق، ومن خلاله دخل الكفر والإلحاد والخروج من الملة والعياذ بالله! يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم قد بهر العالم، واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم -وهذا كلام ابن سينا - ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن؛ أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأولئك -الذين هم الفلاسفة- قد أثبتوا عقولاً عشرة يسمونها: المجردات، والمفارقات؛ وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، فسموا تلك مفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها، وأثبتوا الأفلاك، وجعلوا لكل فلك نفساً، وأكثرهم جعلوها أعراضاً وبعضهم جعلها جواهر]. الأفلاك هذه أصلاً على حسب معلوماتهم القديمة أن هناك عشرة أفلاك بعضها فوق بعض. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور موجودة في الأذهان لا في الأعيان -يعني: مجرد خيالات في الحقيقة- كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الأفلاطونية المجردة، وأثبتوا هيولى مجرد عن الصورة]. هيولى التي هي مادة أصل المادة يعني: مجرد عن الصورة ليس لها أي وصف ولا شكل. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومدة وخلاء مجردين]. الذي هو الزمان والمكان المجردان من أي وجود. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان]. يعني: العقل البشري هو الذي يفصل، ويستطيع أن يتخيل أنه يوجد زمان مجرد ومكان مجرد.

النبوة عند المتفلسفة

النبوة عند المتفلسفة يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كـ ابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة: زعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي: أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها من العلم بلا تعلم. وأن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صوراً أو يسمع في نفسه أصواتاً كما يراه النائم ويسمعه، ولا يكون له وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله، وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى. وأن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم -في مادة العالم-، وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي قوى النفس؛ فأقروا من ذلك ما يوافق أصولهم كقلب العصا حية، دون انشقاق القمر]. لأن القمر عندهم من الأفلاك، والأفلاك هذه لا تتغير، لكن الذي ممكن أن يتغير هنا في العالم السفلي، ولذلك تراهم ينكرون انشقاق القمر ويثبتون معجزة العصا حية. [فإنهم ينكرون وجود ذلك، وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء]. القوى الثلاثة هذه ابن سينا عندما يثبتها يقول: إن النبوة مكتسبة، وهذه أحد المواطن التي كفره بها الغزالي نفسه، ويرى أن الفلاسفة والحكماء مثل الأنبياء تماماً!

نظرية العقول العشرة عند الفلاسفة

نظرية العقول العشرة عند الفلاسفة يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن هذا الذي جعلوه من خصائص النبي يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء، وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، وليسوا عشرة وليسوا أعراضاً]. الأعراض: الصفات تعرض أو الأفعال. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو: العقل الأول، وعنه صدر كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر]. الذي هو آخر فلك من الأفلاك والعياذ بالله، وهذه كلها فعلاً عقائد لدى المتفلسفة. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل]. فهم على العموم يعبدونها على أنها ترمز للقوة، وآخر شيء الذي هو العقل الفعال العاشر، والأفلاك عندهم عشرة آخر شيء منها تحت فلك القمر، فـ ابن سينا يعتقد هذه العقيدة كما هو اعتقاد اليونان أن رب كل ما تحت فلك القمر هو العقل الفعال العاشر. نحن نتكلم على أساس هذا الضلال من أين أتى؟ من أجل أن نبين أن هؤلاء فعلاً جاءوا بما لم يأت به الرسل، والكلام هذا موجود في الكتب، فهؤلاء أناس منتسبون إلى الإسلام ويتكلمون بهذه الفلسفة، فـ ابن سينا الناس يسمونه فيلسوف الإسلام ويعظمونه جداً، ومنهم من يعتقد أن ابن سينا هو الأستاذ الذي علم أوروبا! فـ ابن تيمية يتسلسل في هذا الكلام من أجل أن يبين أن الصوفية الذين فرقوا بين الحقيقة والشريعة جاءوا بهذا من هذا الكلام، الذي هو بالاضطرار معلوم أن هذا خلاف دين الرسل، وكلام ابن عربي عندهم مثل الكبريت الأحمر، وهو الشيخ الأكبر، صاحب كتاب: فصوص الحكم، والفتوحات المكية، فعندهم هذه من أعظم الكتب التاريخية التي لا نظير لها، ويقولون: إنه هو خاتم الأولياء، وإنه أعلى من الرسل، فالرسول عندهم دون الولي، إذاً الولي أعلى من الكل والعياذ بالله، فهذا الكلام هو الذي جعل الصوفية المتفلسفة وكل الفرق الضالة المنحرفة المنتسبة إلى التصوف تعظم هؤلاء، فهو يريد أن يخرج جذور ضلالهم من أجل أن الناس يعرفون أن هذا الكلام نابع من غير دين الإسلام، فهذا دين آخر في الحقيقة، فالصوفية المتفلسفة الذين أصلهم ابن عربي وابن الفارض والتلمساني وأمثال هؤلاء، فهؤلاء أصلاً يقولون بدين آخر غير دين الإسلام، والتلمساني الصوفي هو غير التلمساني المعاصر. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل]. وأي شخص يتكلم في هذا الباب ولم يكن عنده علم يتأثر به، فتجد مثلاً كتاب محاسن التأويل للقاسمي عندما يأتي يتكلم في تفسير قوله تبارك وتعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، يتكلم عن العلم اللدني، وهو مأخوذ من كلام الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، فهو ينقل كلام الفلاسفة دون أن يعلق عليه؛ من أجل ذلك قالوا: إن الغزالي دخل في بطن الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها، مع أنه رد على الفلاسفة وألف كتاب: تهافت الفلاسفة وكفرهم، لكن بقيت عنده آثار، فيقول في العلم اللدني: إن علم الرسل: هو زوال الحجب من العقل الكلي والجزئي، الذي هو عقل الرسول من الوحي، والعقل الكلي: جبريل، وإن العلم اللدني: هو زوال الحجب بين النفس الكلي وبين النفس الجزئي التي هي نفس الولي، وإن النفس الكلي عند الفلاسفة هو اللوح المحفوظ، فقال كلام الفلاسفة بالضبط، وصاحب محاسن التأويل -مع أن كتابه جيد جداً- نقل الكلام ولم يقل فيه ولا كلمة، والذي لا يعرف أصلاً عقائد الفلاسفة التي هي فعلاً عقائد الفلاسفة الكافرة التي ذمها الشيخ، وهي فعلاً يعلم فسادها بالاضطرار من دين الإسلام، وأنها شيء ليس له علاقة بالدين الذي جاء به موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم يظن أن هذا الكلام هو كلام المحققين، وقد وقع في هذا كثير من الناس. إذاً: من أجل ذلك نقول: إن هذا الأمر لابد من التحذير منه، ونعلم أن الكلام هذا ليس كلام أهل الإسلام والإيمان، ولا كلام أحد من أتباع الرسل، فمن أجل ذلك نقول: إن هذا منهج مختلف تماماً مع الدين، ولا يمكن أن نقول: إن هؤلاء في يوم من الأيام سيكونون مصدر صحوة للأمة، بل هؤلاء أولياء الشيطان فعلاً -والعياذ بالله- وإن كان كثير من الناس يخدعون بهم ويقولون: إن هؤلاء أناس يصلون ويصومون ويتعبدون إلى آخره، لكن حقيقة منهجهم أنهم يعظمون هؤلاء المبتدعين -بل هؤلاء الزنادقة الملحدين- ويتبعونهم على ذلك، وحقيقتهم خلاف دين الإسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحد من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله]. العقل الكلي الذي جعلوه الملك الأول جبريل يجعلونه مبدعاً لما تحته، فكل فيض في وزن العقل من واجب الوجود مبدع خالق لما تحته، وفي الحقيقة: الخلق عندهم عبارة عن فيض وليس عن الإحداث من العدم، وعقيدة أن المادة لا تفنى ولا تستحدث ولا تخلق من عدم، هي عقيدة الفلاسفة المتقدمين؛ لأنهم يقولون أصلاً: العالم قديم غير مخلوق، وهو فيض فاض من واجب الوجود، والفيض هذا هو الذي يسمونه أحياناً خلقاً، ولكن هو في الحقيقة ليس مخلوقاً من عدم، إنما هو فيض فاض بأن تتابع الفيض الأول في الفيض الثاني، فهذا معناه أنه مبدع لما تحته، يعني: العقل الكلي فاض منه عشرة عقول، من أجل ذلك يقول: هذا مبدع لعشرة عقول، وآخر صاحب عقل فعال؛ ولذا يقولون: رب كل ما تحت القمر؛ لأنه فاض منه آخر شيء الذي هو الهيولى الذي هو المادة التي تتكون من أربعة: هواء وماء ونار وتراب، والأربعة هذه عكس الأربعة التي تشكلت منها الأرض، فهذه تهدمت وانتهت منذ سنين طويلة، وهذا هو المقبول، وقد بقيت بقايا فلسفية أثرت في العلوم التجريبية الأخيرة مثلهم قولهم: المادة لا تفن، ولا تستحضر، ولا تخلق من عدم، وحتى نظرية تحول الطاقة إلى مادة، والمادة إلى طاقة، وأن العالم كله كان طاقة في البداية هي نظرة انشتاين التي مردها أيضاً إلى نفس التطور الأول، الذي هو: أنه لابد أن تكون المادة غير مخلوقة، بمعنى: غير مستحدثة، فأهل الإسلام واليهود والنصارى كل اعتقاداتهم أن العالم هذا كان عدماً محضاً ثم ربنا أوجده، وأنه كان الله ولم يكن شيء غيره، وهذه عقيدة كل الملل التي تتبع الرسل، وعقائد الفلاسفة أثرت تأثيراً خطيراً جداً مع كونها مخالفة لكل ما جاءت به الرسل من المعلوم بالاضطرار من دين الرسل، فهؤلاء كلامهم كفر فظيع، فهم يقولون بقدم العالم، وهذا كفر لوحده، كذلك يقولون باكتساب النبوة، وشيء آخر أيضاً معلوم من الدين بالضرورة، وهو: القول بعدم بعث الأرواح؛ لأن الأرواح هذه مرحلة من المراحل التي نعبر بها هذه الحياة، ومن بعد ذلك الأرواح ستتحول إلى شيء آخر ولن تعود!

بطلان حديث العقل الذي رواه الفلاسفة

بطلان حديث العقل الذي رواه الفلاسفة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فليس أحد من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أنه العقل المذكور في حديث يروى: (إن أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، فقال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ، وبك أعطي، ولك الثواب، وعليك العقاب) ويسمونه أيضاً القلم؛ لما روي: (إن أول ما خلق الله القلم) الحديث رواه الترمذي. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي والداراقطني وابن الجوزي وغيرهم، وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها، ومع هذا فلفظه -لو كان ثابتاً- حجة عليهم، فإن لفظه: (أول ما خلق تعالى العقل قال له) ويروى: (لما خلق الله العقل قال له) فمعنى الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه، وليس معناه أنه أول المخلوقات، وأول: منصوب على الظرف، كما في اللفظ الآخر (لما) وتمام الحديث: (ما خلقت خلقاً أكرم علي منك) فهذا يقتضي أنه خلق شيئاً قبله، ثم قال: (فبك آخذ، وبك أعطي، ولك الثواب، وعليك العقاب)، فذكر أربعة أنواع من الأعراض، وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صادر عن ذلك العقل فأين هذا من هذا؟]. سبق وأننا رددنا أن مرد العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة اليونان، فعندنا العقل بمعنى: التعقل والإدراك، والعقل دائماً يوصف به أهل الإيمان.

لفظ العقل في لغة المسلمين واليونان

لفظ العقل في لغة المسلمين واليونان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسبب غلطهم: أن العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً كما في القرآن: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد:4]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] ويراد بالعقل: الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل وليس هذا مطابقاً للغة الرسل والقرآن، وعالم الخلق عندهم -كما يذكره أبو حامد - عالم الأجسام العقل والنفوس، فيسميها عالم الأمر، وقد يسمي العقول: عالم الجبروت، والنفوس: عالم الملكوت، والأجسام: عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معاني الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا وليس الأمر كذلك]. يعني: أن العقل الجوهر، لكن هذا العقل الفعال، فهو ليس جسماً، لكنه شيء له أعراض، وأبو حامد الغزالي عندما يتكلم في تهذيب النفوس يستعمل هذه الألفاظ الفلسفية كثيراً.

الملائكة في نظر المتفلسفة

الملائكة في نظر المتفلسفة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيساً كثيراً، كإطلاقهم أن الفلك محدث أي: معلول، مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقاً بالعدم، وليس في لغة العرب، ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثاً، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بسط في غير هذا الموضع. وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة، وزعموا أنهم أولياء الله، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كـ ابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعدن عنده هو العقل، والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن العقل الذي هو أصل الخيال، والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه، ولم يكن هو من جنسه فضلاً عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك؟! فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم فضلاً عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كـ الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين]. شيخ الإسلام دائم الثناء على هؤلاء المشايخ وهم من كبار الموصوفين بالصوفية، وربما بعضهم تسمى بأنه من الصوفية، وكما تكلمنا عن هذا الاسم أنه ليس محموداً فهو حادث، ولكن كان من الزهاد والعباد ممن هو على منهج أهل السنة والجماعة ممن اشتهر بملازمته لطريق الزهد ونحو ذلك؛ فأطلق عليه مثل هذا الاسم، والعبرة بوجود المعتقد الصحيح، والسلوك الصحيح، والبعد عن البدع والضلالات، والذين ذكرهم هم مقدمون في أمر الزهد والعبادة، وهم في الجملة ملتزمون بمنهج أهل السنة والجماعة، وإن أثر على بعضهم بعض الأقوال أو الأفعال فهذا مما لا يسلم منه أحد، إما أنهم اجتهدوا فأخطئوا، أو خطؤهم مغمور بالنسبة إلى فضائلهم وعبادتهم والله أعلم. وعلى أي حال: فهم لم يبلغوا منزلة السلف المتقدمين رضي الله تعالى عنهم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الملازمين للكتاب والسنة.

