الفرج بعد الشدة للتنوخي

التنوخي، المحسن بن علي

الباب الأول

الْبَابُ الأَوَّلُ مَا أَنْبَأَنَا بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، مِنْ ذِكْرِ الْفَرَجِ بَعْدَ الْبُؤْسِ وَالامْتِحَانِ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، وَهُوَ الْحَقُّ الْيَقِينُ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ {1} وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ {2} الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ {3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ {4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ {7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ {8} } [الشَّرْح: 1-8] . فَهَذِهِ ال { [كلهَا مفصحة بإذكار الله عز وَجل رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام منَّته عَلَيْهِ، فِي شرح صَدره بعد الْغم والضيق، وَوضع وزره عَنهُ، وَهُوَ الْإِثْم، بعد إنقاض الظّهْر، وَهُوَ الإثقال، أَي أثقله فنقض الْعِظَام، كَمَا ينْتَقض الْبَيْت إِذا صَوت للوقوع، وَرفع، جلّ جَلَاله، ذكره، بعد أَن لم يكن، بِحَيْثُ جعله الله مَذْكُورا مَعَه، والبشارة لَهُ، فِي نَفسه عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي أمته، بِأَن مَعَ الْعسر الْوَاحِد يسرين، إِذا رَغِبُوا إِلَى الله تَعَالَى رَبهم، وَأَخْلصُوا لَهُ طاعاتهم ونياتهم. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عَبَّاس، أَو عَن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ

السَّلَام، أَنه قَالَ: لَا يغلب الْعسر الْوَاحِد يسرين، يُرِيد أَن الْعسر الأول هُوَ الثَّانِي، وَأَن الْيُسْر الثَّانِي هُوَ غير الأول، وَذَلِكَ أَن الْعسر معرفَة، فَإِذا أُعِيد، فَالثَّانِي هُوَ الأول، لِأَن الْألف وَاللَّام لتعريفه، وَيسر، بِلَا ألف وَلَام، ونكرة، فَإِذا أُعِيد، فَالثَّانِي غير الأول، وَهَذَا كَلَام الْعَرَب، فَإِذا بدأت بِالِاسْمِ النكرَة، ثمَّ أعادته، أعادته معرفَة بِالْألف وَاللَّام، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ: قد جَاءَنِي الرجل الَّذِي تعرفه، فَأَخْبرنِي الرجل بِكَذَا وَكَذَا، فَالثَّانِي هُوَ الأول، فَإِذا قَالُوا: جَاءَنِي رجل، وَأَخْبرنِي رجل بِكَذَا، وَجَاءَنِي رجل، فَأَخْبرنِي رجل بِكَذَا وَكَذَا، فَالثَّانِي غير الأول، وَلَو كَانَ الثَّانِي، فِي هَذَا الْموضع، هُوَ الأول لقالوا: فَأَخْبرنِي الرجل بِكَذَا وبكذا، كَمَا قَالُوا فِي ذَلِك الْموضع. وَقَالَ الله تَعَالَى:] سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [سُورَة الطَّلَاق: 7] . وَقَالَ:، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاق: 2-3] . وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَة: 259] .

فَأخْبر الله تَعَالَى: أَن الَّذِي مر على قَرْيَة، استبعد أَن يكْشف الله تَعَالَى عَنْهَا، وَعَن أَهلهَا، الْبلَاء، لقَوْله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الْبَقَرَة: 259] ، فأماته الله مائَة عَام ثمَّ بَعثه. . . إِلَى آخر الْقِصَّة، فَلَا شدَّة أَشد من الْمَوْت والخراب، وَلَا فرج أفرج من الْحَيَاة والعمارة، فَأعلمهُ الله عز وَجل، بِمَا فعله بِهِ، أَنه لَا يجب أَن يستبعد فرجا من الله وصنعا، كَمَا عمل بِهِ، وَأَنه يحيي الْقرْيَة وَأَهْلهَا، كَمَا أَحْيَاهُ، فَأرَاهُ بذلك، آيَاته، ومواقع صنعه. وَقَالَ عز وَجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يُونُس: 12] . وَقَالَ عز وَجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {22} فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يُونُس: 22-23] . وَقَالَ تَعَالَى، فِي مَوضِع آخر: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ {64} } [الْأَنْعَام: 63-64] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ {13} وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ {14} } [إِبْرَاهِيم: 13-14] . وَقَالَ عز وَجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ {6} } [الْقَصَص: 5-6] . وَقَالَ عز وَجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [النَّمْل: 62] . وَقَالَ جلّ من قَائِل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِر: 60] . وَقَالَ عز من قَائِل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [الْبَقَرَة: 186] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } [الْبَقَرَة: 155-157] . وَقَالَ جلّ جَلَاله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} } [آل عمرَان: 173-174] . وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، أَنه قَالَ: عجبا لمكروب غفل عَن خمس، وَقد عرف مَا جعل الله لمن قالهن، قَوْله تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } [الْبَقَرَة: 155-157] . وَقَوله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ

فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمرَان: 173-174] . وَقَوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {44} فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غَافِر: 44-45] . وَقَوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ {88} } [الْأَنْبِيَاء: 87-88] . وَقَوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا

فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148} } [آل عمرَان: 147-148] . وري عَن الْحسن أَيْضا، أَنه قَالَ: من لزم قِرَاءَة هَذِه الْآيَات فِي الشدائد، كشفها الله عَنهُ، لِأَنَّهُ قد وعد , وَحكم فِيهِنَّ، بِمَا جعله لمن قالهن، حكمه لَا يبطل، ووعده لَا يخلف ".

قصة آدم عليه السلام

قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَقد ذكر الله تَعَالَى، فِيمَا اقتصه من أَخْبَار الْأَنْبِيَاء، وشدائد ومحنا، استمرت على جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، وضروبا جرت عَلَيْهِم من الْبلَاء، وأعقبها بفرج وتحفيف، وتداركهم فِيهَا بصنع جليل لطيف. فَأول ممتحن رَضِي، فأعقب بصنع خَفِي، وأغيث بفرج قوي، أول الْعَالم وجودا، آدم أَبُو الْبشر، صلى الله عَلَيْهِ، كَمَا ذكر، فَإِن الله خلقه فِي الْجنَّة، وَعلمه الْأَسْمَاء كلهَا، وأسجد لَهُ مَلَائكَته، وَنَهَاهُ عَن أكل الشَّجَرَة، فوسوس لَهُ الشَّيْطَان، وَكَانَ مِنْهُ مَا قَالَه الرَّحْمَن فِي مُحكم كِتَابه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى {121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {122} } [طه: 121-122] . هَذَا بعد أَن أهبطه الله إِلَى الأَرْض، وأفقده لذيذ ذَلِك الْخَفْض، فانتقضت عَادَته، وغلظت محنته، وَقتل أحد ابنيه الآخر، وَكَانَا أول أَوْلَاده. فَلَمَّا طَال حزنه وبكاؤه، واتصل استغفاره ودعاؤه، رحم الله عز وَجل تذلُّله وخضوعه، واستكانته ودموعه، فَتَابَ عَلَيْهِ وهداه، وكشف مَا بِهِ ونجاه. فَكَانَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام، أول من دَعَا فَأُجِيب، وامتحن فأثيب، وَخرج من ضيق وكرب، إِلَى سَعَة ورحب، وسلى همومه، وَنسي غمومه، وأيقن بتجديد الله عَلَيْهِ النعم، وإزلته عَنهُ النقم، وَأَنه تَعَالَى إِذا استرحم رحم. فأبدله تَعَالَى بِتِلْكَ الشدائد، وعوضه من الابْن الْمَفْقُود، وَالِابْن الْعَاق الْمَوْجُود، نَبِي الله شِيث صلى الله عَلَيْهِ، وَهُوَ أول الْأَوْلَاد البررة بالوالدين ووالد النَّبِيين

قصة نوح عليه السلام

وَالصَّالِحِينَ، وَأَبُو الْمُلُوك الجبارين، الَّذِي جعل الله ذُريَّته هم البَاقِينَ، وخصهم من النعم بِمَا لَا يُحِيط بِهِ وصف الواصفين. وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن من الشَّرْح لهَذِهِ الْجُمْلَة والتبيان، بِمَا لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَكَان، وَرُوِيَ فِيهِ من الْأَخْبَار، مَا لَا وَجه للإطالة بِهِ والإكثار. قصَّة نوح عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ نوح عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ امتحن بِخِلَاف قومه عَلَيْهِ، وعصيان ابْنه لَهُ، والطوفان الْعَام، واعتصام ابْنه بِالْجَبَلِ، وتأخره عَن الرّكُوب مَعَه، بركوب السَّفِينَة وَهِي تجْرِي بهم فِي موج كالجبال، وأعقبه الله الْخَلَاص من تِلْكَ الْأَهْوَال، والتمكن فِي الأَرْض، وتغييض الطوفان، وَجعله شَبِيها لآدَم، لِأَنَّهُ أنشأ ثَانِيًا جَمِيع الْبشر مِنْهُ، كَمَا أنشأهم أَولا من آدم عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَا ولد لآدَم إِلَّا من نوح. قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ {75} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ {76} وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ {77} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {78} } [الصافات: 75-78] . {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الْأَنْبِيَاء: 76] .

قصة إبراهيم عليه السلام

قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا دفع إِلَيْهِ من كسر الْأَصْنَام، وَمَا لحقه من قومه، من محاولة إحراقه، فَجعل الله تَعَالَى عَلَيْهِ النَّار بردا وَسلَامًا، وَقَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 51] ، ثمَّ اقْتصّ قصَّته، إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ {70} وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ {71} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ {72} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الْأَنْبِيَاء: 68-73] . ثمَّ مَا كلفه الله تَعَالَى إِيَّاه، من مُفَارقَة وَطنه بِالشَّام، لما غارت عَلَيْهِ سارة، من أم وَلَده هَاجر، فَهَاجَرَ بهَا وبابنه مِنْهَا إِسْمَاعِيل الذَّبِيح عَلَيْهِمَا السَّلَام، فأسكنهما بواد غير ذِي زرع، نازحين عَنهُ، بعيدين مِنْهُ، حَتَّى أنبع الله تَعَالَى لَهما المَاء، وتابع عَلَيْهِمَا الآلاء، وَأحسن لإِبْرَاهِيم فيهمَا الصنع، والفائدة والنفع، وَجعل لإسماعيل النَّسْل وَالْعدَد، والنبوة وَالْملك، هَذَا بعد أَن كلف سُبْحَانَهُ إِبْرَاهِيم أَن يَجْعَل ابْنه إِسْمَاعِيل بسبيل الذّبْح، قَالَ الله تَعَالَى فِيمَا اقتصه من ذكره فِي { [الصافات:] فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ {101} فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102} فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ {103} وَنَادَيْنَاهُ

أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {107} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ {108} سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ {109} } [سُورَة الصافات: 101-109] . فَلَا بلَاء أعظم من بلَاء يشْهد الله تَعَالَى أَنه بلَاء مُبين، وَهُوَ تَكْلِيف الْإِنْسَان، أَن يَجْعَل بسبيل الذّبْح ابْنه، وتكليفه , وتكليف الْمَذْبُوح، أَن يؤمنا ويصبرا، ويسلما ويحتسبا، فَلَمَّا أديا مَا كلفا من ذَلِك، وَعلم الله عز وَجل مِنْهُمَا صدق الْإِيمَان، وَالصَّبْر وَالتَّسْلِيم والإذعان، فدى الابْن بِذبح عَظِيم وجازى الْأَب بِابْن آخر على صبره، وَرضَاهُ بِذبح ابْنه الَّذِي لم يكن غَيره، قَالَ الله عز وَجل: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] ، إِلَى قَوْله: {لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] ، وخلصهما بصبرهما وتسليمهما من تِلْكَ الشدائد الهائلة. وَقد ذهب قوم إِلَى أَن إِبْرَاهِيم إِنَّمَا كلف ذبح ابْنه فِي الْحَقِيقَة، لَا على مَا ذهب إِلَيْهِ من ذَلِك أَن الَّذِي كلفه أَن يَجْعَل ابْنه بسبيل الذّبْح، لَا أَن يذبحه فِي الْحَقِيقَة، وَاسْتدلَّ الْحسن الْبَصْرِيّ على أَن إِسْمَاعِيل هُوَ الذَّبِيح، لَا إِسْحَاق، وَأَن الْمَأْمُور بِهِ كَانَ الذّبْح فِي الْحَقِيقَة، بقوله تَعَالَى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] ، فحصلت لإِبْرَاهِيم الْبُشْرَى، بِأَنَّهُ سيرزق إِسْحَاق، وَأَن إِسْحَاق سيرزق يَعْقُوب، وَلَا يجوز للنَّبِي أَن يشك فِي بِشَارَة الله تَعَالَى، فَلَو كَانَ إِسْحَاق هُوَ الذَّبِيح، مَا صَحَّ أَن يَأْمُرهُ بذَبْحه قبل خُرُوج يَعْقُوب من ظَهره، لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أَمر بذلك، علم أَن الْبُشْرَى الأولة، تمنع من ذبح إِسْحَاق

قصة لوط عليه السلام

قبل ولادَة يَعْقُوب، وَكَانَ لَا يَصح تَكْلِيفه ذبح من يعلم أَنه لَا يَمُوت أَو يخرج من ظَهره من لم يخرج بعد، وَمَتى وَقع التَّكْلِيف على هَذَا، لم يكن فِيهِ ثَوَاب، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] . دَلِيل على عظم ثَوَاب إِبْرَاهِيم، وَصِحَّة الْأَمر بِالذبْحِ، يبين قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] ، أَي: استسلما لأمر الله، وهما لَا يشكان فِي وُقُوع الذّبْح على الْحَقِيقَة حَتَّى فدَاه الله تبَارك وَتَعَالَى، فَهَذَا دَلِيل على أَن الذَّبِيح غير إِسْحَاق، وَلم يكن لإِبْرَاهِيم ولد غير إِسْحَاق، إِلَّا إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ. قصَّة لوط عَلَيْهِ السَّلَام وَمن هَذَا الْبَاب قصَّة لوط عَلَيْهِ السَّلَام، لما نهى قومه عَن الْفَاحِشَة، فعصوه، وكذبوه، وتضييفه الْمَلَائِكَة، فطالبوه فيهم بِمَا طالبوه، فَخسفَ الله بهم أَجْمَعِينَ، ونجى لوطا، وأثابه ثَوَاب الشَّاكِرِينَ، وَقد نطق بِهَذَا كَلَام الله الْعَظِيم فِي مَوَاضِع من الذّكر الْحَكِيم.

قصة يعقوب ويوسف عليهما السلام

قصَّة يَعْقُوب ويوسف عَلَيْهِمَا السَّلَام وَيَعْقُوب ويوسف عَلَيْهِمَا السَّلَام، فقد أفرد الله تَعَالَى بِذكر شانهما، وعظيم بلواهما وامتحانهما، { [محكمَة، بَين فِيهَا كَيفَ حسد إخْوَة يُوسُف، يُوسُف، على الْمَنَام الَّذِي بشره الله تَعَالَى فِيهِ بغاية الْإِكْرَام، حَتَّى طرحوه فِي الْجب، فخلصه الله تَعَالَى مِنْهُ، بِمن أدلى الدَّلْو، ثمَّ استعبد، فَألْقى الله تَعَالَى فِي قلب من صَار إِلَيْهِ إكرامه، واتخاذه ولدا، ثمَّ مراودة امْرَأَة الْعَزِيز إِيَّاه عَن نَفسه، وعصمة الله لَهُ مِنْهَا، وَكَيف جعل عاقبته بعد الْحَبْس، إِلَى ملك مصر، وَمَا لحق يَعْقُوب من الْعَمى لفرط الْبكاء، وَمَا لحق إخْوَة يُوسُف من التسرق، وَحبس أحدهم نَفسه، حَتَّى يَأْذَن لَهُ أَبوهُ، أَو يحكم الله لَهُ، وَكَيف أنفذ يُوسُف إِلَى أَبِيه قَمِيصه، فَرده الله بِهِ بَصيرًا، وَجمع بَينهم، وَجعل كل وَاحِد مِنْهُم بالباقين وبالنعمة مَسْرُورا.

قصة أيوب عليه السلام

قصَّة أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام وَأَيوب عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَا امتحن بِهِ من الأسقام وَعظم اللأواء، والدود والأدواء، وَجَاء الْقُرْآن بِذكرِهِ، ونطقت الْأَخْبَار بشرح أمره، قَالَ الله تَعَالَى:] وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ {84} } [سُورَة الْأَنْبِيَاء: 83-84] . 1: 71 1 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْفَسَوِيُّ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ وَثَلاثِ مِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ

أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: §" لَمَّا عَافَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ فَجَعَلَ يَأْخُذُهُ، وَيَجْعَلُهُ فِي ثَوْبِهِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ؟ قَالَ: وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ؟

قصة يونس عليه السلام

قِصة يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام وَيُونُس عَلَيْهِ السَّلَام، وَمَا اقْتصّ الله تَعَالَى من قصَّته فِي غير مَوضِع من كِتَابه، ذكر فِيهَا التقام الْحُوت لَهُ، وتسبيحه فِي بَطْنه، وَكَيف نجاه الله عز وَجل، فأعقبه بالرسالة والصنع. قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {139} إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {140} فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ {141} فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ {142} فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ {145} وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ {146} وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ {147} } [الصافات: 139-147] . قَالَ صَاحب الْكتاب: «أَو» هَا هُنَا ظَاهرهَا الشَّك، وَقد ذهب إِلَى ذَلِك قوم، وَهُوَ خطأ، لِأَن الشَّك، لَا يجوز على الله تَعَالَى، الْعَالم لنَفسِهِ، الْعَارِف بِكُل شَيْء قبل كَونه، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ الْوَجْه، أَنه قَالَ: أَو يزِيدُونَ، بل يزِيدُونَ، وَقَالَ: كَانَت الزِّيَادَة ثَلَاثِينَ ألفا، وَرُوِيَ عَن ابْن جُبَير ونوف الشَّامي أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَت الزِّيَادَة سبعين ألفا، فقد ثَبت أَن «أَو» هُنَا، بِمَعْنى «بل» وَقد ذهب إِلَى هَذَا، الْفراء، وَأَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ آخَرُونَ:

إِن «أَو» هَا هُنَا، بِمَعْنى «وَيزِيدُونَ» . وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {87} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ {88} } [الْأَنْبِيَاء: 87-88] ، قَالَ بعض الْمُفَسّرين: معنى {لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الْأَنْبِيَاء: 87] : «لن نضيِّق عَلَيْهِ» . وَهَذَا مثله قَوْله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطَّلَاق: 7] ، أَي: ضيق عَلَيْهِ، وَمثل قَوْله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] . وَقد جَاءَ «قدر» بِمَعْنى «ضيق» فِي الْقُرْآن، فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، وَمن هَذَا قيل للْفرس الضّيق الخطو: فرس أقدر، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يهرب من الله تَعَالَى نَبِي من أنبيائه، والأنبياء لَا يكفرون. وَمن ظن أَن الله تَعَالَى لَا يقدر عَلَيْهِ، أَي: لَا يُدْرِكهُ، أَو أَنه يعجز الله هربا، فقد كفر، والأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام، أعلم بِاللَّه سُبْحَانَهُ، من أَن يَظُنُّوا فِيهِ هَذَا الظَّن الَّذِي هُوَ كفر. وَقد رُوِيَ أَن من أدام قِرَاءَة قَوْله عز وَجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الْأَنْبِيَاء: 87] الْآيَة إِلَى قَوْله: {الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 88] ، فِي الصَّلَاة، وَغَيرهَا، فِي أَوْقَات شدائده، عجل الله لَهُ مِنْهَا فرجا ومخرجا. وَأَنا أحد من واصلها فِي نكبة عَظِيمَة لحقتني، يطول شرحها وَذكرهَا عَن هَذَا الْموضع، وَكنت قد حسبت، وهددت بِالْقَتْلِ، فَفرج الله عني، وأطلقت فِي الْيَوْم التَّاسِع من يَوْم قبض عَليّ فِيهِ.

قصة موسى بن عمران عليه السلام

قصَّة مُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام ومُوسَى بن عمرَان عَلَيْهِ السَّلَام، فقد نطق الْقُرْآن بِقِصَّتِهِ فِي غير مَوضِع، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {7} فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ {8} وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {9} وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {10} وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {11} وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ {12} فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {13} } [الْقَصَص: 7-13] . فَلَا شدَّة أعظم من أَن يبتلى النَّاس بِملك يذبح أَبْنَاءَهُم، حَتَّى أَلْقَت أم مُوسَى ابْنهَا فِي الْبَحْر مَعَ طفوليته، وَلَا أعظم من حُصُول طِفْل فِي الْبَحْر، فكشف الله , تبَارك اسْمه , ذَلِك عَنهُ، بالتقاط آل فِرْعَوْن لَهُ، وَمَا أَلْقَاهُ فِي قُلُوبهم من الرقة عَلَيْهِ، حَتَّى استحيوه، وَتَحْرِيم المراضع عَلَيْهِ حَتَّى ردُّوهُ إِلَى أمه، وكشف عَنْهَا الشدَّة من فِرَاقه، وَعنهُ الشدَّة فِي حُصُوله فِي الْبَحْر. وَمعنى وَقَوله تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [الْقَصَص: 8] ، أَي: يصير عَاقِبَة أمره مَعَهم إِلَى

عَدَاوَة لَهُم، وَهَذِه لَام الْعَافِيَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لدوا للْمَوْت وَابْنُوا للخراب ... وكلكم يصير إِلَى ذهَاب وَقد علم أَن الْولادَة لَا يقْصد بهَا الْمَوْت، وَالْبناء لَا يقْصد بِهِ الخراب، وَإِنَّمَا عَافِيَة الْأَمر فيهمَا تصير إِلَى ذَلِك. وعَلى الْوَجْه الأول، قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الْأَعْرَاف: 179] أَي: إِن عَاقِبَة أَمرهم، وفعلهم، واختيارهم لنفوسهم، يصيرهم إِلَى جَهَنَّم، فيصيرون لَهَا، لِأَن الله عز وَجل، لم يخلقهم ليقصد تعذيبهم بالنَّار فِي جَهَنَّم، عز الله عَن هَذَا الظُّلم. وَجعل الله عَاقِبَة أَمر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، من تِلْكَ الشدائد، وشدائد بعْدهَا، إِذْ أرْسلهُ إِلَى فِرْعَوْن، لتخليص بني إِسْرَائِيل، وقصصه الَّتِي قبلهَا، وَحَدِيثه إِذْ خرج خَائفًا يترقب، فَهَذِهِ شدَّة أُخْرَى كشفها الله تَعَالَى عَنهُ من تِلْكَ الشدائد، وشدائد بعْدهَا نالته يَأْتِي ذكرهَا أَن بَعثه نَبيا , وأنقذ بِهِ بني إِسْرَائِيل من الشدائد الَّتِي كَانُوا فِيهَا مَعَ فِرْعَوْن، فَقَالَ عز وَجل، فِي تَمام هَذِه الْقِصَّة: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ {20} فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {21} } [الْقَصَص: 20-21] ، فَهَذِهِ شدَّة أُخْرَى كشفها الله عز وَجل. قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ {22} وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ

امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ {24} } [الْقَصَص: 22-24] ، فَهَذِهِ شدَّة أُخْرَى، لحقته بالاغتراب، وَالْحَاجة إِلَى الِاضْطِرَاب فِي الْمَعيشَة والاكتساب، فوفق الله تَعَالَى لَهُ شعيبا، قَالَ الله عز وَجل، فِي تَمام هَذِه الْقِصَّة: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الْقَصَص: 25] . ثمَّ أخبر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْقِصَّة، كَيفَ زوجه شُعَيْب ابْنَته، بعد أَن اسْتَأْجرهُ ثَمَانِي حجج، وَأَنه خرج بأَهْله من عِنْد شُعَيْب، فَرَأى النَّار، فَمضى يقتبس مِنْهَا، فَكَلمهُ الله تَعَالَى، وَجعله نَبيا، وأرسله إِلَى فِرْعَوْن، فَسَأَلَهُ أَن يُرْسل مَعَه أَخَاهُ هَارُون، فَشد الله تَعَالَى عضده بِهِ، وَجعله نَبيا مَعَه، فَأَي فرج أحسن من فرج أَتَى رجلا خَائفًا، هَارِبا، فَقِيرا، قد أجر نَفسه ثَمَانِي حجج، بِالنُّبُوَّةِ وَالْملك؟ قَالَ الله تَعَالَى فِي { [الْأَعْرَاف:] وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [سُورَة الْأَعْرَاف: 127] ، فَهَذِهِ شدَّة لحقت بني إِسْرَائِيل، فكشفها الله عَنْهُم، قَالَ سُبْحَانَهُ: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {128} قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي

قصة أصحاب الأخدود

الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ {129} } [الْأَعْرَاف: 128-129] . وَقَالَ تَعَالَى، فِي تَمام هَذِه الْقِصَّة، فِي هَذِه ال { [، بعد آيَات:] وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [سُورَة الْأَعْرَاف: 137] ، فَأخْبر تَعَالَى عَن صنعه لَهُم، وفلقه الْبَحْر حَتَّى عبروه يبسا، وإغراقه فِرْعَوْن لما اتبعهم. وكل هَذِه أَخْبَار عَن محن عَظِيمَة انجلت بمنح جليلة، لَا يُؤدى شكر الله عَلَيْهَا، وَيجب على الْعَاقِل تأملها، ليعرف كنه تفضل الله عز وَجل بكشف شدائده وإغاثته، بإصلاح كل فَاسد لمن تمسك بِطَاعَتِهِ، وأخلص فِي خَشيته، وَأصْلح من نِيَّته، فسلك هَذِه السَّبِيل، فَإِنَّهَا إِلَى النجَاة من المكاره، أوضح طَرِيق، وَهدى دَلِيل. قصَّة أَصْحَاب الْأُخْدُود وَذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فِي: وَالسَّمَاء ذَات البروج أَصْحَاب الْأُخْدُود، وروى قوم من أهل الْملَل الْمُخَالفَة لِلْإِسْلَامِ عَن كتبهمْ أَشْيَاء من ذَلِك، فَذكرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى: أَن أَصْحَاب الْأُخْدُود كَانُوا دعاة إِلَى الله، وَأَن ملك بلدهم، أضرم لَهُم نَارا، وطرحهم فِيهَا، فَاطلع الله تَعَالَى على صبرهم، وخلوص نياتهم فِي دينه وطاعته، فَأمر النَّار أَن لَا تحرقهم، فشوهدوا فِيهَا قعُودا، وَهِي تضطرم عَلَيْهِم، وَلَا تحرقهم، ونجوا مِنْهَا، وَجعل الله دَائِرَة السوء على الْملك، وأهلكه.

قصة دانيال عليه السلام

قصَّة دانيال عَلَيْهِ السَّلَام وَذكر هَؤُلَاءِ الْقَوْم: أَن نَبيا، كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل بعد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بِزَمَان طَوِيل، يُقَال لَهُ: دانيال، وَأَن قومه كذبوه، فَأَخذه ملكهم، فقذفه إِلَى أَسد مجوعة فِي جب، فَلَمَّا اطلع الله تَعَالَى على حسن اتكاله عَلَيْهِ، وَصَبره طلبا لما لَدَيْهِ، أمسك أَفْوَاه الْأسد عَنهُ، حَتَّى قَامَ على رءوسها برجليه، وَهِي مذللة، غير ضارة لَهُ، فَبعث الله تَعَالَى إرميا من الشَّام، حَتَّى تخلص دانيال من هَذِه الشدَّة، وَأهْلك من أَرَادَ إهلاك دانيال. وعضدت روايتهم، أَشْيَاء رَوَاهَا أَصْحَاب الحَدِيث، مِنْهَا مَا حدّثنَاهُ عَليّ بن أبي الطّيب الْحسن بن عَليّ بن مطرف الرامَهُرْمُزِي، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الدُّنْيَا الْقرشِي، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن عبد الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيّ، قَالَ: إِن لم أكن سمعته

من شُعَيْب بن صَفْوَان، فحدثنا بعض أَصْحَابنَا عَنهُ، عَن الْأَجْلَح الْكِنْدِيّ، عَن عبد الله بن أبي الهديل قَالَ: ضرى بخت نصر أسدين، فألقاهما فِي جب، وجا بدانيال فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمَا، فَلم يهيجاه، فَمَكثَ مَا شَاءَ الله، ثمَّ اشْتهى مَا يَشْتَهِي الآدميون، من الطَّعَام وَالشرَاب، فَأوحى الله إِلَى إرميا، وَهُوَ بِالشَّام، أَن أعد طَعَاما وَشَرَابًا لدانيال، فَقَالَ: يَا رب، أَنا بِالْأَرْضِ المقدسة، ودانيال بِأَرْض بابل من أَرض الْعرَاق، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ أَن أعد مَا أمرناك بِهِ، فَإنَّا سنرسل إِلَيْك من يحملك، وَيحمل مَا أَعدَدْت فَفعل، فَأرْسل الله إِلَيْهِ من حمله، وَحمل مَا أعد، حَتَّى وقف على رَأس الْجب. فَقَالَ دانيال: من هَذَا؟ قَالَ: أَنا إرميا. قَالَ: مَا جَاءَ بك؟ قَالَ: أَرْسلنِي إِلَيْك رَبك. قَالَ: وذكرني؟

قَالَ: نعم. قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي لَا ينسى من ذكره، وَالْحَمْد لله الَّذِي لَا يخيب من رجاه , وَالْحَمْد لله الَّذِي من توكل عَلَيْهِ كَفاهُ، وَالْحَمْد لله الَّذِي من وثق بِهِ لم يكله إِلَى غَيره، وَالْحَمْد لله الَّذِي يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إحسانا، وبالسيئات غفرانا، وَالْحَمْد لله الَّذِي يَجْزِي بِالصبرِ نجاة، وَالْحَمْد لله الَّذِي يكْشف ضرنا، بعد كربنا، وَالْحَمْد لله الَّذِي هُوَ ثقتنا، حِين تسوء ظنوننا بأعمالنا، وَالْحَمْد لله الَّذِي هُوَ رجاءنا، حِين تَنْقَطِع الْحِيَل منا.

الشدائد التي جرت على نبينا محمد صلوات الله عليه

الشدائد الَّتِي جرت على نَبينَا مُحَمَّد صلوَات الله عَلَيْهِ وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي مُحكم كِتَابه، الشدَّة الَّتِي جرت على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى آله الأخيار، فِيمَا اقتصه من قصَّة الْغَار، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَة: 40] . وروى أَصْحَاب الحَدِيث، مَا يطول إِعَادَته بألفاظه وَأَسَانِيده، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما خَافَ أَن يلْحقهُ الْمُشْركُونَ، حِين سَار عَن مَكَّة مُهَاجرا، دخل الْغَار هُوَ أَبُو بكر الصّديق، فاستخفى فِيهِ، فَأرْسل الله عنكبوتا فنسج فِي الْحَال على بَاب الْغَار، وحمامة عششت، وباضت، وفرخت للْوَقْت، فَلَمَّا انْتهى الْمُشْركُونَ إِلَى الْغَار، رَأَوْا ذَلِك، فَلم يشكوا أَنه غَار لم يدْخلهُ حَيَوَان مُنْذُ حِين، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبا بكر، ليريان أَقْدَامهم، ويسمعان كَلَامهم، فَلَمَّا انصرفوا، وأبعدوا، وَجَاء اللَّيْل، خرجا، فسارا نَحْو الْمَدِينَة، فورداها سَالِمين. وروى أَصْحَاب الحَدِيث أَيْضا، من شرح حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،

فِي المحن الَّتِي لحقته من شقّ الفرث عَلَيْهِ، ومحاولة أبي جهل، وَشَيْبَة وَعتبَة ابْني ربيعَة، وَأبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب وَالْعَاص بن وَائِل، وَعقبَة بن أبي

معيط، وَغَيرهم، قَتله، وَمَا كَانُوا يكاشفونه بِهِ، من السب والتكذيب، والاستهزاء والفدع والتأنيب، ورميهم إِيَّاه بالجنون، وقصدهم إِيَّاه غير دفْعَة بأنواع الْأَذَى والعضيهة والافتراء، وحصرهم إِيَّاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَمِيع بني هَاشم فِي الشّعب، وتخويفهم إِيَّاه، وتدبيرهم أَن يقتلوه، حَتَّى بعد، وَبَيت عليا عَلَيْهِ السَّلَام على فرَاشه، مَا يطول اقتصاصه، وَيكثر شَرحه، ثمَّ أعقبه الله تَعَالَى من ذَلِك بالنصر والتمكين، وإعزاز الدَّين، وإظهاره على كل دين، وقمع الجاحدين وَالْمُشْرِكين، وَقتل أُولَئِكَ الْكَفَرَة المارقين والمعاندين، وَغَيرهم من المكذبين الْكَاذِبين، الَّذين كَانُوا عَن الْحق ناكثين،

وبالدين مستهزئين، وَلِلْمُؤْمنِينَ مناصبين متوعدين، وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكاشفين محاربين، وأذل من بَقِي مِنْهُم بعز الْإِسْلَام بعد أَن عاذ بإظهاره، وأضمر الْكفْر فِي إسراره، فَصَارَ من الْمُنَافِقين الملعونين، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

أخبار جاءت في آيات القرآن

أَخْبَار جَاءَت فِي آيَات الْقُرْآن وَهِي تجْرِي فِي هَذَا الْبَاب وتنضاف إِلَيْهِ 1: 86 2 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ مُطَرِّفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ الشُّعَيْثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ: §{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ

حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطَّلَاق: 2-3] ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُمْ 1: 87 3 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ §بَنِي فُلانٍ أَغَارُوا عَلَيَّ، فَذَهَبُوا بِإِبِلِي وَابْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ، لكَذَا وَكَذَا أَهل، مَا فِيهِمْ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، فَسَلِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.

فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهَا. فَقَالَتْ: نِعْمَ مَا رَدَّكَ إِلَيْهِ. فَمَا لَبِثَ أَنْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ إِبِلَهُ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ. فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِمَسْأَلَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطَّلَاق: 2-3] . 1: 88 4 - وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَرَسِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: §{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي

شَأْنٍ} [الرَّحْمَن: 29] ، قَالَ: سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا، وَيَكْشِفُ كَرْبًا، وَيَرْفَعُ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ آخَرِينَ» . أَخبرني مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر الْكَاتِب، قَالَ: أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، أَبُو عمر، قَالَ: حَدثنَا بشر بن مُوسَى الْأَسدي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر الْأَسدي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم، قَالَ: سَمِعت سعيد بن عَنْبَسَة يَقُول: بَيْنَمَا رجل جَالس وَهُوَ يعبث بالحصى ويحذف بهَا، إِذْ رجعت حَصَاة مِنْهَا فَصَارَت فِي أُذُنه، فجهد بِكُل حِيلَة، فَلم يقدر على إخْرَاجهَا، فَبَقيت الْحَصَاة فِي أُذُنه دهرا تؤلمه، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَات يَوْم جَالس، إِذْ سمع قَارِئًا يقْرَأ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النَّمْل: 62] . . . . . الْآيَة

، فَقَالَ الرجل: يَا رب أَنْت الْمُجيب، وَأَنا الْمُضْطَر، فاكشف ضرّ مَا أَنا فِيهِ، فَنزلت الْحَصَاة من أُذُنه. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقد لقِيت أَنا أَبَا عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْمَعْرُوف بِغُلَام ثَعْلَب، وبالزاهد، وحملت عَنهُ، وَأَجَازَ لي جَمِيع مَا يَصح عِنْدِي من رواياته، وَلم أسمع هَذَا الْخَبَر مِنْهُ، إِلَّا أَنه قد دخل فِي الْإِجَازَة حَدثنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن خِدَاش، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه زيد , عَن أَبِيه أسلم: أَن أَبَا عُبَيْدَة حصر، فَكتب إِلَيْهِ عمر: مهما نزل بامرئ من شدَّة، يَجْعَل لَهُ الله بعْدهَا فرجا، وَلنْ يغلب عسر يسرين، فَإِنَّهُ يَقُول: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمرَان: 200] 1: 90 5 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ:

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَخْرٍ: أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَلا أَعْلَمُ إِلا أَنَّ أَنَسًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ §يَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالظُّلُمَاتِ، حِينَ نَادَاهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ، {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 87] ، فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ. فَقَالَتِ الْمَلائِكَةُ: يَا رَبِّ هَذَا صَوْتُ ضَعِيفٍ مَكْرُوبٍ، مِنْ بِلادِ غُرْبَةٍ. فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ، الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ، وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ. قَالُوا: يَا رَبِّ، أَفَلا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُ فِي الرَّخَاءِ، فَتُنَجِّيهِ مِنَ الْبَلاءِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ. قَالَ أَبُو صَخْرٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدِ بْنُ قُسَيْطٍ وَأَنَا أُحَدِّثُهُ بِهَذَا

الْحَدِيثِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: طُرِحَ بِالْعَرَاءِ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْيَقْطِينَةَ. قُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا الْيَقْطِينَةُ؟ قَالَ: شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَرْوِيَةً وَحْشِيَّةً تَأْكُلُ مِنْ حَشِيشِ الأَرْضِ، فَتَجِيءُ، فَتَفْشِجُ لَهُ، وَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا كُلَّ عَشِيَّةٍ بُكْرَةً، حَتَّى نَبَتَ، يَعْنِي لَحْمَهُ. وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، قَبْلَ الإِسْلامِ، فِي ذَلِكَ، بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ: فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةٍ ... مِنَ اللَّهِ لَوْلا اللَّهُ أُلْفِيَ ضَاحِيًا 1: 92 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ

إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ: §لَمَّا ابْتَلَعَ الْحُوتُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَهْوَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الأَرْضِ، فَسَمِعَ يُونُسُ تَسْبِيحَ الْحَصَى فِي الظُّلُمَاتِ، ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ، بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلُمَاتِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ {أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 87] ، {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] ، قَالَ: كَهَيْأَةِ الْفَرْخِ الْمَمْعُوطِ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ رِيشٌ

أبو الحسن بن أبي الليث الكاتب يطلق من حبسه على إثر دعاء دعا به

أَبو الْحسن بن أبي اللَّيْث الْكَاتِب يُطلق من حَبسه على إِثْر دُعَاء دَعَا بِهِ حَدثنِي فَتى من الْكتاب البغدادين، يعرف بِأبي الْحسن بن أبي اللَّيْث، وَكَانَ أَبوهُ من كتاب الجيل، ويتصرف مَعَ لشكرورز بن سهلان الديلمي، أحد الْأُمَرَاء، كَانَ فِي عَسْكَر معز الدولة، قَالَ:

قَرَأت فِي بعض الْكتب، إِذا دهمك أَمر تخافه، فَبت وَأَنت طَاهِر، على فرَاش طَاهِر، وَثيَاب كلهَا طَاهِرَة، واقرأ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، إِلَى آخر ال { [، سبعا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى إِلَى آخر السُّورَة، سبعا، ثمَّ قل: اللَّهُمَّ اجْعَل لي فرجا ومخرجا من أَمْرِي، فَإِنَّهُ يَأْتِيك فِي اللَّيْلَة الأولة أَو الثَّانِيَة، وَإِلَى السَّابِعَة، آتٍ فِي مَنَامك، يَقُول لَك: الْمخْرج مِنْهُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فحبست بعد هَذَا بسنين، حبسة طَالَتْ حَتَّى أَيِست من الْفرج، فَذَكرته يَوْمًا وَأَنا فِي الْحَبْس، فَفعلت ذَلِك، فَلم أر فِي اللَّيْل الأولة، وَلَا الثَّانِيَة، وَلَا الثَّالِث شَيْئا، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة الرَّابِعَة، فعلت ذَلِك على الرَّسْم، فَرَأَيْت فِي مَنَامِي، كَأَن رجلا يَقُول لي: خلاصك على يَد عَليّ بن إِبْرَاهِيم. فَأَصْبَحت من غَد مُتَعَجِّبا، وَلم أكن أعرف رجلا يُقَال لَهُ عَليّ بن إِبْرَاهِيم، فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْمَيْنِ، دخل إِلَيّ شَاب لَا أعرفهُ، فَقَالَ لي: قد كفلت بِمَا عَلَيْك، فَقُمْ، وَإِذا مَعَه رَسُول إِلَى السجان بتسليمي إِلَيْهِ، فَقُمْت مَعَه، فَحَمَلَنِي إِلَى منزلي، وسلمني فِيهِ، وَانْصَرف. فَقلت لَهُم: من هَذَا؟ فَقَالُوا: رجل بزاز من أهل الأهواز، يُقَال لَهُ عَليّ بن إِبْرَاهِيم، يكون

فِي الكرخ، قيل لنا إِنَّه صديق الَّذِي حَبسك، فطرحنا أَنْفُسنَا عَلَيْهِ، فتوسط أَمرك، وَضمن مَا عَلَيْك، وأخرجك. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: فَلَمَّا كَانَ بعد سِنِين، جَاءَنِي عَليّ بن إِبْرَاهِيم هَذَا، وَهُوَ معاملي فِي الْبَز، مُنْذُ سِنِين كَثِيرَة، فذاكرته بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ: نعم، كَانَ هَذَا الْفَتى قد حَسبه عَبدُوس بن أُخْت أبي عَليّ الْحسن بن إِبْرَاهِيم النَّصْرَانِي، خَازِن معز الدولة، وطالبه بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، كَانَت عَلَيْهِ من ضَمَانه، وَكَانَ عَبدُوس لي صديقا، فَجَاءَنِي من سَأَلَني خطابه فِي أَمر هَذَا الرجل، وَجرى الْأَمر على مَا عرفتك.

اللهم اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا

اللَّهُمَّ اجْعَل لي من أَمْرِي فرجا ومخرجا وَمَا أعجب هَذَا الْخَبَر، فَإِنِّي قد وجدته فِي عدَّة كتب، بأسانيد، وَبِغير أَسَانِيد، على اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ، وَالْمعْنَى قريب، وَأَنا أذكر أَصَحهَا عِنْدِي: وجدت فِي كتاب مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ، الَّذِي سَمَّاهُ: (كتاب الْآدَاب الحميدة والأخلاق النفسية) ، حَدثنِي مُحَمَّد بن عمَارَة الْأَسدي، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يزِيد، قَالَ: أَنبأَنَا أنيس بن عمرَان النافعي أَبُو زيد، عَن روح بن الْحَارِث بن حبش الصَّنْعَانِيّ، عَن أَبِيه، عَن جده، أَنه قَالَ لِبَنِيهِ: يَا بني، إِذا دهمكم أَمر، أَو كربكم، فَلَا يبيتن أحد مِنْكُم، إِلَّا وَهُوَ طَاهِر، على فرَاش طَاهِر، فِي لِحَاف طَاهِر، وَلَا تبيتن مَعَه امْرَأَة، ثمَّ ليقْرَأ: وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، سبعا، وَاللَّيْل إِذا يغشي، سبعا، ثمَّ ليقل: اللَّهُمَّ اجْعَل لي من أَمْرِي فرجا ومخرجا، فَإِنَّهُ يَأْتِيهِ آتٍ فِي أول لَيْلَة، أَو فِي الثَّالِثَة، أَو فِي الْخَامِسَة، وَأَظنهُ قَالَ: أَو فِي السَّابِعَة، فَيَقُول لَهُ: الْمخْرج مِمَّا أَنْت فِيهِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ أنيس: فَأَصَابَنِي وجع لم أدر كَيفَ أزيله، فَفعلت أول لَيْلَة هَكَذَا، فَأَتَانِي اثْنَان فَجَلَسَ أَحدهمَا عِنْد رَأْسِي، وَالْآخر عِنْد رجْلي، ثمَّ قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: جسه، فلمس جَسَدِي كُله، فَلَمَّا انْتهى إِلَى مَوضِع من رَأْسِي،

قَالَ: احجم هَاهُنَا، وَلَا تحلق، وَلَكِن اطله بغرا، ثمَّ الْتفت إِلَى أَحدهمَا، أَو كِلَاهُمَا، فَقَالَا لي: كَيفَ لَو ضممت إِلَيْهِمَا وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. قَالَ: فَلَمَّا أَصبَحت سَأَلت أَي شَيْء الغرا؟ فَقيل لي: الخطمي، أَو شَيْء تسْتَمْسك بِهِ المحجمة، فاحتجمت، فبرئت، وَأَنا لَيْسَ أحدث بِهَذَا الحَدِيث أحدا، إِلَّا وجد فِيهِ الشِّفَاء بِإِذن الله تَعَالَى، وأضم إِلَيْهَا التِّين وَالزَّيْتُون.

من يتوكل على الله فهو حسبه

من يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه وَوجدت فِي كتاب أبي الْفرج المَخْزُومِي عبد الْوَاحِد بن نصر، عَن أبي الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن الْعَبَّاس، قَالَ: حَدثنِي أَبُو سَاعِدَة بن أبي الْوَلِيد بن أَحْمد بن أبي دؤاد، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن رَبَاح، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عبد الله أَحْمد بن أبي دؤاد، قَالَ: حَدثنَا الواثق، قَالَ: حَدثنَا المعتصم:

أَن قوما ركبُوا الْبَحْر، فَسَمِعُوا هاتفا يَهْتِف بهم، من يعطيني عشرَة آلَاف دِينَار حَتَّى أعلمهُ كلمة، إِذا أَصَابَهُ غم، أَو أشرف على هَلَاك، فَقَالَهَا، انْكَشَفَ ذَلِك عَنهُ. فَقَامَ رجل من أهل الْمركب، مَعَه عشرَة آلَاف دِينَار، فصاح: أَيهَا الْهَاتِف أَنا أُعْطِيك عشرَة آلَاف ينار، وَعَلمنِي. فَقَالَ: ارْمِ بِالْمَالِ فِي الْبَحْر، فَرمى بِهِ، وَهُوَ بدرتان فيهمَا عشرَة آلَاف دِينَار. فَسمع الْهَاتِف يَقُول: إِذا أَصَابَك غم، أَو أشرفت على هلكة، فاقرأ:] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا {3} } [سُورَة الطَّلَاق: 2-3] . فَقَالَ جَمِيع من فِي الْمركب للرجل: لقد ضيعت مَالك. فَقَالَ: كلا، إِن هَذِه لعظة مَا أَشك فِي نَفعهَا. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، كسر بهم الْمركب، فَلم ينج مِنْهُم أحد غير ذَلِك الرجل، فَإِنَّهُ وَقع على لوح. فَحدث بعد ذَلِك، قَالَ: طرحني الْبَحْر على جَزِيرَة، فَصَعدت أَمْشِي فِيهَا، فَإِذا بقصر منيف، فدخلته، فَإِذا فِيهِ كل مَا يكون فِي الْبَحْر من الْجَوَاهِر وَغَيرهَا، وَإِذا بِامْرَأَة لم أر قطّ أحسن مِنْهَا. فَقلت لَهَا: من أَنْت وَأي شَيْء تعملين هَاهُنَا؟ قَالَت: أَنا بنت فلَان بن فلَان التَّاجِر بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ أبي عَظِيم التِّجَارَة، وَكَانَ لَا يصبر عني، فسافر بِي مَعَه فِي الْبَحْر، فانكسر مركبنا، فاختطفت، حَتَّى حصلت فِي هَذِه الجزيرة، فَخرج إِلَى شَيْطَان من الْبَحْر، يتلاعب بِي سَبْعَة أَيَّام، من غير أَن يطأني، إِلَّا أَنه يلامسني، وَيُؤْذِينِي، ويتلاعب بِي

ثمَّ ينظر إِلَيّ، ثمَّ ينزل إِلَيّ الْبَحْر سَبْعَة أَيَّام، وَهَذَا يَوْم موافاته، فَاتق الله فِي نَفسك واخرج قبل موافاته، وَإِلَّا أَتَى عَلَيْك. فَمَا انْقَضى كَلَامهَا حَتَّى رَأَيْت ظلمَة هائلة، فَقَالَت: قد وَالله جَاءَ، وسيهلكك. فَلَمَّا قرب مني، وَكَاد يَغْشَانِي، قَرَأت الْآيَة، فَإِذا هُوَ قد خر كقطعة جبل، إِلَّا أَنه رماد محترق. فَقَالَت الْمَرْأَة: هلك وَالله، وكفيت أمره، من أَنْت يَا هَذَا الَّذِي منَّ الله عَليّ بك؟ فمت أَنا وَهِي، فانتخبنا ذَلِك الْجَوْهَر، حَتَّى حملنَا كل مَا فِيهِ من نَفِيس وفاخر، ولزمنا السَّاحِل نهارنا أجمع، فَإِذا كَانَ اللَّيْل، رَجعْنَا إِلَى الْقصر. قَالَ: وَكَانَ فِيهِ مَا يُؤْكَل، فَقلت لَهَا: من أَيْن لَك هَذَا؟ فَقَالَت: وجدته هَا هُنَا. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام رَأينَا مركبا بعيد، فلوحنا إِلَيْهِ، فَدخل، فحملنا، فسلمنا الله تَعَالَى إِلَى الْبَصْرَة، فوصفت لي منزل أَهلهَا، فأتيتهم. فَقَالُوا: من هَذَا؟ فَقلت: رَسُول فُلَانَة بنت فلَان. فارتفعت الواعية، وَقَالُوا: يَا هَذَا لقد جددت علينا مصابنا. فَقلت: اخْرُجُوا، فَخَرجُوا. فَأَخَذتهم حَتَّى جِئْت بهم إِلَى ابنتهم، فكادوا يموتون فَرحا، وسألوها عَن خَبَرهَا، فقصته عَلَيْهِم. وسألتهم أَن يزوجوني بهَا، فَفَعَلُوا، وحصلنا ذَلِك الْجَوْهَر رَأس مَال بيني وَبَينهَا. وَأَنا الْيَوْم أيسر أهل الْبَصْرَة، وَهَؤُلَاء أَوْلَادِي مِنْهَا.

المعلي بن أيوب الكاتب يتخلص من الفضل ابن مروان بدعاء دعا به

المعلي بن أَيُّوب الْكَاتِب يتَخَلَّص من الْفضل ابْن مَرْوَان بِدُعَاء دَعَا بِهِ وَذكر أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَبدُوس الجهشياري، فِي كِتَابه، كتاب الوزراء، أَن المعلي بن عبد الله بن الْمُعَلَّى بن أَيُّوب، حَدثهُ عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ لي المعلي بن أَيُّوب: أَعْنَتَنِي الْفضل بن مَرْوَان، وَنحن فِي بعض الْأَسْفَار وطالبني بِعَمَل طَوِيل

يعْمل فِي مُدَّة بعيدَة، واقتضانيه فِي كل يَوْم مرَارًا، إِلَى أَن أَمرنِي عَن المعتصم بِاللَّه أَن لَا أَبْرَح إِلَّا بعد الْفَرَاغ مِنْهُ. فَقَعَدت فِي ثِيَابِي، وَجَاء اللَّيْل، فَجعلت بَين يَدي نفاطة، وَطرح غلماني

أنفسهم حَولي، وَورد عَليّ هم عَظِيم، لأنني قلت: مَا تجاسر على أَن يُوكل بِي إِلَّا وَقد وقف على سوء رَأْي فِي من المعتصم. فَإِنِّي لجالس، وذقني عَليّ يَدي، وَقد مضى اللَّيْل، وَأَنا متفكر، فحملتني عَيْنَايَ، فَرَأَيْت كَأَن شخصا قد مثل بَين يَدي، وَهُوَ يَقُول: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الْأَنْعَام: 63-64] . ثمَّ انْتَبَهت، فَإِذا أَنا بمشعل قد أقبل من بعيد، فَلَمَّا قرب مني كَانَ وَرَاءه مُحَمَّد بن حَمَّاد دنقش صَاحب الحرس، وَقد أنكر نفاطتي، فجَاء يعرف

سَببهَا، فَأَخْبَرته خبري. فَمضى إِلَى المعتصم، فَأخْبرهُ، فَإِذا الرُّسُل يطلبوني، فَدخلت إِلَيْهِ، وَهُوَ قَاعد، وَلم يبْق بَين يَدَيْهِ من الشع إِلَّا أَسْفَله. فَقَالَ لي: مَا خبرك؟ فشرحته لَهُ. فَقَالَ: ويلي على النبطي، يمتهنك، وَأي يَد لَهُ عَلَيْك، أَنْت كاتبي، كَمَا هُوَ كاتبي، انْصَرف. فَلَمَّا وليت، ردني، واستدناني، ثمَّ قَالَ لي: تمْضِي مديدة، ثمَّ ترى فِيهِ مَا تحب. قَالَ: فَانْصَرَفت، وبكرت إِلَى الْفضل على عادتي، لم أنكر شَيْئا.

ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل

ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل وحَدثني أَبُو الْفضل مُحَمَّد عبد الله بن الْمَرْزُبَان الشِّيرَازِيّ الْكَاتِب، فِي المذاكرة، فِي خبر طَوِيل، لست أقوم على حفظه: أَن رجلا كَانَت بَينه وَبَين رجل مُتَمَكن من أَذَاهُ عَدَاوَة، فخافه خوفًا شَدِيدا، وأهمه أمره، وَلم يدر مَا يصنع. فَرَأى فِي مَنَامه، كَانَ قَائِلا يَقُول لَهُ: اقْرَأ فِي كل يَوْم، فِي إِحْدَى رَكْعَتي صَلَاة الْفجْر، ألم تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل إِلَى آخر السُّورَة. قَالَ: فقرأتها، فَمَا مَضَت إِلَّا شهور، حَتَّى كفيت أَمر ذَلِك الْعَدو، وأهلكه الله تَعَالَى، فَأَنا أقرؤها إِلَى الْآن. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: دفعت أَنا إِلَى شدَّة لحقتني شَدِيدَة، من عَدو، فاستترت مِنْهُ، فَجعلت دأبي قِرَاءَة هَذِه السُّورَة فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من صَلَاة الْفجْر، فِي كل يَوْم، وَأَنا أَقرَأ فِي الأولة مِنْهَا: ألم نشرح لَك صدرك إِلَى آخر السُّورَة، لخَبر كَانَ بَلغنِي أَيْضا فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ بعد شهور، كفاني الله أَمر ذَلِك الْعَدو، وأهلكه الله من غير سعي لي فِي ذَلِك، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَأَنا أقرؤها فِي رَكْعَتي الْفجْر إِلَى الْآن.

إذا ضاق بك الصدر ففكر في ألم نشرح

إِذا ضَاقَ بك الصَّدْر ففكر فِي ألم نشرح وَأما الْخَبَر فِي: ألم نشرح لَك صدرك، فَإِن أَبَا بكر بن شُجَاع، الْمُقْرِئ الْبَغْدَادِيّ، الَّذِي كَانَ يخلفني على الْعيار فِي دَار الضَّرْب بسوق الأهواز، فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَثَلَاث مائَة، وَكَانَ خَازِن الْمَسْجِد الْجَامِع بهَا، وَكَانَ شَيخا مُحدثا ثِقَة نبيلا، من أُمَنَاء القَاضِي الْأَحْنَف، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الشَّوَارِب، حَدثنَا بِإِسْنَاد لَهُ ذكره، لم أحفظه، وَلَا الْمَتْن بِلَفْظِهِ، وَبعد عَن يَدي إِخْرَاجه من الأَصْل، وَقد تحريت مقاربة اللَّفْظ بجهدي، وَلَعَلَّه يزِيد أَو ينقص: أَن بعض الصَّالِحين، ألح عَلَيْهِ الْغم، وضيق الصَّدْر، وَتعذر الْأُمُور، حَتَّى كَاد يقنط، فَكَانَ يَوْمًا يمشي، وَهُوَ يَقُول: أرى الْمَوْت لمن أَمْسَى ... على الذل لَهُ أصلح فَهَتَفَ بِهِ هَاتِف، يسمع صَوته، وَلَا يرى شخصه، أَو أرِي فِي النّوم، أَنا الشاك، كَأَن قَائِلا يَقُول: أَلا يأيها الْمَرْء ... الَّذِي الْهم بِهِ برح إِذا ضَاقَ بك الْأَمر ... ففكر فِي ألم نشرح

قَالَ: فواصلت قرَاءَتهَا فِي صَلَاتي، فشرح الله صَدْرِي، وأزال همي وكربي، وَسَهل أَمْرِي، أَو كَمَا قَالَ: وحَدثني غَيره بِهَذِهِ الْخَبَر، على قريب من هَذَا، وَزَادَنِي فِي الشّعْر: فَإِن الْعسر مقرون ... بيسرين فَلَا تَبْرَح وَقد ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، فِي كِتَابه: (كتاب الْفرج بعد الشدَّة) الْبَيْتَيْنِ المتصلين فَقَط، وَقَالَ فِي الآخر مِنْهُمَا: إِذا أعضلك الْأَمر، وَلم يذكر لَهما خَبرا، ويروى أَيْضا: إِذا لج بك الْأَمر. وروى غَيره الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين لأبي الْعَتَاهِيَة، فِي غير حَدِيث لَهُ.

الباب الثاني

الْبَاب الثَّانِي مَا جَاءَ فِي الْآثَار من ذكر الْفرج بعد اللأواء وَمَا يتَوَصَّل بِهِ إِلَى كشف نَازل الشدَّة وَالْبَلَاء أفضل الْعِبَادَة انْتِظَار الْفرج من الله تَعَالَى 1: 109 7 - أَخْبَرَنِي الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ التَّنُوخِيُّ، أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصِّلْحِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ. وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ،

قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§سَلُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» . 1: 110 8 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ الأَنْطَاكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: §«انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَةٌ» . 1: 110 9 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ

بْنُ حَسَنٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حَنْظَلَةَ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§انْتِظَارُ الْفَرَجِ عِبَادَةٌ» 1: 111 10 - حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَامِرٍ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الرِّضَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «§أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» 1: 111 11 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الأَعْرَجُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ

سَعْدَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ: §«وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَالْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»

اشتدي أزمة تنفرجي

اشتدي أزمة تنفرجي 1: 113 12 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَشِّرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §اشْتَدِّي أَزْمَةُ تَنْفَرِجِي حَدثنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن الْجَعْد، قَالَ: أَخْبرنِي شُعْبَة، عَن عَمْرو بن مرّة،

قَالَ: سَمِعت أَبَا وَائِل يحدث عَن كرْدُوس بن عَمْرو، وَكَانَ مِمَّن قَرَأَ الْكتب: إِن الله عز وَجل يَبْتَلِي العَبْد وَهُوَ يُحِبهُ، ليسمع تضرعه

النصر مع الصبر والفرج مع الكرب

22 النَّصْر مَعَ الصَّبْر والفرج مَعَ الكرب 1: 115 13 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمَدِينِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْحِزَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهْرَةُ بْنُ عَمْرٍو التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَنْتَفِعُ بِهِنَّ؟» قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:

" §احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، فَإِذَا سَأَلْتَ، فَسَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ، فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ جَهَدَ الْعِبَادُ أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ، فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ، خَيْرًا كَثِيرًا، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا

المعونة على قدر المئونة

المعونة على قدر المئونة 1: 117 14 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الضَّيْفِ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ فِرَاسِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ §الْمَعُونَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَأْتِي الْعَبْدَ عَلَى قَدْرِ الْمَئُونَةِ، وَإِنَّ الصَّبْرَ يَأْتِي عَلَى قَدْرِ شِدَّةِ الْبَلاءِ. وَرُبَّمَا قَالَ: إِنَّ الْفَرَجَ يَأْتِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى قَدْرِ شِدَّةِ الْبَلاءِ

من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته

من كَانَ فِي حَاجَة أَخِيه كَانَ الله فِي حَاجته 1: 118 15 - حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَهْبُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمَازِنِيُّ، لَفْظًا مِنْ حِفْظِهِ، فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ، بِبَنِي سَدُوسٍ الْبَاطِنَةِ، بِحَضْرَةِ قَبْرِ مُجَاشِعٍ وَمُجَالِدٍ السُّلَمِيِّ، صَاحِبَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْقُرْبِ مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ،

قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ فَكَّ عَنْ مَكْرُوبٍ، فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةٍ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ

إن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه

إِن الله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه 1: 120 16 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَقِيلٍ الْخَوْلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ. وَأَنْبَأَنَا نَصْرُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَكِيعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ. قَالَ أَبِي: وَأَنْبَأَنَا ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، قَالَ:

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، وَأَبِي سَوْرَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §«مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَادَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» 1: 121 17 - أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُغِيثٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَقِيلُ عَنْ ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " §مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، جَاءَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، فِي كِتَابِ السُّنَنِ، الَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ عَنْهُ، مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ، بِاخْتِلافٍ فِي اللَّفْظِ، وَلَيْسَ غَرَضِي جَمْعُ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ، فَآتِي بِهَا مُسْتَقْصَاةً

من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا

من أَكثر الاسْتِغْفَار جعل الله لَهُ من كل هم فرجا 1: 123 18 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ النَّطَّاحُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ زِيَادٍ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: §" مَنْ أَكْثَرَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ 1: 123 19 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ:

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ رَافِعٍ الْحَارِثِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §«قَوْلُ لَا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، دَوَاءٌ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً، أَيْسَرُهَا الْهَمُّ» أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، خَليفَة أبي على الْقَضَاء بهَا، قَالَ: أخبرنَا وَكِيع، أَن الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل أَبَا الْمُنْذر السورمي حَدثهُ، قَالَ: حَدثنَا نصر بن زِيَاد، قَالَ: كنت عِنْد جَعْفَر بن مُحَمَّد، فَأَتَاهُ سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ، فَقَالَ: يَابْنَ رَسُول الله، حَدثنِي، قَالَ: يَا سُفْيَان، إِذا اسْتَبْطَأَتْ الرزق، فَأكْثر من الاسْتِغْفَار، وَإِذا ورد عَلَيْك أَمر تكرههُ، فَأكْثر من لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَإِذا أنعم الله عَلَيْك، فَأكْثر من الْحَمد لله 27

قصة الثلاثة انطبقت عليهم صخرة ونجتهم أعمالهم

قصَّة الثَّلَاثَة انطبقت عَلَيْهِم صَخْرَة ونجتهم أَعْمَالهم 1: 125 20 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ صَالِحٍ الصَّالِحِيُّ أَبُو الْفَرَجِ، مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، صَاحِبِ الْمُصَلَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ طلابٍ الْمَشْغَرَائِيُّ، مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى غَوْطَةِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا: مَشْغَرَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: §" بَيْنَمَا ثَلاثَةُ رَهْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسِيرُونَ، إِذْ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى

غَارٍ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَسَدَّتِ الْغَارَ، فَقَالُوا: تَعَالَوْا فَلْيَسْأَلِ اللَّهَ تَعَالَى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا بِأَفْضَلِ عَمَلِهِ. فَقَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ جَمِيلَةٌ، وَكُنْتُ أَهْوَاهَا، فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَمَّا جَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ، قَالَتِ: اتَّقِ اللَّهَ يَابْنَ عَمِّ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ. فَقُمْتُ عَنْهَا، وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ، أَنِّي فَعَلْتُ هَذَا خَشْيَةً مِنْكَ، وَابْتِغَاءَ مَا عِنْدَكَ، فَأَفْرِجْ عَنَّا، فَانْفَرَجَ عَنْهُمْ ثُلُثُ الصَّخْرَةِ. وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، كُنْتُ أَغْدُو عَلَيْهِمَا بِصبُوحِهِمَا، وَأَرُوحُ عَلَيْهِمَا بِغبُوقِهِمَا، فَغَدَوْتُ عَلَيْهِمَا يَوْمًا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَنْصَرِفَ عَنْهُمَا، فَيَفْقِدَا غَدَاءَهُمَا، فَوَقَفْتُ حَتَّى اسْتَيْقَظَا، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِمَا غَدَاءَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدَكَ، وَخَشْيَةً مِنْكَ، فَأَفْرِجْ عَنَّا، فَانْفَرَجَ الثُّلُثُ الثَّانِي. وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ، أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا، فَلَمَّا دَفَعْتُ إِلَيْهِ أَجْرَهُ، قَالَ: عَمَلِي بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَتَرَكَ عَلَيَّ أَجْرَهُ، وَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمٌ يُؤْخَذُ فِيهِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَمَضَى، فَابْتَعْتُ لَهُ بِأَجْرِهِ غَنَمًا، وَلَمْ أَزَلْ أُنَمِّيهَا وَأَرْعَاهَا، وَهِيَ تَزِيدُ وَتَكْثُرُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ، أَتَانِي، فَقَالَ لِي: يَا هَذَا إِنَّ لِي عِنْدَكَ أَجْرًا، عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ: خُذْ هَذِهِ الْغَنَمَ، فَهِيَ لَكَ، فَقَالَ: تَمْنَعُنِي مِنْ أَجْرِي، وَتَهْزَأُ بِي، فَقُلْتُ: خُذْهَا فَهِيَ لَكَ، فَأَخَذَهَا وَدَعَا لِي، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ هَذَا خَشْيَةً

مِنْكَ، وَابْتِغَاءَ مَا عِنْدَكَ، فَأَفْرِجْ عَنَّا، فَانْفَرَجَ عَنْهُمْ بَاقِي الصَّخْرَةِ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ، وَذُكِرَ الْحَدِيثُ كَذَا، قَالَ مُؤَلِّفُ هَذَا الْكِتَابِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ، رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِدَّةُ طُرُقٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي أَلْفَاظِهِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَلَيْسَ غَرَضِي هُنَا، جَمْعُ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ، فَأَسْتَقْصِي مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ. إِلا أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، غَلَطًا لَا بُدَّ مِنْ تَبْيِينِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ فِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَبْيَنَ مِنْ هَذَا، وَوَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ، فَحَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الأَثْرَمُ، الْمُقْرِئُ الْبَغْدَادِيُّ، بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلاثِينَ

وَثَلاثِ مِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْبَلَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " انْطَلَقَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوا، فَانْحَدَرَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى نَحْوِ الرِّوَايَةِ الأُولَى

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين 1: 129 21 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «§أَلا أُخْبِرُكُمْ وَأُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ، إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاءٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَدَعَا بِهِ، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ؟» فَقِيلَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: دُعَاءُ ذِي النُّونِ، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ

دعاء المريض

دُعَاء الْمَرِيض وجدت فِي كتاب أَلفه مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ، وَسَماهُ: (كتاب الْآدَاب الحميدة والأخلاق النفسية) : حَدثنَا ابْن بشار، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي عدي، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي، قَالَ: كَانَ بِأبي الْحَصَاة، فَكَانَ يلقى، من شدَّة مَا بِهِ، الْبلَاء. قَالَ حميد: فَانْطَلَقت إِلَى بَيت الْمُقَدّس، فَلَقِيت أَبَا الْعَوام، فشكوت إِلَيْهِ الَّذِي بِأبي، وأخبرته خَبره. فَقَالَ: مره فَليدع بِهَذِهِ الدعْوَة: رَبنَا الَّذِي فِي السَّمَاء عَرْشه، رَبنَا الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمه، أَمرك مَاض فِي السَّمَاء وَالْأَرْض، وكما رحمتك فِي السَّمَاء، فاجعلها فِي الأَرْض، اغْفِر لنا ذنوبنا وخطايانا، إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم، اللَّهُمَّ أنزل رَحْمَة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على مَا بفلان من وجع. قَالَ: فَدَعَا بِهِ، فأذهبه الله تَعَالَى عَنهُ.

كلمات الفرج

كَلِمَات الْفرج 1: 131 22 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: §كَلِمَاتُ الْفَرَجِ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الأَرَضِينَ السَّبْعُ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ

دعوات المكروب

دعوات المكروب 1: 132 23 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: §" دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ 1: 132 24 - أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُكْرَمٍ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا

عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ هِلالٍ مَوْلَى غَفْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: عَلَّمَتْنِي أُمِّي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، شَيْئًا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ §تَقُولَهُ عِنْدَ الْكَرْبِ: اللَّهُ رَبِّي، لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا 1: 133 25 - أَخْبَرَنِي مُكْرَمُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّلَمِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي

عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ هِلالٍ مَوْلَى غَفْرَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ §يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: اللَّهُ رَبِّي، لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا حَدَّثَنَا بِالْمَوْصِلِ، فِي مَجْلِسِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ يَسْمَعُ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالثّمدِيِّ، وَهُوَ يَخْلُفُنِي يَوْمَئِذٍ فِي جُمْلَةٍ مِنْ أَعْمَالِي عَلَى الْقَضَاءِ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَسِنُّهُ أَكْثَرُ مِنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ اسْتَدْعَاهُ مِنْهَا لِعُلُوِّ إِسْنَادِهِ، وَعَمِلَ لَهُ مَجْلِسًا بِحَضْرَتِهِ، حَدَّثَ فِيهِ، وَأَحْضَرَنِي وَجَمَاعَةً مَخْصُوصِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ، وَسَمِعْنَا مَعَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَرِيعَةَ الأَزْدِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ

الْبَصْرِيَّانِ، قَالا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ §إِذَا نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ، أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، عَزَّ اللَّهُ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَخْبَرَنِي الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. وَأَخْبَرَنِي الْقَاضِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْكُدَيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي

سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْبَلْخِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ 1: 136 27 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §إِذَا نَزَلَ بِي كَرْبٌ، أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 1: 136 28 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَيُوفِ صَعْبٌ، أَوْ صعيبٌ الْعَنْزِيُّ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: §" مَنْ أَصَابَهُ هَمٌّ، أَوْ غَمٌّ، أَوْ سَقَمٌ، أَوْ شِدَّةٌ، أَوْ ذُلٌّ، أَوْ لأْوَاءٌ، فَقَالَ:

اللَّهُ رَبِّي، لَا شَرِيكَ لَهُ، كَشَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ 1: 137 29 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" مَا أَصَابَ مُسْلِمًا قَطُّ، هَمٌّ، أَوْ حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي فِي يَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَجَلاءَ حُزْنِي، وَذِهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كَرْبَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نَتَعَلَّمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ» 1: 137 30 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الصَّفَّارُ أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ

بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ، عَنْ فَقِيهٍ مِنْ أَهْلِ الأُرْدُنِّ، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ §إِذَا أَصَابَهُ غَمٌّ أَوْ كَرْبٌ يَقُولُ: حَسْبِيَ الرَّبُّ مِنَ الْعِبَادِ، حَسْبِيَ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، حَسْبِيَ الرَّزَّاقُ مِنَ الْمَرْزُوقِ، حَسْبِيَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ حَسْبِي، حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلِ، حَسْبِيَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ 1: 138 31 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْخَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" مَا كَرَبَنِي أَمْرٌ، إِلا تَمَثَّلَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ. . . إِلَى آخِرِ الآيَةِ 1: 138 32 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ

الْبَجَلِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، §إِذَا نَزَلَ بِهِ هَمٌّ، أَوْ غَمٌّ، قَالَ: يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ 1: 139 33 - حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْبُهْلُولِ التَّنُوخِيُّ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَبِي حَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، §إِذَا نَزَلَ بِهِ غَمٌّ أَوْ كَرْبٌ، قَالَ: يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ 1: 139 34 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ،

عَنْ نُعَيْمِ بْنِ مُوَرِّعٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: دُعَاءُ مُوسَى حِينَ تَوَجَّهَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَدُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، §وَدُعَاءُ كُلِّ مَكْرُوبٍ: كُنْتَ وَتَكُونُ، حَيًّا لَا تَمُوتَ، تَنَامُ الْعُيُونُ، وَتَنْكَدِرُ النُّجُومُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، لَا تَأْخُذُكَ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ

دعاء الفرج

دُعَاء الْفرج دُعَاء الْفرج، أعطانيه أَبُو الْحَمد دَاوُد بن النَّاصِر لدين الله واسْمه أَحْمد بن الْهَادِي للحق يحيى بن الْحُسَيْن بن الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بطباطبا ابْن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب، وَقَالَ لي: إِن أَهله يتوارثونه، وَهُوَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا من تحل بِهِ عقد المكاره، ويفل حد الشدائد، وَيَا من يلْتَمس بِهِ الْمخْرج، وَيطْلب مِنْهُ روح الْفرج، أَنْت الْمَدْعُو فِي الْمُهِمَّات، والمفزع فِي الملمات، لَا ينْدَفع مِنْهَا إِلَّا مَا دفعت، وَلَا ينْكَشف مِنْهَا إِلَّا مَا كشفت، قد نزل بِي مَا قد علمت، وَقد كادني ثقله، وألم بِي مَا بهظني حمله، وبقدرتك أوردته عَليّ، وبسلطانك وجهته إِلَيّ، وَلَا مصدر لما أوردت، وَلَا كاشف لما وجهت، وَلَا فاتح لما أغلقت، وَلَا ميسر لما عسرت، وَلَا مُعسر لما يسرت، فصل اللَّهُمَّ على مُحَمَّد، وعَلى آل مُحَمَّد، وَافْتَحْ لي بَاب الْفرج بطولك، واحبس عني سُلْطَان الْهم بحولك، وأنلني حسن النّظر فِيمَا شَكَوْت، وأذقني حلاوة الصنع فِيمَا سَأَلت، وهب لي من لَدُنْك فرجا هنيا عَاجلا، وصلاحا فِي جَمِيع أَمْرِي سنيا شَامِلًا، وَاجعَل لي من عنْدك فرجا قَرِيبا، ومخرجا رحبا، وَلَا تشغلني بالاهتمام عَن تعاهد فروضك، وَاسْتِعْمَال سنتك، فقد ضقت ذرعا بِمَا عراني، وتحيرت فِيمَا نزل بِي ودهاني، وضعفت عَن حمل مَا قد أثقلني هما، وتبدلت بِمَا أَنا فِيهِ قلقا وغما، وَأَنت الْقَادِر على كشف مَا قد وَقعت فِيهِ، وَدفع مَا منيت بِهِ، فافعل بِي ذَلِك يَا سَيِّدي ومولاي، وَإِن لم أستحقه، وأجبني إِلَيْهِ وَإِن لم أستوجبه، يَا ذَا الْعَرْش الْعَظِيم (ثَلَاث مَرَّات) .

دعاء آخر للفرج

دُعَاء آخر لِلْفَرجِ وَأَعْطَانِي دُعَاء آخر لِلْفَرجِ، وَقَالَ لي: إِن أَهله بصعدة، يتوارثونه عَن أهل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلَام: لَا إِلَه إِلَّا الله حَقًا حَقًا، لَا إِلَه إِلَّا الله تعبدا وَرقا، لَا إِلَه إِلَّا الله إِيمَانًا وصدقا، يَا منزل الرَّحْمَة من معادنها، ومنشئ الْبركَة من أماكنها، أَسأَلك أَن تصلي على مُحَمَّد، عَبدك وَنَبِيك، وخيرتك من خلقك وصفيك، وعَلى آله مصابيح الدجى، وأئمة الْهدى، وَأَن تفرج عني فرجا عَاجلا، وتنيلني صلاحا لجَمِيع أَمْرِي شَامِلًا، وَتفعل بِي، فِي ديني ودنياي، مَا أَنْت أَهله، يَا كاشف الكرب، يَا غَافِر الذَّنب، يَا الله، يَا رب.

استغفروا ربكم إنه كان غفارا

اسْتَغْفرُوا ربكُم إِنَّه كَانَ غفارًا حَدثنِي أَيُّوب بن الْعَبَّاس بن الْحسن الَّذِي كَانَ وَزِير المكتفي، وَلَقِيت أَيُّوب بالأهواز فِي حُدُود سنة خمسين وَثَلَاث مائَة، من حفظه، قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن همام، بِإِسْنَاد لست أحفظه: أَن أَعْرَابِيًا شكى إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام شدَّة لحقته، وضيقا فِي الْحَال، وَكَثْرَة من الْعِيَال. فَقَالَ لَهُ: عَلَيْك باستغفار، فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: اسْتَغْفرُوا ربكُم، إِنَّه كَانَ غفارًا. . . الْآيَات. فَعَاد إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد استغفرت كثيرا، وَمَا أرى فرجا مِمَّا أَنا فِيهِ. قَالَ: لَعَلَّك لَا تحسن أَن تستغفر. قَالَ: عَلمنِي. قَالَ: أخْلص نيتك، وأطع رَبك، وَقل: اللَّهُمَّ إِنِّي أستغفرك من كل ذَنْب، قوي عَلَيْهِ بدني بعافيتك، أَو نالته يَدي بِفضل نِعْمَتك، أَو بسطت إِلَيْهِ يَدي بسابغ رزقك، أَو اتكلت فِيهِ، عِنْد خوفي مِنْهُ، على أناتك، أَو وثقت فِيهِ بِحِلْمِك، أَو عولت فِيهِ على كرم عفوك، اللَّهُمَّ إِنِّي أستغفرك من كل ذَنْب خُنْت فِيهِ أمانتي، أَو بخست فِيهِ نَفسِي، أَو قدمت فِيهِ لذتي، أَو آثرت فِيهِ شهوتي، أَو سعيت فِيهِ لغيري، أَو استغويت فِيهِ من تَبِعنِي، أَو غلبت فِيهِ بِفضل حيلتي، أَو أحلّت فِيهِ عَلَيْك يَا مولَايَ، فَلم تؤاخذني على فعلي، إِذْ كنت، سُبْحَانَكَ، كَارِهًا لمعصيتي، لَكِن سبق علمك فِي باختياري، واستعمالي مرادي

وإيثاري، فَحملت عني، لم تدخلني فِيهِ جبرا، وَلم تحملنِي عَلَيْهِ قهرا، وَلم تظلمني شَيْئا، يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ، يَا صَاحِبي عِنْد شدتي، يَا مؤنسي فِي وَحْدَتي، وَيَا حافظي عِنْد غربتي، يَا وليي فِي نعمتي، وَيَا كاشف كربتي، وَيَا سامع دَعْوَتِي، وَيَا رَاحِم عبرتي، وَيَا مقيل عثرتي، يَا إلهي بالتحقيق، يَا ركني الوثيق، يَا رجائي فِي الضّيق، يَا مولَايَ الشيق، وَيَا رب الْبَيْت الْعَتِيق، أخرجني من حلق الْمضيق، إِلَى سَعَة الطَّرِيق، وَفرج من عنْدك قريب وثيق، واكشف عني كل شدَّة وضيق، واكفني مَا أُطِيق وَمَا لَا أُطِيق، اللَّهُمَّ فرج عني كل هم وكرب، وأخرجني من كل غم وحزن، يَا فارج الْهم، وَيَا كاشف الْغم، وَيَا منزل الْقطر، وَيَا مُجيب دَعْوَة الْمُضْطَر، يَا رَحْمَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ورحيمها، صل على خيرتك مُحَمَّد النَّبِي، وعَلى آله الطيبين الطاهرين، وَفرج عني مَا ضَاقَ بِهِ صَدْرِي، وَعيلَ مَعَه صبري، وَقلت فِيهِ حيلتي، وضعفت لَهُ قوتي، يَا كاشف كل ضرّ وبلية، وَيَا عَالم كل سر وخفية، يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ، وأفوض أَمْرِي إِلَى الله، إِن الله بَصِير بالعباد، وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه، عَلَيْهِ توكلت، وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم. قَالَ: الْأَعرَابِي: فاستغفرت بذلك مرَارًا، فكشف الله عز وَجل عني الْغم والضيق، ووسع عَليّ فِي الرزق، وأزال عني المحنة.