وصف الملائكة في القرآن

وصف الملائكة في القرآن قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء]. يعني: قولهم: إن لملك هو الخيال قطعاً هذا كلام يخالف ما في الكتاب والسنة؛ لأن إيمانهم بالملائكة في الحقيقة تكذيب بهم. وهذه الآيات التي وصف الله بها ملائكته في كتابه تبين أنهم مخلوقون لهم وجود، ولهم أعمال وأفعال وقدرات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]]. بين الله عز وجل أن الملائكة ليسوا بنات لله، ولا أولاد له سبحانه وتعالى، كما يعتقد النصارى ويعتقد المشركون أن الملائكة بنات الله، وبين عز وجل أنهم عباد، وأنهم مكرمون عنده عز وجل لهم منزلة كريمة، وأنهم لا يعملون عملاً قبل أن يأمرهم الله، لا يسبقونه بالقول، وأنهم إذا أمروا نفذوا كلما أمروا به، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]، وأن الله عز وجل محيط بعلم ما عندهم وما بين أيديهم وما خلفهم، وأن الملائكة لا تشفع إلا لأهل التوحيد والإخلاص ممن رضي الله أن يشفع فيهم، ومع ذلك هم في إشفاق ووجل وخشية لله تعالى، فكل هذه الصفات تثبت وجوداً لهؤلاء، فهم أصل المخلوقات النورانية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الملائكة: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]]. إذاً: هم يشفعون لمن شاء الله ورضي أن يشفع فيه، وقد بين سبحانه أن ذلك إنما يكون في أهل التوحيد ولا ينفع المشركين شفاعة الشافعين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]]. لأن المشركين كانوا يدعون الأوثان على أنها ترمز للملائكة، فبين عز وجل حقيقة الأمر فقال: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) زعمتم أنهم آلهة تعبد من دون الله! ((لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ))، فنفى الملك التام لذرة فما فوقها، ثم نفى المشاركة في هذه الذرة فما فوقها فقال: ((وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ))، ثم نفى المعاونة، فالملائكة لا تعاون الرب سبحانه وتعالى، بل هم يعملون بأمره وهو عز وجل الذي قواهم وأعطاهم الحول والقوة والقدرة، قال: ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)) أي: من معين، {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، لم يبق إلا مقام الشفاعة، فبين عز وجل أنهم لا يشفعون إلا لمن أذن الله له أن يشفع؛ وذلك بعد الاستئذان، ويكون هو من خاصة أهل الإيمان والتوحيد، ويشفعون لمن ابتغى الله، وهم أيضاً من كان من أهل الإيمان والتوحيد وإن نقصت أعمالهم عن استحقاق دخول الجنة من غير عذاب في النار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]]. فبين أن الملائكة وغيرهم مملوكون لله، ((وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ)) أي: الملائكة ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ)) لا ينقطعون، استحسر بمعنى: انقطع ولم يستمر، فهم لا يكلون عن العبادة، قال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} لا يصيبهم فتور وهو ضعف في العمل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر أن الملائكة جاءت إبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم بشراً سوياً، وكان جبريل عليه الصلاة والسلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي -مثل حديث تعليم الناس الإسلام والإيمان والإحسان- ويراهم الناس كذلك، وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]]. قوله: (ذي قوة): هذا فيه إثبات القوة والقدرة للملائكة، ((عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)) عند الله عز وجل ((مَكِينٍ)) ذو مكانة، ((مُطَاعٍ)) هناك عند الله في السماوات؛ لأنه يكون أول من يرفع رأسه إذا سمع كلام الله، وتسجد الملائكة عند ذلك، فإذا رفع جبريل رأسه رفعت الملائكة رءوسها، فهو مطاع من الملائكة عند الله ((ثَمَّ)) أي هناك، ((أَمِينٍ)) مستأمن على أعظم رسالة وهي الرسالة إلى البشر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن محمداً صلى الله عليه وسلم {رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]]. أي: رآه بأجياد عندما رآه أول ما رآه على صورته التي خلقه الله عليها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ووصفه بأنه: {شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:5 - 18]]. جبريل {شَدِيدُ الْقُوَى}، ((ذُو مِرَّةٍ)) ذو خلق حسن، وقيل: ذو قوة، ولكن القوة ذكرت في الآية قبلها: {شَدِيدُ الْقُوَى}، فقوله: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذو خلق حسن، فهو في قوة عظيمة، وخلق حسن جميل، ((فَاسْتَوَى)) فعلا وارتفع، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} أي: أنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الأفق، كما ذكر ذلك في سورة: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]، ((ثُمَّ دَنَا)) بعد أن ارتفع دنا أي: قرب من النبي صلى الله عليه وسلم، ((فَتَدَلَّى)) فنزل، فكان في قربه من النبي صلى الله عليه وسلم قدر قوسين، وإنما يقدر العرب الشيء اليسير بقدر قوسين، و (أو) ليست للشك، بل هي بمعنى بل. {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أوحى الله من خلال جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى من القرآن، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رأى، {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} هذا قد رآه بفؤاده وبعيني رأسه صلى الله عليه وسلم، فرأى جبريل على صفته التي خلقه الله عليها، ((أَفَتُمَارُونَهُ)) أتجادلونه ((عَلَى مَا يَرَى)) وهذا دليل على أن المعاينة أعلى درجات اليقين. ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} مرة أخرى، {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} عند السدرة التي في السماء السابعة التي ينتهي إليها ما يصعد إليها من تحتها فيقبض هناك، وينتهي إليها ما ينزل إليها من فوقها فيقبض هناك. وقوله: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} عندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين ثم أجسامهم بعد ذلك، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} يغطي هذه السدرة، وهي شجرة نبق ((مَا يَغْشَى)) تعظيم لشأنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: (غشيها ألوان ما أدري ما هي!) كانت تتغير حتى تغيرت ألوانها فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يصفها من حسنها، (وغشيها فراش من ذهب)، جاء عليها فراش من ذهب. قال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} فيه بيان أن المعراج كان بالروح والجسد قطعاً؛ لأن البصر من صفات البدن، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} مدح للنبي عليه الصلاة والسلام أنه ما زاغ، وزيغ البصر: اضطرابه من شدة هول ما يرى ((وَمَا طَغَى)) ليتطلع إلى غير ما أذن له فيه، قال تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} رأى آيات عظيمة. الشاهد: أن جبريل له وجود وليس مجرد خيال، نزل وتدلى واقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، وأوحى إليه ونقل إليه الوحي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ول

اعتقاد ملاحدة الصوفية في الوجود وحقيقة أمرهم جحد الخالق

اعتقاد ملاحدة الصوفية في الوجود وحقيقة أمرهم جحد الخالق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء ليس خيالاً في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون ولاية الله، وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الإيمان]. فالفلاسفة حقيقة نهاية كلامهم أنهم ينكرون أصول الإيمان الستة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أصول الإيمان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وقالوا: الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، كما يشترك الناس في مسمى الإنسان، والحيوانات في مسمى الحيوان، لكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركاً كلياً إلا في الذهن]. الحيوانية هذه وصف مشترك كلي هل توجد حيوانية هي صفة للإنسان وصفة للحيوان وصفة لجميع الكائنات الحية؟ نعم فالحيوانية مصدر، مثل قولك: الوجود مثلاً، فالحياة هذه صفة لكل حي تنتقل وحدها أو تقوم بحي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفرس، ووجود السماوات ليس هو بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته. وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع، فإنه لم يكن منكراً هذا الوجود المشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله، فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فساداً منهم، ولهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا: لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جار في العرف الناموسي]. في العرف الناموسي: الذي هو في عرف الشريعة جائر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أي: وإن كان أرباباً بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم]. هذا كلام ابن عربي في فصوص الحكم حيث يفسر ويبرر لفرعون ويقول: عنده حق -والعياذ بالله- حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] فيوجد أرباب بنسبة ما، لكن أنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك، وقالوا: {اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]]. من أجل أنك عندنا في الدنيا فأنت الأعلى، إذاً من حقك أن تفعل شيئاً؛ لأن هذا ليس أمر استهزاء به، ولا استهانة ولا احتقار له، بل هذا له أمر إظهار وإباحة له أن يعمل هذا الشيء والعياذ بالله! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وكان فرعون عين الحق -أي: عين الرب والعياذ بالله-، ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة] والعياذ بالله! يقول ابن عربي في أشعاره: فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وليس لوعيد الحق عين تعاين وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين سمي عذاباً من عذوبة طعمه وذلك له كالقشر والقشر صائن فأنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلو أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة!

عامة كلام الملاحدة المتصوفة من التخيلات الشيطانية

عامة كلام الملاحدة المتصوفة من التخيلات الشيطانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء، لكن لما كان الكلام في أولياء الله، والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاءً لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان؛ نبهنا على ذلك؛ ولهذا كان عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات -الفتوحات المكية-: باب أرض الحقيقة، ويقولون: هي أرض الخيال، فيعترف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، والخيال هو محل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]]. من يتعامى عن ذكر الرحمن وهو القرآن وما أنزله على الرسول عليه الصلاة والسلام يقيض الله له شيطاناً يلازمه فهو له قرين ملازم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:37 - 38]]. -بعد ما بين المشرق والمغرب- {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]]. الاشتراك في المصائب يهون وقعها، أما مصائب يوم القيامة فمهما اشتركوا فيها لا يهون عليهم ولا ينفعهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] إلى قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]]-بمصرخكم: بمغيثكم، وما أنتم بمصرخي: بمغيثي- وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه رأى جبريل يزع الملائكة)، والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]. وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40]. وقال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 - 125]]. وهؤلاء -يعني: أصحاب البدع والضلالات والأحوال الشيطانية- تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام]. لذلك نجد هذا معروفاً عند اليهود والنصارى والمشركين؛ حيث تظهر لهم هيئات كثيرة، وربما يدعون مثلاً أن المسيح قد ظهر على الكنيسة الفلانية، والعذراء قد ظهرت في المكان الفلاني، وكثيراً ما يراه أتباعهم في هذه الأماكن فبعضها من الخيالات، وبعضها من السحر، وانعكاسات ضوئية ونحو ذلك، وأحياناً تكون الشياطين تتمثل، وأهل الإيمان إذا حضروا لم يستطيعوا أن يخدعوهم، إنما يخدعون من كان على شاكلتهم أو من كان ضالاً يعتقد أن الخطابات الكفرية من الإسلام، وهي من المنافقين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان أول من ظهر من هؤلاء -في الإسلام- المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون في ثقيف كذاب ومبير) فكان الكذاب: المختار بن أبي عبيد، والمبير: الحجاج بن يوسف الثقفي فقيل لـ ابن عمر وابن عباس: إن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا: صدق، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222]]. المختار أول ما ظهر دعا إلى الانتقام من قتلة الحسين والانتصار لأهل البيت، وبالفعل سلطه الله عز وجل على طائفة منهم، وتمكن من قتلهم، فحصل له قبول عظيم عند كثير من الناس، ولم يكن يريد وجه الله عز وجل، وإنما كان يريد وسيلة إلى الرئاسة والشهرة، واجتمع له خلق كثير، فبدأ بعد ذلك بادعاء الأحوال الشيطانية والأمور الخارقة، وكان يخدع أتباعه بذلك إلى أن وصل إلى أنه ادعى أن جبريل يأتيه، ولم يدع النبوة صراحة، ولكنه كان يزعم أن جبريل يأتيه، وأنه ينزل عليه ويكلمه، ومن هنا خدع طوائف من الشيعة؛ لأن الشيعة أصلاً مستعدون لقبول مثل هذه الخزعبلات، ثم كان آخر أمره أن قتل على يد مصعب بن الزبير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقيل لـ ابن عباس: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]]. فأقروا بصحة النظر أنه يوحى إليه من الشيطان، وما ينزل عليه ما يتنزل على الشياطين. [وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح التي يزعم صاحب الفتوحات أنه ألقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعاً من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالاً بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عدداً ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك]. حدثني عدد من الناس بأنهم كانوا عندما تحصل لهم أزمة مالية يأتون إلى المرأة التي معها الجن، فكانوا عندما يقترضون منها يجدون المال تحت المخدة في الصباح بعد ذلك، على أن يردوه بعد أن تنتهي مدته فيضعونه أيضاً فوق الثلاجة، وإذا المبلغ قد اختفى ونحو ذلك! وغالباً يكون هذا مالاً مسروقاً، وقد يكون السارق جنياً مسلماً، وليس معنى أنه جني مسلم أن يكون الفعل جيداً، فبعضهم يقول: هذا جني مسلم، طيب! وإذا كان مسلماً؟! الجني المسلم ممكن أنه يسرق بل الجهل يغلب على الجن بكثرة، ألسنا نرى أحوال الإنس من المسلمين؟! إذاً: الجن المسلمون سيكونون أسوأ؛ لأن النوع الجني أصلاً فيه خفة وضعف عقل؛ ولذلك لم يكن منهم رسل، فربنا عز وجل إنما جعل النبيين في جنس البشر، ولم يجعلهم في الجن؛ لأن الجن أصلاً فيهم من النقص بالنسبة إلى الإنس الشيء الكثير؛ ولذا كرم الله بني آدم عليهم، فكونه يقول لك: معي جني مسلم ويجعلها مفتاحاً لكل أنواع الشرور، ويسأله عن المغيبات، ويحضر له الأشياء المفقودة الغائبة، ويطلب منه قضاء الحاجات، ثم يقول لك: هذا جني مسلم! فنقول: حتى لو كان مسلماً فإن ذلك لا يبيح التعامل معه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون]. وهذا الكفر كله، وكونه يمدح الكفرة المقطوع بكفرهم هذا مخرج من الملة، وتنقص الأنبياء من أسباب الكفر أيضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويذم المسلمين المحمودين عند المسلمين كـ الجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهما ويمدح المذمومين عند المسلمين كـ الحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية]. الحلاج كان يقول: لا إله إلا الله، ما في الجبة إلا الله! ليس أي جبة وإنما الجبة التي هي له، وقد قتل على الزندقة، ولذلك تجد هناك علامة مميزة في منهج المتصوفة، هل هو يقدم هؤلاء أو يقدم الشيوخ المحمودين كـ الجنيد وأمثاله، فإذا ذكر وقدم

[6]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [6] الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان الستة لا يصح إيمان العبد إلا به، والقدر سر من أسرار الله عز وجل، وقد ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام، فبعض الناس يسلك سبيل المشركين في الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي، وبعض الناس تشتبه عليه الحقائق الكونية بالحقائق الدينية، ويجب على المسلم أن يقوم إيمانه على الحجة والبرهان والدليل، حتى يلقى ربه وهو سليم العقيدة.

اشتباه الحقائق الدينية والكونية على كثير من الناس

اشتباه الحقائق الدينية والكونية على كثير من الناس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكثير من الناس تشتبه عليه الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية، بالحقائق الخلقية القدرية الكونية. فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]. فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه. وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله) أي: أن الأمر الكوني القدري الذي به يكون ما يكون في الوجود، ودخل فيه الأمر الشرعي، فهو عز وجل يأمرك بطاعته وينهاك عن معصيته. ثم يقول: (أمر بالتوحيد والإخلاص ونهى عن الإشراك بالله. فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك) -أي: بزوجة جارك- فأنزل الله تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]. فأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) يذكر شيخ الإسلام ويؤكد أن كل شيء هو بأمر الله عز وجل الكوني، ولا يعني ذلك إلغاء الأوامر الشرعية، بل إن هناك أموراً أمر بها، وهناك أشياء نهى عنها، مع أن الكل بخلقه وإرادته الكونية. ثم يقول: (وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذي يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص. وهو يكره ما نهى عنه، كما قال تعالى في سور الإسراء: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]) إذاً: المحبة تابعة للأمر الشرعي، والكراهية تابعة لمخالفة الشرع، فالله عز وجل يكره مخالفة ما أمر به. ثم يقول: (وقد نهى عن الشرك، وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق، ونهى عن التبذير وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، إلى أن قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]. وهو سبحانه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر). إذاً: الرضا ليس بمعنى الإرادة، فهؤلاء الكفرة خلقهم الله وهو لا يرضى فعلهم، ولا يرضى كفرهم، ولا يحب الفساد منهم.

حاجة كل مكلف إلى التوبة والاستغفار

حاجة كل مكلف إلى التوبة والاستغفار يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]. وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيها الناس توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، وفي السنن عن ابن عمر قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة، أو قال أكثر من مائة مرة). وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثاً ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام). كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه) أي: أن كل هذه المعاصي التي وقعت هي بقدر ربنا عز وجل، لكن تدفعها بقدر آخر ألا وهو: التوبة والاستغفار، فأنت مأمور بأن تفر من هذا القدر المكروه إلى القدر المحبوب. والقدر المكروه: المعصية، والقدر المحبوب: الطاعة والتوبة. والإيمان بالقدر من الإلتزام بالشرع، وكل شيء وقع فهو بقدر الله سبحانه وتعالى، لكن لا يعني ذلك بأن ترضى بما لم يرض الله به من المعاصي، أو أن تستسلم لهذه المعاصي، وتقول: قدر الله، لأنه ليس كل قدر أمرت أن تستلم له، بل القدر المكروه ينبغي أن تفر منه إلى القدر المحبوب بالتوبة والإنابة والاستغفار. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) إذاً: هناك قدر بوجود الشر، ولكن نفر منه إلى قدر الخير، وندفع القدر بالقدر، ونفر من الله إليه. فلذلك ذكر طريق التوبة والاستغفار هنا، وذلك بعدما بين أن كل شيء بخلق الله وأمره وملكه، ولكن أمر بالطاعات ونهى عن المعاصي، وأحب الطاعات وكره المعاصي، وكره الكفر والفسوق والعصيان، وهو يحب المتقين، ويحب المحسنين، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأمر بالتوبة التي هي الفرار من المعاصي إلى الطاعات، وإن كانت بقدره، إلا أنه مأمور أن يدفعها بقدر آخر وهو: التوبة. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار، وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]. وكذلك قال في الحج: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198 - 199]]. ففي أشرف العبادات يأمر الله بعدها بالاستغفار، أي: بعد الوقوف بعرفة، وبعد الصلاة، وبعد قيام الليل. ثم يقول: (بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:117 - 118] وهي من آخر ما نزل من القرآن. وقد قيل: إن آخر سورة نزلت قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]) أي: بعد الدعوة والجهاد وتأسيس دولة الإسلام أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار. ثم يقول: (فأمره الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن)، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت). وفي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). وفي السنن: عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال: قل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك)). فهو عليه الصلاة والسلام يعلم أفضل أصحاب الأنبياء على الإطلاق الاستغفار، وفي خاتمة أفضل عبادة وهي الصلاة، وفي صباحه ومسائه وعند نومه. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً. قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:72 - 73]. فالإنسان ظالم جاهل، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل الجنة أحد بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله!؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). وهذا لا ينافي قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب). أي: أنه بسبب الأعمال نلتم الجنة برحمة الله، فالأعمال سبب لنيل الرحمة؛ أما أن الأعمال تساوي الجنة وتوجبها فلا؛ لأن الذي يوجب ذلك رحمة الله، فالإنسان لا يجعل حسناته في مقابلة نعم الله عز وجل، لكن الأعمال تكون سبباً لنيل الرحمة، والرحمة بها يدخل العبد الجنة. ثم يقول: (وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار، فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133 - 135]).

التوبة غاية المؤمنين

التوبة غاية المؤمنين يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله، والاستغفار من الذنوب، بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائماً. قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:72 - 73]. فالإنسان ظالم جاهل، وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين، ومغفرته لهم. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله!؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). وهذا لا ينافي قوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب). يعني: بسبب الأعمال نلتم الجنة برحمة الله، الأعمال سبب لنيل الرحمة؛ لأن أما إن الأعمال تساوي الجنة وتوجبها فلا؛ لأن الذي يوجب ذلك رحمة الله، فالإنسان لا يجعل حسناته في مقابلة نعم الله عز وجل، لكن الأعمال تكون سبباً لنيل الرحمة، والرحمة بها يدخل العبد الجنة. ثم يقول: (وقول من قال: إذا أحب الله عبداً لم تضره الذنوب، معناه: أنه إذا أحب عبداً ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. وإنما عباده الممدوحون هم المذكورون في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:133 - 135]).

الاحتجاج بالقدر على الذنوب سبيل المشركين

الاحتجاج بالقدر على الذنوب سبيل المشركين يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]. قال الله تعالى راداً عليهم: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام:148]) أي: أنهم كذبوا بالشرع احتجاجاً بالقدر، الذي هو الخلط بين الأمر الشرعي والأمر الكوني؛ فهو يقول: طالما أن الله تركنا نفعل ذلك وقدره علينا فهو يرضاه، وهذا كلام فاسد، بل هو من جنس كلام المشركين. ثم يقول: (قال تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148]. أي: هل عندكم علم أن الله أمر بذلك وشرع ذلك؟! ثم يقول: (قال تعالى: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:148 - 149]. ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل، كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعاً لهواه بغير هدى من الله. ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه ألا يذم أحداً ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه) أي: أن الذي يؤخذ منه ماله بقدر ربنا سبحانه وتعالى، يجب عليه أن يقول: هاتوا لي حقي. وهذا أمر بالفطرة، لأن أي إنسان يكره أن يعتدى عليه، ويذم من اعتدى عليه وآذاه. ثم يقول: (بل يستوي عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيراً وبين من يفعل معه شراً، وهذا ممتنع طبعاً وعقلاً وشرعاً). أي: أنك لو أعطيت الطفل الصغير شيئاً جميلاً فإنه سيضحك، لكن لو ضربته فإنه سيبكي، وهذا أمر فطري طبع في البشر، فالإنسان يفرق بين من يفعل معه خيراً، وبين من يفعل معه شراً، فكيف تقول: ليس هناك فرق بين الاثنين!. إذاً: الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي باطل عقلاً وطبعاً وشرعاً. ثم يقول: (وقد قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى).

حديث احتجاج آدم وموسى ومذاهب الناس فيه

حديث احتجاج آدم وموسى ومذاهب الناس فيه قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ -وفي رواية: خيبتنا وأخرجتنا ونفسك من الجنة- فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: بأربعين سنة، قال: فلم تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ قال: فحج آدم موسى) -أي: غلبه بالحجة- وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر) وهؤلاء هم المعتزلة، فقد كذبوا بالحديث، وقالوا: إن هذا الحديث باطل، مع أنه في الصحيحين ومتفق على صحته. ثم يقول: (وطائفة شر من هؤلاء جعلوه حجة) أي: إذا كان المعتزلة أبطلوا حديثاً واحداً ونبدعهم ونضللهم بسبب أنهم أبطلوا حديثاً واحداً، فالجبرية سيبطلون الشريعة كلها، سيبطلون الصلاة والصوم والزكاة، وحرمة الزنا وحرمة شرب الخمر، ولذلك هم شر من المعتزلة. ثم يقول: (وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه) يقول بعض الصوفية: إن القدر هذا حجة للذي وصل إلى درجة اليقين، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] واليقين عندهم ليس هو الموت كما هو تفسير الآية، فعندهم الذي يصل إلى الحقيقة يصبح معفواً عنه، وتسقط عليه الفرائض! نقول: إن هذا من الجهل العظيم ومن الكفر في الحقيقة؛ لأنه سيجعل هناك طائفة من الناس لا تلتزم بالشريعة. ثم يقول: (أو الذين لا يرون أن لهم فعلاً. ومن الناس من قال: إنما حج آدم موسى لأنه أبوه) وهذه حجة ضعيفة. ثم يقول: (أو لأنه كان قد تاب) أي: أن سيدنا آدم احتج بالقدر؛ لأنه قد تاب من الذنب، وهو لم يختر المصيبة، والذنب بعد التوبة بمنزلة المصيبة. إذاً: لا يصح الاحتجاج بالقدر على ذنب إلا بعد التوبة، وإذا تاب يكون قد عمل الذي عليه، وهو أنه فر -فعلاً- من القدر المكروه إلى القدر المحبوب، فيكون مؤمناً بالقدر؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. ثم يقول: (أو لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في أخرى) أي: أن الذنب كان في شريعة آدم، واللوم في شريعة موسى. ثم يقول: (أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة) أي: أن الاحتجاج بالقدر إنما يكون في الآخرة، وأما في الدنيا فلا. ثم يقول: (وكل هذا باطل) أي: أن الحديث يؤول على غير وجهه. ثم يقول: (ولكن وجه الحديث: أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه) وهذا كلام فيه نظر؛ لأن سيدنا آدم قال لسيدنا موسى: فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: (وعصى آدم ربه فغوى؟) قال: بأربعين سنة، قال: فلم تلومني على أمر قدره الله عليّ) إذاً: المتأمل للرواية يتيقن أن سيدنا موسى لام آدم على المعصية، وسيدنا آدم احتج على أن المعصية مكتوبة عليه قبل أن يخلق بأربعين سنة، فهو لامه على المعصية التي ترتبت عليها المصيبة، وسيدنا موسى لا يمكن أن يلومه على المصيبة فقط، وإلا لا يوجد أي شخص عاقل يلوم أحداً على مصيبة ليس له فيها دخل، وهل يمكن أن يقول شخص لآخر: لماذا ولدت أسود؟! ليس هناك عاقل يقول هذا أصلاً. لكن سيدنا موسى أخطأ في ذلك وغلبه آدم بالحجة، ولا يمكن أن يكون موسى عليه السلام يلومه على مصيبة مجردة، فقول شيخ الإسلام: إن موسى لم يلمه إلا لأجل المصيبة، هذا قول ضعيف جداً، فالصواب أنه: هذا لامه لأجل الذنب الذي ترتب عليه المصيبة، أي: أنه تسبب في إخراج نفسه من الجنة، والله هو الذي كتب عليه الإخراج، ولذلك لم يقل له: فبكم وجدت مكتوباً علي أني أخرج من الجنة، أو أني أكون موجوداً في الأرض، بل قال: (فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى؟) وهذا واضح جداً. ثم يقول: (لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه، فان موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]).