لا أبالي على أي حالة أصبحت

لَا أُبَالِي على أَي حَالَة أَصبَحت 1: 145 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: §مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ حَالَةٍ أَصْبَحْتُ، عَلَى مَا أُحِبُّ، أَوْ عَلَى مَا أَكْرَهُ، وَذَلِكَ أَنِّي لَا أَدْرِي الْخَيْرُ فِيمَا أُحِبُّ، أَوْ فِيمَا أَكْرَهُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَة، عَن الْأَعْمَش، عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: إِن لم يكن لنا خير فِيمَا نكره، لم يكن لنا خير فِيمَا نحب

حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو روح، رجل من أهل مرو، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: مر مُحَمَّد بن عَليّ، على مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، فَقَالَ: مَا لي أَرَاك مغموما؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: ذَلِك لدين فدحه. قَالَ: مُحَمَّد بن عَليّ: أفتح لَهُ فِي الدُّعَاء؟ قَالَ: نعم. قَالَ: لقد بورك لعبد فِي حَاجَة أَكثر فِيهَا دُعَاء ربه، كَانَت مَا كَانَت حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن بن صَالح الْأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو روح، قَالَ: قَالَ: ابْن عُيَيْنَة: مَا يكره العَبْد، خير لَهُ مِمَّا يحب، لِأَن مَا يكره، يهيجه على الدُّعَاء، وَمَا يحب، يلهيه عَنهُ 36

دعاء داود عليه السلام

دُعَاء دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نصر التمار، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد بن عبد الْعَزِيز التنوخي، قَالَ: دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام: سُبْحَانَ الله مستخرج الدُّعَاء بالبلاء، سُبْحَانَ الله مستخرج الشُّكْر بالرخاء 37 مَا أقرب النَّعيم من الْبُؤْس حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْعَبْدي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار الْعَطَّار، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عبد الصَّمد الْعمي، قَالَ: سَمِعت مَالك بن دِينَار، يَقُول فِي مَرضه، وَهُوَ من آخر كَلَام سمعته يتَكَلَّم بِهِ: مَا أقرب النَّعيم من الْبُؤْس، يعقبان، ويوشكان زوالا 38

عبيدك بفنائك

عُبَيْدُكَ بِفَنَائِكَ حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد التَّمِيمِي، قَالَ: حَدَّثَنَا شيخ مولى لعبد الْقَيْس، عَن طَاوس، قَالَ: إِنِّي لفي الْحجر ذَات لَيْلَة، إِذْ دخل عَليّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَقلت: رجل صَالح من أهل بَيت الْخَيْر، لأستمعن إِلَى دُعَائِهِ اللَّيْلَة، فصلى، ثمَّ سجد، فأصغيت بسمعي إِلَيْهِ، فَسَمعته يَقُول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سَائِلك بفنائك. قَالَ: طَاوس: فحفظتهن، فَمَا دَعَوْت بِهن فِي كرب، إِلَّا فرج الله عني.

ذبح عجلا بين يدي أمه فخبل

ذبح عجلا بَين يَدي أمه فخبل حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، بالموصل، بِحَضْرَة عضد الدولة، قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو خَليفَة الْفضل بن الْحباب الجُمَحِي القَاضِي، وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حبَان الْأنْصَارِيّ، البصريان، قَالَا: حَدَّثَنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، قَالَ: حَدثنِي حَمَّاد بن سَلمَة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عمرَان الجوفي، عَن نوف الْبكالِي: أَن نَبيا أَو صديقا ذبح عجلا بَين يَدي أمه، فخبل، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك ذَات يَوْم، تَحت شَجَرَة فِيهَا وكر طير، إِذْ وَقع فرخ طَائِر فِي الأَرْض، وتغبر فِي التُّرَاب، فَأَتَاهُ الطَّائِر، فَجعل يطير فَوق رَأسه، فَأخذ النَّبِي أَو الصّديق الفرخ، فمسخه من التُّرَاب، وَأَعَادَهُ فِي وَكره، فَرد الله عز وَجل عَلَيْهِ عقله.

الغمرات ثم ينجلين

الغمرات ثمَّ ينجلين 1: 150 أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَرَّاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ، وَفِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: §مَا أَحْسَنُ شَيْءٍ؟ فَقَالَ كُلُّ رَجُلٍ بِرَأْيِهِ، وَعَمْرٌو سَاكِتٌ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا عَمْرُو؟ قَالَ: الْغَمَرَاتُ ثُمَّ يَنْجَلِينَ

طول الغمة يطمع في انقضائها

طول الْغُمَّة يطْمع فِي انْقِضَائِهَا كتب سعيد بن حميد، إِلَى عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، كتابا من الاستتار، قَالَ فِيهِ: وَأَرْجُو أَن يكْشف الله، بالأمير أعزه الله، هَذِه الْغُمَّة الطَّوِيل مداها، الْبعيد مُنْتَهَاهَا، فَإِن طولهَا، قد أطمع فِي انْقِضَائِهَا، وتراخي أَيَّامهَا، قد سهل سَبِيل الأمل لفنائها.

رقعة أبي الفرج الببغاء إلى القاضي التنوخي مؤلف الكتاب يتوجع له في محنته

رقْعَة أبي الْفرج الببغاء إِلَى القَاضِي التنوخي مؤلف الْكتاب يتوجع لَهُ فِي محنته قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: ولحقتني محنة غَلِيظَة من السُّلْطَان، فَكتب إِلَيّ أَبُو الْفرج عبد الْوَاحِد بن نصر بن مُحَمَّد المَخْزُومِي الْكَاتِب الشَّاعِر النصيّ، الْمَعْرُوف بالببغاء رقْعَة، يتوجع لي فِيهَا، نسختها: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، مُدَدُ النعم، أَطَالَ الله بَقَاء سيدنَا القَاضِي، بغفلات المسار وَإِن طَالَتْ، أَحْلَام، وساعات المحن، وَإِن قصرت بشوائب الْهم، أَعْوَام، وأحظانا بالمواهب، من ارتبطها بالشكر، وانهضنا بأعباء المصائب، من قاومها بِعَدَد الصَّبْر، إِذْ كَانَ أَولهَا بالعظة مذكرا، وَآخِرهَا بمضمون الْفرج مبشرا، وَإِنَّمَا يتعسف ظلم الْفِتْنَة، ويتمسك بتفريط الْعَجز، ضالّ الْحِكْمَة، من كَانَ بِسنة الْغَفْلَة مغمورا، وبضعف الْمِنَّة والرأي مقهورا، وَفِي انتهاز فرص الحزم مفرطا، ولمرصي مَا اخْتَارَهُ الله تَعَالَى فِيهِ متسخطا. وَسَيِّدنَا القَاضِي، أدام الله تأييده، أنور بَصِيرَة، وأطهر سريرة، وأكمل حزما، وأنفذ مضاء وعزما، من أَن يتسلط الشَّك على يقينه أَو يقْدَح اعْتِرَاض الشّبَه فِي مروءته وَدينه، فَيلقى مَا اعْتَمدهُ الله من طَارق الْقَضَاء المحتوم، بِغَيْر واجبه من فرض الرِّضَا وَالتَّسْلِيم، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّمَا تعظم المحنة إِذا تجاوزت،

وَضعف التَّنْبِيه من الله جلّ ذكره إِلَى وَاجِب الْعقُوبَة، وَيصير مَجِيء السُّلْطَان، أدام الله عزه، بهَا، وجوب الْحجَّة، وشغلت الألسن عَن مَحْمُود الثَّنَاء مِنْهَا بمذموم اللائمة، فَإِذا خلت من هَذِه الصِّفَات المليمة، والشوائب المذمومة، كَانَت، وَإِن رَاع ظَاهرهَا، بِصِفَات النعم أولى، وبأسماء الْمنح أَحَق وَأَحْرَى، وَمَتى أعمل ذُو الْفَهم الثاقب، والفكر الصائب، مثله أعزه الله، بكامل عقله، وزائد فَضله، فِيمَا يسامح بِهِ الدُّنْيَا من مرتجع هباتها، وتمد لَهُ من خدع لذاتها، علم أَن أسعد أَهلهَا فِيهَا ببلوغ الآمال، أقربهم فِيمَا خوله من التَّغَيُّر والانتقال، فصفاؤها مشوب بالكدر، وأمنها مروع بالحذر، لِأَن انْتِهَاء الشَّيْء إِلَى حَده، ناقل لَهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَى ضِدّه، فتكاد المحنة، بِهَذِهِ الْقَاعِدَة، لاقترانها من الْفرج بفسيح الرَّجَاء، وانتهاء الشدَّة مِنْهَا إِلَى مستجد الرخَاء، أَن تكون أَحَق بأسماء النعم، وَأدْخل فِي أَسبَاب الْمَوَاهِب وَالْقسم، وبالحقيقة، فَكل وَارِد من الله تَعَالَى على العَبْد، وَإِن جهل مواقع الحكم مِنْهُ، وساءه استتار عواقب الْخيرَة بمفارقة مَا نقل عَنهُ، غير خَال من مصلحَة، بِتَقْدِيم عَاجل، وادخار آجل. وَهَذَا وصف مَا ذكر الله بِهِ سيدنَا القَاضِي، أدام الله تأييده، إِذْ كَانَ للمثوبة مُفِيدا، وللفرج ضَامِنا، وبالحظ مبشرا، وَإِلَى المسرة مُؤديا، وبأفضل مَا عوده الله جلّ اسْمه عَائِدًا، وَهُوَ، أدام الله كِفَايَته، يتنجز ذَلِك بمستحكم الثِّقَة، ووجاهة الدُّعَاء وَالرَّغْبَة، ووسائط الصَّبْر والمعونة، وَلَعَلَّه أَن يكون إِلَيْهِ أقرب من وُرُود رقعتي هَذِه عَلَيْهِ، بقدرة الله ومشيئته، وَلَوْلَا الْخَوْف من الإطالة، والتعرض للإضجار والملالة، بِإِخْرَاج هَذِه الرقعة عَن مَذْهَب الرّقاع، وإدخالها بِذكر مَا نطق بِهِ نَص الْكتاب، من ضَمَان الْيُسْر بعد الْعسر، وَمَا وَردت بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنى، الْأَمْثَال السائرة، والأشعار المتناقلة، فِي جمة الرسائل وحيز المصنفات،

حسن الظن بالله أقرب إلى الفرج

لأودعتها نبذا من ذَلِك، لكني آثرت أَن لَا أعدل بهَا عَمَّا افتتحتها بِهِ، واستخدمتها لَهُ، مُقْتَصرا على اسْتغْنَاء سيدنَا القَاضِي، أدام الله تأييده، عَن ذَلِك، بمرشد حفظه، ووفور فَضله، ومأثور نباهته ونبله، وَالله يبلغهُ ويبلغنا فِيهِ نِهَايَة الآمال، وَلَا يخليه، فِي طول الْبَقَاء، من مواد السَّعَادَة والإقبال، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل. حسن الظَّن بِاللَّه أقرب إِلَى الْفرج قَالَ: بعض الصَّالِحين: اسْتعْمل فِي كل بلية تطرقك حسن الظَّن بِاللَّه عز وَجل، فِي كشفها، فَإِن ذَلِك أقرب بك إِلَيّ الْفرج. الصَّبْر على قدر الْبلَاء وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه قَالَ: أفضل عمل الممتحنين، انْتِظَار الْفرج من الله عز وَجل، وَالصَّبْر على قدر الْبلَاء. وَعنهُ: الصَّبْر كَفِيل بالنجاح، والمتوكل لَا يخيب ظَنّه.

قد ينجلي المكروب عما يسر

قد ينجلي المكروب عَمَّا يسر وَكَانَ يُقَال: الْعَاقِل لَا يذل بِأول نكبة، وَلَا يفرج بِأول نعْمَة، فَرُبمَا أقلع المحبوب عَمَّا يضر، وَأجلى الْمَكْرُوه عَمَّا يسر. شكا عبد الله بن طَاهِر، إِلَى سُلَيْمَان بن يحيى بن معَاذ كَاتبه، بلَاء خافه وتوقعه. فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، لَا يغلبن على قَلْبك، إِذا اغتممت، مَا تكره دون مَا تحب، فَلَعَلَّ الْعَاقِبَة تكون بِمَا تحب، وَتُوفِّي مَا تكره، فَتكون كمن يستسلف الْغم وَالْخَوْف. قَالَ: أما أَنَّك قد فرجت عني مَا أَنا فِيهِ.

لماذا أصبح الاستغفار سنة في الاستسقاء

لماذا أصبح الاسْتِغْفَار سنة فِي الاسْتِسْقَاء بَلغنِي أَن النَّاس قحطوا بِالْمَدِينَةِ، فِي سنة من خلَافَة عمر بن الْخطاب، فَخرج بهم مستسقيا، فَكَانَ أَكثر قَوْله الاسْتِغْفَار. فَقيل لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَو دَعَوْت. فَقَالَ: أما سَمِعْتُمْ قَوْله عز وَجل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {10} يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {12} } [نوح: 10-12] . فَصَارَ الاستكثار من الاسْتِغْفَار فِي الاسْتِسْقَاء سنة إِلَى الْيَوْم.

أقوال الحكماء في الصبر

أَقْوَال الْحُكَمَاء فِي الصَّبْر يحْكى عَن أنوشروان، أَنه قَالَ: جَمِيع المكاره فِي الدُّنْيَا، تَنْقَسِم على ضَرْبَيْنِ، فَضرب فِيهِ حِيلَة، فالاضطراب دواؤه، وَضرب لَا حِيلَة فِيهِ، فالاصطبار شفاؤه. كَانَ بعض الْحُكَمَاء يَقُول: الْحِيلَة فِيمَا لَا حِيلَة فِيهِ، الصَّبْر. وَكَانَ يُقَال: من اتبع الصَّبْر، اتبعهُ النَّصْر. وَمن الْأَمْثَال السائرة: الصَّبْر مِفْتَاح الْفرج، من صَبر قدر، ثَمَرَة الصَّبْر الظفر، عِنْد اشتداد الْبلَاء يَأْتِي الرخَاء. وَكَانَ يُقَال: تضايقي تنفرجي. وَكَانَ يُقَال: إِذا اشْتَدَّ الخناق انْقَطع. وَكَانَ يُقَال: خف المضار، من خلل المسار، وارج النَّفْع، من مَوضِع الْمَنْع، واحرص على الْحَيَاة، بِطَلَب الْمَوْت، فكم من بَقَاء سَببه استدعاء الفنان. وَمن فنَاء سَببه إِيثَار الْبَقَاء، وَأكْثر مَا يَأْتِي الْأَمْن من قبل الْفَزع. وَالْعرب تَقول: إِن فِي الشَّرّ خيارا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَعْنَاهُ، أَن بعض الشَّرّ أَهْون من بعض. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ، إِذا أصابتك مُصِيبَة، فَاعْلَم أَنه قد يكون أجل مِنْهَا، فلتهن عَلَيْك مصيبتك.

شريح القاضي يحمد الله على المصيبة أربع مرات

قَالَ بعض الْحُكَمَاء: عواقب الْأُمُور، تتشابه فِي الغيوب، فَرب مَحْبُوب فِي مَكْرُوه، ومكروه فِي مَحْبُوب، وَكم مغبوط بِنِعْمَة هِيَ داؤه، ومرحوم من دَاء هُوَ شفاؤه. وَكَانَ يُقَال: رب خير من شَرّ، ونفع من ضرّ. وَرُوِيَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عليا، قَالَ: يَابْنَ آدم، لَا تحمل هم يَوْمك الَّذِي لم يَأْتِ، على يَوْمك الَّذِي أَتَى، فَإِنَّهُ إِن يكن فِي عمرك، يأتك الله فِيهِ بمحبتك، وَاعْلَم أَنَّك لن تكسب شَيْئا سوى قوتك، إِلَّا كنت فِيهِ خَازِنًا لغيرك بعد موتك. وَقَالَ ودَاعَة السَّهْمِي، فِي كَلَام لَهُ: اصبر على الشَّرّ إِن قدحك، فَرُبمَا أجلى عَمَّا يفرحك، وَتَحْت الرغوة اللَّبن الصَّرِيح. شُرَيْح القَاضِي يحمد الله على الْمُصِيبَة أَربع مَرَّات قَالَ شُرَيْح: إِنِّي لأصاب بالمصيبة، فَأَحْمَد الله عز وَجل عَلَيْهَا أَربع مَرَّات، أَحْمَده إِذْ لم تكن أعظم مِمَّا هِيَ، وأحمده إِذْ رَزَقَنِي الصَّبْر عَلَيْهَا، وأحمده إِذْ وفقني للاسترجاع، لما أَرْجُو فِيهِ من الثَّوَاب، وأحمده إِذْ لم يَجْعَلهَا فِي ديني.

من ساعة إلى ساعة فرج

من سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج وَيُشبه هَذَا مَا رُوِيَ عَن بزرجمهر بن البختكان الْحَكِيم، الَّذِي كَانَ وَزِير أنوشروان، فَإِنَّهُ حَبسه عِنْد غَضَبه، فِي بَيت كالقبر ظلمَة وضيقا، وصفده بالحديد، وَألبسهُ الحش من الصُّوف، وَأمر أَن لَا يُزَاد فِي كل يَوْم، على قرصين خبْزًا شَعِيرًا، وكف ملح جريش، ودورق مَاء، وَأَن تحصى أَلْفَاظه، فتنقل إِلَيْهِ، فَأَقَامَ بزرجمهر شهورا، لَا تسمع لَهُ لَفْظَة. فَقَالَ أنوشروان: أدخلُوا إِلَيْهِ أَصْحَابه، ومروهم أَن يسألوه، ويفاتحوه فِي الْكَلَام، واسمعوا مَا يجْرِي بَينهم، وعرفونيه. فَدخل إِلَيْهِ جمَاعَة من المختصين، كَانُوا، بِهِ، فَقَالُوا لَهُ: أَيهَا الْحَكِيم، نرَاك فِي هَذَا الضّيق، وَالْحَدِيد، وَالصُّوف، والشدة الَّتِي وَقعت فِيهَا، وَمَعَ هَذَا، فَإِن سحنة وَجهك، وَصِحَّة جسمك، على حَالهمَا، لم تتغيرا، فَمَا السَّبَب فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: إِنِّي عملت جوارشا من سِتَّة أخلاط، آخذ مِنْهُ كل يَوْم شَيْئا، فَهُوَ الَّذِي أبقاني على مَا ترَوْنَ. قَالُوا: فصفه لنا، فَعَسَى أَن نبتلى بِمثل بلواك، أَو أحد من إِخْوَاننَا، فنستعمله وَنصفه لَهُ.

قَالَ: الْخَلْط الأول: الثِّقَة بِاللَّه عز وَجل، والخلط الثَّانِي: علمي بِأَن كل مُقَدّر كَائِن، والخلط الثَّالِث: الصَّبْر خير مَا اسْتَعْملهُ الممتحنون، والخلط الرَّابِع: إِن لم أَصْبِر أَنا فَأَي شَيْء أعمل، وَلم أعين على نَفسِي بالجزع، والخلط الْخَامِس: قد يُمكن أَن أكون فِي شَرّ مِمَّا أَنا فِيهِ، والخلط السَّادِس: من سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج. قَالَ: فَبلغ كسْرَى كَلَامه، فَعَفَا عَنهُ.

يأتي الله بالفرج عند انقطاع الأمل واستبهام الحيل

يَأْتِي الله بالفرج عِنْد انْقِطَاع الأمل واستبهام الْحِيَل فصل لبَعض كتاب زَمَاننَا، وَهُوَ عَليّ بن نصر بن عَليّ الطَّبِيب: وكما أَن الله جلّ وَعلا يَأْتِي بالمحبوب، من الْوَجْه الَّذِي قدر وُرُود الْمَكْرُوه مِنْهُ، وَيفتح بفرج، عِنْد انْقِطَاع الأمل، واستبهام وُجُوه الْحِيَل، ليحض سَائِر خلقه، بِمَا يُرِيهم من تَمام قدرته، على صرف الرَّجَاء إِلَيْهِ، وإخلاص آمالهم فِي التَّوَكُّل عَلَيْهِ، وَأَن لَا يزووا وُجُوههم فِي وَقت من الْأَوْقَات عَن توقع الرّوح مِنْهُ، فَلَا يعدلُوا بآمالهم على أَي حَال من الْحَالَات، عَن انْتِظَار فرج يصدر عَنهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضا، يسرهم فِيمَا ساءهم، بِأَن كفاهم بمحنة يسيرَة، مَا هُوَ أعظم مِنْهَا، وافتداهم بملمة سهلة، مِمَّا كَانَ أنكى فيهم لَو لحقهم. قَالَ إِسْحَاق العابد: رُبمَا امتحن الله العَبْد، بمحنة يخلصه بهَا من الهلكة، فَتكون تِلْكَ المحنة، أجل نعْمَة. قَالَ: وَسمعت أَن من احْتمل المحنة، وَرَضي بتدبير الله تَعَالَى فِي النكبة، وصبر على الشدَّة، كشف لَهُ عَن مَنْفَعَتهَا، حَتَّى يقف على المستور عَنهُ من مصلحتها. وَقَالَ عبد الله بن المعتز: مَا أوطأ رَاحِلَة الواثق بِاللَّه، وآنس مثوى الْمُطِيع لله.

حكى بعض النَّصَارَى، أَن بعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، قَالَ: المحن تَأْدِيب من الله، وَالْأَدب لَا يَدُوم، فطوبى لمن تصبر على التَّأْدِيب، وَتثبت عِنْد المحنة، فَيجب لَهُ لبس إكليل الْغَلَبَة، وتاج الْفَلاح، الَّذِي وعد الله بِهِ محبيه، وَأهل طَاعَته. قَالَ إِسْحَاق: احذر الضجر، إِذا أصابتك أسنة المحن، وأعراض الْفِتَن، فَإِن الطَّرِيق الْمُؤَدِّي إِلَى النجَاة صَعب المسلك. قَالَ: بزرجمهر: انْتِظَار الْفرج بِالصبرِ، يعقب الِاغْتِبَاط.

حسن الظن بالله لا يخيب

حسن الظَّن بِاللَّه لَا يخيب فصل آخر، لبَعض كتاب زَمَاننَا، وَهُوَ عَليّ بن الْحسن بن نصر بن بشر الطَّبِيب: كَمَا أَن الرَّجَاء مَادَّة الصَّبْر، والمعين عَلَيْهِ، فَكَذَلِك عِلّة الرَّجَاء ومادته، حسن الظَّن بِاللَّه، الَّذِي لَا يجوز أَن يخيب، فَإنَّا قد نستقري الكرماء، فنجدهم يرفعون من أحسن ظَنّه بهم، ويتحوبون من تخييب أمله فيهم، ويتحرجون من إخفاق رَجَاء من قصدهم، فَكيف بأكرم الأكرمين، الَّذِي لَا يعوزه أَن يمنح مؤمليه، مَا يزِيد على أمانيهم فِيهِ، وَأَعْدل الشواهد بمحبة الله جلّ ذكره، لتمسك عَبده برحابه، وانتظار الرّوح من ظله ومآبه، أَن الْإِنْسَان لَا يَأْتِيهِ الْفرج وَلَا تُدْرِكهُ النجَاة، إِلَّا بعد إخفاق أمله فِي كل مَا كَانَ يتَوَجَّه نَحوه بأمله ورغبته، وَعند انغلاق مطالبه، وَعجز حيلته، وتناهي ضره ومحنته، ليَكُون ذَلِك باعثا لَهُ على صرف رجائه أبدا إِلَى الله عز وَجل، وزاجرا لَهُ على تجَاوز حسن ظَنّه بِهِ.

يدرك الصبور أحمد الأمور

يدْرك الصبور أَحْمد الْأُمُور وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود: الْفرج وَالروح، فِي الْيَقِين وَالرِّضَا، والهم والحزن، فِي الشَّك والسخط. وَكَانَ يَقُول: الصبور، يدْرك أَحْمد الْأُمُور. قَالَ: أبان بن تغلب: سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: من أفضل آدَاب الرِّجَال، أَنه نزلت بأحدهم جَائِحَة، اسْتعْمل الصَّبْر عَلَيْهَا، وألهم نَفسه الرَّجَاء لزوالها، حَتَّى كَأَنَّهُ لِصَبْرِهِ يعاين الْخَلَاص مِنْهَا والغناء، توكلا على الله عز وَجل، وَحسن ظن بِهِ، فَمَتَى لزم هَذِه الصّفة، لم يلبث أَن يقْضِي الله حَاجته، ويزيل كربته، وينجح طلبته، وَمَعَهُ دينه وَعرضه ومروءته.

رب حياة سببها طلب الموت وموت سببه طلب الحياة

رب حَيَاة سَببهَا طلب الْمَوْت وَمَوْت سَببه طلب الْحَيَاة روى الْأَصْمَعِي، عَن أَعْرَابِي، أَنه قَالَ: خف الشَّرّ من مَوضِع الْخَيْر، وارج الْخَيْر مَوضِع الشَّرّ، فَرب حَيَاة سَببهَا طلب الْمَوْت، وَمَوْت سَببه طلب الْحَيَاة، وَأكْثر مَا يَأْتِي الْأَمْن من نَاحيَة الْخَوْف. قَالَ: مؤلف هَذَا الْكتاب: مَا أقرب هَذَا الْكَلَام، من قَول قطري بن الْفُجَاءَة الْخَارِجِي، ذكره أَبُو تَمام الطَّائِي، فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالحماسة: لَا يركنن أحد إِلَى الإحجام ... يَوْم الوغى متخوفا لحمام فَلَقَد أَرَانِي للرماح دريئة ... من عَن يَمِيني مرّة وأمامي حَتَّى خضبت بِمَا تحدر من دمي ... أحناء سرجي أَو عنان لجامي ثمَّ انصرفت وَقد أصبت وَلم أصب ... جذع البصيرة قارح الْإِقْدَام فَهَذَا من أحب الْمَوْت، طلبا لحياة الذّكر.

وَقد أفْصح بِهَذَا الْحصين بن الْحمام المري، حَيْثُ يَقُول: تَأَخَّرت أستبقي الْحَيَاة فَلم أجد ... لنَفْسي حَيَاة مثل أَن أتقدما وَهَذَا كثير متسع، وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا نَحن فِيهِ بسبيل، فنستوعبه ونستوفيه، وَلَكِن الحَدِيث ذُو شجون، وَالشَّيْء بالشَّيْء يذكر، ونعود إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ.

أقوال في تهوين المصائب

أَقْوَال فِي تهوين المصائب قَالَ: بعض عقلاء التُّجَّار: مَا أَصْغَر الْمُصِيبَة بالأرباح، إِذا عَادَتْ بسلامة الْأَرْوَاح. وَكَأَنَّهُ من قَول الْعَرَب: إِن تسلم الجلة فالسخل هدر. وَمن كَلَامهم: لَا تيأس أَرض من عمرَان، وَإِن جفاها الزَّمَان. والعامة تَقول: نهر جرى فِيهِ المَاء، لابد أَن يعود إِلَيْهِ. وَقَالَ تيمسطوس: لم يتفاضل أهل الْعُقُول وَالدّين، إِلَّا فِي اسْتِعْمَال الْفضل فِي حَال الْقُدْرَة وَالنعْمَة، وابتذال الصَّبْر فِي حَال الشدَّة والمحنة. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: الْعَاقِل يتعزى فِيمَا نزل بِهِ من الْمَكْرُوه بأمرين، أَحدهمَا السرُور بِمَا بَقِي لَهُ، وَالْآخر رَجَاء الْفرج مِمَّا نزل بِهِ، وَالْجَاهِل يجزع فِي محنته بأمرين، أَحدهمَا استكثار مَا أُدي إِلَيْهِ، وَالْآخر تخوفه مِمَّا هُوَ أَشد مِنْهُ.

كلمات في الصبر على المحنة

كَلِمَات فِي الصَّبْر على المحنة وَكَانَ يُقَال: المحن آدَاب الله عز وَجل لخلقه، وتأديب الله يفتح الْقُلُوب، والأسماع، والأبصار. وَوصف الْحسن بن سهل المحن، فَقَالَ: فِيهَا تمحيص من الذَّنب، وتنبيه من الْغَفْلَة، وَتعرض للثَّواب بِالصبرِ، وتذكير بِالنعْمَةِ، واستدعاء للمثوبة، وَفِي نظر الله عز وَجل وقضائه الْخِيَار. وَبَلغنِي هَذَا الْخَبَر على وَجه آخر: قرئَ على أبي بكر الصولي، وَأَنا حَاضر أسمع، بِالْبَصْرَةِ فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، فِي كِتَابه: (كتاب الوزراء) : حَدثكُمْ أَبُو ذكْوَان الْقَاسِم بن إِسْمَاعِيل، قَالَ: سَمِعت أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن صول الْكَاتِب، يصف الْفضل بن سهل، وَيذكر تقدمه، وَعلمه، وَكَرمه، وَكَانَ مِمَّا حَدثنِي

إنما يبتلى الصالحون

بِهِ: أَنه برِئ من عِلّة كَانَ فِيهَا، فَجَلَسَ للنَّاس، وهنوه بالعافية، فَلَمَّا فرغ النَّاس من كَلَامهم، قَالَ الْفضل: إِن فِي الْعِلَل لنعما لَا يَنْبَغِي للعاقل أَن يجهلها: تمحيص للذنب، وَتعرض لثواب الصَّبْر، وإيقاظ من الْغَفْلَة، وإذكار بِالنعْمَةِ فِي حَال الصِّحَّة، واستدعاء للمثوبة، وحض على الصَّدَقَة، وَفِي قَضَاء الله وَقدره بعد، الْخِيَار. إِنَّمَا يبتلى الصالحون وَكتب مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، إِلَى عبد الله بن عَبَّاس، حِين سيره ابْن الزبير

عَن مَكَّة، إِلَى الطَّائِف: أما بعد، فَإِنَّهُ بَلغنِي أَن ابْن الزبير سيرك إِلَى الطَّائِف، فأحدث الله عز وَجل لَك بذلك أجرا، وَحط بِهِ عَنْك وزرا، يَابْنَ عَم، إِنَّمَا يبتلى الصالحون، وتعد الْكَرَامَة للْأَخْبَار، وَلَو لم تؤجر إِلَّا فِيمَا تحب، لقل الْأجر، وَقد قَالَ: الله تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 216] عزم الله لنا وَلَك، بِالصبرِ على الْبلَاء، وَالشُّكْر على النعماء، وَلَا أشمت بِنَا وَبِك الْأَعْدَاء، وَالسَّلَام.

النعمة والعافية تبطران الإنسان

النِّعْمَة والعافية تبطران الْإِنْسَان وَكتب بعض الْكتاب إِلَى صديق لَهُ فِي محنة لحقته: إِن الله تَعَالَى ليمتحن العَبْد، ليكْثر التَّوَاضُع لَهُ، والاستعانة بِهِ، ويجدد الشُّكْر على مَا يوليه من كِفَايَته، وَيَأْخُذ بِيَدِهِ فِي شدته، لِأَن دوَام النعم والعافية، يبطران الْإِنْسَان، حَتَّى يعجب بِنَفسِهِ، ويعدل عَن ذكر ربه، وَقد قَالَ الشَّاعِر: لَا يتْرك الله عبدا لَيْسَ يذكرهُ ... مِمَّن يؤدبه أَو من يؤنبه أَو نعْمَة تَقْتَضِي شكرا يَدُوم لَهُ ... أَو نقمة حِين ينسى الشُّكْر تنكبه كَلِمَات فِي الشُّكْر على الْعَافِيَة وَالصَّبْر على الشدَّة وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْخَيْر الَّذِي لَا شَرّ فِيهِ، هُوَ الشُّكْر مَعَ الْعَافِيَة، وَالصَّبْر عِنْد المحنة، فكم من منعم عَلَيْهِ غير شَاكر، وَكم مبتلى بمحنة وَهُوَ غير صابر. وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي، فِي كِتَابه: (كتاب الْفرج بعد الشدَّة والضيقة) كَانَ ابْن شبْرمَة إِذا نزلت بِهِ شدَّة، يَقُول: سَحَابَة ثمَّ تنقشع. وَقَالَ فِي كِتَابه هَذَا، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، قَالَ: قَالَ بعض

الْحُكَمَاء: آخر الْهم، أول الْفرج، وَكَانَ جَعْفَر يَقُول: قد وَجَدْنَاهُ كَذَلِك. وَقد ذكر هَذَا الْخَبَر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، فِي كِتَابه: (كتاب الْفرج بعد الشدَّة) عَن الْمَدَائِنِي، هَكَذَا. وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي فِي كِتَابه: (كتاب الْفرج بعد الشدَّة) ، فَقَالَ: 1: 172 37 - حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: §لأَنْ أَكُونَ فِي شِدَّةٍ، أَتَوَقَّعُ بَعْدَهَا رَخَاءً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي رَخَاءٍ، أَتَوَقَّعُ بَعْدَهُ شِدَّةً

لو كان العسر في كوة لجاء يسران فأخرجاه

لَو كَانَ الْعسر فِي كوَّة لجاء يسران فأخرجاه وَذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِغَيْر إِسْنَاد، أَنه قَالَ: «لَو كَانَ الْعسر فِي كوَّة، لجاء يسران، فأخرجاه» . قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: كَانَ لي فِي هَذَا الحَدِيث، خبر طريف، وَذَلِكَ أَنِّي كنت قد لجأت إِلَى البطيحة، هَارِبا من نكبة لحقتني، واعتصمت بأميرها معِين الدولة أبي الْحُسَيْن عمرَان بن شاهين السّلمِيّ، على مَا كَانَ يَقُول رَحمَه

الله، فألفيت هُنَاكَ جمَاعَة من معارفي، بِالْبَصْرَةِ وواسط، خَائِفين على نُفُوسهم، قد هربوا من ابْن بَقِيَّة، الَّذِي كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت وزيرا، ولجئوا إِلَى البطيحة، فَكُنَّا نَجْتَمِع فِي الْمَسْجِد الْجَامِع بشقشى الَّذِي بناه معز الدولة أَبُو الْحُسَيْن، فنتشاكى أحوالنا، ونتمنى الْفرج مِمَّا نَحن فِيهِ من الْخَوْف والشدة والشقاء. فَقَالَ لي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله بن جيشان الصلحي التَّاجِر، وَكَانَ هَذَا فِي يَوْم الْجُمُعَة لتسْع لَيَال خلون من جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسِتِّينَ وَثَلَاث مائَة: 1: 174 38 - حَدَّثَنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ قَنِيفٍ، وَكَانَ أَحَدَ خُلَفَاءِ الْحُجَّابِ فِي دَارِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَهُوَ شَيْخٌ مَشْهُورٌ، مُلازِمٌ الآنَ خِدْمَةَ مُعِينِ الدَّوْلَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ مَنِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §«لَوْ دَخَلَ الْعُسْرُ كُوَّةً، جَاءَ يُسْرَانِ فَأَخْرَجَاهُ» فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ بَدِيهًا: إِنَّا رَوَيْنَا عَنِ النَّبِيِّ رَسُولِ ... اللَّهِ فِيمَا أُفِيدَ مِنْ أَدَبِهِ لَوْ دَخَلَ الْعُسْرُ كُوَّةَ لأَتَى ... يُسْرَانِ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنْ ثُقْبِهِ

فَمَا مَضَى عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ، إِلا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي، وَعَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، مِنَ الْمُمْتَحنِينَ، وَرَدَّنَا إِلَى عَوَائِدِهِ عِنْدَنَا، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ 1: 175 وَجَدْتُ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا، فَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ، مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ ابْنِ الْبُهْلُولِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْجَعْدِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: §لَوْ أَنَّ الْعُسْرَ دَخَلَ فِي جُحْرٍ، لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} } [الشَّرْح: 5-6] . وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ بِإِسْنَادِهِ 1: 175 40 - وَأَخْبَرَنِي أَبِي: قَالَ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ شُرَيْحٍ،

قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْظُرُ إِلَى حَجَرٍ بِحِيَالِ وَجْهِهِ، فَقَالَ: §لَوْ جَاءَتِ الْعُسْرَةُ حَتَّى تَدْخُلَ هَذَا الْحَجَرَ، لَجَاءَتِ الْيُسْرَةُ حَتَّى تُخْرِجَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا {6} } [الشَّرْح: 5-6]

كلمات في انفراج المحن

كَلِمَات فِي انفراج المحن وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، فِي كِتَابه (كتاب الْفرج بعد الشدَّة) ، بِغَيْر إِسْنَاد: أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: عِنْد تناهي الشدَّة، تكون الفرجة، وَعند تضايق الْبلَاء، يكون الرخَاء، وَمَعَ الْعسر، يكون الْيُسْر. وَذكر عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام، أَنه قَالَ: مَا أُبَالِي بالعسر رميت، أَو باليسر، لِأَن حق الله تَعَالَى فِي الْعسر الرِّضَا وَالصَّبْر، وَفِي الْيُسْر الْحَمد وَالشُّكْر. قَالَ: مؤلف هَذَا الْكتاب: حَدثنِي بعض الشِّيعَة، بِغَيْر إِسْنَاد، قَالَ: قصد أَعْرَابِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عليا عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: إِنِّي ممتحن، فعلمني شَيْئا أنتفع بِهِ. فَقَالَ: يَا أَعْرَابِي إِن للمحن أوقاتا، وَلها غايات، فاجتهاد العَبْد فِي محنته قبل إِزَالَة الله تَعَالَى إِيَّاهَا، زِيَادَة فِيهَا، يَقُول الله عز وَجل: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] ، وَلَكِن، اسْتَعِنْ بِاللَّه، واصبر، وَأكْثر من الاسْتِغْفَار، فَإِن الله عز وَجل وعد الصابرين خيرا، وَقَالَ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {10} يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {12} } [نوح: 10-12] ، فَانْصَرف الرجل. فَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام: إِذا لم يكن عون من الله للفتى ... فَأول مَا يجني عَلَيْهِ اجْتِهَاده

الوزير المهلبي يجيئه الغياث من الله تعالى

الْوَزير المهلبي يَجِيئهُ الغياث من الله تَعَالَى حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد المهلبي، وَفِي وزارته، قَالَ: كنت فِي وَقت من الْأَوْقَات، يَعْنِي فِي أول أمره قد دفعت إِلَى شدَّة شَدِيدَة، وَخَوف عَظِيم، لَا حِيلَة لي فيهمَا، فأقمت يومي قلقا، وهجم اللَّيْل، فَلم أعرف الغمض، فلجأت إِلَى الصَّلَاة وَالدُّعَاء، وَأَقْبَلت على الْبكاء فِي سجودي، والتضرع وَمَسْأَلَة الله عز وَجل، تَعْجِيل الْفرج لي، وأصبحت من غَد، على قريب من حَالي، إِلَّا أَنِّي قد سكنت قَلِيلا، فَلم يَنْسَلِخ الْيَوْم حَتَّى جَاءَنِي الغياث من الله تَعَالَى، وَفرج عني مَا كنت فِيهِ، على أفضل مَا أردْت، فَقلت: بعثت إِلَى رب العطايا رِسَالَة ... توسل لي فِيهَا دُعَاء مناصح فجَاء جَوَاب بالإجابة وانجلت ... بهَا كرب ضَاقَتْ بِهن الجوانح

عند تناهي الشدة تكون الفرجة

عِنْد تناهي الشدَّة تكون الفرجة أخبرنَا أَبُو عبيد الله مُحَمَّد بن عمرَان بن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أخبرنَا السكن بن سعيد، عَن مُحَمَّد بن عباد، عَن ابْن الْجراح الْكَلْبِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ عَمْرو بن أحيحة الأوسي يَقُول: عِنْد تناهي الشدَّة، تكون الفرجة، وَعند تضايق الْبلَاء، يكون الرخَاء، وَلَا أُبَالِي أَي الْأَمريْنِ نزل بِي عسر أم يسر، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يَزُول بِصَاحِبِهِ.

المنصور العباسي يحول بين الإمام الصادق وبين الحج

الْمَنْصُور العباسي يحول بَين الإِمَام الصَّادِق وَبَين الْحَج أَخْبرنِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، خلفية أبي على الْقَضَاء بهَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس اليزيدي، قَالَ: حَدثنِي عمي الْفضل بن مُحَمَّد اليزيدي، قَالَ: أَرَادَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الْحَج، فَمَنعه الْمَنْصُور، فَقَالَ: الْحَمد لله الْكَافِي، سُبْحَانَ الله الْأَعْلَى، حسبي الله وَكفى، لَيْسَ من الله منجى، مَا شَاءَ الله قضى، لَيْسَ وَرَاء الله مُنْتَهى، توكلت على الله رَبِّي وربكم، مَا من دَابَّة إِلَّا وَهُوَ آخذ بناصيتها، إِن رَبِّي على صِرَاط مُسْتَقِيم، اللَّهُمَّ إِن هَذَا عبد من عبيدك، خلقته كَمَا خلقتني، لَيْسَ لَهُ عَليّ فضل، إِلَّا مَا فضلته عَليّ بِهِ، فَاكْفِنِي شَره، وارزقني خَيره، واقدح لي فِي قلبه الْمحبَّة، واصرف عني أَذَاهُ، لَا إِلَه إِلَّا أَنْت، سُبْحَانَ الله رب الْعَرْش الْعَظِيم، وَصلى الله على مُحَمَّد النَّبِي وعَلى آله وَسلم كثيرا حُمَيْدُ بْنُ حَمَّادٍ. قَالَ: فَأذن لَهُ الْمَنْصُور فِي الْحَج.

الباب الثالث

الْبَاب الثَّالِث من بشر بفرج من نطق فال وَنَجَا من محنة بقول أَو دُعَاء أَو ابتهال أعرابية ذهب الْبرد بزرعها فعوضت خيرا أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي بِالْبَصْرَةِ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع عَن البرقي، قَالَ: رَأَيْت امْرَأَة بالبادية، وَقد جَاءَ الْبرد فَذهب بزرع كَانَ لَهَا، فجَاء النَّاس يعزونها، فَرفعت طرفها إِلَى السَّمَاء، وَقَالَت: اللَّهُمَّ أَنْت المأمول لأحسن الْخلف، وبيدك التعويض عَمَّا تلف، فافعل بِنَا مَا أَنْت أَهله، فَإِن أرزاقنا عَلَيْك، وآمالنا مصروفة إِلَيْك. قَالَ: فَلم أَبْرَح، حَتَّى جَاءَ رجل من الأجلاء، فَحدث بِمَا كَانَ، فوهب لَهَا خمس مائَة دِينَار.

المعتضد يتخلص من سجنه ويبطش بالوزير إسماعيل بن بلبل

المعتضد يتَخَلَّص من سجنه ويبطش بالوزير إِسْمَاعِيل بن بلبل وحَدثني أبي فِي المذاكرة، من لَفظه وَحفظه، وَلم أكتبه عَنهُ فِي الْحَال، وعلق بحفظي، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَلَعَلَّ اللَّفْظ يزِيد أَو ينقص، عَن أبي مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن حمدون، لَا أَظن إِلَّا أَنه هُوَ سَمعه مِنْهُ أَو حَدثهُ من سَمعه من عبد الله بن أَحْمد بن حمدون، نديم المعتضد بِاللَّه، عَن المعتضد، أَنه قَالَ:

لما ضرب إِسْمَاعِيل بن بلبل بيني وَبَين أبي الْمُوفق، فأوحشه مني، حَتَّى حَبَسَنِي الحبسة الْمَشْهُورَة، وَكنت أَتَخَوَّف الْقَتْل صباحا وَمَسَاء، وَلَا آمن أَن يرفع إِسْمَاعِيل عني، مَا يزِيد فِي غيظ الْمُوفق عَليّ، فيأمر بقتلي. فَكنت كَذَلِك، حَتَّى خرج الْمُوفق إِلَى الْجَبَل، فازداد خوفي. وأشفقت أَن يحدثه عني إِسْمَاعِيل بكذب، فَيجْعَل غيبته طَرِيقا إِلَيْهِ، فَلَا يكشفه، وَيَأْمُر بقتلي، فَأَقْبَلت على الدُّعَاء، والتضرع إِلَى الله، والابتهال فِي تخليصي. وَكَانَ إِسْمَاعِيل يجيئني فِي كل يَوْم، مراعيا خبري، يريني أَن ذَلِك خدمَة لي.

فَدخل إِلَى يَوْمًا: وَبِيَدِي الْمُصحف، وَأَنا أَقرَأ، فتركته، وَأخذت أحادثه. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، أَعْطِنِي الْمُصحف لأتفاءل لَك بِهِ، فَلم أجبه بِشَيْء. فَأخذ الْمُصحف، ففتحه، فَكَانَ فِي أول سطر مِنْهُ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَاف: 129] ، فاسود وَجهه، واربد، وخلط الْوَرق. وفتحه الثَّانِيَة، فَخرج {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [الْقَصَص: 5] إِلَى قَوْله: {يَحْذَرُونَ} [الْقَصَص: 6] ، فازداد قلقا واضطرابا. وفتحه الثَّالِث: فَخرج {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النُّور: 55] . فَوضع الْمُصحف من يَده، وَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، أَنْت وَالله الْخَلِيفَة، بِغَيْر شكّ، فَمَا حق بشارتي؟ فَقلت: الله، الله، فِي أَمْرِي، احقن دمي، أسأَل الله أَن يبقي أَمِير الْمُؤمنِينَ، والأمير النَّاصِر، وَمَا أَنا وَهَذَا؟ وَمثلك فِي عقلك، لَا يُطلق مثل هَذَا القَوْل بِمثل هَذَا الِاتِّفَاق، فَأمْسك عني.

وَمَا زَالَ يحدثني، ويخرجني من حَدِيث، ويدخلني فِي غَيره، إِلَى أَن جرى حَدِيث مَا بيني وَبَين أبي، فَأقبل يحلف لي بأيمان غَلِيظَة، أَنه لم يكن لَهُ فِي أَمْرِي صنع، وَلَا سِعَايَة بمكروه، فصدقته، وَلم أزل أخاطبه بِمَا تطيب بِهِ نَفسه، خوفًا من أَن تزيد وحشته، فيسرع فِي التَّدْبِير لتلفي، إِلَى أَن انْصَرف. ثمَّ صَار إِلَي بعد ذَلِك، وَأخذ فِي التنصل والاعتذار، وَأَنا أظهر لَهُ التَّصْدِيق وَالْقَبُول، حَتَّى سكن، وَلم يشك أَنِّي معترف بِبَرَاءَة ساحته. فَمَا كَانَ بأسرع من أَن جَاءَ الْمُوفق من الْجَبَل، وَقد اشتدت عَلَيْهِ، وَمَات، فَأَخْرجنِي الغلمان من الْحَبْس، فصيروني مَكَانَهُ، وَفرج الله عني، وقاد الْخلَافَة إِلَيّ، ومكنني من عدوي إِسْمَاعِيل بن بلبل، فأنفذت حكم الله فِيهِ

قال الواثق: لا أترك من يرجو الفرج يموت في حبسي

قَالَ الواثق: لَا أترك من يرجو الْفرج يَمُوت فِي حبسي وحَدثني عَليّ بن هِشَام الْكَاتِب، قَالَ: سَمِعت أَبَا عبد الله الباقطائي، يَقُول: سَمِعت عبيد الله بن سُلَيْمَان، يَقُول فِي وزارته: قَالَ: لي أبي: كنت يَوْمًا فِي حبس مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات،

فِي خلَافَة الواثق، آيس مَا كنت من الْفرج، وَأَشد محنة وغما، حَتَّى وَردت عَليّ رقْعَة أخي الْحسن بن وهب، وفيهَا شعر لَهُ: محن أَبَا أَيُّوب أَنْت محلهَا ... فَإِذا جزعت من الخطوب فَمن لَهَا إِن الَّذِي عقد الَّذِي انْعَقَدت بِهِ ... عقد المكاره فِيك يحسن حلهَا فاصبر فَإِن الله يعقب فُرْجَة ... ولعلها أَن تنجلي ولعلها وَعَسَى تكون قريبَة من حَيْثُ لَا ... ترجو وتمحو عَن جديدك ذلها قَالَ: فتفاءلت بذلك، وقويت نَفسِي، فَكتبت إِلَيْهِ: صبرتني ووعظتني وأنالها ... وستنجلي بل لَا أَقُول لَعَلَّهَا ويحلها من كَانَ صَاحب عقدهَا ... ثِقَة بِهِ إِذْ كَانَ يملك حلهَا قَالَ: فَلم أصل الْعَتَمَة ذَلِك الْيَوْم، حَتَّى أطلقت، فصليتها فِي دَاري، وَلم يمض يومي ذَاك، حَتَّى فرج الله عني، وأطلقت من حبسي. وَرُوِيَ أَن هَاتين الرقعتين وقعتا بيد الواثق، الرسَالَة وَالْجَوَاب، فَأمر بِإِطْلَاق

سُلَيْمَان، وَقَالَ وَالله، لَا تركت فِي حبسي من يَرْجُو الْفرج، وَلَا سِيمَا من خدمني، فَأَطْلقهُ على كره من ابْن الْجراح الزيات لذَلِك

بين الحسن البصري والحجاج بن يوسف الثقفي

بَين الْحسن الْبَصْرِيّ وَالْحجاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ وحَدثني بعض شُيُوخنَا، بِإِسْنَاد ذهب عني حفظه، وَبَلغنِي عَن صَالح بن مِسْمَار، فَجمعت بَين الْخَبَرَيْنِ: أَن الْحسن الْبَصْرِيّ دخل على الْحجَّاج بواسط، فَلَمَّا رَأْي بناءه، قَالَ: الْحَمد لله، أَن هَؤُلَاءِ الْمُلُوك لَيرَوْنَ فِي أنفسهم عبرا، وَأَنا لنرى فيهم عبرا، يعمد أحدهم إِلَى قصر فيشيده، وَإِلَى فرش فيتخذه، وَقد حف بِهِ ذُبَاب طمع، وفراش نَار، ثمَّ يَقُول: أَلا فانظروا مَا صنعت، فقد رَأينَا، يَا عَدو الله، مَا صنعت، فَمَاذَا يَا أفسق الفسقة، وَيَا أفجر الفجرة، أما أهل السَّمَاء فلعنوك، وَأما أهل الأَرْض فمقتوك. ثمَّ خرج وَهُوَ يَقُول: إِنَّمَا أَخذ الله الْمِيثَاق على الْعلمَاء، ليبيننه للنَّاس، وَلَا يكتمونه. فاغتاظ الْحجَّاج غيظا شَدِيدا، ثمَّ قَالَ: يَا أهل الشَّام، هَذَا عبيد أهل الْبَصْرَة يَشْتمنِي فِي وَجْهي فَلَا يُنكر عَلَيْهِ أحد، على بِهِ، وَالله لأقتلنه. فَمضى أهل الشَّام، فأحضروه، وَقد أعلم بِمَا قَالَ:، فَكَانَ فِي طَرِيقه يُحَرك شَفَتَيْه بِمَا لَا يسمع.

فَلَمَّا دخل على الْحجَّاج، رأى السَّيْف والنطع بَين يَدَيْهِ وَهُوَ متغيظ، فَلَمَّا وَقعت عَلَيْهِ عين الْحجَّاج، كَلمه بِكَلَام غليظ، ورفق بِهِ الْحسن، ووعظه. فَأمر الْحجَّاج بِالسَّيْفِ والنطع فرفعا، ثمَّ لم يزل الْحسن يمر فِي كَلَامه إِلَى أَن دَعَا الْحجَّاج بِالطَّعَامِ، فأكلا، وبالوضوء فَتَوَضَّأ، وبالغالية فغلفه بِيَدِهِ، ثمَّ صرفه مكرما. وَقَالَ صَالح بن مِسْمَار: قيل لِلْحسنِ بن أبي الْحسن: بِمَ كنت تحرّك شفتيك؟ قَالَ: قلت: يَا غياثي عِنْد دَعْوَتِي، وَيَا عدتي فِي ملمتي، وَيَا رَبِّي عِنْد كربتي، وَيَا صَاحِبي فِي شدتي، وَيَا وليي فِي نعمتي، وَيَا إلهي، وإله إِبْرَاهِيم، وَإِسْمَاعِيل، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، والأسباط، ومُوسَى، وَعِيسَى، وَيَا رب النَّبِيين كلهم أَجْمَعِينَ، وَيَا رب كهيعص، وطه، وطس، وَيس، وَرب الْقُرْآن الْحَكِيم يَا كَافِي مُوسَى فِرْعَوْن، وَيَا كَافِي مُحَمَّد الْأَحْزَاب، صل على مُحَمَّد وَآله الطيبين الطاهرين الْأَخْبَار، وارزقني مَوَدَّة عَبدك الْحجَّاج، وخيره، ومعروفه، واصرف عني أَذَاهُ، وشره، ومكروهه، ومعرته. فكفاه الله تَعَالَى شَره بمنه وَكَرمه. قَالَ: صَالح: فَمَا دَعونَا بهَا فِي شدَّة إِلَّا فرج عَنَّا.

دعاء دعا به الحسن بن الحسن ففرج الله عنه

دُعَاء دَعَا بِهِ الْحسن بن الْحسن فَفرج الله عَنهُ وجدت فِي بعض الْكتب، بِغَيْر إِسْنَاد: كتب الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان إِلَى صَالح بن عبد الله الْمُزنِيّ، عَامله على الْمَدِينَة، أَن أنزل الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم، فَاضْرِبْهُ فِي مَسْجِد رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خمس مائَة سَوط. قَالَ: فَأخْرجهُ صَالح إِلَى الْمَسْجِد، ليقْرَأ عَلَيْهِم كتاب الْوَلِيد بن عبد الْملك، ثمَّ ينزل فَيضْرب الْحسن، فَبَيْنَمَا هُوَ يقْرَأ الْكتاب، إِذْ جَاءَ عَليّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام، مبادرا يُرِيد الْحسن، فَدخل وَالنَّاس مَعَه إِلَى الْمَسْجِد، وَاجْتمعَ النَّاس، حَتَّى انْتهى إِلَى الْحسن، فَقَالَ لَهُ: يَابْنَ عَم، ادْع بِدُعَاء الكرب. فَقَالَ: وَمَا هُوَ يَابْنَ عَم؟ قَالَ: قل: لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَلِيم الْكَرِيم، لَا إِلَه الله الْعلي الْعَظِيم، سُبْحَانَ الله رب السَّمَوَات السَّبع، وَرب الْعَرْش الْعَظِيم، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. قَالَ: وَانْصَرف عَليّ، وَأَقْبل الْحسن يكررها دفعات كَثِيرَة. فَلَمَّا فرغ صَالح من قِرَاءَة الْكتاب وَنزل عَن الْمِنْبَر، قَالَ للنَّاس: أرى سحنة رجل مظلوم، أخروا أمره حَتَّى أراجع أَمِير الْمُؤمنِينَ، وأكتب فِي أمره. فَفعل ذَلِك، وَلم يزل يُكَاتب، حَتَّى أطلق. قَالَ: وَكَانَ النَّاس يدعونَ، ويكررون هَذَا الدُّعَاء، وحفظوه. قَالَ: فَمَا دَعونَا بِهَذَا الدُّعَاء فِي شدَّة إِلَّا فرجهَا الله عَنَّا بمنه. حَدَّثَنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنَا شريك، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: كتب الْوَلِيد بن عبد الْملك إِلَى عُثْمَان بن حَيَّان المري: خُذ الْحسن بن الْحسن، فاجلده مائَة جلدَة، وَقفه للنَّاس يَوْمًا، وَلَا أَرَانِي إِلَّا قَاتله. قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ فجيء بِهِ وبالخصوم بَين يَدَيْهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَليّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: يَا أخي تكلم بِكَلِمَات الْفرج يفرج الله عَنْك. قَالَ: مَا هن؟ قَالَ: قل: لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَكِيم الْكَرِيم، لَا إِلَه إِلَّا الله الْعلي الْعَظِيم،

سُبْحَانَ الله رب السَّمَوَات السَّبع، وَرب الْعَرْش الْعَظِيم، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. قَالَ: فَقَالَهَا، فأنفذ، فَرده، وَقَالَ: أَنا أكاتب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِعُذْرِهِ، فَإِن الشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب. وَوجدت هَذَا الْخَبَر، بِأَعْلَى وَأثبت من هذَيْن الطَّرِيقَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس

مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَثْرَم الْمُقْرِئ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمد بن الرّبيع اللجمي الجرار الْكُوفِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن عَليّ، يَعْنِي الْجعْفِيّ، عَن وَالِده، عَن قدامَة، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: حَدثنِي أَبُو مُصعب، قَالَ: كتب عبد الْملك إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ هِشَام بن إِسْمَاعِيل: أَن حسن بن حسن، كَاتب أهل الْعرَاق، فَإِذا جَاءَك كتابي هَذَا، فَابْعَثْ إِلَيْهِ الشَّرْط، فليأتوا بِهِ. قَالَ: فَأتي بِهِ، فَسَأَلَهُ عَن شَيْء. فَقَامَ إِلَيْهِ عَليّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَقَالَ: يَابْنَ عَم، قل كَلِمَات الْفرج، لَا إِلَه إِلَّا الله رب السَّمَوَات السَّبع، وَرب الْعَرْش الْعَظِيم، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، قَالَ: فَقَالَهَا. ثمَّ إِن الْأَمِير نظر إِلَى وَجهه، فَقَالَ: أرى وَجها قد قرف بكذبة، خلوا سَبيله فلأراجعنَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ 69

دعاء ينجي من المحنة

دُعَاء يُنجي من المحنة حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنِي ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، عَن الْفضل بن يَعْقُوب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفرْيَابِيّ، قَالَ: لما أَخذ أَبُو جَعْفَر إِسْمَاعِيل بن أُميَّة، أَمر بِهِ إِلَى الْحَبْس، فَرَأى فِي طَرِيقه على حَائِط مَكْتُوبًا: يَا وليي فِي نعمتي، وَيَا صَاحِبي فِي وَحْدَتي، وَيَا عدتي فِي كربتي، قَالَ: فَلم يزل يكررها حَتَّى خلى سَبيله، فاجتاز بذلك الْحَائِط فَإِذا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء مَكْتُوب 70

أجار حية فأرادت قتله فخلصه جميل صنعه

أَجَارَ حَيَّة فَأَرَادَتْ قَتله فخلصه جميل صنعه ويروى: أَن حَيَّة استجارت بِرَجُل من الْعباد، من رجل يُرِيد قَتلهَا، قَالَ: فَرفع ذيله، وَقَالَ: ادخلي، فتطوقت على بَطْنه. وَجَاء رجل بِسيف، وَقَالَ لَهُ: يَا رجل، حَيَّة هربت مني السَّاعَة، أردْت قَتلهَا، فَهَل رَأَيْتهَا؟ قَالَ: مَا أرى شَيْئا. فَلَمَّا أجارها، وَانْصَرف من يُرِيد قَتلهَا، قَالَت لَهُ الْحَيَّة: لَا بُد من قَتلك. فَقَالَ لَهَا الرجل: لَيْسَ غنى عَن هَذَا؟ قَالَت: لَا. قَالَ: فأمهليني، حَتَّى آتِي سفح جبل، فأصلي رَكْعَتَيْنِ، وأدعو الله تَعَالَى، وأحفر لنَفْسي قبرا، فَإِذا نزلته، فافعلي مَا بدا لَك. قَالَت: افْعَل. فَلَمَّا صلى، ودعا، أوحى الله إِلَيْهِ: إِنِّي قد رحمتك، فاقبض على الْحَيَّة، فَإِنَّهَا تَمُوت فِي يدك، وَلَا تَضُرك. فَفعل ذَلِك، وَعَاد إِلَى مَوْضِعه، وتشاغل بِعبَادة ربه. وروى هَذَا الْخَبَر، جَعْفَر العابد، برامهرمز، على غير هَذِه السِّيَاقَة، إِلَّا أَن الْمَعْنى مُتَقَارب، فاوردت مَا بَلغنِي من ذَلِك، فَقَالَ:

قَرَأت فِي كتب الْأَوَائِل، أَن حَيَّة أفلتت من يَد طَالب لَهَا ليقتلها، وَأَنَّهَا سَأَلت الرجل أَن يخبأها، فخبأها فِي فَمه، وأنكرها للطَّالِب لَهَا. وحَدثني عبد الله بن الْحَارِث بن السراج الوَاسِطِيّ، قَالَ: حَدثنِي بعض أَصْحَاب أبي مُحَمَّد سهل بن عبد الله التسترِي، عَنهُ، قَالَ: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، رجل فِي صحراء قريبَة من جبل، يعبد الله تَعَالَى، إِذْ مثلت لَهُ حَيَّة، فَقَالَت لَهُ: قد أرهقني من يُرِيد قَتْلِي، فأجرني، أجارك الله فِي ظله، يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله. قَالَ لَهَا: وَمِمَّنْ أجيرك؟ قَالَت: من عَدو يُرِيد قَتْلِي. قَالَ: وَمِمَّنْ أَنْت؟ قَالَت: من أهل لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ: فَأَيْنَ أخبيك؟ قَالَت: فِي جوفك، إِن كنت تُرِيدُ الْمَعْرُوف. فَفتح فَاه، وَقَالَ: ادخلي، فَفعلت. فَلَمَّا جَاءَ الطَّالِب، قَالَ لَهُ: رَأَيْت حَيَّة تسْعَى؟ فَقَالَ العابد: مَا أرى شَيْئا، وَصدق فِي ذَلِك. فَقَالَ لَهُ الطَّالِب: الله. فَقَالَ: الله. فَتَركه، وَمضى، ثمَّ قَالَ لَهَا: اخْرُجِي الْآن. فَقَالَت: إِنِّي من قوم لَا يكافئون على الْجَمِيل إِلَّا بقبيح. ثمَّ سَاق الحَدِيث على قريب مِمَّا تقدم.

وَوَقع إِلَيّ الْخَبَر بقريب من هَذَا الْمَعْنى، على خلاف هَذِه السِّيَاقَة: قرئَ على أبي الْعَبَّاس الْأَثْرَم، الْمُقْرِئ الْبَغْدَادِيّ، وَهُوَ مُحَمَّد بن أَحْمد بن حَمَّاد بن إِبْرَاهِيم بن ثَعْلَب، فِي منزله بِالْبَصْرَةِ، فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، وَأَنا حَاضر أسمع، حَدثكُمْ عَليّ بن حَرْب الطَّائِي الْموصِلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَر بن الْمُنْذر الطَّائِي العابد بمهروبان، قَالَ: كنت عِنْد سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَالْتَفت إِلَى شيخ حَاضر، فَقَالَ لَهُ: حدث الْقَوْم بِحَدِيث الْحَيَّة. فَقَالَ الرجل: حَدثنِي عبد الْجَبَّار، أَن حميد بن عبد الله خرج إِلَى متعبده، فمثلت بَين يَدَيْهِ حَيَّة، وَقَالَت لَهُ: أجرني أجارك الله فِي ظله. قَالَ: وَمِمَّنْ أجيرك؟ قَالَت: من عَدو يُرِيد قَتْلِي. قَالَ: فَأَيْنَ أخبئك؟ قَالَت: فِي جوفك. فَفتح فَاه، فَمَا اسْتَقَرَّتْ، حَتَّى وافاه رجل بِسيف مُجَرّد، فَقَالَ لَهُ: يَا حميد أَيْن الْحَيَّة؟ قَالَ: مَا أرى شَيْئا. فَذهب الرجل، فأطلعت الْحَيَّة رَأسهَا، وَقَالَت: يَا حميد أتحس الرجل؟

فَقَالَ: لَا، قد ذهب، فاخرجي. قَالَت: اختر مني إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ، إِمَّا أَن أنكتك فأقتلك، أَو أفرث كبدك، فَتَرْمِيه من دبرك قطعا. فَقَالَ: وَالله، مَا كافيتني. فَقَالَت: قد عرفت العدواة الَّتِي بيني وَبَين أَبِيك آدم قَدِيما، وَلَيْسَ معي مَال فأعطيك وَلَا دَابَّة فأحملك عَلَيْهَا. فَقَالَ: أمهليني، حَتَّى آتِي سفح الْجَبَل، وأحفر لنَفْسي قبرا. قَالَت لَهُ: افْعَل. فَبينا هُوَ يسير إِذْ لقِيه فَتى حسن الْوَجْه، طيب الرّيح، حسن الثِّيَاب، فَقَالَ لَهُ: يَا شيخ، مَا لي أَرَاك مستسلما للْمَوْت، آيسا من الْحَيَاة؟ قَالَ: من عَدو فِي جوفي يُرِيد هلاكي. فاستخرج من كمه شَيْئا فَدفعهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: كُله. قَالَ: فَفعلت ذَلِك، فَوجدت مغصا شَدِيدا، ثمَّ ناولني شَيْئا آخر، فَإِذا بالحية سَقَطت من جوفي قطعا. فَقلت لَهُ: من أَنْت يَرْحَمك الله؟ فَمَا أحد أعظم عَليّ منَّة مِنْك، فَقَالَ: أَنا الْمَعْرُوف، إِن أهل السَّمَاء رَأَوْا غدر هَذِه الْحَيَّة بك، فسألوا الله عز وَجل، أَن يعيذك، فَقَالَ لي الله تَعَالَى: يَا مَعْرُوف، أدْرك عَبدِي، فإياي أَرَادَ بِمَا صنع 71

أهدر عبد الملك دمه فدعا فأمنه وأحسن إليه

أهْدر عبد الْملك دَمه فَدَعَا فَأَمنهُ وَأحسن إِلَيْهِ بَلغنِي أَنه جنى رجل جِنَايَة على عهد عبد الْملك بن مَرْوَان، فأهدر دَمه وَدم من يؤويه، وَأمر بِطَلَبِهِ، فتحاماه النَّاس كلهم. فَكَانَ يسيح فِي الْجبَال والبراري، وَلَا يذكر اسْمه، فيضاف الْيَوْم واليومين، فَإِذا عرف طرد وَلم يدع أَن يسْتَقرّ. قَالَ الرجل: فَكنت أسيح يَوْمًا فِي بطن وَاد، فَإِذا بشيخ أَبيض الرَّأْس واللحية، عَلَيْهِ ثِيَاب بَيَاض، وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، فقنت إِلَى جنبه. فَلَمَّا سلم انْفَتَلَ إِلَيّ، وَقَالَ لي: من أَنْت؟ قلت: رجل أخافني السُّلْطَان، وَقد تحاماني النَّاس، فَلم يجرني أحد من خلق الله تَعَالَى، فَأَنا أسيح فِي هَذِه البراري، خَائفًا على نَفسِي. قَالَ: فَأَيْنَ أَنْت عَن السَّبع؟ قلت: وَأي سبع؟ قَالَ: تَقول: سُبْحَانَ الله الْإِلَه الْوَاحِد، الَّذِي لَيْسَ غَيره أحد، سُبْحَانَ الدَّائِم الَّذِي لَيْسَ يعادله شَيْء، سُبْحَانَ الدَّائِم الْقَدِيم، الَّذِي لَا ند لَهُ وَلَا عديل، سُبْحَانَ الَّذِي يحيي وَيُمِيت، سُبْحَانَ الَّذِي هُوَ كل يَوْم شَأْن، سُبْحَانَ الَّذِي خلق مَا يرى، وَمَا لَا يرى، سُبْحَانَ الَّذِي علم كل شَيْء بِغَيْر تَعْلِيم، اللَّهُمَّ

إِنِّي أَسأَلك بِحَق هَذِه الْكَلِمَات وحرمتهن، أَن تفعل بِي كَذَا وَكَذَا، وأعادهن عَليّ، فحفظتهن. قَالَ الرجل: وفقدت صَاحِبي، فَألْقى الله تَعَالَى الْأَمْن فِي قلبِي، وَخرجت من وقتي مُتَوَجها إِلَى عبد الْملك، فوقفت بِبَابِهِ، واستأذنت عَلَيْهِ، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ، قَالَ: أتعلمت السحر؟ قلت: لَا، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِن كَانَ من شأني كَذَا وَكَذَا، وقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة. فأمنني، وَأحسن إِلَيّ.

يا كاشف الضر بك استغاث من اضطر

يَا كاشف الضّر بك اسْتَغَاثَ من اضْطر وَأَخْبرنِي صديق لي: أَن بعض أَصْحَابنَا من الْكتاب، دفع إِلَى محنة صعبة، فَكَانَ من دُعَائِهِ: يَا كاشف الضّر، بك اسْتَغَاثَ من اضْطر. قَالَ: وَقد رَأَيْته نقش ذَلِك على خَاتمه، وَكَانَ يردد الدُّعَاء بِهِ، فكشف الله محنته عَن قريب.

سليمان بن وهب يتخلص من حبسه بدعاء صادف استجابة

سُلَيْمَان بن وهب يتَخَلَّص من حَبسه بِدُعَاء صَادف استجابة حَدثنِي عَليّ بن هِشَام، قَالَ: سَمِعت أَبَا عبد الله حمد بن مُحَمَّد القنائي، ابْن أُخْت الْحسن بن مخلد. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: قَالَ لي أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن عَليّ بن عِيسَى، فِي كَلَام جرى بَيْننَا، غير هَذَا، طَوِيل: كَانَ حمد بن مُحَمَّد هَذَا، ابْن الْجراح عمَّة الْحسن بن مخلد، وَكَانَ أبي عرفني أَنه أَشَارَ على المقتدر بِاللَّه، وَقد استشاره

فِيمَن يقلده الوزارة، قَالَ: فأسميت لَهُ حمد بن مُحَمَّد هَذَا، وَأَبا عِيسَى أَخا أبي صَخْرَة، وَأَبا زنبور، وَمُحَمّد بن عَليّ بن الْحسن المادرائيين.

قَالَ: سَمِعت عبيد الله بن سُلَيْمَان بن وهب، يَقُول: كَانَ المتَوَكل، أَغيظ النَّاس على إيتاخ، وَذكر حَدِيثا طَويلا، وصف فِيهِ كَيفَ قبض المتَوَكل على إيتاخ وابنيه بِبَغْدَاد، لما رَجَعَ من الْحَج، بيد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُصعب، قَالَ فِيهِ قَالَ: سُلَيْمَان بن وهب: سَاعَة قبض على إيتاخ بِبَغْدَاد،

قبض عَليّ بسر من رأى، وسلمت إِلَى عبيد الله بن يحيى. وَكتب المتَوَكل إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، بِدُخُول سر من رأى، ليتقوى بِهِ على الأتراك، لِأَنَّهُ كَانَ مَعَه بضعَة عشر ألفا، ولكثرة الطاهرية، بخراسان، وَشدَّة شوكتهم. فَلَمَّا دخل إِسْحَاق سامراء، أَمر المتَوَكل بتسليمي إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا عدوي، ففصل لَحْمه عَن عظمه، هَذَا كَانَ يلقاني فِي أَيَّام المعتصم، فَلَا يبدأني بِالسَّلَامِ، فأبدأه بِهِ لحاجتي إِلَيْهِ، فَيرد عَليّ كَمَا يرد الْمولى على عَبده، كل مَا دبره إيتاخ، فَعَن رَأْيه. فأخذني إِسْحَاق، وقيدني بِقَيْد ثقيل، وألبسني جُبَّة صوف، وحبسني فِي

كنيف، وأغلق عَليّ خَمْسَة أَبْوَاب، فَكنت لَا أعرف اللَّيْل من النَّهَار. فأقمت على ذَلِك عشْرين يَوْمًا، لَا يفتح عَليّ الْبَاب إِلَّا دفْعَة وَاحِدَة فِي كل يَوْم وَلَيْلَة، يدْفع إِلَى فِيهَا خبز وملح جريش، وَمَاء حَار، فَكنت آنس بالخنافس، وَبَنَات وردان، وأتمنى الْمَوْت من شدَّة مَا أَنا فِيهِ. فَعرض لي لَيْلَة من اللَّيَالِي، أَن أطلت الصَّلَاة، وسجدت، فتضرعت إِلَى الله تَعَالَى، ودعوته بالفرج، وَقلت فِي دعائي: اللَّهُمَّ، إِن كنت تعلم أَنه كَانَ لي فِي دم نجاح بن سَلمَة صنع، فَلَا تخلصني مِمَّا أَنا فِيهِ، وَإِن كنت تعلم أَنه لَا صنع لي فِيهِ، وَلَا فِي الدِّمَاء الَّتِي سفكت، فَفرج عني. فَمَا استتممت الدُّعَاء، حَتَّى سَمِعت صَوت الأقفال تفتح، فَلم أَشك أَنه الْقَتْل، ففتحت الْأَبْوَاب، وَجِيء بالشمع، وحملني الفراشون، لثقل حديدي. فَقلت لحاجبه: سَأَلتك بِاللَّه، اصدقني عَن أَمْرِي. فَقَالَ: مَا أكل الْأَمِير الْيَوْم شَيْئا، لِأَنَّهُ أغْلظ عَلَيْهِ فِي أَمرك، وَذَلِكَ أَن

أَمِير الْمُؤمنِينَ وبخه بسببك، وَقَالَ: سلمت إِلَيْك سُلَيْمَان بن وهب تسمنه أَو تستخرج مَاله؟ فَقَالَ الْأَمِير: أَنا صَاحب سيف، وَلَا أعرف المناظرة على الْأَمْوَال ووجوهها، وَلَو قرر أمره على شَيْء لطالبته بِهِ. فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ الْكتاب بالاجتماع عِنْد الْأَمِير لمناظرتك، وإلزامك مَالا يُؤْخَذ بِهِ خطك، وتطالب بِهِ، وَقد اجْتَمعُوا، واستدعيت لهَذَا. قَالَ: فَحملت إِلَى الْمجْلس، فَإِذا فِيهِ مُوسَى بن عبد الْملك، صَاحب ديوَان الْخراج، وَالْحسن بن مخلد، صَاحب ديوَان الضّيَاع، وَأحمد بن إِسْرَائِيل الْكَاتِب، وَأَبُو نوح عِيسَى بن إِبْرَاهِيم، كَاتب الْفَتْح بن خاقَان،

وَدَاوُد بن الْجراح، صَاحب الزِّمَام، فطرحت فِي آخر الْمجْلس. فشتمني إِسْحَاق أقبح شتم، وَقَالَ: يَا فَاعل، يَا صانع، تعرضني لاستبطاء أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَالله، لأفرقن بَين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأَرْض أحب إِلَيْك من ظهرهَا، أَيْن الْأَمْوَال؟ . فاحتججت بنكبة ابْن الزيات لي. فبدرني الْحسن بن مخلد، فَقَالَ: أخذت من النَّاس أَضْعَاف مَا أدّيت، وعادت يدك إِلَى كتبة إيتاخ، فَأخذت ضيَاع السُّلْطَان، واقتطعها لنَفسك، وحزتها سَرقَة إِلَيْك، وَأَنت تغلها ألفي ألف دِرْهَم، وتتزيا بزِي الوزراء، وَقد بقيت عَلَيْك من تِلْكَ المصادرة جملَة لَام تؤدها، وَأخذت الْجَمَاعَة تواجهني بِكُل قَبِيح، إِلَّا مُوسَى بن عبد الْملك، فَإِنَّهُ كَانَ ساكتا لصداقة كَانَت بيني وَبَينه. فَأقبل من بَينهم على إِسْحَاق، وَقَالَ: يَا سَيِّدي، أتأذن لي فِي الْخلْوَة بِهِ لأفصل أمره؟ قَالَ: افْعَل. فاستدناني، فَحملت إِلَيْهِ، فسارني، وَقَالَ: عَزِيز عَليّ يَا أخي حالك، وَبِاللَّهِ لَو كَانَ خلاصك بِنصْف مَا أملكهُ لفديتك بِهِ، وَلَكِن صُورَتك قبيحة، وَمَا أملك إِلَّا الرَّأْي، فَإِن قبلت مني، رَجَوْت خلاصك، وَإِن

خالفتني، فَأَنت، وَالله، هَالك. قَالَ: فَقلت: لَا أخالفك. قَالَ: الرَّأْي أَن تكْتب خطك بِعشْرَة آلَاف ألف دِرْهَم، تؤديها فِي عشرَة أشهر، عِنْد انْقِضَاء كل شهر ألف ألف دِرْهَم، وتترفه عَاجلا مِمَّا أَنْت فِيهِ. فَسكت سكُوت مبهوت، فَقَالَ لي: مَا لَك؟ . فَقلت لَهُ: وَالله، مَا أرجع إِلَى ربعهَا، إِلَّا بعد بيع عقاري، وَمن يَشْتَرِي مني وَأَنا منكوب، وَكَيف يتوفر لي الثّمن وَأَنا على هَذِه الْحَالة؟ . فَقَالَ: أَنا أعلم أَنَّك صَادِق، وَلَكِن احرس نَفسك عَاجلا بِعظم مَا تبذله، ويطمع فِيهِ من جهتك، وَأَنا من وَرَاء الْحِيلَة لَك فِي شَيْء أميل بِهِ رَأْي الْخَلِيفَة من جهتك، يعود إِلَى صلاحك، وَالله الْمعِين، وَمن سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج، وَلَا تتعجل الْمَوْت، وَلَو لم تستفد إِلَّا الرَّاحَة مِمَّا أَنْت فِيهِ يَوْمًا وَاحِدًا، لكفى. قَالَ: فَقلت: لست أتهم ودك وَلَا رَأْيك، وَأَنا أفعل مَا تَقول. فَأقبل على الْجَمَاعَة، وَقَالَ: يَا سادتي، إِنِّي قد أَشرت عَلَيْهِ أَن يكْتب خطه بِشَيْء لَا يطيقه، فضلا عَمَّا هُوَ أَكثر مِنْهُ، ورجوت أَن نعاونه بِأَمْوَالِنَا وجاهنا، ليمشي أمره، وَقد واقفته ليكتب بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالُوا: الصَّوَاب لَهُ أَن يفعل هَذَا. فَدَعَا لي بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس، وَأخذ خطي بِالْمَالِ على نجومه، فَلَمَّا أَخذه، قَامَ قَائِما، وَقَالَ لإسحاق: يَا سَيِّدي، هَذَا رجل قد صَار عَلَيْهِ للسُّلْطَان، أعزه الله، مَال، وسبيله أَن يرفه، وتحرس نَفسه، وينقل من هَذِه الْحَال

ويغير زيه، يرد جاهه، بإنزاله دَارا كَبِيرَة، وإخدامه بفرش وَآلَة حَسَنَة، وإخدامه خداما بَين يَدَيْهِ، وَيُمكن من لِقَاء من يُؤثر لقاءه من معامليه، وَمن يحب لقاءه من أَهله وَولده وحاشيته، ليجد فِي حمل المَال الْحَال عَلَيْهِ، قبل مَحَله، ونعينه نَحن، وَيبِيع أملاكه، ويرتجع ودائعه مِمَّن هِيَ عِنْده. فَقَالَ إِسْحَاق: السَّاعَة أفعل ذَلِك، وأبلغه جَمِيع مَا ذكرت، وَأمكنهُ مِنْهُ، ونهضت الْجَمَاعَة. فَأمر إِسْحَاق بفك حديدي، وإدخالي الْحمام، وَجَاءَنِي بخلعة حَسَنَة، وَطيب، وبخور، فاستعملته، واستدعاني، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ، نَهَضَ إِلَيّ، وَلم يكن فِي مَجْلِسه أحد، وَاعْتذر إِلَى مِمَّا خاطبني بِهِ، وَقَالَ: أَنا صَاحب سيف، ومأمور، وَقد لَحِقَنِي الْيَوْم من أَجلك سَماع كل مَكْرُوه، حَتَّى امْتنعت عَن الطَّعَام غما بِأَن أبتلى بقتلك، أَو يعتب الْخَلِيفَة عَليّ من أَجلك، وَإِنَّمَا خاطبتك بذلك، لإِقَامَة عذر عِنْد هَؤُلَاءِ الأشرار، ليبلغوا الْخَلِيفَة ذَلِك، وَجَعَلته وقاية لَك من الضَّرْب وَالْعَذَاب، فشكرته، وَقلت مَا حضرني من الْكَلَام. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، حولني إِلَى دَار كَبِيرَة، وَاسِعَة، حَسَنَة، مفروشة، ووكل بِي فِيهَا، على إِحْسَان عشرَة وإجلال، فاستدعت كل من أريده، وتسامع بِي أَصْحَابِي، فجاءوني وَفرج الله عني. وَمَضَت سَبْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقد أَعدَدْت ألف ألف دِرْهَم، مَال النَّجْم

الأول، وَأَنا أتوقع أَن يحل، فأطالب، فأؤديه، فَإِذا بمُوسَى بن عبد الْملك قد دخل إِلَيّ، فَقُمْت إِلَيْهِ، فَقَالَ: أبشر. فَقلت: مَا الْخَبَر يَا سَيِّدي؟ . فَقَالَ: ورد كتاب عَامل مصر، بمبلغ مَال مصر لهَذِهِ السّنة مُجملا فِي مبلغ الْحمل والنفقات، إِلَى أَن ينفذ حسابه مفصلا، فَقَرَأَ عبيد الله ذَلِك على المتَوَكل، فَوَقع إِلَى ديواني بِإِخْرَاج الْعبْرَة لمصر، ليعرف أثر الْعَامِل، فأخرجت ذَلِك من ديوَان الْخراج والضياع، لِأَن مصر تجْرِي فِي ديوَان الْخراج والضياع وَينفذ حِسَابهَا إِلَى الديوانين، كَمَا قد علمت، وَجعلت سنتك الَّتِي توليت فِيهَا عمالة مصر، مصدرة، وأوردت بعْدهَا السنين النَّاقِصَة عَن سنتك، تلطفا فِي خلاصك، وَجعلت أَقُول: النُّقْصَان فِي سنة كَذَا عَن سنة كَذَا وَكَذَا الَّتِي صدرناها، كَذَا وَكَذَا ألفا. فَلَمَّا قَرَأَ عبيد الله الْعَمَل على المتَوَكل، قَالَ: فَهَذِهِ السّنة الوافرة، من كَانَ يتَوَلَّى عمالتها؟ . فَقلت أَنا: سُلَيْمَان بن وهب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ المتَوَكل: فَلم لَا يرد إِلَيْهَا؟

فَقلت: وَأَيْنَ سُلَيْمَان بن وهب؟ ذَاك مقتول بالمطالبة، قد استصفي وافتقر. فَقَالَ: تزَال عَنهُ الْمُطَالبَة، ويعان بِمِائَة ألف دِرْهَم، ويعجل إِخْرَاجه. فَقلت: وَترد ضيَاعه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ليرْجع جاهه. قَالَ: وَيفْعل ذَلِك، وَقد تقدم إِلَى عبيد الله بِهَذَا، واستأذنته فِي إخراجك، فَأذن لي، فَقُمْ بِنَا إِلَى الْوَزير، وَقد كَانَ دخل إِلَى إِسْحَاق برسالة الْخَلِيفَة بإطلاقي. فَخرجت من وقتي، وَلم أؤد من مَال النَّجْم الأول حَبَّة وَاحِدَة، ورددته إِلَى مَوْضِعه. وَجئْت إِلَى عبيد الله، فَوَقع لي بِمِائَة ألف دِرْهَم مَعُونَة على سَفَرِي، وَدفع إِلَيّ عهدي على مصر، فَخرجت إِلَيْهَا.