حكم الصبر والرضا عند المصائب

حكم الصبر والرضا عند المصائب قال المؤلف رحمه الله تعالى: (والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب. قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب). وهذا كلام حق بلا شك، فسيدنا آدم كان يعتقد الملام على الذنب الذي تاب منه؛ لأجل أنه مقدر. إذاً: نجمع بين ما دل عليه الحديث كله ونقول به كله، فسيدنا آدم يعتقد أنه ليس عليه لوم؛ لأنه قد تاب من الذنب، والذنب بعد التوبة ينزل منزلة المصيبة، ثم نقول: إن سيدنا موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، ويعلم بأن المصيبة لا يمكن أن يلام عليها، إلا إذا كانت مترتبة على ذنب. وبالتالي فإننا نحمل خطأ سيدنا موسى على أنه كان يلوم على المصيبة المجردة، فسيدنا موسى أخطأ لما لامه على مصيبة ترتبت على ذنب قد تاب منه، وهنا يصح الاحتجاج بالقدر، فمتى يصح الاحتجاج بالقدر على الذنب؟ عندما يتوب الإنسان توبة مقبولة نصوحاً. وهذا هو الذي حصل من كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه عندما وقع في معصية وذنب، فقد جلس متذكراً لهذا الذنب ونادماً عليه، وهذا معنى التوبة، ولذلك قال: (فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، غير أنه لم يقدر لي ذلك) فهو هنا يعزي نفسه بالقدر، وهو في نفس الوقت مستحضر حقيقة التوبة، التي هي الندم، لكن هو غير ملام، وبالتالي يحكي قصة فضل ربنا عليه بالتوبة. فالإنسان يحتج بالقدر على ذنب تاب منه؛ لأنه صار بعد التوبة بمنزلة المصيبة، فشيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة خالف الحديث، وذلك حين قال: إن سيدنا موسى لامه على المصيبة، والصواب: أن سيدنا موسى لامه على مصيبة ترتبت على ذنب، أو لامه على ذنب ترتبت عنه مصيبة؛ لأنه غير ممكن أن يلومه على شيء ليس له دخل فيها، فكان لا بد أن يكون له دخل في الموضوع، وسيدنا آدم احتج بالقدر؛ لأن المصيبة حصلت وهو لم يخترها، والذنب كان مكتوباً عليه، وقد تاب منه، فلا بد أن يحتج بالقدر. ثم يقول: (وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. قال ابن مسعود: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم). فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل: المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وان كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبروا لما أصابهم وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر). أي: أنهم لو لاموا أباهم بعدما تاب، فله أن يحتج بالقضاء والقدر، لكن لو كان مصراً على المعاصي، فليس له أن يحتج بالقدر. ثم يقول: (والصبر واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله)، أي: الصبر لا زالت النفس تكرهه، وأما الرضا فهو شهود حكمة الله عز وجل في القدر مما يجعل العبد لا يشعر بألم المكروه. ثم يقول: (والرضى قد قيل: إنه واجب) وهو الرضا بالمصائب، وإلا فالرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً واجب بلا شك، وكذا الرضا بحكم الله عز وجل الشرعي، فلا بد أن يرضى الإنسان بحكم الله الشرعي. ثم يقول: (وقيل: إنه هو مستحب) وهو الصحيح (وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة، لما يرى من إنعام الله عليه بها). أي: أنه ليس الغرض تحريك اللسان، وإنما المقصود أن يحمد الله على المصيبة؛ لأنه يرى في المحنة منحة، ويشكر الله على المنحة، وقد زال عنه شهود ألم المحنة. ثم يقول: (حيث جعلها سبباً لتكفير خطاياه، ورفع درجاته، وإنابته إلى الله، وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه، ورجائه دون المخلوقين. وأما أهل الغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به! وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله بها عليهم، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى) أي: الإعجاب ويمنون على غيرهم بالطاعة، قال تعالى عنهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، أي: يمن على الله عز وجل، ويرى أن له فضلاً على الدين والعياذ بالله. ثم يقول: (وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها. ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح مؤمناً بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى مؤمناً بها فمات من ليلته دخل الجنة). وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم لن تبغلوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من الخير وأنه إذا وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه. وكثير من الناس يتكلم بلسان الحقيقة-أي: الحقيقة القدرية الكونية- ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته، ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقاً لما أمر الله به على ألسن رسله وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة). أي: أن هؤلاء الصوفية يقومون بالوجد والذوق، ويقول لك: أنا ارتحت لهذا الموضوع وذقت حلاوته. غير معتبر بالكتاب والسنة.

الفرق بين ما يطلق عليه لفظ الشرع ووجوب التزام الشرع المنزل

الفرق بين ما يطلق عليه لفظ الشرع ووجوب التزام الشرع المنزل قال المؤلف رحمه الله تعالى: (كما أن لفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذى بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر، وبين الشرع الذى هو حكم الحاكم، فالحاكم تارة يصيب، وتارة يخطىء). يقصد بذلك الأحكام التطبيقية، أي: أن الحاكم قد يكون مصيباً وقد يكون مخطئاً، فإن أخطأ فليس حكمه هو الشرع، وإن أصاب فحكمه قد وافق الشرع. ثم نقول: (هذا إذا كان عالماً عادلاً). أي: أن الحاكم العالم العادل ممكن يصيب ويخطئ، فضلاً عن أن يكون جاهلاً. ثم يقول: (وإلا ففى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار، وقاض فى الجنة: رجل علم الحق وقضى به، فهو فى الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار، ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو فى النار). وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت فى الصحيحين أنه قال: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار). فقد أخبر سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه إذا قضى بشىء مما سمعه وكان فى الباطن بخلاف ذلك لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار. وهذا متفق عليه بين العلماء فى الأملاك المطلقة، إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان في الباطن بخلاف الظاهر لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق، وإن حكم فى العقود والفسوخ بمثل ذلك فأكثر العلماء يقول: إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة رضى الله عنه بين النوعين). أي: في العقود لو أن رجلاً كان يؤذي زوجته ويسبها وحكم القاضي بالطلاق الإجباري، فالجمهور يقولون: الإكراه هذا غير معتبر ولا تطلق، وأبو حنيفة يقول: لا، هكذا طلقت.

إبطال الاحتجاج بقصة موسى مع الخضر

إبطال الاحتجاج بقصة موسى مع الخضر قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فلفظ الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهراً فلم يتابعه باطناً وظاهراً فهو كافر، ومن احتج فى ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطاً من وجهين: أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بنى إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وآله سلم فرسالته عامة لجميع الثقلين -الجن والإنس- ولو أدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبياً أو ولياً، ولهذا قال الخضر لموسى: (أني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه)، وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا. الثانى: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التى تبيح ذلك، فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفاً من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم، وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وان كان صغيراً، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله، ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما لـ نجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان: قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم). هذه النقطة ضعيفة جداً؛ لأنه لا يجوز قتل الصائل قبل أن يكون صائلاً، فهذا الأمر أمر غيب محض، وهو مخالف لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك جائزاً في شريعة الخضر. ثم يقول: (أما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر على الجوع فهذا من صالح الأعمال، فلم يكن في ذلك شيء يخالف شرع الله. وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالماً وقد يكون عادلاً، وقد يكون صواباً وقد يكون خطأ، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه كـ أبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك، كان جائزاً، أي: ليس اتباع أحدهم واجباً على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم). أي: أن الذي تعلم جهله لا يجوز أن تتبعه، لكن هؤلاء الأئمة لا يحرم تقليدهم واتباعهم، ولا يعني هذا أن أقوال هؤلاء الأئمة مثل نصوص الكتاب والسنة، بحيث تصبح الشريعة عبارة عن مجموع ما قاله العلماء؛ لأن أي قول يخالف الشريعة لا يتابع، ويكون مردوداً على صاحبه كائناً من كان. ثم يقول: (وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس فيها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله، ونحو ذلك، فهذا نوع من التبديل. فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل). أي: أن كل هذا يسمى شرع، وهذا الشرع المبدل قد أتى بخلاف الشريعة وسماها شريعة، والشرع المؤول: عالم أخطأ في التأويل، مثل: الأئمة الذين ذكر أسماءهم فيما أخطئوا فيه، والشرع المنزل بالكتاب والسنة: فهذا هو الذي لا يجوز لأحد أن يخرج عنه، وإن اعتقد أحد جواز الخروج عنه كان كافراً. ثم يقول: (كما يفرق بين الحقيقة الكونية، والحقيقة الدينية الأمرية -الحقيقة الدينية: هي الشرعية-، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، وبين ما يكتفى فيها بذوق صاحبها ووجده). أي: أن الحقيقة الدينية الشرعية لا بد أن يكون عليها دليل، وأي قول وأي حال وأي طريق وأي عمل لا بد أن يكون الاستدلال له من الكتاب والسنة، وأما أن يستدل بالذوق والوجد فهذا لا يجوز.

[7]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [7] إن الله سبحانه وتعالى قد يكرم أولياءه بخوارق عجيبة؛ لمكانتهم عنده، وإيمانهم بدينه الذي جاءهم به رسوله صلى الله عليه وسلم، فميزوا بين أوامره الشرعية الدينية، وبين أوامره الكونية التي لابد من وقوعها، فسارعوا في امتثال أوامره وإرادته الشرعية، والانتهاء عما نهى عنه منها؛ فبلغوا تلك المنزلة العلية والدرجة المرضية.

تبيين الله في كتابه الفرق بين الكون الذي خلقه والدين الذي شرعه

تبيين الله في كتابه الفرق بين الكون الذي خلقه والدين الذي شرعه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: وقد بين الله في كتابه الفرق بين الإرادة والأمر والقضاء والإذن والتحريم والبعث والإرسال والكلام والجعل. وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يرضاه، ولا يثيب أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأحبه ورضيه وأحب فاعليه وأثابهم وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه وجنده الغالبين]. هذا الكلام كله في الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية؛ فكون الله يريد أن يوجد شيئاً، ليس معناه أنه يرضاه، أو يحبه، أو لا يعاقب الذي فعله وهو حرام؛ فالكفر وقع من أكثر الناس، والله هو الذي خلقهم، ولكن كون الله خلقهم لا يعني أنه لا يعذبهم، أو أنه لا يسخط عليهم، فهو يسخط الكفر والفسوق والعصيان. وليس لأحد أن يحتج بإرادة الله أو بأمره سبحانه وتعالى الكوني على ترك الأوامر الشرعية. ثم قال: [وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه]. هذه من أعظم الفروق المهمة التي لا بد أن يفرق بها بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لأن كثيراً من الناس يعتقد في شخص معين أنه من أولياء الله حتى ولو كفر وأتى الفواحش والمنكرات والعياذ بالله. وكثير جداً من الناس يظن أن جريان بعض الخوارق للعادات دليل على الولاية وليس كذلك، بل الولي هو ينقاد للأمر الشرعي الديني والإرادة الشرعية الدينية ويموت على ذلك، وأما من يخالف الأمر الشرعي ويموت على ذلك فهو العدو.

حقيقة الإرادة الكونية والإرادة الدينية

حقيقة الإرادة الكونية والإرادة الدينية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالإرادة الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية]. يعني: أنه يقدر خيرها وشرها، والإيمان بالقدر كوني وشرعي، فالله هو الذي قدر وجود الخير وقدر وجود الشر، ولم يقل: إن الشر خارج عن قضاء الله، أو عن قدره، بل إن الشر واقع بقضاء الله، وهو مخلوق من مخلوقاته، فهذا إبليس مخلوق، بل هو شر والعياذ بالله، وهو مصدر فعل الشر في الناس بوسوسته لهم، ومع ذلك فإن الله عز وجل، لا يحب إبليس، ولا أفعاله، ولا من يستجيب لوسوسته. ثم قال: [والإرادة الدينية: هي المتضمنة لمحبته ورضاه، المتناولة لما أمر به وجعله شرعاً وديناً، وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح]. يعني: ليست شاملة لكل المخلوقات، بل في الخير فقط؛ لأن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ويحب المتقين والمحسنين. ثم قال: [قال الله تعالى في الأولى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]]. هذه الإرادة الكونية، يعني: إرادة أن يكون هذا مؤمناً وأن يكون هذا كافراً. قوله: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ)). هذا فيه ترغيب للإنسان بسلوك طريق الهداية وقوله: ((يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)). يعني: يشرح بمعنى يجعل الله عز وجل الهداية في قلبه، والإسلام هو شرع الله سبحانه وتعالى. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا 3) [الأنعام:125]. هذا الجعل كوني، والحرج مثل الشجرة التي تكون محاطة بأشواك من كل جانب فلا يستطاع الوصول إليها، فالحرج: هو الشيء الضيق. وقوله: ((كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)). أي: كأنما يكلف الصعود في السماء، أو كأنما يكلف المستحيل، حين يقولون له: اطلع إلى السماء وهو في الأرض، وهو لا يستطيع. والمؤلف رحمه الله تعالى سيذكر الآن جملة من الآيات في الإرادة الكونية، ومن ثم يذكر الفرق بينها وبين الإرادة الشرعية. ثم قال: [وقال نوح عليه السلام لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]]. فهنا يريد الله إغواء الناس ومع ذلك لا يكون هذا منه ظلماً؛ لأن إرادة الإغواء وقعت فيهم من خلال عملهم؛ والله تعالى قد أعطاهم قدرة وعقلاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأعطاهم إرادة، وهم فعلوا بإرادتهم ما يخالف ما جاءت به الرسل، فالحجة قائمة لله عز وجل على عباده، ولم يظلمهم؛ لأنه يتصرف سبحانه وتعالى في ملكه بالحكمة والعدل، فالملك ملكه عز وجل، وليس معنى ذلك أنه يتصرف فيه حتى ولو كان بالظلم والعدوان، حاشاه تعالى أن يظلم نفساً شيئاً، ولا يوجد أحد أرغمه الله وأكرهه على فعل الشر وهو يريد الخير، ولا يوجد شخص وجد يده رفعت وأمسكت زجاجة خمر وصبتها في فمه من غير إرادة منه، ولا يوجد شخص وجد نفسه يسجد للصنم مغصوباً، وأيضاً لا يوجد شخص وجد نفسه يجر غصباً عنه إلى الزنا، ولو كان كذلك لكان غير مكلف، ومعلوم أنه لو اغتصبت امرأة فهي غير آثمة، ولو أن شخصاً وضعوا رأسه غصباً أمام صنم فهو غير آثم؛ بالقيد الذي في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] فلا يعاقب على ذلك. فنقول: إن الله يريد إغوائهم؛ لأنهم أهل شر وفساد، والله تعالى أعلم بالظالمين. ثم قال: [وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11]]. تقول المعتزلة: الله لا يريد إلا الخير. نقول: نعم، لا يريد إلا الخير شرعاً، لكن لا تقل: لا يريد إلا الخير كوناً؛ لأن الله تعالى يقول: ((وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا))، فهؤلاء أراد الله بهم سوءاً. ثم قال: [وقال الله تعالى في الثانية، {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]] هذه الإرادة الشرعية، ولو كانت هذه الإرادة كونية، لكان لكانت أمور الدنيا ميسرة وليس فيها عسر وضيق، لكن يريد الله بكم اليسر في الشريعة. ثم قال: [وقال في آية الطهارة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح، قال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:26 - 27]]. هذه إرادة شرعية، ولو كانت هذه إرادة كونية لتاب الناس كلهم بقوله: ((كُنْ فَيَكُونُ))، وكذلك قوله: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) لو كانت هذه الهداية هداية الخلق التي هي خلق الإرادة في قلوبهم، أي: الإرادة الكونية لاهتدى جميع الناس. ثم قال: [{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]] أي: هذه الشرائع أراد الله منها أن يخفف عنكم. ثم قال: [وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، فمن أطاع أمره كان مطهراً قد أذهب عنه الرجس، بخلاف من عصاه.

حقيقة الأمر الكوني والأمر الديني

حقيقة الأمر الكوني والأمر الديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الأمر فقال -في الأمر الكوني-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]]. يعني: لا يقال: كن مرتين، وإنما أمر الله عز وجل واحداً. وقوله: ((كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)) هذا تشبيه؛ لأن أقرب شيء نعرفه لمحة البصر؛ لكن الأمر أسرع منها، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ثم قال: [وقال تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]]. يعني: أمر الله بإهلاك القرية الظالمة، حيث أتاها أمرنا في وقت من ليل الأرض أو نهارها، وليس ذلك الإهلاك يوم القيامة. إذاً: فالإرادة الشرعية إرادة من الله، أما قوله: ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ))، فالذي أراد هو الله، وهذه إرادة كونية، أما قوله ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ))، فهذه أرادة شرعية، فلا يجوز أن تقول لما يريد العبد الهداية: إن الله لا يريد له الهداية. والإيمان بالقدر أخبرنا الله سبحانه وتعالى به؛ من أجل أن نعلم أن الأمر بيده عز وجل. إذاً: فإرادة الله الكونية صفة من صفاته، إرادته الشرعية كذلك صفة من صفاته، وهناك نوعان من الكلام، كما سيأتي، فكلمة: (أقيموا الصلاة) وآتوا الزكاة، ليستا مثل: (كن فيكون). يعني: لو كانت (فأقيموا الصلاة) من جنس (كن فيكون) لأسرع الناس إلى إقامتها مثلما يجري الدم في عروقهم، ولكان الأمر كذلك في رمضان، فلا يقدر أحد أن يأكل في نهاره، وكذا وقت إخراج الزكاة فإذا لم تخرج خرجت بإرادة كن فيكون، وتصل للفقراء تلقائياً، لكن نقول: إن أمر أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، غير: (كن فيكون) وغير {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] وغير: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] وغير {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18]، فهذه أوامر كونية لابد من وقوعها وليست شرعية دينية. ثم قال: [وأما الأمر الديني، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]]. قوله: (إن الله يأمر بالعدل) لو كان هذا الأمر كونياً لما كان هناك ظلم في الدنيا أبداً؛ لكن المعنى: أنه شرع العدل وأمر به ولم يجبر الخق عليه، فهو يثيب من فعله، ويعاقب من تركه. ثم قال: [وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58]].

الإذن الكوني والديني

الإذن الكوني والديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الإذن: فقال في الكوني -لما ذكر السحر-: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، أي: بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل. ثم قال المؤلف: وقال في الديني: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]]. يعني: هذا الشرك الذي وقع كان بإذن الله الكوني، ولم يأذن الله به شرعاً، ولذلك قال الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، أي: لم يأذن به الله الإذن الديني. ثم قال: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]]. يعني: بإذنه الشرعي، أذن الله لك في الدعوة إليه، وهذا أذن شرعي؛ لأنه متعلق بالإذن في الدعوة والإذن في الإيمان، فهذا فرعون، يريد من الناس أن يستأذنوه في الإيمان فقال: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]، فالله هو الذي أذن في الإيمان والدعوة شرعاً. ثم قال: [وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، فهذا إذن اجتمع فيه أمران، إذن الله الشرعي، وإذنه الكوني. ثم قال: [وقال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]] يعني: لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع نخل بني النضير من أجل أن يرغمهم على الاستسلام، اعترضوا وقالوا: كيف يأمر محمد بذلك؟!

القضاء الكوني والديني

القضاء الكوني والديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما القضاء فقال في الكوني: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، وقال سبحانه: {َإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]. وقال في الديني: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، أي أمر، وليس المراد به قدر ذلك، فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع، كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]]. وقد جاء في تفسير ابن عربي عند قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، تفسير هذا بالقضاء الكوني، فيكون المعنى: أن كل من عبد شيئاً غير الله يكون عابداً لله، وهذا كفر والعياذ بالله. ثم قال: [وقول الخليل عليه السلام لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77]. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6] والآية الأخيرة تعني: البراءة التامة، وليس معنى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أن يتركوا على ما هم عليه، وإنما المعنى: إنما أنتم كفار بذلك. ثم قال: [وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم، ولا تقتضي رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] بمعنى قدر، وأن الله سبحانه وتعالى ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفراً.

البعث الكوني والديني

البعث الكوني والديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ العبث: فقال تعالى في البعث الكوني: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:5]]. يعني: سلط الله تعالى على بني إسرائيل ملكاً جباراً، ولم يكن ذلك إلا بعد كفرهم، فهذا بأس كوني. وقوله: ((فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ))، أي: خلال المسجد الأقصى الذي بناه يعقوب أو إبراهيم أو إسحاق عليهم السلام، فبيت المقدس بني على التوحيد، وهو خير مسجد في الأرض بعد المسجد الحرام، والمسجد النبوي، وما تدميره من قبل اليهود بل وما تسلط اليهود على المسلمين؛ إلا لأنهم مفرطون في حق الله تعالى، حتى قام النصارى بوضع الصليب على قبة الصخرة. قوله: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7]، يعني لما دخل المسلمون يبت المقدس في عهد عمر لم يتبروه، ولما دخلوه في عهد صلاح الدين رغم النصارى، فإن المسلمين لم يدمروا المسجد الأقصى بل لم يدخلوه إلا معظمين له. وقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8]، هذا من أجل التخفيف عنهم؛ لأن المسلمين لما دخلوا بيت المقدس كان دخولهم رحمة بالنصارى المشركين. ثم قال: [وقال في البعث الديني: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]]. هذا بعث شرعي يعني: بعث الله الرسل برسالة وكلفهم بأن يبلغوا الناس بعبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت.

الإرسال الكوني والديني

الإرسال الكوني والديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الإرسال: فقال في الإرسال الكوني: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]]. أي: تجذبهم إلى مخالفة شرع الله تعالى، وتجلبهم إلى الفساد، فهذا الإرسال كوني. ثم قال: [وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان:48]، هذا إرسال كوني. وقال في الديني: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1]. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل:15]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75].

الجعل الكوني والديني

الجعل الكوني والديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الجعل فقال في الكوني: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]]. وقال في الديني: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103]].

التحريم الكوني والديني

التحريم الكوني والديني قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ التحريم، فقال في الكوني: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]]. يعني: حرم الله على سيدنا موسى، الإرضاع من غير أمه، وهذا تحريم كوني. ثم قال: [وقال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]. وقال في الديني: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23].

الكلمات الكونية والدينية

الكلمات الكونية والدينية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الكلمات فقال في الكلمات الكونية: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم:12]. وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة كلها، من شر ما خلق، ومن غضبه وعذابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون). وقال صلى الله عليه وسلم: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)، وكان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، ومن شر ما خلق في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق، إلا طارق يطرق بخير يا رحمن)، وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، هي التي كون بها الكائنات، ولا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته. وأما كلماته الدينية، وهي كتبه المنزلة، وما فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار. وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية، وجعله الديني وإذنه الديني وأمره الديني وإرادته الدينية. وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فإنه يدخل تحتها جميع خلقه حتى إبليس وجنوده، وجميع الكفار، وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق، والمشيئة من القدرة والقدر له، فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب. فأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحضور، وصبروا على المقدور، فأحبهم عز وجل وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداءه أولياء الشياطين، وإن كانوا تحت قدرته، فإنه يبغضهم ويمقتهم، ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم].

موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم هي جماع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم هي جماع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيهاً على مجامع الفرق بين أولياء ارحمن وأولياء والشيطان. وجماع الفرق بينهما: اعتبارهم موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء، وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة، وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد، وأعدائه أهل الغي والضلال والفساد، وبين أوليائه جند الرحمن وأعدائه حزب الشيطان، وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]. وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. وقال في أعدائه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121]. وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]. وقال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:221 - 227]. وقال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:38 - 74]]. فإذاً: أولياء الشيطان هم الذين يجادلون الرسل وأتباعهم، فأولياء الشيطان يوحي ويشير بعضهم إلى بعض بالقول المزخرف الباطل ليغر بعضهم بعضاً، فهم الأفاكون الآثمون المكذبون لرسل الله، الذين يقولون على رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاهن أو شاعر، وكذلك الذين يكذبون بالقرآن. ثم قال: [{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:29 - 31]، إلى قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34]. فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين، وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم، اصطفاه، الله تعالى، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97]. وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100]، إلى قوله عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:102]، فسماه الروح الأمين. وسماه روح القدس وقال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15 - 16]، يعني الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي: مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] أي: إذا أدبر وأقبل الصبح، {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18]، أي: أقبل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، وهو: جبريل عليه السلام، {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]، أي: مطاع في السماء أمين، ثم قال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، أي: صاحبكم الذي من الله عليكم به، إذ بعثه إليكم رسولاً من جنسكم، يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] أي: رأى جبريل عليه السلام، {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]، أي: بمتهم، وفي القراءة الأخرى: (بضنين) أي: ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل، كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25]. فتنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطاناً، كما نزه محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً أو كاهناً. فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر الله به، وينتهون عما نهى وزجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، ويؤيدهم الله بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين].

الغاية من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وكرامات الأولياء

الغاية من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وكرامات الأولياء قال المؤلف رحمه الله: [وخيار أولياء الله: كراماتهم لحجة في الدين، أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك]. يعني: هذا أعظم ما يكرم به الإنسان، أن يأتي بكرامة تكون حجة في الدين، أو لحاجة للمسلمين. ثم قال: [وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل: انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام، وهو لم ينقص، في حديث أم سلمة المشهور، وروى المعسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر في عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفاً، ونبع الماء من بين أصابعه مرات عديدة، حتى كفى الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة، أو خمسمائة، ورده لعين قتادة حين سالت على خده، ورجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها بيده الكريمة فبرأت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلاً، كل منهم حز له قطعة، وجعل منها قطعتين، ثم فضل فضله، وقضى دين عبد الله الذي لليهود وهو ثلاثون وسقاً، قال جابر: فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي له فلم يقبل، فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لـ جابر: (جد له فوفاه الثلاثين وسقاً وفضل سبعة عشر وسقاً)، ومثل هذا كثير، قد جمعت نحو ألف معجزة].