دعوة مستجابة

دَعْوَة مستجابة حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْأَهْوَازِي أحد شُهُود أبي بهَا. عَن مسرور بن عبد الله الأستادي، قَالَ: حزبني أَمر ضقت بِهِ ذرعا، فَأتيت يحيى بن خَالِد الْأَزْرَق، وَكَانَ مستجاب الدعْوَة، فرآني مكروبا قلقا، فَقَالَ لي: مَا شَأْنك؟ فَقلت: دفعت إِلَى كَيْت وَكَيْت. فَقَالَ لي: اسْتَعِنْ بِالصبرِ، فَإِن الله وعد الصابرين خيرا. فَقلت لَهُ: ادْع لي، فحرك شَفَتَيْه بِشَيْء لَا أعلم مَا هُوَ، فَانْصَرَفت على جملتي من القلق، فَلَمَّا أَصبَحت أَتَانِي الْفرج بِإِذن الله تَعَالَى. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَيحيى بن خَالِد هَذَا، هُوَ جد عبد الله بن مُحَمَّد بن يحيى الْأَهْوَازِي الْكَاتِب، وَعبد الله هَذَا جدي لأمي.

دعاء لشفاء العلل

دُعَاء لشفاء الْعِلَل حَدثنِي عبد الله بن أَحْمد بن داسة الْبَصْرِيّ، قَالَ: اعتللت عِلّة شَدِيدَة، أَيِست فِيهَا من نَفسِي، على شدَّة كنت فِيهَا، فعادني بعض أَصْحَاب أبي مُحَمَّد سهل بن عبد الله التسترِي، فَقَالَ: كَانَ أَبُو مُحَمَّد سهل، يَدْعُو الله فِي علله، بِدُعَاء مَا دَعَا بِهِ أحد إِلَّا عوفي. فَقلت: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: قل: اللَّهُمَّ اشفني بشفائك، وداوني بدوائك، وَعَافنِي من بلائك. قَالَ: فواصلت الدُّعَاء بذلك، فعوفيت.

غلام نازوك وكتاب العطف

غُلَام نازوك وَكتاب الْعَطف حَدثنِي أَبُو الْحسن احْمَد بن يُوسُف الْأَزْرَق، بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، عَن أبي الْحُسَيْن بن البواب الْمُقْرِئ، قَالَ: كَانَ يصحبنا على الْقُرْآن، رجل مَسْتُور صَالح، يكنى أَبَا أَحْمد، وَكَانَ يكْتب كتب الْعَطف للنَّاس، فَحَدثني يَوْمًا، قَالَ: بقيت يَوْمًا بِلَا شَيْء، وَأَنا جَالس فِي دكاني، وَقد دَعَوْت الله أَن يسهل قوتي، فَمَا استتممت الدُّعَاء، حَتَّى فتح بَاب دكاني غُلَام أَمْرَد، حسن الْوَجْه جدا، فَسلم عَليّ وَجلسَ. فَقلت لَهُ: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ: أَنا عبد مَمْلُوك، وَقد طردني مولَايَ، وَغَضب عَليّ، وَقَالَ: انْصَرف عني إِلَى حَيْثُ شِئْت، وَمَا أَعدَدْت لنَفْسي من أطرحها عَلَيْهِ فِي مثل هَذَا الْوَقْت، وَلَا أعرف من أقصده، وَقد بقيت متحيرا فِي أَمْرِي، وَقيل لي إِنَّك تكْتب كتب الْعَطف، فَاكْتُبْ لي كتابا. فَكتب لَهُ الْكتاب الَّذِي كنت أكتبه، وَهُوَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم،

الْحَمد لله رب الْعَالمين إِلَى آخر ال { [، والمعوذتين، وَسورَة الْإِخْلَاص، و: الْكُرْسِيّ، و] لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الْحَشْر: 21] . . . إِلَى آخر ال { [، وكتبت آيَات الْعَطف، وَهِي:] لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [سُورَة الْأَنْفَال: 63] . . . الْآيَة، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الرّوم: 21] إِلَى آخر الْآيَة، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمرَان: 103] إِلَى آخر الْآيَة. وَقلت لَهُ: خُذ هَذِه الرقعة، فشدها على عضدك الْأَيْمن، وَلَا تعلقهَا عَلَيْك إِلَّا وَأَنت طَاهِر. فَأَخذهَا وَقَامَ وَهُوَ يبكي، وَطرح بَين يَدي دِينَارا عينا، فداخلتني لَهُ رَحْمَة، فَصليت رَكْعَتَيْنِ، ودعوت لَهُ أَن يَنْفَعهُ الله بِكِتَاب، وَيرد عَلَيْهِ قلب

مَوْلَاهُ، وَجَلَست. فَمَا مَضَت إِلَّا ساعتان، وَإِذا بِأبي الْجُود، خَليفَة عَجِيب، غُلَام نازوك، وَكَانَ خَلِيفَته على الشرطة، قد جَاءَنِي، فَقَالَ لي: أجب الْأَمِير نازوك، فارتعت. فَقَالَ: لَا بَأْس عَلَيْك، وأركبني بغلا، وَجَاء بِي إِلَى دَار نازوك، فتركني فِي الدهليز وَدخل.

فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، أدخلت، فَإِذا نازوك جَالس فِي دست عَظِيم، وَبَين يَدَيْهِ الغلمان قيَاما سماطين، نَحْو ثَلَاث مائَة غُلَام وَأكْثر، وكاتبه الْحُسَيْن جَالس بَين يَدَيْهِ، وَرجل آخر لَا أعرفهُ. فارتعت، وأهويت لأقبل الأَرْض، فَقَالَ: مَه، عافاك الله، لَا تفعل، هَذَا من سنَن الجبارين، وَمَا نُرِيد نَحن هَذَا، اجْلِسْ يَا شيخ، وَلَا تخف، فَجَلَست. فَقَالَ لي: جَاءَك الْيَوْم غُلَام أَمْرَد، فَكتبت لَهُ كتابا للْعَطْف؟ قلت: نعم. قَالَ: اصدقني عَمَّا جرى بَيْنكُمَا، حرفا، حرفا. فأعدته عَلَيْهِ، حَتَّى لم أدع كلمة، وتلوت عَلَيْهِ الْآيَات الَّتِي كتبتها. فَلَمَّا بلغت إِلَيّ قَول الْغُلَام: أَنا عبد مَمْلُوك، وَمَا أَعدَدْت لنَفْسي من أقصده فِي هَذِه الْحَال، وَلَا أعرف أحدا ألجأ إِلَيْهِ، وَقد طردني مولَايَ، بَكَيْت لما تداخلني من رَحْمَة لَهُ، وأريته الدِّينَار الَّذِي أعطانيه، فَدَمَعَتْ عينا نازوك وتجلد، وَاسْتوْفى الحَدِيث. وَقَالَ: قُم يَا شيخ، بَارك الله عَلَيْك، وَمهما عرضت لَك من حَاجَة، أَو لِجَار لَك، أَو صديق فسلنا إِيَّاهَا، فَإنَّا نقضيها، وَأكْثر عندنَا وانبسط فِي هَذِه الدَّار، فَإنَّك غير مَحْجُوب عَنْهَا، فدعوت لَهُ وَخرجت. فَلَمَّا صرت خَارج بَاب الْمجْلس، إِذا بِغُلَام قد أَعْطَانِي قرطاسا فِيهِ ثَلَاث مائَة دِرْهَم، فَأَخَذته وَخرجت. فَلَمَّا صرت فِي الدهليز، إِذا بالفتي، فَعدل بِي إِلَى مَوضِع وأجلسني.

فَقلت: مَا خبرك؟ فَقَالَ: أَنا غُلَام الْأَمِير، وَكَانَ قد طردني، وَغَضب عَليّ، فَلَمَّا أَن جئْتُك، واحتبست عنْدك، طلبني، فَرَجَعت مَعَ رسله. فَقَالَ لي: أَيْن كنت؟ فصدقته الحَدِيث، فَلم يصدقني، وَأمر بإحضارك، فَلَمَّا اتفقنا فِي الحَدِيث، وَخرجت السَّاعَة، أحضرني، وَقَالَ: يَا بني، أَنْت السَّاعَة من أجل غلماني عِنْدِي، وأمكنهم من قلبِي، وأخصهم بِي، إِذْ كنت لما غضِبت عَلَيْك مَا غَيْرك ذَلِك عَن محبتي، وَالرَّغْبَة فِي خدمتي، وَطلب الْحِيَل فِي الرُّجُوع إِلَيّ , وانكشف لي أَنَّك مَا أَعدَدْت لنَفسك، بعد الله، سواي، وَلَا عرفت وَجها تلجأ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا غَيْرِي، فَمَا ترى بعد هَذَا إِلَّا كل مَا تحب، وسأعلي منزلتك، وأبلغ بك أَعلَى مَرَاتِب نظرائك، وَلَعَلَّ الله سُبْحَانَهُ اسْتَجَابَ فِيك دُعَاء هَذَا الرجل الصَّالح، ونفعك بِالْآيَاتِ، فَبِأَي شَيْء كافأت الرجل؟ . فَقلت: مَا أَعْطيته غير ذَلِك الدِّينَار. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، قُم إِلَى الخزانة، فَخذ مِنْهَا مَا تُرِيدُ، وأعطه. فَأخذت مِنْهَا هَذَا القرطاس، وجئتك بِهِ، فَخذه، وَأَعْطَانِي أَيْضا خمس مائَة دِرْهَم، وَقَالَ لي: الزمني، فَإِنِّي أحسن إِلَيْك. فَجِئْته بعد مديدة، فَإِذا هُوَ قَائِد جليل، وَقد بلغ بِهِ نازوك تِلْكَ الْمنزلَة، فوصلني بصلَة جليلة، وَصَارَ لي عدَّة على الدَّهْر وذخيرة.

جور أبي عبد الله الكوفي

جور أبي عبد الله الْكُوفِي حَدثنِي مُحَمَّد بن مُحَمَّد المهندس، قَالَ: حَدثنِي أَبُو مَرْوَان الجامدي، قَالَ: ظَلَمَنِي أَحْمد بن عَليّ بن سعيد الْكُوفِي، وَهُوَ يتقلد وَاسِط لناصر الدولة، وَقد تقلد إمرة الْأُمَرَاء بِبَغْدَاد، وَكنت أحد من ظلم، فظلمني، وَأخذ من ضيعتي بالجامدة نيفا وَأَرْبَعين كرا أرزا، بِالنِّصْفِ من حق الرَّقَبَة، بِغَيْر

تَأْوِيل وَلَا شُبْهَة، سوى مَا أَخذه بِحَق بَيت المَال، وظلم فِيهِ أَيْضا، فتظلمت إِلَيْهِ، وكلمته، فَلم يَنْفَعنِي مَعَه شَيْء، وَكَانَ الْكر الْأرز بِالنِّصْفِ، إِذْ ذَاك، بِثَلَاثِينَ دِينَارا. فَقلت لَهُ: قد أَخذ مني سَيِّدي مَا أَخذ، وَالله، مَا أهتدي أَنا وعيالي، إِلَى مَا سوى ذَلِك، وَمَا لي مَا أقوتهم بِهِ بَاقِي سنتي، وَلَا مَا أعمر بِهِ ضيعتي، وَقد طابت نَفسِي أَن تطلق لي من جملَته عشرَة أكرار، وجعلتك من الْبَاقِي فِي حل. فَقَالَ: مَا إِلَى هَذَا سَبِيل. فَقلت: فخمسة أكرار. فَقَالَ: لَا أفعل. فَبَكَيْت، وَقبلت يَده، ورققته، وَقلت: هَب لي ثَلَاثَة أكرار، وَتصدق عَليّ بهَا، وَأَنت من الْجَمِيع فِي حل. فَقَالَ: لَا وَالله، وَلَا أرزة وَاحِدَة. فتحيرت، وَقلت: فَإِنِّي أتظلم مِنْك إِلَى الله تَعَالَى. فَقَالَ لي: كن على الظلامة، يكررها دفعات، وَيكسر الْمِيم، بِلِسَان أهل الْكُوفَة. فَانْصَرَفت منكسر الْقلب، مُنْقَطع الرَّجَاء، فَجمعت عيالي، وَمن زلنا نَدْعُو عَلَيْهِ ليَالِي كَثِيرَة، فهرب من وَاسِط فِي اللَّيْلَة الْحَادِيَة عشرَة من أَخذه الْأرز، فَجئْت إِلَى البيدر، والأرز مطروح، فَأَخَذته، وَحَمَلته إِلَى منزلي، وَمَا عَاد الْكُوفِي بعْدهَا إِلَى وَاسِط، وَلَا أَفْلح.

من طريف ما اتفق لابن مقلة في نكبته التي أدته إلى الوزارة

من طريف مَا اتّفق لِابْنِ مقلة فِي نكبته الَّتِي أدته إِلَى الوزارة وحَدثني غير من الْكتاب، عَمَّن سمع أَبَا عَليّ بن مقلة، لما عَاد من فَارس وزيرا، يحدث، قَالَ: من طريف مَا اتّفق لي فِي نكبتي هَذِه الَّتِي أدتني إِلَى الوزارة، أنني أَصبَحت

وَأَنا مَحْبُوس مُقَيّد فِي حجرَة من دَار ياقوت، أَمِير فَارس، وَقد لَحِقَنِي من الْيَأْس من الْفرج وضيق الصَّدْر مَا أقنطني وَكَاد يذهب بعقلي، وَكُنَّا، أَنا وَفُلَان محبوسين، مقيدين، فِي بَيت وَاحِد من الْحُجْرَة، إِلَّا أَنا على سَبِيل ترفيه وإكرام. فَدخل علينا كَاتب لياقوت، وَكَانَ كثيرا مَا يجيئنا برسالته، فَقَالَ: الْأَمِير يقرئكما السَّلَام، ويتعرف أخباركما، ويعرض عَلَيْكُمَا قَضَاء حَاجَة إِن كَانَت لَكمَا. فَقلت لَهُ: تقْرَأ عَلَيْهِ السَّلَام، وَتقول لَهُ: قد، وَالله، ضَاقَ صَدْرِي، واشتهيت أَن أشْرب على غناء طيب، فَإِن جَازَ أَن يسامحنا بذلك سرا، ويتخذ بِهِ منَّة عَليّ ويدا، تفضل بذلك. فَقَالَ لي الْمَحْبُوس الَّذِي كَانَ معي: يَا هَذَا، مَا فِي قُلُوبنَا فضل لذَلِك. فَقلت لِلْكَاتِبِ: أد عني مَا قلت لَك.

قَالَ: السّمع وَالطَّاعَة , وَمضى، وَعَاد فَقَالَ: الْأَمِير يَقُول لَك: نعم، وكرامة وعزازة، أَي: وَقت شِئْت. فَقلت: السَّاعَة. فَلم تمض إِلَّا سَاعَة، حَتَّى جَاءُوا بِالطَّعَامِ، فأكلنا، وبالمشام والفواكه والنبيذ، وصف الْمجْلس، فَجَلَست أَنا والمحبوس الَّذِي معي فِي القيدين. وَقلت لَهُ: تعال، حَتَّى نشرب، ونتفاءل بِأول صَوت تغنيه الْمُغنيَة، فِي سرعَة الْفرج مِمَّا نَحن فِيهِ فَلَعَلَّهُ يَصح الفأل. فَقَالَ: أما أَنا فَلَا أشْرب، فَلم أزل أرْفق بِهِ حَتَّى شرب، فَكَانَ أول صَوت غنته الْمُغنيَة:. تواعد للبين الخليط لينبتوا ... وَقَالُوا لراعي الذود موعدك السبت وَلَكنهُمْ بانوا وَلم أدر بَغْتَة ... وأفظع شَيْء حِين يفجؤك البغت قَالَ أَبُو عَليّ: ذكر الْمبرد فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالكامل، الْبَيْت الأول، وَرَوَاهُ لمُحَمد بن يسير. فَقَالَ لي: مَا هَذَا مِمَّا يتفاءل بِهِ، وَأي معنى فِيهِ، مِمَّا يدل على فرجنا؟ فَقلت: مَا هُوَ إِلَّا فأل مبارك، وَأَنا أَرْجُو أَن يفرق الله بَيْننَا وَبَين هَذِه الْحَالة الَّتِي نَحن عَلَيْهَا، وَيبين الْفرج وَالصَّلَاح، يَوْم السبت. قَالَ: وأخذنا فِي شربنا يَوْمنَا، وسكرنا، وانصرفت الْمُغنيَة، وَمَضَت الْأَيَّام. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت، وَقد مضى من النَّهَار ساعتان، إِذا بياقوت قد دخل علينا، فارتعنا، وَقمت إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَيهَا الْوَزير، الله، الله، فِي أَمْرِي،

وَأَقْبل إِلَى مسرعا، وعانقني، وأجلسني، وَأخذ يهنيني بالوزارة، فبهت، وَلم يكن عِنْدِي علم بِشَيْء من الْأَمر، وَلَا مُقَدّمَة لَهُ. فَاخْرُج إِلَى كتابا ورد عَلَيْهِ من القاهر بِاللَّه، يُعلمهُ فِيهِ بِمَا جرى على المقتدر، ومبايعة النَّاس لَهُ بالخلافة، ويأمره بِأخذ الْبيعَة على من بِفَارِس من الْأَوْلِيَاء، وَفِيه تَقْلِيده إيَّايَ الوزارة، ويأمره بطاعتي، وَسلم إِلَيّ أَيْضا كتابا من القاهر، يَأْمُرنِي فِيهِ بِالنّظرِ فِي أَمْوَال فَارس، والأولياء بهَا، واستصحاب مَا يمكنني من المَال، وتدبير أَمر الْبَلَد بِمَا أرَاهُ، والبدار إِلَى حَضرته، وَأَنه اسْتخْلف لي، إِلَى أَن أحضر، الكلوذاني. فحمدت الله كثيرا، وشكرته، وَإِذا الْحداد وَاقِف، فتقدمت إِلَيْهِ بفك قيودي وقيود الرجل، وَدخلت الْحمام، وأصلحت أَمْرِي وَأمر الرجل، وَخرجت،

فَنَظَرت فِي الْأَعْمَال وَالْأَمْوَال، وجمعت مَالا جَلِيلًا فِي أَيَّام يسيرَة، وقررت أُمُور الْبَلَد، وسرت، واستصحبت الرجل معي إِلَى الحضرة، حَتَّى جَلَست هَذَا الْمجْلس، وَفرج الله عَنَّا.

أبو أيوب يرفع شكواه إلى الله تعالى برقعة يعلقها في المحراب

أَبُو أَيُّوب يرفع شكواه إِلَى الله تَعَالَى برقعة يعلقها فِي الْمِحْرَاب قَالَ: مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كِتَابه (كتاب الوزراء) : وجدت بِخَط أبي عَليّ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الْكَاتِب، حَدثنِي أَحْمد بن أبي الْأَصْبَغ، قَالَ: وجهني عبيد الله بن يحيى، إِلَى أبي أَيُّوب، ابْن أُخْت أبي الْوَزير، أَيَّام تقلد أبي صَالح عبد الله بن مُحَمَّد بن يزْدَاد الوزارة، وَكَانَ ابْن يزْدَاد،

يقْصد أَبَا أَيُّوب ويعاديه. فَقَالَ لي عبيد الله: القه، وَسَهل عَلَيْهِ الْأَمر، وَقل لَهُ: أَرْجُو أَن يَكْفِيك الله شَره. فوصلت إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَقد علق فِي محرابه رقْعَة، فأنكرتها، وَأديت إِلَيْهِ الرسَالَة. فَقَالَ لي: قل لَهُ: جعلت فدَاك، لست أغتم بِشَيْء، لِأَن أمره قريب، وَقد رفعت فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى قصَّة إِذْ أعجزني المخلوقون، أما ترَاهَا معلقَة فِي الْقبْلَة؟ فكاد يغلبني الضحك، فضبطت نَفسِي، وانصرفت إِلَى عبيد الله، فَحَدَّثته الحَدِيث، فَضَحِك مِنْهُ. قَالَ: فوَاللَّه، مَا مَضَت بِابْن يزْدَاد إِلَّا أَيَّام يسيرَة، حَتَّى سخط عَلَيْهِ وَصرف. فاتفق لأبي أَيُّوب الْفرج، وَنزل بِابْن يزْدَاد الْمَكْرُوه، فِي مثل الْمدَّة الَّتِي تخرج فِيهَا التوقيعات فِي الْقَصَص.

أبو نصر الواسطي يتظلم إلى الإمام موسى الكاظم برقعة علقها على قبره

أَبُو نصر الوَاسِطِيّ يتظلم إِلَى الإِمَام مُوسَى الكاظم برقعة علقها على قَبره قَالَ: مؤلف الْكتاب: وَأَنا شاهدت مثل هَذَا، وَذَلِكَ أَن أَبَا الْفرج مُحَمَّد ابْن الْعَبَّاس بن فسانجس، لما ولي الوزارة أظهر من الشَّرّ على النَّاس، وَالظُّلم لَهُم، بِخِلَاف مَا كَانَ يقدر فِيهِ، وَكنت أحد من ظلمه، فَإِنَّهُ أَخذ ضيعتي بالأهواز، وأقطعها بالحقين، وأخرجها عَن يَدي.

فأصعدت إِلَى بَغْدَاد متظلما إِلَيْهِ من الْحَال، فَمَا أنصفني، على حرمات كَانَت بيني وَبَينه، وَكنت أتردد إِلَى مَجْلِسه، فَرَأَيْت فِيهِ شَيخا من شُيُوخ الْعمَّال، يعرف بِأبي نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد الوَاسِطِيّ، أحد من كَانَ يتَصَرَّف فِي عمالات بنواحي الأهواز، وَكَانَ صديقا لي، فَسَأَلته عَن أمره، فَذكر أَن الْحسن بن بختيار، أحد قواد الديلم، ضمن أَعمال الْخراج والضياع بنهر تيرى، وَبهَا منزل أبي نصر هَذَا، وَأَنه طَالبه بظُلْم لَا يلْزمه، فَبعد عَن الْبَلَد، فكبس دَاره، وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ فِيهَا، وَكَانَ فِيمَا أَخذ، عهد ضيَاعه كلهَا، وَأَنه حضر للوزير مُحَمَّد بن الْعَبَّاس متظلما مِنْهُ، فَلَمَّا عرف الْحسن بن بختيار ذَلِك، أنفذ بالعهد إِلَى الْوَزير، وَقَالَ لَهُ: قد أهديت إِلَيْك هَذِه الضّيَاع، فَقبل الْوَزير مِنْهُ ذَلِك، وَكتب إِلَى وَكيله فِي ضيعته بالأهواز، فَأدْخل يَده فِي ضياعي، وَقد تظلمت إِلَيْهِ، فَلم ينصفني. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، دخلت المشهد بمقابر قُرَيْش، فزت مُوسَى بن

جَعْفَر، وَعدلت إِلَى مَوضِع الصَّلَاة لأصلي، فَإِذا بِقصَّة معلقَة، بِخَط أبي نصر هَذَا، وَقد كتبهَا إِلَى مُوسَى بن جَعْفَر، يتظلم فِيهَا من مُحَمَّد بن الْعَبَّاس، ويشرح أمره، ويتوسل فِي الْقِصَّة، بِمُحَمد، وَعلي، وَفَاطِمَة، وَالْحسن وَالْحُسَيْن، وَبَاقِي الْأَئِمَّة عَلَيْهِم السَّلَام، أَن يَأْخُذ لَهُ بِحقِّهِ من مُحَمَّد بن الْعَبَّاس، ويخلص لَهُ ضيَاعه. فَلَمَّا قَرَأت الورقة، عجبت من ذَلِك عجبا شَدِيدا، وَوَقع عَليّ الضحك، لِأَنَّهَا قصَّة إِلَى رجل ميت، وَقد علقها عِنْد رَأسه، وَكنت عرفت أَبَا نصر بِمذهب الإمامية الاثنى عشرِيَّة، فَظَنَنْت أَنه مَعَ هَذَا الِاعْتِقَاد كَانَ أكبر قَصده أَن يشنع على الْوَزير بالقصة عِنْد قبر مُوسَى بن جَعْفَر عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ كثير الزِّيَارَة لَهُ، أَيَّام وزارته، وَقبلهَا، وَبعدهَا، ليعلم أَن الرجل على مذْهبه، فيتذمم من ظلمه، ويرهب الدُّعَاء فِي ذَلِك الْمَكَان، فَانْصَرَفت. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، كنت فِي المشهد، وَجَاء الْوَزير، فرأيته يُلَاحظ الرقعة، فَعلمت أَنه قد قَرَأَهَا، وَمضى على هَذَا الحَدِيث مُدَّة، وَمَا رهب الْقِصَّة،

وَلَا أنصف الرجل. وامتدت محنة الرجل شهورا، ورحل مُحَمَّد بن الْعَبَّاس إِلَى الأهواز، للنَّظَر فِي أَبْوَاب المَال، وَتَقْرِير أَمر الْعمَّال، وأقمت أَنا بِبَغْدَاد، لِأَنَّهُ لم يكن أنصفني، وَلَا طمعت فِي إنصافه إيَّايَ لَو صحبته، وَانْحَدَرَ أَبُو نصر فِي جملَة من انحدر مَعَه. فَلَمَّا صَار بالمأمونية قَرْيَة حِيَال سوق الأهواز، وَهُوَ يُرِيد دُخُولهَا من غَد ورد من بَغْدَاد كتاب إِلَى بختكين التركي مولى معز الدولة، الْمَعْرُوف بآزاذرويه، وَكَانَ يتقلد الْحَرْب وَالْخَرَاج، وبالأهواز وكورها، فَقبض عَلَيْهِ، وَقبض على أَمْوَاله، وَقَيده، وَمضى أَبُو نصر إِلَى ضيَاعه، فَأدْخل يَده فِيهَا، وكفي مَا كَانَ من أَمر الْوَزير، واستقرت ضيَاعه فِي يَده إِلَى الْآن. وأقمت أَنا سِنِين أتظلم من تِلْكَ المحنة الَّتِي ظَلَمَنِي فِيهَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس، فَمَا أنصفني أحد، وأيست، وَخرجت تِلْكَ الضَّيْعَة من يَدي، فَمَا عَادَتْ إِلَى الْآن. وَصَحَّ لأبي نصر، بِقِصَّتِهِ، مَا لم يَصح لي، وَكَانَت محنته ومحنتي وَاحِدَة، ففاز هُوَ بتعجيل الْفرج بهَا، من حَيْثُ لم يغلب على ظَنِّي أَن أطلب الْفرج مِنْهُ.

أحمد بن أبي خالد، يبلغه أن جارية له توطئ فراشه غيره

أَحْمد بن أبي خَالِد، يبلغهُ أَن جَارِيَة لَهُ توطئ فرَاشه غَيره قَالَ: مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كتاب الوزراء: إِن إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الصولي. قَالَ: كنت أكتب لِأَحْمَد بن أبي خَالِد، فَدخلت عَلَيْهِ يَوْمًا، فرأيته مطرقا، مفكرا، مغموما، فَسَأَلته عَن الْخَبَر. فَأخْرج إِلَيّ رقْعَة، فَإِذا فِيهَا أَن حظية من أعز جواريه عِنْده، يُخَالف إِلَيْهَا، وتوطئ فرَاشه غَيره، وَيسْتَشْهد فِي الرقعة، بخادمين كَانَا ثقتين عِنْده. وَقَالَ لي: دَعَوْت الخادمين، فَسَأَلتهمَا عَن ذَلِك، فأنكرا، فتهددتهما، فأقاما على الْإِنْكَار، فضربتهما، وأحضرت لَهما آلَة الْعَذَاب، فاعترفا بِكُل مَا فِي الرقعة على الْجَارِيَة، وَإِنِّي لم أذق أمس وَلَا الْيَوْم طَعَاما، وَقد هَمَمْت بقتل الْجَارِيَة. فَوجدت بَين يَدَيْهِ مُصحفا، ففتحته لأتفاءل بِمَا يخرج فِيهِ، فَكَانَ أول مَا وَقعت عَيْني عَلَيْهِ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الْآيَة، فشككت فِي صِحَة الحَدِيث، وأريته مَا خرج بِهِ الفأل.

وَقلت: دَعْنِي أتلطف فِي كشف هَذَا. قَالَ: افْعَل. فخلوت بالخادمين منفردين، ورفقت بِأَحَدِهِمَا، فَقَالَ: النَّار وَلَا الْعَار، وَذكر أَن امْرَأَة ابْن أبي خَالِد، أَعطَتْهُ ألف دِينَار، وَسَأَلته الشَّهَادَة على الْجَارِيَة، وأحضرني الْكيس مَخْتُومًا بِخَاتم الْمَرْأَة، وأمرته أَن لَا يذكر شَيْئا إِلَّا بعد أَن يُوقع بِهِ الْمَكْرُوه، ليَكُون أثبت للْخَبَر، ودعوت الآخر، فاعترف بِمثل ذَلِك أَيْضا. فبادرت إِلَى أَحْمد بالبشارة، فَمَا وصلت إِلَيْهِ، حَتَّى جَاءَتْهُ رقْعَة الْحرَّة، تعلمه أَن الرقعة الأولى كَانَت من فعلهَا، غيرَة عَلَيْهِ من الْجَارِيَة، وَأَن جَمِيع مَا فِيهَا بَاطِل، وَأَنَّهَا حملت الخادمين على ذَلِك، وَأَنَّهَا تائبة إِلَى الله تَعَالَى من هَذَا الْفِعْل وَأَمْثَاله. فَجَاءَتْهُ بَرَاءَة الْجَارِيَة من كل وَجه فسر بذلك، وَزَالَ عَنهُ مَا كَانَ فِيهِ، وَأحسن إِلَى الْجَارِيَة.

سبب خروج أحمد بن محمد بن المدبر إلى الشام

سَبَب خُرُوج أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُدبر إِلَى الشَّام حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم طَلْحَة بن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الشَّاهِد، الْمُقْرِئ، الْمَعْرُوف بِغُلَام ابْن مُجَاهِد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن الخصيبي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو خازم القَاضِي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْمُدبر، قَالَ: كَانَ بَدْء خروجي إِلَى الشَّام، أَن المتَوَكل خرج يتنزه بالمحمدية، فَخَلا بِهِ

الْكتاب هُنَاكَ، فأحكموا على الْقِصَّة وَأَنا لَا أعلم، ثمَّ بعثوا إِلَيّ، وَأَنا لَا أَدْرِي، فَحَضَرت وهم مجتمعون، فَقَالُوا لي: وَكَانَ الْمُخَاطب لي مُوسَى بن عبد الْملك. فَقَالَ لي: قد جرت أَسبَاب أوجبت أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمر أَن تخرج إِلَى الرقة، فكم تحْتَاج لنفقتك؟ فَقلت: أما خروجي، فالسمع وَالطَّاعَة لأمير الْمُؤمنِينَ، وَأما الَّذِي أحتاج إِلَيْهِ للنَّفَقَة، فَهُوَ ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم. فَمَا بَرحت، حَتَّى دفعت إِلَيّ، وَقَالُوا: اخْرُج السَّاعَة. فَقلت: أودع أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالُوا: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل. فَقلت: أصلح من شأني. فَقَالُوا: وَلَا هَذَا، وَأخذ مُوسَى يعرض لي، أَن السُّلْطَان قد سخط عَليّ، وَأَن الصَّوَاب الْخُرُوج، وَترك الْخلاف. وَأَقْبل يَقُول: إِن السُّلْطَان إِذا سخط على الرجل، فَالصَّوَاب لذَلِك الرجل أَن يَنْتَهِي إِلَى أمره كُله، وَأَن لَا يُرَاجِعهُ فِي شَيْء، وَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن التباعد عَن السُّلْطَان، لَهُ فِيهِ الْحَظ. فَقلت: يَكْفِي الله ويلطف.

فوكلوا بِي جمَاعَة، حَتَّى خرجت من الْبَلَد، وَأَنا فِي حَالَة، الْأسر عِنْدِي أحسن مِنْهَا وَأطيب، وحثوا بِي السّير. فَلَمَّا قاربت الرقة، وَأَرَدْت الدُّخُول إِلَيْهَا، أدركنا اللَّيْل، فَإِذا بأعرابي فِي نَاحيَة عني، وَمَعَهُ إبل يحدوها، وَيَقُول: كم مرّة حفت بك المكاره ... خار لَك الله وَأَنت كَارِه قَالَ: وَلم يزل يُكَرر ذَلِك، فحفظته، وتبركت بالفأل، وَدخلت الرقة، فَلم أقِم بهَا إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة، حَتَّى ورد كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِالْخرُوجِ إِلَى الشَّام للتعديل، وأجرى على مائَة ألف دِرْهَم، وَذكر أَن هَذَا عمل جليل، كَانَ الْمَأْمُون خرج فِيهِ بِنَفسِهِ، لجلالته وَعظم خطره، وَأَنه رَآنِي أَهلا لَهُ. فَخرجت، فَرَأَيْت كل مَا أحب، حَتَّى لَو بذلت لي الْعرَاق بأسرها، على فِرَاق تِلْكَ النَّاحِيَة، مَا سمحت نفسا بذلك، فَللَّه الْحَمد والْمنَّة. وَذكر هَذَا الْخَبَر مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كتاب الوزراء، فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الخصيبي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو خازم القَاضِي، قَالَ: حَدثنِي جدك أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُدبر، وَكَانَ جده لأمه، وحَدثني أَنه لم يره قطّ، أَن المتَوَكل خرج إِلَى المحمدية سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ متنزها، فَأَتَانِي رَسُوله، وأحضرني، فَحَضَرت، فَوجدت عبيد الله بن يحيى،

وَالْحسن بن مخلد، وَأحمد بن الخصيب، وَجَمَاعَة من الْكتاب حضورا. فَقَالَ لي عبيد الله بن يحيى: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول لَك: قد فسد علينا أَمر الرقة، ثمَّ ذكر نَحوا من الحَدِيث الأول، إِلَّا أَنه لم يكن فِيهِ إِطْلَاق ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، بل قَالَ: فَخرجت وَمَا أقدر على نَفَقَة، ففكرت فِيمَن أقصده، واستعين بِمَالِه، فَمَا ذكرت غير الْمُعَلَّى بن أَيُّوب، وَكَانَت بيني وَبَينه وَحْشَة، فَكتبت إِلَيْهِ رقْعَة حملت نَفسِي على الصعب فِيهَا، فَوجه إِلَيّ خَمْسَة آلَاف دِينَار، فتحملت بهَا. . . ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث، على سِيَاقَة الْخَبَر الأول، إِلَّا أَنه قَالَ: إِن الَّذِي أجري عَلَيْهِ، لما أَمر بِالْخرُوجِ للتعديل، فِي كل شهر مائَة ألف وَعشْرين ألف دِرْهَم. قَالَ: فشخصت إِلَيْهَا، وَلَو أَعْطَيْت الْآن بقصري فِيهَا، سر من رأى كلهَا، مَا سمحت نفسا بذلك. وَكَانَ قصره بالرملة، وَكَانَ جَلِيلًا.

بين الحسن بن علي عليهما السلام ومعاوية بن أبي سفيان

بَين الْحسن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان 1: 251 أَخْبَرَنِي أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ، فِيمَا أَجَازَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، بَعْدَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِنْ حَدِيثٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ الصَّقْرِ بْنِ ثَوْبَانَ، مُسْتَمْلِي بُنْدَارٍ، وَكَتَبَهُ لَنَا بِخَطِّهِ، وَنَقَلْتُهُ أَنَا مِنْ أَصْلِ أَبِي طَالِبٍ، الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ بِخَطِّ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَوِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَدَعَا بِضِبَارَةِ سِيَاطٍ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَخَذَ السِّيَاطَ فَرَمَى بِهَا، وَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِسَيِّدِ شَبَابِ قُرَيْشٍ وَدَعَا بِعَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى زَمَانِكَ، فَلَمَّا

خَرَجَ تَبِعَهُ الْحَاجِبُ، فَقَالَ لَهُ: يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّا نَخْدُمُ هَذَا السُّلْطَانَ، وَلَسْنَا نَأْمَنُ بَادِرَتَهُ، وَقَدْ رَأَيْتُكَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ بِشَيْءٍ، فَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: أُعْلِمُكَ، عَلَى أَنْ لَا تُعْلِمَ أَحَدًا مِنْ آلِ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: §إِذَا وَقَعْتَ فِي شِدَّةٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، أَوْ خِفْتَ مِنْ سُلْطَانٍ، فَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ جَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَعَزَّ جَارُكَ، وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فُلانٍ، وَأَتْبَاعِهِ، وَأَشْيَاعِهِ، مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، أَنْ يُفْرِطُوا عَلَيَّ، أَوْ أَنْ يَطْغَوْا

لا إله إلا الله الحليم الكريم

لَا إِلَه إِلَّا الله الْحَلِيم الْكَرِيم 1: 253 أَخْبَرَنِي الْقَاضِي أَبُو طَالِبٍ إِجَازَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ ابْنَتَهُ إِلَى زَوْجِهَا، خَلا بِهَا، فَقَالَ لَهَا: §إِذَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ فَظِيعٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، أَوِ الْمَوْتِ، فَاسْتَقْبِلِيهِ بِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ الْحَسَنُ: فَبَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ، فَقُلْتُهُنَّ، فَلَمَّا مَثُلْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: لَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أُرِيدُ قَتْلَكَ، وَالْيَوْمُ مَا أَحَدٌ أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْكَ، فَسَلْ حَوَائِجَكَ

دعاء يعقوب الذي نال به الفرج

دُعَاء يَعْقُوب الَّذِي نَالَ بِهِ الْفرج حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي المثني بن عبد الْكَرِيم، قَالَ: حَدثنِي زَافِر بن سُلَيْمَان، عَن يحيى بن سليم، قَالَ: بَلغنِي أَن ملك الْمَوْت، اسْتَأْذن ربه عز وَجل، أَن يسلم على يَعْقُوب، فَأذن لَهُ، فَأَتَاهُ، فَسلم عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب: بِالَّذِي خلقك، أقبضت روح يُوسُف؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أعلمك كَلِمَات لَا تسْأَل الله بهَا شَيْئا إِلَّا أَعْطَاك. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: قل يَا ذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَنْقَطِع أبدا، وَلَا يُحْصِيه غَيره. فَقَالَهَا، فَمَا طلع الْفجْر من غده، حَتَّى أَتَاهُ البشير بالقميص. حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنِي أَبُو غَسَّان مَالك بنى ضيغم، عَن إِبْرَاهِيم بن خَلاد الْأَزْدِيّ، قَالَ:

نزل جِبْرِيل على يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام، فشكي إِلَيْهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ من الشوق إِلَى يُوسُف، فَقَالَ: أَلا أعلمك دُعَاء، إِن دَعَوْت بِهِ فرج الله عَنْك؟ قَالَ: بلي. قَالَ: قل: يَا من لَا يعلم كَيفَ هُوَ، إِلَّا هُوَ، وَيَا من لَا يبلغ قدرته غَيره، فرج عني. فَقَالَهَا، فَأَتَاهُ البشير بالقميص. حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُون بن عبد الله، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد بن عَامر الضبعِي، عَن المعمر بن سُلَيْمَان، قَالَ: لَقِي يَعْقُوب رجل، فَقَالَ لَهُ: يَا يَعْقُوب، مَا لي لَا أَرَاك كَمَا كنت؟ قَالَ: طول الزَّمَان، وَكَثْرَة الأحزان. قَالَ: قل: اللَّهُمَّ اجْعَل لي من كل هم همني وكربني من أَمْرِي، فِي ديني ودنياي، وآخرتي، فرجا ومخرجا، واغفر لي ذُنُوبِي، وَثَبت رجاءك فِي قلبِي، واقطعه عَمَّن سواك، حَتَّى لَا يكون لي رَجَاء إِلَّا إياك. قَالَ: دَاوُد بن رشيد، حَدثنِي الْوَلِيد بن مُسلم، عَن خُلَيْد بن دعْلج،

عَن الْحسن بن أبي الْحسن، قَالَ: لَو عري من الْبِلَاد أحد، لعري مِنْهُ آل يَعْقُوب، مسهم الْبلَاء ثَمَانُون سنة. حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدثنِي ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي مُدْلِج بن عبد الْعَزِيز، عَن شيخ من قُرَيْش: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام هَبَط على يَعْقُوب صلى الله عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا يَعْقُوب، تملق إِلَى رَبك. فَقَالَ: يَا جِبْرِيل، كَيفَ أَقُول؟ فَقَالَ: قل: يَا كثير الْخَيْر، يَا دَائِم الْمَعْرُوف. فَأوحى الله إِلَيْهِ، لقد دعوتني بِدُعَاء، لَو كَانَ ابناك ميتين، لأنشرتهما لَك. 1: 256 43 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا زَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَانَ §لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَخٌ مُؤَاخٍ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ لِيَعْقُوبَ:

مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ، وَقَوَّسَ ظَهْرَكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرِي، فَالْحُزْنُ عَلَى بنْيَامِينَ، وَأَمَّا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرِي، فَالْبُكَاءُ عَلَى يُوسُفَ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَمَا تَسْتَحْيِي، تَشْكُونِي إِلَى عَبْدِي. قَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ، ارْحَمِ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ، أَذْهَبْتَ بَصَرِي، وَقَوَّسْتَ ظَهْرِي، أرْدِدْ عَلَيَّ رَيْحَانَتِي يُوسُفَ، أَشُمَّهُ ثُمَّ افْعَلْ بِي مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكَ: أَبْشِرْ، وَلْيَفْرَحْ قَلْبُكَ، فَوَعِزَّتِي لَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ، لأَنْشَرْتُهُمَا لَكَ، فَاصْنَعْ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ وَادْعُهُمْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ، الأَنْبِيَاءَ وَالْمَسَاكِينَ، وَإِنَّ الَّذِي ذَهَبَ بِبَصَرِكَ، وَقَوَّسَ ظَهْرَكَ، وَسَبَّبَ صُنْعَ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ مَا صَنَعُوا، أَنَّكُمْ ذَبَحْتُمْ شَاةً، فَأَتَاكُمْ رَجُلٌ صَائِمٌ، فَلَمْ تُطْعِمُوهُ. فَكَانَ يَعْقُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْغَدَاءَ، أَمَرَ مُنَادِيَهُ، فَنَادَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْغَدَاءَ مِنَ الْمَسَاكِينَ فَلْيَتَغَدَّ مَعَ يَعْقُوبَ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا أَمَرَ مُنَادِيَهُ، فَنَادَى: مَنْ كَانَ صَائِمًا مِنَ الْمَسَاكِينَ فَلْيُفْطِرْ مَعَ يَعْقُوبَ.

كلمات الفرج التي دعا بها يوسف

كَلِمَات الْفرج الَّتِي دَعَا بهَا يُوسُف حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِم بن هَاشم، قَالَ: حَدَّثَنَا الْخطاب بن عُثْمَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مَحْمُود بن عمر، عَن رجل من أهل الْكُوفَة: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام دخل على يُوسُف السجْن، فَقَالَ لَهُ: يَا طيب! مَا الَّذِي أدْخلك هَا هُنَا؟ قَالَ: أَنْت أعلم. قَالَ: فَلَا أعلمك كَلِمَات الْفرج؟ قَالَ: بلي. قَالَ: قل: اللَّهُمَّ، يَا شَاهدا غير غَائِب، وَيَا قَرِيبا غير بعيد، وَيَا غَالِبا غير مغلوب، اجْعَل لي من أَمْرِي هَذَا فرجا ومخرجا، وارزقني من حَيْثُ لَا أحتسب حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي أَزْهَر بن مَرْوَان الرقاشِي، قَالَ: حَدثنِي قزعة بن

سُوَيْد، عَن أبي سعيد مُؤذن الطَّائِف: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام: أَتَى يُوسُف، فَقَالَ: يَا يُوسُف، اشْتَدَّ عَلَيْك الْحَبْس؟ قَالَ: نعم. قَالَ: قل: اللَّهُمَّ اجْعَل لي من كل مَا أهمني، وحزبني، من أَمر دنياي وآخرتي، وفرجا ومخرجا، وارزقني من حَيْثُ لَا أحتسب، واغفر لي ذُنُوبِي، وَثَبت رجاءك فِي قلبِي، واقطعه عَمَّن سواك، حَتَّى لَا أَرْجُو أحدا غَيْرك حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، ثال حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عباد بن مُوسَى، قَالَ: حَدثنِي عبد الْعَزِيز الْقرشِي، عَن جَعْفَر بن سُلَيْمَان، عَن غَالب الْقطَّان قَالَ: لما اشْتَدَّ كرب يُوسُف، وَطَالَ سجنه، واتسخت ثِيَابه، وشعث رَأسه، وجفاه النَّاس، دَعَا عِنْد ذَلِك، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك مَا لقِيت من ودي وعدوي، أما ودي، فباعوني، وَأما عدوي، فحبسني، اللَّهُمَّ اجْعَل لي فرجا ومخرجا. فَأعْطَاهُ الله عز وَجل ذَلِك.

إبراهيم التيمي الزاهد في حبس الحجاج بن الجراح يوسف الثقفي

إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ الزَّاهِد فِي حبس الْحجَّاج بن الْجراح يُوسُف الثَّقَفِيّ حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن مَحْبُوب، قَالَ: قَالَ الْفَيْض بن إِسْحَاق، قَالَ: الفضيل بن عِيَاض، قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: لما حبست الحبسة الْمَشْهُورَة، أدخلت السجْن، فأنزلت على أنَاس فِي قيد وَاحِد، وَمَكَان ضيق، لَا يجد الرجل إِلَّا مَوضِع مَجْلِسه، وَفِيه يَأْكُلُون، وَفِيه يَتَغَوَّطُونَ، وَفِيه يصلونَ. قَالَ: فجيء بِرَجُل من أهل الْبَحْرين، فَأدْخل علينا، فَلم نجد مَكَانا، فَجعلُوا يتبرمون بِهِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّمَا هِيَ اللَّيْلَة. فَلَمَّا دخل اللَّيْل، قَامَ يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا رب، مننت عَليّ بِدينِك، وعلمتني كتابك، ثمَّ سلطت عَليّ شَرّ خلقك، يَا رب، اللَّيْلَة، اللَّيْلَة، لَا أصبح فِيهِ. فَمَا أصبحا حَتَّى ضربت أَبْوَاب السجْن: أَيْن البحراني، أَيْن البحراني؟ فَقَالَ كل منا: مَا دعِي السَّاعَة، إِلَّا ليقْتل، فخلي سَبيله. فجَاء، فَقَامَ على بَاب السجْن، فَسلم علينا، وَقَالَ: أطِيعُوا الله لَا يضيعكم.

أبو سعد البقال في حبس الحجاج بن الجراح يوسف الثقفي

أَبُو سعد الْبَقَّال فِي حبس الْحجَّاج بن الْجراح يُوسُف الثَّقَفِيّ حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي أَبُو نصر الْمُؤَدب، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الطَّائِي، قَالَ: أخبرنَا أَبُو سعد الْبَقَّال، قَالَ: كنت مَحْبُوسًا فِي ديماس الْحجَّاج، ومعنا إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، فَبَاتَ فِي السجْن، فَأتي رجل، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاق، فِي أَي شَيْء حبست؟ فَقَالَ: جَاءَ العريف، فتبرأ مني، وَقَالَ: إِن هَذَا كثير الصَّوْم وَالصَّلَاة، وأخاف أَنه يرى رَأْي الْخَوَارِج. فَإنَّا لنتحدث مَعَ مغيب الشَّمْس، ومعنا إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ، إِذْ دخل علينا رجل السجْن، فَقُلْنَا: يَا عبد الله، مَا قصتك، وأمرك؟

فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَلَكِنِّي أخذت فِي رَأْي الْخَوَارِج، وَوَاللَّه، إِنَّه لرأي مَا رَأَيْته قطّ، وَلَا أحببته، وَلَا أَحْبَبْت أَهله، يَا هَؤُلَاءِ، ادعوا لي بِوضُوء، فدعونا لَهُ بِهِ، ثمَّ قَامَ فصلى أَربع رَكْعَات، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم، أَنِّي كنت على إساءتي وظلمي، وإسرافي على نَفسِي، لم أجعَل لَك ولدا، وَلَا شَرِيكا، وَلَا ندا، وَلَا كُفؤًا، فَإِن تعذب فَعدل، وَإِن تعف، فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك يَا من لَا تغلطه الْمسَائِل، وَلَا يشْغلهُ سمع عَن سمع، وَيَا من لَا يبرمه إلحاح الملحين، أَن تجْعَل لي فِي سَاعَتِي هَذِه، فرجا ومخرجا مِمَّا أَنا فِيهِ، من حَيْثُ أَرْجُو، وَمن حَيْثُ لَا أَرْجُو، وَخذ لي بقلب عَبدك الْحجَّاج، وسَمعه، وبصره، وَيَده وَرجله، حَتَّى لَا تخرجني فِي سَاعَتِي هَذِه، فَإِن قلبه، وناصيته بِيَدِك، يَا رب، يَا رب. قَالَ: وَأكْثر، فوالذي لَا إِلَه غَيره، مَا انْقَطع دعاؤه، حَتَّى ضرب بَاب السجْن وَقيل أَيْن فلَان؟ فَقَامَ صاحبنا، فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ، إِن تكن الْعَافِيَة، فوَاللَّه، لَا أدع الدُّعَاء لكم، وَإِن تكن الْأُخْرَى، فَجمع الله بَيْننَا وَبَيْنكُم، فِي مُسْتَقر رَحمته. قَالَ: فَبَلغنَا من الْغَد، أَنه خلي سَبيله 89

سبحان الله وبحمده

سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عباد بن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا كثير بن هِشَام، عَن الحكم بن هِشَام الثَّقَفِيّ، قَالَ: أخْبرت أَن رجلا أَخذ أَسِيرًا، فألقي فِي جب، وَأُلْقِي على رَأس الْجب صَخْرَة، فتلقن فِيهِ: قل: سُبْحَانَ الله الْحَيّ القدوس، سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، فَأخْرج من غير أَن يكون أخرجه إِنْسَان.

يا عزيز يا حميد يا ذا العرش المجيد

يَا عَزِيز يَا حميد يَا ذَا الْعَرْش الْمجِيد قَالَ: مؤلف هَذَا الْكتاب، وَقد ذكر القَاضِي هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَرِي، قَالَ: سَمِعت أَبَا بلج الْفَزارِيّ، قَالَ: أُتِي الْحجَّاج بن يُوسُف، بِرَجُل كَانَ جعل على نَفسه، إِن ظفر بِهِ، أَن يقْتله، قَالَ: فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ، تكلم بِكَلَام، فخلى سَبيله. فَقيل لَهُ: أَي شَيْء قلت؟ فَقَالَ: قلت: يَا عَزِيز، يَا حميد، يَا ذَا الْعَرْش الْمجِيد، اصرف عني مَا أُطِيق، وَمَا لَا أُطِيق، واكفني شَرّ كل جَبَّار عنيد.

دعاء النبي صلوات الله عليه في كل هم

دُعَاء النَّبِي صلوَات الله عَلَيْهِ فِي كل هم 1: 265 44 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكُوفِيُّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ، §دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي كُلِّ هَمٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ، وَهُوَ: يَا كَائِنًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، يَا مُكَوِّنَ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَا كَائِنًا بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، افْعَلْ بِي كَذَا وَكَذَا

الدعاء الذي خلص عمرو السرايا من العلج

الدُّعَاء الَّذِي خلص عَمْرو السَّرَايَا من العلج حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، قَالَ: حَدثنِي إِسْحَاق بن عِيسَى، ابْن بنت دَاوُد بن أبي هِنْد، عَن الْحَارِث الْبَصْرِيّ، عَن عَمْرو السَّرَايَا، قَالَ: كنت أغير فِي بِلَاد الرّوم وحدي، فَبينا أَنا ذَات يَوْم نَائِم، إِذْ ورد عَليّ علج، فحركني بِرجلِهِ، فانتبهت. فَقَالَ لي: يَا عَرَبِيّ، اختر، إِن شِئْت مسايفة، وَإِن شِئْت مطاعنة، وَإِن شِئْت مصارعة. فَقلت: أما المسايفة والمطاعنة، فَلَا بَقينَا لَهما، وَلَكِن مصارعة، فَنزل، فَلم ينهنهني أَن صرعني، وَجلسَ على صَدْرِي، وَقَالَ: أَي قتلة تُرِيدُ أَن أَقْتلك؟ فَذكرت الدُّعَاء، فَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء، فَقلت: أشهد أَن كل معبود مَا دون عرشك، إِلَى قَرَار الْأَرْضين، بَاطِل غير وَجهك الْكَرِيم، فقد ترى مَا أَنا فِيهِ، فَفرج عني، وأغمي عَليّ، فَأَفَقْت، فَرَأَيْت الرُّومِي قَتِيلا إِلَى جَانِبي. قَالَ إِسْحَاق ابْن بنت دَاوُد، فَسَأَلت الْحَارِث الْبَصْرِيّ، عَن الدُّعَاء، فَقَالَ:

سَأَلت عَنهُ عَمْرو السَّرَايَا، فَقلت لَهُ: بِاللَّه يَا عَمْرو مَا قلت؟ قَالَ: قلت: اللَّهُمَّ رب إِبْرَاهِيم، وَإِسْمَاعِيل، وَإِسْحَاق، وَيَعْقُوب، وَرب جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ومنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَالزَّبُور، وَالْقُرْآن الْعَظِيم، ادرأ عني شَره، فدرأ عني شَره. قَالَ: إِسْحَاق ابْن بنت دَاوُد: فحفظته وَقلت أعلمهُ النَّاس، فَوَجَدته نَافِذا، وَهُوَ الْإِخْلَاص بِعَيْنِه.

تخلص من القتل بدعاء دعا به

تخلص من الْقَتْل بِدُعَاء دَعَا بِهِ حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير بن حَفْص، عَن الشّعبِيّ، قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد زِيَاد، فَأتي بِرَجُل يحمل، مَا يشك فِي قَتله، فحرك الرجل شَفَتَيْه بِشَيْء مَا نَدْرِي مَا هُوَ، فخلى سَبيله. فَقلت للرجل: مَا قلت؟ قَالَ: قلت: اللَّهُمَّ رب إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب، وَرب جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل، ومنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَالْفرْقَان الْعَظِيم، ادرأ عني شَرّ زِيَاد، فدرأه عني.

هارون الرشيد يأمر بقتل فتى علوي فينجيه الله تعالى

هَارُون الرشيد يَأْمر بقتل فَتى علوي فينجيه الله تَعَالَى أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَخْبرنِي عِيسَى بن عبد الْعَزِيز الظَّاهِرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو عبد الله قَالَ: أَمر الرشيد بعض خدمه، فَقَالَ: إِذا كَانَ اللَّيْل، فصر إِلَى الْحُجْرَة الْفُلَانِيَّة، فافتحها، وَخذ من رَأَيْت فِيهَا، فأت بِهِ مَوضِع كَذَا وَكَذَا، من الصَّحرَاء الْفُلَانِيَّة، فَإِن ثمَّ قليبا محفورا، فارم بِهِ، وطمه بِالتُّرَابِ، وَليكن مَعَك فلَان الْحَاجِب. قَالَ: فجَاء الْغُلَام إِلَى بَاب الْحُجْرَة، ففتحه، فَإِذا فِيهَا غُلَام كَالشَّمْسِ الطالعة، فجذبناه جذبا عنيفا. فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ الله، فَأَنِّي ابْن رَسُول الله، فَالله، الله، أَن تلقي الله بدمي، فَلم يلْتَفت إِلَى قَوْله، وَأخرجه إِلَى الْموضع. فَلَمَّا أشرف الْفَتى على التّلف، وَشَاهد القليب، قَالَ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّك على رد

مَا لم تفعل، أقدر مِنْك على رد مَا فعلت، فَدَعْنِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وامض لما أمرت بِهِ. فَقَالَ لَهُ: شَأْنك وَمَا تُرِيدُ. فَقَامَ الفتي، فَصلي رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فيهمَا: يَا خَفِي اللطف، أَغِثْنِي فِي وقتي هَذَا، والطف بِي بلطفك الْخَفي. فَلَا وَالله مَا استتم دعاءه، حَتَّى هبت ريح وغبرة، حَتَّى لم ير بَعضهم بَعْضًا، فوقعوا لوجوههم، وَاشْتَغلُوا بِأَنْفسِهِم عَن الْفَتى، ثمَّ سكنت الرّيح والغبرة، وطلبنا الْفَتى، فَلم يُوجد، وقيوده مرمية. فَقَالَ الْحَاجِب لمن مَعَه: هلكنا وَالله، سيقع لأمير الْمُؤمنِينَ أَنا أطلقناه، فَمَاذَا نقُول لَهُ؟ إِن كذبناه لم نَأْمَن أَن يبلغهُ خبر الْفَتى فيقتلنا، وَلَئِن صدقناه، ليجعلن لنا الْمَكْرُوه. فَقَالَ لَهُ الآخر: يَقُول الْحَكِيم: إِن كَانَ الْكَذِب يُنجي، فالصدق أَرْجَى وأنجى. فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُم: مَا فَعلْتُمْ فِيمَا تقدّمت بِهِ إِلَيْكُم؟ فَقَالَ لَهُ الْحَاجِب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، الصدْق أولى مَا اتبع فِي جَمِيع الْأُمُور، ومثلي لَا يجترئ أَن يكذب بحضرتك، وَإنَّهُ كَانَ من الْخَبَر كَيْت وَكَيْت. فَقَالَ الرشيد: لقد تَدَارُكه اللطف الْخَفي، وَالله، لأجعلنها فِي مُقَدمَات دعائي، امْضِ لشأنك، واكتم مَا جرى.

يا سامع كل صوت يا بارئ النفوس بعد الموت

يَا سامع كل صَوت يَا بارئ النُّفُوس بعد الْمَوْت حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَمْرو بن البخْترِي الْبَزَّاز، فِي جَامع الْمَنْصُور، فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفضل بن إِسْحَاق الدوري، عَن مُحَمَّد بن الْحسن، عَن أبي سَلمَة عبد الله مَنْصُور، قَالَ: حزن رجل حزنا شَدِيدا، على شَيْء لحقه، وَأمر أهمه وأقلقه، فألح فِي الدُّعَاء، فَهَتَفَ بِهِ هَاتِف: يَا هَذَا، قل: يَا سامع كل صَوت، يَا بارئ النُّفُوس بعد الْمَوْت، وَيَا من لَا تغشاه الظُّلُمَات، وَيَا من لَا يشْغلهُ شَيْء عَن شَيْء. قَالَ: فَدَعَا بهَا، فَفرج الله عَنهُ، وَلم يسْأَل الله تِلْكَ اللَّيْلَة حَاجَة، إِلَّا أعطَاهُ.

لا حول ولا قوة إلا بالله

لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه حَدَّثَنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي الْقَاسِم بن هَاشم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بن عَمْرو، عَن أبي يحيى إِسْحَاق العدواني، قَالَ: كُنَّا بِإِزَاءِ آزرمهر، عِنْد مَدِينَة الكرج، وَقد زحف إِلَيْنَا فِي ثَمَانِينَ فيلا، فَكَادَتْ تنقض الصُّفُوف، وتشتت الْخُيُول، وَكَانَ أميرنا مُحَمَّد بن الْقَاسِم، فَنَادَى عمرَان بن النُّعْمَان أَمِير أهل حمص، وأمراء الأجناد، فنهضوا، فَمَا اسْتَطَاعُوا، فَلَمَّا أعيته الْأُمُور، نَادَى مرَارًا: لَا حول وَلَا قُوَّة

إِلَّا بِاللَّه، فكشف الله الفيلة، وسلط عَلَيْهَا الْحر، فأنضحها، فَفَزِعت إِلَى المَاء، فَمَا اسْتَطَاعَ سواسها، وَلَا أَصْحَابهَا، حَبسهَا، وحملت خَيْلنَا، وَكَانَ الْفَتْح بِإِذن الله تَعَالَى حَدَّثَنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِم بن هَاشم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بن عَمْرو، عَن الْأَشْيَاخ: أَن حبيب بن مسلمة كَانَ يسْتَحبّ إِذا لَقِي الْعَدو، أَو ناهض حصنا، أَن يَقُول: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. ثمَّ إِنَّه ناهض يَوْمًا حصنا، فَانْهَزَمَ الرّوم، وتحصنوا فِي حصن آخر لَهُم، أعجزه، فَقَالَهَا، فانصدع الْحصن.

الذي كفاك الأمس يكفيك غدك

الَّذِي كَفاك الأمس يَكْفِيك غدك حَدَّثَنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: بَلغنِي أَن بعض الْمُلُوك، نفي وزيرا لَهُ، لموجدة وجدهَا عَلَيْهِ، فَاغْتَمَّ لذَلِك غما شَدِيدا، فَبينا هُوَ يسير، إِذْ أنْشدهُ رجل هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: أحسن الظَّن بِرَبّ عودك ... حسنا أمس وَسوى أودك إِن رَبًّا كَانَ يَكْفِيك الَّذِي ... كَانَ بالْأَمْس سيكفيك غدك فَسرِّي عَن الوزيرٌ، وَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.

لا تيأسن كأن قد فرج الله

لَا تيأسن كَأَن قد فرج الله حَدَّثَنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن السراج، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي رَجَاء، مولى بني هَاشم، قَالَ: أصابني هم شَدِيد، لأمر كنت فِيهِ، فَرفعت مقْعدا لي، كنت جَالِسا عَلَيْهِ، فَإِذا برقعة مَكْتُوبَة فَنَظَرت فِيهَا، فَإِذا فِيهَا مَكْتُوب: يَا صَاحب الْهم إِن الْهم مُنْقَطع ... لَا تيأسن كَأَن قد فرج الله قَالَ: فَذهب عني مَا كنت فِيهِ من الْغم، وَلم ألبث أَن فرج الله عني، فَللَّه الْحَمد وَالشُّكْر. كن للمكاره بالعزاء مقطعا حَدثنِي أَبُو بكر الثَّقَفِيّ، قَالَ: قَالَ بَعضهم: أصابني هم ضقت بِهِ ذرعا، فَنمت، فَرَأَيْت كَأَن قَائِلا يَقُول: كن للمكاره بالعزاء مقطعا ... فَلَعَلَّ يَوْمًا لَا ترى مَا تكره ولربما ابتسم الوقور من الْأَذَى ... وضميره من حره يتأوه

الوزير محمد بن القاسم يلاقي عاقبة ظلمه

الْوَزير مُحَمَّد بن الْقَاسِم يلاقي عَاقِبَة ظلمه حَدثنِي أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحسن، الشَّاهِد الْمَعْرُوف بالجراحي، من حفظه، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن بن أبي الطَّاهِر مُحَمَّد بن الْحسن الْكَاتِب، صَاحب الْجَيْش، قَالَ: قبض عَليّ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عبيد الله، فِي أَيَّام وزارته للقاهر بِاللَّه، وعَلى أبي، فحبسنا فِي حجرَة ضيقَة، وأجلسنا على التُّرَاب، وشدد علينا، وَكَانَ يخرجنا فِي كل يَوْم، فَيُطَالب أبي بِمَال المصادرة، وأضرب أَنا بِحَضْرَة أبي، وَلَا يضْرب هُوَ، فلاقينا من ذَلِك أمرا شَدِيدا صعبا. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، قَالَ: لي أبي: إِن هَؤُلَاءِ الموكلين، قد صَارَت لَهُم بِنَا حُرْمَة، فتوصل إِلَى مُكَاتبَة أبي بكر الصَّيْرَفِي، وَكَانَ صديقا لأبي - حَتَّى

ينفذ إِلَيْنَا بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، نفرقها فيهم، فَفعلت ذَلِك، فأنفذ إِلَيْنَا بِالْمَالِ من يَوْمه. فَقلت للموكلين، فِي عشي ذَلِك الْيَوْم: قد وَجَبت لكم علينا حُقُوق، فَخُذُوا هَذِه الدَّرَاهِم، فانتفعوا بهَا، فامتنعوا. فَقلت: مَا سَبَب امتناعكم؟ فوروا عَن ذَلِك. فَقلت: إِمَّا قبلتم، وَإِمَّا عرفتمونا السَّبَب الَّذِي لأَجله امتناعكم. فَقَالُوا: نشفق عَلَيْكُم، ونستحي من ذَلِك. فَقَالَ لَهُم أبي: اُذْكُرُوهُ على كل حَال. قَالُوا: قد عزم الْوَزير على قتلكما اللَّيْلَة، وَلَا نستحسن أَخذ شَيْء مِنْكُمَا مَعَ هَذَا. فقلقت، وَدخلت إِلَى أبي بِغَيْر تِلْكَ الصُّورَة، فَقَالَ: مَا لَك؟ فَأَخْبَرته بالْخبر، وَقلت لأبي: مَا أصنع بِالدَّرَاهِمِ؟ فَقَالَ: ردهَا على أبي بكر، فرددتها عَلَيْهِ. وَكَانَ أبي يَصُوم تِلْكَ الْأَيَّام كلهَا، فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْس، تطهر، وَصلى الْمغرب، فَصليت مَعَه، وَلم يفْطر، ثمَّ أقبل على الصَّلَاة وَالدُّعَاء، إِلَى أَن صلى الْعشَاء الْآخِرَة، ثمَّ دَعَاني. فَقَالَ: اجْلِسْ يَا بني إِلَى جَانِبي، جاثيا على ركبتك، فَفعلت، وَجلسَ هُوَ كَذَلِك. ثمَّ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: يَا رب، مُحَمَّد بن الْقَاسِم ظَلَمَنِي وحبسني على مَا ترى، وَأَنا بَين يَديك، وَقد استعديت إِلَيْك، وَأَنت أحكم الْحَاكِمين، فاحكم بَيْننَا، لَا يزِيد عَن ذَلِك.

ثمَّ صَاح بهَا إِلَى أَن ارْتَفع صَوته، وَلم يزل يكررها بصياح ونداء واستغاثة، إِلَى أَن ظَنَنْت أَنه قد مضى ربع اللَّيْل. فوَاللَّه مَا قطعهَا حَتَّى سَمِعت الْبَاب يدق، فَذهب عَليّ أَمْرِي، وَلم أَشك فِي أَنه الْقَتْل. وَفتحت الْأَبْوَاب، فَدخل قوم بشموع، فتأملت، وَإِذا فيهم سَابُور، خَادِم القاهر، فَقَالَ: أَيْن أَبُو طَاهِر؟ فَقَامَ إِلَيْهِ أبي، فَقَالَ: هَا أنذا. فَقَالَ: أَيْن ابْنك؟ فَقَالَ: هوذا. فَقَالَ: انصرفا إِلَى منزلكما، فخرجنا، فَإِذا هُوَ قد قبض على مُحَمَّد بن الْقَاسِم، وحدره إِلَى دَار القاهر. وعاش مُحَمَّد بن الْقَاسِم فِي الاعتقال ثَلَاثَة أَيَّام، وَمَات.

طاهر بن الحسين يحمل الدراهم في كمه ويفرقها على الفقراء

طَاهِر بن الْحُسَيْن يحمل الدَّرَاهِم فِي كمه ويفرقها على الْفُقَرَاء لما خرج طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى محاربة عَليّ بن عِيسَى بن ماهان، جعل ذَات يَوْم فِي كمه دَرَاهِم، يفرقها فِي الْفُقَرَاء، ثمَّ سَهَا عَنْهَا، فأرسلها، فتبددت، فتطير بذلك، واغتم غما شَدِيدا، حَتَّى تبين فِي وَجهه، فأنشده شَاعِر كَانَ فِي عسكره: هَذَا تفرق جمعهم لَا غَيره ... وذهابه مِنْكُم ذهَاب الْهم شَيْء يكون الْهم بعض حُرُوفه ... لَا خير فِي إِمْسَاكه فِي الْكمّ قَالَ: فسلا طَاهِر، وَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.

الهادي يتهدد يحيى البرمكي ويتوعده بكل عظيمة

الْهَادِي يتهدد يحيى الْبَرْمَكِي ويتوعده بِكُل عَظِيمَة انْصَرف يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، من عِنْد الْهَادِي، وَقد ناظره فِي تسهيل خلع الْعَهْد على هَارُون، فَحلف لَهُ يحيى أَنه فعل، وَجهد فِيهِ، فَامْتنعَ عَلَيْهِ هَارُون. فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: كذبت، وَوَاللَّه لَأَفْعَلَنَّ بك وأصنعن، وتوعده بِكُل عَظِيمَة، وَصَرفه. فجَاء إِلَى بَيته، فَكلم بعض غلمانه بِشَيْء، فَأَجَابَهُ بِمَا غاظه، فَلَطَمَهُ يحيى، فَانْقَطَعت حَلقَة خَاتمه، وطاح الفص، فَاشْتَدَّ ذَلِك على يحيى، وَتَطير مِنْهُ، واغتم، فَدخل عَلَيْهِ السياري الشَّاعِر، وَقد أخبر بالقصة، فأنشده فِي الْحَال:

أخلاك من كل الهموم سُقُوطه ... وأتاك بالفرج انفراج الْخَاتم قد كَانَ ضَاقَ ففك حَلقَة ضيقه ... فاصبر فَمَا ضيق الزَّمَان بدائم قَالَ: فَمَا أَمْسَى حَتَّى ارْتَفَعت الواعية بِمَوْت مُوسَى الْهَادِي، وَصَارَ الْأَمر إِلَى هَارُون الرشيد، فَأعْطَاهُ مائَة ألف دِرْهَم.

موسى بن عبد الملك، صاحب ديوان الخراج يموت وهو على صهوه جواده

مُوسَى بن عبد الْملك، صَاحب ديوَان الْخراج يَمُوت وَهُوَ على صهوه جَوَاده قَالَ أَبُو عَليّ القنائي، قَالَ لي جدي: بكرت يَوْمًا إِلَى مُوسَى بن عبد الْملك، وَحضر دَاوُد بن الْجراح، فَوقف إِلَى جَانِبي، فَقَالَ لي: كَانَ لي أمس خبر طريف، انصرفت من عِنْد مُوسَى بن عبد الْملك، فَوجدت فِي منزلي امْرَأَة من شرائف النِّسَاء، فشكته إِلَيّ، وَقَالَت: قد حاول أَن يَأْخُذ ضيعتي الْفُلَانِيَّة، وَأَنت تعلم أَنَّهَا عمدتي فِي معيشتي، وَأَن فِي عنقِي صبية أيتاما، فَأَي شَيْء تدبر فِي أَمْرِي، أَو تُشِير عَليّ؟ .

فَقلت: من مَعَك وَرَاء السّتْر؟ فَقَالَت: مَا معي أحد. فَقلت: أما التَّدْبِير فِي أَمرك، فَمَا لي فِيهِ حِيلَة، وَأما المشورة، فقد قَالَ النبطي: لَا تبع أَرْضك من إقدام الرجل السوء، فَإِن الرجل السوء يَمُوت، وَالْأَرْض تبقى، فدعَتْ لي، وانصرفت. فَمَا انْقَضى كَلَامه، حَتَّى خرج مُوسَى، فَقَالَ لدواد: يَا أَبَا سُلَيْمَان، لَا تبع أَرْضك من إقدام الرجل الرَّدِيء، فَإِنَّهُ يَمُوت، وَالْأَرْض تبقى. فَقَالَ لي دَاوُد: أسمعت؟ هَذَا وَالله الْمَوْت، أَيْن أهرب؟ أَيْن أمضي؟ مَا آمنهُ وَالله على نَفسِي، وَلَا على نعمتي، فأشر عَليّ بِمَا أصنع، قبل نَفاذ طريقنا، ونزولنا مَعَه إِلَى الدِّيوَان. فَقلت: وَالله، مَا أَدْرِي. فَرفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي أمره، وشره، وضره، فَإنَّك تعلم قصتي، وَأَنِّي مَا أردْت بِمَا قلت إِلَّا الْخَيْر، وَاشْتَدَّ قلقه وبكاؤه ودعاؤه. وقربنا من الدِّيوَان، فَقَالَ مُوسَى، وَهُوَ على دَابَّته: مَتى حدث هَذَا الْجَبَل الْأسود فِي طريقنا؟ وَمَال على سَرْجه حَتَّى سقط، وأسكت. فَحمل إِلَى منزله، وَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ.