من كرامات الصحابة

من كرامات الصحابة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جداً، مثلما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف، فنزل من السماء مثل الظلة، -سحابة- فيها أمثال السرج -المصابيح- وهي الملائكة نزلت تستمع. وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة، أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما، رواه البخاري وغيره. وقصة الصديق في الصحيحين: (لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه أقوام كثيرون، فأكلوا منها وشبعوا). وخبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة شرفها الله تعالى، وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنب. وعامر بن فهيرة قتل شهيداً فالتمسوا جسده، فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع، فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، فقال عروة: فيرون أن الملائكة رفعته. وخرجت أم أيمن مهاجرة، وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة، سمعت حساً على رأسها فرفعته فإذا دلو برشاء أبيض معلق، فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها. وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده. والبراء بن مالك، كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتدت على المسلمين في الجهاد، فيقولون: يا براء أقسم على ربك، فيقول، يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم، فيهزم العدو، فلما كان يوم تستر، قال: أقسمت عليك يا رب، لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيداً. وخالد بن الوليد حاصر حصناً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم، فشربه ولم يضره]. وهذا ثبوته فيه نظر، وكل ما تقدم ثابت في الصحيح. ثم قال: [وسعد بن أبي وقاص: كان مستجاب الدعوة، ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى، وفتح العراق. وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشاً أمر عليهم رجلاً يسمى: سارية، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل -يعني الزم الجبل- فقدم رسول الجيش، فسأل، يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله. ولما عذبت الزنيرة على الإسلام في الله تعالى، فأبت إلا الإسلام، وذهب بصرها، قال المشركون، ما أصاب بصرها اللات والعزى، قالت: كلا والله، فرد الله عليها بصرها. ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت أنيس لما كذبت عليه فقال: اللهم إن كانت كاذبة، فأعم بصرها واقتلها في أرضها، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت. والعلاء بن الحضرمي: كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم، فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء، ولا يبقى الماء بعدهم فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر، ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سرج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد].

من كرامات التابعين

من كرامات التابعين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وجرى مثل ذلك لـ أبي مسلم الخولاني، الذي ألقي في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مداها، ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً، حتى أدعو الله عز وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة، فقال: اتبعني، فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة، فقال له: أتشهد أني رسول الله، قال: ما أسمع، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فأمر بنار، فألقي فيها، فوجدوه قائماً يصلي فيها، فقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، ووضعت له جارية السم في طعامه، فلم يضره، وقد خببت امرأة عليه زوجته، فدعا عليها فعميت، فجاءت وتابت، فدعا لها فرد الله عليها بصرها. وكان عامر بن عبد قيس، يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، وما يلقاه من سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسها الأسد، فجاء حتى مس بثيابه الأسد، ثم وضع رجله على عنقه، وقال: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإني أستحي أن أخاف شيئاً غيره، ومرت القافلة، ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة، يعني فلم يقدر الشيطان عليه. وتغيب الحسن البصري عن الحجاج، فدخلوا عليه ست مرات، فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه، فخر ميتاً. وصله بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال: اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته، قال: يا بني! خذ سرج الفرس، فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاء مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه، فوقت خلفه دخوله رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زماناً، وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل، فلما سلم قال له: اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير. وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق فيه غيره. ورجل من النخع كان له حمار، فمات في الطريق، فقال له أصحابه: هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم: أمهلوني هنيهة، ثم توضأ فأحسن الوضوء، وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. ولما مات أويس القرني، وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبراً محفوراً، فيه لحد في صخرة، فدفنوه فيه وكفونه في تلك الأثواب. وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يصلي يوماً في شدة الحر، فأظلته غمامة، وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه؛ لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أن يخدمهم. وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير إذا دخل بيته سبحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة، فأضاء لهما طرف السوط. ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره، فأهوى ليأخذها، فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر. وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئاً، وخرج يمتاز لأهله طعاماً، فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله، ففتحوها فإذا هي حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها، تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حباً متراكباً. وكان عتبة بن الغلام سأل ربه ثلاث خصال: صوتاً حسناً، ودمعاً غزيراً، وطعاماً من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله، فيصيب فيه قوته، ولا يدري من أين يأتيه. وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج -الشلل النصفي- فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء، فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه، ثم تعود بعده. وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عياناً ونعرفه في هذا الزمان فكثير.

[8]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [8] الإيمان بكرامات الأولياء مذهب أهل السنة والجماعة، وكرامات أولياء الله إنما تحصل ببركة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وتحصل هذه الكرامات بحسب حاجة الرجل إليها، فمن الناس من هو ضعيف إيمانه فتأتيه الكرامة لتقوي إيمانه, ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، وهي بخلاف الأحوال الشيطانية الذين يلبس بها أصحابها على الناس، ويدعون أموراً وكرامات لهم، وهي في الحقيقة من الشياطين المتعاونين معهم.

مقتضيات الكرامة ومراتب الأولياء في ذلك

مقتضيات الكرامة ومراتب الأولياء في ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان، أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته. الكرامة المقصود بها هنا: خوارق العادات، وهذه لا تدل على ارتفاع منزلة من تأتيه هذه الخوارق، يعني: لا يلزم أن يكون الرجل من أولياء الله حتى تأتيه هذه الخوارق، بل قد لا تأتيه الخوارق ويكون من أعظم أولياء الله سبحانه وتعالى، وممن لا شك في ولايتهم الأئمة الكبار، الذين أجمعت الأمة على الثناء عليهم: كـ مالك والشافعي وأحمد وأبي حنفية والبخاري ومسلم، ومعلوم أن أكثرهم لم يكن لهم خوارق لنقص الولاية، بل لاستغنائه عن ذلك. ثم يقول: [ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة] أي: أن هناك من الصحابة من بشر بالجنة، ولم يذكر له من خوارق العادات. ثم يقول: [بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة] يعني: لا لحاجة أنفسهم، بل لحاجة الناس.

أصحاب الأحوال الشيطانية المخالفة للأحوال الإيمانية

أصحاب الأحوال الشيطانية المخالفة للأحوال الإيمانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية، مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال] أي: أن عمر رضي الله عنه كان يقسم أن ابن صياد هو الدجال. ثم قال: [وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال]. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم صدق تميماً فيما أخبره من أن الدجال موجود في إحدى جزر البحر جهة المشرق، وهذا تنافى مع كونه ابن صياد، ولكن ابن صياد يعتبر دجالاً من الدجاجلة، لكن ليس هو المسيح الدجال وإن كان قد أخبر أنه يعرف الدجال وأمه وأباه، ويعرف مولده ومقاله، وأين هو الآن. فالدجال صادق وكاذب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لبس عليه، وقال: أرى عرشاً على الماء)، أي: أن هذا من توهيم الشيطان له، فظن أن عرش إبليس الذي رآه على الماء هو عرش الرحمن، يعني: ليظن أن ما يراه من تلبيسات الشياطين هي أحوال رحمانية، كمن ظن رجل من أهل الضلال أنه رأى الله عز وجل، وهو إنما رأى الشياطين، وهكذا كان ابن صياد يرى عرش إبليس على الماء، فظن أنه عرش الرحمن عز وجل؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]. وهو في الحقيقة إنما يرى عرش إبليس على البحر. ثم قال: [وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قد خبأت له خبئاً، قال: الدخ الدخ، وقد كان خبأ له سورة الدخان)]. وربما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك فلم يلتقط قرينه إلا الدخ، فألقاها على ابن صياد، فلم يعرف ابن صياد أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ما خبأه له إلا ما سمعه من القرين، وهو: الدخ. ثم قال: [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، يعني: إنما أنت من إخوان الكهان. والكهان كأن يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات مما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم). وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار، إذ رمي بنجم فاستنار - أي: عمل إضاءة قوية ساعة وصوله إلى الأرض- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء، ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: ماذا قال ربنا؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتخطف الشياطين السمع فيرمون، فيقذفونه إلى أوليائهم، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون). وفي رواية: قال: معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم]. أي: أنه كما دلت عليه آيات القرآن فقال عز وجل عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8 - 9]، أي: منعت الجن من السماع؛ وذلك حماية للوحي، وحتى لا يأخذوا شيئاً منه إلى أحد من الكهان، وهذا الذي ظهر من الكهان إنما يسترق لهم الشياطين السمع ليخبروهم ببعض هذه المغيبات. ثم يقول: [والأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته، لما تبين لها كفره فقتلوه. وكذلك مسيلمة الكذاب، كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور. وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي، الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة، وكانت الشياطين تخرج رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن تنفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يري الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة، وإنما كانوا جناً، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك: إنك لم تسم الله، فسمى الله وطعنه فقتله. وهكذا أهل الأحوال الشيطانية، تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها، مثل: آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر، فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: كذبك وإنه سيعود، فلما كان في المرة الثالثة قال: دعني حتى أعلمك ما ينفعك، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقك وهو كذوب)، وأخبره أنه شيطان. ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني، أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين] يعني: يتواجدون عند سماع الأناشيد ويسمى بـ (الحضرة). ثم قال: [وتتكلم على لسانه كلاماً لا يعلم، ربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة، كما تتكلم الجن على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم لا يشعر بشيء مما قال، ولهذا قد يضرب المصروع ضرباً كثيراً حتى قد يقتل مثله الإنسي أو يمرضه لو كان هو المضروب، وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء من الضرب؛ لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع]. وقد أخبرني من أثق به عن الأحوال الشيطانية هذه، فقال: إن بعض النعوش طارت بالميت، وكان هناك شيخ سني قام فأمسك بقائمة النعش وقرأ آية الكرسي، فحمل النعش إلى المقابر بدون أدنى حركة. وأيضاً أخبرني بأن ممسوساً كان له علاقة بجني، فكانوا عندما يحتاجون إلى المال يأتيهم الجني بالمال، وبعد أن يأخذوا حاجتهم ويضعوه مثلاً تحت المخدة، أو فوق الثلاجة، فإذا قاموا لا يجدونه في مكانه، فكأن الجني كان يسرقه ثم يرجعه مرة أخرى. ثم يقول: [ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما] أي: أن طلب الاستعانة من الجن لا تجور؛ لأنها من الأحوال الشيطانية، لكن لو سمع شيئاً من غير طلب، وكان أمراً مباحاً جاز لنا أن ننتفع به، ولكن ليس لنا أن نطلب من الجني أن يفعل شيئاً، ولا أن نستخبره على أشياء؛ لأنه قد يخبرنا بأشياء لا نعرف صدقه من كذبه. كذلك قضية الاستخبار أو قضية الاستعانة، وطلب فعل الأشياء، قد جعلها شيخ الإسلام من الأحوال الشيطانية، فقال: ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى، وهذه الأشياء مباحة في الأصل. ومع ذلك أصبحت من الأحوال الشيطانية؛ لأن من يحصل لهم مثل ذلك يلبسون على الناس كثيراً جداً، ويقولون للناس: عندنا جن من المسلمين نستعين بهم من أجل معالجة المرضى، ويستدلون على جواز ذلك بقصة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد لكن نقول لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن أشياء من أجل أن يعرف صدق ابن صياد من كذبه، ومعرفة حاله ومن يأتيه ونحو ذلك، فالذي عنده قدرة على ذلك، ويستطيع أن يسأل هذا الجني فليفعل، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما سأل ابن صياد امتحاناً له وتعرفاً عليه، وليس طلباً لإخبار غيبيات كما يفعل كثير من المشعوذين. ثم يقول: [ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته، فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه، ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، بل هو كمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء وإلى غير القبلة. ومن هؤلاء المحمولين من حمل مرة إلى عرفات ورجع فرأى في النوم ملائكة يكتبون الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست من الحجاج، يعني: لم تحج حجاً شرعياً.

بعض الفروق بين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية

بعض الفروق بين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبين كرامات الأولياء وبين ما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها: أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تكونون سبباً لكرامة الله تعالى، ولا يستعان بالكرامات عليها]. إن أعلى كرامة يكرم الله بها عبده هي الهداية والتوفيق لطاعته عز وجل. ثم يقول: [فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان، وبالأمور التي فيها شرك، كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية].

صور من الأحوال الشيطانية

صور من الأحوال الشيطانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حضر رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد] يعني: إذا وجد رجل من أولياء الله يذكر الله، ويقرأ آية الكرسي مثلاً سقط المحمول. ثم قال: [ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك المخلوق مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته، وإنما هو شيطان، أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر]. ولذلك أجمع أهل البدع على حياة الخضر، وأنه يلتقي بهم في الموالد الكبرى، مثل مولد البدوي والدسوقي وهذا شيء معلوم عندهم بالقطع واليقين، ومعلوم أن: أول ما رأوه رأوا شيطاناً، فقال لهم: أنا الخضر؛ لأنهم لم يروا الخضر من قبل حتى يعرفوه. ثم يقول: [وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبهم، كما جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى. وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل إلى زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار، كما يصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته. ومن هؤلاء شيخ كان بمصر، أوصى خادمه، فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحداً يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي، فلما مات رأى خادمه شخصاً في صورته، فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله -أي: غسل الميت- غاب، وكان ذلك شيطاناً، وكان قد أضل الميت، وقال: إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضاً في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك] من أجل أن يصير هذا الميت عند الناس من الأولياء؛ ومن ثم يبنون على قبره قبة ويدعونه ويتضرعون إليه. ثم يقول: [ومنهم من يرى عرشاً في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة، علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول ذلك. ومنهم من يرى أشخاصاً في اليقظة، يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، ويكون من الشياطين، وقد جرى هذا لغير واحد. ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر -إما الصديق رضي الله عنه أو غيره- قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه، فيصبح وعلى رأسه طاقية، وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه، وهذا الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة].