يا ذا العرش اصنع كيف شئت فإن أرزاقنا عليك

يَا ذَا الْعَرْش اصْنَع كَيفَ شِئْت فَإِن أرزاقنا عَلَيْك ذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه: قَالَ: أَبُو سعيد، وَأَنا أَحْسبهُ يَعْنِي الْأَصْمَعِي: نزلت بحي من كلب مجدبين، قد توالت عَلَيْهِم السنون، فَمَاتَتْ الْمَوَاشِي، ومنعت الأَرْض من إِخْرَاج النَّبَات، وَأَمْسَكت السَّمَاء قطرها، فَجعلت أنظر إِلَى السحابة ترْتَفع من نَاحيَة الْقبْلَة سَوْدَاء مُتَقَارِبَة، حَتَّى تطبق الأَرْض، فيتشوف لَهَا أهل الْحَيّ ويرفعون أَصْوَاتهم بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ يعدلها الله عَنْهُم مرَارًا. فَلَمَّا كثر ذَلِك، خرجت عَجُوز مِنْهُم، فعلت نشزا من الأَرْض، ثمَّ نادت بِأَعْلَى صَوتهَا: يَا ذَا الْعَرْش، اصْنَع كَيفَ شِئْت فَإِن أرزاقنا عَلَيْك. فَمَا نزلت من وَضعهَا، حَتَّى تغيمت السَّمَاء غيما شَدِيدا، وأمطروا مَطَرا كَاد أَن يغرقهم، وَأَنا حَاضر.

يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج وخليفته في الظلم والبغي

يزِيد بن أبي مُسلم كَاتب الْحجَّاج وخليفته فِي الظُّلم وَالْبَغي وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، قَالَ: وَجه سُلَيْمَان بن عبد الْملك، حِين ولي الْخلَافَة، مُحَمَّد بن يزِيد إِلَى الْعرَاق، فَأطلق أهل السجون، وَقسم الْأَمْوَال، وضيق على يزِيد بن أبي مُسلم كَاتب الْحجَّاج، فظفر بِهِ يزِيد بأفريقية لما وَليهَا فِي شهر رَمَضَان عِنْد الْمغرب، وَفِي يَده عنقود عِنَب. فَجعل مُحَمَّد يَقُول: اللَّهُمَّ احفظ لي إطلاقي الأسرى، وإعطائي الْفُقَرَاء.

فَقَالَ لَهُ يزِيد حِين دنا مِنْهُ: مُحَمَّد بن يزِيد؟ مَا زلت أسأَل الله أَن يظفرني بك. قَالَ لَهُ: وَمَا زلت أسأَل الله، أَن يجيرني مِنْك. قَالَ: وَالله، مَا أجارك، وَلَا أَعَاذَك مني، وَوَاللَّه لأَقْتُلَنك قبل أَن آكل هَذِه الْحبَّة الْعِنَب، وَوَاللَّه لَو رَأَيْت ملك الْمَوْت يُرِيد قبض روحك، لسبقته إِلَيْهَا. فأقيمت الصَّلَاة، فَوضع يزِيد الْحبَّة الْعِنَب من يَده، وَتقدم، فَصلي بهم. وَكَانَ أهل أفريقية قد أَجمعُوا على قَتله، فَلَمَّا ركع، ضربه رجل مِنْهُم على رَأسه بعمود حَدِيد، فَقتله. وَقيل لمُحَمد: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت، فَمضى سالما. ذكره القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه بِغَيْر إِسْنَاد، وَلم يعزه إِلَى الْمَدَائِنِي، وَجَاء بِهِ على خلاف هَذَا اللَّفْظ، وَالْمعْنَى وَاحِد، إِلَّا أَنه جعل بدل مُحَمَّد بن يزِيد، وضاحا، صَاحب عمر بن عبد الْعَزِيز، وبدلا من سُلَيْمَان بن عبد الْملك، عمر بن عبد الْعَزِيز، وَلم يذكر الدُّعَاء فِي خَبره. . وَوَقع إِلَيّ هَذَا الْخَبَر، على غير هَذَا، حَدَّثَنِيهِ عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن زِيَاد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو همام الصَّلْت بن مُحَمَّد الخاركي، قَالَ: حَدَّثَنَا

مسلمة بن عَلْقَمَة، عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن يزِيد، قَالَ: إِن سُلَيْمَان بن عبد الْملك، أنفذ مُحَمَّد بن يزِيد إِلَى ديماس الْحجَّاج، وَفِيه يزِيد الرقاشِي، وَيزِيد الضَّبِّيّ، وعابدة من أهل الْبَصْرَة، فأنطلق كل من فِيهِ، غير يزِيد بن أبي مُسلم. فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان، قَالَ مُحَمَّد: كنت مُسْتَعْملا على أفريقية، إِذْ قدم يزِيد بن أبي مُسلم، أَمِيرا، فِي خلَافَة يزِيد بن عبد الْملك. قَالَ مُحَمَّد: فعذبني عذَابا شَدِيدا، حَتَّى كسر عِظَامِي، فَأتي بِي يَوْمًا

فِي كسَاء، أحمل عِنْد الْمغرب. فَقلت لَهُ: ارْحَمْنِي. فَقَالَ: التمس الرَّحْمَة من عِنْد غَيْرِي، وَلَو رَأَيْت ملك الْمَوْت عِنْد رَأسك، لبادرته إِلَى نَفسك، اذْهَبْ حَتَّى أصبح لَك. فدعوت الله، وَقلت: اللَّهُمَّ اذكر مَا كَانَ مني فِي أهل الديماس، اذكر يزِيد الرقاشِي، وَفُلَانًا وَفُلَانًا، واكفني شَرّ يزِيد بن أبي مُسلم، وسلط عَلَيْهِ من لَا يرحمه، وَاجعَل ذَلِك من قبل أَن يرْتَد إِلَيّ طرفِي، وَجعلت أحبس طرفِي رَجَاء الْإِجَابَة. فَدخل عَلَيْهِ نَاس من البربر، فَقَتَلُوهُ، ثمَّ أطلقوني، فَقَالُوا لي: اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت. فَقلت لَهُم: اذْهَبُوا واتركوني، فَإِنِّي أَخَاف إِن انصرفت، أَن يظنّ أَن هَذَا من عَمَلي. فَذَهَبُوا، وتركوني. حَدَّثَنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي عمر بن شبة، قَالَ: حَدثنِي مُحدث

عَن أُميَّة بن خَالِد عَن وضاح بن خَيْثَمَة، قَالَ: أَمرنِي عمر بن عبد الْعَزِيز بِإِخْرَاج من فِي السجْن، فأخرجتهم إِلَّا يزِيد بن أبي مُسلم، فَنَذر دمي، فَإِنِّي لبإفريقية، إِذْ قيل لي: قد قدم يزِيد بن أبي مُسلم، فهربت مِنْهُ، فَأرْسل فِي طلبي، فَأخذت، وَأتي بِي إِلَيْهِ.

فَقَالَ: وضاح؟ قلت: وضاح. فَقَالَ: أما وَالله، طالما سَأَلت الله أَن يمكنني مِنْك. فَقلت: وَأَنا وَالله لطالما سَأَلت الله أَن يعيذني مِنْك. فَقَالَ: وَالله، مَا أَعَاذَك مني، وَوَاللَّه، لأَقْتُلَنك، وَلَو سابقني إِلَيْك ملك الْمَوْت، لسبقته. ثمَّ استدعى بِالسَّيْفِ والنطع، فجيء بهما، وكتفت، وأقعدت فِيهِ، لتضرب عنقِي، وَقَامَ قَائِم على رَأْسِي بِالسَّيْفِ مَشْهُورا، فأقيمت الصَّلَاة فَخرج يزِيد وَصلى بهم، فَلَمَّا خر سَاجِدا، أَخَذته سيوف الْجند، وأطلقت. حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن مُحَمَّد السَّرخسِيّ أَبُو بكر، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب، عَن الزبير بن بكار، قَالَ: كَانَ وضاح حاجبا لعمر بن عبد الْعَزِيز، فَلَمَّا حضرت عمر الْوَفَاة أَمر بِإِخْرَاج كل من فِي الْحَبْس، إِلَّا يزِيد بن أبي مُسلم. وَذكر الحَدِيث.

عواقب مكروه الأمور خيار

عواقب مَكْرُوه الْأُمُور خِيَار حَدثنِي أَبُو طَالب عبد الْعَزِيز بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْفضل بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَمَّاد دنقش، مولى الْمَنْصُور وَصَاحب حرسه، وَكَانَ مُحَمَّد بن حَمَّاد يحجب الرشيد والمعتصم، وَأحمد بن مُحَمَّد أحد القواد بسر من رأى مَعَ صَالح بن وصيف، وَولي الشرطة بهَا للمهتدي، وَأحمد بن مُحَمَّد بن الْفضل، يكني أَبَا عِيسَى، وَكَانَ أحد أُمَنَاء الْقُضَاة بِبَغْدَاد، قَالَ: قَالَ: لي القَاضِي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن مُحَمَّد التنوخي، قَالَ: حَدثنِي القَاضِي أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي الْأَنْبَارِي، قَالَ:

حَدثنِي أَبُو عبد الله بن أبي عَوْف الْبزورِي، قَالَ: دخلت على أبي الْعَبَّاس بن ثوابة، وَكَانَ مَحْبُوسًا، فَقَالَ لي: احفظ عني. قلت: نعم. فَقَالَ: عواقب مَكْرُوه الْأُمُور خِيَار ... وَأَيَّام سوء لَا تدوم قصار وَلَيْسَ بباق بؤسها وَنَعِيمهَا ... إِذا كرّ ليل ثمَّ كرّ نَهَار قَالَ: فَلم تمض إِلَّا أَيَّام يسيرَة، حَتَّى أطلق من حَبسه. وَقد ذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، هذَيْن الْبَيْتَيْنِ، بِغَيْر إِسْنَاد، وَلم يذكر الْقِصَّة، وَلَا سَبَب الشّعْر.

لا تيأس فإن اليأس كفر

لَا تيأس فَإِن الْيَأْس كفر حَدثنِي أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد الْوراق، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الله العلاف، الْمَعْرُوف بالمستعيني، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْأنْصَارِيّ، قَالَ: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود، عَن بعض تجار الْمَدِينَة، قَالَ: كنت أختلف إِلَى جَعْفَر بن مُحَمَّد، وَكنت لَهُ خليطا، وَكَانَ يعرفنِي بِحسن حَال، فتغيرت حَالي، فَأَتَيْته فَجعلت أَشْكُو إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ يَقُول: فَلَا تجزع وَإِن أعسرت يَوْمًا ... فقد أَيسَرت فِي الزَّمن الطَّوِيل قَالَ: فَخرجت من عِنْده، وَأَنا أغْنى النَّاس. حَدثنِي أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفضل أَحْمد بن سُلَيْمَان القَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا طَاهِر بن يحيى بن الْحسن بن جَعْفَر بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِمَا السَّلَام، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، عَن جده، عَن عَليّ بن جَعْفَر بن مُحَمَّد، قَالَ:

جَاءَ رجل إِلَى جَعْفَر بن مُحَمَّد، فَشَكا إِلَيْهِ الْإِضَافَة، فأنشده جَعْفَر بن مُحَمَّد: فَلَا تجزع إِذا أعسرت يَوْمًا ... فكم أرضاك باليسر الطَّوِيل وَلَا تيأس فَإِن الْيَأْس كفر ... لَعَلَّ الله يُغني عَن قَلِيل وَلَا تَظنن بِرَبِّك غير خير ... فَإِن الله أولى بالجميل قَالَ الرجل: فَذهب عني مَا كنت أجد. وروى القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه «كتاب الْفرج بعد الشدَّة» هَذَا الشّعْر بِغَيْر خبر، وَلَا إِسْنَاد، وَنسبه إِلَى الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِمَا السَّلَام، وروى الْبَيْت الأول كَمَا رَوَاهُ ابْن الْجراح أبي سعد فِي الْخَبَر الَّذِي رويت قبل هَذَا، وَقَالَ بعده: فَإِن الْعسر يتبعهُ يسَار ... وَقيل الله أصدق كل قيل ثمَّ جَاءَ بالبيتين الثَّانِي وَالثَّالِث، كَمَا جَاءَا فِي هذَيْن الْخَبَرَيْنِ، وَزَاد بعد ذَلِك بَيْتا خَامِسًا، وَهُوَ: وَلَو أَن الْعُقُول تَسوق رزقا ... لَكَانَ المَال عِنْد ذَوي الْعُقُول

عبيد الله بن زياد يشتم رجلا من القراء ويتهدده

عبيد الله بن زِيَاد يشْتم رجلا من الْقُرَّاء ويتهدده وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، فِي كِتَابه: أَن الْمَدَائِنِي روى عَن مُحَمَّد بن الزبير التَّمِيمِي، أَن عبيد الله بن زِيَاد، أُتِي بِرَجُل من الْقُرَّاء فشتمه وَقَالَ لَهُ: أحروري أَنْت؟ . فَقَالَ الرجل: لَا وَالله، مَا أَنا بحروري. فَقَالَ: وَالله، لَأَفْعَلَنَّ بك، ولأصنعن، انْطَلقُوا بِهِ إِلَى السجْن، فَانْطَلقُوا بِهِ. فَسَمعهُ ابْن زِيَاد يهمهم، فَرده، وَقَالَ لَهُ: مَا قلت؟ فَقَالَ: غن لي بيتان من الشّعْر قلتهما. فَقَالَ: إِنَّك لفارغ الْقلب، أَنْت قلتهما، أم شَيْء سمعته؟ قَالَ: بل قلتهما، وهما: عَسى فرج يَأْتِي بِهِ الله إِنَّه ... لَهُ كل يَوْم فِي خليقته أَمر إِذا اشْتَدَّ عسر فارج يسرا فَإِنَّهُ ... قضى الله أَن الْعسر يتبعهُ يسر فَسكت ابْن زِيَاد سَاعَة، ثمَّ قَالَ: قد أَتَاك الْفرج، خلوا سَبيله.

أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، قَالَ:، أَخْبرنِي عَليّ بن دبيس الْكَاتِب، عَن أَحْمد بن الْحَارِث الخراز، عَن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي، عَن مُحَمَّد بن الزبير التَّمِيمِي، فَذكر نَحوه.

علي بن الحسن بن يزيد كاتب العباس بن المأمون يتحدث عن أيام فاقته

عَليّ بن الْحسن بن يزِيد كَاتب الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون يتحدث عَن أَيَّام فاقته وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن بَيَان، قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن الْفُرَات، قَالَ: كنت أتولى ماسبذان، وَكَانَ صَاحب الْبَرِيد بهَا عَليّ بن يزِيد، وَكَانَ قَدِيما يكْتب للْعَبَّاس بن الْمَأْمُون، فَحَدثني: أَن الْعَبَّاس غضب عَلَيْهِ وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ يملكهُ، حَتَّى إِنَّه بَقِي بسر من رأى لَا يملك شَيْئا، إِلَّا برذونه، بسرجه ولجامه، ومبطنة، وطيلسانا، وقميصا، وشاشية، وَأَنه كَانَ يركب فِي أول النَّهَار، فَيلقى من يُرِيد لقاءه، ثمَّ ينْصَرف، فيبعث

ببرذونه إِلَيّ الْكِرَاء، فيكسب عَلَيْهِ مَا يعلفه، وَمَا يُنْفِقهُ هُوَ وَغُلَامه. فاتفق فِي بعض الْأَيَّام أَن الدَّابَّة لم تكسب شَيْئا، فَبَاتَ هُوَ وَغُلَامه طاويين، قَالَ: ونالنا من الْغَد مثل ذَلِك. فَقَالَ غلامي: يَا مولَايَ، نَحن نصبر، وَلَكِن الشَّأْن فِي الدَّابَّة، فَإِنِّي أَخَاف أَن تعطب. قلت: فَأَي شَيْء أعمل؟ لَيْسَ إِلَّا السرج، واللجام، وثيابي، وَإِن بِعْت من ذَلِك شَيْئا، تعطلت عَن الْحَرَكَة، وَطلب التَّصَرُّف. قَالَ: فَانْظُر فِي أَمرك. فَنَظَرت، فَإِذا بحصيري خلق، ومخدتي لبنة مغشاة بِخرقَة، أدعها تَحت رَأْسِي، ومطهرة خزف للطهور، فَلم أجد غير منديل دبيقي خلق قد بَقِي مِنْهُ الرَّسْم. فَقلت للغلام: خُذ هَذَا المنديل، فبعه، واشتر علفا للدابة، وَلَحْمًا بدرهم، واشوه، وجئ بِهِ، فقد قرمت إِلَى أكل اللَّحْم. فَأخذ المنديل، وَمضى، وَبقيت فِي الدَّار وحدي، وفيهَا شاهمرج قد جَاع لجوعنا، فَلم أشعر إِلَّا بعصفور قد سقط فِي المطهرة الَّتِي فِيهَا المَاء للطهور، عطشا، فَشرب، فَنَهَضَ إِلَيْهِ الشاهمرج، فناهضه، فلضعفه مَا قصر عَنهُ،

وطار العصفور، ووقف الشاهمرج، فَعَاد العصفور إِلَى المطهرة، فبادره الشاهمرج فَأَخذه بحمية، فابتلعه. فَلَمَّا صَار فِي حوصلته، عَاد إِلَى المطهرة، فتغسل، وَنشر جناحيه وَصَاح، فَبَكَيْت، وَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء، وَقلت: اللَّهُمَّ، كَمَا فرجت عَن هَذَا الشاهمرج، فرج عَنَّا، وارزقنا من حَيْثُ لَا نحتسب. فَمَا رددت طرفِي، حَتَّى دق بَابي، فَقلت: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا إِبْرَاهِيم بن يوحنا، وَكيل الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون. فَقلت: ادخل، فَدخل، فَلَمَّا نظر إِلَى صُورَتي، قَالَ: مَا لي أَرَاك على هَذِه الصُّورَة، فكتمته خبري. فَقَالَ لي: الْأَمِير يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَقد اصطبح الْيَوْم، وذكرك وَقد أَمر لَك بِخمْس مائَة دِينَار، وَأخرج الْكيس فَوَضعه بَين يَدي. فحمدت الله تَعَالَى، ودعوت للْعَبَّاس، ثمَّ شرحت لَهُ قصتي، وأطفته فِي دَاري وبيوتي، وحدثته بِحَدِيث الدَّابَّة، وَمَا تقاسيه من الضّر، والمنديل، والشاهمرج، وَالدُّعَاء، فتوجع لي، وَانْصَرف. وَلم يلبث أَن عَاد، فَقَالَ لي: صرت إِلَى الْأَمِير، وحدثته بحديثك كُله، فَاغْتَمَّ بذلك، وَأمر لَك بِخمْس مائَة دِينَار أُخْرَى، قَالَ: تأثث بِتِلْكَ، وَأنْفق هَذِه، إِلَى أَن يفرج الله. وَعَاد غلامي، وَقد بَاعَ المنديل، واشتري مِنْهُ مَا أردته، فأريته الدَّنَانِير، وحدثته الحَدِيث، ففرح حَتَّى كَاد أَن تَنْشَق مرارته. وَمَا زَالَ صنع الله يتعاهدنا.

ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا

وَيَوْم الوشاح من تعاجيب رَبنَا قَالَ: الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، وَجَاء بِهِ القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه عَن الْمَدَائِنِي بِغَيْر إِسْنَاد، واللفظان متقاربان: إِن أعرابية كَانَت تخْدم نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَت كثيرا مَا تتمثل: وَيَوْم الوشاح من تعاجيب رَبنَا ... أَلا أَنه من ظلمَة الْكفْر نجاني فَقيل لَهَا: إِنَّك تكثرين من التمثل بِهَذَا الْبَيْت، وَإِنَّا نظنه لأمر، فَمَا هُوَ؟ قَالَت: أجل، كنت عسيفة على قوم بالبادية. قَالَ: مؤلف هَذَا الْكتاب: العسيف: الْأَجِير. فَوضعت جَارِيَة مِنْهُم وشاحا، فمرت عِقَاب، فاختطفته وَنحن لَا نَدْرِي، ففقدنه، وقلن أَيْن هُوَ؟ أَنْت صاحبته، فَحَلَفت، واعتذرت، فأبين قبُول قولي وعذري، واستعدين بِالرِّجَالِ، فَجَاءُوا ففتشوني، فَلم يَجدوا شَيْئا. فَقَالَ بَعضهم: احتملته فِي فرجهَا. فأرادوا أَن يفتشوا فَرجي، فَمَا ظنكم بِامْرَأَة تخَاف ذَلِك. فَلَمَّا خفت الشَّرّ، رفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء فَقلت: يَا رباه، أَغِثْنِي، فمرت الْعقَاب فَطَرَحته بَيْننَا، فَنَدِمُوا، وَقَالُوا: ظلمنَا المسكينة، وَجعلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَى، فَمَا وَقعت فِي كربَة إِلَّا ذكرت ذَلِك، وَهُوَ يَوْم الوشاح، فرجوت الْفرج. 1: 304 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ

أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ الضَّبِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَتِ §امْرَأَةٌ تَغْشَانَا تَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: وَيَوْمُ السِّخَابِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... عَلَى أَنَّهُ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ نَجَّانِي فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ: وَذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ. . إِلا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: قَالَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنَّ لَا رِعَةَ لَهَا: فَتِّشُوا مَالَهَا، أَيْ: فَرْجَهَا، فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْفَضِيحَةِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ: يَا غَيَّاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ، فَمَا أَتْمَمْتُهَا، حَتَّى جَاءَ غُرَابٌ

فَرَمَى السِّخَابَ بَيْنَنَا، فَلَوْ رَأَيْتِهِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ حَوَاليَّ، يَقُولُونَ: اجْعَلِينَا فِي حِلٍّ، فَنَظَّمْتُ ذَلِكَ فِي بَيْتٍ، فَأَنَا أُنْشِدُهُ لِئَلا أَنْسَى النِّعْمَةَ، فَأَتْرُكَ شُكْرَهَا

بين يحيى البرمكي والفضل بن الربيع

بَين يحيى الْبَرْمَكِي وَالْفضل بن الرّبيع ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن سعد، عَن أَبِيه عبد الله بن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدثنِي الْحُسَيْن بن نمير الْخُزَاعِيّ، قَالَ: صَار الْفضل بن الرّبيع إِلَى الْفضل بن يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي فِي حَاجَة

لَهُ، فَلم يرفع لَهُ رَأْسا، وَلَا قضى حَاجته، فَقَامَ مغضبا، فَلم يدع بدابته، وَلَا اكترث لَهُ، ثمَّ أتبعه رجلا، فَقَالَ: انْظُر مَا يَقُول، فَإِن الرجل يُنبئ عَمَّا فِي نَفسه فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع إِذا اضْطجع على فرَاشه، وَإِذا خلا بعرسه، وَإِذا اسْتَوَى على سَرْجه، قَالَ: الرجل: فاتبعته، فَلَمَّا اسْتَوَى على سَرْجه، عض على شَفَتَيْه، وَقَالَ: عَسى وَعَسَى يثني الزَّمَان عنانه ... بدور زمَان وَالزَّمَان يَدُور فيعقب روعات سُرُورًا وغبطة ... وتحدث من بعد الْأُمُور أُمُور فَلم يكن بَين ذَلِك، وَبَين أَن سخط الرشيد على البرامكة، واستورز الْفضل بن الرّبيع، إِلَّا أَيَّامًا يسيرَة. وحَدثني بِهَذَا الْخَبَر، أبي، على مثل هَذَا الْإِسْنَاد، وَلم أحفظه، لِأَنِّي لم أكتبه عَنهُ فِي الْحَال، فَقَالَ فِي الْبَيْت الأول: عَسى وَعَسَى يثني الزَّمَان عنانه ... بعثرة دهر وَالزَّمَان عثور وَقَالَ فِي الْبَيْت الثَّانِي: فتدرك حاجات وتقضى مآرب ... وتحدث من بعد الْأُمُور أُمُور وَزَاد فِيهِ أَن الْفضل بن يحيى بن خَالِد رده فَقضى حَوَائِجه. أخبرنيه مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر الصولي، عَن مَيْمُون بن هَارُون، قَالَ: حَدثنِي الْحُسَيْن بن نمير الْخُزَاعِيّ، وَذكره، وَقد دخل فِيمَا أجَازه لي الصولي. وَقُرِئَ على أبي بكر الصولي بِالْبَصْرَةِ، فِي كِتَابه «كتاب الوزراء» سنة خمس

وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، وَأَنا حَاضر أسمع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمد بن يزِيد بن مُحَمَّد , يَعْنِي: المهلبي، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن إِسْحَاق، قَالَ: دخل الْفضل بن الرّبيع على يحيى بن خَالِد، فَلم يُوسع لَهُ، وَلَا هش بِهِ، ثمَّ قَالَ: مَا جَاءَ بك يَا أَبَا الْعَبَّاس؟ قَالَ: رقاع معي. فَرده عَن جَمِيعهَا، فَوَثَبَ الْفضل وَهُوَ يَقُول: عَسى وَعَسَى يثني الزَّمَان عنانه ... بعثرة دهر وَالزَّمَان عثور فتدرك آمال وتحوى رغائب ... وتحدث من بعد الْأُمُور أُمُور فَرده يحيى، وَوَقع لَهُ بِجَمِيعِ مَا أَرَادَ.

دعاء للشفاء من العلل

دُعَاء للشفاء من الْعِلَل وَأَخْبرنِي عَليّ بن عبد الله الوارق، الْمَعْرُوف بِابْن أبي لُؤْلُؤ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن وهب، قَالَ: أَخْبرنِي سعيد بن أبي أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ، عَن عبد الله بن جَعْفَر: أَن رجلا أَصَابَهُ مرض شَدِيد، مَنعه من الطَّعَام وَالشرَاب وَالنَّوْم، فَبينا هُوَ ذَات لَيْلَة ساهرا، إِذْ سمع وجبة شَدِيدَة فِي حجرته، فَإِذا هُوَ كَلَام، فوعاه، فَتكلم بِهِ، فبرأ مَكَانَهُ، وَهُوَ اللَّهُمَّ أَنا عَبدك، وَبِك أملي، فَاجْعَلْ الشِّفَاء فِي جَسَدِي، وَالْيَقِين فِي قلبِي، والنور فِي بَصرِي، وَالشُّكْر فِي صَدْرِي، وذكرك بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار، مَا بقيت، على لساني، وارزقني مِنْك، رزقا غير مَحْظُور وَلَا مَمْنُوع.

الباب الرابع

الْبَاب الرَّابِع من استعطف غضب السُّلْطَان بصادق لفظ واستوقف مكروهه بموقظ بَيَان أَو وعظ بَين الْمَأْمُون وَعَمْرو بن مسْعدَة قرئَ على أبي بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي بِالْبَصْرَةِ، وَأَنا حَاضر أسمع، فِي كِتَابه الوزراء سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، وَقَالَ: حَدثنِي عَليّ بن مُحَمَّد النَّوْفَلِي: أَن الْمَأْمُون ذكر عَمْرو بن مسْعدَة، فاستبطأه فِي أَشْيَاء، وَقَالَ: أيحسب عَمْرو أَنِّي لَا أعرف أخباره، وَمَا يجبي إِلَيْهِ، وَمَا يُعَامل بِهِ النَّاس، بلي وَالله، ثمَّ يظنّ أَنه لَا يسْقط عَليّ مِنْهُ شَيْء؟ ، وَكَانَ أَحْمد بن أبي خَالِد حَاضرا لذَلِك، فَمضى إِلَى عَمْرو، فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ الْمَأْمُون. فَنَهَضَ من سَاعَته، وَدخل إِلَى الْمَأْمُون، فَرمي بِسَيْفِهِ، وَقَالَ: أَنا عَائِذ بِاللَّه من سخط أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأَنا أقل من أَن يشكوني إِلَى أحد، أَو يسر عَليّ ضغنا

يظْهر مِنْهُ بِكَلَامِهِ مَا ظهر. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: وَمَا ذَاك؟ فَأخْبرهُ بِمَا بلغه. فَقَالَ: لم يكن الْأَمر كَذَلِك، وَإِنَّمَا جرى معنى أوجب ذكر مَا ذكرت، فقدمته قبل أَن أخْبرك بِهِ، وَكَانَ ذَلِك عزمي، وَمَا لَك عِنْدِي إِلَّا مَا تحب، فليفرخ روعك، وليحسن ظَنك، وَسكن مِنْهُ حَتَّى شكره، وَجعل مَاء الْحَيَاة يَدُور فِي وَجهه. فَلَمَّا دخل أَحْمد بن أبي خَالِد إِلَى الْمَأْمُون، قَالَ: لَهُ: أَشْكُو إِلَيْك من بحضرتي من خدمي وَأَهلي، أما لمجلسي حق وَلَا حُرْمَة ليكتم مَا يجْرِي فِيهِ، حَتَّى يُؤدى إِلَى عَمْرو بن مسْعدَة؟ فَإِنَّهُ قد أبلغ أَشْيَاء قلتهَا فِيهِ واتهمت فِيهَا بعض بني هَاشم مِمَّن كَانَ حَاضرا، وَذَلِكَ أَن عمرا دخل عَليّ، وَأعَاد مَا كَانَ، فاعتذرت لَهُ بِعُذْر لم يبن الْحق نسجه، وَلم يتسق القَوْل مني فِيهِ، وَإِن لِسَان الْبَاطِل، لعي الظَّاهِر وَالْبَاطِن، وَمَا نعش الْبَاطِل أحدا , قَالَ لَهُ أَحْمد: لَا يتهم أَمِير الْمُؤمنِينَ أحدا، أَنا أخْبرت عمرا. قَالَ: وَمَا دعَاك إِلَى ذَلِك؟ قَالَ: الشُّكْر لله، وَلَك لاصطناعك، والنصح لَك والمحبة لتَمام نِعْمَتك على أوليائك وخدمك، وَقد علمت أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يحب استصلاح الْأَعْدَاء والبعداء، فَكيف بالأولياء والقرباء، ولاسيما مثل عَمْرو، فِي مَوْضِعه من الدولة، وموقعه من الْخدمَة، ومكانه من رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فخبرته بِمَا أنكرهُ عَلَيْهِ، ليقوم أود نَفسه، ويتلافى مَا فرط مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْعَيْب لَو أفشيت كلَاما فِيهِ لأمير الْمُؤمنِينَ سر، أَو قدح على السُّلْطَان، أَو نقض تَدْبِير لَهُ. فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنت وَالله يَا أَحْمد، إِذْ كفيتني مخاضة الظَّن، وصدقتني عَن نَفسك، وأزلت التُّهْمَة عَن غَيْرك.

المنصور العباسي يحشر العلويين جميعا إلى الكوفة ويتهددهم

الْمَنْصُور العباسي يحْشر العلويين جَمِيعًا إِلَى الْكُوفَة ويتهددهم 1: 313 46 - أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَرَجِ الأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ السَّلُولِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ رُشَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَعْمَرٍ سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، مِنْ فِيهِ إِلَى أُذُنِي، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِبَاخمْرَى، حُشِرْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُتْرَكْ مِنَّا فِيهَا مُحْتَلِمٌ، حَتَّى قَدِمْنَا الْكُوفَةَ، فَمَكَثْنَا فِيهَا شَهْرًا نَتَوَقَّعُ الْقَتْلَ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ، فَقَالَ: أَيْنَ هَؤُلاءِ الْعَلَوِيَّةُ؟ أَدْخِلُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ. قَالَ: فَدَخَلْتُ أَنَا إِلَيْهِ، وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، فَلَمَّا صِرْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ لِي: أَنْتَ الَّذِي تَعْلَمُ الْغَيْبَ أَنْتَ الَّذِي تَعْلَمُ الْغَيْبَ؟

قُلْتُ: لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ. قَالَ: أَنْتَ الَّذِي يُجْبَى إِلَيْكَ هَذَا الْخَرَاجُ؟ قُلْتُ: إِلَيْكَ يُجْبَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَرَاجُ. قَالَ: أَتَدْرُونَ لِمَ دَعَوْتُكُمْ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَهْدِمَ رِبَاعَكُمْ، وَأُغَوِّرَ قُلْبَكُمْ، وَأَعْقِرَ نَخْلَكُمْ، وَأُنْزِلَكُمْ بِالسَّرَاةِ، فَلا يَجِيئُكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّهُمْ لَكُمْ مَفْسَدَةٌ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإِنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَأَنْتَ مِنْ ذَلِكَ السَّنْخِ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ أَعِدْ، فَأَعَدْتُ. فَقَالَ: مِثْلُكَ فَلْيَكُنْ زَعِيمَ الْقَوْمِ، قَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَوَهَبْتُ لَكُمْ جرمَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، حَدِّثْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثْتَنِي بِهِ عَنْ أَبِيكَ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «§صِلَةُ الرَّحِمِ، تُعَمِّرُ الدِّيَارِ، وَتُطِيلُ الأَعْمَارِ، وَتُكْثِرُ الْعمَّارَ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا» قَالَ: لَيْسَ هَذَا. 1: 314 47 - فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: §" الأَرْحَامُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي " قَالَ: لَيْسَ هَذَا. 1: 315 48 - قُلْتُ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: §أَنَا الرَّحْمَنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْتُهُ " قَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ. 1: 315 49 - قُلْتُ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ §مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ، كَانَ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلاثُ سِنِينَ، فَوَصَلَ رَحِمَهُ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثَلاثِينَ سَنَةً» قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ أَرَدْتُ، أَيُّ الْبِلادِ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ؟ فَوَاللَّهِ، لأَصِلَنَّ رَحِمِي الْيَوْمَ. قُلْنَا: الْمَدِينَةُ. قَالَ: فَسَرَّحَنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَفَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، مَئُونَتَهُ

بين الإمام جعفر الصادق والمنصور العباسي

بَين الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق والمنصور العباسي وَوَقع إِلَيّ هَذَا الْخَبَر، على خلاف هَذِه السِّيَاقَة، وجدته فِي بعض الْكتب بِغَيْر إِسْنَاد: إِن معَاذًا، مولى إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس رَحِمهم الله، قَالَ: كنت قَائِما على رَأس مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، مولَايَ، ورزام، مولى مُحَمَّد بن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، يحدثه، وَكَانَ كَاتبه إِذْ ذَاك، قَالَ: وجهني مُحَمَّد بن خَالِد الْقَسرِي، لآتيه بِجَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، من الْمَدِينَة، إِلَى الْمَنْصُور.

فَلَمَّا صررنا بالنجف، نزل عَن رَاحِلَته، وأسبغ الْوضُوء، واستقبل الْقبْلَة، وَصلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ رفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء، وَأَنا بِالْقربِ مِنْهُ، فَسَمعته يَقُول: اللَّهُمَّ بك أستفتح، وَبِك أستنجح، وَبِمُحَمَّدٍ عَبدك وَرَسُولك أتوجه، اللَّهُمَّ إِنِّي أدرأ بك فِي نَحره، وَأَعُوذ بك من شَره , اللَّهُمَّ سهل لي حزونته، وذلل لي صعوبته، وَأَعْطِنِي من الْخَيْر أَكثر مِمَّا أَرْجُو، واكفني من الشَّرّ أَكثر مِمَّا أَخَاف، ثمَّ جَاءَ فَركب وَمضى. فَلَمَّا قيل لأبي جَعْفَر: إِنَّه بِالْبَابِ، أَمر بالستور فَرفعت، وبالأبواب ففتحت، ثمَّ خرج إِلَيْهِ، فَلَقِيَهُ فِي منتصف الدَّار فعانقه أَبُو جَعْفَر، وَأخذ بِيَدِهِ يماشيه مُقبلا عَلَيْهِ، حَتَّى انْتهى إِلَى مَجْلِسه، فأجلسه فِيهِ، ثمَّ أقبل عَلَيْهِ الْمَنْصُور يسائله، وَأَقْبل جَعْفَر يَدْعُو لَهُ ويفديه. ثمَّ إِن الْمَنْصُور قَالَ لَهُ: عرفت مَا كَانَ من أَمر هذَيْن الرجلَيْن، يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيم ابْني عبد الله بن الْحسن، وَمَا كَانَ من بري بهما، وَقد استترا، وَخفت أَن يشقا الْعَصَا، ويلقيا بَين أهل هَذَا الْبَيْت شرا لَا يصلح أبدا، فَأَخْبرنِي بخبرهما، ودلني عَلَيْهِمَا. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: قد وَالله نهيتهما فَلم يقبلا، وكرهت أَن أطلع على شَيْء من أمورهما، وَمَا زلت مائلا إِلَيْك، وحاطبا فِي حبلك، ومواظبا على طَاعَتك. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: صدقت، وَلَكِنَّك تعلم، أَنِّي أعلم، أَن علم أَمرهمَا عنْدك، وَلنْ أقنع إِلَّا أَن تُخبرنِي بخبرهما وَأَمرهمَا. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أتلو عَلَيْك آيَة من كتاب الله عز وَجل، فِيهَا مُنْتَهى علمي بهما. قَالَ: هَات، على اسْم الله. فَتلا عَلَيْهِ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الْحَشْر: 12] .

فَخر الْمَنْصُور سَاجِدا، وَقَالَ: حَسبك. وَلم يسْأَله بعد ذَلِك عَن شَيْء من أَمرهمَا. وَرُوِيَ لي هَذَا الْخَبَر على وَجه آخر، حَدَّثَنَا بِهِ عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي عِيسَى بن أبي حَرْب الصفار، والمغيرة بن مُحَمَّد، قَالَا: حَدَّثَنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن الْفضل بن الرّبيع، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن الْفضل بن الرّبيع، عَن الْفضل بن الرّبيع، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حج أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة، فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة، قَالَ لي: ابْعَثْ إِلَى جَعْفَر بن مُحَمَّد من يأتيني بِهِ بَغْتَة، قتلني الله إِن لم أَقتلهُ، فَأَمْسَكت عَنهُ، رَجَاء أَن ينساه، فَأَغْلَظ لي فِي الثَّانِيَة. فَقلت: جَعْفَر بن مُحَمَّد بِالْبَابِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذنت لَهُ. فَلَمَّا دخل، قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَقَالَ: لَا سلم الله عَلَيْك، يَا عَدو الله، تلحد فِي سلطاني، وتبغيني الغوائل فِي ملكي، قتلني الله إِن لم أَقْتلك.

فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن سُلَيْمَان أعطي فَشكر، وَإِن أَيُّوب ابْتُلِيَ فَصَبر، وَإِن يُوسُف ظلم فغفر، وَأَنت من ذَلِك السنخ ففكر طَويلا. ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ: أَنْت عِنْدِي، يَا أَبَا عبد الله، البريء الساحة، السَّلِيم النَّاحِيَة، الْقَلِيل الغائلة، جَزَاك الله عَن ذِي رَحِمك، أفضل مَا يَجْزِي ذَوي الْأَرْحَام عَن أرحامهم. ثمَّ تنَاول يَده، فأجلسه على مفرشه، واستدعى بالمنفحة، والمنفخة مدهن كَبِير فِيهِ غَالِيَة، فغلفه بِيَدِهِ، حَتَّى قطرت لحيته. ثمَّ قَالَ لَهُ: فِي حفظ الله وَفِي كلاءته، يَا ربيع، ألحق أَبَا عبد الله جائزته وَكسوته. قَالَ: الرّبيع: فتبعته، فَلَمَّا لحقته، قلت لَهُ: إِنِّي رَأَيْت مَا لم تَرَ، وَسمعت مَا لم تسمع، وَرَأَيْت بعد ذَلِك مَا قد رَأَيْت، وَقد رَأَيْتُك تحرّك شفتيك بِشَيْء، فَمَا الَّذِي قلت؟ فَقَالَ: نعم، إِنَّك رجل منا أهل الْبَيْت، وَلَك محبَّة ومودة، اعْلَم أنني قلت: اللَّهُمَّ احرسني بِعَيْنِك الَّتِي لَا تنام، واكنفني بركنك الَّذِي لَا يرام، وأدركني بِرَحْمَتك، واعف عني بقدرتك، لَا أهلك وَأَنت رجائي، رب، كم من نعْمَة أَنْعَمت بهَا عَليّ بن الْحسن، قل لَك عِنْدهَا شكري فَلم تحرمني، وَكم من بلية ابتليتني بهَا، قل لَك عِنْدهَا صبري فَلم تخذلني، فيا من قل عِنْد نعمه شكري فَلم يحرمني، وَيَا من قل عِنْد بليته صبري فَلم يخذلني، يَا من

رَآنِي على الْخَطَايَا فَلم يهتكني، يَا ذَا الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَنْقَضِي أبدا، وَيَا ذَا النعماء الَّتِي لَا تحصى عددا، صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد، بك أدرأ فِي نَحره، وَأَعُوذ بك من شَره، اللَّهُمَّ أَعنِي على ديني بدنياي، وعَلى آخرتي بتقواي، واحفظني فِيمَا غبت عَنهُ، وَلَا تَكِلنِي إِلَى نَفسِي طرفَة عين، يَا من لَا تضره الذُّنُوب، وَلَا تنقصه الْمَغْفِرَة، اغْفِر لي مَا لَا يَضرك، وَأَعْطِنِي مَا لَا ينْقصك، إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب، أَسأَلك فرجا قَرِيبا، وصبرا جميلا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، والعافية من جَمِيع البلايا، وشكر الْعَافِيَة.

بين موسى الهادي وأحد كتابه

بَين مُوسَى الْهَادِي وَأحد كِتَابه وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس الجهشياري، فِي كِتَابه «الوزراء» : أَن مُوسَى الْهَادِي، سخط على بعض كِتَابه، وَلم يسمه، فَجعل يقرعه، ويؤنبه، ويتهدده، ويتوعده. فَقَالَ لَهُ الْكَاتِب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن اعتذاري إِلَيْك فِيمَا تقرعني بِهِ رد عَلَيْك، وإقراري بِمَا بلغك عني، يُوجب ذَنبا لم أجنه، وَلَكِنِّي أَقُول كَمَا قَالَ الشَّاعِر: إِذا كنت ترجو فِي الْعقَاب تشفيا ... فَلَا تزهدن عِنْد التجاوز فِي الْأجر فصفح عَنهُ، وَأمر بترك التَّعَرُّض لَهُ، وَأحسن إِلَيْهِ، وَصَرفه مكرما.

ابن مقلة ينفذ من سجنه رقعة إلى الوزير ابن الفرات

ابْن مقلة ينفذ من سجنه رقْعَة إِلَى الْوَزير ابْن الْفُرَات حَدثنِي عَليّ بن هِشَام بن عبد الله الْكَاتِب، عَن أبي عبد الله زنجي الْكَاتِب، قَالَ: لما نكب أَبُو الْحسن بن الْفُرَات، أَبَا عَليّ بن مقلة، فِي وزارته الثَّالِثَة، لم أَدخل إِلَيْهِ فِي الْحَبْس، وَلَا كاتبته متوجعا لَهُ، وَلَا راسلته بِحرف، خوفًا من أَن يرقى ذَلِك إِلَى ابْن الْفُرَات. وَكَانَت بيني وَبَين ابْن الْجراح مقلة مَوَدَّة، فَلَمَّا طَال مكثه فِي الْحَبْس، كتب إِلَيّ رقْعَة لَطِيفَة، أَولهَا:

ترى حرمت كتب الأخلاء بَينهم ... أبن لي، أم أصبح الود غاليا؟ فَمَا كَانَ لَو ساءلتنا كَيفَ حَالنَا ... وَقد دهمتنا نكبة هِيَ مَا هيا صديقك من راعاك عِنْد شَدِيدَة ... وكل ترَاهُ فِي الرخَاء مراعيا فهبك عدوي، لَا صديقي، فَرُبمَا ... يكَاد الأعادي يرحمون الأعاديا ثمَّ أتبع ذَلِك بِكَلَام عَاتَبَنِي فِيهِ، وَيذكر أَنه أنفذ إِلَيّ، فِي طي رقعته، رقْعَة إِلَى الْوَزير، وسألني عرضهَا عَلَيْهِ، فِي وَقت خلْوَة لَا يكون فِيهَا ابْنه أَبُو أَحْمد المحسن. فَقَرَأت الرقعة الَّتِي للوزير، فَكَانَ فِيهَا: أقصرت أَطَالَ الله بَقَاء الْوَزير، وَفعل بِهِ وصنع، عَن الاستعطاف وَعَن الشكوى، حَتَّى تناهت بِي المحنة والبلوى، فِي النَّفس وَالْمَال، والجسم وَالْحَال، إِلَى مَا فِيهِ شِفَاء للمنتقم، وتقويم للمجترم، حَتَّى أفضت بِي، إِلَى الْحيرَة والتبلد، وبعيالي إِلَى الهتكة والتلدد، وَمَا أَقُول إِن حَالا أَتَاهَا الْوَزير، أيده الله، فِي أَمْرِي، إِلَّا بِحَق وَاجِب، وَظن صَادِق غير كَاذِب، إِلَّا أَن الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة، وَالِاعْتِرَاف يزِيل الاقتراف، وَرب الْمَعْرُوف يؤثره أهل الْفضل وَالدّين، وَالْإِحْسَان إِلَى الْمُسِيء،

من أَفعَال الْمُتَّقِينَ، وعَلى كل حَال، فلي ذمام وَحُرْمَة، وتأميل وخدمة، إِن كَانَت الْإِسَاءَة تضيعها، فرعاية الْوَزير، أيده الله، تحفظها، فَإِن رأى الْوَزير، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، أَن يلحظ عَبده بِعَين رأفته، وينعم بإحياء مهجته، ويتخلصها من الْعَذَاب الشَّديد، والجهد الجهيد، وَيجْعَل لَهُ من معروفه نَصِيبا، وَمن الْبلوى فرجا قَرِيبا، فعل، إِن شَاءَ الله. فأقامت الرقعة فِي كمي أَيَّامًا، لَا أتمكن من عرضهَا، إِلَى أَن رسم لي الْوَزير ابْن الْفُرَات، كتب رقْعَة إِلَى جَعْفَر بن الْقَاسِم، عَامله على فَارس، فِي مُهِمّ، وَأَن أحررها بَين يَدَيْهِ، وأعرضها عَلَيْهِ، فَأمرنِي بتحريرها وَقد خلا، فاغتنمت خلوته من كل أحد، فَقلت لَهُ: قد عرف الْوَزير، أيده الله، مَا بيني وَبَين ابْن مقلة، من الْعشْرَة والإلفة الَّتِي جمعتنَا عَلَيْهَا خدمته، وَوَاللَّه، مَا كاتبته وَلَا راسلته، وَلَا قضيت لَهُ حَقًا بمعونة وَلَا غَيرهَا، مُنْذُ سخط الْوَزير، أيده الله، عَلَيْهِ، وَهَذِه رقعته إِلَيّ تدل على ذَلِك، وَيسْأل عرض رقْعَة لَهُ على الْوَزير، أيده الله، وَهِي معي، فَإِن أذن عرضتها عَلَيْهِ. فَقَالَ: هَاتِهَا. فناولته إِيَّاهَا، قَالَ: فَقَرَأَ رقعته إِلَيّ، ثمَّ قَالَ: هَات رقعته إِلَيّ. فَقلت: أسأَل الْوَزير، أيده الله، أَن يكتم ذَلِك عَن سَيِّدي أبي أَحْمد، يَعْنِي: المحسن ابْنه، فَإِنِّي أخافه.

فَقَالَ: أفعل. فَلَمَّا قَرَأَ رقْعَة ابْن مقلة إِلَيْهِ، قَالَ: وَالله، يَا أَبَا عبد الله، لقد تناهى هَذَا الرجل فِي السّعَايَة على دمي، وَمَالِي، وَأَهلي، لقد صَحَّ عِنْدِي أَنه قَالَ: لما أسلم إِلَيّ حَامِد: لَو علمت أَن ابْن الْفُرَات سَيبقى بعد صرفه يَوْمًا وَاحِدًا مَا سعيت عَلَيْهِ، وَالله، لقد كنت أَدْعُو الله فِي حبسي، أَن لَا يمكنني مِنْهُ، وَلَا من الباقطائي، أما هُوَ فلإحساني الْعَظِيم، كَانَ، إِلَيْهِ، فَلم أحب أَن أتمكن مِنْهُ فأشفي غيظي وأفسد إحساني إِلَيْهِ , وَأما الباقطائي، فلقبيح إساءته إِلَيّ، وَلِأَنَّهُ شيخ من شُيُوخ الْكتاب، وَخفت الْعَار بِمَا لعَلي كنت أعامله بِهِ لَو حصل فِي يَدي، فَلم تجب دَعْوَتِي فِيهِ، وأجيبت فِي الباقطائي، والآن فوحق مُحَمَّد وَآله عَلَيْهِم السَّلَام، لَا جرى على ابْن مقلة مَكْرُوه بعد هَذَا، وَأَنا أتقدم الْيَوْم بِأَخْذِهِ من المحسن، وإنفاذه مَعَ سُلَيْمَان بن الْحسن إِلَى فَارس، وأجريه مجْرَاه فِي الْأَمر بحراسة نَفسه، وَبَاقِي حَاله، وَأَزِيدك، يَا أَبَا عبد الله، مَا لَا أحسبك فهمته. فَقلت: وَمَا هُوَ؟ فَإِنِّي لم أزل أستفيد الْفَوَائِد من الْوَزير، أيده الله،

تعلما وإنعاما. فَقَالَ: قد بقيت لَهُ بَقِيَّة وافرة من حَاله، لولاها، لَكَانَ لَا يقدر أَن يَقُول قولا سديدا، وَلَا يتفرغ قلبه لنظم شعر، وبلاغة نثر. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، أخرجه من الْمحبس، وأنفذه إِلَى فَارس، هُوَ وَسليمَان بن الْحسن، فسلما.

كيف تخلص طريح بن إسماعيل الثقفي من المنصور

كَيفَ تخلص طريح بن إِسْمَاعِيل الثَّقَفِيّ من الْمَنْصُور أَخْبرنِي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأمَوِي، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن نصر المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن شبيب، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن حَمْزَة بن أبي عُيَيْنَة المهلبي، عَن أَبِيه، عَن طريح بن إِسْمَاعِيل الثَّقَفِيّ، أَنه دخل على أبي جَعْفَر، فِي الشُّعَرَاء، فَقَالَ لَهُ: لَا حياك الله، وَلَا بياك، أما اتَّقَيْت الله حَيْثُ تَقول فِي الْوَلِيد: لَو قلت للسيل دع طريقك والموج ... عَلَيْهِ كالهضب يعتلج لساخ وارتد أَو لَكَانَ لَهُ ... إِلَى طَرِيق سواهُ منعرج فَقَالَ طريح: قد علم الله أنني أردْت الله بِهَذَا وعنيته، وَقلت ذَلِك، ويدي ممدوة إِلَيْهِ عز وَجل. فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: يَا ربيع، أما ترى هَذَا التَّخَلُّص؟ 119

المأمون يعفو عن الحسين بن الضحاك ويمتنع عن استخدامه

الْمَأْمُون يعْفُو عَن الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك وَيمْتَنع عَن استخدامه أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، إجَازَة، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن مزِيد بن أبي الْأَزْهَر، وَمُحَمّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان، وَأَلْفَاظهمْ تزيد وتنقص. وَأَخْبرنِي بِبَعْضِه مُحَمَّد بن خلف، وَكِيع، من آخِره، وقصة وُصُوله إِلَى الْمَأْمُون، وَلم يذكر مَا قبل ذَلِك، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّاد بن إِسْحَاق، عَن أَبِيه، وَلم يقل وَكِيع عَن أَبِيه، وَاللَّفْظ فِي الْخَبَر لِابْنِ أبي الْأَزْهَر، وَحَدِيثه، ثمَّ قَالَ: كنت بَين يَدي الْمَأْمُون قَائِما، فَدخل ابْن البواب الْحَاجِب، برقعة فِيهَا أَبْيَات، فَقَالَ لَهُ: أتأذن فِي إنشادها؟ قَالَ: هَات، فَأَنْشد:

أجرني فَإِنِّي قد ظمئت إِلَى الْوَعْد ... مَتى ينجز الْوَعْد الْمُؤَكّد بالعهد أُعِيذك من خلف الملول وَقد ترى ... تقطع أنفاسي عَلَيْك من الوجد رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه وَالله أعلم بِالْعَبدِ أَلا إِنَّمَا الْمَأْمُون للنَّاس عصمَة ... مُمَيزَة بَين الضَّلَالَة والرشد فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَحْسَنت يَا عبد الله وظنها لَهُ. فَقَالَ: بل أحسن قَائِلهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: وَمن هُوَ قَائِلهَا؟ قَالَ: عَبدك الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك. فقطب، وَقَالَ لَا حَيا الله من ذكرت، وَلَا بياه، وَلَا قربه، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِل: أعيني جودا وابكيا لي مُحَمَّدًا ... وَلَا تذخرا دمعا عَلَيْهِ وأسعدا فَلَا تمت الْأَشْيَاء بعد مُحَمَّد ... وَلَا زَالَ شَمل الْملك فِيهِ مبددا وَلَا فَرح الْمَأْمُون بالعيش بعده ... وَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا طريدا مشردا هَذَا بِذَاكَ، وَلَا شَيْء لَهُ عندنَا. فَقَالَ ابْن البواب: فَأَيْنَ فضل أَمِير الْمُؤمنِينَ، وسعة حلمه، وعادته فِي

الْعَفو؟ فَأمر بإحضاره. فَلَمَّا حضر، سلم، فَرد عَلَيْهِ السَّلَام ردا خفِيا، ثمَّ قَالَ: أَخْبرنِي عَنْك، هَل عرفت، يَوْم قتل أخي - هاشمية قتلت، أَو هتكت؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا معنى قَوْلك؟ : وَمِمَّا شجى قلبِي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النَّبِي استحلت ومهتوكة بالخلد عَنْهَا سجوفها ... كعاب كقرن الشَّمْس حِين تبدت إِذا خفرتها روعة من مُنَازع ... لَهَا المرط عاذت بالخضوع ورنت وسرب ظباء من ذؤابة هَاشم ... هتفن بِدَعْوَى خير حَيّ وميت أرد يدا مني إِذا مَا ذكرته ... على كبد حرى وقلب مفتت فَلَا بَات ليل الشامتين بغبطة ... وَلَا بلغت آمالها من تمنت فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أَن غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني. فَدَمَعَتْ عينا الْمَأْمُون، وَقَالَ قد عَفَوْت عَنْك وَأمرت لَك بإدرار أرزاقك عَلَيْك، وإعطائك مَا فَاتَ مِنْهَا، وَجعلت عُقُوبَة ذَنْبك، امتناعي عَن استخدمك.

بين المعتصم والحسين بن الضحاك

بَين المعتصم وَالْحُسَيْن بن الضَّحَّاك أَخْبرنِي مُحَمَّد بن يحيى الصولي، إجَازَة، وَقد ذكره أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه الْكَبِير، كتاب الأغاني، الَّذِي أجَازه لي فِي جملَة مَا أجَاز، فِي أَخْبَار الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك، قَالَ: غضب عَليّ المعتصم فِي شَيْء جرى على النَّبِيذ، وَقَالَ وَالله لأؤدبنه، وحجبني، فَكتب إِلَيْهِ: غضب الإِمَام أَشد من أدبه ... وَقد استجرت وعذت من غَضَبه أَصبَحت معتصما بمعتصم ... أثنى عَلَيْهِ الله فِي كتبه لَا وَالَّذِي لم يبْق لي سَببا ... أَرْجُو النجَاة بِهِ سوى سَببه مَا لي شَفِيع غير رَحمته ... وَلكُل من أشفى على عطبه إِلَّا كريم طباعه وَبِه ... أَرْجُو الَّذِي أرجوه فِي نسبه فَلَمَّا قُرِئت عَلَيْهِ، الْتفت إِلَى الواثق، وَقَالَ: وبمثل هَذَا الْكَلَام يستعطف الْكِرَام، مَا هُوَ إِلَّا أَن سَمِعت أَبْيَات حُسَيْن هَذِه، حَتَّى زَالَ مَا فِي نَفسِي عَلَيْهِ. فَقَالَ الواثق: هُوَ حقيق أَن يهب لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَنبه، ويتجاوز عَنهُ،

فَرضِي عني، وَأمر بإحضاري. قَالَ: الصولي: فَحَدثني الْحُسَيْن بن يحيى، أَن هَذِه الأبيات إِنَّمَا كتب بهَا إِلَى المعتصم لِأَنَّهُ بلغه عَنهُ أَنه مدح الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون، وَتمنى لَهُ الْخلَافَة، فَطلب، فاستتر، وَكتب بِهَذِهِ الأبيات إِلَى المعتصم على يَدي الواثق، فأوصلها، وشفع لَهُ، فَرضِي عَنهُ، وأمنه، فَظهر، ثمَّ استدعاه، فَدخل عَلَيْهِ، وهجا الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون، فَقَالَ: خل اللعين وَمَا اكْتسب ... لَا زَالَ مُنْقَطع السَّبَب يَا عرة الثقلَيْن لَا ... دينا رعيت وَلَا حسب حسد الإِمَام مَكَانَهُ ... جهلا هداك على العطب وَأَبُوك قدمه لَهَا ... لما تخير وانتخب مَا تَسْتَطِيع سوى التنفس ... والتجرع للكرب لَا زلت عِنْد أَبِيك منتقص ... الْمُرُوءَة وَالْأَدب

الشعبي يروي قصة دخوله على الحجاج

الشّعبِيّ يروي قصَّة دُخُوله على الْحجَّاج وجدت بِخَط القَاضِي أبي جَعْفَر أَحْمد بن البهلول الْأَنْبَارِي، قَالَ الشّعبِيّ: كنت فِيمَن خرج مَعَ ابْن الْأَشْعَث، على الْحجَّاج، فَلَمَّا هزم، هربت، فَأتيت يزِيد بن أبي مُسلم، وَكَانَ لي صديقا، وَذكرت لَهُ أَمْرِي. فَقَالَ: يَا عَامر، أَنا أَخُوك الَّذِي تعرف، وَوَاللَّه، مَا أَسْتَطِيع نفعك عِنْد الْحجَّاج، وَمَا أرى لَك إِلَّا أَن تمثل بَين يَدَيْهِ، فتقر بذنبك، فَإِن الْحجَّاج لَيْسَ مِمَّن يكذب، فاصدقه، واستشهدني على مَا بدا لَك. قَالَ الشّعبِيّ: فَمَا شعر الْحجَّاج، إِلَّا وَأَنا قَائِم بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ: عَامر؟ قلت: نعم , أصلح الله الْأَمِير. قَالَ: ألم أقدم الْعرَاق، فوجدتك خاملا، فشرفتك، وأوفدتك إِلَى

أَمِير الْمُؤمنِينَ، وأثبتك عريف قَوْمك، واستشرتك؟ قلت: بلي. قَالَ: فَمَا الَّذِي أخرجك عَليّ، وَأَيْنَ كنت فِي هَذِه الْفِتْنَة؟ قلت: أصلح الله الْأَمِير، أوحش الجناب، وأحزن بِنَا الْمنزل، فاستشعرنا الْخَوْف، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الْبلَاء، وفقدنا صَالح الإخوان، وشملتنا فتْنَة، لم نَكُنْ فِيهَا بررة أتقياء، وَلَا فجرة أقوياء، وَمَا أعْتَذر أَلا أكون سعيت، وَهَذَا يزِيد بن أبي مُسلم، يشْهد لي بذلك، وَأَنِّي كنت أكتب إِلَيْهِ بعذري. فَقَالَ ابْن أبي مُسلم: صدق، أعز الله الْأَمِير. فَقَالَ الْحجَّاج: هَذَا عَامر، ضرب وُجُوهنَا بِسَيْفِهِ، وأتانا يعْتَذر بِالْبَاطِلِ، ردوا عَلَيْهِ عطاءه. وَعَفا عَنهُ.

من قصص ملوك الفرس

من قصَص مُلُوك الْفرس أ - بَين كسْرَى أبرويز ومغنيه وجدت فِي بعض الْكتب، عَن ابْن خرداذبه، قَالَ: غضب أبرويز الْملك على بعض أَصْحَابه، من جرم عَظِيم، فحبسه زَمَانا، ثمَّ ذكره، فَقَالَ للسجان: هَل يتعاهده أحد؟ . فَقَالَ: أَيهَا الْملك، الفلهند الْمُغنِي وَحده، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَجه إِلَيْهِ فِي كل يَوْم بسلة من طَعَام. فَقَالَ كسْرَى أبرويز للفلهند: غضِبت على فلَان، وحبسته، فَقَطعه النَّاس غَيْرك، فَإنَّك كنت تتعاهده بِالْبرِّ فِي كل يَوْم. فَقَالَ: أَيهَا الْملك، إِن الْبَقِيَّة الَّتِي بقيت لَهُ عنْدك، فابقت روحه فِي جسده، أبقت لَهُ عِنْدِي مِقْدَار سلة من طَعَام. فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنت، وَقد وهبت لَك ذَنبه، وَأطْلقهُ للْوَقْت.

ب - الفلهند يحرم الملك أبرويز من شطر لذته

ب - الفلهند يحرم الْملك أبرويز من شطر لذته حَدثنِي الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن الجنائني، قَالَ: قَرَأت فِي بعض كتب الْفرس أَن أبرويز الْملك كَانَ معجبا بغناء الفلهند مغنيه، فَنَشَأَ للفلهند غُلَام أحسن غناء مِنْهُ ـ فَأدْخلهُ إِلَى أبرويز يتحفه بِهِ، ويتقرب إِلَيْهِ بذلك، فاستطابه أبرويز وَغلب على قلبه حَتَّى قدمه على الفلهند، فحسده الفلهند، فَقتله. وَبلغ أبرويز ذَلِك، فَغَضب عَلَيْهِ غَضبا شَدِيدا، واستدعى الفلهند، فَقَالَ لَهُ: يَا كلب، علمت أَن شطر لذتي فِي الْغناء كَانَ فِيك، وشطرها كَانَ فِي غلامك، فَقتلته لتذهب شطر لذتي، وَالله لأَقْتُلَنك، وَأمر بِهِ فجر ليقْتل. فَقَالَ: أَيهَا الْملك، اسْمَع مني كلمة، ثمَّ اعْمَلْ مَا شِئْت. قَالَ: قل. قَالَ: إِذا كَانَت لذتك شطرين، وَقد أبطلت أَنا بِالْجَهْلِ أَحدهمَا، وَتبطل أَنْت على نَفسك الشّطْر الثَّانِي بِطَاعَة الْغَضَب، فَإِن جنايتك على نَفسك، أعظم من جنايتي عَلَيْك. فَقَالَ أبرويز: مَا نطقت بِهَذَا الْكَلَام، فِي مثل هَذَا الْمقَام، إِلَّا لما فِي أَجلك من التَّأْخِير، وَلما يُرِيد الله تَعَالَى إسعادي بِهِ من الالتذاذ بغنائك، وَقد عَفَوْت عَنْك. وَأطْلقهُ.

ج - صاحب المائدة يصب ما في الغضارة على رأس الملك

ج - صَاحب الْمَائِدَة يصب مَا فِي الغضارة على رَأس الْملك حَدثنِي الْحسن بن مُحَمَّد الجنائني، قَالَ: قَرَأت فِي بعض كتب الْفرس المنقولة إِلَى الْعَرَبيَّة، أَن ملكا من مُلُوكهمْ قدم إِلَيْهِ صَاحب مائدته غضارة إسفيذباج فنقطت مِنْهَا نقطة على ساعد الْملك، فَأمر بقتْله. فَقَالَ لَهُ الرجل: أعيذ الْملك بِاللَّه أَن يقتلني ظلما بِغَيْر ذَنْب قصدته. فَقَالَ لَهُ الْملك: قَتلك وَاجِب، ليتعظ بك غَيْرك، فَلَا تهمل الْحُرْمَة. فَأخذ الرجل الغضارة، فصبها بأسرها على رَأس الْملك، وَقَالَ: أَيهَا الْملك، كرهت أَن يشيع عَنْك أَنَّك قتلتني ظلما، فَفعلت هَذَا لأستحق الْقَتْل، فيزول عَنْك قبح الأحدوثة بظُلْم الخدم، فشأنك الْآن وَمَا تُرِيدُ. فَقَالَ الْملك: مَا أحصن الْأَجَل! وَعَفا عَنهُ.

الغلط الذي لا يتلافى

الْغَلَط الَّذِي لَا يتلافى وجدت فِي بعض الْكتب: أَن رجلَيْنِ أُتِي بهما إِلَى بعض الْوُلَاة، وَقد ثَبت على أَحدهمَا الزندقة، وعَلى الآخر شرب الْخمر، فَسلم الْوَالِي الرجلَيْن إِلَى بعض أَصْحَابه، وَقَالَ لَهُ: اضْرِب عنق هَذَا، وأومى إِلَى الزنديق، وحد هَذَا، وأومى إِلَى الشَّارِب. وَقَالَ: خذهما. فَلَمَّا ذهب بهما ليخرجا، قَالَ شَارِب الْخمر: أَيهَا الْأَمِير، سلمني إِلَى غير هَذَا ليحدني، فلست آمن أَن يغلط فَيضْرب عنقِي، وَيحد صَاحِبي، والغلط فِي هَذَا لَا يتلافى. فَضَحِك مِنْهُ الْأَمِير، وخلى سَبيله، وَضرب رَقَبَة الزنديق.

الأمير عبد الله بن طاهر يعفو عن الحصني ويحسن إليه

الْأَمِير عبد الله بن طَاهِر يعْفُو عَن الحصني وَيحسن إِلَيْهِ وجدت فِي كتاب أبي الْفرج المَخْزُومِي، عَن أبي مُحَمَّد الْحسن بن طَالب، كَاتب عِيسَى بن فرخان شاه، قَالَ: حَدثنِي عِيسَى بن فرخان شاه، قَالَ: لما وليت ديار مصر، لم يزل وجوهها يصفونَ لي مُحَمَّد بن يزِيد الْأمَوِي الحصني بِالْفَضْلِ، وينشدوني قصيدته الَّتِي أجَاب بهَا عبد الله بن طَاهِر، لما فَخر بِأَبِيهِ، ويذكرون قصَّته مَعَه لما دخل عبد الله الشَّام، وأشرف

الحصني على الْهَلَاك خوفًا مِنْهُ، كَيفَ كفي أمره بِلَا سَبَب، وَكَيف أحسن إِلَيْهِ، وَأقرهُ فِي حصنه، فَكنت أتفقد أمره فِي ضيعته، وَأحسن إِلَيْهِ فِي مُعَامَلَته، وَكَانَت كتبه ترد عَليّ بالشكر بِأَحْسَن عبارَة. فَلَمَّا خرجت لتصفح كور عَمَلي، وأحوال الرّعية والعمال بالنواحي، وَردت الكورة الَّتِي فِيهَا حصن مُحَمَّد بن يزِيد فِي نَاحيَة مِنْهَا، فَخرج مُسْتَقْبلا لي، وراغبا إِلَى فِي النُّزُول عَلَيْهِ. فَلَمَّا الْتَقَيْنَا، قَالَ لي: لم أَشك، مَعَ فضلك، أَنَّك لَا تتجاوزني، وَلم آمن أَن يعارضك ظن، يصور لَك أَن عدولك عني، إبْقَاء عَليّ، وإشفاق من نِسْبَة السُّلْطَان إياك إِلَى إِيثَار لذتك فِي لقائي، فتطويني، فَحملت نَفسِي على خلاف مَا كنت أحب أَن يشيع لَك، من ابتدائي بِالْقَصْدِ قبل رغبتي إِلَيْك فِيهِ، فَالْحَمْد لله الَّذِي جعل لَك السَّبق إِلَى المكرمة. وسرهنا إِلَى حصنه، وأوقفني على الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة فِي الْخَبَر وَالشعر إِلَى أَن دَخَلنَا حصنه، فَلم أجد فِيهِ أهبة للنزول بِهِ، وَرَأَيْت أدبا ومروءة، وَسبق بِمَا حضر من الْقرى، وَلم ينقبض من إِحْضَار مَا أعددته فِي سفرتنا، وَوجدت خدمته كلهَا تَدور على جَارِيَة سَوْدَاء اللَّوْن، خَفِيفَة الْحَرَكَة، يدل نشاطها على اعتيادها الطراق، إِلَى أَن رفع الطَّعَام، وَحضر الشَّرَاب، فَحَضَرت السَّوْدَاء فِي

غير الزي الأول، وَجَلَست تغني، فأنكرتها، حَتَّى استثبته فِيهَا، فوصف لي قديم حرمتهَا، وَقَالَ: هِيَ كَانَت طليعتي يَوْم قصدني عبد الله بن طَاهِر. فاستفتحني لمسألته عَن الْخَبَر، فَسَأَلته. فَقَالَ: لما بَلغنِي إِجْمَاع عبد الله بن الطَّاهِر على الْخُرُوج لطلب نصر بن شبث، الْخَارِجِي كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت، بِنَفسِهِ، أيقنت بِالْهَلَاكِ، وَخفت أَن يقرب مني، فتنالني مِنْهُ بادرة مَكْرُوه، وَلم أَشك فِي ذهَاب النِّعْمَة، وَإِن سلمت النَّفس لما بلغه من إجَابَتِي إِيَّاه، عَن قصيدته الَّتِي فَخر بهَا، وأنشدنيها: مدمن الإغضاء مَوْصُول ... ومديم العتب مملول ومدين الْبيض فِي تَعب ... وغريم الْبيض ممطول وأخو الْوَجْهَيْنِ حَيْثُ رمى ... بهواه فَهُوَ مَدْخُول وَقَلِيل من يبرزه ... فِي يَد التَّهْذِيب تَحْصِيل فاتئد تلق النجاح بِهِ ... واعتساف الْأَمر تضليل واغض عَن عيب أَخِيك يدم ... لَك حَبل مِنْهُ مَوْصُول

من يرد حَوْض الردى صردا ... لَا يَسعهُ الرّيّ تَعْلِيل من بَنَات الرّوم لي سكن ... وَجههَا للشمس إكليل عتبت والعتب من سكن ... فِيهِ تَكْثِير وتقليل أقصري عَمَّا لهجت بِهِ ... ففراغي عَنْك مَشْغُول سائلي عَمَّا تسائلني ... قد يرد الْخَبَر مسئول أَنا من تعرفن نسبته ... سلفي الغر البهاليل مُصعب جدي نقيب بني ... هَاشم، وَالْأَمر مَجْهُول وحسين رَأس دعوتهم ... وَدُعَاء الْحق مَقْبُول سل بهم تنبيك نجدتهم ... مشرفيات مصاقيل كل غضب مشرب عللا ... وجراز الْحَد مفلول وَأبي من لَا كفاء لَهُ ... من يسامي مجده قُولُوا صَاحب الرَّأْي الَّذِي حصلت ... رَأْيه الْقَوْم المحاصيل حل مِنْهُم بالذرى شرفا ... دونه عز وتبجيل

تفصح الأنباء عَنهُ إِذا ... أسكت الأنباء مَجْهُول سل بِهِ وَالْخَيْل ساهمة ... حوله جرد أبابيل إِذْ علت من فَوْقه يَده ... نوطها أَبيض مصقول وبربات الْخُدُور وَقد ... جعلت تبدو الخلاخيل من ثنى عَنهُ الْخُيُول ... بِأَكْنَافِهَا الخطية الشول أبطن المخلوع كلكله ... وحواليه المغاويل فثوى والترب مضجعه ... غال عَنهُ ملكه غول قاد جَيْشًا نَحْو قَاتله ... ضَاقَ عَنهُ الْعرض والطول من خُرَاسَان مصممهم ... كليوث ضمهَا غيل وهبوا لله أنفسهم ... لَا معازيل وَلَا ميل ملك تحْتَاج سطوته ... ونداه الدَّهْر مبذول قطعت عَنهُ تمائمه ... وَهُوَ مرهوب ومأمول وتره يسْعَى إِلَيْهِ بِهِ ... وَدم يجنيه مطلول قَالَ: وَكنت لما بلغتني القصيدة، امتعضت للعربية، وأنفت أَن يفخر عَلَيْهَا رجل من الْعَجم، لِأَنَّهُ قتل ملكا من مُلُوكهَا بِسيف أَخِيه، لَا بِسَيْفِهِ، فيفخر عَلَيْهَا هَذَا الْفَخر، وَيَضَع مِنْهَا هَذَا الْوَضع، فَرددت على قصيدته

وَلم أعلم أَن الْأَيَّام تجمعنا، وَلَا أَن الزَّمَان يضطرني إِلَى الْخَوْف مِنْهُ، فَقلت: لَا يرعك القال والقيل ... كلما بلغت تهويل مَا هوى لي حَيْثُ أعرفهُ ... بهوى غَيْرك مَوْصُول أَيْن لي عدل إِلَى بدل ... أبديل مِنْك مَقْبُول إِذْ عدمت الْعدْل مِنْك وَإِذ ... أَنا فِيك الدَّهْر معدول حمليني كل لائمة ... كل مَا حملت مَقْبُول واحكمي مَا شِئْت واحتكمي ... فحرامي فِيك تَحْلِيل وَالَّذِي أَرْجُو النجَاة بِهِ ... مَا لقلبي عَنْك تَحْويل مَا لداري مِنْك مقفرة ... وضميري مِنْك مأهول أيخون الْعَهْد ذُو ثِقَة ... لَا يخون الْعَهْد مسئول وأخو حبيك فِي تَعب ... مُطلق مرا ومغلول مَا فراغي عَنْك مشتغل ... بل فراغي بك مَشْغُول وبدت يَوْم الْوَدَاع لنا ... غادة عيطاء عطبول حاسرا أَو ذَات مقنعة ... ذَات تَاج فِيهِ إكليل أَي عطفيها بِهِ انصرفت ... أرج بالمسك مَعْلُول تتعاطى شدّ معجرها ... ونطاق الخصر محلول

بأداليل لَهَا قتل ... حبذا تِلْكَ الأداليل فبنفسي دمج مشطتها ... ومثانيها الْمَرَاسِيل سبقت بالدمع مقلتها ... فلهَا بالدمع تَفْصِيل ورمت بِالسحرِ من كثب ... فدفين الدَّاء مقتول لاحظت بِالسحرِ عابثة ... فحسام الصَّبْر مفلول شملنا إِذْ ذَاك مُجْتَمع ... وَجَنَاح الْبَين مشكول ثمَّ ولت كي تودعنا ... كحلها بالدمع مغسول لَا تخَاف الدَّهْر طَائِره ... فأذاه عَنْك مَعْقُول أَيهَا النازي مطيته ... لأغاليطك تَحْصِيل قد تأولتم على جِهَة ... وَلنَا فِي ذَاك تَأْوِيل إِن دليلاك يَوْم غَدا ... بك فِي الْحِين لضليل قَاتل المخلوع مقتول ... وَدم الْقَاتِل مطلول قد يخون الرمْح عَامله ... وَسنَان الرمْح مصقول وينال الْوتر طَالبه ... بعْدهَا تسلو المثاكيل سَار أوحل فمتبع ... بِالَّتِي يكبو لَهَا الْفِيل لَا تنجيه مذاهبه ... نهر بوشنج وَلَا النّيل

ومدين الْقَتْل مُرْتَهن ... بدماء الْقَوْم مقتول بأخي المخلوع طلت يدا ... لم يكن فِي بَاعهَا طول وبنعماه الَّتِي سلفت ... فعلت تِلْكَ الأفاعيل وبراع غير ذِي شفق ... جالت الْخَيل الأبابيل يَابْنَ بَيت النَّار موقدها ... مَا لحاديه سَرَاوِيل أَي مجد فِيك نعرفه ... أَي جد لَك بهْلُول من حُسَيْن أَو أَبوك وَمن ... مُصعب غالتهم غول وزريق إِذْ تخلفه ... نسب عمرك مَجْهُول تِلْكَ دَعْوَى لَا نناقشها ... وأبوّات مراذيل أسرة لَيست مباركة ... غَيرهَا الشم البهاليل مَا جرى فِي عود أثلتكم ... مَاء مجد فَهُوَ مَدْخُول قدحت فِيهِ أسافله ... وأعاليه مَجَاهِيل إِن خير القَوْل أصدقه ... حِين تصطك الْأَقَاوِيل كن على منهاج معرفَة ... لَا تغرنك الأباطيل إِن للإصعاد منحدرا ... فِيهِ للهاوي أهاويل ولريب الدَّهْر عَن عرض ... بالردي عل وتنهيل يعسف الصعبة رائضها ... وَلها بالعسف تدليل ويخون الرمْح حامله ... وَسنَان الرمْح مصقول

وينال الثأر طَالبه ... بَعْدَمَا تسلو المثاكيل مُضْمر حقدا ومنصله ... مغمد فِي الجفن مسلول قَالَ: فَلَمَّا قرب عبد الله بن طَاهِر مني، استوحشت من الْمقَام خوفًا على نَفسِي، وَرَأَيْت بعدِي وتسليمي حرمي عارا بَاقِيا، وَلم يكن لي إِلَى هربي بِالْحرم سَبِيل، فأقمت على أتم خوف مستسلما للاتفاق، حَتَّى إِذا كَانَ الْيَوْم الَّذِي قيل إِنَّه ينزل فِيهِ الْعَسْكَر بِهَذِهِ النواحي أغلقت بَاب حصني، وأقمت هَذِه الْجَارِيَة السَّوْدَاء ربيئة تنظر لي على مرقب من شرف الْحصن، وأمرتها أَن تعرفنِي الْموضع الَّذِي ينزل فِيهِ الْعَسْكَر قبل أَن يفجأني، ولبست ثِيَاب الْمَوْت أكفانا، وتطيب، وتحنطت. فَلَمَّا رَأَتْ الْجَارِيَة الْعَسْكَر يقْصد حصني، نزلت فعرفتني، فَلم يرعني إِلَّا دق بَاب الْحصن فَخرجت، فَإِذا عبد الله بن طَاهِر، وَاقِف وَحده، مُنْفَرد عَن أَصْحَابه، فَسلمت عَلَيْهِ سَلام خَائِف، فَرد عَليّ بن الْحسن غير مستوحش، فأومات إِلَى تَقْبِيل رجله فِي الركاب، فَمنع ألطف منع وَأحسنه، وَنزل على دكان على بَاب الْحصن. ثمَّ قَالَ: ليسكن روعك، فقد أَسَأْت الظَّن بِنَا، وَلَو علمنَا أَنا بزيارتنا لَك نروعك مَا قصدناك. ثمَّ أَطَالَ الْمَسْأَلَة، حَتَّى رأى الثِّقَة مني قد ظَهرت، فَسَأَلَنِي عَن سَبَب مقَامي فِي الْبر، وإيثاري إِيَّاه على الْحَاضِرَة، ورفاهة عيشها، وَعَن حَال ضيعتي ومعاملتي فِي ناحيتي، فأجبته بِمَا حضر لي.

حَتَّى إِذا لم يبْق من التأنيس شَيْء أفْضى إِلَى مساءلتي عَن حَدِيث نصر بن شبث، وَكَيف الطَّرِيق إِلَى الظفر بِهِ، فَأَخْبَرته بِمَا حضرني. ثمَّ أقبل عَليّ وَقد انبسطت فِي محادثته كل الانبساط، فَقَالَ: أحب أَن تنشدني القصيدة الَّتِي فِيهَا: يَابْنَ بَين النَّار موقدها مَا لحاديه سَرَاوِيل فَقلت: أصلح الله الْأَمِير، قد أربت نِعْمَتك على مِقْدَار همتي، فَلَا تكدرها بِمَا ينغصها. فَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيد الزِّيَادَة فِي تأنيسك، بِأَن لَا تراني متحفظا مِمَّا خفت، وعزم على فِي إنشادها، عزم مجد، فَقلت: يُرِيد أَن تطرأ على سَمعه، فيثور مَا فِي نَفسه، فيوقع بِي. وَلم أجد من إنشادها بدا، فَأَنْشَدته القصيدة، فَلَمَّا فرغت مِنْهَا، عَاتَبَنِي عتابا سهلا، فَكَانَ مِنْهُ أَن قَالَ: يَا هَذَا، مَا حملك على تكلّف إجَابَتِي؟ فَقلت: الْأَمِير أصلحه الله، حَملَنِي على ذَلِك بقوله: وَأبي من لَا كفاء لَهُ ... من يسامي مجده قُولُوا فَقلت: كَمَا تَقول الْعَرَب، وتفتخر السوقة على الْمُلُوك، وَكنت لما بلغت إِلَى قولي: يَا ابْن بَيت النَّار موقدها ... مَا لحاديه سَرَاوِيل قَالَ لي: يَابْنَ مسلمة، لقد أحصينا فِي خَزَائِن ذِي اليمينين بعد مَوته،

أَلفَيْنِ وَثَلَاث مائَة سَرَاوِيل من صنوف الثِّيَاب، مَا أصلح فِي أَحدهَا تكة، سوى مَا اسْتعْمل فِي اللّبْس، على أَن النَّاس يقلون اتِّخَاذ السراويلات فِي كساهم. فاعتذرت إِلَيْهِ بِمَا حضرني من القَوْل فِي هَذَا، وَفِي جَمِيع مَا تضمنته القصيدة، فَقبل القَوْل، وَبسط الْعذر، وَأظْهر الصفح. وَقَالَ: قد دللتنا على مَا احتجنا إِلَيْهِ، من معرفَة أَمر نصر بن شبث، أفتستحسن الْقعُود عَنَّا فِي حربه. وَلَا يكون لَك فِي الظفر بِهِ أثر يشاكل إرشادك لوجوه مطالبه؟ فاعتذرت إِلَيْهِ بِلُزُوم ضيعتي ومنزلي، وعجزي عَن السّفر للقصور عَن آلَته. فَقَالَ: نكفيك ذَلِك، وتقبله منا، ودعا بِصَاحِب دوابه، فَأمره بإحضار خَمْسَة مراكب من الْخَيل الهماليج بسروجها ولجمها المحلاة، وبثلاث دَوَاب من دَوَاب الشاكرية، وَخَمْسَة أبغل من بغال الثّقل، وَأمر صَاحب كسوته بإحضار خَمْسَة تخوت من أَصْنَاف الثِّيَاب الفاخرة، وَأمر خازنه بإحضار خمس بدر دَرَاهِم، فأحضر جَمِيع ذَلِك، وَوضع على الدّكان الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَالِسا بِبَاب الْحصن. ثمَّ قَالَ لي: كم مُدَّة تأخرك عَنَّا إِلَى أَن تلْحق بِنَا؟ فقربت الْموعد، فَقَامَ ليركب، فابتدرت إِلَى يَده لأقبلها، فَمَنَعَنِي، وَركب، وَسَار الْجَيْش مَعَه، وَمَا ترك أحدا ينزل، وَكفى الله مئونتهم، وَخرجت السَّوْدَاء، فنقلت الثِّيَاب والبدر، وَأخذ الغلمان الكراع، وَمَا لقِيت عبد الله بعْدهَا. قَالَ: عِيسَى بن فرخان شاه: فأقمت عِنْد مُحَمَّد بن يزِيد يومي وليلتي،

فأضافني أحسن ضِيَافَة، وَكَانَت مذاكرته لي، وأدبه، ألذ إِلَيّ من كل شَيْء، فَأسْقطت عَنهُ جَمِيع خراجه فِي تِلْكَ السّنة، وانصرفت. وَوَقع إِلَيّ هَذَا الْخَبَر، بِخِلَاف هَذَا، فَأَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: حَدثنِي عمي الْحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنِي ابْن الدهقانة النديم، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْفضل الْخُرَاسَانِي، وَكَانَ من وُجُوه قواد طَاهِر، وَابْنه عبد الله، وَكَانَ أديبا، عَاقِلا، فَاضلا: لما قَالَ عبد الله قصدته الَّتِي فَخر فِيهَا بمآثر أَبِيه وَأَهله، وبقتل المخلوع، عَارضه مُحَمَّد بن يزِيد الْأمَوِي الحصني، وَهُوَ رجل من ولد مسلمة بن عبد الْملك، فأفرط فِي السب، وَتجَاوز الْحَد فِي قبح الرَّد، فَكَانَ فِيمَا قَالَ: يَابْنَ بَيت النَّار موقدها ... مَا لحاديه سَرَاوِيل من حُسَيْن وَأَبُوك وَمن ... مُصعب غالتهم غول نسب فِي الْفَخر مؤتشب ... وأبوات أراذيل قَاتل المخلوع مقتول ... وَدم الْمَقْتُول مطلول وَهِي قصيدة طَوِيلَة.

فَلَمَّا ولي عبد الله مصر، ورد إِلَيْهِ تَدْبِير الشَّام، علم الحصني أَنه لَا يفلت مِنْهُ إِن هرب، وَلَا ينجو من يَده حَيْثُ حل، فَثَبت مَكَانَهُ، وأحرز حرمه، وَترك أَمْوَاله وكل مَا يملكهُ فِي مَوْضِعه، وَفتح بَاب حصنه، وَهُوَ يتَوَقَّع من عبد الله أَن يُوقع بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا شارفنا بَلَده، وَكُنَّا على أَن نصبحه دَعَاني عبد الله فِي اللَّيْل، فَقَالَ: بت عِنْدِي، وَليكن فرسك معدا، فَفعلت، فَلَمَّا كَانَ فِي السحر، أَمر غلمانه وَأَصْحَابه أَن لَا يرحلوا حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَركب هُوَ أَنا وَخَمْسَة من خَواص غلمانه، وَسَار حَتَّى صبح الحصني، فَرَأى بَابه مَفْتُوحًا، وَرَآهُ جَالِسا مسترسلا، فقصده وَسلم عَلَيْهِ، وَنزل عِنْده. وَقَالَ: مَا أجلسك هَاهُنَا، وحملك على أَن تفتح بابك، وَلم تتحصن من هَذَا الْجَيْش الْمقبل، وَلم تتنح عَن عبد الله بن طَاهِر، مَعَ علمك بِمَا فِي نَفسه مِنْك، وَمَا بلغه عَنْك؟ فَقَالَ: إِن الَّذِي قلت لم يذهب عني، وَلَكِنِّي تَأَمَّلت أَمْرِي، وَعلمت أَنِّي قد أَخْطَأت عَلَيْهِ خَطِيئَة حَملَنِي عَلَيْهَا نزق الشَّبَاب، وغرة الحداثة، وَأَنِّي إِن هربت مِنْهُ لم أفته، فباعدت الْحرم، واستسلمت بنفسي وَبِكُل مَا أملك، فَإنَّا أهل بَيت قد أسْرع فِينَا الْقَتْل، ولي بِمن مضى من أَهلِي أُسْوَة، وَأَنا واثق بِأَن الرجل إِذا قتلني، وَأخذ مَالِي، شفى غيظه، فَلم يتَجَاوَز ذَلِك إِلَى الْحرم، وَلَا لَهُ فِيهِنَّ أرب، وَلَا يُوجب جُرْمِي إِلَيْهِ أَكثر مِمَّا بذلته. فوَاللَّه، مَا أَجَابَهُ عبد الله إِلَّا بدموعه تجْرِي على لحيته، ثمَّ قَالَ لَهُ: أتعرفني؟ قَالَ: لَا وَالله. قَالَ: أَنا عبد الله بن طَاهِر، وَقد أَمن الله روعك، وحقن دمك، وصان حَرمك، وحرس نِعْمَتك، وَعَفا عَن ذَنْبك، وَمَا تعجلت إِلَيْك وحدي، إِلَّا

لتأمن، قبل هجوم الْجَيْش، وَلِئَلَّا يخالط عفوي عَنْك، روعة تلحقك. فبكي الحصني، وَقَامَ فَقبل يَده، فضمه عبد الله إِلَيْهِ، وَأَدْنَاهُ، ثمَّ قَالَ لَهُ: أما إِنَّه لَا بُد من العتاب، يَا أخي، جعلني الله فدَاك، قُلْتُ شعرًا فِي قومِي أَفْخَر بهم، وَلم أطعن فِيهِ على نسبك، وَلَا ادعيت فضلا عَلَيْك، وفخرت بقتل رجل هُوَ وَإِن كَانَ من قَوْمك، فَهُوَ من الَّذين ثأرك عِنْدهم، وَقد كَانَ يسعك السُّكُوت، وَإِن لم يسعك، أَن لَا تغرق وَلَا تسرف. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، قد عَفَوْت فاجعله عفوا لَا يخالطه تَثْرِيب، وَلَا يكدر صَفوه تأنيب. قَالَ: قد فعلت، فَقُمْ بِنَا ندخل إِلَى مَنْزِلك، حَتَّى توجب علينا حَقًا وذماما بالضيافة. فَقَامَ مَسْرُورا فأدخلنا منزله، وأتانا بِالطَّعَامِ فأكلنا، وَجَلَسْنَا نشرب فِي مستشرف لَهُ، وَأَقْبل الْجَيْش، فَأمرنِي أَن أتلقاهم فأرحلهم، وَلَا يتنزل أحد مِنْهُم إِلَّا فِي الْمنزل، وَكَانَ على ثَلَاثَة فراسخ من الْحصن، فَنزلت، فرحلتهم، وَأقَام عِنْده إِلَى الْعَصْر، ثمَّ دَعَا بِدَوَاةٍ، فَكتب لَهُ بتسويغه خراجه ثَلَاث سِنِين. ثمَّ قَالَ لَهُ: إِن نشطت، فَالْحق بِنَا إِلَى مصر، وَإِلَّا فأقم بمكانك. فَقَالَ: أتجهز، وَألْحق بالأمير. فَفعل، وَلحق بِنَا، فَلم يزل مَعَ عبد الله، لَا يُفَارِقهُ، حَتَّى رَحل إِلَى الْعرَاق، فودعه، وَأقَام بِبَلَدِهِ.

وحَدثني أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، بِهَذَا الْخَبَر، من لَفظه وَحفظه، وَبِخِلَاف هَذَا، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو دلف هَاشم بن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو أَحْمد عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، قَالَ: لما قَالَ أبي قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا: وَأبي من لَا نَظِير لَهُ ... من يسامي مجده قُولُوا وَذكر أبياتا من القصيدة، قَالَ: الحصني الْأمَوِي قصيدة أَولهَا: لَا يرعك القال والقيل ... كلما بلغت تمحيل وَذكر أبياتا من القصيدة يشتمه فِيهَا، فَلَمَّا ولي تِلْكَ النواحي، علم المسلمي أَنه لَا يفوتهُ، فَأَقَامَ بِبَلَدِهِ، فَلَمَّا قرب أبي من حصن مسلمة، أَمر الْجَيْش فنزلوا على فَرسَخ مِنْهُ، وَنزع من مَوْضِعه، مَعَ عدَّة من غلمانه، فجَاء إِلَى الْحصن، فابتدأه وَهُوَ على بَاب دَاره، فَسلم، وَنزل. فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن مسلمة الْقرشِي الحصني. قَالَ: الَّذِي هجوت آل طَاهِر. قَالَ: نعم أعزّك الله. قَالَ: فَلم فعلت ذَلِك، فوَاللَّه مَا فَخر الْقَوْم إِلَّا بِقَتْلِهِم رجلا من قبيل قتلكم وأفناكم، فَمَا دخولك فِي هَذَا؟ قَالَ: أطت الرَّحِم وَإِن كَانَت مَقْطُوعَة، ولحقتني الرَّحْمَة وَالْحمية،

وَهُوَ أَمرنِي أَن أَقُول، إِذْ قَالَ: من يسامي مجده قُولُوا قَالَ: فَذَكرنَا مَا عندنَا. قَالَ: فَلم لم تستتر من عبد الله بن طَاهِر وَقد أظلك؟ قَالَ: علمت أَنِّي لَا أفوته، فجدت بنفسي، وصنت حرمي. قَالَ: أتعرفني؟ قَالَ: أما فِي الْحَقِيقَة، فَلَا، وَلَكِنِّي أَظُنك من قواده. قَالَ: لَا، بل أَنا هُوَ، وَإِنَّمَا سبقت إِلَيْك لِئَلَّا تراع، وَقد أمنك الله، وَأمن حَرمك، فسلني حاجاتك. قَالَ: أما أَنا أَيهَا الْأَمِير، فقد أجبتني عَن قولي بفعلك، وأكذبت شعري بِفَضْلِك، وَمَا لي بعْدهَا حَاجَة، فَإِنِّي فِي كفاف من معيشتي. فَاحْتمل لَهُ خراجه، وَقَالَ لَهُ: إِن شِئْت فأقم ببلدك، وَإِن شِئْت فَكُن معي. قَالَ: بل أقيم ببلدي، وأزور الْأَمِير إِذا نشط لي. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك.

الباب الذي بين الله والناس لا يغلق

الْبَاب الَّذِي بَين الله وَالنَّاس لَا يغلق وحَدثني عبد الله بن أَحْمد بن داسة، الْمُقْرِئ الْبَصْرِيّ، قَالَ: سَمِعت أَن بعض الْجند، اغتصب امْرَأَة نَفسهَا من الطَّرِيق، فَعرض لَهُ الْجِيرَان يمنعونه مِنْهَا، فَقَاتلهُمْ هُوَ وغلمانه حَتَّى تفَرقُوا، وَأدْخل الْمَرْأَة إِلَى دَاره، وغلق الْأَبْوَاب، ثمَّ راودها عَن نَفسهَا، فامتنعت، فأكرهها، ولحقها مِنْهُ شدَّة، حَتَّى جلس مِنْهَا مجْلِس الرجل من الْمرْآة. فَقَالَت لَهُ: يَا هَذَا، اصبر حَتَّى تغلق الْبَاب الَّذِي بَقِي عَلَيْك أَن تغلقه. قَالَ: أَي بَاب هُوَ؟ قَالَت: الْبَاب الَّذِي بَيْنك وَبَين الله. فَقَامَ عَنْهَا، وَقَالَ اخْرُجِي، قد فرج الله عَنْك. فَخرجت، وَلم يتَعَرَّض لَهَا.

بين الوليد بن يزيد وطريح بن إسماعيل الثقفي

بَين الْوَلِيد بن يزِيد وطريح بن إِسْمَاعِيل الثَّقَفِيّ أخبرنَا أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ، عَن الْمَدَائِنِي، قَالَ: كَانَ الْوَلِيد بن يزِيد، وَهُوَ ولي الْعَهْد، يكرم طريح بن إِسْمَاعِيل الثَّقَفِيّ،

ويدني مَجْلِسه، وَجعله أول دَاخل وَآخر خَارج من عِنْده، فاستفرغ مديحه كُله فِيهِ، فحسده النَّاس من أهل بَيت الْوَلِيد، وَقدم حَمَّاد الرِّوَايَة، فِي تِلْكَ الْأَيَّام إِلَى الشَّام. فَقَالُوا لَهُ: قد ذهب طريح بالأمير كل مَذْهَب، فَمَا لنا مَعَه ليل وَلَا نَهَار. فَقَالَ حَمَّاد: اطْلُبُوا لي من ينشده بَيْتَيْنِ من الشّعْر فِي خلْوَة لأسقط مَنْزِلَته عِنْده. فطلبوا إِلَى الْخصي الَّذِي كَانَ يقوم على رَأس الْوَلِيد، وَجعلُوا لَهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، على أَن ينشد بَيْتَيْنِ من الشّعْر، على خلْوَة، فَإِذا سَأَلَهُ عَنْهُمَا وَعَن قائلهما، قَالَ لَهُ: طريح، فأجابهم الْخصي إِلَى ذَلِك، وَتعلم الْبَيْتَيْنِ. فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم دخل طريح على الْوَلِيد، وَدخل النَّاس، وجلسوا طَويلا، ثمَّ نهضوا، وَبَقِي طريح مَعَ الْوَلِيد بغدائه فتغديا، ثمَّ إِن طريحا خرج، فَركب إِلَى منزله، وَبَقِي الْوَلِيد وَحده فِي مَجْلِسه لَيْسَ مَعَه أحد، فاستقلي على فرَاشه، فاغتنم الْخصي خلوته، فأنشده الْبَيْتَيْنِ، وهما: سيري ركابي إِلَى من تسعدين بِهِ ... فقد أَقمت بدار الْهون مَا صلحا سيري إِلَى سيد سمح خلائقه ... ضخم الدسيعة قرم يحمل المدحا فأصغى الْوَلِيد إِلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: من يَقُول هَذَا يَا غُلَام؟

قَالَ: يَقُوله طريح. فامتلا غيظا وغضبا، ثمَّ قَالَ: والهف أم لم تلدني، قد جعلته أول دَاخل عَليّ، وَآخر خَارج عني، وَيَزْعُم أَن هشاما يحمل الْمَدْح، وَأَنِّي لَا أحملها. ثمَّ قَالَ: عَليّ بالحاجب. فجَاء، فَقَالَ لَهُ: لَا أعلم أَنَّك أَذِنت لطريح، وَلَا أرَاهُ فِي بسيط الأَرْض، فَإِذا جادلك فِي ذَلِك، فاخبطه بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا صليت الْعَصْر، جَاءَ طريح فِي السَّاعَة الَّتِي كَانَ يُؤذن لَهُ فِيهَا، فَدَنَا من الْبَاب ليدْخل، فَقَالَ لَهُ الْحَاجِب: وَرَاءَك. فَقَالَ: مَا لَك، هَل دخل على ولي الْعَهْد أحد بعدِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن سَاعَة وليت من عِنْده، دَعَاني، فَأمرنِي أَن لَا آذن لَك، وَإِن جادلتني فِي الْإِذْن خبطتك بِالسَّيْفِ. فَقَالَ لَهُ: لَك عشرَة آلَاف دِرْهَم، وأدخلني. فَقَالَ لَهُ الْحَاجِب: وَالله، لَو أعطيني خراج الْعرَاق مَا أَذِنت لَك، وَمَا لَك خير فِي الدُّخُول، فَارْجِع. فَقَالَ: وَيحك، هَل تعلم من دهاني عِنْده؟ قَالَ: لَا وَالله، لقد دخلت عَلَيْهِ، وَمَا عِنْده أحد، وَلَكِن الله تَعَالَى يحدث مَا يَشَاء، فِي اللَّيْل وَالنَّهَار. فَرجع طريح، وَأقَام بِبَاب الْوَلِيد سنة، لَا يخلص إِلَيْهِ، وَلَا يقدر على الدُّخُول عَلَيْهِ، وَأَرَادَ الرُّجُوع إِلَى وَطنه وَقَومه.

ثمَّ قَالَ: وَالله، إِن هَذَا مني لعجز، أرجع من غير أَن ألقِي ولي الْعَهْد، فَأعْلم من دهاني عِنْده؟ وَرَأى أُنَاسًا كَانُوا أَعدَاء لَهُ، قد فرحوا بِمَا كَانَ من أمره، وَلم يزل يلطف بالحاجب، حَتَّى قَالَ لَهُ: أما إِذْ أطلت الْمقَام، فَأَنا أكره أَن تَنْصَرِف على حالك هَذِه، وَلَكِن الْأَمِير، إِذا كَانَ يَوْم كَذَا وَكَذَا، وَدخل الْحمام، ثمَّ أَمر بسريره فأبرز، وَلَيْسَ عَلَيْهِ يؤمئذ حجاب، فَإِذا كَانَ ذَلِك الْيَوْم حضرت، فَدخلت عَلَيْهِ، وظفرت بحاجتك، وَيكون لي أَنا عذر. فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم دخل الْحمام، وأبرز سَرِيره، وَجلسَ عَلَيْهِ، وَأذن للنَّاس فَدَخَلُوا، وَبعث الْحَاجِب إِلَى طريح، فَأقبل. فَلَمَّا رَآهُ الْوَلِيد من بعيد، صرف وَجهه عَنهُ، وَكره أَن يردهُ من بَين النَّاس، فَسلم، فَلم يرد عَلَيْهِ، فَأَنْشَأَ طريح يَقُول: نَام الخلي من الهموم وَبت فِي ... ليل أكابده وهم مضبع وسهرت لَا أسرِي وَلَا فِي لَذَّة ... أرقي وأعقد مَا لقِيت المضجع أبغي وُجُوه مخارجي من تُهْمَة ... أزمت عَليّ وسد مِنْهَا المطلع جزعا لمغضبة الْوَلِيد وَلم أكن ... من قبل ذَاك من الْحَوَادِث أجزع يَابْنَ الخلائف إِن سخطك لامرئ ... أمسيت عصمته بلَاء مفظع فلأنزعن عَن الَّذِي لم تهوه ... إِن كَانَ لي وَرَأَيْت ذَلِك منزع فاعطف فدَاك أبي عَليّ تعطفا ... وفضيلة فَعَسَى الْفَضِيلَة تَنْفَع فَلَقَد كَفاك وَزَاد مَا قد نالني ... إِن كنت لي ببلاء ضرّ تقنع سمة لذاك عَليّ جسم شاحب ... باد تحسره ولون أسفع

إِن كنت فِي ذَنْب عتبت فإنني ... عَمَّا كرهت لنازع متضرع ويئست مِنْك فَكل عسر باسط ... يَده إِلَيّ وكل يسر أقطع من بعد أخذي من حبالك بِالَّذِي ... قد كنت أَحسب أَنه لَا يقطع أرمضتني حَتَّى انْقَطَعت وسددت ... عني الْوُجُوه وَلم يكن لي مدفع وَدخلت فِي حرم الذمام وحاطني ... خفر أخذت بِهِ وعهد مولع أفهادم مَا قد بنيت وخافض ... شرفي وَأَنت بِغَيْر ذَلِك أوسع أَفلا خشيت شمات قوم فيهم ... شنف وأنفسهم عَليّ تقطع وفضلت فِي الْحسب الأشم عَلَيْهِم ... وصنعت فِي الأقوام مَا لم يصنع فَكَأَن أنفهم بِكُل صنعية ... أسديتها وَجَمِيل فعل يجدع ودوا لَو أَنهم ينَال أكفهم ... شلل وَأَنَّك عَن صنيعك تنْزع أَو تستليم فيجعلونك أُسْوَة ... وَأبي الملام لَك الندى والمصنع فَقَالَ لَهُ: زعمت أَن هشاما يحمل الْمَدْح، وَأَنا لَا أحملها؟ فَأنْكر. فَدَعَا الْخصي، وكشف عَن الصُّورَة، فاعترف الْخصي، بِمَا كَانَ قد رشي، حَتَّى أنْشد الْبَيْتَيْنِ بِحَضْرَة الْوَلِيد، فَرضِي عَنهُ، وأجزل عطاءه، وعوضه مَا فَاتَهُ، ورده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

بين الجاحظ وأحمد بن أبي دؤاد

بَين الجاحظ وَأحمد بن أبي دؤاد وجدت فِي بعض الْكتب: أُتِيَ بالجاحظ، إِلَى أَحْمد بن أبي دؤاد، بعد نكبة مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات مُقَيّدا فِي جُبَّة صوف. فَقَالَ لَهُ ابْن أبي دؤاد: وَالله يَا عَمْرو مَا علمتك إِلَّا متناسيا للنعمة، جاحدا للصنيعة، معددا للمثالب، مخفيا للمناقب، وَإِن الْأَيَّام لَا تصلح مثلك، لفساد طويتك، وَسُوء اختبارك. فَقَالَ لَهُ الجاحظ: خفض عَلَيْك، فوَاللَّه، لِأَن تكون الْمِنَّة لَك عَليّ، خير من أَن تكون لي عَلَيْك، وَلِأَن أُسِيء وتحسن، أحسن فِي الأحدوثة من أَن أُسِيء وتسيء، وَلِأَن تَعْفُو فِي حَال قدرتك، أجمل بك من أَن تنتقم. فَقَالَ لَهُ ابْن أبي دؤاد: مَا علمتك إِلَّا كثير تزويق اللِّسَان، قد جعلت لسَانك أَمَام قَلْبك، ثمَّ اضطغنت فِيهِ النِّفَاق، اغرب قبحك الله. فأنهض فِي قيوده، ثمَّ قَالَ: يَا غُلَام، الْحَقْهُ، فَخذ قيوده، وصر بِهِ إِلَى الْحمام، واحمل إِلَيْهِ خلعة يلبسهَا، واحمله إِلَى منزل فِيهِ فرش وَآلَة وقماش تزاح فِيهِ علله، وادفع إِلَيْهِ عشرَة آلَاف دِرْهَم لنفقته، إِلَى أَن أصلح من خلته، فَفعل ذَلِك كُله. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، رُؤِيَ الجاحظ متصدرا فِي مجْلِس ابْن أبي دؤاد، وَعَلِيهِ خلعة من ثِيَابه، وطويلة من قلانسه، وَهُوَ مقبل عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، يَقُول: هَات يَا أَبَا عُثْمَان.

الرشيد يمضي ما تعهد به وزيره جعفر البرمكي في مجلس أنس

الرشيد يمْضِي مَا تعهد بِهِ وزيره جَعْفَر الْبَرْمَكِي فِي مجْلِس أنس أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن عَليّ المنجم، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، قَالَ: لم أر قطّ مثل جَعْفَر بن يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، كَانَت لَهُ فتوة، وظرف، وأدب، وَحسن غناء، وَضرب بالطبل، وَكَانَ يَأْخُذ بأجزل حَظّ، من كل فن. فَحَضَرت بَاب الرشيد يَوْمًا، وَكَانَ الرشيد نَائِما، فوافي جَعْفَر، فَقلت لَهُ إِنَّه نَائِم، فَرجع، وَقَالَ سر بِنَا إِلَى الْمنزل، حَتَّى نخلو جَمِيعًا بَقِيَّة يَوْمنَا، فأغنيك، وتغنيني، ونأخذ فِي شَأْننَا، من وقتنا. فَقلت: نعم. فسرنا إِلَى مَجْلِسه، فطرحنا ثيابنا، ودعا بِالطَّعَامِ، فأكلنا، وَأمر بِإِخْرَاج الْجَوَارِي، وَقَالَ: ليبرزن، فَلَيْسَ عندنَا من نحتشمه. فَلَمَّا رفع الطَّعَام، وَجِيء بِالشرابِ، دَعَا بقميص حَرِير فلبسه، ودعا لي بِمثلِهِ، ودعا بخلوق، فتخلق، وخلقني، وَجعل يغنيني، وأغنيه. وَكَانَ قد دَعَا بالحاجب، فَتقدم إِلَيْهِ أَن لَا يَأْذَن لأحد من النَّاس كلهم، وَإِن جَاءَ رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَأعلمهُ أَنِّي مَشْغُول، واحتاط فِي ذَلِك، وَتقدم

فِيهِ إِلَى جَمِيع الْحجاب والخدم. ثمَّ قَالَ: إِن جَاءَ عبد الْملك، فأذنوا لَهُ، يَعْنِي رجلا كَانَ يأنس بِهِ، ويمازحه، ويحضره خلواته، ثمَّ أَخذنَا فِي شَأْننَا. فَبَيْنَمَا نَحن على سارة، إِذْ رفع السّتْر، فَإِذا عبد الْملك بن طالح الْهَاشِمِي قد أقبل، وَغلط الْحَاجِب، فَلم يفرق بَينه وَبَين عبد الْملك الَّذِي يأنس بِهِ جَعْفَر. وَكَانَ عبد الْملك هَذَا من جلالة الْقدر والتقشف، على حَالَة مَعْرُوفَة، حَتَّى إِنَّه كَانَ يمْتَنع من منادمة الْخَلِيفَة، على اجْتِهَاد من الْخَلِيفَة أَنْت يشرب مَعَه قدحا وَاحِد، فَلم يفعل، ترفعا. فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ مُقبلا، أقبل كل وَاحِد منا ينظر إِلَى صَاحبه، وَكَاد جَعْفَر أَن تَنْشَق مرارته غيظا. وَفهم الرجل حَالنَا، فَأقبل نحونا، حَتَّى صَار إِلَى الرواق الَّذِي نَحن فِيهِ، فَنزع قلنسوته، فَرمى بهَا مَعَ طيلسانه جانبا، ثمَّ قَالَ: أطمعونا شَيْئا. فَدَعَا لَهُ جَعْفَر بِطَعَام، وَهُوَ منتفخ غيظا وغضبا، فَأكل، ثمَّ دَعَا برطل، فشربه. ثمَّ أقبل إِلَى الْمجْلس الَّذِي كُنَّا فِيهِ، فَأخذ بِعضَادَتَيْ الْبَاب، ثمَّ قَالَ: أشركونا فِيمَا أَنْتُم فِيهِ.

فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: ادخل، فَدخل فَدَعَا لَهُ بقميص حَرِير وخلوق، فَلبس، وتخلق، ثمَّ دَعَا برطل، ورطل حَتَّى شرب ثَلَاثَة أَرْطَال، ثمَّ انْدفع يغنينا، فَكَانَ، وَالله، أحسننا غناء. فَلَمَّا طابت نفس جَعْفَر، وسري عَنهُ مَا كَانَ بِهِ، الْتفت إِلَيْهِ، وَقَالَ: ارْفَعْ حوائجك. فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوضِع حوائج. فَقَالَ: أقسم عَلَيْك، لتفعلن. وَلم يزل يلح عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ: لَهُ: أَمِير الْمُؤمنِينَ وَاجِد عَليّ كَمَا قد علمت، فَأحب أَن تترضاه. قَالَ: فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد رَضِي عَنْك، فهات حوائجك، كَمَا أَقُول لَك. قَالَ: عَليّ دين فادح. قَالَ: كم مبلغه؟ قَالَ: أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم. قَالَ: هَذِه أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم، فَإِن أَحْبَبْت قبضهَا، قبضتها السَّاعَة، فَإِنَّهُ لَا يَمْنعنِي من إعطائك إِيَّاهَا، إِلَّا أَن قدرك يجل عِنْدِي أَن يصلك مثلي، وَلَكِنِّي ضَامِن لَهَا، حَتَّى تحمل لَك فِي غَد، من مَال أَمِير الْمُؤمنِينَ، فسل أَيْضا. قَالَ: تكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ حَتَّى يُنَوّه باسم ابْني. قَالَ: ولاه أَمِير الْمُؤمنِينَ مصر، وزوجه ابْنَته الغالية، ومهرها عَنهُ ألفي

ألف دِرْهَم. قَالَ: إِسْحَاق: فَقلت فِي نَفسِي، قد سكر الرجل، يَعْنِي جَعْفَر. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، حضرت دَار الرشيد، فَإِذا بِجَعْفَر بَين يَدَيْهِ، وَوجدت فِي الدَّار جلبة، فَإِذا بِأبي يُوسُف القَاضِي ونظرائه، وَقد دعِي بهم، ثمَّ دعِي بِعَبْد الْملك وَابْنه، فدخلا على الرشيد. فَقَالَ الرشيد لعبد الْملك: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ واجدا عَلَيْك، وَقد رَضِي عَنْك، وَأمر لَك بأَرْبعَة آلَاف ألف دِرْهَم، فَخذهَا من جَعْفَر السَّاعَة. ثمَّ دَعَا بِابْنِهِ، وَقَالَ: اشْهَدُوا عَليّ أنني قد زَوجته ابْنَتي الغالية، ومهرتها عَنهُ ألفي ألف دِرْهَم، ووليته مصر. فَلَمَّا خرج جَعْفَر سَأَلته عَن الْخَبَر، فَقَالَ: بكرت إِلَى دَار الرشيد، فحكيت لَهُ جَمِيع مَا جرى حرفا حرفا، ووصفت لَهُ دُخُول عبد الْملك وَمَا صنع، فَعجب مِنْهُ، وسر بِهِ. فَقلت لَهُ: وَقد ضمنت لَهُ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ ضمانا. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فأعلمته. فَقَالَ: نفي لَهُ بضمانك، وَأمر بإحضاره، فَكَانَ مَا رَأَيْت.

الرشيد يرضى عن فرج الرخجي ويعيده إلى عمالة الأهواز

الرشيد يرضى عَن فرج الرخجي ويعيده إِلَى عمالة الأهواز ذكر ابْن عَبدُوس فِي كِتَابه (الوزراء) ، قَالَ: كَانَ الرشيد قد قلد فرجا الرخجي الأهواز، فاتصلت السعايات بِهِ عِنْده، وَكَثُرت الشكايات مِنْهُ، وتظلم الرّعية، وادعي عَلَيْهِ أَنه اقتطع مَالا عَظِيما، فَصَرفهُ بِمُحَمد بن أبان الْأَنْبَارِي وَقبض عَلَيْهِ. وَحدث للرشيد سفر، فأشخصه مَعَه، فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق دَعَا بِهِ، فَقَالَ مطر بن سعيد، كَاتب فرج: فَلَمَّا أَمر بإحضاره، حضر وَأَنا مَعَه، وَلست أَشك فِي الْإِيقَاع بِهِ، وَإِزَالَة نعْمَته، فوقفت بِبَاب مضرب الرشيد، وَدخل فرج، وَنحن نتوقعه أَن يخرج منكوبا، إِذْ خرج وَعَلِيهِ الْخلْع، فتضاعفت النِّعْمَة عِنْدِي، وسرت مَعَه إِلَى منزله. فَلَمَّا خلا سَأَلته عَن خَبره، فَقَالَ: دخلت عَلَيْهِ وَوَجهه إِلَى الْحَائِط، وظهره إِلَيّ، فَلَمَّا أحس بِي، شَتَمَنِي أقبح شتم، وتوعدني أَشد توعد.

ثمَّ قَالَ: يَابْنَ الفاعلة، رفعتك فَوق قدرك، وائتمنتك، فخنتني، وسرقت مَالِي، وَفعلت، وصنعت، وَالله، لَأَفْعَلَنَّ بك، ولأصنعن. فَلَمَّا سكت، قلت: القَوْل مَا قَالَه أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي إنعامه، وَأكْثر مِنْهُ، وَحلفت لَهُ بأيمان الْبيعَة وَغَيرهَا، أَنِّي ناصحت وَمَا سرقت، ووفرت وَمَا خُنْت، واستقصيت حُقُوقه من غير ظلم، وَلَكِنِّي كنت إِذا حضر وَقت الغلات، جمعت التُّجَّار وناديت عَلَيْهَا، فَإِذا تقررت العطايا أنفذت البيع، وَجعلت لي مَعَ التُّجَّار حِصَّة، فَرُبمَا ربحت، وَرُبمَا وضعت، إِلَى أَن اجْتمع لي من ذَلِك وَغَيره، فِي عدَّة سِنِين، عشرُون ألف ألف دِرْهَم، فاتخذت أزجا كَبِيرا، وأودعته المَال، وسددته عَلَيْهِ فَخذهَا، وحول وَجهك إِلَى عَبدك، وكررت عَلَيْهِ الْأَيْمَان، بأيمان الْبيعَة على صدقي. فَقَالَ لي: بَارك الله لَك فِي مَالك، ارْجع إِلَى عَمَلك.

بين ثمامة بن أشرس والفضل بن سهل وزير المأمون

بَين ثُمَامَة بن أَشْرَس وَالْفضل بن سهل وَزِير الْمَأْمُون وَذكر ابْن عَبدُوس أَيْضا فِي كتاب (الوزراء) ، عَن ثُمَامَة بن أَشْرَس، أَنه قَالَ: اجْتمع النَّاس، وَجلسَ لَهُم الْفضل بن سهل، على فرش مُرْتَفعَة، فَقَامَ خَطِيبًا، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، وَذكر النَّبِي فصلى عَلَيْهِ، ثمَّ ابْتَدَأَ بالوقيعة فِي عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ، وَذكر أَنه كَانَ يَدعِي على الرشيد، فِي حِكَايَة حَكَاهَا، دُخُول بَيت القيان، وَهُوَ كَاذِب فِي ذَلِك، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يفعل هَذَا الْفِعْل، وَيدخل المواخير والدساكر، وَلَا يرفع نَفسه عَن ذَلِك، وَلَا يصون عرضه.

قَالَ ثُمَامَة: ثمَّ أقبل عَليّ، فَقَالَ: وَإِن أَبَا معن، ليعلم ذَلِك، وَيعرف صِحَة مَا أَقُول، فَتركت تشييع كَلَامه بالتصديق، وأطرقت إِلَى الأَرْض، ودخلتني عصبية الْعَرَبيَّة لِابْنِ مَالك. ثمَّ عَاد إِلَى تهجين عبد الله، والتوسع فِي الدَّعَاوَى عَلَيْهِ، ثمَّ أقبل عَليّ ثَانِيَة، وَقَالَ: إِن ثُمَامَة ليعرف ذَلِك، فَسكت، وأطرقت، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيد مني تشييع كَلَامه بالتصديق. فَلَمَّا رأى إعراضي عَن مساعدته ترك الإقبال عَليّ، وَأخذ فِي خطبَته، حَتَّى فرغ من أربه فِي أَمر عبد الله بن مَالك. فَلَمَّا تفرق النَّاس عَنهُ، وانصرفت، علمت أَنِّي قد تعرضت لموجدة الْفضل، وَهُوَ الْوَزير، وحالي عِنْده حَالي. فَلَمَّا حصلت فِي منزلي، جَاءَنِي بعض إخْوَانِي مِمَّن كَانَ فِي نَاحيَة الْفضل، فَأَخْبرنِي أَن يحيى بن عبد الله، وَغَيره، قَالُوا: مَاذَا صنع أَبُو معن، يخاطبه الْوَزير، فَيعرض عَنهُ مرّة بعد أُخْرَى. فَقلت: أَنا وَالله، بالموجدة عَلَيْهِ، أعزه الله، أَحَق، لِأَنَّهُ قَامَ فِي ذَلِك الْجمع، وَقد حضر كل شرِيف ومشروف، فَلم يستشهد بِي فِي خطبَته، وَمَا أجراه فِي كَلَامه، إِلَّا فِي مَوضِع رِيبَة، أَو ذكر نبوة، وَدَار مقين ومغنية، وَمَا أقدر أَن أشهد إِلَّا أَن أكون مَعَ الْقَوْم ثَالِثا. فَقَالُوا: صدقت، وَالله، يَا أَبَا معن، بئس الْموضع وضعك. فَرجع كَلَامي إِلَيْهِ، فَقَالَ: صدق وَالله ثُمَامَة، وَهُوَ بالمعتبة أَحَق. واندفعت عني موجدته، وَمَا كَانَ بِي إِلَّا مَا داخلني من الحمية لعبد الله بن مَالك.

بين الأمين وإبراهيم بن المهدي

بَين الْأمين وَإِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأمَوِي الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بن إِسْحَاق، عَن أَبِيه، وَوجدت فِي بعض الْكتب بِإِسْنَاد غير هَذَا، لَيْسَ لي بِسَمَاع، فَجمعت بَين الْخَبَرَيْنِ، على أتم اللَّفْظ، قَالَ: جرى بَين الْأمين، وَبَين عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، كَلَام، وهما على النَّبِيذ، فَوجدَ الْأمين على إِبْرَاهِيم، وَبَانَتْ لإِبْرَاهِيم الوحشة مِنْهُ، فَانْصَرف إِبْرَاهِيم إِلَى منزله قلقا، وحجبه الْأمين عَنهُ. وَبلغ إِبْرَاهِيم ذَلِك، فَبعث إِلَى الْأمين بألطاف، ورقعة يعْتَذر فِيهَا، فَرد الْأمين الْهَدِيَّة، وَلم يجب إِبْرَاهِيم عَن الرقعة. فَوجه إِبْرَاهِيم إِلَيْهِ وصيفة مليحة مغنية، كَانَ رباها، وَعلمهَا الْغناء، وَبعث مَعهَا عودا مَعْمُولا من الْعود الْهِنْدِيّ، مكللا بالجوهر، وألبسها حلَّة منسوجة بِالذَّهَب، وَقَالَ أبياتا، وغنى فِيهَا، وَألقى عَلَيْهَا الأبيات حَتَّى حَفظتهَا، وَأخذت الصَّوْت، وأحكمت الصَّنْعَة فِيهِ.

فوقفت الْجَارِيَة بَين يَدي الْأمين، وَقَالَت: عمك وَعَبْدك، يَقُول. . . . واندفعت تغني: هتكت الضَّمِير برد اللطف ... وكشفت هجرك لي فانكشف فَإِن كنت تنكر شَيْئا جرى ... فَهَب للعمومة مَا قد سلف وجد لي بالصفح عَن زلتي ... فبالفضل يَأْخُذ أهل الشّرف فَقَالَ لَهَا الْأمين: أَحْسَنت يَا صبية، مَا أسمك؟ قَالَت: هَدِيَّة. قَالَ: أفأنت كاسمك، أم عَارِية؟ قَالَت: أَنا كاسمي، وَبِه سماني آنِفا، لما أهداني إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ. فسر بهَا الْأمين، وَبعث إِلَى إِبْرَاهِيم، فَأحْضرهُ، وَرَضي عَنهُ، وَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِينَار.

وال مستعطف خير من وال مستأنف

وَال مستعطف خير من وَال مُسْتَأْنف ووقف أَحْمد بن عُرْوَة بَين يَدي الْمَأْمُون، لما عَزله عَن الأهواز، فَقَالَ لَهُ: أخربت الْبِلَاد، وَقتلت الْعباد، لَأَفْعَلَنَّ بك وأصنعن. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا تحب أَن يَفْعَله الله بك إِذا وقفت بَين يَدَيْهِ، وَقد قرعك بذنوبك؟ قَالَ: الْعَفو، والصفح. قَالَ: فافعل بعبدك، مَا تحب أَن يَفْعَله الله بك. قَالَ: قد فعلت، ارْجع إِلَى عَمَلك، فوال مستعطف، خير من وَال مُسْتَأْنف.

والله يحب المحسنين

وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ رُوِيَ أَن غُلَاما لِلْحسنِ بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام، جني جِنَايَة توجب الْعقَاب، فَقَالَ: اضْرِبُوهُ. فَقَالَ: يَا مولَايَ، والكاظمين الغيظ، قَالَ: خلوا عَنهُ. قَالَ: يَا مولَايَ، وَالْعَافِينَ عَن النَّاس. قَالَ: قد عَفَوْت عَنْك. قَالَ: وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ. قَالَ: أَنْت حر لوجه الله تَعَالَى، وَلَك ضعف مَا كنت أُعْطِيك.

عبد الملك بن مروان يسقط حدا من حدود الله تعالى

عبد الْملك بن مَرْوَان يسْقط حدا من حُدُود الله تَعَالَى حكى الْأَصْمَعِي، قَالَ: أُتِي عبد الْملك بن مَرْوَان، بِرَجُل قد قَامَت عَلَيْهِ الْبَيِّنَة بِسَرِقَة يقطع فِي مثلهَا، فَأمر بِقطع يَده. فَأَنْشَأَ الرجل يَقُول: يَدي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أُعِيذهَا ... بعفوك من عَار عَلَيْهَا يشينها فَلَا خير فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي نعيمها ... إِذا مَا شمال فارقتها يَمِينهَا فَقَالَ: هَذَا حَدَّثَنَا من حُدُود الله تَعَالَى، وَلَا بُد من إِقَامَته عَلَيْك. فَقَالَت أم لَهُ كَبِيرَة السن: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، كادي، وكاسبي، وَابْني، وواحدي، فهبه لي. فَقَالَ لَهَا: بئس الكاد كادك، وَبئسَ الكاسب كاسبك، لابد من إِقَامَة حُدُود الله عز وَجل. فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، اجْعَلْهُ من ذنوبك الَّتِي تستغفر الله مِنْهَا. فَقَالَ: خلوه، فَأطلق.

ومن العناء رياضة الهرم

وَمن العناء رياضة الْهَرم وَذكر ابْن الْجراح عَبدُوس فِي كتاب الوزراء: أَن عَاملا للمنصور على فلسطين كتب إِلَيْهِ: أَن بعض أَهلهَا وثب عَلَيْهِ، واستغوى جمَاعَة مِنْهُم، وعاث فِي الْعَمَل. فَكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور: أَن قَيده، وأنفذه إِلَيّ، فأنفذه. فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ، قَالَ: الْمَنْصُور: أَنْت المتوثب على عَامل أَمِير الْمُؤمنِينَ، لأبرين لحمك من عظمك، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا، ضئيل الصَّوْت، فَقَالَ: أتروض عرسك بَعْدَمَا هرمت ... وَمن العناء رياضة الْهَرم فَلم يفهم الْمَنْصُور مَا قَالَ، فَقَالَ: مَا يَقُول يَا ربيع؟ قَالَ: إِنَّه يَقُول: العَبْد عبد كم وَالْمَال مالكم ... فَهَل عذابك عني الْيَوْم مَصْرُوف قَالَ: يَا ربيع قد عَفَوْت عَنهُ، خلوا سَبيله، وَأحسن إِلَيْهِ.

أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام بني العباس

أول مائَة ألف أعطيها شَاعِر فِي أَيَّام بني الْعَبَّاس أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن نصر المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد بن مُوسَى، قَالَ: رَأَيْت مَرْوَان بن أبي حَفْصَة، وَقد دخل عَليّ الْمهْدي، بعد وَفَاة معن بن زَائِدَة، فِي جمَاعَة من الشُّعَرَاء مِنْهُم سلم الخاسر، وَغَيره، فأنشده مديحا فِيهِ. فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟

قَالَ: شاعرك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَعَبْدك، مَرْوَان بن أبي حَفْصَة. فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أَلَسْت الْقَائِل فِي معن بن زَائِدَة: أَقَمْنَا بِالْيَمَامَةِ بعد معن ... مقَاما لَا نُرِيد بِهِ زوالا وَقُلْنَا أَيْن نَذْهَب بعد معن ... وَقد ذهب النوال فَلَا نوالا فقد ذهب النوال كَمَا زعمت، فَلم جِئْت تطلب نوالنا؟ لَا شَيْء لَك عندنَا، جروا بِرجلِهِ، فجروا بِرجلِهِ حَتَّى أخرج. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل، تلطف حَتَّى دخل مَعَ الشُّعَرَاء، وَإِنَّمَا كَانَت الشُّعَرَاء، تدخل على الْخُلَفَاء فِي كل عَام مرّة، فَمثل بَين يَدَيْهِ، فَأَنْشد، رَابِع أَو خَامِس شَاعِر، قصيدته الَّتِي أَولهَا: طرقتك زائرة فحي خيالها ... بَيْضَاء تخلط بالجمال دلالها قادت فُؤَادك فاستقاد وَمثلهَا ... قاد الْقُلُوب إِلَى الصِّبَا فأمالها قَالَ: فأنصت الْمهْدي يستمع مِنْهُ، إِلَى أَن بلغ مِنْهَا إِلَى قَوْله: هَل تطمسون من السَّمَاء نجومها ... بأكفكم أَو تسترون هلالها أَو تجحدون مقَالَة عَن ربه ... جِبْرِيل بلغَهَا النَّبِي فَقَالَهَا شهِدت من الْأَنْفَال آخر آيَة ... بتراثهم فأردتم إِبْطَالهَا

قَالَ: فَرَأَيْت الْمهْدي، وَقد زحف من صدر مُصَلَّاهُ، حَتَّى صَار على الْبسَاط، إعجابا مِنْهُ بِمَا سمع. ثمَّ قَالَ: كم بَيت هم؟ قَالَ: مائَة بَيت. فَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم، فَكَانَت أول مائَة ألف أعطيها شَاعِر فِي أَيَّام بني الْعَبَّاس. وَمَضَت الْأَيَّام، وَولي هَارُون الْخلَافَة، فَرَأَيْت مَرْوَان وَقد دخل فِي جملَة الشُّعَرَاء، فأنشده قصيدة امتدحه بهَا. فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: عَبدك، وشاعرك، مَرْوَان بن أبي حَفْصَة. فَقَالَ: أَلَسْت الْقَائِل فِي معن؟ وأنشده الْبَيْتَيْنِ اللَّذين أنشدهما الْمهْدي. ثمَّ قَالَ: خُذُوا بِيَدِهِ فأخرجوه، فَلَا شَيْء لَهُ عندنَا، فَأخْرج أقبح إِخْرَاج. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، تلطف حَتَّى دخل، فأنشده: لعمرك مَا أنسى غَدَاة المحصب ... إِشَارَة سلمى بالبنان المخضب وَقد صدر الْحجَّاج إِلَّا أقلهم ... مصَادر شَتَّى موكبا بعد موكب قَالَ: فَأَعْجَبتهُ القصيدة، فَقَالَ: كم هِيَ؟ قَالَ: سَبْعُونَ بَيْتا، فَأمر لَهُ بِعَدَد أبياتها ألوفا. فَصَارَ ذَلِك رسما لَهُ عِنْدهم إِلَى أَن مَاتَ.

الرشيد يرضى عن العتابي الشاعر

الرشيد يرضى عَن العتابي الشَّاعِر أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي الْحسن بن عَليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مهرويه، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: غضب الرشيد على العتابي، وحجبه، فَدخل سرا مَعَ المتظلمين، بِغَيْر إِذن، فَمثل بَين الرشيد، فَقَالَ بَين الرشيد، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد أدبني النَّاس لَك، ولنفسي فِيك، وردني ابتلاؤهم إِلَى شكرك، وَمَا مَعَ ذكرك قناعة بِأحد غَيْرك، ولعمري لنعم الصائن كنت لنَفْسي، لَو أعانني الصَّبْر عَلَيْك، وَلذَلِك أَقُول:

أخضني الْمقَام الْغمر إِن كَانَ غرني ... سنا خلب أَو زلت القدمان أتتركني جَدب الْمَعيشَة مقترا ... وَكَفاك من مَاء الندى يكفان وتجعلني سهم المطامع بَعْدَمَا ... بللت يَمِيني بالندي ولساني قَالَ: فَرضِي عَنهُ، وخلع عَلَيْهِ، وَأمر لَهُ بجائزة سنية، فَمَا رَأَيْت العتابي أنشط مِنْهُ فِي ذَلِك الْيَوْم، وَلَا أفرح، وَلَا أبسط لِسَانا مِنْهُ يَوْمئِذٍ. قَالَ: أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ: فِي الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين غناء لمخارق، ثَانِي ثقيل بالوسطى، وَقيل إِن فِيهِ للواثق ثَانِي ثقيل آخر.

المأمون يصفح عن دعبل الخزاعي الشاعر ويصله

الْمَأْمُون يصفح عَن دعبل الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر ويصله قرئَ على أبي بكر الصولي، سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، بِالْبَصْرَةِ، وَأَنا أسمع: حَدثكُمْ هرون بن عبد الله المهلبي، سنة ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: لما هجا دعبل الْمَأْمُون، قَالَ لَهُم: أسمعوني مَا قَالَ: فأنشدوه هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من أَبْيَات، وهما: إِنِّي من الْقَوْم الَّذين سيوفهم ... قتلت أَخَاك وشرفتك بمقعد شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهدفَقَالَ الْمَأْمُون: قبحه الله، مَا أبهته، مَتى كنت خامل الذّكر، وَفِي حجر الْخلَافَة ربيت، وبدرها غذيت، خَليفَة، وأخو خَليفَة، وَابْن خَليفَة. ثمَّ وجد فِي طلب دعبل، حَتَّى ظفر بِهِ، فَلم يشك أحد فِي أَنه قَاتله. فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا دعبل، واستنقذوك من الحضيض الأوهد.

فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد عَفَوْت عَمَّن هُوَ أعظم منى جرما. فَقَالَ: صدقت، لَا بَأْس عَلَيْك، أَنْشدني «مدارس آيَات» . فَقَالَ: أنشدها وَأَنا آمن؟ قَالَ: نعم. فأنشده إِيَّاهَا، فَجعل الْمَأْمُون يبكي، لما بلغ قَوْله: بَنَات زِيَاد فِي الْقُصُور مصونة ... وَبنت رَسُول الله فِي الفلوات ثمَّ وَصله وأمنه.

المأمون يهب عمرو بن مسعدة ستة آلاف ألف درهم فيهبها عمرو لأحد أتباعه

الْمَأْمُون يهب عَمْرو بن مسْعدَة سِتَّة آلَاف ألف دِرْهَم فيهبها عَمْرو لأحد أَتْبَاعه قرئَ على أبي بكر الصولي، وَأَنا أسمع، فِي كِتَابه (كتاب الوزراء) ، حَدثكُمْ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدثنِي سعد بن يَعْقُوب النَّصْرَانِي، قَالَ: أَمر الْمَأْمُون مُحَمَّد بن يزْدَاد، وَأحمد بن أبي خَالِد، أَن يناظرا عَمْرو بن مسْعدَة، فِي مَال الأهواز، فناظراه، فَتحصل عَلَيْهِ سِتَّة عشر ألف ألف دِرْهَم، فأعلما الْمَأْمُون بذلك. فَقَالَ: اقبلا مِنْهُ كل حجَّة، وكل تعلق، وكل ادِّعَاء. فَقَالَا: قد فعلنَا. فَقَالَ: عودا. فعادا، فَتعلق عَمْرو بن مسْعدَة بأَشْيَاء لَا أصل لَهَا، فَسقط من المَال عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم، وَبَقِي سِتَّة آلَاف ألف دِرْهَم وَاجِبَة عَلَيْهِ، لَا حجَّة لَهُ فِيهَا، وَأخذ خطه بذلك. فأحضر الْمَأْمُون عمرا، بعد خروجهما، فَقَالَ لَهُ: هَذِه رقعتك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وَهَذَا المَال وَاجِب عَلَيْك؟ قَالَ: نعم.

قَالَ: خُذ رقعتك، فقد وهبته لَك. فَقَالَ: أما إِذْ تفضل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بِهِ، فَإِنَّهُ وَاجِب على أَحْمد بن عُرْوَة، وأشهدك أَنِّي قد وهبته لَهُ. فاغتاظ الْمَأْمُون، وَخرج عَمْرو وَقد عرف غيظ الْمَأْمُون، وَعلم خطأه فِي عمله، فلجأ إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد، فَأعلمهُ بذلك، وَكَانَ يختصه. فَقَالَ: لَا عَلَيْك، وَدخل إِلَى الْمَأْمُون. فَلَمَّا رَآهُ الْمَأْمُون، قَالَ: أَلا تعجب يَا أَحْمد من عَمْرو، وهبنا لَهُ سِتَّة آلَاف ألف دِرْهَم، بعد أَن تجاوزنا لَهُ عَن أضعافها، فَوَهَبَهَا بَين يَدي لِأَحْمَد بن عُرْوَة، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يباريني، ويصغر معروفي؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمد: أَو قد فعل ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: نعم. قَالَ: لَو لم يفعل هَذَا، لوَجَبَ أَن يسْقط حَاله. قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَو اسْتَأْثر بِهِ على أَحْمد بن عُرْوَة، وَأخذ أَحْمد بأَدَاء هَذَا المَال، لَكَانَ قد أخرجه من مَعْرُوفك صفرا، وَلما كَانَت نِعْمَتك على عَمْرو، نعْمَة على أَحْمد، وهما خادماك، فَكَانَ الأجمل أَن يتضاعف مَعْرُوفك عِنْدهمَا، فقصد عَمْرو ذَلِك، فَصَارَ المَال تفضلا مِنْك على عَمْرو، وعَلى أَحْمد بن عُرْوَة، وَمَعَ ذَلِك، فَأَنت سيد عَمْرو لَا يعرف سيدا غَيْرك، وَعَمْرو سيد أَحْمد، فاقتدى فِي أَمر أَحْمد بِمَا فعلت فِي أمره، وَأَرَادَ أَيْضا أَن ينتشر

المأمون يصفح عن الفضل بن الربيع

فِي مُلُوك الْأُمَم، أَن خَادِمًا من خدمك اتَّسع قلبه لهبة هَذَا المَال، من فضل إحسانك إِلَيْهِ، فيزيد فِي جلالة الدولة، وجلالة قيمتهَا، فيكسر ذَلِك الْأَعْدَاء الَّذين يكاثرونك. فَسرِّي عَن الْمَأْمُون، وَزَالَ مَا بِقَلْبِه على عَمْرو. . 140 الْمَأْمُون يصفح عَن الْفضل بن الرّبيع وَقُرِئَ على أبي بكر الصولي، بِالْبَصْرَةِ، وَأَنا أسمع، فِي كتاب (الوزراء) ، خبر فِيهِ ذكر الْفضل بن الرّبيع، وظفر الْمَأْمُون بِهِ، وعفوه عَنهُ، وَقُرِئَ بعقبه: حَدثكُمْ عون بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا سعيد بن هريم، قَالَ: لما ظفر الْمَأْمُون بِالْفَضْلِ بن الرّبيع، وَمثل بَين يَدَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا فضل، أَكَانَ من حَقي عَلَيْك، وَحقّ آبَائِي، ونعمتهم عنْدك، وَعند أَبِيك، أَن تثلبني، وتشتمني، وتحرض على دمي؟ أَتُحِبُّ أَن أفعل بك مَعَ الْقُدْرَة، مَا أردته بِي؟

جعفر بن محمد بن الأشعث يهدئ من غضب الرشيد

فَقَالَ لَهُ الْفضل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن عُذْري يحقدك إِذا كَانَ وَاضحا جميلا، فَكيف إِذا عفته الْعُيُوب، وقبحته الذُّنُوب، فَلَا يضيق عني من عفوك مَا وسع غَيْرِي مِنْهُ، فَأَنت، وَالله، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: صفوح عَن الإجرام حَتَّى كَأَنَّهُ ... من الْعَفو لم يعرف من النَّاس مجرما وَلَيْسَ يُبَالِي أَن يكون بِهِ الْأَذَى ... إِذا مَا الأذي لم يغش بالكره مُسلما قَالَ: الصولي: وَالشعر لِلْحسنِ بن رَجَاء. جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث يهدئ من غضب الرشيد غضب الرشيد على جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث، غَضبا شَدِيدا، من كَلَام جرى بَينهمَا، فخاف جَعْفَر أَن يستفزه الْغَضَب، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا تغْضب لله عز وَجل، فَلَا تغْضب لَهُ بِمَا لَا يغْضب بِهِ لنَفسِهِ، فانعطف لَهُ الرشيد.

بين هشام بن عبد الملك وإبراهيم بن أبي عبلة

بَين هِشَام بن عبد الْملك وَإِبْرَاهِيم بن أبي عبلة أحضر هِشَام بن عبد الْملك، إِبْرَاهِيم بن أبي عبلة، الَّذِي تقلد ديوَان الْخَاتم لمروان بن مُحَمَّد، فَقَالَ لَهُ: إِنَّا قد عرفناك صَغِيرا، وخبرناك كَبِيرا، وَأُرِيد أَن أخلطك بحاشيتي، وَقد وليتك خراج مصر، فَاخْرُج إِلَيْهَا. فأبي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: لَيْسَ الْخراج من عَمَلي، وَلَا لي بِهِ معرفَة. فَغَضب هِشَام عَلَيْهِ غَضبا شَدِيدا، حَتَّى خَافَ إِبْرَاهِيم باردته، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أتأذن لي فِي الْكَلَام. فَقَالَ: قل. قَالَ: إِن الله تَعَالَى، قَالَ: إِنَّا عرضنَا الْأَمَانَة على السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فأبين أَن يحملنها، وأشفقن مِنْهَا، فوَاللَّه مَا أكرهها، وَلَا غضب عَلَيْهَا فِي إبائها، وَلَقَد ذمّ الْإِنْسَان لما قبلهَا. فَقَالَ لَهُ هِشَام: أَبيت إِلَّا رفقا، أَعْفَاهُ، وَرَضي عَنهُ.

صاحب ديوان الخراج يسرق توقيع الخليفة من يد الرسول

صَاحب ديوَان الْخراج يسرق توقيع الْخَلِيفَة من يَد الرَّسُول استسلف مُوسَى بن عبد الْملك من بَيت مَال الْخَاصَّة، مَالا، إِلَى أجل قريب، وَضمن للمتوكل أَن يردهُ فِي الْأَجَل. فجَاء الْأَجَل وَلم يحمل المَال، فَغَضب المتَوَكل من مدافعته، وَقَالَ لِعبيد الله بن يحيى بن خاقَان، وَقع إِلَيْهِ عني برد المَال الْيَوْم، وضيق عَلَيْهِ فِي الْمُطَالبَة، وأنفذ التوقيع مَعَ عتاب بن عتاب، ومره أَن يُطَالِبهُ، فَإِن أخر أَدَاء المَال، طَالبه، وضربه بالمقارع فِي ديوَان الْخراج بِحَضْرَة النَّاس، وَأَن لَا يرفع عَنهُ المقارع، حَتَّى يصحح المَال.

فبادر بعض الخدم إِلَى مُوسَى، فَأخْبرهُ بذلك، فَجَلَسَ ينظر فِي وُجُوه يرد مِنْهَا المَال. وَصَارَ إِلَيْهِ عتاب بالتوقيع مَخْتُومًا، وَكَانَ يَوْمًا شَدِيد الْحر، وَقد انتصف النَّهَار، ومُوسَى فِي خيش، فِي حجرَة من ديوانه، وَفِيه مروحة، يتناوبها فراشان يروحانه، فَدخل عتاب، وَفِي يَد مُوسَى كتاب طَوِيل يقرأه،

فَجَلَسَ، وأكب مُوسَى على الْكتاب يتشاغل بِهِ عَن خطاب عتاب، وَأصَاب عتاب برد المروحة والخيش، فَنَامَ واستثقل. وَكَانَ عتاب قد أخرج التوقيع حِين جلس، فَوَضعه على دَوَاة مُوسَى، فغمز مُوسَى بعض غلمانه فَأخذ الْكتاب فغيبه. وَمَا زَالَ عتاب ينَام مرّة وينتبه أُخْرَى، ومُوسَى يعْمل، إِلَى أَن اتقضت الهاجرة، وَقد توجه لمُوسَى بعض المَال، وأنفذ أَصْحَابه لقبضه. فَقَالَ لَهُ عتاب: انْظُر فِيمَا جِئْنَا لَهُ. قَالَ: قل أصلحك الله فيمَ جِئْت؟ قَالَ: فِيمَا تضمن التوقيع. قَالَ: وَأي توقيع؟ قَالَ: الَّذِي أوصلته إِلَيْك من أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَتى؟ قَالَ: السَّاعَة وَضعته على الدواة. فَقَالَ لَهُ: قد نمت نومان، وأظن أَنَّك رَأَيْت فِي نومك شَيْئا. فَطلب عتاب التوقيع، فَلم يجده، فَقَالَ: سرق وَالله التوقيع، يَا أَصْحَاب الْأَخْبَار، اكتبوا. فَقَالَ مُوسَى: يَا أَصْحَاب الْأَخْبَار، اكتبوا، كذب فِيمَا ادَّعَاهُ، مَا أوصل إِلَيّ توقيعا، وَأَنْتُم حاضرون، فَهَل رَأَيْتُمُوهُ أوصل إِلَى توقيعا؟ قُم فَانْظُر لَعَلَّك يَا أَبَا مُحَمَّد ضيعت التوقيع فِي طريقك. فَانْصَرف عتاب إِلَى عبيد الله فَأخْبرهُ بذلك.

فَدخل عبيد الله إِلَى المتَوَكل، فحدثه، فَضَحِك، وَقَالَ: أحضروا مُوسَى السَّاعَة، فَحَضَرَ. فَقَالَ لَهُ المتَوَكل: يَا مُوسَى، سرقت التوقيع من عتاب؟ قَالَ: إِي وَالله يَا سَيِّدي خمنت أَن فِيهِ مَكْرُوها، ونام عتاب من قبل أَن يوصله إِلَيّ، فَأمرت من سَرقه، وَقد أَعدَدْت نصف المَال، والساعة أحملهُ إِلَى صَاحب بَيت مَال الْخَاصَّة، وأحمل الْبَاقِي بعد خَمْسَة أَيَّام، وأتبع ذَلِك بتضرع. فأنفذ المتَوَكل مَعَه من قبض مِنْهُ ذَلِك، وَانْصَرف وَقد رَضِي عَنهُ.

صاحب الشرطة لا يصلح أن يكون نديما للخليفة

صَاحب الشرطة لَا يصلح أَن يكون نديما للخليفة دَعَا الواثق إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المصعبي إِلَى منادمته، فَامْتنعَ، فتلاحيا فِي ذَلِك، إِلَى أَن تغير الواثق على إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فَأمر بحجبه عَنهُ. فَكتب إِلَيْهِ إِسْحَاق: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَو أطلقتني الحشمة الَّتِي عقد بهَا لساني عَن الانبساط لتغيره عَليّ، لَقلت: مَا لي فِيمَا عقده عَليّ قلب أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَنْب، إِذْ كَانَ يوقيني من امتهان الْعَامَّة إيَّايَ. فَرمى الواثق كِتَابه إِلَى ابْن أبي دؤاد. فَقَالَ لَهُ ابْن أبي دؤاد: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا على من كَانَت هَذِه همته فِيمَا يرد على أَمِير الْمُؤمنِينَ عيب، وَهُوَ يجد من إِسْحَاق عوضا فِي المنادمة، وَلَا يجد مِنْهُ عوضا فِي شرطته. فَرضِي عَنهُ الواثق، وأعفاه من المنادمة، وَمنع من حجبه، وأجراه على رسمه، وَعَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.

الرشيد يرضى عن نصر بن مالك

الرشيد يرضى عَن نصر بن مَالك لما عزل الرشيد نصر بن مَالك، بسعي البرامكة، أمره أَن يلْزم بَيته، وَلَا يخرج مِنْهُ، فَكتب إِلَى الرشيد: قد قبضني سوء رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي، عَن الِاعْتِذَار بِحجَّة، أَو نشر دلَالَة تنبئ بِخِلَاف مَا قرفت بِهِ عِنْده، فَمَا أهتدي إِلَى وَجه طلب الِاعْتِذَار، وَمَا يجرأني على الْإِبَانَة عَمَّا لَا أعلمهُ إِلَّا حسن رَأْيه أعزه الله، واطلاعه على قلقي بضميره، فَإِنِّي عبد نعْمَته، وغذي إحسانه، إِن أسبغا عَليّ، وَفِي شكري لَهما، وَإِن أزيلا عني، اعتصمت مِنْهُمَا الرُّجُوع إِلَى الْحُرْمَة، وَلُزُوم فَائِدَة يتطول بهَا عَليّ، من تطول على أَمِير الْمُؤمنِينَ برد مِيرَاثه من الْخلَافَة عَلَيْهِ. فَوَقع الرشيد على ظهر رقعته: نصر بن مَالك، أولى من ردَّتْ عَلَيْهِ النِّعْمَة، إِذا كَانَ معترفا بسمتها، وبالغا بالشكر حق قيمتهَا، فَمَا شكرني أحد من أوليائي كشكره، فليهنه مَا أوليناه من رَأينَا، ومنحناه من برنا. وَأظْهر الرِّضَا عَنهُ، وولاه ولَايَة أخرجه إِلَيْهَا.

بين الحجاج ويوسف بن عبد الله بن عثمان

بَين الْحجَّاج ويوسف بن عبد الله بن عُثْمَان ذكر أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، عَن ابْن أبي عقبَة، عَن أَبِيه، قَالَ: لما أَمن الْحجَّاج النَّاس، أَتَاهُ يُوسُف بن عبد الله بن عُثْمَان، وَكَانَ عبد الْملك بن مَرْوَان قد كتب لَهُ أَمَانًا. فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: ثكلتك أمك. قَالَ: وَأبي مَعَ أُمِّي. قَالَ: أَيْن ألقتك الأَرْض بعدِي؟ قَالَ: مَا قُمْت مقَاما، مُنْذُ لم ترني، أوسع من مقَام قمته السَّاعَة، إِن الله استعملك علينا، فأبينا، فأبي علينا، فَعَفَا عَنهُ. فَقَالَ الفرزدق ذَلِك: وَلَو لم ينل حَبل الْخَلِيفَة يوسفا ... لمج نجيعا من دم الْجوف أحمرا

بين زياد وأحد قعدة الخوارج

بَين زِيَاد وَأحد قعدة الْخَوَارِج وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، قَالَ: أرسل زِيَاد إِلَى رجل من قعدة الْخَوَارِج، من بني تَمِيم، فاستدعاه، فَأَتَاهُ خَائفًا. فَقَالَ لَهُ زِيَاد: مَا مَنعك من إتياني؟ فَقَالَ لَهُ: قدمت علينا، فَقلت لَا أعدكم خيرا وَلَا شرا إِلَّا وفيت بِهِ وأنجزته، وَقلت: من كف يَده وَلسَانه لم أعرض لَهُ، فكففت يَدي ولساني، وَجَلَست فِي بَيْتِي، فَأمر لَهُ بصلَة، فَخرج وَالنَّاس لَا يَشكونَ فِي أَنه يقْتله. فَقَالُوا لَهُ: مَا قَالَ لَك الْأَمِير؟ فَقَالَ: مَا كلكُمْ أَسْتَطِيع أَن أخبرهُ بِمَا كَانَ بَيْننَا، وَلَكِنِّي وصلت إِلَى رجل لَا يملك لنَفسِهِ ضرا وَلَا نفعا، فرزق الله مِنْهُ خيرا.

الحجاج يحبس رجلا لأنه شكا إليه أخاه محمدا عامل اليمن

الْحجَّاج يحبس رجلا لِأَنَّهُ شكا إِلَيْهِ أَخَاهُ مُحَمَّدًا عَامل الْيمن وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، قَالَ: قدم رجل من أهل الْيمن، على الْحجَّاج، يشكو أَخَاهُ، مُحَمَّد بن يُوسُف، فصادف الْحجَّاج على الْمِنْبَر، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَشَكا أَخَاهُ مُحَمَّدًا، فَأمر بِهِ الْحجَّاج، فحبس. فَلَمَّا نزل عَن الْمِنْبَر، استدعاه وَهُوَ متغيظ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا جرأك على أَن ترفع على أخي؟ فَقَالَ لَهُ: أَنا بِاللَّه، أعز من أَخِيك بك. فَقَالَ الْحجَّاج: خلوا سَبيله.

الحجاج يأمر بتعذيب آزاد مرد

الْحجَّاج يَأْمر بتعذيب آزاد مرد وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، عَن أبي المضرحي، وَقد وجدته أَنا، فِي غير مَوضِع، عَن الْمَدَائِنِي، بِمَا يقرب من هَذِه الْعبارَة: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَخْبرنِي الحرمي، عَن الزبير، قَالَ: أَمر الْحجَّاج مُحَمَّد بن الْمُنْتَشِر بن الأجدع الْهَمدَانِي، ابْن أخي مَسْرُوق، أَن يعذب آزاد مرد بن الفرند، فَأَخذه مُحَمَّد. فَقَالَ لَهُ آزاد مرد: أرى لَك يَا مُحَمَّد، شرفا، ودينا، وَإِنَّا من أهل بَيت لَا نعطي على الذل شَيْئا، فارفق بِي، وَاسْتَأْذَنَ فِي. فَقَالَ: أفعل. فرفهه مُحَمَّد، وأكرمه، فَكَانَ يُؤَدِّي إِلَيْهِ، فِي كل جُمُعَة، ثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم. فَغَضب الْحجَّاج، وَأمر معد، صَاحب الْعَذَاب، أَن يَأْخُذهُ من مُحَمَّد، فَأَخذه معد من مُحَمَّد، فَعَذَّبَهُ، ودق يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، فَلم يُعْطه شَيْئا. فَقَالَ مُحَمَّد: فَإِنِّي لأسير، بعد ثَلَاثَة أَيَّام، إِذا بِهِ مُعْتَرضًا على بغل، مدقوق الْيَد وَالرجل.

فصاح بِي: يَا مُحَمَّد. فَكرِهت أَن آتيه، فَيبلغ الْحجَّاج، فأقع مَعَه فِي مَكْرُوه، ثمَّ تذممت أَن لَا أدنو مِنْهُ، فدنوت. فَقلت: حَاجَتك؟ فَقَالَ: إِنَّك وليت مني مثل هَذَا، فأحسنت، ولي عِنْد فلَان مائَة ألف دِرْهَم، فَخذهَا مِنْهُ برسالتي إِلَيْهِ. فَقلت: وَالله، لَا أخذت مِنْك شَيْئا، وَأَنت على هَذِه الْحَال. فَقَالَ: أما إِذْ أَبيت، فاستمع مني، أحَدثك حَدِيثا سمعته من أهل دينك، عَن نبيك، سمعتهم يَقُولُونَ، إِنَّه قَالَ: إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى بالعباد خيرا، أمطرهم الْمَطَر فِي أَوَانه، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم خيارهم، وَجعل المَال فِي سمحائهم، وَإِذا أَرَادَ بهم شرا، أمطرهم الْمَطَر فِي غير أَوَانه وَاسْتعْمل عَلَيْهِم شرارهم، ومول بخلاءهم، ثمَّ مضى. وأتيت منزلي، فَمَا وضعت ثِيَابِي حَتَّى أَتَانِي رَسُول الْحجَّاج، وَقد بلغه مَا جرى. فخفته خوفًا شَدِيدا، وَوَقعت فِي أَمر عَظِيم، فَأَتَيْته وَقد اخْتَرَطَ سَيْفه، وَهُوَ فِي حجره منتضى. فَقَالَ لي: ادن. فَقلت: مَا بِي دنو، وَفِي حجر الْأَمِير السَّيْف. فَضَحِك، وَقَالَ: مَا قَالَ لَك الْخَبيث؟ فَقلت لَهُ: وَالله مَا غششتك مُنْذُ استنصحتني، وَلَا خنتك مُنْذُ ائتمنتني، وَلَا كذبتك مذ صدقتني، وأخبرته بِمَا قَالَ. فَلَمَّا أردْت ذكر الرجل الَّذِي عِنْده المَال، صرف وَجهه عني، وَقَالَ: لَا تسمه، لقد سمع عَدو الله الْأَحَادِيث، انْصَرف راشدا. فَانْصَرَفت آمنا، وَقد زَالَ خوفي.

المأمون يرضى عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي

الْمَأْمُون يرضى عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي حَدثنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن مزِيد بن أبي الْأَزْهَر، وَالْحُسَيْن بن يحيى، عَن حَمَّاد بن إِسْحَاق الْموصِلِي، عَن أَبِيه، قَالَ: أَبُو الْفرج، وَأَخْبرنِي يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، عَن أَبِيه، عَن إِسْحَاق، قَالَ: أَقَامَ الْمَأْمُون بعد دُخُوله بَغْدَاد عشْرين شهرا، وَلم يسمع حرفا من الأغاني، ثمَّ كَانَ أول من تغنى بِحَضْرَتِهِ أَبُو عِيسَى بن الرشيد أول مرّة، ثمَّ واظب على السماع متسترا، متشبها بالرشيد فِي أول أمره، فَأَقَامَ الْمَأْمُون كَذَلِك أَربع سِنِين، ثمَّ ظهر للندماء والمغنين. قَالَ: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي: وَكَانَ حِين أحب السماع، سَأَلَ عني، فجرحت بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ الطاعن عَليّ: مَا يَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي رجل يتيه على الْخُلَفَاء، مَا بَقِي هَذَا من التيه شَيْئا إِلَّا اسْتَعْملهُ. فَأمْسك عَن ذكري، وجفاني من كَانَ يصلني لسوء رَأْيه فِي، فأضر ذَلِك بِي، حَتَّى جَاءَنِي عُلْوِيَّهُ يَوْمًا، فَقَالَ لي: أتأذن لي فِي ذكرك

بِحَضْرَة الْمَأْمُون، فَإنَّا قد دعينا الْيَوْم. فَقلت: لَا، وَلَكِن غنه بِهَذَا الشّعْر، فَإِنَّهُ يَبْعَثهُ على أَن يَسْأَلك لمن هُوَ؟ فَإِذا سَأَلَك انْفَتح لَك مَا تريده، وَكَانَ الْجَواب أسهل عَلَيْك من الِابْتِدَاء. قَالَ: هَات، فألقيت عَلَيْهِ لحني فِي شعري: يَا سرحة المَاء قد سدت موارده ... أما إِلَيْك طَرِيق غير مسدود لحائم حام حَتَّى لَا حيام بِهِ ... مشرد عَن طَرِيق المَاء مطرود قَالَ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ: والغناء فِيهِ لإسحاق الْموصِلِي، رمل بالوسطى، عَنهُ، وَعَن عَمْرو بن بانة. رَجَعَ الحَدِيث، قَالَ: فَمضى عُلْوِيَّهُ، فَلَمَّا اسْتَقر بِهِ الْمجْلس، غناهُ بالشعر، الَّذِي أمره بِهِ إِسْحَاق. فَقَالَ الْمَأْمُون: وَيلك يَا عُلْوِيَّهُ، لمن هَذَا الشّعْر؟ . فَقَالَ: يَا سَيِّدي لعبد من عبيدك، جفوته، واطرحته، من غير ذَنْب. فَقَالَ: إِسْحَاق تَعْنِي؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: يحضر السَّاعَة. قَالَ إِسْحَاق: فَجَاءَنِي رَسُول الْمَأْمُون، فصرت إِلَيْهِ، فَلَمَّا دخلت إِلَيْهِ استدناني، فدنوت مِنْهُ، فَرفع يَدَيْهِ إِلَيّ مادهما، فانكببت عَلَيْهِ، فاحتضنني بيدَيْهِ، وَأظْهر من بري وإكرامي، مَا لَو أظهره صديق مؤانس لصديق، لسر بِهِ.