تعظيم القبور سبيل أهل الشرك والبدع

تعظيم القبور سبيل أهل الشرك والبدع ثم بعد ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: [ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله، كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية. وكان أهل الشرك والبدع -يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به، أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب- أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال: (إن أمن الناس عليَّ في صحبته وفي ذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيحين عنه: (أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها، فقال: إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وفي المسند، وصحيح أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها). وفي الموطأ عنه أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وفي السنن عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغونني عن أمتي السلام). وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي. قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ -يعني: بليت- فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. قال ابن عباس وغيره من السلف: هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب، فتكون الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين فسد هذا الباب.

صور مكر الشيطان بأهل الشرك والبدع

صور مكر الشيطان بأهل الشرك والبدع والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها، كما يفعل أهل الكواكب، فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور، ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو الشيطان. والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر، إلا أن يتوب الله عليه. وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به، أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون حديثاً مكذوباً باتفاق أهل المعرفة، وهو: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور) وإنما هذا وضعه من فتح باب الشرك. ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم، من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين، أحوال يظنونها كرامات، وهي من الشياطين، مثل: أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يضعون عند القبر مصروعاً فيرون شيطانه قد فارقه، فيفعل بهم الشيطان هذا ليضلهم. وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل ذلك، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله، فسقط، ومثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان!

[9]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [9] خوارق العادة التي تظهر من الدجالين ليست كرامة لهم، وهي تخييل بالسحر واستعانة بالجن، فيشترط في الكرامة أن تكون لمؤمن تقي صالح، أما أولئك فأحوالهم شيطانية، فيجب التفريق بين أولياء الرحمن البررة، وأولياء الشيطان الفجرة.

الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع

الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع بعد أن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض أحوال الشياطين التي يخدعون بها أولياءهم ممن يعبدون غير الله عز وجل، وكذلك من أهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بعباد الطواغيت، قال: [ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم صارت الشياطين كثيراً ما تأوي إلى المغارات والجبال، مثل: مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان، وجبال بالجزيرة وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز، وجبل ماشكو عند أتشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالاً من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]]. فذكر أن الانقطاع في المغارات والبوادي من البدع، وهذا أمر عظيم الأهمية، فليس يشرع للإنسان أن ينقطع في مغارة أو في غار أو في صحراء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوى إلى غار حراء فلأن ذلك كان قبل نزول الوحي عليه، وأما بعد نزوله فكان لا يعتكف إلا في المساجد صلى الله عليه وآله وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعتكف في مسجده، فصار الاعتكاف في المغارات بعد بناء المساجد وتيسرها بدعة. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني، جلده يشبه جلد الماعز -يعني: كثير الشعر- فيظن من لا يعرفه أنه إنسي، وإنما هو جني، ويقال بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال كما يعرف ذلك بطرق متعددة]. ولفظة الأبدال ثبتت عن التابعين، وأن بعضهم كان يعد من الأبدال، وهذه الكلمة صحيحة بمعنى: أن الله عز وجل جعل في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم طائفة على الحق ظاهرة، لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة، وبهذا لو مات بعضهم فإن الله عز وجل يأتي بغيرهم بدلاً منهم، فتظل الطائفة موجودة، فمن يظن أنه من الأبدال أو يرجى له ذلك بمعنى أنه من الطائفة الظاهرة الذين هم على الحق وعلى طريق الكتاب والسنة، وعلى سبيل منهج أهل السنة والجماعة. وقد ذكر من الأبدال أربعون، وهذا العدد غير معلوم، ولا يعرف أن في الأرض أربعون من الأبدال، بل الذي يظهر أن الأبدال هم أهل هذه الطائفة المنصورة الذين يأخذون بما قام به من سبقهم من نشر الحق والقيام به في الأرض، فإذا مات بعضهم أبدل الله عز وجل غيرهم مثلهم.

أقسام الناس في خوارق العادات

أقسام الناس في خوارق العادات يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه، وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك. والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام: قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملاً، وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء]. وقد وقع في زماننا هذا الصنف، فيوجد كثير ممن ينتسب إلى السنة وينكر كل كرامات الأولياء جملة؛ فيقع في نوع من البدعة بذلك، وبعض الناس ينتسبون إلى السنة وينكرون خوارق العادات التي تقع لأولياء الله سبحانه وتعالى فخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في إثبات كرامات الأولياء. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان ولياً لله، وكلا الأمرين خطأ]. فقسم يكذب بخوارق العادات، وقسم يجعل أي خارق للعادة علامة على الكرامة، فيمكن أن تجري الخارقة أو العادة وليست بالكرامة؛ لأنها من أحوال الشياطين، لكن ينظر في اتباع الإنسان للشرع، فإن جرت الخارقة للعادة على يد ملتزم بالشرع فهذا يدل على أنها كرامة، وإذا جرت خارقة العادة على يد من يخالف الشرع بشرك أو بدعة أو ضلالة علم أنه من أحوال الشياطين. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان ولياً لله، وكلا الأمرين خطأ]. أي: إنكار الكرامات بالكلية والخوارق، أو إثبات أن كل خارق يعتبر كرامة. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا تجد هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله، وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة]. يعني: أن الأولين يقولون: هؤلاء أولياء الله وهم الذين يساعدوهم علينا، فكيف يكونون أولياء الله وهم يحاربون المسلمين؟! يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [والصواب: القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنهم لا من أولياء الله عز وجل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، ولكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضاً، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم]. أي: إذا وجد من له تمكن من أولياء الله عند هؤلاء فإنه يبطل خوارق العادة، أي: العباد والزهاد الذين هم على طرق بدائية، ويبذل جهداً في العبادة على خلاف السنة، وكذا الذي يظهر الزهد، أو هو زاهد بالفعل يعني: تارك لكثير من زخارف الدنيا، لكنه على اعتقاد شركي والعياذ بالله! كالرهبان في الصحاري فلا شك أنهم تركوا كثيراً جداً من زخارف الدنيا، لكن على شرك وضلال قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]. فهي عاملة ناصبة لكن على الباطل؛ فهي تصلى ناراً حامية. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب -من العباد والزهاد الذين هم ليسوا من أولياء الله، وإنما هم على ضلال واقتران بالشياطين- جهلاً أو عمداً، ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم، ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين، قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222] والأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر]. أي: لا بد أن يكون عندهم كذب وإثم ليتناسب مع الشيطان، أما الذي ليس عنده كذب ولا إثم فإن الشياطين لا تتنزل عليه، فلا تجري خوارق العادات إلا على من عنده كذب وإثم، قال تعالى: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222]، والأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر.

مما يقوي الأحوال الشيطانية

مما يقوي الأحوال الشيطانية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وغيرهما من السلف: التصدية: التصفيق باليد، والمكاء: مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة. وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء ونحو ذلك والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـ أبي موسى الأشعري: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون. (ومر النبي صلى الله عليه وسلم بـ أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له: مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك. فقال: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً) أي: لحسنته لك تحسيناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم). وقال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد أذناً -أي: استماعاً- إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته) -من صاحب الأغنية إلى مغنيته- وقال صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن فقال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى انتهيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان من البكاء). ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]. وقال في أهل المعرفة: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]. ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين، فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. وأما السماع المحدث: سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقاً إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن]. يعني: ولو سمعنا فسنستمع إلى الإنشاد الذي سيرقق قلوبنا، لكنهم لا يجعلونه من العبادات، ولكن أقصاها الإباحة في أحوال معينة، وليس أن هذا عبادة من العبادات أو طريقة من الطرق، وهذا رد على طرق الصوفية المتبعة التي تجعل هذه الحضرات والجلسات سبيلاً إلى التقرب إلى الله عز وجل، وكذا كثير من الجماعات المعاصرة التي تجعل هذا السماع أحد الوسائل الأساسية في التربية والتوجيه كما ذكره الأستاذ سعيد حوى في كتاب تربيتنا الروحية، وذكر فصلاً في السماع، ويقصد بذلك تربية وتوجيهاً أصلاً لفرق الإنشاد التي تقول الأشعار الطيبة ونحو ذلك على أن ذلك وسيلة لترقيق القلوب ونحو ذلك. فينبغي أن يستعمل هذا الأمر المباح عند الحاجة كأن يكون في السفر، أو عند الجهاد مثلاً، فيقول أشعاراً ليحمس الناس، أو يكون ذلك مثلاً في العرس، أو في يوم العيد، أما أن يكون هذا طريقاً إلى الله عز وجل فهذا ليس أمراً محموداً، ولا بد أن يكون هذا الفعل بضوابط منها: أن تكون ألفاظ النشيد صحيحة ليس فيها شرك ولا غلو وبدون آلات لهو. فـ ابن تيمية يخبر أن السلف لم يكونوا يعدونه من القرب والطاعات، بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. والتغبير: هو هذا الإنشاد أو نوع من أنواع الضرب بآلات اللهو.

أجناس الخوارق

أجناس الخوارق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك ويعلمون أن للشيطان فيه نصيباً وافراً، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم. ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان فيه أكثر وهو بمنزلة الخمر يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر. ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل بينهم عداوة كما تحصل بين شراب الخمر، فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله، وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل معصوم الدم مما يكرم الله به أولياءه؟ وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته. وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات ومنها ما هو من جنس الغنى، من جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى. وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ازداد بذلك رفعة وقرباً إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلت درجته. وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم كالشرك والظلم والفواحش استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيراً ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام -نعوذ بالله- وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيراً من هؤلاء يرتد عن الإسلام. وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبداً خرق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن ظن أن الله إذا أعطى عبداً ملكاً ومالاً وتصرفاً لم يحاسبه عليه]. فهو يعتبر نفسه أنه أصبح في منزلة من لا يسأل عما يفعل، فيظن أنه بملكه هذا أصبح لا يسأل عما يفعل؛ لأن الله أعطاه المال والملك لعلمه به أنه من أهل الكرامة، وإذا مات أحدهم فإنه يموت فيعتبرونه في رحاب الله وفي فسيح الجنات، وهذا لأجل أنه كان رئيساً أو ملكاً والعياذ بالله! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمور بها ولا منهي عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك. ولما كانت الخوارق كثيراً ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفر الله، كما يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها، ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها؟! فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئاً لك يا ولي الله! فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك]. ولو كان هذا فعلاً من الكرامات لاستمرت معه عند قراءة آية الكرسي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء]. وكل هذا من خدعة الشياطين لأجل أن يظنوا من أنفسهم أنهم أولياء، والشيطان أصلاً هدفه أن يغتر الإنسان بنفسه فيجعل نفسه ولياً، وهذا هدف كبير جداً، فهو إما بعد ذلك يزكي نفسه، أو أن الجن هم الذين يكلموه إلى غاية أن يقول: فعلاً أنا ولي! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بمثل ذلك. ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة وتريه أنواراً وتحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله]. أي: أنه يخرج من البيت فيجد نفسه داخل البيت، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تمر به أنوار أو تحضر الجن من يطلبه، أي: الشخص الذي هو يريده. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأعرف من يخاطبه مخاطب، ويقول له: أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء]. فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يميناً أو شمالاً ذهب حيث أراد. فيقع في قلبه ويقول له الطير: هذا ما خطر بقلبك وما كنت تريده، فيظن أن هذا الكلام كله كرامة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي المواشي فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يميناً وشمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له: هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك؛ فيقول في نفسه: كيف تصوروا بصورة المردان؟ فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له: علامة أنك المهدي أن تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها، وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان. وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير]. والإمام ابن تيمية يقصد بهذا سيرة الصوفية وما يحصل لهم، فهو رحمه الله كان يخاطب الصوفية كثيراً، وتاب على يديه جماعات منهم ابن القيم رحمه الله، فـ ابن القيم كان أصله من أصحاب الطرق الصوفية، ولما التقى بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عرف الحق وتاب، ومن أمثاله ابن رجب فقد صار إلى السنة على يد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله، ولذلك تجد منهم من يتكلم عن الصوفية في هذه الأشياء التي قد لا يعرفها غيرهم، وكم من أناس كانت تحصل لهم هذه الأشياء والمكاشفات، ثم إذا بهم يخرجون من هذا النفق المظلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16]. قال الله تبارك وتعالى: {كَلَّا} [الفجر:17] ولفظ (كلا) فيها زجر وتنبيه عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة، يكون الله عز وجل مكرماً له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك -من الضيق- يكون مهيناً له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه ولا هو كريم عنده؛ ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه؛ لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده، أو يقع بسببها فيما يكرهه منه. وأيضاً كرامات أولياء الله لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى. فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله]. وهذا مثلما يجري على أيدي النصارى؛ فإنهم في كل فترة يقولون: العذراء ظهرت على الكنيسة الفلانية، ونحو ذلك، وهذه كلها سببها الكفر والفسوق والعصيان، وهذه لا بد أن تكون من خوارق العادات التي يتكلم فيها أعداء الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك مثل: دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان، وأكل المحرمات: كالحيات والزنابير -يقصد الثعابين فهو محرم أكلها- والخنافس والدم وغيرها من النجاسات، ومثل الغناء والرقص لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن، وتقوى عند سماع مزامير الشيطان، فيرقص ليلاً طويلاً]. والمراد: أنه يهتز في ليلة الحضرة، ولذلك تجد في كتاب الإحياء: أن الإنسان أحياناً يفضل استماع الرقص على سماع القرآن؛ لأنه يقول: إنه يؤثر في النفوس أكثر، وهذا من البدع المنكرة المحدثة، فهو يقول: إن أي مجلس فيه سماع شيطان بهذه الطريقة يكون أحسن في حق أي إنسان حتى ولو وجد في نفسه ما وجد، والأصل: أن يرد هذا الوجد والذوق إلى الكتاب والسنة، حتى يبقى الذوق والوجد صحيحاً، أما إذا وقع في قلبه ذلك وليس على منهاج الكتاب والسنة فلا بد أن يجتنبه. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [فيرقص ليلاً طويلاً، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعداً -من كثرة الرقص- أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه، أو يتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. يعني: تركت العمل بها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية]. فإن من يتك

[10]

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان [10] ما من أمة إلا وأرسل الله إليها رسولاً منها؛ لهدايتها ودعوتها إلى التوحيد، وقد ختم الله تعالى هذه الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان رسولاً إلى الثقلين: الإنس والجن، فلا يسمع به إنسي ولا جني ثم لا يؤمن برسالته إلا دخل النار، وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، وللجن أحوال مع الإنس ذكرها العلماء.

عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الثقلين

عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الثقلين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسياً أو جنياً]. هذا أمر مجمع عليه بين المسلمين، أن من بلغه خبره صلى الله عليه وسلم، وبلغته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يؤمن بذلك عناداً أو جهلاً، بأن قلد ما عليه قومه وصدق ما يزعمون في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التكذيب والبهتان فهو كافر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين، وقد استمعت الجن للقرآن وولوا إلى قومهم منذرين، لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف، وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32]]. فرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا الجن إلى الله، لذلك قالوا: ((أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ)). إذاً: يجب على الجن أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنزل الله تعالى بعد ذلك: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:1 - 3]- ((تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)) أي: عظمة ربنا- {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:4 - 6]. أي: السفيه منا في أظهر أقوال العلماء]. قوله: ((كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ)) بسفهاء منهم ومبطلين ((فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)) إلعاباً وخوفاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال غير واحد من السلف: كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغياناً وكفراً كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:6 - 8] في الآية قولان: الأول: أنهم كانوا يعوذون برجال من الجن، أي: رجال جنيون كانوا يعوذون بهم من شر سفهائهم. الثاني: أنهم كانوا يعوذون برجال، مثل: الكهان وأمثالهم من شر الجن، وهنا إذا عذت به من كذا فهذا تفسير، آخر لكن سبب نزول الآية التي ذكرها السلف يقتضي أنهم كانوا يعوذون برجال جنيين من شر رجالهم السفهاء. وقال تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7] أي: أن كفار الجن ظنوا أيضاً بعدم البعث كما ظن كفار الإنس. وقال تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] والحرس الشديد من الملائكة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكانت الشياطين ترمى بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحياناً يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرساً شديداً وشهباً وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا، كما قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]]-فأصبحوا بعد نزول القرآن ممنوعين من أصل الاستماع، ومن أصل الجلوس لكي يستمعوا، وكانوا ينتظرون لعلهم يسمعون شيئاً فمنعوا من أصل الجلوس-[وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212]]. فأصبحوا معزولين بالكلية فلا يسمعون كلمة، وهذا حماية للقرآن العظيم من أن يتنزل به على كاهن، أو أن يسمع شيئاً منه كاهن فيلبس على الناس، وهل استمر الأمر بعد انقطاع الوحي كذلك؟ نعم استمر الأمر كذلك؛ لأن القرآن جاء بإبطال الكهانة، وأنه لا يعلم الغيب إلا الله، فحكم القرآن باق، فلذلك ظل الأمر كما كان منذ نزل القرآن؛ لأن حكم القرآن وشريعة القرآن باقية على الدوام. [وقالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]] وهذا من حسن الأدب حيث نسبوا الشر إلى المجهول، ((أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ))، وأما الخير فنسبوه إلى الله: ((أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)) وهذا كقول إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، فالشفاء نسبه إلى الله، والمرض نسبه إلى نفسه، وهذا تأدب، وإلا فالخير والشر خلق من الله سبحانه وتعالى، ولذا نقول: كل من عند الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:10 - 11] أي: على مذاهب شتى، كما قال العلماء: منهم المسلم والمشرك واليهودي والنصراني والسني والبدعي]. يعني: أن الجن أيضاً كانوا وما زالوا على مذاهب متعددة، منهم رافضة، ومنهم باطنية، ومنهم زنادقة ومنهم علمانيون، ومنهم مسلمون، ومنهم كفرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12] أخبروا أنهم لا يعجزونه لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه]-ثم أيقنوا بذلك، وهذا قول المؤمنين منهم-[{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:13 - 14] أي: الظالمون، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط: إذا جار {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا * وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:14 - 17]-فالله عز وجل يبتلي الناس بالخير والشر، ويبتليهم بالرزق ليشكروا أو يكفروا- {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17]. {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]-من إنس، ولا جن، ولا ولي، ولا نبي، ولا ملك، ولا أحد، فلا يدعى مع الله أحد- {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن:20 - 21]] وهذا بيان للتوحيد، وحقيقة عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، وأنه لا يملك ضراً ولا رشداً لأحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن:22]] أي: ملجأً ومعاذاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:23]] أي: لكن بلاغاً من الله ورسالاته، أو يمكن أن تقول: هذا استثناء متصل بمعنى: لن يجيرني من الله أحد إلا أن أبلغ رسالات ربي، فهذا هو الذي يجيرني من عذاب الله، فلن أجد من دونه ملجأً إلا أن أبلغ رسالات الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي ألجأ به وأعوذ بالله منه سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23]] والمقصود بها: معصية الكفر والعياذ با

أحوال الجن مع الإنس

أحوال الجن مع الإنس قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أن الجن مع الإنس على أحوال: فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، من عبادة الله وحده وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمر الإنس بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه. ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له، فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم، وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له]. هذا هو الموضع الذي يحتجون به على جواز الاستعانة بالجن، وابن تيمية يتكلم عن استعمال الجن وليس أن يستعين بهم فيطلب منهم قضاء الحاجات، ولا يستخبرهم عن المغيبات؛ فإن هذا فعل الكهنة، وقد سبق ما ذكره رحمه الله من أحوال أولياء الشيطان أنهم قد يذهبون به إلى عرفة، ونبهنا عندها أن ذلك من أحوال إخوان الشياطين وأولياء الشياطين؛ لأن ذلك إذا كان عن طلب وعن سؤال فإن ذلك من سؤال الجن الغائبين، وهو مما لا يجوز بحال، ولكن يستعملهم فيما لو فعلوا له شيئاً من غير طلب، يعني: إذا فعلوا شيئاً من غير أن يطلب، أو أخبروه وهو قادر على أن يعرف صدقهم من كذبهم، فهذا هو المحتمل، وليس أن يطلب منهم قضاء الحاجات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك. وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول]. يعني: أن منزلة هذا بالنسبة للرسول منزلة أقل، ومنزلة هذا الملك بالنسبة إلى أولياء الله أقل، ويستعملهم هذا في مباحات له، مع أنه إذا طلب منهم واستعاذ بهم فإن ذلك محرم بل هو من الشرك؛ لأنه كما ذكرنا أن استخدام عظماء الوادي في أن ينجوه من السفهاء شرك، مع أن الإنسان إذا أقام في بلد معين فهو يريد أن يأمن من أن يؤخذ متاعه، ولا يرعب ولا يخوف أليس هذا من الأمور المباحة؟ فلو أنه طلب الحماية من عظماء هذا الوادي الذين نزلت الآيات تبين أن هذا يزيد الجن طغياناً وكفراً، فإن هذا من الشرك بالله، فالاستعانة كذلك لا تجوز، فلا يجوز أن يستعين ويطلب منهم قضاء الحاجات، فهذا من الشرك والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول، كسليمان ويوسف مع إبراهيم وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم، أو في العدوان عليهم بغير القتل، كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من ظلمه، وإما في فاحشة، كجلب من يطلب فيه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص، إما فاسق وإما مذنب غير فاسق. وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات، مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو يحملوه إلى عرفات، ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به]. الكلام هذا واضح جداً من شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه ذكر في المثالين الأوليين أنه يستعين بهم على الحج، ثم ذكر المسألة الثانية أنهم يطيرون به إلى عرفات ولا يحج، إذاً: لا يقصد شيخ الإسلام بهذا الاستعانة بهم في أمور مباحات، وإنما ذكر الاستعانة بهم في أمور يظنها من الكرامات، فالاستعانة غير الاستعمال، وهذا أحسن ما يفسر به كلام شيخ الإسلام وإلا فعندنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وقد وردت الآية وذكر سبب نزولها، أن هذا في رجال استعانوا بالجن فأنزل الله في ذلك ذم هؤلاء وبين أنهم استعانوا بغير الله، وشرع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نستعين بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فدل ذلك على أن الاستعانة بالمخلوق شرك. فنحن نحمل كلام شيخ الإسلام على معنى يحتمل حقاً، أما أن نحمله على معنى باطل فهذا لا يحق لنا، فالذين يصرون على أن يحملوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه يجوز الاستعانة بالجن في المباحات، كأن يطلب منهم قضاء الحاجات -والعياذ بالله- والاستفهام على المغيبات فهم يحملوه على معنى باطل باتفاق، ومخالف لصريح الكتاب والسنة، ويبقى أنهم يتهمون شيخ الإسلام، وهو يذكر كلامه في موضع ويبينه في الموضع الثاني. والاستعانة بالجن في المعصية قد تصل إلى الكفر، مثلما أخبر أنهم يأتون بالمرأة إلى الشخص ليفعل بها الفاحشة، أو يسرق أموالاً، أو يجعل المرأة تكره زوجها والعكس. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية، وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده. فإن كان مشركاً يعبد الكواكب والأوثان، أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل بمن صور ذلك الصنم على صورته، من ملك أو نبي أو شيخ صالح، فيظن أنه يعبد ذلك النبي أو الصالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان، قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]، ولهذا لما كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها، فيقارنها الشيطان عند سجودهم، ليكون سجودهم له. ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون، فإن كان نصرانياً واستغاث بجرجس أو غيره جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسباً إلى الإسلام، واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك]. فإذا قرأ آية الكرسي وغيرها من الآيات بعزيمة فإنه يبطل هذا الفعل، وربما يقرأ آية الكرسي وليست عقيدته راسخة، بدليل أن الشخص هذا الذي ذكر كان شخصاً عادياً جداً، وإنما كان يصلي في المسجد، ويحب أولياء الله وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويحضر الحضرات التي تقام عند سيدنا الحسين، فهذا من الكرامات عندهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به -هذا لو كان حياً- وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم، ونقل أقوالهم له، فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان. ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة، فقال: يريني الجن شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به]. مثل هؤلاء الذين يزعمون أنهم يعلمون السرقة ومكانها، فيحضرون الأرواح الشيطانية، ويستعملون الأطفال الصغار والنساء أحياناً في مثل ذلك، فيأتون لهم بفنجان فيه ماء بهذه الطريقة، فينظر فيها الطفل وتتمثل له الجن وهي تقوم بأشياء، مثل السارق بالضبط فينظر الطفل صورة شخص على شكل الرجل الذي سرق البقرة، وهو يمشي ويدخل البيت الفلاني، فيقوم ويقول له: أنا شاهدت فلان الفلاني يأخذ البقرة ويمشي بها، فيقول له: هو فلان الذي سرق البقرة اذهب ابحث عنها في بيت فلان، فيذهب فيجد البقرة في بيت فلان، فمثل هذا هو من أحوال الجن، بأن يتمثل الجني في صورة الرجل الذي سرق، فيقوم يتمثل صورته وصورة البقرة التي سرقها في وسط الماء أو الزجاج. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال فأخبر الناس به، ويوصلون إلى كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه]. وهذا لأجل أن يقال له: إنه اطلع على شيء من علم الغيب، فيقوم يصفه بصفات الله -والعياذ بالله- فيقع في الشرك، والجني هو المتوسط في ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها، وقال: إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة فتدخلون النار بحجر الطلق، وقشور النارنج، ودهن الضفادع، وغير ذلك من الحيل الطبيعية، فيعجب هؤلاء المشايخ ويقولون: نحن والله لا نعرف شيئاً من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير: إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال الشيطانية أقروا بذلك، وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع، وعند المعاصي لله، فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، من العبادات الشرعية؛ فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه، لا من كرامات الرحمن لأوليائه. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه، وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلاماً نستوجب بهما شفاعته آمين.

§1/1