وَقد ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن هَذَا الْخَبَر، فِي كِتَابه بِغَيْر إِسْنَاد، وبأقل من هَذَا الشَّرْح، والمعني مُتَقَارب.

الباب الخامس

الْبَاب الْخَامِس من خرج من حبس أَو أسر واعتقال إِلَى سراح وسلامة وَصَلَاح حَال رَسُول الله يمن على هوَازن وَيُطلق لَهُم أَسْرَاهُم وَيرد عَلَيْهِم مَا غنم مِنْهُم 2: 5 50 - حَدَّثَنَا الأَمِيرُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ بَدْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَمِيرُ أَبُو النَّجْمِ بَدْرٌ الْكَبِيرُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَامِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ الْجُشَمِيُّ

مِنْ قُوَّادِ فِلَسْطِينَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ زِيَادُ بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ الرَّمَّاحِيِّ، وَكَانَتْ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، وَهُوَ يَصْعَدُ يَلْقُطُ التِّينَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَرْوَلٍ زُهَيْرَ بْنَ صُرَدٍ الْجُشَمِيَّ، يَقُولُ: أَسَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَيَوْمَ هَوَازِنَ، وَذَهَبَ يُفَرِّقُ الْسَّبْيَ، فَقُمْتُ، فَأَنْشَدْتُهُ: امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرُ ... مُفَرِّقٌ شَمْلَهَا فِي دَارِهَا غِيَرُ أَبْقَتْ لَنَا الْحَرْبُ هتافًا عَلَى حُزْنٍ ... عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغمَّاءُ وَالْغمرُ إِنْ لَمْ تُدَارِكْهُمْ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يَرِيبُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذرُ لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زهرُ

إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنَّعْمَاءِ إِذْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ يَا خَيْرَ مَنْ مَرِحَتْ كُمْتُ الْجِيَادِ بِهِ ... عَنِ الْهِيَاجِ إِذَا مَا اسْتُوقِدَ الشَّرَرُ فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ ... مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهِرُ إِنَّا نُؤَمَّلُ عَفْوًا مِنْكَ تُلْبِسُهُ ... هَذِي الْبَرِيَّةَ إِذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ عَفْوًا عَفَا اللَّهُ عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظَّفَرُ قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشِّعْرَ، قَالَ: §«مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ» . فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَقَالَتِ الأَنْصَارُ: مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَأَطْلَقَهُمْ جَمِيعًا 2: 7 وَحَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِالأَثْرَمِ، الْمُقْرِئُ الْخَيَّاطُ الْبَغْدَادِيُّ، بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْعُطَارِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَتْهُ هَوَازِنُ بِالْجِعْرَانَةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَنَا أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ §مَا فِي الْحَظَائِرِ مِنَ النِّسَاءِ، خَالاتُكَ، وَعَمَّاتُكَ، وَحَوَاضِنُكَ اللاتِي تَكَفَّلْنَكَ، وَلَوْ أَنَّا مَالَحْنَا ابْنَ أَبِي شِمْرٍ، أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ أَصَابَنَا مِثْلَ الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ، رَجَوْنَا عَائِدَتَهُمَا، وَعَطْفَهُمَا، وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا قَالَهَا، وَذَكَرَ مِنَ الأَبْيَاتِ ثَمَانِيَةً، فَقَالَ فِي الأَوَّلِ: وَنَدَّخِرُ، وَقَالَ فِي الثَّانِي: مُمَزِّقٌ، وَقَالَ فِي الثَّالِثِ: نَهَّافًا، وَقَالَ فِي السَّادِسِ: نَعَامَتُهُمْ، وَقَالَ فِي السَّابِعِ: إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاء وَإِنْ كُفِرَتْ

الوزير القاسم يعتقل ثلاثة أمراء عباسيين

الْوَزِيرُ الْقَاسِمُ يَعْتَقِلُ ثَلاثَةَ أُمَرَاءَ عَبَّاسِيِّينَ أخبرنَا أَبُو بكر الصولي، قَالَ: كَانَ الْقَاسِم بن عبيد الله، قد تقدم عِنْد وَفَاة المعتضد، إِلَى صَاحب الشرطة مؤنس الخازن، أَن يُوَجه إِلَى قصي بن الْمُؤَيد , وَعبد الْعَزِيز بن الْمُعْتَمد،

وَعبد الله بن المعتز، فيحبسهم فِي دَار، ويوكل بهم، فَفعل ذَلِك، وَكَانُوا محبوسين خَائِفين، إِلَى أَن قدم المكتفي بَغْدَاد فَعرف خبرهم، فَأمر بإطلاقهم، وَوصل كل وَاحِد مِنْهُم بِأَلف دِينَار. قَالَ: فَحَدثني عبد الله بن المعتز، قَالَ: سهرت فِي اللَّيْلَة الَّتِي فِي صبيحتها دخل المكتفي إِلَى بَغْدَاد، فَلم أنم، خوفًا على نَفسِي، وقلقا لوروده، فمرت بِي فِي السحر طير، فصاحت، فتمنيت أَن أكون مخلى مثلهَا، لما جرى عَليّ من النكبات. ثمَّ فَكرت فِي نعم الله تَعَالَى عَليّ، وَمَا خاره لي من الْإِسْلَام والقرابة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا أؤمله من الْبَقَاء الدَّائِم فِي الْآخِرَة فَقلت: يَا نفس صبرا لَعَلَّ الْخَيْر عقباك ... خانتك من بعد طول الْأَمْن دنياك مرت بِنَا سحرًا طير فَقلت لَهَا ... طوباك يَا لَيْتَني إياك طوباك لَكِن هُوَ الدَّهْر فالقيه على حذر ... فَرب مثلك ينزو تَحت أشراك

البحتري وأبو معشر يؤصلان عند المعتز أصلا

البحتري وَأَبُو معشر يؤصلان عِنْد المعتز أصلا حَدثنِي عَليّ بن هِشَام بن عبد الله الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم سُلَيْمَان بن الْحسن بن مخلد، قَالَ: لما أنفذ أبي إِلَى مصر، اجتذبت أَبَا عبَادَة البحتري، وَأَبا معشر المنجم، وَكنت آنس بهما فِي وَحْدَتي، وملازمتي الْبَيْت، فَكَانَا أَكثر الْأَوْقَات عِنْدِي، يحادثاني ويعاشراني. فحدثاني يَوْمًا: إنَّهُمَا أضاقا إضاقة شَدِيدَة، وَكَانَا مصطحبين، فَعَن لَهما أَن يلقيا المعتز بِاللَّه، وَهُوَ مَحْبُوس، فيتوددان إِلَيْهِ ويؤصلان

عِنْده أصلا، فتوصلا إِلَيْهِ، حَتَّى لقيَاهُ فِي حَبسه. قَالَ البحتري: فَأَنْشَدته أبياتي الَّتِي كنت قلتهَا فِي مُحَمَّد بن يُوسُف الثغري، لما حبس، وخاطبت بهَا المعتز، كَأَنِّي عملتها لَهُ فِي الْحَال، وَهِي: جعلت فدَاك الدَّهْر لَيْسَ بمنفك ... من الْحَادِث المشكو والنازل المشكي وَمَا هَذِه الْأَيَّام إِلَّا منَازِل ... فَمن منزل رحب وَمن منزل ضنك وَقد هذبتك الحادثات وَإِنَّمَا ... صفا الذَّهَب الإبريز قبلك بالسبك أما فِي رَسُول الله يُوسُف أُسْوَة ... لمثلك مَحْبُوسًا على الظُّلم والإفك أَقَامَ جميل الصَّبْر فِي السجْن بُرْهَة ... فآل بِهِ الصَّبْر الْجَمِيل إِلَى الْملك على أَنه قد ضيم فِي حَبسك العلى ... وَأصْبح عز الدَّين فِي قَبْضَة الشّرك

قَالَ: فَأخذ الرقعة الَّتِي فِيهَا الأبيات، فَدَفعهَا إِلَى خَادِم كَانَ وَاقِفًا على رَأسه، وَقَالَ لَهُ: احتفظ بِهَذِهِ الرقعة، فَإِن فرج الله عني، فأذكرني بهَا، لأقضي حق هَذَا الرجل الْحر. وَقَالَ لي أَبُو معشر: وَقد كنت أَنا أخذت مولده، وَوقت عقد لَهُ الْعَهْد، وَوقت عقدت الْبيعَة للمستعين بالخلافة، فَنَظَرت فِي ذَلِك، وصححت الحكم للمعتز بالخلافة بعد فتْنَة تجْرِي وحروب، وحكمت على المستعين بِالْقَتْلِ، فَسلمت ذَلِك إِلَى المعتز، وانصرفنا. وَضرب الزَّمَان ضربه، وَصَحَّ الحكم بأسره. قَالَ أَبُو معشر: فَدخلت أَنا والبحتري جَمِيعًا إِلَى المعتز، وَهُوَ خَليفَة، بعد خلع المستعين وتغريقه، فَقَالَ لي: لم أنسك، وَقد صَحَّ حكمك، وَقد أجريت لَك فِي كل شهر مائَة دِينَار، وَثَلَاثِينَ دِينَارا نزلا، وجعلتك رَئِيس المنجمين فِي دَار الْخلَافَة، وَأمرت لَك عَاجلا بِإِطْلَاق ألف دِينَار صلَة، فقبضت ذَلِك كُله فِي يومي.

وَقَالَ لي البحتري: وَتَقَدَّمت أَنا، فأنشدت المعتز قصيدة مدحته بهَا، وهنأته بالخلافة، وهجوت المستعين، أَولهَا: يجانبنا فِي الْحبّ من لَا نجانبه ... وَيبعد عَنَّا فِي الْهوى من نقاربه فَلَمَّا بلغت فِيهَا إِلَى قولي، والمعتز يستمع: فَكيف رَأَيْت الْحق قر قراره ... وَكَيف رَأَيْت الظُّلم آلت عواقبه وَلم يكن المعتز بِاللَّه إِذْ سرى ... ليعجز والمعتز بِاللَّه طَالبه رمى بالقضيب عنْوَة وَهُوَ صاغر ... وعري من برد النَّبِي مناكبه وَقد سرني أَن قيل وَجه غاديا ... إِلَى الشرق تحدى سفنه وركائبه إِلَى وَاسِط حَيْثُ الدَّجَاج وَلم تكن ... لتنشب إِلَّا فِي الدَّجَاج مخالبه فاستعادني هَذِه الأبيات مرَارًا، فأعدتها عَلَيْهِ، فَدَعَا الْخَادِم الَّذِي كَانَ مَعَه فِي الْحَبْس، وَطلب مِنْهُ الرقعة الَّتِي كنت أنشدته الشّعْر الَّذِي كَانَ فهيا، فِي حَبسه، فَأحْضرهُ إِيَّاهَا بِعَينهَا. فَقَالَ: قد أمرت لَك بِكُل بَيت مِنْهَا بِأَلف دِينَار، وَكَانَت سِتَّة أَبْيَات، فَأخذت سِتَّة آلَاف دِينَار. ثمَّ قَالَ لي: كَأَنِّي بك، وَقد بادرت، فاشتريت مِنْهَا جَارِيَة، وَغُلَامًا، وفرسا، وأتلفت المَال، لَا تفعل، فَإِن لَك فِيمَا تستأنفه مَعنا من أيامك، وَمَعَ

وزرائنا وأسبابنا، إِذا عرفُوا موضعك عندنَا، غناء عَن ذَلِك، وَلَكِن افْعَل بِهَذَا المَال كَمَا فعل ابْن قيس الرقيات بِالْمَالِ الَّذِي أعطَاهُ عبد الله بن جَعْفَر، وَاشْترى بِهِ ضَيْعَة، فاشتر أَنْت أَيْضا بِهِ ضَيْعَة تنْتَفع بغلتها، وَيبقى عَلَيْك وعَلى ولدك أَصْلهَا. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة، وَخرجت فاشتريت بِالْمَالِ ضَيْعَة جليلة بمنبج، ثمَّ ارْتَفَعت حَالي مَعَه وزادت.

أبو سعيد الثغري يعتقل ويعذب

أَبُو سعيد الثغري يعتقل ويعذب قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وللبحتري فِي هَذِه الأبيات الكافية، خبر آخر حسن، نذكرهُ لِأَنَّهُ أَيْضا يدْخل فِي هَذَا الْبَاب، أَخْبرنِي أَبُو بكر الصولي إجَازَة، ونقلته من خطه، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيم القنوي، قَالَ: طُولِبَ أَبُو سعيد الثغري، بِمَال، بعد غَزَوَاته الْمَشْهُورَة، وَسلم إِلَى أبي الْحُسَيْن النَّصْرَانِي الجهبذ ليستخرج مِنْهُ المَال، فَجعل يعذبه فشق ذَلِك على الْمُسلمين، وَقَالُوا: يَأْخُذ بثأر النَّصْرَانِيَّة. فَقَالَ البحتري: يَا ضَيْعَة الدُّنْيَا وضيعة أَهلهَا ... وَالْمُسْلِمين وضيعة الْإِسْلَام طلبت ذحول الشّرك فِي دَار الْهدى ... بَين المداد وألسن الأقلام هَذَا ابْن يُوسُف فِي يَدي أعدائه ... يجزى على الْأَيَّام بِالْأَيَّامِ نَامَتْ بَنو الْعَبَّاس عَنهُ وَلم تكن ... عَنهُ أُميَّة - لَو رعت - بنيام فقرئ هَذَا الشّعْر على المتَوَكل، فَأمر بِإِطْلَاق أبي سعيد، وتوليته، وَأمر بإحضار قَائِل الأبيات، فأحضر البحتري، واتصل بِهِ فَكَانَ أول شعر أنْشدهُ، قَوْله فِي أبي سعيد: جعلت فدَاك الدَّهْر لَيْسَ بمنفك وَذكر الأبيات، إِلَّا أَنه قَالَ فِي الْبَيْت الثَّالِث، بدل الحادثات: النائبات.

وَقَالَ فِي الْبَيْت الَّذِي أَوله: على أَنه قد ضيم فِي حَبسك العلى ... وأضحى بك الْإِسْلَام فِي قَبْضَة الشّرك

البحتري يهنئ إبراهيم بن المدبر

البحتري يهنئ إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر وَمن محَاسِن شعر البحتري الَّذِي يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب، وَإِن كَانَ تعلقا ضَعِيفا، إِلَّا أَن الشَّيْء بالشَّيْء يذكر، وَلَا سِيمَا إِذا قاربه، مَا أخبرنيه الصولي، إجَازَة، قَالَ: ذكر إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر، يَوْمًا، البحتري، فَقَالَ: مَا رَأَيْت أتم طبعا مِنْهُ، وَلَا أحضر خاطرا، فقد مدحني حِين تخلصت من الْأسر، يَعْنِي: أسر صَاحب الزنج بِالْبَصْرَةِ , وَذكر الضَّرْبَة الَّتِي فِي وَجْهي، وتخلصي , ومدح المأسور شَيْء مَا راعاه قبله أحد. قَالَ الصولي: والأبيات من قصيدة أَولهَا: قد كَانَ طيفك مرّة يغرى بِي

قَالَ فِيهَا: لَو أَنه استام النجَاة لنَفسِهِ ... وجد النجَاة رخيصة الْأَسْبَاب ومبينة شهد الْمنَازل رسمها ... وَالْخَيْل تكبو فِي العجاج الكابي كَانَت بِوَجْهِك دون عرضك درأة ... إِن الْوُجُوه تصان بِالْأَحْسَابِ وَلَئِن أسرت فَمَا الإسار على امْرِئ ... لم يأل صدقا فِي اللِّقَاء بعاب نَام المضلل عَن سراك وَلم يخف ... حرس الرَّقِيب وقسوة البواب وَرَأى بِأَن الْبَاب مذهبك الَّذِي ... يخْشَى وهمك كَانَ غير الْبَاب قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ نقب نقبا، وَخرج مِنْهُ. فركبتها هولا مَتى تخبر بهَا ... يقل الجبان أنيت غير صَوَاب مَا راعهم إِلَّا امتراقك مُصْلِتًا ... عَن مثل برد الأرقم المنساب تَحْمِي أغيلمة وطائشة الخطى ... تصل التلفت خشيَة الطلاب قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ أخرج مَعَه من الْحَبْس امْرَأَة، وَأخرج ابْن أَخِيه. مَا زَالَ يَوْم ندى بطولك زاهرا ... حَتَّى أضفت إِلَيْهِ يَوْم ضراب ذكر من الْبَأْس استعدت إِلَى الَّذِي ... أَعْطَيْت فِي الْأَخْلَاق والآداب وروى غير الصولي، فِي الْبَيْت الَّذِي قبل هَذَا الآخر: لم ترض يَوْم ندى بطولك. . .

يمنع ابن أبي سبرة علنا ويجيزه سرا

يمْنَع ابْن أبي سُبْرَة علنا ويجيزه سرا حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله الْوراق، من كتاب نسب قُرَيْش للزبير بن بكار، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان الطوسي، قَالَ: حَدثنَا الزبير بن بكار، قَالَ: أَخْبرنِي عمي مُصعب بن عبد الله، وحَدثني سعيد بن عَمْرو، جَاءَ بهما الزبير خبرين مفردين فيهمَا تَكْرِير وَزِيَادَة فِي أَحدهمَا على الآخر، وَأَنا هُنَا أجمع بَينهمَا، وأجعلهما سِيَاقَة وَاحِدَة، وَأسْقط التكرير، قَالَ: كَانَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي سُبْرَة بن أبي ريم بن عبد الْعُزَّى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مَالك بن حسل بن عَامر بن لؤَي بن غَالب بن نصر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة عَاملا لرياح بن عُثْمَان، على مسعاة أَسد وطيء، فَلَمَّا خرج مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِم السَّلَام جَاءَ بِمَا صدق من المَال إِلَيْهِ، ومبلغه أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار،

فَدفع ذَلِك إِلَيْهِ، فَكَانَت قُوَّة لمُحَمد. فَلَمَّا قتل عِيسَى بن مُوسَى مُحَمَّدًا بِالْمَدِينَةِ، قيل لأبي بكر: اهرب، قَالَ: لَيْسَ مثلي يهرب، فَأخذ أَسِيرًا، فَطرح فِي حبس الْمَدِينَة، وَلم يحدث عِيسَى بن مُوسَى فِي أمره شَيْئا غير حَبسه، فَأمر الْمَنْصُور بتقييده، فقيد. فَقدم الْمَدِينَة بَعْدَمَا شخص عِيسَى بن مُوسَى، عبد الله بن الرّبيع الْمدنِي وَمَعَهُ جند، فعاثوا فِي الْمَدِينَة وأفسدوا، فَوَثَبَ عَلَيْهِ سودان الْمَدِينَة والرعاع، فَقتلُوا جنده، وطردوهم، وانتهبوهم، وانتهبوا عبد الله بن الرّبيع، فَخرج حَتَّى نزل ببئر الْمطلب، يُرِيد الْعرَاق، على خَمْسَة أَمْيَال من الْمَدِينَة. وكبس السودَان السجْن، فأخرجوا أَبَا بكر. وَقَالَ سعيد: فَأخْرج القرشيون أَبَا بكر، فَحَمَلُوهُ على مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنهى عَن مَعْصِيّة أَمِير الْمُؤمنِينَ، وحث على طَاعَته. وَقيل لَهُ: صل بِالنَّاسِ. فَقَالَ: إِن الْأَسير لَا يؤم، وَرجع إِلَى محبسه.

فَلَمَّا ولى الْمَنْصُور، جَعْفَر بن سُلَيْمَان، على الْمَدِينَة، قَالَ لَهُ: بَيْننَا وَبَين أبي بكر رحم، وَقد أَسَاءَ وَأحسن، فَإِذا قدمت الْمَدِينَة، فَأَطْلقهُ، وَأحسن جواره. وَقَالَ سعيد: فَأمره بِإِطْلَاق ابْن أبي سُبْرَة، وأوصاه بِهِ، وَقَالَ: إِن كَانَ قد أَسَاءَ فقد أحسن. فَأَطْلقهُ جَعْفَر. فَسَأَلَ جَعْفَر أَن يكْتب لَهُ بوصاة إِلَى معن بن زَائِدَة، وَهُوَ إِذْ ذَاك على الْيمن، فَكتب لَهُ بوصاة إِلَيْهِ. فلقي الرابحي، فَقَالَ: هَل لَك فِي الْخُرُوج معي إِلَى الْعمرَة؟ فَقَالَ: أما وَالله، مَا أخرجني من منزلي إِلَّا طلب شَيْء لأهلي، فَمَا تركت عِنْدهم شَيْئا، فَأمر لَهُ ابْن أبي سُبْرَة بِنَفَقَة أنفذها إِلَى عِيَاله، وَخرج مَعَه. فَلَمَّا قضيا عمرتهما، قَالَ للرابحي: هَل لَك أَن نأتي معن بن زَائِدَة؟ قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ بِنَفَقَة أنفذها إِلَى عِيَاله، وَأخرجه مَعَه، حَتَّى قدما على معن بن زَائِدَة، فَدخل عَلَيْهِ ابْن أبي سُبْرَة وَحده، فَدفع إِلَيْهِ كتاب جَعْفَر بِالرِّضَا عَنهُ، فَلَمَّا قَرَأَهُ، قَالَ: كَانَ جَعْفَر أقدر على صلتك مني، انْصَرف، فَلَيْسَ لَك عِنْدِي شَيْء، فَانْصَرف مغموما.

فَلَمَّا انتصف النَّهَار، أرسل إِلَيْهِ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أبي سُبْرَة مَا حملك على أَن قدمت عَليّ، وأمير الْمُؤمنِينَ عَلَيْك وَاجِد؟ ثمَّ سَأَلَهُ: كم دينك؟ قَالَ: أَرْبَعَة آلَاف دِينَار. فَأعْطَاهُ أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، وَأَعْطَاهُ ألفي دِينَار أُخْرَى، وَقَالَ: أصلح بِهَذِهِ أَمرك. فَانْصَرف إِلَى منزله، فَأخْبر الرابحي، بِمَا صنع معن مَعَه، فراح الرابحي إِلَى معن، فأنشده: الرابحي يَقُول فِي مدح ... لأبي الْوَلِيد أخي الندى الْغمر ملك بِصَنْعَاء الْمُلُوك لَهُ ... مَا بَين بَيت الله والشحر لَو جاودته الرّيح مُرْسلَة ... لجرى يجود فَوق مَا تجْرِي حملت بِهِ أم مباركة ... وَكَأَنَّهَا بِالْحملِ لَا تَدْرِي فَقَالَ لَهُ معن: فَكَانَ مَاذَا وَيحك؟ فَقَالَ: حَتَّى إِذا مَا تمّ تاسعها ... وَلدته مولد لَيْلَة الْقدر فَقَالَ لَهُ معن: ثمَّ مَاذَا وَيحك؟ فَقَالَ: فَأَتَت بِهِ بيضًا أسرته ... يُرْجَى لحمل نَوَائِب الدَّهْر

مسح القوابل وَجهه فَبَدَا ... كالبدر بل أبهى من الْبَدْر فنذرن حِين رأين غرته ... إِن عَاشَ أَن يوفين بِالنذرِ لله صوما شكر أنعمه ... وَالله أهل الْحَمد وَالشُّكْر فَقَالَ لَهُ معن: ثمَّ مَاذَا؟ فَقَالَ: فنشا بِحَمْد الله حِين نشا ... حسن الْمُرُوءَة نابه الذّكر فَقَالَ معن: ثمَّ مَاذَا؟ فَقَالَ: حَتَّى إِذا مَا طر شَاربه ... خضع الْمُلُوك لسَيِّد بهر فَإِذا وهى ثغر يُقَال لَهُ: ... يَا معن أَنْت سداد ذَا الثغر فَقَالَ معن: أَنا أَبُو الْوَلِيد، أَعْطوهُ ألف دِينَار. فَأَخذهَا وَرجع إِلَى ابْن أبي سُبْرَة، فَخَرَجَا جَمِيعًا إِلَى مَكَّة. فَقَالَ ابْن أبي سُبْرَة: أما الْأَرْبَعَة آلَاف دِينَار، فلقضاء ديني، وَأما الألفان الفاضلة، فلك مِنْهَا ألف. قَالَ الرابحي: قد أَعْطَانِي ألف دِينَار، وَهِي تجزيني، فَلَا تضيق على نَفسك فِي الألفي الدِّينَار. فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمت عَلَيْك لتأخذنها، فَأَخذهَا، وَأنْفق عَلَيْهِ، حَتَّى أَتَى الْمَدِينَة. ونمى الْخَبَر إِلَى الْمَنْصُور، فَكتب إِلَى معن: مَا حملك على أَن أَعْطَيْت

ابْن أبي سُبْرَة مَا أَعْطيته، وَقد علمت مَا صنع؟ فَكتب إِلَيْهِ معن: إِن جَعْفَر بن سُلَيْمَان كتب إِلَيّ بوصيني بِهِ، وَلم أَظن أَن جعفرا يكْتب فِي رجل لم يرض عَنهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَكتب الْمَنْصُور إِلَى جَعْفَر، يبكته بذلك. فَكتب إِلَيْهِ جَعْفَر: أَنْت، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أوصيتني بِهِ، وَلم يكن فِي استيصائي بِهِ شَيْء أيسر من كتاب وصاة إِلَى معن.

بال في ثيابه خوفا منه ثم بال على قبره

بَال فِي ثِيَابه خوفًا مِنْهُ ثمَّ بَال على قَبره وجدت فِي كتاب أبي الْفرج المَخْزُومِي الحنطي، عَن أبي طَالب الْجَعْفَرِي، أَنه سمع رجلا يحدث عَن مُحَمَّد بن الْفضل الجرجرائي فِي وزارته للمعتصم، قَالَ: كنت أتولى ضيَاع عجيف، بكسكر، فَرفع عَليّ أَنِّي خنته، وأخربت

الضّيَاع، فأنفذ إِلَيّ من قيدني، وأدخلت عَلَيْهِ فِي دَاره بسر من رأى، على تِلْكَ الْحَال، فَإِذا هُوَ يطوف على صناع فِيهَا. فَلَمَّا نظر إِلَيّ شَتَمَنِي، وَقَالَ: أخربت الضّيَاع، ونهبت الِارْتفَاع , وَالله لأَقْتُلَنك، هاتوا السِّيَاط. فاحضرت، وشلحت للضرب. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك، ذهب عَليّ أَمْرِي، وبلت على ساقي. فرآني كَاتبه، فَقَالَ لعجيف: أعز الله الْأَمِير، أَنْت مَشْغُول الْقلب بِهَذَا الْبناء، وَضرب هَذَا وَقَتله فِي أَيْدِينَا، لَيْسَ يفوت، فتأمر بحبسه، وَانْظُر فِي أمره فَإِن كَانَت الرفيعة صَحِيحَة، فَلَيْسَ يفوتك عِقَابه، وَإِن كَانَت بَاطِلَة، لم تتعجل الْإِثْم، وتنقطع عَمَّا أَنْت مهتم بِهِ. فَأمر بِي إِلَى الْحَبْس، فَمَكثت فِيهِ أَيَّامًا.

وغزا أَمِير الْمُؤمنِينَ المعتصم، عمورية، وَكَانَ من أَمر عجيف مَا كَانَ، فَقتله، واتصل الْخَبَر بكاتبه، فأطلقني. فَخرجت من الْحَبْس، وَمَا أهتدي إِلَى حَبَّة فضَّة، فَمَا فَوْقهَا. فقصدت صَاحب الدِّيوَان بسر من رأى، وَكَانَ صديقي، فَلَمَّا رَآنِي سر بإطلاقي وتوجع لي من سوء حَالي، وَعرض عَليّ مَالا. فَقلت: بل تتفضل بتصريفي فِي شَيْء أستتر بجاريه. فقلدني عملا بنواحي ديار ربيعَة، فاقترضت من التُّجَّار لما سمعُوا بِخَبَر ولايتي، مَا تحملت بِهِ إِلَى الْعَمَل، وَخرجت. وَكَانَ فِي ضيَاع عَمَلي، ضَيْعَة تعرف بكراثا، فَنزلت بهَا فِي بعض طوافي بِالْعَمَلِ، وحصلت فِي دَار مِنْهَا، فَلَمَّا كَانَ السحر، وجدت المستحم ضيقا غير نظيف، فَخرجت من الدَّار إِلَى تل فِي الصَّحرَاء، فَجَلَست أبول عَلَيْهِ. فَخرج إِلَيّ صَاحب الدَّار، فَقَالَ لي: أَتَدْرِي على أَي شَيْء تبول؟ قلت: على تل تُرَاب. فَضَحِك، وَقَالَ: هَذَا قبر رجل يعرف بعجيف، قَائِد من قواد السُّلْطَان، كَانَ قد سخط عَلَيْهِ، وَحمله مَعَه مُقَيّدا، فَلَمَّا بلغ إِلَى هَاهُنَا قتل، فَطرح فِي هَذَا الْمَكَان تَحت حَائِط، فَلَمَّا انْصَرف الْعَسْكَر، طرحنا عَلَيْهِ الْحَائِط، لنواريه من الْكلاب، فَهُوَ - وَالله - تَحت هَذَا التل التُّرَاب. فعجبت من بولِي خوفًا مِنْهُ، وَمن بولِي على قَبره.

لقاء بين الجد الرومي النصراني والحفيد العربي المسلم.

لِقَاء بَين الْجد الرُّومِي النَّصْرَانِي والحفيد الْعَرَبِيّ الْمُسلم. وروى ابْن دُرَيْد عَن أبي حَاتِم، عَن أبي معمر، عَن رجل من أهل الْكُوفَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ مسلمة بن عبد الْملك، بِبِلَاد الرّوم، فسبا سَبَايَا كَثِيرَة، وَأقَام بِبَعْض الْمنَازل، فَعرض السَّبي على السَّيْف، فَقتل خلقا، حَتَّى عرض عَلَيْهِ شيخ كَبِير ضَعِيف، فَأمر بقتْله. فَقَالَ لَهُ: مَا حَاجَتك إِلَى قتل شيخ مثلي؟ إِن تَرَكتنِي حَيا، جئْتُك بأسيرين من الْمُسلمين شابين. قَالَ لَهُ: وَمن لي بذلك؟ قَالَ: إِنِّي إِذا وعدت وفيت. قَالَ: لست أَثِق بك. فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي حَتَّى أَطُوف فِي عسكرك، لعَلي أعرف من يتكفل بِي إِلَى أَن أمضي وأعود أجيء بالأسيرين. فَوكل بِهِ من يطوف بِهِ، وَأمره بالاحتفاظ بِهِ، فَمَا زَالَ الشَّيْخ يطوف ويتصفح الْوُجُوه، حَتَّى مر بفتى من بني كلاب، قَائِما يحس فرسه.

فَقَالَ لَهُ: يَا فَتى، اضمني للأمير، وقص عَلَيْهِ قصَّته. فَقَالَ: أفعل، وَجَاء الْفَتى إِلَى مسلمة، فضمنه، فَأَطْلقهُ مسلمة. فَلَمَّا مضى قَالَ للفتى: أتعرفه؟ قَالَ: لَا، وَالله. قَالَ: فَلم ضمنته؟ قَالَ: رَأَيْته يتصفح الْوُجُوه، فاختارني من بَينهم، فَكرِهت أَن أخلف ظَنّه فِي، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، عَاد الشَّيْخ وَمَعَهُ أسيران شابان من الْمُسلمين، فسلمهما إِلَى مسلمة، وَقَالَ: إِن رأى الْأَمِير أَن يَأْذَن لهَذَا الْفَتى أَن يصير معي إِلَى حصني لأكافئه على فعله. فَقَالَ مسلمة للفتى الْكلابِي: إِن شِئْت فَامْضِ مَعَه. فَلَمَّا صَار إِلَى حصنه، قَالَ لَهُ: يَا فَتى، تعلم وَالله أَنَّك ابْني؟ قَالَ لَهُ: وَكَيف أكون ابْنك، وَأَنا رجل من الْعَرَب مُسلم، وَأَنت رجل من الرّوم نَصْرَانِيّ. فَقَالَ لَهُ: أَخْبرنِي عَن أمك، مَا هِيَ؟ قَالَ: رُومِية. قَالَ: فَإِنِّي أصفها لَك، فبالله إِن صدقت، إِلَّا صدقتني. قَالَ: أفعل. فَأقبل الرُّومِي، يصف أم الْفَتى، مَا خرم من صفتهَا شَيْئا. فَقَالَ لَهُ الْفَتى: هِيَ كَذَلِك، فَكيف عرفت أَنِّي ابْنهَا؟ قَالَ: بالشبه، وتعارف الْأَرْوَاح، وَصدق الفراسة.

ثمَّ أخرج إِلَيْهِ امْرَأَة، فَلَمَّا رَآهَا الْفَتى لم يشك فِيهَا أَنَّهَا أمه، لتقارب الشّبَه، وَخرجت مَعهَا عَجُوز كَأَنَّهَا هِيَ، فأقبلتا تقبلان رَأس الْفَتى، وَيَديه، وتترشفانه. فَقَالَ لَهُ: هَذِه جدتك، وَهَذِه خالتك. ثمَّ اطلع من حصنه، فَدَعَا بشباب فِي الصَّحرَاء، فَأَقْبَلُوا، فَكَلَّمَهُمْ بالرومية، فَأَقْبَلُوا يقبلُونَ رَأس الْفَتى وَيَديه، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أخوالك، وَبَنُو خَالَاتك، وَبَنُو عَم والدتك. ثمَّ أخرج إِلَيْهِ حليا كثيرا، وثيابا فاخرة، وَقَالَ: هَذَا لوالدتك عندنَا مُنْذُ سبيت، فَخذه مَعَك، وادفعه إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا ستعرفه، ثمَّ أعطَاهُ لنَفسِهِ مَالا كثيرا، وثيابا، وحليا، وَحمله على عدَّة دَوَاب، وألحقه بعسكر مسلمة. وَانْصَرف. وَأَقْبل الْفَتى قَافِلًا حَتَّى دخل إِلَى منزله فَأقبل يخرج الشَّيْء بعد الشَّيْء مِمَّا عرفه الشَّيْخ أَنه لأمه، وتراه أمه، فتبكي، فَيَقُول لَهَا: قد وهبته لَك. فَلَمَّا كثر عَلَيْهَا، قَالَت لَهُ: يَا بني، أَسَالَك بِاللَّه، من أَي بلد صَارَت إِلَيْكُم هَذِه الثِّيَاب، وَهل تصف لي أهل هَذَا الْحصن الَّذِي كَانَ فِيهِ هَذَا؟ فوصف لَهَا الْفَتى صفة الْبَلَد والحصن، وَوصف لَهَا أمهَا وَأُخْتهَا، وَالرِّجَال الَّذين رَآهُمْ، وَهِي تبْكي وتقلق. فَقَالَ لَهَا: مَا يبكيك؟ فَقَالَت: الشَّيْخ وَالله وَالِدي، والعجوز أُمِّي، وَتلك أُخْتِي. فَقص عَلَيْهِ الْخَبَر، وَأخرج بَقِيَّة مَا كَانَ أنفذه مَعَه أَبوهَا إِلَيْهَا، فَدفعهُ إِلَيْهَا.

يحتال لإخراج أحد أصحابه من الحبس

يحتال لإِخْرَاج أحد أَصْحَابه من الْحَبْس حَدثنِي أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق التنوخي، قَالَ: كَانَ إِسْمَاعِيل الصفار الْبَصْرِيّ، أحد شُيُوخ الْمُعْتَزلَة الأجلاد، وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك يتشددون على الْمُعْتَزلَة وينالونهم بالمكاره. فتقلد الْبَصْرَة نزار بن مُحَمَّد الضَّبِّيّ، فَرفع إِلَيْهِ عَن رجل أَنه معتزلي

فحبسه، فاستغاث الرجل بِإِسْمَاعِيل، فَكلم غير وَاحِد من رُؤَسَاء الْبَلَد، أَن يكلم نزارا فِيهِ، فتجنبوا ذَلِك بِسَبَب الْمَذْهَب، فَبَاتَ إِسْمَاعِيل قلقا. ثمَّ بكر من غَد، فَطَافَ على كل معتزلي بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ لَهُم: إِن تمّ هَذَا عَلَيْكُم هلكتم مُتَفَرّقين، وحبستم وَأتي على أَمْوَالكُم ونفوسكم، فاقبلوا مني، واجتمعوا، وتدبروا برأيي، فَإِن الرجل يتَخَلَّص وتعزون. فَقَالُوا: لَا نخالف عَلَيْك. فَوَعَدَهُمْ ليَوْم بِعَيْنِه، ووعد مَعَهم كل من يعرفهُ من الْعَوام، وَأَصْحَاب الْمذَاهب، مِمَّن يتبع قصاص الْمُعْتَزلَة، وَمن يمِيل إِلَيْهِم. فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم، اجْتمع لَهُ مِنْهُم أَكثر من ألف رجل، فَصَارَ بهم إِلَى نزار، وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأذن لَهُ وَلَهُم. فَقَالَ: أعز الله الْأَمِير، بلغنَا أَنَّك حبست فلَانا، لِأَنَّهُ قَالَ: إِن الْقُرْآن مَخْلُوق، وَقد جئْنَاك، وكلنَا نقُول: إِن الْقُرْآن مَخْلُوق، وخلفنا أُلُوف يَقُولُونَ كَمَا نقُول، فإمَّا حبستنا جَمِيعًا، وَإِمَّا أطلقت صاحبنا، وَإِذا كَانَ السُّلْطَان أَطَالَ الله بَقَاءَهُ قد ترك المحنة، وَقد أقرّ النَّاس على مذاهبهم، فَلم نؤاخذ نَحن بمذهبنا من بَين سَائِر المقالات؟ فَنظر نزار فَإِذا فتْنَة تثور، لم يُؤذن لَهُ فِيهَا، وَلم يدر مَا تجر، فَأطلق الرجل، وَسلمهُ إِلَيْهِم. فشكره إِسْمَاعِيل، وَانْصَرف وَالْجَمَاعَة.

شامي عظيم الجاه من بقايا بني أمية

شَامي عَظِيم الجاه من بقايا بني أُميَّة وجدت فِي كتاب أبي الْفرج المَخْزُومِي الحنطبي، عَن أبي أُميَّة الهشامي، عَن أبي سلميان دَاوُد بن الْفضل الْعَبْدي، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، عَن مُحَمَّد بن الْحسن بن بشر الأدمِيّ، قَالَ: حَدثنِي مَنَارَة، خَادِم الْخُلَفَاء، قَالَ: رفع إِلَى هَارُون الرشيد، أَن رجلا بِدِمَشْق، من بقايا بني أُميَّة، عَظِيم الجاه وَاسع الدُّنْيَا، كثير المَال والأملاك، مُطَاعًا فِي الْبَلَد، لَهُ جمَاعَة أَوْلَاد ومماليك وموالي، يركبون الْخَيل، ويحملون السِّلَاح، ويغزون الرّوم، وَأَنه سمح جواد، كثير الْبَذْل والضيافة، وَأَنه لَا يُؤمن مِنْهُ فتق لَا يُمكن رتقه، فَعظم ذَلِك على الرشيد. قَالَ مَنَارَة: وَكَانَ وقُوف الرشيد على هَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فِي بعض خرجاته إِلَى الْحَج سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَقد عَاد من الْمَوْسِم، وَقد بَايع للأمين ثمَّ الْمَأْمُون ثمَّ المؤتمن.

فدعاني وَهُوَ خَال، فَقَالَ لي: دعوتك لأمر أهمني وَقد مَنَعَنِي النّوم، فَانْظُر كَيفَ تكون؟ ثمَّ قصّ عَليّ خبر الْأمَوِي. وَقَالَ: اخْرُج السَّاعَة، فقد أَعدَدْت لَك الجمازات، وأزحت علتك فِي الزَّاد وَالنَّفقَة والآلات، وضممت إِلَيْك مائَة غُلَام، فاسلك الْبَريَّة، وَهَذَا كتابي إِلَى أَمِير دمشق، وَهَذِه قيود، فَادْخُلْ، وابدأ بِالرجلِ، فَإِن سمع وأطاع، فقيده وجئني بِهِ وَإِلَّا فتوكل بِهِ أَنْت وَمن مَعَك

حَتَّى لَا يهرب، وأنفذ الْكتاب إِلَى أَمِير دمشق، ليركب فِي جَيْشه فَيقبض عَلَيْهِ، وتجيئني بِهِ، وَقد أجلتك لذهابك سِتا، ولعودك سِتا، وَيَوْما لمقامك، وَهَذَا محمل، تَجْعَلهُ إِذا قيدته فِي شقَّه، تجْلِس أَنْت فِي الشق الآخر، وَلَا تكل حفظه إِلَى غَيْرك، حَتَّى تَأتِينِي بِهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر من خُرُوجك، وَإِذا دخلت دَاره فتفقدها، وَجَمِيع مَا فِيهَا، وَأَهله وَولده وحاشيته، وغلمانه، وَقدر النِّعْمَة، وَالْحَال، وَالْمحل , واحفظ مَا يَقُوله الرجل حرفا بِحرف، بِجَمِيعِ أَلْفَاظه، مُنْذُ وُقُوع طرفك عَلَيْهِ، إِلَى أَن تَأتِينِي بِهِ، وَإِيَّاك أَن يشذ عَلَيْك شَيْء من أمره، انْطلق مصاحبا. قَالَ مَنَارَة: فودعته وَخرجت، فَرَكبْنَا الْإِبِل، وطوينا الْمنَازل، أَسِير اللَّيْل وَالنَّهَار، وَلَا أنزل إِلَّا للْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَالْبَوْل، وتنفيس النَّاس قَلِيلا. إِلَى أَن دخلت دمشق فِي أول اللَّيْلَة السَّابِعَة، وأبواب الْبَلَد مغلقة، فَكرِهت طرقها، فَنمت بِظَاهِر الْبَلَد، إِلَى أَن فتح بَابه فِي الْغَد، فَدخلت على هيأتي، حَتَّى أتيت بَاب دَار الرجل، وَعَلِيهِ صفف عَظِيمَة، وحاشية كَثِيرَة، فَلم أَسْتَأْذن، وَدخلت بِغَيْر إِذن. فَلَمَّا رأى الْقَوْم ذَلِك، سَأَلُوا بعض أَصْحَابِي عني، فَقَالُوا لَهُم: هَذَا مَنَارَة، رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى صَاحبكُم، فأمسكوا. فَلَمَّا صرت فِي صحن الدَّار، نزلت، وَدخلت مَجْلِسا، رَأَيْت فِيهِ قوما جُلُوسًا، فَظَنَنْت أَن الرجل فيهم، فَقَامُوا إِلَيّ، ورحبوا بِي، وأكرموني. فَقلت: أفيكم فلَان؟ قَالُوا: لَا، نَحن أَوْلَاده، وَهُوَ فِي الْحمام.

فَقلت: استعجلوه. فَمضى بَعضهم يستعجله، وَأَنا أتفقد الدَّار، وَالْأَحْوَال، والحاشية، فَوجدت الدَّار قد ماجت بِأَهْلِهَا موجا شَدِيدا. فَلم أزل كَذَلِك، حَتَّى خرج الرجل، بعد أَن أَطَالَ، واستربت بِهِ، وَاشْتَدَّ قلقي وخوفي من أَن يتَوَارَى. إِلَى أَن رَأَيْت شَيخا قد أقبل بزِي الْحمام، يمشي فِي الصحن، وَحَوله جمَاعَة كهول، وأحداث، وصبيان، هم أَوْلَاده، وغلمان كَثِيرَة، فَعلمت أَنه الرجل. فجَاء حَتَّى جلس، وَسلم عَليّ سَلاما خَفِيفا، وسألني عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ، واستقامة أَمر حَضرته، فَأَخْبَرته بِمَا وَجب. فَمَا انْقَضى كَلَامه حَتَّى جَاءُوهُ بأطباق الْفَاكِهَة، فَقَالَ لي: تقدم يَا مَنَارَة فَكل مَعنا. فَقلت: مَا بِي إِلَى ذَلِك حَاجَة. فَلم يعاودني، وَأَقْبل يَأْكُل هُوَ والحاضرون مَعَه، ثمَّ غسل يَدَيْهِ، ودعا بِالطَّعَامِ، فجاءوه بمائدة حَسَنَة جميلَة، لم أر مثلهَا إِلَّا للخليفة، فَقَالَ: تقدم يَا مَنَارَة فساعدنا على الْأكل، لَا يزِيد على أَن يدعوني باسمي، كَمَا يدعوني الْخَلِيفَة. فامتنعت، فَلم يعاودني، وَأكل هُوَ وَأَوْلَاده، وَكَانُوا تِسْعَة، عددتهم وَجَمَاعَة كَثِيرَة من أَصْحَابه، وحاشيته، وَجَمَاعَة من أَوْلَاده وَأَوْلَاد أَوْلَاده. فتأملت أكله فِي نَفسه، فرأيته أكل الْمُلُوك، وَوجدت جأشه رابطا، وَذَلِكَ الِاضْطِرَاب الَّذِي كَانَ فِي دَاره قد سكن، وَوَجَدته لَا يرفع من بَين يَدَيْهِ

شَيْء، كَانَ على الْمَائِدَة، إِلَّا وهب. وَقد كَانَ غلمانه، لما نزلت الدَّار، أخذُوا جمالي، وَجَمِيع غلماني، فعدلوا بهم إِلَى دَار لَهُ، فَمَا أطاقوا ممانعتهم، وَبقيت وحدي، لَيْسَ بَين يَدي إِلَّا خَمْسَة أَو سِتَّة غلْمَان وقُوف على رَأْسِي. فَقلت فِي نَفسِي: هَذَا جَبَّار عنيد، فَإِن امْتنع عَليّ من الشخوص، لم أطق إشخاصه بنفسي، وَلَا بِمن معي، وَلَا حفظه إِلَى أَن يلحقني أَمِير الْبَلَد، وَجَزِعت جزعا شَدِيدا، ورابني مِنْهُ استخفافه بِي، وتهاونه بأَمْري، وَأَن يدعوني باسمي، وَقلة اكتراثه بامتناعي من الْأكل وَالشرب، وَلَا يسألني عَمَّا جِئْت لَهُ، وَيَأْكُل مطمئنا. وَأَنا أفكر من ذَلِك، إِذْ فرغ من طَعَامه، وَغسل يَدَيْهِ، واستدعى بالبخور، فتبخر، وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة، فصلى الظّهْر صَلَاة حَسَنَة، وَأكْثر من الدُّعَاء والابتهال. فَلَمَّا انْفَتَلَ من محرابه، أقبل عَليّ، وَقَالَ: مَا أقدمك يَا مَنَارَة؟ فَقلت: أَمر لَك من أَمِير الْمُؤمنِينَ، وأخرجت الْكتاب، فَدَفَعته إِلَيْهِ، ففضه، وقرأه، فَلَمَّا استتم قِرَاءَته دَعَا أَوْلَاده، وحاشيته، فَاجْتمعُوا، فَلم أَشك أَنه يُرِيد أَن يُوقع بِي. فَلَمَّا تكاملوا، ابْتَدَأَ فَحلف أيمانا غَلِيظَة، فِيهَا الطَّلَاق، وَالْعتاق، وَالْحج، وَالصَّدَََقَة، وَالْوَقْف، وَالْحَبْس، إِن اجْتمع اثْنَان مِنْهُم فِي مَوضِع، وَأَن يتفرقوا، ويدخلوا مَنَازِلهمْ، وَلَا يظْهر مِنْهُم أحد، إِلَى أَن ينْكَشف لَهُ أَمر يعْمل عَلَيْهِ.

ثمَّ قَالَ: هَذَا كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُرنِي بالمصير إِلَى بَابه، وَلست أقيم بعد نَظَرِي فِيهِ لَحْظَة وَاحِدَة. وَقَالَ لِغِلْمَانِهِ، وَأَوْلَاده: اسْتَوْصُوا بِمن ورائي من الْحرم خيرا، وَمَا بِي حَاجَة أَن يصحبني غُلَام، هَات أقيادك يَا مَنَارَة. فدعوت بهَا، وَكَانَت فِي سفط، فأحضر حدادا، وَمد سَاقيه، فقيدته، وَأمرت غلماني بِحمْلِهِ حَتَّى حصل فِي الْمحمل، وَركبت فِي الشق الآخر، وسرت من وقتي، وَلم ألق أَمِير الْبَلَد، وَلَا غَيره. وسرت بِالرجلِ، لَيْسَ مَعَه أحد، إِلَى أَن صرنا بِظَاهِر دمشق، فابتدأ يحدثني بانبساط، حَتَّى انتهينا إِلَى بُسْتَان حسن فِي الغوطة، فَقَالَ: ترى هَذَا؟ فَقلت: نعم. قَالَ: هُوَ لي، وَفِيه من غرائب الْأَشْجَار كَيْت وَكَيْت، ثمَّ انْتهى إِلَى آخر، فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ انْتهى إِلَى مزارع حسان، وقرى سَرِيَّة، فَأقبل يَقُول: هَذَا لي، ويصف كل شَيْء فِيهَا. فَاشْتَدَّ غيظي مِنْهُ، فَقلت لَهُ: هَل علمت أَنِّي شَدِيد التَّعَجُّب مِنْك؟ قَالَ: وَلم؟ قلت: أَلَسْت تعلم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أهمه أَمرك، حَتَّى أرسل إِلَيْك من انتزعك من بَين أهلك، وولدك، وَمَالك، وأخرجك عَن جَمِيع حالك، وحيدا، فريدا، مُقَيّدا، لَا تَدْرِي مَا يصير إِلَيْهِ أَمرك، وَلَا كَيفَ تكون، وَأَنت مَعَ هَذَا، فارغ الْقلب، تصف بساتينك وضياعك، هَذَا وَقد رَأَيْتُك، وَقد جِئْت، وَأَنت لَا تعلم فيمَ جِئْت، وَأَنت سَاكن الْقلب، قَلِيل الْفِكر، وَقد كنت عِنْدِي شَيخا عَاقِلا. فَقَالَ مجيبا لي: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، أَخْطَأت فراستي فِيك يَا مَنَارَة، قدرتك رجلا كَامِل الْعقل، وَأَنَّك مَا حللت من الْخُلَفَاء هَذَا الْمحل، إِلَّا بعد أَن

عرفوك بذلك، فَإِذا عقلك وكلامك يشبه كَلَام الْعَوام وعقلهم، فَالله الْمُسْتَعَان. أما قَوْلك فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ، وإزعاجه لي من دَاري، وإخراجه إيَّايَ إِلَى بَابه على هَذِه الصُّورَة، فَأَنا على ثِقَة بِاللَّه عز وَجل، الَّذِي بِيَدِهِ نَاصِيَة أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَلَا يملك مَعَه لنَفسِهِ، وَلَا لغيره، ضرا وَلَا نفعا، إِلَّا بِإِذن الله ومشيئته، وَلَا ذَنْب لي عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ أخافه، وَبعد، فَإِذا عرف أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمْرِي، وَعلم سَلامَة جَانِبي، وَصَلَاح ناحيتي، وَأَن الْأَعْدَاء والحسدة، رموني عِنْده بِمَا لست فِي طَرِيقه، وَتَقولُوا عَليّ الأباطيل الكاذبة، لم يسْتَحل دمي، وتحرج من أذاي وإزعاجي، فردني مكرما، أَو أقامني بِبَابِهِ مُعظما، وَإِن كَانَ سبق فِي قَضَاء الله تَعَالَى، أَنه يبدر إِلَيّ ببادرة سوء، وَقد حضر أَجلي، وحان سفك دمي على يَده، فَلَو اجتهدت الْمَلَائِكَة والأنبياء وَأهل السَّمَوَات وَالْأَرْض، على صرف ذَلِك عني، مَا اسْتَطَاعُوا، فَلم أتعجل الْهم، وأتسلف الفكرة وَالْغَم، فِيمَا قد فرغ الله مِنْهُ، وَأَنا حسن الظَّن بِاللَّه الَّذِي خلق ورزق، وَأَحْيَا وأمات وَفطر وجبل، وَأحسن وأجمل، وَأَيْنَ الصَّبْر وَالرِّضَا، والتفويض وَالتَّسْلِيم إِلَى من يملك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَكنت أَحسب أَنَّك تعرف هَذَا، فَإِذا قد عرفت مبلغ فهمك، فَإِنِّي لَا أُكَلِّمك بِكَلِمَة، حَتَّى تفرق بَيْننَا حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ. ثمَّ أعرض عني، فَمَا سَمِعت لَهُ لَفْظَة بِغَيْر الْقُرْآن وَالتَّسْبِيح، أَو طلب مَاء أَو حَاجَة تجْرِي مجْرَاه، حَتَّى شارفنا الْكُوفَة فِي الْيَوْم الثَّالِث عشر بعد الظّهْر، فَإِذا النجب قد استقبلتنا على فراسخ من الْكُوفَة، يتجسسون خبري.

فَلَمَّا رأوني رجعُوا بخبري إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، فانتهيت إِلَى الْبَاب آخر النَّهَار، فَدخلت على الرشيد، فَقبلت الأَرْض، ووقفت بَين يَدَيْهِ. فَقَالَ: هَات مَا عنْدك، وَإِيَّاك أَن تغفل مِنْهُ لَفْظَة وَاحِدَة. فسقت إِلَيْهِ الحَدِيث من أَوله، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى ذكر الْفَاكِهَة وَالطَّعَام وَالْغسْل وَالطهُور والبخور، وَمَا حدثت بِهِ نَفسِي من امْتِنَاعه مني، وَالْغَضَب يظْهر فِي وَجهه ويتزايد، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى فرَاغ الْأمَوِي من الصَّلَاة، وانفتاله، وسؤاله عَن سَبَب مقدمي، ودفعي الْكتاب إِلَيْهِ، ومبادرته إِلَى إِحْضَار وَلَده وأسبابه، وَيَمِينه أَن لَا يتبعهُ أحد مِنْهُم، وَصَرفه إيَّاهُم، وَمد رجلَيْهِ حَتَّى قيدته، فَمَا زَالَ وَجه الرشيد يسفر. فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى مَا خاطبني بِهِ فِي الْمحمل، عِنْد توبيخي إِيَّاه، قَالَ: صدق وَالله، مَا هَذَا إِلَّا رجل مَحْسُود على النِّعْمَة، مَكْذُوب عَلَيْهِ، وَلَقَد أذيناه، ولعمري لقد أزعجناه، وروعناه، وروعنا أَهله، فبادر بِنَزْع قيوده عَنهُ، وائتني بِهِ. فَخرجت، فنزعت قيوده، وأدخلته على الرشيد، فَمَا هُوَ إِلَّا أَن رَآهُ، حَتَّى رَأَيْت مَاء الْحيَاء يَدُور فِي وَجه الرشيد، ودنا الْأمَوِي، فَسلم بالخلافة، ووقف، فَرد عَلَيْهِ الرشيد ردا جميلا، وَأمره بِالْجُلُوسِ، فَجَلَسَ. وَأَقْبل عَلَيْهِ الرشيد، ثمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّه بلغنَا عَنْك فضل همة، وَأُمُور، أحببنا مَعهَا أَن نرَاك، ونسمع كلامك، ونحسن إِلَيْك، فاذكر حوائجك. فَأجَاب الْأمَوِي جَوَابا جميلا، وشكر، ودعا، ثمَّ قَالَ: أما حَاجَتي، فَمَا لي إِلَّا حَاجَة وَاحِدَة. فَقَالَ: مقضية، فَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، تردني إِلَى بلدي، وَأَهلي، وَوَلَدي. فَقَالَ: نَحن نَفْعل ذَلِك، وَلَكِن سل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من صَلَاح جاهك، ومعاشك، فَإِن مثلك لَا يَخْلُو أَن يحْتَاج إِلَى شَيْء من هَذَا.

فَقَالَ: عُمَّال أَمِير الْمُؤمنِينَ منصفون، وَقد اسْتَغْنَيْت بعدله عَن مَسْأَلته، وأموري منتظمة، وأحوالي مُسْتَقِيمَة، وَكَذَلِكَ أُمُور أهل بلدي بِالْعَدْلِ الشَّامِل فِي دولة أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ لَهُ الرشيد: انْصَرف مَحْفُوظًا إِلَى بلدك، وَكتب إِلَيْنَا بِأَمْر إِن عرض لَك، فودعه الْأمَوِي. فَلَمَّا ولى خَارِجا، قَالَ لي الرشد: يَا مَنَارَة، احمله من وقتك، وسر بِهِ رَاجعا كَمَا أتيت بِهِ، حَتَّى إِذا أوصلته إِلَى الْمجْلس الَّذِي أَخَذته مِنْهُ، فَارْجِع وخله، فَفعلت ذَلِك.

ابن الفرات يتحدث عن اعتقاله وتعذيبه

ابْن الْفُرَات يتحدث عَن اعتقاله وتعذيبه حَدثنِي عَليّ بن هِشَام بن عبد الله الْكَاتِب، وَيعرف هِشَام بِأبي قِيرَاط، قَالَ: كنت حَاضرا مَعَ أبي رَحمَه الله، فِي مجْلِس أبي الْحسن بن الْفُرَات، فِي شهر ربيع الأول سنة خمس وَثَلَاث مائَة، وَفِي وزارته الثَّانِيَة، فَسَمعته يتحدث، قَالَ: دخل عَليّ أَبُو الْهَيْثَم الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن ثوابة الْأَنْبَارِي، فِي محبسي بدار المقتدر، فطالبني بكتب خطي بِثَلَاثَة عشر ألف ألف دِينَار. فَقلت: وَالله، مَا جرى قدر هَذَا المَال، على يَدي للسُّلْطَان، فِي طول وزارتي، فَكيف أصادر على مثله؟ فَقَالَ: قد حَلَفت بِالطَّلَاق أَنه لَا بُد من أَنَّك تكْتب خطك بذلك، فَكتبت ثَلَاثَة عشر ألف ألف، من غير مَا أذكر مَا هِيَ، أَو ضمانا فِيهَا.

قَالَ: فَاكْتُبْ دِينَارا، لتبريني من يَمِيني. فَكتبت دِينَارا، ثمَّ ضربت عَلَيْهِ، وأكلت الرقعة، وَقلت لَهُ: قد بَرِئت من يَمِينك، وَلَا سَبِيل لَك إِلَى غير هَذَا مني. فاجتهد بِي، فَلم أجبه إِلَى شَيْء، فحبسني. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، دخل إِلَى الْحَبْس، وَمَعَهُ أم مُوسَى، فطالبني بذلك، وأسرف فِي سبي وشتمي، ورماني بِالزِّنَا. فَحَلَفت بِالطَّلَاق، وَالْعتاق، والأيمان الْمُغَلَّظَة، أَنِّي مَا دخلت فِي مَحْظُور من هَذَا الْجِنْس، من نَيف وَثَلَاثِينَ سنة، وسمته أَن يحلف بِمثل تِلْكَ الْيَمين أَن غُلَامه الْقَائِم على رَأسه، لم يَأْته فِي ليلته تِلْكَ، فأنكرت أم مُوسَى هَذَا الْحَال، وغطت وَجههَا حَيَاء مِنْهُ.

فَقَالَ ابْن ثوابة: إِن هَذَا إِنَّمَا تبطره الْأَمْوَال الَّتِي وَرَاءه، وَمثله فِي ذَلِك، كَمثل المزين مَعَ كسْرَى، والحجام مَعَ الْحجَّاج، فتستأمرين السَّادة، فِي إِنْزَال الْمَكْرُوه بِهِ، حَتَّى يذعن بالأموال. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وَيَعْنِي بالسادة: المقتدر، ووالدته، وخالته

خاطف، ودستنبويه أم ولد المتعضد؛ لأَنهم كَانُوا، إِذْ ذَاك، يدبرون الْأُمُور؛ لحداثة سنّ المقتدر. قَالَ ابْن الْفُرَات: فمضت أم مُوسَى، ثمَّ عَادَتْ، فَقَالَت لِابْنِ ثوابة: السَّادة يَقُولُونَ لَك: صدقت فِيمَا ذكرت، ويدك مُطلقَة فِيهِ. وَكنت فِي دَار ضيقَة، فِي حر شَدِيد، فَأمر بكشف البواري حَتَّى صرت فِي الشَّمْس، ونحي الْحَصِير من تحتي، وأغلق أَبْوَاب الْبيُوت، حَتَّى حصلت فِي الصحن، ثمَّ قيدني بِقَيْد ثقيل، وألبسني جُبَّة صوف قد نقعت فِي مَاء الأكارع، وغلني بغل، وأقفل بَاب الْحُجْرَة وَانْصَرف، فَأَشْرَفت على التّلف. وعددت على نَفسِي ذُنُوبِي، فوجدتني قد عوملت بِمَا عاملت بِهِ النَّاس، من المصادرة، وَنهب الْمنَازل، وَقبض الضّيَاع، وَتَسْلِيم النَّاس إِلَى أعدائهم، وحبسهم، وتقييدهم، وإلباسهم جباب الصُّوف، وهتك حريمهم، وإقامتهم فِي الشموس، وإفرادهم فِي الحبوس. ثمَّ قلت: مَا غللت أحدا، فَكيف غللت؟ ثمَّ تذكرت أَن النَّرْسِي، كَاتب الطَّائِي، كَانَ سلمه إِلَيّ عبيد الله بن

سُلَيْمَان، لمَال عَلَيْهِ، فسلمته إِلَى الْحسن، الْمَعْرُوف بالمعلوف، الْمُسْتَخْرج، وَكَانَ عسوفا، وأمرته بتقييده، وتعذيبه، ومطالبته بِمَال ذكرته لَهُ، فألط بِهِ، فَأمرت بِهِ أَن يغل، ثمَّ تحوبت بعد أَن غل مِقْدَار ساعتين من النَّهَار، فَأمرت بِأخذ الغل عَنهُ. فَلَمَّا جَازَت الساعتان، تذكرت شَيْئا آخر، وَهُوَ أَنه لما قرب سبكرى من الْجَبَل، مَعَ رَسُول صَاحب خُرَاسَان، مأسورا، كتبت إِلَى بعض عُمَّال الْمشرق، بمطالبته بأمواله وودائعه، فَكتب إِلَيّ بإلطاطه، فَكتبت

بِأَن يغل، وَكنت أتغدى، فَلَمَّا غسلت يَدي، تندمت، وتحوبت، فَكتبت بِأَن يحل الغل عَنهُ إِن كَانَ قد غل، فوصل الْكتاب الأول فعل، وَوصل الْكتاب الثَّانِي بعد ساعتين، فَحل عَنهُ، على مَا كتبت بِهِ. فَلَمَّا مَضَت أَربع سَاعَات، إِذا بِصَوْت غلْمَان مجتازين فِي الْمَمَر الَّذِي فِيهِ الْحُجْرَة الَّتِي أَنا مَحْبُوس فِيهَا، فَقَالَ لي الخدم الموكلون بِي: هَذَا بدر الحرمي، وَهُوَ لَك صَنِيعَة. فاستغثت بِهِ، وَصحت: يَا أَبَا الْخَيْر، ألله، ألله، فيَّ، لي عَلَيْك حُقُوق، وَقد ترى حَالي، وَالْمَوْت أسهل مِمَّا أَنا فِيهِ، فتخاطب السَّادة فِي أَمْرِي، وتذكرهم حرمتي، وخدمتي فِي تثبيت دولتهم، إِذْ خذلهم النَّاس، وافتتاحي الْبلدَانِ المنغلقة وإثارتي الْأَمْوَال المنكسرة، فَإِن كَانَ ذَنبي يُوجب الْقَتْل، فالسيف أروح لي، فَرجع، فَدخل إِلَيْهِم، فخاطبهم ورققهم، وَلم يبرح حَتَّى أمروا بِأخذ حديدي، وإدخالي الْحمام، وَأخذ شعري، وتغيير لباسي، وتسليمي إِلَى زَيْدَانَ، وترفيهي

فَجَاءَنِي بذلك، وَقَالَ: يَقُولُونَ لَك: لن ترى بعْدهَا بَأْسا، وأقمت عِنْد زَيْدَانَ، إِلَى أَن رددت إِلَى هَذَا الْمجْلس.

كتاب ابن ثوابة باستيزار ابن الفرات

كتاب ابْن ثوابة باستيزار ابْن الْفُرَات وحَدثني أَبُو مُحَمَّد الْقَاسِم بن هِشَام بن أبي قِيرَاط، أَن أَبَاهُ حَدثهُ، أَنه سمع أَبَا الْحسن بن الْفُرَات. . . .، فَذكر نَحْو هَذَا الحَدِيث، إِلَّا أَنه زَاد: أَن ابْن الْفُرَات لما خرج من هَذِه الشدائد الهائلة، إِلَى الوزارة الثَّانِيَة، أَمر أَبَا الْحسن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن ثوابة، صَاحب ديوَان الرسائل، أَن يكْتب عَن المقتدر بِاللَّه، إِلَى أَصْحَاب الْأَطْرَاف، برده إِيَّاه إِلَى الوزارة، فَكتب إِلَى جَمِيعهم كتابا بنسخة وَاحِدَة، سَمِعت أبي وَغَيره من مَشَايِخ الْكتاب، إِذْ ذَاك، يَقُولُونَ: إِنَّهُم مَا سمعُوا فِي مَعْنَاهُ أحسن مِنْهُ، فأعطانيه أبي، وَأَمرَنِي بحفظه، وتلاه عَليّ الْقَاسِم، فَحفِظت مِنْهُ فصلا، وَهُوَ: لما لم يجد أَمِير الْمُؤمنِينَ بدا مِنْهُ، وَلم يكن بِالْملكِ غنى عَنهُ، انتضاه أَمِير الْمُؤمنِينَ من غمده، فعاود مَا عرف من حَده، ودبر الْأُمُور كَأَن لم يخل مِنْهَا، وأمضاها كَأَن لم يزل عَنْهَا، إِذْ كَانَ الْحول الْقلب، المحنك المدرب، الْعَالم بدرة المَال كَيفَ تحلب، ووجوهه من أَيْن تطلب، وَكَانَ الْكتاب على اخْتِلَاف طبقاتهم، وتباين مرتباتهم، يقفون عِنْده إِذا استبقوا، وينتهون إِلَيْهِ إِذا احتكموا، وَكَانَ هَذَا الِاسْم حَقًا من حُقُوقه، استعير مِنْهُ، ثمَّ رد إِلَيْهِ.

خرج من حبس المقتدر ونصب مستشارا للوزير ابن مقلة

خرج من حبس المقتدر وَنصب مستشارا للوزير ابْن مقلة حَدثنِي عَليّ بن هِشَام أبي قِيرَاط الْكَاتِب، من حفظه، وكتبت بإملائه، قَالَ: تطاول الْحَبْس بِأبي الْحسن عَليّ بن عِيسَى فِي دَار المقتدر، حَتَّى أيس مِنْهُ، فَلَمَّا اجْتمع أَبُو الهيجاء، ونازوك، والطبقة الَّذين تجمعُوا وخلعوا المقتدر

وأجلسوا القاهر، وحصلوا المقتدر فِي دَار مؤنس، كسرت الحبوس، وَنهب بعض دَار المقتدر، فَأَفلَت عَليّ بن عِيسَى من الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ مَحْبُوسًا، فَخرج، فاستتر تِلْكَ الْأَيَّام الثَّلَاثَة الَّتِي كَانَ فِيهَا المقتدر مَحْبُوسًا عِنْد مؤنس، والقاهر متسم بالخلافة. فَلَمَّا جَاءَت الرجالة، بِغَيْر مراسلة من المقتدر لَهُم، وَلَا حِيلَة مِنْهُ فِي أَمر نَفسه، وَإِنَّمَا كَانَ بصنع طريف، وَسُوء تَدْبِير نازوك فِي خطابهم بِمَا كَرهُوا، فثاروا، وَقتلُوا أَبَا الهيجاء، ونازوك، وكبسوا دَار مؤنس، وَأخذُوا المقتدر من يَده، وأعادوه للخلافة، وردوا القاهر إِلَى دَار ابْن طَاهِر، وَظهر ابْن مقلة، وَكَانَ وَزِير المقتدر، وَكَانَ قد استتر.

قَالَ: فَحَدثني أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَبدُوس الجهشياري، وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل زنجي الْكَاتِب، وَأَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الرُّوذَبَارِي، صَاحب الْفضل بن جَعْفَر، قَالُوا: كُنَّا فِي دَار مؤنس، وَالنَّاس يهنونه، وَعلي بن عِيسَى مستتر، فَلم يشْعر إِلَّا وَقد جَاءَ عَليّ بن عِيسَى بطيلسان، وأحفى الْمَسْأَلَة أَن يرد إِلَى الْحَبْس، خوفًا من عواقب الاستتار، وَأَن يُولد عَلَيْهِ أَكثر من الْحَبْس. فَتَلقاهُ مؤنس أحسن لِقَاء وأجمله، واستصوب رَأْيه فِي الظُّهُور، وراسل

المقتدر فِي الْحَال، فَعَاد الْجَواب من المقتدر، بأجمل قَول وَأحسنه، وَأَنه قد رد إِلَى عَليّ بن عِيسَى الإشراف على ابْن مقلة، والاجتماع مَعَه على سَائِر أُمُور المملكة، وَأمر أَن يصل بوصوله، وَأَن لَا ينْفَرد ابْن مقلة بتدبير أَمر دونه، وأفرد عَليّ بن عِيسَى بالمظالم، من غير أَن يكون لِابْنِ مقلة فِيهَا نظر. فَقَالَ لَهُ مؤنس: لَيْسَ يجوز مَعَ هَذَا أَن تلبس الطيلسان، وَعَلَيْك أَن تتلقى هَذَا الإنعام بالشكر. فَانْصَرف عَليّ بن عِيسَى، وَعَاد عشيا وَعَلِيهِ دراعة، وَجلسَ فِي دَار مؤنس، منتظرا مَجِيء الْوَزير ابْن مقلة، إِلَى أَن جَاءَ، فاجتمعا يتفاوضان فِي أُمُور الْأَمْوَال والأعمال. فَقَالَ لَهُ ابْن مقلة: إِن أَبَا بكر مُحَمَّد بن عَليّ المادرائي يطيعك، وَهُوَ من أكبر صنائعك، فَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِحمْل مَال. فَقَالَ عَليّ بن عِيسَى: إِن مصر مَعَ الِاضْطِرَاب الْوَاقِع، ستفور نَارا، لِكَثْرَة الْجَيْش بهَا، وَعظم مَال صلَة الْبيعَة، وَالْوَجْه أَن يكْتب الْوَزير أعزه الله، فَقَالَ مؤنس لِابْنِ مقلة: افْعَل مَا أَشَارَ بِهِ أَبُو الْحسن.

فَقَالَ: لَا يحسن أَن أكتب فِي شَيْء من هَذَا، وَهَذَا الشَّيْخ حَاضر. فَقَالَ أَبُو الْحسن: فَأَنا أكتب بخطي عَنْك، إِلَى مُحَمَّد بن عَليّ، فَإنَّك أَنْت الْوَزير، وكلنَا أعوانك وأتباعك، فسر بذلك ابْن مقلة جدا، وَصَارَت لَهُ عِنْد النَّاس جَمِيعًا منزلَة. ودعا عَليّ بن عِيسَى بِثلث قرطاس، وَكتب فِيهِ، فِي الْحَال، بِغَيْر نُسْخَة، كتابا نسخته: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، أعزّك الله، وَأطَال بقاك، وأكرمك، وَأتم نعْمَته عَلَيْك، وَزَاد فِي إحسانه إِلَيْك، قد عود الله أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، فِي تصاريف أَحْوَاله، ومعقبات أَعماله، وَعند الخطوب إِذا ألمت، والحوادث إِذا أظلت، أَن لَا يخليه من نظر يتيحه لَهُ، وَنعم يجددها عِنْده، ومنح يُضَاعِفهَا لَدَيْهِ، لما يعرفهُ من صفاء نِيَّته، وخلوص طويته، وَحسن سَرِيرَته، لسَائِر رَعيته، عَادَة فِي الصّلاح والإصلاح، هُوَ، عز وَجل، متممها، وموزع الشُّكْر عَلَيْهَا، وَكَانَ جمَاعَة من الْأَوْلِيَاء، وَجُمْهُور الرِّجَال والأصفياء، عدلوا عَن طَرِيق السَّلامَة، وزالوا عَن مَذْهَب الاسْتقَامَة، وحادوا مَا توالى عَلَيْهِم من النِّعْمَة، وَوصل إِلَيْهِم من الْإِحْسَان فِي طول الْمدَّة، وَحَملهمْ الْحِين المتاح لأمثالهم، وَمَا قرب الله من آجالهم، على الْخُرُوج عَن مَدِينَة السَّلَام، بِغَيْر تَدْبِير وَلَا نظام، والمطالبة بِمَا لَا يسْتَحقُّونَ من الأرزاق، على سَبِيل السطوة والاقتدار، غير مفكرين فِي ذميم الْمذَاهب، ووخيم العواقب، مترددين فِي بغيهم، متسكعين فِي جهلهم وغيهم، وأمير الْمُؤمنِينَ، أدام الله عزه، يعدهم بنظره الَّذِي لَا يخلفه، وَالعطَاء الَّذِي لَا يُؤَخِّرهُ، ويتوخاهم بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة، وينهاهم عَن الْأَفْعَال القبيحة الْمُنكرَة، وهم يأبون مَا يَدعُوهُم

إِلَيْهِ، ويسرفون فِي التحكم وَالْبَغي عَلَيْهِ، إِلَى أَن أداهم الْجَهْل والطغيان والتمرد والعصيان، إِلَى إحضارهم دَار المملكة من لقبوه بالخلافة يَوْمًا وَاحِدًا، ثمَّ صرف عَنْهَا، وأمير الْمُؤمنِينَ، أيده الله تَعَالَى، يعْمل فكره ورويته فِي حل نظامهم، وحسم مواد اجْتِمَاعهم، وتشتيت كلمتهم، وتفريق جَمَاعَتهمْ، حَتَّى يتَمَكَّن مِنْهُم تمَكنا يفت فِي أعضادهم، ويوهن من عنادهم، ثمَّ يعْفُو عَمَّن يرى الْعَفو عَنهُ، ويوقع الْقصاص على من يُوجب الْحق الْقصاص مِنْهُ، فَلم تكن إِلَّا وقْعَة من الوقعات، وَسَاعَة من السَّاعَات، حَتَّى أخلف الله آمالهم، وأكذب أطماعهم وبدد شملهم، وَخيَّب سَعْيهمْ، وأكبى زندهم، وانفضوا بعد أَن استلحم من كَانَ مضرما للفتنة، وملهبا للنائرة، وَعَاد أَمِير الْمُؤمنِينَ، أيده الله، على البَاقِينَ بالصفح الشَّامِل والإنعام الْكَامِل، وتغمد هفوتهم، وأقال عثرتهم، وَأحسن صلتهم، واستأنف أفضل الْأَحْوَال بهم، وعادت الْأُمُور كَمَا كَانَت، وتكشفت الخطوب وزالت وخلصت النيات وصلحت، وهدأت الرّعية وسكنت، وَقد تكفل الله، عز وَجل، بنصر أَمِير الْمُؤمنِينَ، وتشييد أَرْكَان عزه، وَالله يحِق الْحق، وَيبْطل الْبَاطِل، وَلَو كره المجرمون، فأجر أعمالك، أعزّك الله، على أجمل مَا تجريها عَلَيْهِ، وَأحسن سيرتك فِيهَا، مُسْتَعْملا فِيهَا أجد الْجد، وأبلغ التشمير، حَتَّى تسهل صعابها، وتدر أحلابها، وتجري على أحسن مجاريها، وأجمل تأتيها، وَاحْذَرْ أَن ترخص لنَفسك فِي تَأْخِير الْحمل، فَتخرج إِلَى التَّأْنِيث والعذل، وبادر الْجَواب عَن هَذَا الْكتاب، لأعرضه على أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ،

فَإِنَّهُ يتوكفه، ويراعيه، ويتشوفه، وَالدُّعَاء لَهُ، وَكتب يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من الْمحرم سنة سبع عشرَة وَثَلَاث مائَة.

من مكارم القاضي أحمد بن أبي دؤاد

من مَكَارِم القَاضِي أَحْمد بن أبي دؤاد أ - سيد الْعَرَب أَحْمد بن أبي دؤاد أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر الصولي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن خَلاد، قَالَ: رفع بعض الْعمَّال إِلَى المعتصم، وَكَانَ يَلِي الْخراج بِموضع يَلِي فِيهِ خَالِد بن يزِيد الْحَرْب، أَن خَالِد بن يزِيد اقتطع الْأَمْوَال واحتجن بَعْضهَا. فَغَضب المعتصم، وَحلف ليأخذن أَمْوَال خَالِد، ويعاقبه.

فلجأ خَالِد إِلَى أَحْمد بن أبي دؤاد القَاضِي، فاحتال حَتَّى جمع بَينه وَبَين خَصمه، فَلم تقم على خَالِد حجَّة. فَعرف ابْن أبي دؤاد المعتصم ذَلِك، وشفع إِلَيْهِ فِي خَالِد، فَلم يشفعه. وأحضر خَالِدا، وأحضر آلَات الْعقُوبَة، وَقد كَانَ قبل ذَلِك، قبض أَمْوَاله، وضياعه، وَصَرفه عَن الْعَمَل. وَحضر ابْن أبي دؤاد الْمجْلس، فَجَلَسَ دون النَّاس. فَقَالَ لَهُ المعتصم: ارْتَفع إِلَى مَكَانك. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا أستحق إِلَّا دون الْمجْلس. قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: النَّاس يَزْعمُونَ أَن لَيْسَ محلي مَحل من شفع فِي رجل قرف بِمَا لم يَصح عَلَيْهِ فَلم يشفع. قَالَ: ارْتَفع إِلَى موضعك. قَالَ: مشفعا أَو غير مُشَفع؟

قَالَ: مشفعا، قد وهبت لَك خَالِدا، ورضيت عَنهُ. قَالَ: النَّاس لَا يعلمُونَ بِهَذَا. قَالَ: وَقد رددت عَلَيْهِ العمالة، والضياع، وَالْأَمْوَال الَّتِي لَهُ. قَالَ: ويشرفه أَمِير الْمُؤمنِينَ بخلع تظهر للعامة. فَأمر أَن تفك قيوده ويخلع عَلَيْهِ، فَفعل بِهِ ذَلِك، ورد إِلَى حَضرته. فَقَالَ ابْن أبي دؤاد: قد اسْتحق هُوَ وَأَصْحَابه رزق سِتَّة أشهر، فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَن يَجْعَلهَا صلَة لَهُ. قَالَ: لتحمل مَعَه. فَخرج خَالِد، وَالنَّاس منتظرون الْإِيقَاع بِهِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ على تِلْكَ الْحَال سروا، وَصَاح بِهِ رجل: الْحَمد لله على خلاصك يَا سيد الْعَرَب. فَقَالَ: مَه، سيد الْعَرَب، وَالله، ابْن أبي دؤاد، الَّذِي طوقني هَذِه المكرمة الَّتِي لَا تنفك من عنقِي أبدا، لَا أَنا. وَفِي هَذِه الْقَضِيَّة، يَقُول أَبُو تَمام الطَّائِي: يَا سائلي عَن خَالِد وفعاله ... رد فاغترف علما بِغَيْر رشاء قد كَانَ خطب عاثر فأقاله ... رَأْي الْخَلِيفَة كَوْكَب الْخُلَفَاء فَخرجت مِنْهُ كالشهاب وَلم تزل ... مذ كنت خراجا من الغماء مَا سرني بِخُرُوجِهِ من حجَّة ... مَا بَين أندلس إِلَى صنعاء

ب - إطلاق الكتاب من حبس الواثق

ب - إِطْلَاق الْكتاب من حبس الواثق حَدثنِي عَليّ بن هِشَام، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْحسن عَليّ بن عِيسَى، يتحدث، قَالَ: سَمِعت عبيد الله بن سُلَيْمَان بن وهب، يَقُول: حَدثنِي أبي، قَالَ: كنت وَأَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْخَطِيب، مَعَ خلق من الْعمَّال وَالْكتاب معتقلين فِي يَدي مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات، فِي آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادراتنا، وَنحن آيس مَا كُنَّا من الْفرج، إِذْ اشتدت عِلّة الواثق، وحجب سِتَّة أَيَّام عَن النَّاس، فَدخل عَلَيْهِ أَبُو عبد الله أَحْمد بن أبي دؤاد القَاضِي، فَقَالَ لَهُ الواثق: يَا أَبَا عبد الله، وَكَانَ يكنيه، ذهبت مني الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. قَالَ: كلا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: بلَى، أما الدُّنْيَا، فقد ذهبت مني بِمَا ترى من حُضُور الْمَوْت، وَذَهَبت مني الْآخِرَة، بِمَا أسلفت من عمل الْقَبِيح، فَهَل عنْدك من دَوَاء؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد غَرَّك مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات فِي الْكتاب والعمال، وملأ بهم الحبوس، وَلم يحصل من جهتهم على كَبِير شَيْء، وهم عدد كثير، ووراءهم ألف يَد ترفع إِلَى الله تَعَالَى بِالدُّعَاءِ عَلَيْك، فتأمر بإطلاقهم، لترتفع تِلْكَ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ لَك، فَلَعَلَّ الله أَن يهب لَك الْعَافِيَة، وعَلى كل حَال، فَأَنت مُحْتَاج إِلَى أَن تقل خصومك. فَقَالَ: نعم مَا أَشرت بِهِ، وَقع عني إِلَيْهِ بإطلاقهم. فَقَالَ: إِن رأى خطي، عاند ولج، وَلَكِن يغتنم أَمِير الْمُؤمنِينَ الثَّوَاب، ويتساند، وَيحمل على نَفسه، ويوقع بِخَطِّهِ.

فَوَقع الواثق، بِخَط مُضْطَرب إِلَى ابْن الزيات بإطلاقهم، وَإِطْلَاق كل من فِي الحبوس، من غير استئمار وَلَا مُرَاجعَة. فَقَالَ ابْن أبي دؤاد: يتَقَدَّم أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى إيتاخ أَن يمْضِي بالتوقيع، وَلَا يَدعه يعْمل شَيْئا، أَو يُطْلِقهُمْ، وَأَن يحول بَينه وَبَين الْوُصُول إِلَيْك، أَو كتب رقْعَة، أَو اشْتِغَاله بِشَيْء أَلْبَتَّة، إِلَّا بعد إِطْلَاقهم، وَإِن لقِيه فِي الطَّرِيق أنزلهُ عَن دَابَّته، وَأَجْلسهُ على غاشيته فِي الطَّرِيق، حَتَّى يفرغ من ذَلِك. فَتوجه إيتاخ، فلقي ابْن الزيات رَاكِبًا يُرِيد دَار الْخَلِيفَة. فَقَالَ لَهُ: تنزل عَن دابتك، وتجلس على غاشيتك. فارتاع، وَظن أَنه قد وَقع بِهِ الْحَال، فَنزل، وَجلسَ على غاشيته، فأوصل إِلَيْهِ التوقيع، فَامْتنعَ، وَقَالَ: إِذا أطلقت هَؤُلَاءِ فَمن أَيْن أنْفق الْأَمْوَال، وأقيم الأنزال؟ فَقَالَ لَهُ: لَا بُد من ذَلِك. فَقَالَ: أركب إِلَيْهِ وأستأذنه. فَقَالَ: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل. قَالَ: فَدَعْنِي أكاتبه. قَالَ: وَلَا هَذَا. قَالَ: فَمَا تَركه يبرح من مَوْضِعه، حَتَّى وَقع بِإِطْلَاق النَّاس. فَصَارَ إيتاخ إِلَيْنَا، وَنحن فِي الْحَبْس، آيس مَا كُنَّا من الْفرج، وَقد بلغنَا شدَّة عِلّة الواثق، وَأَن قد أرجف لِابْنِهِ بالخلافة، وَكَانَ صَبيا، فخفنا أَن يتم

ذَلِك، فَيجْعَل ابْن الزيات الصَّبِي شبحا، ويتولى التَّدْبِير فيتلفنا، وَقد امتنعنا لفرط الْغم من الْأكل. فَلَمَّا دخل علينا إيتاخ، لم نشك أَنه قد حضر لبلية، فأطلقنا، وعرفنا الصُّورَة، فدعونا للخليفة، وَلأَحْمَد بن أبي دؤاد، وانصرفنا إِلَى مَنَازلنَا لَحْظَة، ثمَّ خرجنَا، فوقفنا لأبي عبد الله دؤاد على الطَّرِيق، نَنْتَظِر عوده من دَار الْخَلِيفَة عشيا. فحين رَأَيْنَاهُ ترجلنا لَهُ، فَقَالَ: لَا تَفعلُوا، وأكبر ذَلِك، ومنعنا من التَّرَجُّل، فَلم نمتنع ودعونا لَهُ وشكرناه. فَوقف حَتَّى ركبنَا وسايرناه، وَأخذ يخبرنا بالْخبر، وَنحن نشكره، وَهُوَ يستصغر مَا فعل، وَيَقُول: هَذَا أقل حقوقكم، وَكَانَ الَّذِي لقِيه أَنا وَأحمد بن الخصيب. وَقَالَ لنا: ستعلمان مَا أَفعلهُ مستأنفا. ثمَّ رَجَعَ ابْن أبي دؤاد إِلَى دَار الْخَلِيفَة عشيا، فَقَالَ لَهُ الواثق: قد تبركت بِرَأْيِك يَا أَبَا عبد الله، وَوجدت خفَّة من الْعلَّة، ونشطت للْأَكْل، فَأكلت وزن خَمْسَة دَرَاهِم خبْزًا بصدر دراج. فَقَالَ لَهُ أَبُو عبد الله: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، تِلْكَ الْأَيْدِي الَّتِي كَانَت تَدْعُو عَلَيْك غدْوَة، صَارَت تَدْعُو لَك عَشِيَّة، وَيَدْعُو لَك بسببهم خلق كثير من رعيتك،

جـ - إنقاذ أبي دلف من موت محقق

إِلَّا أَنهم قد صَارُوا على دور خراب، وأحوال قبيحة، بِلَا فرش، وَلَا كسْوَة، وَلَا دَوَاب، وَلَا ضيَاع، موتى جوعا وهزالا. قَالَ: فَمَا ترى؟ قَالَ: فِي الخزائن والاصطبلات بقايا مَا أَخذ مِنْهُم، فَلَو أمرت أَن ينظر فِي ذَلِك، فَكل من وجد لَهُ شَيْء بَاقٍ من هَذَا رد عَلَيْهِ، وأطلقت لَهُم ضياعهم، لعاشوا، وخف الْأَلَم وتضاعف الدُّعَاء، وقويت الْعَافِيَة. قَالَ: فَوَقع عني بذلك، فَوَقع عَنهُ أَحْمد بن أبي دؤاد. فَمَا شعرنَا من الْغَد، إِلَّا وَقد رجعت علينا نعمتنا، وَمَات الواثق بعد ثَلَاثَة أَيَّام. وَفرج الله عَنَّا بِابْن أبي دؤاد، وَبقيت لَهُ هَذِه المكرمة الْعَظِيمَة فِي أعناقنا. وَقد ذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس هَذَا الْخَبَر، فِي كتاب الوزراء، عَن مُحَمَّد بن دَاوُد بن الْجراح، عَن عبيد الله بن سُلَيْمَان، بِمَا يقرب من هَذِه الْأَلْفَاظ، وَالْمعْنَى وَاحِد، إِلَّا أَنه لم يذكر أَنه كَانَ مَعَهم فِي الْحَبْس أَحْمد بن الخصيب. جـ - إنقاذ أبي دلف من موت مُحَقّق حَدثنِي أبي رَضِي الله عَنهُ، فِي المذاكرة، بِإِسْنَاد لست أقوم عَلَيْهِ؛ لِأَنِّي لم أكتبه فِي الْحَال، قَالَ: كَانَ ابْتِدَاء الْعَدَاوَة بَين أبي عبد الله أَحْمد بن أبي دؤاد وَبَين الإفشين،

أَن الإفشين كَانَ أغرى المعتصم بِأبي دلف الْقَاسِم بن عِيسَى الْعجلِيّ؛ لعداوة كَانَت بَينهمَا، فسلمه إِلَيْهِ المعتصم، فأجمع على قَتله من يَوْمه ذَاك. وَبلغ الْخَبَر أَبَا دلف، فارتحل على ابْن أبي دؤاد، فَاسْتَجَارَ بِهِ، وعرفه مَا قد أشرف عَلَيْهِ. فجَاء ابْن أبي دؤاد إِلَى المعتصم ليسأله عَن أمره، فَوَجَدَهُ نَائِما، فكره أَن

يقيمه وينبهه، وَخَافَ أَن يشرع الإفشين فِي قتل أبي دلف، فجَاء إِلَى الإفشين، فَقَالَ لَهُ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ، بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ أَن تحدث على الْقَاسِم بن عِيسَى حَادِثَة، وَالله لَئِن فعلت لأَقْتُلَنك، وَلم يكن المعتصم أرْسلهُ، وَلَا قَالَ لَهُ شَيْئا. فرهب الإفشين أَن يقتل أَبَا دلف. وَعَاد ابْن أبي دؤاد إِلَى المعتصم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَيْسَ الْكذَّاب من أصلح بَين النَّاس» ، فَقَالَ خيرا، ومنَّى خيرا، وَقد أدّيت عَنْك رِسَالَة أَحييت بهَا أهل بَيت من الْمُسلمين، وكففت بهَا أسياف خلق من الْعَرَب، بَلغنِي أَن الإفشين عزم على قتل الْقَاسِم بن عِيسَى الْعجلِيّ، فأديت إِلَيْهِ عَنْك رِسَالَة هِيَ كَذَا وَكَذَا، فحقنت دم الرجل، ونعشت عِيَاله، وكففت عَنْك عصيان عجل وَمن يتبعهَا مِمَّن يتعصب لَهُ، فيتفق عَلَيْك من ذَلِك مَا تغتم بِهِ، وَالرجل فِي يَده مشف على الْقَتْل. فَقَالَ لَهُ المعتصم: قد أَحْسَنت. وَوجه الإفشين إِلَى ابْن أبي دؤاد: لَا تَأتِينِي، وَلَا تقربني. فَقَالَ للرسول: أتؤدي عني كَمَا أدّيت إِلَيّ؟ قَالَ: قل. قَالَ: قل لَهُ: مَا آتِيك تعززا من ذلة، وَلَا تكثرا من قلَّة، وَإِنَّمَا أَنْت رجل ساعدك زمَان، ورفعك سُلْطَان، فَإِن جئْتُك فَلهُ، وَإِن تَأَخَّرت عَنْك فلنفسك. أَخْبرنِي القَاضِي أَبُو طَالب مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته عَنهُ، بَعْدَمَا سمعته مِنْهُ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف، وَكِيع القَاضِي، قَالَ: أخبرنَا مُوسَى بن جَعْفَر، أَخُو يعِيش الْكَاتِب، قَالَ:

كَانَ أَحْمد بن أبي دؤاد حِين ولي المعتصم الْخلَافَة، عادى الإفشين وحرض عَلَيْهِ المعتصم، وَذكر حَدِيثا طَويلا، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. ثمَّ قَالَ فِيهِ: وَكَانَ سَبَب الْعَدَاوَة بَين أَحْمد بن أبي دؤاد، وَبَين الإفشين، أَن الإفشين أَرَادَ قتل أبي دلف الْقَاسِم بن عِيسَى الْعجلِيّ، فَاسْتَجَارَ بِابْن أبي دؤاد، ثمَّ ذكر نَحوا مِمَّا ذكرته عَن أبي رَضِي الله عَنهُ، إِلَّا أَنه لم يقل فِي خَبره أَن ابْن أبي دؤاد جَاءَ إِلَى المعتصم فَوَجَدَهُ نَائِما، ثمَّ عَاد فَوَجَدَهُ قد انتبه، وَقَالَ فِي آخر حَدِيثه: وَإِنَّمَا أَنْت رجل رفعتك دولة، فَإِن جِئْت فلهَا وَإِن قعدت فعنك. وَأَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر: كَانَ أَبُو دلف الْقَاسِم بن عِيسَى الْعجلِيّ، فِي جملَة من كَانَ مَعَ الإفشين خيذر بن كاوس لما خرج لمحاربة بابك، ثمَّ تنكر لَهُ، فَوجه من جَاءَهُ بِهِ ليَقْتُلهُ. وَبلغ المعتصم الْخَبَر، فَبعث إِلَيْهِ بِأَحْمَد بن أبي دؤاد، وَقَالَ لَهُ: أدْركهُ، وَمَا أَرَاك تُدْرِكهُ، واحتل فِي خلاصه مِنْهُ كَيفَ شِئْت. قَالَ أَحْمد: فمضيت ركضا حَتَّى وافيته، فَإِذا أَبُو دلف وَاقِف بَين يَدَيْهِ، وَقد أَخذ بِيَدِهِ غلامان لَهُ تركيان، فرميت بنفسي على الْبسَاط، وَكنت إِذا جِئْته دَعَا لي بمصلى. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا حملك على هَذَا؟ قلت: أَنْت أجلستني هَذَا الْمجْلس، ثمَّ كَلمته فِي الْقَاسِم بن عِيسَى، وَسَأَلته فِيهِ، وخضعت لَهُ، فَجعل لَا يزْدَاد إِلَّا غلظة. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك مِنْهُ، قلت: هَذَا عبد، وَقد أغرقت فِي الرقة مَعَه فَلم تَنْفَع، وَلَيْسَ إِلَّا أَخذه بالرهبة. فَقُمْت، وَقلت: كم تراك قدرت فِي نَفسك تقتل أَوْلِيَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ وَاحِدًا بعد وَاحِد، وتخالف أمره فِي قَائِد بعد قَائِد؟ قد حملت إِلَيْك هَذِه الرسَالَة عَن

أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَمَا تَقول؟ فَقل، وذل، حَتَّى لصق بِالْأَرْضِ، وَبَان لي الِاضْطِرَاب فِيهِ. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك، نهضت إِلَى أبي دلف، فَأخذت بِيَدِهِ، وَقلت: قد أَخَذته بِأَمْر أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: لَا تفعل، يَا أَبَا عبد الله. فَقلت: قد فعلت، وأخرجت الْقَاسِم، وَحَمَلته على دَابَّة، ووافيت المعتصم. فَلَمَّا بصر بِي، قَالَ: بك يَا أَبَا عبد الله وريت زنادي، ثمَّ سرد عَليّ خبري مَعَ الإفشين، حَدِيثا مَا أَخطَأ فِيهِ حرفا. ثمَّ سَأَلَني: هَل هُوَ كَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرته أَنه لم يُخطئ حرفا وَاحِدًا. وَأَخْبرنِي أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، الْمَعْرُوف بالحاتمي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي جدك المظفر بن الْحسن، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات، قَالَ: حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن ثوابة، قَالَ: كَانَ الإفشين نقم على أبي دلف الْعجلِيّ، وَهُوَ مضموم إِلَيْهِ فِي حَرْب بابك، أَشْيَاء، فَلَمَّا ظفر ببابك، وَقدم سر من رأى، شكاه إِلَى المعتصم، وَسَأَلَهُ ليأمره بِهِ، فَفعل، ثمَّ سَأَلَهُ أَن يُطلق يَده عَلَيْهِ، فَلم يفعل، وَكَانَ أَحْمد بن أبي دؤاد متعصبا لأبي دلف، يَقُول للمعتصم: إِن الإفشين ظَالِم لَهُ، وَإِنَّمَا نقم عَلَيْهِ نصيحته فِي محاربة بابك، وجده فِيهَا، وَدفعه مَا كَانَ الإفشين يذهب إِلَيْهِ من مطاولة الْأَيَّام، وإنفاق الْأَمْوَال وانبساط الْيَد فِي الْأَعْمَال، وَتَركه مُتَابَعَته على ذَلِك. فألح الإفشين على المعتصم بِاللَّه فِي إِطْلَاق يَده عَلَيْهِ، وَكَانَ للإفشين قدر جليل عِنْد المعتصم، يدْخل عَلَيْهِ بِغَيْر إِذن.

قَالَ أَبُو إِسْحَاق: وأنبأنا أَبُو عبد الله بن أبي دؤاد، قَالَ: دخلت على المعتصم يَوْمًا، فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الله، لم يدعني الْيَوْم أَبُو الْحسن الإفشين حَتَّى أطلقت يَده على الْقَاسِم بن عِيسَى. فَقُمْت من بَين يَدَيْهِ، وَمَا أبْصر شَيْئا خوفًا على أبي دلف، ودخلني أَمر عَظِيم، وَخرجت فركبت دَابَّتي، وسرت أَشد سير من الْجَوْسَقِ إِلَى دَار الإفشين بِقرب الْمَطِيرَة، أُؤَمِّل أَن أدْرك أَبَا دلف قبل أَن يحدث الإفشين عَلَيْهِ حَادِثَة. فَلَمَّا وقفت بِبَابِهِ، كرهت أَن أَسْتَأْذن فَيعلم أَنِّي قد حضرت بِسَبَب أبي دلف، فيعجل عَلَيْهِ فَدخلت على دَابَّتي إِلَى الْموضع الَّذِي كنت أنزل فِيهِ، وأوهمت حَاجِبه أَنِّي قد جِئْت برسالة المعتصم، ثمَّ نزلت، فَرفع السّتْر، فَدخلت، فَوجدت الإفشين فِي مَوْضِعه، وَأَبُو دلف مُقَيّد بالحديد بَين يَدَيْهِ فِي نطع، وَهُوَ يقرعه ويخاطبه بأشد غضب وَأعظم مُخَاطبَة. فحين قربت مِنْهُ أمسك فَسلمت، وَأخذت مجلسي، ثمَّ قلت للإفشين: قد عرفت حرمتي بأمير الْمُؤمنِينَ، وخدمتي إِيَّاه، وَمَوْضِعِي عِنْده، وموقعي من رَأْيه، وتفرده بالصنيعة عِنْدِي وَالْإِحْسَان، وَعلمت مَعَ ذَلِك ميلي إِلَيْك، ومحبتي لَك، وَقد رغبت إِلَيْك فِيمَا يرغب فِيهِ مثلي إِلَى مثلك، مِمَّن رفع الله قدره، وَأجل خطره وَأَعْلَى همته. فَقَالَ: كل مَا قلت كَمَا قلت، وكل مَا أردْت فَهُوَ مبذول لَك، خلا هَذَا الْجَالِس، فَإِنِّي لَا أشفعك فِيهِ. فَقلت: مَا جئْتُك إِلَّا فِي أمره، وَلَا ألتمس مِنْك غَيره، وَلَوْلَا شدَّة غضبك، وَمَا تتوعده بِهِ من الْقَتْل، لَكَانَ فِي جميل عفوك مَا يُغني عَن كلامك، وَلَكِنِّي لما عرفت غيظك، وَمَا تنقمه عَلَيْهِ احتجت، مَعَ موقعه مني، إِلَى كلمة فِي أمره، واستيهاب عَظِيم جرمه، إِذْ كَانَ مثلك فِي جلالتك إِنَّمَا يسْأَل جلائل الْأُمُور.

فَقَالَ: يَا أَبَا عبد الله، هَذَا رجل طلب دمي، وَلم تقنعه إِزَالَة نعمتي، وَلَا سَبِيل إِلَى تشفيعك فِيهِ، وَلَكِن هَذَا بَيت مَالِي، وَهَذِه ضياعي، وكل مَا أملك بَين يَديك، فَخذ من ذَلِك كُله مَا أردْت. فَقلت: بَارك الله لَك فِي أموالك وَثَمَرهَا، لم آتِك فِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَتَيْتُك فِي مكرمَة يبْقى لَك فَضلهَا، وَحسن أحدوثتها، وتعتقد بهَا منَّة فِي عنقِي، وَلَا أَزَال مرتهنا فِي شكرها. فَقَالَ: مَا عِنْدِي فِي هَذَا شَيْء أَلْبَتَّة. فَقلت لَهُ: الْقَاسِم بن عِيسَى فَارس الْعَرَب وشريفها، فاستبقه، وأنعم عَلَيْهِ، فَإِن لم تره لهَذَا أَهلا، فهبه للْعَرَب كلهَا، وَأَنت تعلم أَن مُلُوك الْعَجم لم تزل تفضل على مُلُوك الْعَرَب، وَمن ذَلِك مَا كَانَ من كسْرَى إِلَى النُّعْمَان حَتَّى ملكه، وَأَنت الْآن بَقِيَّة الْعَجم وشريفها، وَالقَاسِم شرِيف الْعَرَب، فَكُن الْيَوْم شريفا من الْعَجم أنعم على شرِيف من الْعَرَب وَعَفا عَنهُ. فَقَالَ: مَا عِنْدِي فِي هَذَا جَوَاب إِلَّا مَا سَمِعت، وتنكر، وتبينت الشَّرّ فِي وَجهه. فَقلت فِي نَفسِي: أنصرف، وأدع هَذَا يقتل أَبَا دلف؟ لَا وَالله، وَلَكِن أمثل بني يَدَيْهِ قَائِما، وأكلمه، فَلَعَلَّهُ أَن يستحي، فَقُمْت، وتوهمني أُرِيد الِانْصِرَاف، فتحفز لي. فَقلت: لست أُرِيد الِانْصِرَاف، وَإِنَّمَا مثلت بَين يَديك قَائِما، صَابِرًا، رَاغِبًا، ضارعا، سَائِلًا، مستوهبا هَذَا الرجل مِنْك. فَكَانَ جَوَابه أغْلظ. فتحيرت، وَقلت فِي نَفسِي: أنكب على رَأسه، فأقبله، فدخلني من

ذَلِك أنف شَدِيد، وَقلت فِي نَفسِي: أقبل رَأس هَذَا الأقلف؟ لَا يكون هَذَا أبدا. ثمَّ راجعتني الشَّفَقَة على أبي دلف، فَقبلت رَأسه، وضرعت إِلَيْهِ، فَلم يجبني، فأخذني مَا قدم وَمَا حدث. فَجَلَست، وَقلت لَهُ: يَا أَبَا الْحسن، قد طلبت مِنْك، وضرعت إِلَيْك، وَوضعت خدي لَك، ومثلت بَين يَديك، وَقبلت رَأسك، فشفعني واصرفني شاكرا، فَهُوَ أجمل بك. فَقَالَ: لَا وَالله، مَا عِنْدِي غير الَّذِي قلته لَك. فَقلت لَهُ: أَنا رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَيْك، وَهُوَ يَقُول لَك: لَا تحدث فِي الْقَاسِم بن عِيسَى حَدثا، فَإنَّك إِن قتلته قتلت بِهِ. قَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول هَذَا بعد أَن أطلق يَدي عَلَيْهِ؟ قلت: نعم، أَنا رَسُوله إِلَيْك بِمَا قلته لَك، فَإِن كنت فِي الطَّاعَة فاسمع وأطع، وَإِن كنت قد خلعت، فَقل: لَا طَاعَة، ونفضت فِي وَجهه يَدي، ونهضت. فاضطرب حَتَّى لم يقدر أَن يَدْعُو لي بدابتي. وَركبت، فأغذذت السّير إِلَى المعتصم؛ لأخبره الْخَبَر، وَبِمَا اضطررت إِلَيْهِ من تأدية رسَالَته، لِأَنِّي علمت أَنه لم يقل لي مَا قَالَه، إِلَّا وَهُوَ يحب اسْتِبْقَاء أبي دلف. فانتهيت إِلَى الْجَوْسَقِ فِي وَقت حَار، والحجاب جَمِيعًا نيام، وَالدَّار خَالِيَة، فَدخلت حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى ستر الدَّار الَّتِي فِيهَا المعتصم، فَجَلَست، وَقلت:

إِن جَاءَ الإفشين دخلت مَعَه وتكلمت، وَإِن سَأَلَ الْوُصُول، أخْبرت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْخَبَر كُله. فَبينا أَنا كَذَلِك، إِذْ خرج خَادِم من وَرَاء السّتْر، فعرفته، ثمَّ دخل، وَخرج، فَقَالَ: ادخل. فَدخلت، وَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أما لي حُرْمَة؟ أما لي ذمام؟ أما لي حق؟ أما فِي فضل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ وَنعمته عِنْدِي، مَا تجب رعايته؟ فَقَالَ: مَا لَك يَا أَبَا عبد الله؟ مَا قصتك؟ اجْلِسْ، فَجَلَست. ثمَّ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قلت لي الْيَوْم فِي الْقَاسِم بن عِيسَى قولا علمت مَعَه أَنَّك أردْت استبقاءه وحقن دَمه، فمضيت من فوري إِلَى أبي الْحسن الإفشين، ثمَّ قصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة إِلَى مَوضِع الرسَالَة الَّتِي أديتها عَنهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي كل ذَلِك يتغيظ، ويفتل سباله، حَتَّى إِذا أردْت أَن أعرفهُ الرسَالَة الَّتِي أديتها عَنهُ، قطع، وَقَالَ: يمْضِي قَاضِي، وصنيعتي أَحْمد بن أبي دؤاد إِلَى خيذر، فيخضع لَهُ، وَيقف بَين يَدَيْهِ، وَيقبل رَأسه، فَلَا يشفعه؟ قتلني الله إِن لم أَقتلهُ، يكررها. فَمَا استوفى كَلَامه، حَتَّى رفع السّتْر وَدخل الإفشين، فَلَقِيَهُ بأكبر الْبر وَالْإِكْرَام، وَأَجْلسهُ بِقُرْبِهِ، وَقَالَ: فِي هَذَا الْوَقْت الْحَار يَا أَبَا الْحسن؟ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، رجل قد عرفت مَا نالني مِنْهُ، وَأَنه طلب دمي، وَقد أطلقت يَدي عَلَيْهِ، يجيئني هَذَا، وَيَقُول لي: إِنَّك بعثت إِلَيّ تَأْمُرنِي أَن لَا أحدث فِيهِ حَدثا، وَأَنِّي إِن قتلته قتلت بِهِ؟ قَالَ: فَغَضب، وَقَالَ: أَنا أَرْسلتهُ إِلَيْك، فَلَا تحدث على الْقَاسِم بن عِيسَى حَدثا. فَنَهَضَ الإفشين مغضبا يدمدم، واتبعته لأتلافاه، فصاح بِي المعتصم:

ارْجع يَا أَبَا عبد الله، فَرَجَعت، وَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه كَانَ بَقِي شَيْء مِمَّا جرى مني قطعتني بكلامك عَن ذكره لَك. قَالَ: تَعْنِي الرسَالَة؟ قلت: نعم. قَالَ: قد فهمتها، وَالقَاسِم يوافيك العشية، فاحذر أَن تفوه بِشَيْء مِمَّا جرى. وَمضى الإفشين، فَأطلق الْقَاسِم، وخلع عَلَيْهِ، وَحمله، فَجَاءَنِي الْقَاسِم من العشية. وَمَا أخْبرت بِالْحَدِيثِ حَتَّى قتل الإفشين، وَمَات المعتصم.

الصريفيني الكاتب يعلم العمال حسن الصرف

الصريفيني الْكَاتِب يعلم الْعمَّال حسن الصّرْف حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن هِشَام، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْحسن عَليّ بن عِيسَى، وَأَبا الْحسن الْإِيَادِي الْكَاتِب، يَقُولَانِ: إنَّهُمَا سمعا عبيد الله بن سُلَيْمَان، يَقُول: كنت بِحَضْرَة أبي، فِي ديوَان الْخراج بسر من رأى، وَهُوَ يَتَوَلَّاهُ، إِذْ ذَاك، إِذْ دخل علينا أَحْمد بن خَالِد الصريفيني الْكَاتِب، فَقَامَ لَهُ أبي قَائِما فِي مَجْلِسه، وَأَقْعَدَهُ فِي صَدره، وتشاغل بِهِ، وَلم ينظر فِي عمل حَتَّى نَهَضَ، ثمَّ قَامَ مَعَه، وَأمر غلمانه بِالْخرُوجِ بَين يَدَيْهِ. فاستعظمت أَنا، وكل من فِي الدِّيوَان ذَلِك؛ لِأَن رسم أَصْحَاب الدَّوَاوِين، صغارهم وكبارهم، أَن لَا يقومُوا فِي الدِّيوَان لأحد من خلق الله عز وَجل، مِمَّن يدْخل إِلَيْهِم.

وَتبين ذَلِك أبي فِي وَجْهي، فَقَالَ لي: يَا بني، إِذا خلونا، فسلني عَن السَّبَب فِيمَا عملته مَعَ هَذَا الرجل. قَالَ: وَكَانَ أبي يَأْكُل فِي الدِّيوَان، وينام فِيهِ، وَيعْمل عشيا. فَلَمَّا جلسنا نَأْكُل، لم أذكرهُ، على أَن رَأَيْت الطَّعَام قد كَاد يَنْقَضِي، فَقَالَ لي: يَا بني شغلك الطَّعَام عَن إذكاري بِمَا قلت لَك أَن تذكرني بِهِ؟ فَقلت: لَا، وَلَكِن أردْت أَن يكون ذَلِك على خلْوَة. فَقَالَ: يَا بني، هَذَا وَقت خلْوَة، ثمَّ قَالَ: أَلَيْسَ قد أنْكرت، أَنْت والحاضرون، قيامي لِأَحْمَد بن خَالِد، فِي دُخُوله وَخُرُوجه، وَمَا عاملته بِهِ؟ فَقلت: بلَى. قَالَ: كَانَ هَذَا يتقلد مصر، فَصَرَفته عَنْهَا، وَقد كَانَت طَالَتْ مدَّته فِيهَا، فتتبعته، فوطئت آثَار رجل لم أجد أجمل مِنْهُ آثارا، وَلَا أعف عَن أَمْوَال السُّلْطَان والرعية، وَلَا رَأَيْت رعية لعامل أشكر من رَعيته لَهُ. وَكَانَ الْحُسَيْن الْخَادِم الْمَعْرُوف بعرق الْمَوْت صَاحب الْبَرِيد بِمصْر، من أصدق النَّاس لَهُ، وَكَانَ مَعَ هَذَا من أبْغض النَّاس، وأشدهم اضطرابا فِي أخلاقه، فَلم أتعلق عَلَيْهِ بِحجَّة. وَوَجَدته قد أخر رفع الْحساب لسنة مُتَقَدّمَة ولسنته الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَلم يستتمها لصرفي لَهُ عَنْهَا، وَلم ينفذهُ إِلَى الدِّيوَان، فَسَمتْهُ أَن يحط من الدخل، وَأَن يزِيد فِي النَّفَقَات والأرزاق، وَيكسر من البقايا، فِي كل سنة مائَة ألف دِينَار،

لآخذها لنَفْسي، فَامْتنعَ من ذَلِك فأغلظت لَهُ، وتوعدته، وَنزلت مَعَه إِلَى مائَة ألف وَاحِدَة للسنتين، وَحلفت بأيمان مُؤَكدَة، أَنِّي لَا أقنع مِنْهُ بِأَقَلّ مِنْهَا. فَأَقَامَ على امْتِنَاعه، وَقَالَ: أَنا لَا أخون لنَفْسي، فَكيف أخون لغيري وأزيل مَا قَامَ بِهِ جاهي من العفاف؟ فقيدته وحبسته، فَلم يجب، وَأقَام مُقَيّدا فِي الْحَبْس شهورا. وَكتب عرق الْمَوْت، صَاحب الْبَرِيد، إِلَى المتَوَكل يضْرب عَليّ، وَيحلف أَن أَمْوَال مصر لَا تفي بنفقتي ومئونتي، ويصف أَحْمد بن خَالِد، وَيذكر ميل الرّعية إِلَيْهِ، وعفته. فَبينا أَنا ذَات يَوْم على الْمَائِدَة آكل، إِذْ وَردت عَليّ رقْعَة أَحْمد بن خَالِد، يسألني استدعاءه لمهم يلقيه إِلَيّ، فَلم أَشك أَنه قد غَرَض بالقيد وَالْحَبْس، وَقد عزم على الاستجابة لمرادي. فَلَمَّا غسلت يَدي دَعوته، فاستخلاني، فأخليته، فَقَالَ: أما آن لَك يَا سَيِّدي أَن ترق لي مِمَّا أَنا فِيهِ، من غير ذَنْب أذنبته إِلَيْك، وَلَا جرم، وَلَا قديم ذحل، وَلَا عَدَاوَة.

فَقلت: أَنْت اخْتَرْت لنَفسك هَذَا، وَلَو أجبتني إِلَى مَا قد سَمِعت يَمِيني عَلَيْهِ، لتخلصت، فاستجب لما أُرِيد مِنْك. فَأخذ يستعطفني، فَجَاءَنِي ضد مَا قدرته فِيهِ، وغاظني، فشتمته، وَقلت: هَذَا الْأَمر المهم الَّذِي ذكرت فِي رقعتك أَنَّك تُرِيدُ أَن تلقيه إِلَيّ هُوَ أَن تستعطفني، وتسخر مني، وتخدعني. فَقَالَ: يَا سَيِّدي، فَلَيْسَ عنْدك الْآن غير هَذَا؟ فَقلت: لَا. فَقَالَ: إِذا كَانَ لَيْسَ غير هَذَا، فاقرأ يَا سَيِّدي هَذَا. وَأخرج إِلَيّ كتابا لطيفا مَخْتُومًا فِي ربع قرطاس ففضضته، فَإِذا هُوَ بِخَط المتَوَكل الَّذِي أعرفهُ إِلَيّ بالانصراف، وَتَسْلِيم مَا أتولاه إِلَى أَحْمد بن خَالِد، وَالْخُرُوج إِلَيْهِ مِمَّا يلْزَمنِي، وَرفع الْحساب إِلَيْهِ، والامتثال لأَمره. فورد عَليّ ذَلِك أقبح مورد، لقرب عهد الرجل بشتمي لَهُ، وَأَنه فِي الْحَال تَحت مكارهي وحديدي فَأَمْسَكت مبهوتا. وَلم ألبث أَن دخل أَمِير الْبَلَد فِي أَصْحَابه وغلمانه، فَوكل بداري، وَجَمِيع مَا أملكهُ وبأصحابي وغلماني وجهابذتي، وكتابي، وَجعلت أزحف من الصَّدْر حَتَّى صرت بَين يَدي أَحْمد بن خَالِد، وَهُوَ فِي قيوده. فَدَعَا أَمِير الْبَلَد بحداد، ففك قيوده، فمددت رجْلي؛ ليوضع فيهمَا الْقَيْد، فَقَالَ لي: يَا أَبَا أَيُّوب، ضم أقدامك، ووثب قَائِما، وَقَالَ لي: يَا أَبَا أَيُّوب: أَنْت قريب عهد بعمالة هَذَا الْبَلَد، وَلَا منزل لَك فِيهِ، وَلَا صديق، ومعك حرم وحاشية كَبِيرَة، وَلَيْسَ تسعك إِلَّا هَذِه الدَّار، وَكَانَت دَار العمالة،

وَأَنا أجد عدَّة مَوَاضِع، وَلَيْسَ لي كَبِير حَاشِيَة، وَمن نكبة خرجت، فأقم بمكانك. وَخرج، وَصرف التَّوْكِيل عني، وَعَن الدَّار، وَأخذ كتابي وأسبابي إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرف قلت لغلماني: هَذَا الَّذِي نرَاهُ فِي النّوم، انْظُرُوا من وكل بِنَا؟ فَقَالُوا: مَا وكل بِنَا أحد. فعجبت من ذَلِك عجبا شَدِيدا، وَمَا صليت الْعَصْر حَتَّى عَاد إِلَيّ جَمِيع من حمله مَعَه من المتصرفين وَالْكتاب والجهابذة، وَقَالُوا: أَخذ خطوطنا بِرَفْع الْحساب، وأمرنا بالملازمة، وأطلقنا، فازداد عجبي. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، باكرني مُسلما، ورحت إِلَيْهِ فِي عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم مُسلما عَلَيْهِ. فأقمت على ذَلِك ثَلَاثِينَ يَوْمًا، يَغْدُو إِلَيّ، وأروح إِلَيْهِ، وَرُبمَا غَدَوْت أَنا، وَرَاح هُوَ وهداياه، وألطافه تَأتِينِي فِي كل يَوْم من الْفَاكِهَة، والثلج، وَالْحَيَوَان والحلوى. فَلَمَّا كَانَ بعد ثَلَاثِينَ يَوْمًا، جَاءَنِي، فَقَالَ لي: قد عشقت مصر يَا أَبَا أَيُّوب، وَالله مَا هِيَ طيبَة الْهَوَاء، وَلَا عذبة المَاء، وَإِنَّمَا تطيب بِالْولَايَةِ والاكتساب، وَلَو دخلت إِلَى سر من رأى، لما أَقمت إِلَّا شهرا حَتَّى تتقلد أجل الْأَعْمَال. فَقلت لَهُ: وَالله، مَا أَقمت إِلَّا توقعا لأمرك فِي الْخُرُوج. فَقَالَ: أَعْطِنِي خطّ كاتبك، بِأَن عَلَيْهِ الْقيام بِالْحِسَابِ، واخرج فِي حفظ الله، فأحضرت كاتبي، وَأخذ خطه كَمَا أَرَادَ، وتسلمه، وَقَالَ: اخْرُج فِي أَي وَقت شِئْت.

فَخرجت من غَد، فَخرج هُوَ وأمير الْبَلَد وخاصته، ووجوه أَهله، فشيعوني إِلَى ظَاهر الْبَلَد، وَقَالَ لي: تقيم فِي أول منزل على خَمْسَة فراسخ، إِلَى أَن أزيح عِلّة قَائِد يصحبك إِلَى الرملة، فَإِن الطَّرِيق فَاسد. فاستوحشت من ذَلِك، وَقلت: هَذَا إِنَّمَا غرني حَتَّى أخرج كل مَا أملكهُ، فيتمكن مِنْهُ فِي ظَاهر الْبَلَد، فيقبضه، ثمَّ يردني إِلَى الْحَبْس وَالتَّوْكِيل والمطالبة، ويحتج عَليّ بِكِتَاب يذكر أَنه ورد عَلَيْهِ ثَانِيًا. فَخرجت، وأقمت بالمرحلة الَّتِي أَمر بهَا، مستسلما، متوقعا للشر، إِلَى أَن رَأَيْت أَوَائِل عَسْكَر مقبل من مصر. فَقلت: لَعَلَّه الْقَائِد الَّذِي يُرِيد أَن يصحبني، أَو لَعَلَّه الَّذِي يُرِيد أَن يقبض عَليّ بِهِ، فَأمرت غلماني بِمَعْرِِفَة الْخَبَر. فَقَالُوا: قد جَاءَ أَحْمد بن خَالِد الْعَامِل بِنَفسِهِ. فَلم أَشك إِلَّا أَن الْبلَاء قد ورد بوروده، فَخرجت من مضربي، فَلَقِيته وسلمت عَلَيْهِ، فَلَمَّا جلس، قَالَ: أخلونا، فَلم أَشك أَنه للقبض عَليّ، فطار عَقْلِي، فَقَامَ من كَانَ عِنْدِي، وَلم يبْق غَيْرِي وَغَيره. فَقَالَ: أعلم أَن أيامك لم تطل بِمصْر، وَلَا حظيت بكبير فَائِدَة، وَذَلِكَ الْبَاب الَّذِي سألتنيه فِي ولايتك فَلم أَسْتَجِب إِلَيْهِ، إِنَّمَا أخرت الْإِذْن لَك فِي الِانْصِرَاف من أول الْأَمر إِلَى الْآن؛ لِأَنِّي تشاغلت بالفراغ لَك مِنْهُ، وَقد حططت من الِارْتفَاع، وزدت فِي النَّفَقَات، فِي كل سنة خَمْسَة عشر ألف دِينَار، تكون للسنتين ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، وَهُوَ يقرب وَلَا يظْهر،

وَيكون أيسر مِمَّا أردته مني ذَلِك الْوَقْت، وَقد تشاغلت بِهِ حَتَّى جمعته لَك، وَهَذَا المَال على البغال قد جئْتُك بِهِ، فَتقدم إِلَى من يتسلمه. فتقدمت بِقَبْضِهِ، وَقبلت يَده، وَقلت: وَالله، قد فعلت يَا سَيِّدي مَا لم تَفْعَلهُ البرامكة، فَأنْكر ذَلِك، وتقبض مِنْهُ، وَقبل يَدي. وَقَالَ: هَهُنَا شَيْء آخر أُرِيد أَن تقبله. فَقلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: خَمْسَة آلَاف دِينَار قد استحققتها من أرزاقي، فامتنعت من ذَلِك، وَقلت: فِيمَا تفضلت بِهِ كِفَايَة. فَحلف بِالطَّلَاق، أَنِّي أقبلها مِنْهُ، فَقَبلتهَا. ثمَّ قَالَ: وَهَهُنَا ألطاف من هَدَايَا مصر، أَحْبَبْت أَن أصحبك إِيَّاهَا، فَإنَّك تمْضِي إِلَى كتاب الدَّوَاوِين ورؤساء الحضرة، فَيَقُولُونَ لَك: وليت مصر، فَأَيْنَ نصيبنا من هَدَايَاهَا؟ وَلم تطل أيامك، فتعد لَهُم ذَلِك، وَقد جمعت لَك مِنْهُ مَا يشْتَمل عَلَيْهِ هَذَا الثبت. وَأخرج إِلَيّ درجا فِيهِ ثَبت جَامع لكل شَيْء فِي الدُّنْيَا حسن طريف، جليل الْقدر، من ثِيَاب دبيقي، وقصب، وخدم، وبغال، ودواب، وحمير، وفرش، وَطيب، وجوهر، حَتَّى أَقْلَام ومداد، مَا يكون قِيمَته مَالا كثيرا. فَأمرت بتسلمه، وزدت فِي شكره. فَقَالَ لي: يَا سَيِّدي، أَنا مغرى بحب الْفرش، وَقد اسْتعْمل

لي فرش بَيت أرمني، وَهُوَ عشر مصليات بمخادها، ومساندها، ومساورها، ومطارحها، وبسطها، وَهُوَ مَذْهَب بطرز مذهبَة، قد قَامَ عَليّ بِخَمْسَة آلَاف دِينَار، على شدَّة احتياطي، وَقد أهديته لَك، فَإِن أهديته للوزير عَبدك، وَإِن أهديته للخليفة ملكته بِهِ، وَإِن أبقيته لنَفسك وتجملت بِهِ، كَانَ أحب إِلَيّ، قَالَ: وَحمله، فَمَا رَأَيْت مثله قطّ، وَلَا سمحت نَفسِي بإهدائه إِلَى أحد،

وَلَا اسْتِعْمَاله، وَمَا ابتذلت مِنْهُ شَيْئا غير هَذَا الصَّدْر وَمُسْنَده ومساوره، يَوْم إعذارك، أفتلومني على أَن أقوم لهَذَا الرجل، يَا بني؟ فَقلت: لَا وَالله يَا أَبَت، وَلَا على مَا هُوَ أَكثر من الْقيام، لَو كَانَ مستطاعا، فَكَانَ أبي بعد ذَلِك، إِذا صرف رجلا، عَامله بِكُل جميل، وَيَقُول: علمنَا أَحْمد بن خَالِد حسن الصّرْف، أحسن الله جزاءه.

الخليفة المعتضد يتخبر على وزيره

الْخَلِيفَة المعتضد يتخبر على وزيره حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى الْكَاتِب، الَّذِي كَانَ زوج ابْنه أبي مُحَمَّد المهلبي، وخليفته على الوزارة، وَكَانَ جده مُحدثا، قَالَ: حَدثنِي شُيُوخ الْكتاب: أَن الْقَاسِم بن عبيد الله الْوَزير، لما انْفَرد بالوزارة بعد موت أَبِيه، كَانَ يحب الشّرْب، واللعب، وَيخَاف أَن يتَّصل ذَلِك بالمعتضد، فيستنقصه، وينسبه إِلَى الصبيانية والتهوك فِي اللَّذَّات، والتشاغل عَن الْأَعْمَال، وَكَانَ لَا يشرب إِلَّا فِي الْأَحَايِين، على أخْفى وأستر مَا يُمكنهُ. وَأَنه خلا يَوْمًا مَعَ جواريه، وَلبس من ثيابهن المصبغات، وأحضر فواكه كَثِيرَة، وَشرب، وَلعب، من نصف النَّهَار إِلَى نصف اللَّيْل، ونام بَقِيَّة ليلته، وَبكر إِلَى المعتضد على رسمه للْخدمَة، فَمَا أنكر شَيْئا. وَبكر فِي الْيَوْم الثَّانِي، فحين وَقعت عين المعتضد عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا قَاسم، مَا كَانَ عَلَيْك لَو دَعوتنَا إِلَى خلوتك، وألبستنا مَعَك من ثِيَابك المصبغات. قَالَ: فَقبل الأَرْض، وورى عَن الصدْق، وَأظْهر الشُّكْر على هَذَا الْبسط، وَخرج وَقد كَاد أَن يتْلف غما لوقوف المعتضد على هَذَا السِّرّ، وَكَيف رقى إِلَيْهِ، وَأَنه إِذا لم يخف عَلَيْهِ هَذَا الْقدر من أمره، فَكيف تخفى عَلَيْهِ مرافقه، فجَاء إِلَى دَاره كئيبا.

وَكَانَ لَهُ دَاره صَاحب خبر جلد يرفع إِلَيْهِ الْأُمُور، فَأحْضرهُ، وعرفه مَا جرى بَينه وَبَين المعتضد، وَقَالَ لَهُ: ابحث لي عَمَّن أخرج هَذَا الْخَبَر، فَإِن فعلت، زِدْت فِي رزقك وأجزتك بِكَذَا وَكَذَا، وَإِن لم تخرجه نفيتك إِلَى عمان، وَحلف لَهُ على الْأَمريْنِ. فَخرج صَاحب الْخَبَر من حَضرته متحيرا كئيبا، لَا يدْرِي مَا يعْمل فِي يَوْمه ذَلِك، مفكرا كَيفَ يجْتَهد ويحتال، فَمَا وَقع لَهُ رَأْي يعْمل عَلَيْهِ. قَالَ صَاحب الْخَبَر: فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، بكرت إِلَى دَار الْقَاسِم، زِيَادَة بكور على مَا جرى بِهِ رسمي، لفرط قلقي وسهري تِلْكَ اللَّيْلَة، ومحبتي للبحث. فَجئْت وَلم يفتح بَاب دَار الْقَاسِم بعد، فَجَلَست، فَإِذا بِرَجُل زمن يزحف، فِي ثِيَاب المكدين، وَمَعَهُ مخلاة، كَمَا تكون مَعَ المكدين. فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَاب جلس إِلَى أَن فتح، فسابقني إِلَى الدُّخُول، فولع بِهِ البوابون، وَقَالُوا لَهُ: أَي شَيْء خبرك يَا فلَان؟ وصفعوه، ومازحوه، ومازحهم، وطايبهم، وشتموه وشتمهم، وَجلسَ فِي الدهليز.

فَقَالَ: الْوَزير يركب الْيَوْم؟ قَالُوا: نعم، السَّاعَة يركب. قَالَ: وَأي وَقت نَام البارحة؟ قَالُوا: وَقت كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا رَأَيْته يسْأَل عَن هَذَا، خمنت عَلَيْهِ أَنه صَاحب خبر، فأصغيت إِلَيْهِ، وَلم أره أَنِّي حافل بأَمْره وَهُوَ يسْأَل، إِلَى أَن لم يبْق شَيْئا يجوز أَن يُعلمهُ البوابون، عَمَّن وصل إِلَى الْوَزير، وَمن لم يصل، وَمَتى خَرجُوا، إِلَّا سَأَلَهُمْ عَنهُ، وحدثوه هم، أَحَادِيث أخر، على سَبِيل الفضول. ثمَّ زحف فَدخل إِلَى حَيْثُ أَصْحَاب الستور، فَأخذ مَعَهم فِي مثل ذَلِك، وَأخذُوا مَعَه فِي مثله. ثمَّ زحف، فَدخل إِلَى دَار الْعَامَّة. فَقلت لأَصْحَاب الستور: من هَذَا؟ فَقَالُوا: رجل زمن فَقير أبله طيب، يدْخل الدَّار يتَصَدَّق ويتطايب فيهب لَهُ الغلمان والمتصرفون. فتبعته إِلَى أَن دخل المطبخ، فَسَأَلَ عَمَّا أكل الْوَزير، وَمن كَانَ مَعَه على الْمَائِدَة، وكل وَاحِد يُخبرهُ بِشَيْء، ثمَّ خرج يزحف، حَتَّى دخل حجرَة الشَّرَاب، فَلم يزل يبْحَث عَنهُ كل شَيْء، فَيحدث بِهِ، ثمَّ خرج إِلَى خزانَة الْكسْوَة، فَكَانَت صورته كَذَلِك، ثمَّ جَاءَ إِلَى مجْلِس الْكتاب فِي الدِّيوَان، فَتصدق، وَأَقْبل يسمع مَا يجْرِي، وَيسْأل الصَّبِي بعد الصَّبِي، وَالْحَدَث بعد الْحَدث، عَن الشَّيْء بعد الشَّيْء، ويستخبر الْخَبَر، فِي كل مَوضِع من تِلْكَ الْمَوَاضِع، ويستقيه، ويخلط الْجد بالمزح والتطايب بِكَلَامِهِ، وَالْأَخْبَار تنجر إِلَيْهِ، وتتساقط

عَلَيْهِ وَالْقطع والزلات تجيئه، وَهُوَ يمْلَأ المخلاة، فَلَمَّا فرغ من هَذَا أقبل رَاجعا يُرِيد الْبَاب. إِلَى هُنَا بِاتِّفَاق الرِّوَايَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ أَحدهمَا فِي حَدِيثه. فَلَمَّا بلغ الْبَاب، قبضت عَلَيْهِ، وأدخلت بَيْتا، وأقفلت عَلَيْهِ، وَجَلَست على بَابه، فَلَمَّا خلا الْوَزير أعلمته بِهِ، فَقَالَ: أحضرني الرجل. وَقَالَ الآخر: فَلَمَّا بلغ الْبَاب تَبعته، فَخرج حَتَّى جَاءَ إِلَى مَوضِع من الْخلد، فَدخل إِلَيْهِ فوقفت أنتظره، فَإِذا هُوَ بعد سَاعَة، قد خرج شَابًّا بِثِيَاب حسان، مَاشِيا، بِغَيْر قلبة، فتبعته حَتَّى جَاءَ إِلَى دَار بِقرب دَار الْخَادِم الْمُوكل بِحِفْظ دَار ابْن طَاهِر، فَدَخلَهَا. فَسَأَلت عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِه دَار فلَان الْهَاشِمِي، رجل متجمل. فرصدت إِلَى وَقت الْمغرب، فجَاء خَادِم من دَار ابْن طَاهِر، فدق الْبَاب، فَكَلمهُ من خوخة لَهُ، فَفتح لَهُ، وَرمي إِلَيْهِ برقعة لَطِيفَة، فَأَخذهَا الْخَادِم وَانْصَرف، فَجئْت، فطلبت من الْوَزير غلمانا، فَسلم إِلَيّ مَا طلبت، فبكرت فِي السحر على الدَّار الَّتِي فِي الْخلد، فَإِذا بِالرجلِ قد جَاءَ بزيه الَّذِي

دخل بِهِ دَاره بِقرب دَار ابْن طَاهِر، فكبسته فِي الْموضع، فَإِذا هُوَ قد نزع تِلْكَ الثِّيَاب، وَلبس ثِيَاب المكدين الَّتِي رَأَيْتهَا عَلَيْهِ أَولا. فَحَملته، وغطيت وَجهه، وكتمت أمره، حَتَّى أدخلته دَار الْقَاسِم، وَدخلت إِلَيْهِ، فقصصت عَلَيْهِ الْخَبَر. اتّفقت الْآن الرِّوَايَتَانِ. فَلَمَّا فرغ الْقَاسِم من شغله، استدعاه، فَقَالَ لَهُ: اصدقني عَن أَمرك، أَولا ترى ضوء الدُّنْيَا، وَلَا تخرج من هَذِه الْحُجْرَة، وَالله، أبدا. قَالَ: وتؤمنني؟ قَالَ: أَنْت آمن، فَنَهَضَ لَا قلبة بِهِ. فتحير الْقَاسِم، وَقَالَ لَهُ: خبرك؟ فَقَالَ: أَنا فلَان الْهَاشِمِي، وَأَنا رجل متجمل، وَأَنا أتخبر عَلَيْك للمعتضد، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، وَأنزل فِي درب يَعْقُوب، بِقرب دَار ابْن طَاهِر، وَيجْرِي عَليّ المعتضد فِي كل شهر خمسين دِينَارا، فَأخْرج كل يَوْم من بَيْتِي، بالزي الَّذِي لَا يُنكره جيراني، فَأدْخل دَارا فِي الْخلد، بيَدي مِنْهَا بَيت بِأُجْرَة، فيظن أَهلهَا أَنِّي مِنْهُم، وَلَا يُنكرُونَ تَغْيِير الزي. فَأخْرج من هُنَاكَ بِهَذِهِ الثِّيَاب، وأتزامن من الْموضع وألبس لحية فَوق لحيتي، مُخَالفَة للون لحيتي، حَتَّى إِذا لَقِيَنِي فِي الطَّرِيق، بالِاتِّفَاقِ، بعض من يعرفنِي، أنكرني. فأمشي زحفا من الْخلد إِلَى دَارك، فأعمل جَمِيع مَا حَكَاهُ صَاحب خبرك، وأستقي أخبارك من غلمانك، وهم لَا يعْرفُونَ غرضي، فَيخْرجُونَ إِلَيّ من الْأَسْرَار، بالاسترسال، مَا لَو بذل لَهُم فِيهِ الْأَمْوَال مَا خَرجُوا بِهِ. ثمَّ أخرج فأجيء إِلَى موضعي من الْخلد، فأغير ثِيَابِي، وَأعْطِي ذَلِك الَّذِي

اجْتمع لي فِي المخلاة للمكدين، وألبس ثِيَابِي الَّتِي يعرفنِي بهَا جيراني، وأعود إِلَى منزلي، فَآكل، وأشرب، وألعب، بَقِيَّة يومي. فَإِذا كَانَ الْمغرب جَاءَنِي خَادِم من خدم دَار ابْن طَاهِر، مَنْدُوب لهَذَا، فأرمي إِلَيْهِ من روزنة لي، رقْعَة فِيهَا خبر ذَلِك الْيَوْم، وَلَا أفتح لَهُ بَابي. فَإِذا كَانَ بعد تِسْعَة وَعشْرين يَوْمًا، جَاءَنِي الْخَادِم، فَأنْزل إِلَيْهِ، فَأعْطِيه رقْعَة ذَلِك الْيَوْم، ويعطيني جاري ذَلِك الشَّهْر. وَلَوْلَا أَنِّي لم أر صَاحب خبرك، وَلَا فطنت لَهُ، لما تمّ عَليّ هَذَا، وَلَو كنت لحظته لَحْظَة وَاحِدَة، مَا خَفِي عَليّ أَنه صَاحب خبر، ولكنت أرجع من الْموضع الَّذِي أرَاهُ فِيهِ، فَلَا يعرف خبري، وَبعد ذَلِك، فَإِنَّمَا تمّ عَليّ هَذَا؛ لِأَن أَجلي قد حضر، فَالله، الله فِي دمي. فَقَالَ لَهُ: اصدقني عَمَّا رفعته إِلَى المعتضد عني، فحدثه بأَشْيَاء رَفعهَا، مِنْهَا خبر الثِّيَاب المصبغة. قَالَ: فحبسه الْقَاسِم أَيَّامًا، وأخفى أمره، وأنفذني إِلَى منزله، وَقَالَ: رَاع أَمرهم، وَانْظُر مَا يجْرِي. فمضيت إِلَى دَاره الَّتِي وصفهَا بدرب يَعْقُوب، فَجَلَست إِلَى الْمغرب، فجَاء الْخَادِم، فصاح بِهِ. فَقَالَت لَهُ الْجَارِيَة: مَا رَجَعَ الْيَوْم، وَهَذِه لم تكن عَادَته قطّ، وَقد، وَالله، أشفقنا أَن يكون قد حدث عَلَيْهِ حَادث لَا نعرفه، وَقَامَت قيامتنا فَانْصَرف الْخَادِم، وانصرفت. وعدت أَيْضا الْمغرب من الْغَد، وَجَاء الْخَادِم، فَقَالُوا لَهُ: قد، وَالله، أيسنا مِنْهُ، وَلَا نشك فِي أَنه قد هلك، والمأتم قد أقيم عَلَيْهِ فِي منزل أَبِيه وعمومته.

فَانْصَرف الْخَادِم، وَجئْت إِلَى الْقَاسِم بالْخبر. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، ركب الْقَاسِم إِلَى المعتضد، فحين رَآهُ استدناه وساره، وَقَالَ لَهُ: يَا قَاسم، بحياتي، أطلق الْهَاشِمِي المتزامن، وَأحسن إِلَيْهِ، وَأَنت آمن بعْدهَا أَن أنصب عَلَيْك صَاحب خبر، وَوَاللَّه لَئِن حدثت بِهِ حَادِثَة، لَا عرفت فِي دَمه غَيْرك. فَقبل الأَرْض، وتلجلج وَانْصَرف، فَعَاد إِلَى منزله، وَحمد الله إِذْ لم يعجل عَلَيْهِ بِسوء، وَأخْبرنَا الْخَبَر، وَجَاء بالهاشمي، فَخلع عَلَيْهِ، وَوَصله بِمَال لَهُ قدر، وَصَرفه. وانقطعت أخباره عَن المعتضد.

الوزير عبيد الله بن سليمان

الْوَزير عبيد الله بن سُلَيْمَان حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن شَهْرَان، الْمُتَكَلّم، الْقَاص، من أهالي عَسْكَر مكرم، بهَا، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْحُسَيْن الخصيبي، ابْن بنت ابْن الْمُدبر، بِبَغْدَاد، قَالَ: قَالَ لي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن دَاوُد بن الْجراح: جلس عبيد الله بن سُلَيْمَان، يَوْمًا، للمظالم، فِي دَار المعتضد، وَهُوَ وَزِير، فَتقدم إِلَيْهِ عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات، يتظلم من أَحْمد بن إِسْرَائِيل بِسَبَب الضَّيْعَة الْمَعْرُوفَة بتاصيت، فَنظر فِي أمره، وَقَالَ لَهُ: أَنْت عمر بن مُحَمَّد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: وَأَيْنَ كنت؟ فَقص عَلَيْهِ أمره وَخَبره، فَقَالَ لَهُ: أَنْت ابْن سَكرَان؟ فَقَالَ: نعم، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّة يَوْمنَا ذَلِك، خلا، وَكنت أَنا وابناه بَين يَدَيْهِ، فَتحدث، وَقَالَ: سُبْحَانَ الله، مَا أعجب مَا كنت فِيهِ الْيَوْم، فَلم نَسْأَلهُ عَن ذَلِك إجلالا لَهُ.

فَقَالَ: قَالَ لي أَبُو أَيُّوب رَحمَه الله: إِنَّه كَانَ فِي أَيَّام الواثق، فِي تِلْكَ الْمُلَازمَة وَالْبَلَاء وَالضَّرْب وَلبس الصُّوف والقيد، وَإنَّهُ حمل إِلَى مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات ليناظره وَيَردهُ إِلَى محبسه. فَوضع بَين يَدَيْهِ على تِلْكَ الْحَال، فَجعل يناظره، وَالْحسن بن وهب، كَاتبه حِينَئِذٍ، فَرُبمَا تكلم بِالْكَلِمَةِ يرققه بهَا عَلَيْهِ، وَرُبمَا أمسك، وَمُحَمّد دائب فِي الغلظة على أبي أَيُّوب، والتشفي مِنْهُ، إِذْ مر بعض الخدم بصبي يحملهُ، مزين، مخضوب، وَعَلِيهِ لبوس مثله من أَوْلَاد الْمُلُوك. فَقَالَ مُحَمَّد للخادم: هاته، فقربه إِلَيْهِ، فَقبله، وترشفه، وضمه إِلَيْهِ، وَجعل يلاعبه، فحانت مِنْهُ التفاتة إِلَى أبي أَيُّوب، فَإِذا دمعته قد سبقته، وَهُوَ يمسحها بالجبة الصُّوف الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: مَا الَّذِي أبكاك؟ فَقَالَ: خير، أصلحك الله. فَقَالَ: وَالله، لَا تَبْرَح، أَو تُخبرنِي بِالْأَمر على حَقِيقَته. فَلَمَّا رأى ذَلِك أَبُو عَليّ الْحسن بن وهب، قَالَ لَهُ: أَنا أصدقك، إِنَّه لما رأى عمر، متعك الله بِهِ، وَجَعَلنَا جَمِيعًا فدَاه، ذكر ابْنا لَهُ فِي مثل سنه. قَالَ: وَمَا سمه؟ قَالَ: عبيد الله. قَالَ: وَكَانَا ولدا فِي شهر وَاحِد. فَالْتَفت إِلَيْهِ كالهازئ، فَقَالَ لَهُ: أتراه يقدر أَن يكون ابْنه هَذَا وزيرا.

قَالَ الْحسن: فَلَمَّا أَمر بِحمْلِهِ إِلَى محبسه الْتفت إِلَيّ، وَقَالَ: لَوْلَا أَن هَذَا الْأَمر من أُمُور السُّلْطَان الَّذِي لَا سَبِيل إِلَى التَّقْصِير فِي مثله، لما سؤتك فِيهِ، وَلَو أعانني على نَفسه لخلصته. فَقَالَ لَهُ الْحسن: وَالله، مَا رَأَيْته مُنْذُ حبس، فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بالعدول بِهِ إِلَى بعض الْمجَالِس، وَالْإِذْن فِي الْقيام إِلَيْهِ، وَالْخلْوَة بِهِ، لأشير عَلَيْهِ بامتثال أَمرك. فَقَالَ: افْعَل. فَقُمْت إِلَى أبي أَيُّوب، وتعانقنا، وبكينا طَويلا. فَقَالَ لي: قبل كل شَيْء، رَأَيْت أعجب من بغيه عَليّ، وَقَوله بالتطانز والهزء: أتراه يقدر أَن ابْنه هَذَا يكون وزيرا، فَكيف يَأْمَن أَن يكون هَذَا؟ وَالله إِنِّي لأرجو أَن يبلغ الله ابْني الوزارة، ويتقدم إِلَيْهِ عمر متظلما. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم، تقدم إِلَيّ عمر متظلما، وَمَا كنت رَأَيْته قبل ذَلِك، وَلَا عرفت لَهُ خَبرا. وَوَقع إِلَيّ هَذَا الْخَبَر، من وَجه آخر، فَحَدثني بِهِ أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَتْح الْمَعْرُوف بالمطوق، مناولة، من كِتَابه كتاب (مَنَاقِب الوزراء ومحاسن أخبارهم) ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن عبد الله بن عمر بن حَفْص الْكَاتِب، عَن أَبِيه، أبي الْقَاسِم عبد الله، أَو عَن أبي الْقَاسِم مَيْمُون بن إِبْرَاهِيم بن يزِيد، الشَّك من المطوق، قَالَ: كُنَّا فِي مجْلِس أبي الْقَاسِم عبيد الله بن سُلَيْمَان، وَهُوَ وَزِير، فِي يَوْم من

أَيَّام جُلُوسه للمظالم، فَوَقَعت بِيَدِهِ قصَّة، فقرأها، وَتوقف سَاعَة كالمفكر، ثمَّ قَالَ: عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْملك، فَأدْخل إِلَيْهِ. فَقَالَ: أَنْت عمر؟ قَالَ: نعم، أعز الله الْوَزير، أَنا عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْملك. فتوقف أَيْضا سَاعَة، ثمَّ قَامَ إِلَى خلوته، وَلم يطلّ، وَعَاد إِلَى مَوْضِعه، فَوَقع لَهُ بجار، وَنزل، وصلَة، وَلم يزل مفكرا، إِلَى أَن تقوض النَّاس، وخلا الْمجْلس مِمَّن يحتشم. فَقَالَ لنا: وقفتم على خبر هَذَا الرجل؟ قُلْنَا: وقفنا على مَا كَانَ من أَمر الْوَزير ببره، وَلم نقف على السَّبَب. فَقَالَ: أخْبركُم بحَديثه، حَدثنِي أَبُو أَيُّوب رَحمَه الله، قَالَ: كنت فِي يَد مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات، يطالبني، وَأَنا منكوب، وَكَانَ يحضرني فِي كل يَوْم، بِغَيْر سَبَب، وَلَا مُطَالبَة، إِلَّا ليكيدني، وَأَنا فِي قيودي، وَعلي جُبَّة صوف، وَكَانَ أخي الْحسن يكْتب بَين يَدَيْهِ، وَلم يكن يتهيأ لَهُ شَيْء فِي أَمْرِي، إِلَّا أَنه كَانَ إِذا رَآنِي مُقبلا استقبلني، فَإِذا رجعت إِلَى موضعي شيعني، إِذْ أقبل فِي يَوْم من الْأَيَّام خَادِم لمُحَمد، وَمَعَهُ ابْن لَهُ صَغِير، فَوَثَبَ كل من فِي الْمجْلس، إِلَى الصَّبِي، يقبلونه، وَيدعونَ لَهُ سواي، فَإِنِّي كنت مَشْغُولًا بنفسي، فَلم أتحرك، وَأخذ الصَّبِي، وضمه إِلَيْهِ، وَقَالَ لي: يَا سُلَيْمَان، لِمَ لَمْ تفعل بِهَذَا الصَّبِي، مَا فعله من فِي الْمجْلس؟ فَقلت: شغلني مَا أَنا فِيهِ. فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّك لم تطق ذَلِك عَدَاوَة لِأَبِيهِ وَله، وَكَأَنِّي بك، وَقد ذكرت عبيد الله، وأملت فِيهِ الآمال، وَالله لَا رَأَيْت شَيْئا مِمَّا تؤمله فِيهِ،

وأسرف بعد ذَلِك فِي الإسماع، فَعلمت أَنه قد بغى، ووثقت بجميل عَادَة الله تَعَالَى، وَأَنه سيبلغني مَا آمله فِيك عنادا لبغيه. قَالَ: وَلم تمض إِلَّا مُدَّة يسيرَة، حَتَّى سخط المتَوَكل على مُحَمَّد بن عبد الْملك، وقلدني مناظرته، وإحصاء مَتَاعه، فوافيت دَاره، فَرَأَيْت ذَلِك الْخَادِم بِعَيْنِه، وَمَعَ ذَلِك الصَّبِي يبكي. فَقلت: مَا خبر هَذَا الصَّبِي يبكي؟ فَقيل: قد منع من كل مَاله، وَأدْخل فِي الإحصاء. فَقلت: لَا بَأْس عَلَيْهِ، وسلمت إِلَيْهِ جَمِيع مَا كَانَ باسمه. فَيَنْبَغِي، يَا بني، إِن تهيأت لَك حَال، وَرَأَيْت الصَّبِي عمر بن مُحَمَّد بن عبد الْملك، أَن تحسن إِلَيْهِ، وَأَن تقَابل نعْمَة الله فِيهِ وفيك، بِمَا يجب لَهَا. فَلَمَّا رَأَيْته هَذَا الْوَقْت، ذكرت مَا قَالَه أبي، فامتثلت مَا أَشَارَ بِهِ، وَأَنا أتقدم بعد الَّذِي فعلت بِهِ، إِلَى أبي الْحُسَيْن بتصريفه. وَكَانَت لعمر حَرَكَة قويت بهَا حَاله عِنْد أبي الْحُسَيْن، إِلَى أَن اسْتَخْلَفَهُ فِي دَار أبي النَّجْم بدر، وَبَين يَدَيْهِ. حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن هِشَام بن عبد الله الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ بن مقلة، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن سعيد الديناري. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وحَدثني أَبُو عبد الله زنجي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات، قَالَ: وحَدثني أَبُو عبد الله الباقطائي، قَالُوا كلهم: كُنَّا بِحَضْرَة عبيد الله بن سُلَيْمَان، أول وزارته للمعتضد، وَقد حضر رجل رث الْهَيْئَة، بِثِيَاب غِلَاظ، فَعرض عَلَيْهِ رقْعَة، وَكَانَ جَالِسا للمظالم، فقرأها

قِرَاءَة متأمل لَهَا، مفكرا مُتَعَجِّبا، ثمَّ قَالَ: نعم وكرامة، ثَلَاث مَرَّات، أفعل مَا قَالَ أبي، لَا مَا قَالَ أَبوك، وَكرر هَذَا القَوْل ثَلَاث مَرَّات. ثمَّ قَالَ لَهُ: عد إِلَى وَقت الْعَصْر؛ لأنظر فِي أَمرك. وَقَالَ لبدر العدامي حَاجِبه: إِذا حضر فأوصله إِلَيّ. ثمَّ قَالَ: إِذا خلونا فذكروني خبر هَذَا؛ لأحدثكم بِحَدِيث عَجِيب، وَأتم الْمجْلس. ثمَّ قَامَ، واستراح، ودعانا للطعام، فَلَمَّا حَضَرنَا، وأكلنا أَكثر الْأكل، قَالَ: مَا أَرَاكُم أذكرتموني حَدِيث صَاحب الرقعة؟ فَقُلْنَا: أنسينا. قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: كنت فِي محبس مُحَمَّد بن عبد الْملك، فِي أَيَّام الواثق، لما صادرني عَن كِتَابَة إيتاخ، على أَربع مائَة ألف دِينَار، وَقد أدّيت مِنْهَا مِائَتي ألف ونيفا وَأَرْبَعين ألفا، فأحضرني يَوْمًا، وطالبني بِالْبَاقِي، وجد بِي، وأرهقني، وَلم يرض مني إِلَى أَن أجبْت إِلَى أَن أؤدي خمسين ألف دِينَار، قَاطِعَة للمصادرة، على أَن يُطلق ضياعي. قَالَ: وَنحن فِي ذَلِك، وَلم يَأْخُذ خطي بعد، إِذْ خرج إِلَيْهِ خَادِم من دَار الْحرم برقعة، فقرأها، ونهض، وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ أخي أَبُو عَليّ الْحسن بن وهب، وَهُوَ غَالب على أمره، إِلَّا أَنه يخافه أَن يكلمهُ فِي أَمْرِي. فَلَمَّا قَامَ الْوَزير رمى إِلَيّ أخي برقعة لَطِيفَة، فَوَقَعت فِي حجري، فَإِذا فِيهَا: جَاءَنِي الْخَبَر السَّاعَة فِي دَارك، أَن قد رزقت ابْنا، خلقا سويا، وَهُوَ جسم بِغَيْر اسْم، فَمَا تحب أَن يُسمى ويكنى؟

فَقلت: عبيد الله، أَبُو الْقَاسِم. فَكتب بذلك فِي الْحَال إِلَى منزلي. قَالَ: وتداخلني سرُور بذلك، وَقُوَّة نفس، وَحدثت نَفسِي بأنك تعيش، وتبلغ، وأنتفع بك. قَالَ: وَعَاد مُحَمَّد إِلَى مَجْلِسه، وَأعَاد خطابي فَلم أَسْتَجِب لَهُ، إِلَى مَا كنت أجبْت إِلَيْهِ، وَأخذت أدافع. فَقَالَ لي: يَا أَبَا أَيُّوب، مَا الَّذِي ورد عَلَيْك بعدِي؟ أرى عَيْنَيْك ووجهك، بِخِلَاف مَا فارقتك عَلَيْهِ مُنْذُ سَاعَة. فَقلت: مَا ورد عَليّ شَيْء. فَقَالَ: وَالله، لَئِن لم تصدقني لَأَفْعَلَنَّ بك، ولأصنعن. فَقلت: مَا عِنْدِي مَا أصدق عَنهُ. فَأقبل على أخي، فَقَالَ لَهُ: أَخْبرنِي مَا شَأْنه؟ فخافه أخي، فَصدقهُ عَن الصُّورَة، فسكن. ثمَّ قَالَ: أتعرف لأي شَيْء قُمْت أَنا؟ قلت: لَا. قَالَ: كوتبت بِأَن ولدا ذكرا سويا قد ولد لي، فَدخلت، ورأيته، وسميته باسم أبي، وكنيته بِأبي مَرْوَان. قَالَ سُلَيْمَان: فَقُمْت إِلَيْهِ، فهنأته، وَقبلت يَدَيْهِ، وَرجلَيْهِ، وَقلت: أَيهَا الْوَزير، هَذَا يَوْم مبارك، وَقد رزقنا الله جَمِيعًا، وَلدين، فارحمني، وارع لي حق سالف خدمتي لَك، وَاجعَل ابْني موسوما بِخِدْمَة ابْنك، يسلم مَعَه

فِي الْمكتب، يتَعَلَّم مَعَه، وينشوان فِي دولتك، فَيكون كَاتبا لَهُ، فَحَملته الكزازة وَالْقَسْوَة الَّتِي فِيهِ، على أَن قَالَ: يَا أَبَا أَيُّوب، أعلي تجوز، ولي تستفز وتخاتل؟ قد حدثتك نَفسك أَن ابْنك هَذَا سيبلغ المبالغ، ويؤهل للوزارة، ورجوت فِي نَوَائِب الزَّمَان، وَقلت: أَرْجُو أَن يحْتَاج ابْنه إِلَى ابْني، حَتَّى يطْلب مِنْهُ الْإِحْسَان وَالْفضل، وَأَنا أستحلفك بِاللَّه، وأحرج عَلَيْك، إِن بلغ ابْنك هَذِه الْمنزلَة، إِلَّا وَصيته، إِن جَاءَهُ ابْني لشَيْء من هَذَا، أَن لَا يحسن إِلَيْهِ.

قَالَ: فأعظمت هَذَا الْخطاب، وتنصلت، واعتذرت، وَوَقع فِي قلبِي، فِي الْحَال، أَن هَذَا غَايَة الْبَغي، وَأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سيحوج ابْنه إِلَى ابْني ويتحقق مَا قَالَه، فَمَا مَضَت مديدة، حَتَّى فرج الله عني. ثمَّ قَالَ لي: يَا بني، إِن رفعك الزَّمَان، وَوضع ابْنه، حَتَّى يحْتَاج إِلَيْك، فَأحْسن إِلَيْهِ. قَالَ: وَضرب الدَّهْر ضربه، فَمَا عرفت لأبي مَرْوَان خَبرا، حَتَّى رَأَيْته الْيَوْم، فَكَانَ مَا شاهدتم، ثمَّ أَمر بِطَلَب أبي مَرْوَان، فأحضر، فوهب لَهُ مَالا، وخلع عَلَيْهِ، وَحمله، وقلده ديوَان الْبَرِيد والخرائط. قَالَ أَبُو الْحسن: فَمَا زَالَ يتقلده مُنْذُ ذَلِك الْوَقْت، إِلَى آخر وزارة ابْن الْفُرَات الثَّالِثَة، فَإِنَّهُ مَاتَ فِيهَا، وَقد تقلده ثَلَاثِينَ سنة أَو أَكثر. وَكَانَ يكْتب إِلَى عبيد الله، أول مَا كَاتبه، بعد تَقْلِيده الدِّيوَان، عبد الْوَزير وخادمه، عبد الْملك بن مُحَمَّد، فَأَرَادَ عبيد الله أَن يتكرم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْت ابْن وَزِير، وَمَا أحب أَن تتعبد لي، فَاكْتُبْ اسْمك فَقَط على الْكتب. فَقَالَ: لَا تسمح نَفسِي بذلك، وَلَكِن أكتب: عبد الْملك بن مُحَمَّد، عبد الْوَزير وخادمه. فَقَالَ: افْعَل، فَكتب ذَلِك، فَصَارَت عَادَة لَهُ يكْتب بهَا إِلَى جَمِيع الوزراء من بعده، إِلَى أَن مَاتَ فِي وزارة ابْن الْفُرَات الثَّالِثَة، فَصَارَ كالمترتب عَلَيْهِم بِمَا عَامله بِهِ من ذَلِك عبيد الله، وَغلب عَلَيْهِ أَن عرف بِأبي مَرْوَان الخرائطي، وَنسي نسبه إِلَى ابْن الزيات، إِلَّا من كَانَ يعرفهُ من الْكتاب وَغَيرهم، أَخْبرنِي بذلك جمَاعَة من الشُّيُوخ.

أسد كالح وكبش ناطح وكلب نابح

أَسد كالح وكبش ناطح وكلب نابح وجدت فِي بعض الْكتب، بِغَيْر أَسَانِيد: أَن عبيد الله بن زِيَاد، لما بنى دَاره الْبَيْضَاء بِالْبَصْرَةِ، بعد قتل الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام، صور على بَابهَا رُءُوسًا مقطعَة، وصور فِي دهليزها، أسدا، وكبشا، وكلبا، وَقَالَ: أَسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح. فَمر بِالْبَابِ أَعْرَابِي، فَرَأى ذَلِك، فَقَالَ: أما إِن صَاحبهَا لَا يسكنهَا إِلَّا لَيْلَة وَاحِدَة لَا تتمّ. فَرفع الْخَبَر إِلَى ابْن زِيَاد، فَأمر بالأعرابي، فَضرب، وَحبس. فَمَا أَمْسَى حَتَّى قدم رَسُول ابْن الزبير، إِلَى قيس بن السّكُون، ووجوه أهل الْبَصْرَة، فِي أَخذ الْبيعَة لَهُ، ودعا النَّاس إِلَى طَاعَته، فَأَجَابُوهُ، وراسل بَعضهم بَعْضًا فِي الْوُثُوب عَلَيْهِ من ليلتهم، فأنذره قوم كَانَت لَهُ صنائع عِنْدهم، فهرب من دَاره فِي ليلته تِلْكَ، واستجار بالأزد، فأجاروه، وَوَقعت الْحَرْب الْمَشْهُورَة بَينهم

وَبَين بني تَمِيم بِسَبَبِهِ، حَتَّى أَخْرجُوهُ، فألحقوه بِالشَّام، وَكسر الْحَبْس، فَخرج الْأَعرَابِي. وَلم يعد ابْن زِيَاد إِلَى دَاره، وَقتل فِي وقْعَة الخازر.

القرمطي يبعث رسولا إلى المعتضد

القرمطي يبْعَث رَسُولا إِلَى المعتضد حَدثنِي القَاضِي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي، قَالَ: سَمِعت الْعَبَّاس بن عَمْرو الغنوي، يَقُول: لما أسرني أَبُو سعيد الجنابي القرمطي، وَكسر الْعَسْكَر الَّذِي كَانَ أنفذه المعتضد معي لقتاله، وحصلت فِي يَده أَسِيرًا، أَيِست من الْحَيَاة. فَإِنِّي يَوْمًا على تِلْكَ الصُّورَة، إِذْ جَاءَنِي رَسُوله، فَأخذ قيودي، وَغير

ثِيَابِي، وأدخلني إِلَيْهِ، فَسلمت، وَجَلَست. فَقَالَ لي: أَتَدْرِي لما استدعيتك؟ قلت: لَا قَالَ: أَنْت رجل عَرَبِيّ، وَمن الْمحَال أَن أستودعك أَمَانَة فتخفرها، وَلَا سِيمَا مَعَ مني عَلَيْك بِنَفْسِك. فَقلت: هُوَ ذَاك. فَقَالَ: إِنِّي فَكرت، فَإِذا لَا طائل فِي قَتلك، وَأَنا فِي نَفسِي رِسَالَة إِلَى المعتضد، لَا يجوز أَن يُؤَدِّيهَا غَيْرك، فَرَأَيْت إطلاقك، وتحميلك إِيَّاهَا، فَإِن حَلَفت لي أَنَّك تؤديها سيرتك إِلَيْهِ، فَحَلَفت لَهُ. فَقَالَ: تَقول لَهُ: يَا هَذَا لم تخرق هيبتك، وَتقتل رجالك، وتطمع أعداءك فِي نَفسك، وتتبعها فِي طلبي، وإنفاذ الجيوش إِلَيّ، وَإِنَّمَا أَنا رجل مُقيم فِي فلاة، لَا زرع فِيهَا وَلَا ضرع، وَلَا غلَّة وَلَا بلد، وَقد رضيت لنَفْسي بخشونة الْعَيْش، والأمن على المهجة، والعز بأطراف الرماح، وَمَا اغتصبتك بَلَدا كَانَ فِي يدك، وَلَا أزلت سلطانك عَن عمل جليل، وَمَعَ هَذَا، فوَاللَّه لَو أنفذت إِلَيّ جيشك كُله، مَا جَازَ أَن تظفر بِي، وَلَا تنالني؛ لِأَنِّي رجل نشأت فِي هَذَا القشف، واعتدته أَنا ورجالي، وَلَا مشقة علينا فِيهِ، وَنحن فِي أوطاننا مستريحون، وَأَنت تنفذ جيشك من الجيوش والثلج، وَالريحَان والند، فيجيئون من الْمسَافَة الْبَعِيدَة، وَالطَّرِيق الشاسع، وَقد قَتلهمْ السّفر قبل قتالنا، وَإِنَّمَا غرضهم أَن يبلوا عذرا فِي موافقتنا سَاعَة، ثمَّ يهربون، وَإِن ثبتوا فَإِن مَا يلحقهم

من وعثاء السّفر وَشدَّة الْجهد أكبر أعواننا عَلَيْهِم، فَمَا هُوَ إِلَّا أَن أحقق عَلَيْهِم حَتَّى ينهزمون، وَإِن استراحوا، فأقاموا، وَكَانُوا عددا لَا قبل لنا بِهِ، فيهزمونا، لَا يقدر جيشك على أَكثر من هَذَا، فأنهزم عَنْهُم مِقْدَار عشْرين فرسخا، وأجول فِي الصَّحرَاء شهرا، ثمَّ أكبسهم على غرَّة، فأقتلهم، وَإِن لم يستو لي هَذَا، وَكَانُوا متحرزين، فَمَا يُمكنهُم الطّواف خَلْفي فِي البراري والصحاري، ثمَّ لَا يحملهم الْبَلَد فِي الْمقَام، وَلَا الزَّاد، إِن كَانُوا كثيرين، فَإِن انْصَرف الْجُمْهُور مِنْهُم، وَبَقِي الْأَقَل، فهم قَتْلَى سيوفي، فِي أول يَوْم ينْصَرف الْجَيْش، وَيبقى من يتَخَلَّف، هَذَا إِن سلمُوا من وباء هَذَا الْبَلَد، ورداءة مَائه وهوائه الَّذِي لَا طَاقَة لَهُم بِهِ، لأَنهم نشئوا فِي ضِدّه، وربوا فِي غَيره، وَلَا عَادَة لأجسامهم بِالصبرِ عَلَيْهِ، ففكر فِي هَذَا، وَانْظُر، هَل يَفِي تعبك، وتغريرك بجيشك وعسكرك، وإنفاقك الْأَمْوَال، وتجهيزك الرِّجَال، وتكلفك هَذِه الأخطار، وتحملك هَذِه المشاق، بطلبي، وَأَنا مَعَ هَذَا خَالِي الذرع مِنْهَا، سليم النَّفس وَالْأَصْحَاب من جَمِيعهَا، وهيبتك تنخرق فِي الْأَطْرَاف عِنْد مُلُوكهَا، كلما جرى عَلَيْك من هَذَا شَيْء، ثمَّ لَا تظفر من بلدي بطائل، وَلَا تصل مِنْهُ إِلَى مَال وَلَا حَال، فَإِن اخْتَرْت بعد هَذَا محاربتي، فاستخر الله عز وَجل وأنفذ من شِئْت، وَإِن أَمْسَكت فَذَاك إِلَيْك. قَالَ: ثمَّ جهزني، وأنفذني مَعَ عشرَة من أَصْحَابه إِلَى الْكُوفَة، فسرت مِنْهَا إِلَى الحضرة. وَدخلت على المعتضد، فتعجب من سلامتي، وَقَالَ: مَا خبرك؟ فَقلت: شَيْء أذكرهُ سرا لأمير الْمُؤمنِينَ.

فتشوف إِلَيْهِ، وخلا بِي، فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة بأسرها، فرأيته يتمعط فِي جلده غيظا، حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيسير إِلَيْهِ بِنَفسِهِ. وَخرجت من بَين يَدَيْهِ، فَمَا رَأَيْته ذكره بعد ذَلِك بِحرف.

كفي بالأجل حارسا

كفي بالأجل حارسا حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن فَهد الْأَزْدِيّ الْموصِلِي، قَالَ: حَدثنِي بعض المواصلة، من ثِقَات أهل الْموصل: أَن فَاطِمَة بنت أَحْمد بن عَليّ الهزارمردي الْكرْدِي، زَوْجَة نَاصِر الدولة، أم أبي تغلب ابْنه، اتهمت عَاملا كَانَ لَهَا، يُقَال لَهُ: ابْن أبي قبيصَة، من أهل الْموصل، بخيانة فِي مَالهَا، فقبضت عَلَيْهِ، وحبسته فِي قلعتها. ثمَّ رَأَتْ أَن تقتله، فَكتبت إِلَى المتَوَكل بالقلعة، بقتْله، فورد عَلَيْهِ الْكتاب، وَكَانَ لَا يحسن أَن يقْرَأ وَلَا أَن يكْتب، وَلَيْسَ عِنْده من يقْرَأ وَيكْتب إِلَّا ابْن أبي قبيصَة، فَدفع الْمُوكل بِهِ الْكتاب إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: اقرأه عَليّ.

فَلَمَّا رأى فِيهِ الْأَمر بقتْله قَرَأَ الْكتاب بأسره، إِلَّا حَدِيث الْقَتْل، ورد الْكتاب عَلَيْهِ. قَالَ ابْن أبي قبيصَة: ففكرت، وَقلت: أَنا مقتول، وَلَا آمن أَن يرد كتاب آخر فِي هَذَا الْمَعْنى، ويتفق حُضُور من يقْرَأ وَيكْتب غَيْرِي فَينفذ فِي الْأَمر، وسبيلي أَن أحتال بحيلة، فَإِن تمت سلمت، وَإِن لم تتمّ فَلَيْسَ يلحقني أَكثر من الْقَتْل الَّذِي أَنا حَاصِل فِيهِ. قَالَ: فتأملت القلعة، فَإِذا فِيهَا مَوضِع يمكنني أَن أطرح نَفسِي مِنْهُ إِلَى أَسْفَلهَا، إِلَّا أَن بَينه وَبَين الأَرْض أَكثر من ثَلَاثَة آلَاف ذِرَاع، وَفِيه صَخْر لَا يجوز أَن يسلم مَعَه من يَقع عَلَيْهِ. قَالَ: فَلم أجسر، ثمَّ ولد لي الْفِكر أَن تَأَمَّلت الثَّلج قد سقط عدَّة لَيَال، وَقد غطى تِلْكَ الصخور، وَصَارَ فَوْقهَا مِنْهُ أَمر عَظِيم، يجوز إِن سَقَطت عَلَيْهِ وَكَانَ فِي أَجلي تَأْخِير، أَن تنكسر يَدي أَو رجْلي وَأسلم، قَالَ: وَكنت مُقَيّدا، فَقُمْت لما نَام النَّاس، وطرحت نَفسِي من الْموضع، قَائِما على رجْلي، فحين حصلت فِي الْهَوَاء نَدِمت وَأَقْبَلت أسْتَغْفر الله، وأتشهد، وأغمضت عَيْني حَتَّى لَا أرى كَيفَ أَمُوت، وجمعت رجْلي بعض الْجمع؛ لِأَنِّي كنت سَمِعت قَدِيما أَن من اتّفق لَهُ أَن يسْقط قَائِما من مَكَان عَال، إِذا جمع رجلَيْهِ، ثمَّ أرسلهما إِذا بَقِي بَينه وَبَين الأَرْض ذِرَاع أَو أَكثر قَلِيلا فَإِنَّهُ يسلم، وتنكسر حِدة السقطة، وَيصير كَأَنَّهُ بِمَنْزِلَة من سقط من ذراعين. قَالَ: فَفعلت ذَلِك، فَلَمَّا سَقَطت إِلَى الأَرْض، ذهب عني أَمْرِي، وَزَالَ عَقْلِي، ثمَّ ثاب إِلَيّ عَقْلِي، فَلم أجد مَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يلحقني من ألم السقطة من ذَلِك الْمَكَان، فَأَقْبَلت أجس أعضائي شَيْئا شَيْئا، فأجدها سَالِمَة، وَقمت وَقَعَدت، وحركت يَدي ورجلي، فَوجدت ذَلِك سليما كُله، فحمدت الله تَعَالَى على هَذِه الْحَال.

وَأخذت صَخْرَة، وَكَانَ الْحَدِيد الَّذِي فِي رجْلي قد صَار كالزجاج لشدَّة الْبرد، قَالَ: فضربته ضربا شَدِيدا، فانكسر، وَطن الْجَبَل حَتَّى ظَنَنْت أَن سيسمعه من فِي القلعة لعظمه، فيتنبهون على صَوته، فَسلم الله عز وَجل من هَذَا أَيْضا، وَقطعت تكي، فشددت بِبَعْضِهَا الْقَيْد على ساقي، وَقمت أَمْشِي فِي الثَّلج. فمشيت طَويلا، ثمَّ خفت أَن يرى أثري من غَد فِي الثَّلج على المحجة فيطلبوني، ويتبعوني، فَلَا أفوتهم، فعدلت عَن المحجة، إِلَى نهر، يُقَال لَهُ: الحابور، فَلَمَّا صرت على شاطئه، نزلت فِي المَاء إِلَى ركبتي، وَأَقْبَلت أَمْشِي كَذَلِك فرسخا، حَتَّى انْقَطع أثري، وخفي مَكَان رجْلي، ثمَّ خرجت لما كَادَت أطرافي تسْقط من الْبرد، فمشيت على شاطئه، ثمَّ عدت أَمْشِي فِيهِ، وَرُبمَا حصلت فِي مَوضِع لَا أقدر على الْمَشْي فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يكون جرفا، فأسبح. فأمشي على ذَلِك أَرْبَعَة فراسخ، حَتَّى حصلت فِي خيم فِيهَا قوم، فأنكروني، وهموا بِي، فَإِذا هم أكراد، فقصصت عَلَيْهِم قصتي واستجرت بهم، فرحموني، وغطوني، وأوقدوا بَين يَدي نَارا، وأطعموني، وستروني، وانْتهى الطّلب من غَد إِلَيْهِم، فَمَا أعْطوا خبري أحدا.

فَلَمَّا انْقَطع الطّلب سيروني، فَدخلت الْموصل مستترا. وَكَانَ نَاصِر الدولة بِبَغْدَاد، إِذْ ذَاك، فانحدرت إِلَيْهِ، فَأَخْبَرته بخبري كُله، فعصمني من زَوجته، وَأحسن إِلَيّ، وصرفني.

يرتجع من مال مصادرته مائة ألف دينار

يرتجع من مَال مصادرته مائَة ألف دِينَار حَدثنِي أَبُو عَليّ بن أبي عبد الله الْحُسَيْن بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْجَصَّاص الْجَوْهَرِي، قَالَ: سَمِعت أبي يحدث، قَالَ: لما نكبني المقتدر، وَأخذ مني تِلْكَ الْأَمْوَال الْعَظِيمَة، أَصبَحت يَوْمًا فِي الْحَبْس آيس مَا كنت من الْفرج. فَأَتَانِي خَادِم، فَقَالَ: الْبُشْرَى. فَقلت: مَا الْخَبَر؟ قَالَ: قُم، فقد أطلقت. فَقُمْت مَعَه فاجتاز بِي فِي بعض الطّرق فِي دَار الْخلَافَة، يُرِيد إخراجي إِلَى دَار السيدة، لتَكون هِيَ الَّتِي تُطَلِّقنِي؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي

شفعت فيَّ، فَوَقَعت عَيْني فِي جوازي على أعدال خيش لي أعرفهَا، وَكَانَ مبلغها مائَة عدل. فَقلت للخادم: أَلَيْسَ هَذَا من الخيش الَّذِي حمل من دَاري؟ قَالَ: بلَى. فتأملته، فَإِذا هُوَ بشده وعلاماته، وَكَانَت هَذِه الأعدال قد حملت إِلَيّ من مصر، وَفِي كل عدل مِنْهَا ألف دِينَار، من مَال كَانَ لي بِمصْر، كتبت بِحمْلِهِ، فخافوا عَلَيْهِ من الطَّرِيق، فجعلوه فِي أعدال الخيش؛ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يكَاد يحملهُ اللُّصُوص، لَو وَقَعُوا عَلَيْهِ، فَلَا يَفْطنُون لما فِيهِ، فوصلت سَالِمَة، ولاستغنائي عَن المَال، لم أخرجه من الأعدال، وَتركته بِحَالهِ فِي بَيت من دَاري، وأقفلت عَلَيْهِ، وتوخيت أَيْضا بذلك ستر حَدِيثه، فتركته شهورا على حَاله لأنقله فِي وَقت آخر كَمَا أُرِيد. وكبست، فَأخذ الْجَيْش فِي جملَة مَا أَخذ من دَاري، ولخسته عِنْدهم تهاونوا بِهِ، وَلم يعرف أحد مَا فِيهِ، فَطرح فِي تِلْكَ الدَّار. فَلَمَّا رَأَيْته بشده، طمعت فِي خُلَاصَة، وَالْحِيلَة فِي ارتجاعه فَسكت، فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام من خروجي، راسلت السيدة، ورققتها، وشكوت حَالي إِلَيْهَا، وسألتها أَن تدفع إِلَيّ ذَلِك الخيش؛ لِأَنَّهُ لَا قدر لَهُ عِنْدهم، وَأَنا أنتفع بِثمنِهِ. قَالَ: فاستحمقتني، وَقَالَت: أَي شَيْء قدر الخيش؟ ردُّوهُ عَلَيْهِ، فَسلم إِلَيّ بأسره. ففتحته، وَأخذت مِنْهُ الْمِائَة ألف دِينَار، مَا ضَاعَ لي مِنْهَا دِينَار وَاحِد، وَأخذت من الخيش مَا أحتاج إِلَيْهِ، وبعت بَاقِيه بجملة وافرة. فَقلت فِي نَفسِي: قد بقيت لي بَقِيَّة إقبال جَيِّدَة.

قد ينتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير

قد ينْتَفع الْإِنْسَان فِي نكبته بِالرجلِ الصَّغِير حَدثنِي عَليّ بن هِشَام، قَالَ: سَمِعت حَامِد بن الْعَبَّاس، يَقُول: رُبمَا انْتفع الْإِنْسَان فِي نكبته بِالرجلِ الصَّغِير، أَكثر من منفعَته بالكبير، فَمن ذَلِك: أَن إِسْمَاعِيل بن بلبل، لما حَبَسَنِي، جعلني فِي يَد بواب كَانَ يَخْدمه قَدِيما. قَالَ: وَكَانَ رجلا حرا، فأحسنت إِلَيْهِ، وبررته، وَكنت أعْتَمد على عناية أبي الْعَبَّاس بن الْفُرَات بِي، وَكَانَ ذَلِك البواب، لقديم خدمته لإسماعيل، يدْخل إِلَى مجالسه الْخَاصَّة، وَيقف بَين يَدَيْهِ، وَلَا يُنكر عَلَيْهِ ذَلِك، لسالف خدمته. فَصَارَ إِلَيّ فِي بعض اللَّيَالِي، فَقَالَ: قد حرد الْوَزير على ابْن الْفُرَات بسببك،

وَقَالَ لَهُ: مَا يكسر المَال على حَامِد غَيْرك، وَلَا بُد من الْجد فِي مُطَالبَته بباقي مصادرته، وسيدعوك الْوَزير فِي غَد إِلَى حَضرته ويهددك. فشغل ذَلِك قلبِي، فَقلت لَهُ: هَل عنْدك من رَأْي؟ قَالَ: نعم، تكْتب رقْعَة إِلَى رجل من معامليك تعرف شحه وضيق نَفسه، تلتمس مِنْهُ لِعِيَالِك ألف دِرْهَم، يقرضك إِيَّاهَا، وتلتمس مِنْهُ أَن يجيبك على ظهر رقعتك، لترجع إِلَيْك، فَإِنَّهُ لشحه يردك بِعُذْر، وتحتفظ بالرقعة، فَإِذا طالبك الْوَزير أخرجتها لَهُ على غير مواطأة، وَقلت لَهُ: قد أفضت حَالي إِلَى هَذَا، فَلَعَلَّ ذَلِك ينفعك. قَالَ: فَفعلت مَا قَالَه، وَجَاءَنِي الْجَواب بِالرَّدِّ كَمَا خمنا، فشددت الرقعة معي فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، أخرجني الْوَزير، وطالبني، فأخرجت الرقعة، وَأَقْرَأْته إِيَّاهَا، ورققته، وتكلمت بِمَا أمكن، فاستحيا، وَكَانَ ذَلِك سَبَب خفَّة أَمْرِي، وَزَوَال محني. فَلَمَّا تقلدت فِي أَيَّام عبيد الله بن سُلَيْمَان مَا تقلدت سَأَلت عَن البواب، فاجتذبته إِلَى خدمتي، وَكنت أجري عَلَيْهِ خمسين دِينَارا فِي كل شهر، وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآن.

أبو العتاهية يحبس لامتناعه عن قول الشعر

أَبُو الْعَتَاهِيَة يحبس لامتناعه عَن قَول الشّعْر أَخْبرنِي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: حَدثنِي عمي الْحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مهرويه، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد ابْن أبي الْعَتَاهِيَة، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: لما امْتنعت من قَول الشّعْر وَتركته، أَمر الْمهْدي بحبسي فِي سجن الجرائم، فأخرجت من بَين يَدَيْهِ إِلَى الْحَبْس. فَلَمَّا أدخلته دهشت، وَذهل عَقْلِي، وَرَأَيْت منْظرًا هالني. فرميت بطرفي أطلب موضعا آوي فِيهِ، أَو رجلا آنس بمجالسته، فَإِذا أَنا بكهل حسن السمت نظيف الثَّوْب، تبين عَلَيْهِ سيماء الْخَيْر، فقصدته، فَجَلَست إِلَيْهِ من غير أَن أسلم عَلَيْهِ، أَو أسأله عَن شَيْء من أمره، لما أَنا فِيهِ من الْجزع والحيرة. فَمَكثت كَذَلِك مَلِيًّا، وَأَنا مطرق مفكر فِي حَالي، فَأَنْشد الرجل: تعودت مس الضّر حَتَّى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إِلَى الصَّبْر وصيرني يأسي من النَّاس واثقا ... بِحسن صَنِيع الله من حَيْثُ لَا أَدْرِي قَالَ: فاستحسنت الْبَيْتَيْنِ، وتبركت بهما، وثاب إِلَيّ عَقْلِي، فَأَقْبَلت على الرجل، فَقلت لَهُ: تفضل، أعزّك الله، بِإِعَادَة هذَيْن الْبَيْتَيْنِ.

فَقَالَ لي: وَيحك يَا إِسْمَاعِيل، وَلم يكنني، مَا أَسْوَأ أدبك، وَأَقل عقلك ومروءتك، دخلت، فَلم تسلم عَليّ تَسْلِيم الْمُسلم على الْمُسلم، وَلَا توجعت لي توجع الْمُبْتَلى للمبتلى، وَلَا سَأَلتنِي مَسْأَلَة الْوَارِد على الْمُقِيم، حَتَّى إِذا سَمِعت مني بَيْتَيْنِ من الشّعْر الَّذِي لم يَجْعَل الله فِيك فضلا، وَلَا أدبا، وَلَا جعل لَك معاشا غَيره، لم تتذكر مَا سلف مِنْك فتتلافاه، وَلَا اعتذرت مِمَّا قَدمته، وفرطت فِيهِ من الْحق، حَتَّى استنشدتني مبتدئا، كَأَن بَيْننَا أنسا قَدِيما، أَو معرفَة سالفة، أَو صُحْبَة تبسط المنقبض. فَقلت لَهُ: تعذرني متفضلا، فَإِن دون مَا أَنا فِيهِ مَا يدهش. فَقَالَ: وَفِي أَي شَيْء أَنْت؟ أَنْت إِنَّمَا تركت قَول الشّعْر الَّذِي كَانَ بِهِ قوام جاهك عِنْدهم، وسببك إِلَيْهِم، فحبسوك حَتَّى تَقوله، وَأَنت لَا بُد أَن تَقوله، فَتطلق وَأَنا يدعى بِي السَّاعَة، فأطالب بإحضار عِيسَى بن زيد، وَهُوَ ابْن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن دللت عَلَيْهِ، لقِيت الله عز وَجل بدمه، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خصمي فِيهِ، وَإِن لم أفعل، قتلت، فَأَنا أولى بالدهش والحيرة مِنْك، وَأَنت ترى احتسابي وصبري. فَقلت: يَكْفِيك الله عز وَجل، وأطرقت خجلا مِنْهُ. فَقَالَ لي: لَا أجمع عَلَيْك التوبيخ وَالْمَنْع، اسْمَع الْبَيْتَيْنِ واحفظهما، فأعادهما عَليّ مرَارًا حَتَّى حفظتهما.

ثمَّ دعِي بِهِ وَبِي، فَلَمَّا قمنا، قلت لَهُ: من أَنْت أعزّك الله؟ قَالَ: أَنا حَاضر، صَاحب عِيسَى بن زيد. فأدخلنا على الْمهْدي، فَلَمَّا وقفنا بَين يَدَيْهِ، قَالَ لَهُ: أَيْن عِيسَى بن زيد؟ قَالَ: مَا يدريني أَيْن عِيسَى بن زيد، طلبته، وأخفته، فهرب مِنْك فِي الْبِلَاد، وأخذتني، فحبستني، فَمن أَيْن أَقف على مَوضِع هارب مِنْك وَأَنا مَحْبُوس؟ قَالَ لَهُ: فَأَيْنَ كَانَ متواريا، وَمَتى آخر عَهْدك بِهِ، وَعند من لَقيته؟ قَالَ: مَا لَقيته مُنْذُ توارى، وَلَا أعرف عَنهُ خَبرا. قَالَ: وَالله، لتدلني عَلَيْهِ، أَو لَأَضرِبَن عُنُقك السَّاعَة. فَقَالَ: اصْنَع مَا بدا لَك، أَنا أدلك على ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتقتله، وَألقى الله عز وَجل، وَرَسُوله، وهما مطالبان لي بدمه؟ وَالله لَو كَانَ بَين جلدي، وثوبي، مَا كشفت عَنهُ. فَقَالَ: اضربوا عُنُقه. فَقدم، فَضربت عُنُقه من سَاعَته. ثمَّ دَعَاني، فَقَالَ: أَتَقول الشّعْر، أَو ألحقك بِهِ؟ فَقلت: بل أَقُول الشّعْر. قَالَ: أَطْلقُوهُ. قَالَ مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مهرويه: والبيتان اللَّذَان سمعهما أَبُو الْعَتَاهِيَة، من حَاضر، هما فِي شعره الْآن.

قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ: وأنشدني بعض أَصْحَابنَا بَيْتا آخر، زِيَادَة: إِذا أَنا لم أقنع من الدَّهْر بِالَّذِي ... تكرهت مِنْهُ طَال عتبي على الدَّهْر وَوجد على مسطرة عَليّ بن أَحْمد رَحمَه الله تَعَالَى بَيت رَابِع لهَذَا، وَهُوَ: ووسع صَدْرِي للأذى كَثْرَة الْأَذَى ... وَقد كنت أَحْيَانًا يضيق بِهِ صَدْرِي

الفيض بن أبي صالح ومروءته

الْفَيْض بن أبي صَالح ومروءته وجدت فِي كتاب أعطانيه أَبُو الْحُسَيْن عبد الْعَزِيز بن إِبْرَاهِيم، ابْن حَاجِب النُّعْمَان، وَهُوَ يَوْمئِذٍ كَاتب الْوَزير المهلبي، على ديوَان السوَاد، وَذكر أَنه نسخه من كتاب أعطَاهُ إِيَّاه أَبُو الْحُسَيْن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الخصيبي، وَكَانَ فِيهِ إصلاحات بِخَط أبي الْحُسَيْن بن مابنداد، قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عبد الْأَعْلَى الإسكافي: كَانَ دَاوُد، كَاتب أم جَعْفَر: قد حبس وَكيلا لَهَا، وَجب لَهَا عَلَيْهِ فِي حسابه مِائَتَا ألف دِرْهَم، فَكتب الرجل إِلَى عِيسَى بن فلَان، وَإِلَى سهل بن الصَّباح، وَكَانَ صديقين لَهُ، يسألهما الرّكُوب إِلَى دَاوُد فِي أمره، فركبا إِلَيْهِ. فلقيهما الْفَيْض بن أبي صَالح، فَسَأَلَهُمَا عَن خبرهما، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ لَهما: أتحبان أَن أكون مَعَكُمَا.

قَالَا: نعم. فصاروا إِلَى دَاوُد، فكلموه فِي إِطْلَاق الرجل، فَقَالَ: أكتب إِلَى أم جَعْفَر، فَكتب إِلَيْهَا، يعلمهَا خبر الْقَوْم وحضورهم، ومسألتهم إِطْلَاق الْوَكِيل. فَوَقَعت فِي الرقعة أَن يعرفهُمْ مَا وَجب لَهَا عَلَيْهِ من المَال، وَيُعلمهُم أَنه لَا سَبِيل على إِطْلَاقه دون أَدَاء المَال. قَالَ: فأقرأهم التوقيع، فَقَالَ عِيسَى وَسَهل بن الصَّباح: قد قضينا حق الرجل، وَقد أَبَت أم جَعْفَر أَن تطلقه إِلَّا بِالْمَالِ، فَقومُوا ننصرف. فَقَالَ لَهما الْفَيْض بن أبي صَالح: كأنا إِنَّمَا جِئْنَا لنؤكد حبس الرجل. قَالَا لَهُ: فَمَاذَا نصْنَع؟ قَالَ: نُؤَدِّي المَال عَنهُ. قَالَ: ثمَّ أَخذ الدواة، فَكتب إِلَى وَكيله فِي حمل المَال عَن الرجل كتابا دَفعه إِلَى دَاوُد كَاتب أم جَعْفَر، وَقَالَ: قد أزحنا علتك فِي المَال، فادفع إِلَيْنَا صاحبنا. قَالَ: لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك، حَتَّى أعرفهَا الْخَبَر. قَالَ: فَكتب إِلَيْهَا بالْخبر، فَوَقَعت فِي رقعته: أَنا أولى بِهَذِهِ المكرمة من الْفَيْض بن أبي صَالح، فاردد عَلَيْهِ كِتَابه بِالْمَالِ، وادفع إِلَيْهِ الرجل، وَقل لَهُ: لَا يعاود مثل مَا كَانَ مِنْهُ. قَالَ: وَلم يكن الْفَيْض يعرف الرجل، وَإِنَّمَا ساعد عِيسَى وسهلا على الْكَلَام فِي أمره.

كيف تخلص أعشى همدان من أسر الديلم

كَيفَ تخلص أعشى هَمدَان من أسر الديلم أَخْبرنِي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي الْحسن بن عَليّ، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عليل الْعَنزي، عَن مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة الْأَسدي، عَن ابْن كناسَة. وحَدثني مَسْعُود بن بشر، عَن أبي عُبَيْدَة، والأصمعي. وَوَافَقَ روايتهم الْهَيْثَم بن عدي، عَن حَمَّاد الراوية، قَالَ: كَانَ أعشى هَمدَان، أَبُو المصبح، مِمَّن أغزاه الْحجَّاج بلد الديلم، ونواحي دستى، فَأسر، فَلم يزل أَسِيرًا فِي أَيدي الديلم مُدَّة. ثمَّ إِن بِنْتا للعلج الَّذِي كَانَ أسره، رَأَتْهُ، فهويته، فَصَارَت إِلَيْهِ لَيْلًا، وأمكنته من نَفسهَا، فَأصْبح، وَقد وَاقعهَا ثَمَانِي مَرَّات.

فَقَالَت لَهُ الديلمية: يَا معشر الْمُسلمين، هَكَذَا تَفْعَلُونَ بنسائكم؟ فَقَالَ لَهَا: هَكَذَا نَفْعل كلنا بنسائنا. فَقَالَت لَهُ: بِهَذَا الْعَمَل نصرتم، أَفَرَأَيْت إِن خلصتك أَن تصطفيني لنَفسك؟ فَقَالَ لَهَا: نعم، وعاهدها. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل، حلت قيوده، وَأخذت بِهِ طَرِيقا تعرفه، حَتَّى خلصته. فَقَالَ شَاعِر من أسراء الْمُسلمين: وَمن كَانَ يفْدِيه من الْأسر مَاله ... فهمدان تفديها الْغَدَاة أيورها وَقَالَ الْأَعْشَى، يذكر مَا لحقه من أسر الديلم لَهُ: لمن الظعائن سيرهن تزحف ... عوم السفين إِذا تقاعس مجذف وَذكر أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ القصيدة، وَهِي طَوِيلَة، اخْتَرْت مِنْهَا مَا تعلق بالفرج بعد الشدَّة، وَهُوَ قَوْله: أَصبَحت رهنا للعداة مكبلا ... أمسي وَأصْبح فِي الأداهم أرسف وَلَقَد أَرَانِي قبل ذَلِك نَاعِمًا ... جذلان آبى أَن أضام وآنف واستنكرت ساقي الوثاق وساعدي ... وَأَنا امْرُؤ بَادِي الأشاجع أعجف وأصابني قوم وَكنت أصيبهم ... فَالْآن أَصْبِر للزمان وَأعرف وَإِذا تصبك من الْحَوَادِث نكبة ... فاصبر لَهَا فلعلها تتكشف ويروى: فَكل مُصِيبَة ستكشف.

يحتال للخلاص من حبس نجاح بن سلمة

يحتال للخلاص من حبس نجاح بن سَلمَة وَذكر ابْن عَبدُوس فِي أَخْبَار الوزراء: أَن نجاح بن سَلمَة، حبس إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر مكايدة لِأَخِيهِ، وَذَلِكَ فِي أَيَّام المتَوَكل. فَلَمَّا طَال حبس إِبْرَاهِيم، وَلم يجد حِيلَة فِي الْخَلَاص، عمل أبياتا، وأنفذها إِلَى المسدود الطنبوري، وَسَأَلَهُ أَن يعْمل فِيهَا لحنا، ويغني بهَا المتَوَكل، فَإِذا سَأَلَ عَن قَائِلهَا، عرفه أَنَّهَا لَهُ. فَفعل المسدود ذَلِك، وَسَأَلَهُ المتَوَكل، فَقَالَ: لعبدك إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر، فَذكره، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ. والأبيات هِيَ: بِأبي من بَات عِنْدِي ... طَارِقًا من غير وعد بَات يشكو ألم الشوق ... وأشكو فرط وجدي وتجنى فَبكى فانهل ... در فَوق ورد فيد تَحت يَد طورا ... وخد فَوق خد

يهب أحد أتباعه خمسة آلاف ألف درهم

يهب أحد أَتْبَاعه خَمْسَة آلَاف ألف دِرْهَم وَذكر أَيْضا أَن إِسْحَاق بن سعد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عِيسَى المروروذي صَاحب يحيى بن خاقَان، عَنهُ، قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون ألزمني خَمْسَة آلَاف ألف دِرْهَم، فأعلمته أَنِّي لَا أملك إِلَّا سبع مائَة ألف دِرْهَم، وَحلفت لَهُ على ذَلِك، بأيمان مُغَلّظَة، اجتهدت فِيهَا، فَلم يقبل مني، وحبسني عِنْد أَحْمد بن هِشَام، وَكَانَ بيني وَبَينه شَرّ قد اشْتهر وَعرف، وَكَانَ يتقلد الحرس. فَقَالَ أَحْمد للموكلين بِي: احفظوه واحذروا أَن يسم نَفسه. فَفطن الْمَأْمُون لمراده، فَقَالَ: لَا يَأْكُل يحيى بن خاقَان، وَلَا يشرب إِلَّا مَا يُؤْتى بِهِ من منزله. قَالَ: فأقمت على ذَلِك مُدَّة، فَوجه إِلَيّ الْحسن بن سهل بِأَلف ألف دِرْهَم، وَوجه إِلَيّ فرج الرخجي بِأَلف ألف دِرْهَم، وَوجه إِلَيّ حميد الطوسي

بِأَلف ألف دِرْهَم، وأضفت ذَلِك إِلَى مَا كَانَ عِنْدِي، واضطربت حَتَّى جمعت خَمْسَة آلَاف ألف دِرْهَم. فَلَمَّا اجْتمعت، كتبت إِلَى الْمَأْمُون بِحُضُور المَال الَّذِي ألزمني إِيَّاه، فَأمر بإحضاري، فَدخلت إِلَيْهِ، وَبَين يَدَيْهِ أَحْمد بن أبي خَالِد، وَعَمْرو بن مسْعدَة، وَعلي بن هِشَام. فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ لي: أولم تُخبرنِي وتحلف لي أَنَّك لَا تملك إِلَّا سبع مائَة ألف دِرْهَم، فَمن أَيْن لَك هَذَا المَال؟ فصدقته عَن أمره، وقصصت الْقِصَّة عَلَيْهِ. فَأَطْرَقَ طَويلا، ثمَّ قَالَ لي: قد وهبته لَك. فَقَالَ لَهُ الْحُضُور: أتهب لَهُ خَمْسَة آلَاف ألف، وَلَيْسَ فِي بَيت المَال دِرْهَم وَاحِد، وَأَنت مُحْتَاج إِلَى مَا دون ذَلِك بِكَثِير؟ فَلَو أَخَذته مِنْهُ قرضا، فَإِذا جَاءَك مَال رَددته عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُم: أَنا على المَال أقدر من يحيى، وَقد وهبته لَهُ. فَرددت إِلَى الْقَوْم مَا كَانُوا حملوه، وتخلصت.

يتنازل لأحد أتباعه عن عشرة آلاف ألف درهم

يتنازل لأحد أَتْبَاعه عَن عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كِتَابه (أَخْبَار الوزراء) : ذكر الْفضل بن مَرْوَان، أَن مُحَمَّد بن يزْدَاد سعى إِلَى الْمَأْمُون بِعَمْرو بن بهنوى. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: يَا فضل، خُذ عمرا إِلَيْك، وَقَيده، وضيق عَلَيْهِ، ليصدق عَمَّا صَار إِلَيْهِ من مَال الْفَيْء، فقد اختان مَالا عَظِيما، وطالبه بِهِ. فَقلت: نعم، وَأمرت بإحضار عَمْرو، فأحضر، فأخليت لَهُ حجرَة فِي دَاري، وأقمت لَهُ مَا يصلحه، وتشاغلت عَنهُ بِأُمُور السُّلْطَان، فِي يومي وَفِي الْغَد. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث، أرسل إِلَيّ عَمْرو يسألني الدُّخُول عَلَيْهِ، فَدخلت، فَأخْرج إِلَيّ رقْعَة، قد أثبت فِيهَا كل مَا يملكهُ من الدّور، والضياع، وَالْعَقار، وَالْأَمْوَال والفرش، وَالْكِسْوَة والجوهر، والقماش والكراع، وَمَا يجوز

بَيْعه من الرَّقِيق، وَكَانَ قيمَة ذَلِك عشرُون ألف ألف دِرْهَم، وسألني أَن أوصل رقعته إِلَى الْمَأْمُون، وأعلمه أَن عمرا قد جعله من ذَلِك كُله فِي حل وسعة. فَقلت لَهُ: مهلا، فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أكبر قدرا من أَن يسلبك مَالك كُله، ونعمتك عَن آخرهَا. فَقَالَ عَمْرو: إِنَّه لَكمَا وصفت فِي كرمه، وَلَكِن السَّاعِي لَا ينَام عني وَلَا عَنْك، وَقد بَلغنِي مَا أمرت بِهِ فِي أَمْرِي من الغلظة، وَمَا عاملتني بضد ذَلِك، وَقد طبت نفسا بِأَن أَشْتَرِي عدل أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمْرِي، وَرضَاهُ عني، بِجَمِيعِ مَالِي. فَلم أزل أنزلهُ، حَتَّى وافقته على عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم، وَقلت لَهُ: هَذَا شطر مَالك، وَهُوَ صَالح لِلْفَرِيقَيْنِ، وَأخذت خطه بِالْتِزَام ذَلِك صلحا عَن جَمِيع مَا جرى على يَده. وصرت على الْمَأْمُون، فَوجدت مُحَمَّد بن يزْدَاد، وَقد سبقني إِلَيْهِ، وَهُوَ يكلمهُ، فَلَمَّا رَآنِي قطع الْكَلَام وَخرج. فَقَالَ لي الْمَأْمُون: يَا فضل. قلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَا هَذِه الجرأة مِنْك علينا؟ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَنا عبد طَاعَتك وغرسك. فَقَالَ: أَمرتك بالتضييق على النبطي عَمْرو بن بهنوى، فقابلت أَمْرِي بالضد، ووسعت عَلَيْهِ، وأقمت لَهُ الْإِنْزَال. فَقلت لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن عمرا يُطَالب بأموال عَظِيمَة، وَلم آمن أَن أجعَل محبسه فِي بعض الدَّوَاوِين فيبذل مَالا يرغب فِي مثله، فيتخلص، فَجعلت محبسه فِي دَاري، وأشرفت على طَعَامه وَشَرَابه؛ لأحرس لَك نَفسه،

فَإِن كثيرا من النَّاس خانوا السُّلْطَان، وتمتعوا بالأموال، ثمَّ طولبوا بهَا، فاحتيل عَلَيْهِم، أَن يتلفوا، ويفوز بالأموال غَيرهم. قَالَ الْفضل: وَإِنَّمَا أردْت بذلك تسكين غضب الْمَأْمُون عَليّ، وَلم أعرض الرقعة عَلَيْهِ، وَلَا أعلمته مَا جرى بيني وَبَين عَمْرو؛ لِأَنِّي لم آمن سورته فِي ذَلِك الْوَقْت، لاشتداد غَضَبه. فَقَالَ لي: سلم عمرا إِلَى مُحَمَّد بن يزْدَاد، قَالَ: فوجهت من سَاعَتِي، من سلم عمرا إِلَى مُحَمَّد بن يزْدَاد، فَلم يزل يعذبه بأنواع الْعَذَاب، ليبذل لَهُ شَيْئا، فَلم يفعل. فَلَمَّا رأى أَصْحَابه وعماله، مَا قد ناله، جمعُوا لَهُ بَينهم ثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم، وسألوا عمرا أَن يبذلها لمُحَمد بن يزْدَاد، فبذلها، فَصَارَ مُحَمَّد إِلَى الْمَأْمُون متبجحا بهَا، فأوصل الْخط بهَا إِلَى الْمَأْمُون، وَأَنا وَاقِف. فَقَالَ الْمَأْمُون: يَا فضل، ألم أعلمك، أَن غَيْرك أقوم بأمورنا مِنْك، وأطوع لما نأمره بِهِ؟ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَرْجُو أَن أكون فِي حَال استبطاء أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه الله، أبلغ فِي طَاعَته من غَيْرِي. فَقَالَ الْمَأْمُون: هَذِه رقْعَة عَمْرو بن بهنوى بِثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم. فَقلت: وَمَا اجترأت عَلَيْهِ قطّ جرأتي عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْيَوْم، فَإِنِّي خرجت إِلَى إضبارة كَانَت مَعَ غلامي، فَأخذت الرقعة مِنْهَا مسرعا، وَقلت: وَالله، لأعلمن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنِّي مَعَ رفقي، أبلغ فِي حياطة أَمْوَاله من غَيْرِي مَعَ غلظته وأريته رقْعَة عَمْرو الَّتِي كَانَ كتبهَا لي، وحدثته بحَديثه عَن آخِره.

فَلَمَّا تبين الْمَأْمُون الخطين، وَعلم أَنَّهُمَا جَمِيعًا خطّ عَمْرو، قَالَ: مَا أَدْرِي أيكما أكْرم، عَمْرو حِين شكر برك، وطاب نفسا بِالْخرُوجِ عَن ملكه بِهَذَا السَّبَب، أم أَنْت ومحافظتك على أهل النعم، وسترك عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت، وَالله لَا كنتما يَا نبطيان، أكْرم مني. وَدفع الرقعة الَّتِي أَخذهَا مُحَمَّد بن يزْدَاد من عَمْرو إِلَيّ، وَأَمرَنِي بتخريقها، وتخريق الأولة، وأنفذ من سلم عمرا من محبسه إِلَيّ، وَأَمرَنِي بِإِطْلَاقِهِ. فَخرجت من بَين يَدَيْهِ، وَفعلت ذَلِك من وقتي.

أبو عمر القاضي يشيب في ليلة واحدة

أَبُو عمر القَاضِي يشيب فِي لَيْلَة وَاحِدَة حدث أَبُو الْحُسَيْن عبد الله بن أَحْمد بن الْحَارِث بن عَيَّاش الحرزي الْبَغْدَادِيّ، وَكَانَ خَليفَة أبي رَحمَه الله على الْقَضَاء بسوق الأهواز، الْمَشْهُور الَّذِي كَانَ صاهر أَبَا عمر القَاضِي، قَالَ: حَدثنِي القَاضِي أَبُو عمر رَحمَه الله، قَالَ: لما جرى فِي أَمر ابْن المعتز مَا جرى، حبست وَمَا فِي لحيتي طَاقَة بَيْضَاء،

وَحبس معي أَبُو الْمثنى القَاضِي وَمُحَمّد بن دَاوُد الْجراح فِي دَار وَاحِدَة، فِي ثَلَاثَة أَبْيَات متلاصقة، وَكَانَ بَيْتِي فِي الْوسط. وَكُنَّا آيسين من الْحَيَاة، فَكنت، إِذا جننا اللَّيْل، حدثت أَبَا الْمثنى تَارَة، وَمُحَمّد بن دَاوُد تَارَة، وحدثاني من وَرَاء الْأَبْوَاب، ويوصي كل منا إِلَى صَاحبه، وَنحن نتوقع الْقَتْل سَاعَة بساعة. فَلَمَّا كَانَ ذَات لَيْلَة، وَقد غلقت الْأَبْوَاب، ونام الموكلون بِنَا، وَنحن نتحدث فِي بُيُوتنَا، إِذْ حسسنا بِصَوْت الأقفال تفتح، فارتعنا، وَرجع كل وَاحِد منا إِلَى صدر بَيته. فَمَا شعرنَا إِلَّا وَقد فتح الْبَاب عَن مُحَمَّد بن دَاوُد، فَأخْرج، وأضجع ليذبح، فَقَالَ: يَا قوم، ذبحا كَمَا تذبح الشَّاة، أَيْن المصادرات، أَيْن أَنْتُم عَن أَمْوَالِي أفتدي بهَا نَفسِي؟ عَليّ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَمَا التفتوا إِلَى كَلَامه، وذبحوه، وَأَنا أرَاهُ من شقّ الْبَاب، وَقد أَضَاء الصحن، وَصَارَ كَأَنَّهُ نَهَار من كَثْرَة الشموع، واحتزوا رَأسه، وأخرجوه مَعَهم، وجروا جثته، فطرحت فِي بِئْر الدَّار، وغلقت الْأَبْوَاب، وَانْصَرفُوا.

قَالَ: فأيقنت بِالْقَتْلِ، وَأَقْبَلت على الصَّلَاة، وَالدُّعَاء، والبكاء. فَمَا مَضَت إِلَّا سَاعَات يسيرَة، حَتَّى سَمِعت أصوات الأقفال تفتح، فعاودني الْجزع، وَإِذا هم قد جَاءُوا إِلَى بَيت أبي الْمثنى القَاضِي، ففتحوه، وأخرجوه، وَقَالُوا لَهُ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ، يَا عَدو الله، يَا فَاسق، بِمَ استحللت نكث بيعتي، وخلع طَاعَتي؟ فَقَالَ: لِأَنِّي علمت، أَنه لَا يصلح للْإِمَامَة. فَقَالُوا لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد أمرنَا باستتابتك من هَذَا الْكفْر، فَإِن تبت رددناك إِلَى محبسك، وَإِلَّا قتلناك. فَقَالَ: أعوذ بِاللَّه من الْكفْر، مَا أتيت مَا يُوجب الْكفْر. قَالَ: وَأخذ يتهوس مَعَهم بِهَذَا الْكَلَام وَشبهه، وَلَا يرجع عَنهُ. فَلَمَّا أيسوا مِنْهُ، مضى بَعضهم وَعَاد، فَظَنَنْت أَنه يستثبت فِي الاسْتِئْذَان، قَالَ: ثمَّ أضجعوه، فذبحوه، وَأَنا أرَاهُ، وحملوا رَأسه، وطرحوا جثته فِي الْبِئْر. قَالَ: فَذهب عَليّ أَمْرِي، وَأَقْبَلت على الْبكاء، وَالدُّعَاء، والتضرع إِلَى الله جلّ وَعز. فَلَمَّا كَانَ وَجه السحر، وَقد سَمِعت صَوت الدبادب، وَإِذا صَوت

الأقفال، فَقلت: لم يبْق غَيْرِي، وَأَنا مقتول، فاستسلمت، وفتحوا الْأَبْوَاب عني، وأقاموني إِلَى الصحن، وَقَالُوا: يقل لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ، يَا فَاعل يَا صانع، مَا حملك على نكث بيعتي؟ فَقلت: الْخَطَأ، وشقوة الْجد، وَأَنا تائب إِلَى الله عز وَجل من هَذَا الذَّنب، قَالَ: وَأَقْبَلت أَتكَلّم بِهَذَا وَشبهه، فَمضى بَعضهم، وَعَاد، فَقَالَ: أجب، ثمَّ أسر إِلَيّ، فَقَالَ: لَا بَأْس عَلَيْك، فقد تكلم فِيك الْوَزير، يعنون: ابْن الْفُرَات، وَأَنت مُسلم إِلَيْهِ، فسكنت قَلِيلا، وجاءوني بخفي، وطيلساني، وعمامتي، فَلبِست ذَلِك، وأخرجت، فجيء بِي إِلَى الدَّار الَّتِي كَانَت برسم ابْن الْفُرَات فِي دَار الْخَلِيفَة، فَلَمَّا رَآنِي، أقبل يخاطبني بِعظم جنايتي وخطئي، وَأَنا أقرّ بذلك، وأستقيل، وأتنصل.

ثمَّ قَالَ لي: قد وهب لي أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَنْبك، وابتعت مِنْهُ جرمك بِمِائَة ألف دِينَار، ألزمتك إِيَّاهَا. فَقلت: أَيهَا الْوَزير، مَا رَأَيْت بَعْضهَا قطّ مجتمعا. فغمزني بِأَن أسكت، وجذبني قوم من وُجُوه الْكتاب، كَانَت ورائي، فسكتوني، فَعلمت أَن الْوَزير ابْن الْفُرَات، أَرَادَ تخليصي، وحقن دمي. فَقلت: عَليّ كل مَا يَأْمر الْوَزير أعزه الله. فَقَالَ: احملوه إِلَى دَاري. قَالَ: فَأخذت، وحملت إِلَى دَاره، فقرر أَمْرِي على مائَة ألف دِينَار، على أَن أؤدي مِنْهَا النّصْف عَاجلا، وَيصير النّصْف فِي حكم الْبَاطِل على رسم المصادرات. فَلَمَّا صرت فِي دَار ابْن الْفُرَات، وسع عَليّ فِي الْمطعم، وَالْمشْرَب والملبس، وأدخلت الْحمام، ورفهت، وأكرمت. فَرَأَيْت لما خرجت من الْحمام وَجْهي فِي الْمرْآة، فَإِذا طاقات شعر قد ابْيَضَّتْ فِي مقدم لحيتي، فَإِذا أَنا قد شبت فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الْوَاحِدَة.

قَالَ: وَأديت من المَال نيفا وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار، ثمَّ نظر لي ابْن الْفُرَات بِالْبَاقِي وصرفني إِلَى منزلي، وتخلص دمي. وأقمت فِي بَيْتِي سِنِين، وبابي مسدود، لَا أرى أحدا، إِلَّا فِي الشاذ، وتوفرت على دراسة الْفِقْه، وَالنَّظَر فِي الْعلم، إِلَى أَن من الله بالفرج، فكشف مَا بِي، وأخرجت من بَيْتِي إِلَى ولَايَة الْأَعْمَال.

قضى ليلته معلقا في بادهنج

قضى ليلته مُعَلّقا فِي بادهنج وَيُشبه هَذَا الحَدِيث، ويقاربه، وَإِن لم يكن فِي الْحَقِيقَة من بَاب من خرج من حبس، إِلَّا أَنه من أَخْبَار الْفرج فِي الْجُمْلَة، مَا حَدثنِي بِهِ أَبُو عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى الْأَنْبَارِي الْكَاتِب، صهر أبي مُحَمَّد المهلبي الْوَزير، قَالَ: سَمِعت دلويه، كَاتب صافي الحرمي، يتحدث، قَالَ: كَانَ فِي دَار المقتدر بِاللَّه، عريف على بعض الفراشين، يخدمني وصافيا إِذا أَقَمْنَا فِي دَار الْخَلِيفَة، فَفَقَدته فِي الدَّار، وظننته عليلا، فَلَمَّا كَانَ بعد شهور، رَأَيْته فِي بعض الطّرق، بزِي التُّجَّار، وَقد شَاب. فَقلت: فلَان؟ قَالَ: نعم، عَبدك يَا سَيِّدي. فَقلت: مَا هَذَا الشيب فِي هَذِه الشُّهُور الْيَسِيرَة، وَمَا هَذَا الزي؟ وَأَيْنَ كنت؟ فلجلج. فَقلت لغلماني: احملوه إِلَى دَاري، وَقلت: حَدثنِي حَدِيثك.

فَقَالَ: على أَن لي الْأمان والكتمان. فَقلت: نعم. فَقَالَ: كَانَ الرَّسْم الَّذِي تعرفه على كل عريف فِي الدَّار من الفراشين، أَن يدْخل يَوْمًا من الْأَيَّام، هُوَ وَمن مَعَه فِي عرافته، إِلَى دور الْحرم، لرش الخيوش الَّتِي فِيهَا. فبلغت النّوبَة إِلَيّ، فِي يَوْم كنت فِيهِ مخمورا، فَدخلت، وَمَعِي رجالي، إِلَى دَار فُلَانَة، وَذكر حظية جليلة من حظايا المقتدر بِاللَّه، لرش الخيش. فلعظم مَا كنت فِيهِ من الْخمار، مَا رششت قربتي، وَلم أخرج بِخُرُوج الرِّجَال، وَقلت لَهُم: امضوا، فهاتوا قربكم لإتمام الرش، فَإِذا رششتموها فأنبهوني، فَإِنِّي نَائِم هُنَا. وَدخلت خلف الخيش، إِلَى بَاب بادهنج تخرج مِنْهُ ريح طيبَة، فَنمت،

وَغلب عَليّ النّوم، إِلَى أَن جَاءَ الفراشون، وفرغوا من رش الخيش، وَخَرجُوا وَلم ينبهوني. وَتَمَادَى بِي النّوم، فَمَا انْتَبَهت إِلَّا بحركة فِي الخيش، فَقُمْت، فَإِذا أَنا قد أمسيت، وَإِذا صَوت نسَاء فِي الخيش، فَعلمت أَنِّي مقتول إِن أحس بِي، وتحيرت فَلم أدر مَا أعمل، فَدخلت البادهنج، وَكَانَ ضيقا، فَجعلت رجْلي على حائطي البادهنج وتسلقت فِيهِ، ووقفت مُعَلّقا، أترقب أَن يفْطن لي، فأقتل. وَإِذا بنسوة فراشات يكنسن الخيش، فَلَمَّا فرغن من ذَلِك فرشنه، وعبي فِيهِ مجْلِس الشَّرَاب. وَلم يكن بأسرع من أَن جَاءَ المقتدر بِاللَّه، وعدة جواري، فَجَلَسَ وجلسن وَأخذ الْجَوَارِي فِي الْغناء، وَأَنا أسمع ذَلِك كُله، وروحي تكَاد تخرج، فَإِذا أعييت، نزلت فَجَلَست فِي أَرض البادهنج، فَإِذا استرحت، وَخفت أَن يفْطن بِي، عدت فتسلقت، إِلَى أَن مَضَت قِطْعَة من اللَّيْل، ثمَّ عَن للمقتدر أَن جذب إِلَيْهِ حظيته الَّتِي هِيَ صَاحِبَة تِلْكَ الدَّار، فَانْصَرف بَاقِي الْجَوَارِي، وخلا الْموضع، فواقع المقتدر بِاللَّه الْجَارِيَة، وَأَنا أسمع حركتهما وكلامهما، ثمَّ نَامَا فِي مكانهما، وَلَا سَبِيل لي إِلَى النّوم لَحْظَة وَاحِدَة، لما أقاسي من الْخَوْف. ففكرت فِي أَن أخرج وأصعد إِلَى بعض السطوح، ثمَّ علمت أَنِّي إِن فعلت ذَلِك، تعجلت الْقَتْل، وَلم يجز أَن أنجو. فَلم تزل حَالي تِلْكَ إِلَى أَن انتبه المقتدر بِاللَّه فِي السحر، وَخرج من الْموضع.

فَلَمَّا كَانَ من غَد نصف النَّهَار، جَاءَ عريف آخر من الفراشين، وَمَعَهُ رِجَاله، فرشوا الخيش، فَخرجت فاختلطت بهم. فَقَالُوا: أيش تعْمل هَهُنَا؟ فأومأت إِلَيْهِم بِالسُّكُوتِ، وَقلت: الله، الله، فِي دمي، فَإِن حَدِيثي طَوِيل، فتذمموا أَن يفضحوني. وَقَالَ بَعضهم: مَا بَال لحيتك قد شابت؟ فَقلت: لَا أعلم، وَأخذت مَاء من قربَة بَعضهم، فرطبت بِهِ قربتي، وَخرجت بخروجهم. فَلَمَّا صرت فِي مَوضِع من دَار الْخَلِيفَة، وَقعت مغشيا عَليّ، وركبتني حمى عَظِيمَة وَذهب عَقْلِي، فَحَمَلَنِي الفراشون إِلَى منزلي، وَأَنا لَا أَعقل، فأقمت مبرسما مُدَّة طَوِيلَة. وَقد كنت عَاهَدت الله تَعَالَى، وَأَنا فِي البادهنج، إِن هُوَ خلصني، أَن لَا أخدم أحدا أبدا، وَلَا أشْرب النَّبِيذ، وأقلعت عَن أَشْيَاء تبت مِنْهَا. فَلَمَّا تفضل الله تَعَالَى بالعافية، وفيت بِالنذرِ، وبعت أَشْيَاء كَانَت لي، وضممتها إِلَى دَرَاهِم كَانَت عِنْدِي، ولزمت دكانا لحميي أتعلم فِيهِ التِّجَارَة مَعَه، وأتجر، وَتركت الدَّار، فَمَا عدت إِلَيْهَا إِلَى الْآن، وَلَا أَعُود أبدا إِلَى خدمَة النَّاس، وَلَا أنقض مَا تبت مِنْهُ. قَالَ: وَرَأَيْت لحيته وَقد كثر فِيهَا الشيب.

ابن الفرات يصفح عمن أساء إليه

ابْن الْفُرَات يصفح عَمَّن أَسَاءَ إِلَيْهِ حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن هِشَام، قَالَ: كَانَ أَبُو الْحسن بن الْفُرَات، لما ولي الوزارة الأولى، وجد سُلَيْمَان بن الْحسن يتقلد مجْلِس الْمُقَابلَة فِي ديوَان الْخَاصَّة، من قبل عَليّ بن عِيسَى، والديوان كُله، إِذْ ذَاك، إِلَى عَليّ بن عِيسَى، فقلد أَبُو الْحسن بن الْفُرَات، سُلَيْمَان، الدِّيوَان بأسره، فَأَقَامَ يتقلده نَحْو سنتَيْن. فَقَامَ لَيْلَة فِي دَار ابْن الْفُرَات يُصَلِّي الْمغرب، فَسَقَطت من كمه رقْعَة، فرآها بعض من حضر، فَأَخذهَا، وَلم يفْطن لَهَا سُلَيْمَان، وَقرأَهَا فَوَجَدَهَا سِعَايَة، بِخَطِّهِ، بِابْن الْفُرَات وأسبابه، إِلَى المقتدر بِاللَّه، وسعيا لِابْنِ عبد الحميد، كَاتب السيدة، فِي الوزارة فتقرب بهَا إِلَى ابْن الْفُرَات، فَقبض على سُلَيْمَان فِي الْوَقْت، وأنفذه فِي زورق مطبق إِلَى وَاسِط، فحبسه بهَا، وصادره، وعذبه، فَكَانَ فِي الْعَذَاب دهرا، وأيس مِنْهُ، فَبلغ ابْن الْفُرَات، أَن أم سُلَيْمَان بن الْحسن قد مَاتَت بِبَغْدَاد، وَأَنَّهَا كَانَت

تتمنى رُؤْيَته قبل مَوتهَا، فَاغْتَمَّ لذَلِك، وتذكر الْمَوَدَّة بَينه وَبَين أَبِيه الْحسن بن مخلد، فَبَدَأَ، وَكتب إِلَيْهِ بِخَطِّهِ كتابا، أَقْرَأَنِيهِ سُلَيْمَان بن الْحسن بعد سِنِين كَثِيرَة من تِلْكَ الْحَال، فحفظته، ونسخته: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: ميزت، أكرمك الله، بَين حَقك وجرمك، فَوجدت الْحق يُوفي على الجرم، وتذكرت من سالف حرمتك، فِي الْمنَازل الَّتِي فِيهَا ربيت، وَبَين أَهلهَا غذيت، مَا ثناني إِلَيْك، وعطفني عَلَيْك، وأعادني لَك إِلَى أفضل مَا عهِدت، وأجمل مَا ألفت، فثق، أكرمك الله، بذلك، وأسكن إِلَيْهِ، وعول فِي صَلَاح مَا اخْتَلَّ من أَمرك عَلَيْهِ، وَاعْلَم أَنِّي أراعي فِيك حُقُوق أَبِيك، الَّتِي تقوم بتوكيد السَّبَب، مقَام اللحمة وَالنّسب، وتسهل مَا عظم من جنايتك، وتقلل مَا كثر من إساءتك، وَلنْ أدع مراعاتها والمحافظة عَلَيْهَا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى، وَقد قلدتك أَعمال دستميسان لسنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، وبقايا مَا قبلهَا، وكتبت إِلَى أَحْمد بن مُحَمَّد بن حبش، بِحمْل عشرَة آلَاف دِرْهَم إِلَيْك، فتقلد هَذِه الْأَعْمَال، وَأثر فِيهَا أثرا جميلا يبين عَن كفايتك وَيُؤَدِّي إِلَى مَا أبغيه من زيادتك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: أَحْمد بن حبش هَذَا، كَانَ وَكيل ابْن الْفُرَات فِي ضيَاعه بواسط.

أراد أن يسير بسيرة الحجاج فقتلوه

أَرَادَ أَن يسير بسيرة الْحجَّاج فَقَتَلُوهُ وجدت فِي بعض الْكتب: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز ولى مُحَمَّد بن يزِيد، مولى الْأَنْصَار إفريقية، فَكَانَ حسن السِّيرَة فِيهَا، فَلَمَّا مَاتَ عمر بن عبد الْعَزِيز، وَولي يزِيد بن عبد الْملك الْأَمر، صرفه، وَولى يزِيد ابْن أبي مُسلم كَاتب الْحجَّاج بن يُوسُف. فَلَمَّا ورد يزِيد إفريقية، حبس مُحَمَّد بن يزِيد، وتسلط عَلَيْهِ، وطالبه بأموال لم تكن عِنْده.

ثمَّ إِن يزِيد بن أبي مُسلم أجمع أَن يصنع بِأَهْل إفريقيه، مثل مَا صنع الْحجَّاج بن يُوسُف بِأَهْل الْعرَاق، فِي رده من من الله عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، إِلَى بدله ورستاقه، وَأَخذهم بالخراج، فَبلغ ذَلِك أهل إفريقية، فتراسلوا فِي قَتله، وتساعوا فِيهِ سرا حَتَّى تمّ لَهُم أَمرهم، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَتَلُوهُ، وَقد سجد، وَجَاءُوا إِلَى حَبسه، فأخرجوا مُحَمَّد بن يزِيد، فَردُّوهُ إِلَى الْإِمَارَة، وَكَتَبُوا إِلَى يزِيد بن عبد الْملك: إِنَّا لم نخلع يدا من طَاعَة، وَلَكِن يزِيد ابْن أبي مُسلم سامنا مَا لَا يرضى بِهِ الله عز وَجل، وَلَا الْمُسلمُونَ، من كَيْت وَكَيْت، فقتلناه، وولينا مُحَمَّد بن يزِيد، ووصفوا جميل سيرته. فَكتب إِلَيْهِم يزِيد: إِنِّي لم أَرض مَا صنع يزِيد ابْن أبي مُسلم، وَقد أمرت مُحَمَّدًا عَلَيْكُم. وَقد مضى هَذَا الْخَبَر بروايات غير هَذِه الرِّوَايَة، وسياقة غير هَذِه السِّيَاقَة، فِيمَا تقدم من هَذَا الْكتاب.

فتنة تثور ببغداد فتفرج عن بريء محبوس

فتْنَة تثور بِبَغْدَاد فتفرج عَن بَرِيء مَحْبُوس حَدثنِي البهلول بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ، الْوَكِيل على أَبْوَاب الْقُضَاة بِبَغْدَاد، وَيعرف بالناقد،

قَالَ: كنت أقيم خبر المحبسين فِي المطبق بِمَدِينَة السَّلَام، فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه، فَرَأَيْت فِي المطبق رجلا مغلولا، على ظَهره لبنة من حَدِيد، فِيهَا سِتُّونَ رطلا، فَسَأَلته عَن قصَّته، فَقَالَ: أَنا وَالله مظلوم. فَقلت لَهُ: كَيفَ كَانَ أَمرك؟ قَالَ: كنت لَيْلَة من اللَّيَالِي، فِي دَعْوَة صديق لي بسوق يحيى، فَخرجت من عِنْده مغلسا، وَفِي الْوَقْت فضل وَأَنا لَا أعلم، فَلَمَّا صرت فِي قِطْعَة من الشَّارِع، فَإِذا مشاعل الطَّائِف، فرهبته، وَلم أدر مَا أعمل، فَرَأَيْت شريجة مشوشة،

ففتحتها، وَدخلت، ورددتها كَمَا كَانَت، وَقمت فِي الدّكان، ليجوز الطَّائِف وَأخرج. وَبلغ الطَّائِف الْموضع، فَرَأى الشريجة مشوشة، فَقَالَ: فتشوا هَذِه الدّكان، فَدخلت الرجالة بمشعل، رَأَيْت فِي ضوئه رجلا فِي أَرض الدّكان مذبوحا، على صَدره سكين، فَجَزِعت. فَرَأى الرجالة ذَلِك الرجل، ورأوني قَائِما، فَلم يشكوا فِي أَنِّي الْقَاتِل. فأخذني صَاحب الشرطة فحبسني، ثمَّ عرضت فَضربت ضربا شَدِيدا، وعوقبت أصنافا من الْعُقُوبَات، وَأَنا أنكر، وَعِنْدهم أَنِّي أتجلد، وهم يزيدونني، فَاجْتمع أَهلِي، وَكَانَت لَهُم شعب بِأَسْبَاب السُّلْطَان، فتكلموا فِي واستشهدوا خلقا كثيرا على سيرتي، فَبعد شَدَائِد ألوان، أعفيت من الْقَتْل، ونقلت إِلَى المطبق وثقلت بِهَذَا الْحَدِيد، وَتركت على هَذِه الصُّورَة مُنْذُ سِتّ عشرَة سنة 98 م. قَالَ: فاستعظمت محنته، وبهت من حَدِيثه، فَقَالَ: مَا لَك، وَالله مَا آيس مَعَ هَذَا من فضل الله عز وَجل، فَإِن من سَاعَة إِلَى سَاعَة فرجا. قَالَ: فوَاللَّه، مَا خرج كَلَامه من فِيهِ، حَتَّى ارْتَفَعت ضجة عَظِيمَة، وَكسر الْحَبْس، ووصلت الْعَامَّة إِلَى المطبق ومطاميره وأخرجوا كل من هُنَاكَ، وَخرج الرجل فِي جُمْلَتهمْ. وانصرفت وَأَنا أُرِيد منزلي، وَإِذا نازوك قد قتل، والفتنة قد ثارت، وَفرج الله عَن الرجل، وَعَن جَمِيع أهل الحبوس.

الصدفة تنجي عامل كوثى من القتل

الصدفة تنجي عَامل كوثى من الْقَتْل وَبَلغنِي عَن رجل من أهل كوثى، قَالَ: كَانَ يتقلد بلدنا رجل عَامل من قبل أبي الْحسن بن الْفُرَات، فِي بعض وزاراته، فَافْتتحَ الْخراج وَاشْتَدَّ فِي الْمُطَالبَة. وَكَانَ فِي أَطْرَاف الْبَلَد قوم من الْعَرَب قد زرعوا من الأَرْض مَا لَا يتجاسر الأكرة على زراعته، وَكَانَ الْعمَّال يسامحونهم بِبَعْض مَا يجب عَلَيْهِم من الْخراج. فطالبهم هَذَا الْعَامِل بالخراج على التَّمام أُسْوَة بالأكرة، وأحضر أحدهم فحقق عَلَيْهِ الْمُطَالبَة، وَهُوَ مُمْتَنع، فَأمر بصفعه، فصفع حَتَّى أدّى الْخراج، وَانْصَرف، فَشَكا إِلَى بني عَمه، فتوافقوا على كبس الْعَامِل لَيْلًا، وَقَتله، وراسلوا فِي ذَلِك غَيرهم من الْعَرَب، واتعدوا لليلة بِعَينهَا. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الَّذِي تليه تِلْكَ اللَّيْلَة، ورد إِلَى النَّاحِيَة عَامل آخر، صارفا للْأولِ، فَقبض عَلَيْهِ، وصفعه، وضربه بالمقارع، وَأخذ خطه بِمَال، وَقَيده، وَأمر بِأَن يحمل إِلَى قَرْيَة أُخْرَى على فراسخ من الْبَلَد، فحبس فِيهَا، ووكل بِهِ عشرَة من الرجالة، وسيره مرّة مَاشِيا، وَمرَّة على حمَار من حمير الشوك، فكاد مِمَّا لحقه أَن يتْلف، وَحصل فِي تِلْكَ الْقرْيَة. وَكَانَ لَهُ غُلَام قد رباه، وَهُوَ خصيص بِهِ، عَارِف بِجَمِيعِ أُمُوره، فهرب عِنْد وُرُود الصَّارِف، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، لم يشْعر المصروف الْمَحْبُوس إِلَّا بغلامه الَّذِي رباه قد دخل عَلَيْهِ، وَكَانَ مَجِيئه إِلَيْهِ أَشد عَلَيْهِ من جَمِيع مَا لحقه إشفاقا

على الْغُلَام، وعَلى نَفسه مِمَّا يعرفهُ الْغُلَام، أَن يكون قد دلّ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: وَيحك، وَقعت فِي أَيْديهم؟ فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: من هم؟ هَات رجلك حَتَّى أكسر قيودك، وَتقوم فَتدخل بَغْدَاد. فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ الرجالة الموكلون بِي؟ فَقَالَ: يَا مولَايَ قد فرج الله عز وَجل عَنْك، وهربت الرجالة. قَالَ: فَمَا السَّبَب؟ قَالَ: إِن الْأَعْرَاب الَّذين كنت صفعت مِنْهُم وَاحِدًا، وطالبتهم بالخراج، كبسوا البارحة دَار العمالة، وَعِنْدهم أَنَّك أَنْت الْعَامِل، وَكَانُوا قد عمِلُوا على قَتلك، وَلم يكن عِنْدهم خبر صرفك، وَلَا خبر وُرُود هَذَا الْعَامِل، فَقَتَلُوهُ على أَنه أَنْت، وَقد هرب أَصْحَابه، وَأهل الْبَلَد كَافَّة، فَقُمْ حَتَّى نمشي إِلَى بَغْدَاد، لَا يبلغهم خبر كونك هُنَا، فيقصدوك، ويقتلوك. فَكسر الْقَيْد، وَقَامَ هُوَ وَغُلَامه، يمشيان على غير جادة، إِلَى أَن بعدا، ودخلا قَرْيَة، واستأجرا مِنْهَا مَا ركبا إِلَى بَغْدَاد. وَلَقي المصروف الْوَزير، وشنع على الْمَقْتُول، وَقَالَ: قد أفسد النَّاحِيَة، وأثار فتْنَة مَعَ الْعَرَب، فأقره الْوَزير على النَّاحِيَة، وَضم إِلَيْهِ جَيْشًا. فَعَاد إِلَى كوثى، وتحصن بالجيش، وساس أمره مَعَ الْعَرَب، إِلَى أَن صَالحهمْ، وَحط لَهُم من الْخراج عَمَّا كمان طالبهم بِهِ، وأجرى أَمرهم على رسومهم، وَسَكنُوا إِلَيْهِ وَسكن إِلَيْهِم، وَزَالَ خَوفه واستقام لَهُ أَمر عمله.

الأمين يغاضب عمه إبراهيم بن المهدي ثم يرضى عنه

الْأمين يغاضب عَمه إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ثمَّ يرضى عَنهُ أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأمَوِي، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: أَخْبرنِي عمي الْحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: أَنبأَنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: قَالَ: حَدثنِي هبة الله بن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، عَن أَبِيه، قَالَ: غضب عَليّ الْأمين فِي بعض هناته، فسلمني إِلَى كوثر الْخَادِم، فحبسني فِي سرداب، وأغلقه عَليّ، فَمَكثت فِيهِ لَيْلَتي. فَلَمَّا أَصبَحت، إِذا أَنا بشيخ قد خرج عَليّ من زَاوِيَة السرداب، فَدفع إِلَيّ وسطا، فَأكلت، ثمَّ أخرج إِلَيّ قنينة شراب، فَشَرِبت، وَقَالَ: غن لي:

لي مُدَّة لَا بُد أبلغهَا ... فَإِذا انْقَضتْ أَيَّامهَا مت لَو ساورتني الْأسد ضارية ... لغلبتها مَا لم يجي الْوَقْت فغنيته، وسمعني كوثر، فَصَارَ إِلَى مُحَمَّد الْأمين، فَقَالَ لَهُ: قد جن عمك، هُوَ جَالس يُغني بَكَيْت وَكَيْت. فَأمر بإحضاري، فَحَضَرت، وأخبرته بالقصة، فَرضِي عني، وَأمر لي بِسبع مائَة ألف دِرْهَم.

يتخلصون من المحنة بأيسر الأسباب

يتخلصون من المحنة بأيسر الْأَسْبَاب أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، قَالَ: أَخْبرنِي النوري الصُّوفِي، قَالَ: لما كَانَت المحنة، ورميت أَنا وَجَمَاعَة من الصُّوفِيَّة بالْكفْر، أَخذنَا، فأودعنا المطبق أَيَّامًا، ثمَّ عرضنَا على ابْن الشاه، وَكَانَ الْوَالِي، وأغري بسفك دمائنا، فَعمل على ذَلِك، وأخرجنا للمسائلة، وترديد الْعَذَاب، وإمراره علينا قبل الْقَتْل، وَكُنَّا تعاقدنا أَن لَا نتكلم حَتَّى يكفينا صَاحب الْأَمر. فَقَالَ للرقام: أَنْت الْقَائِل: إِن قولي بِسم الله، لجة من نور؟ قَالَ: فَسكت، على العقد. وَحضر من ذَوي الأقدار والمنزلة من استعطف ابْن الشَّاة علينا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بالتوقف فِي أمرنَا، وَالزِّيَادَة فِي استيضاح مَا قرفنا بِهِ. فَقَالَ ابْن الشَّاة للرقام: أَنْت صوفي، ولعلك تأولت قَوْلك: بِسم الله نورا، وقولك: الْحَمد لله، بعد فراغك نورا. فصاح الرقام صَيْحَة عَظِيمَة: لحنت أَيهَا الْأَمِير. قَالَ النوري: فوَاللَّه لقد أضحكني على مَا بِي.

فَقَالَ لَهُ الْأَمِير: قد صرت تنظر فِي النَّحْو بعدِي، حَتَّى صرت تعرف اللّحن من الصَّوَاب؟ فَقَالَ لَهُ: حاشاك أَيهَا الْأَمِير من اللّحن الَّذِي هُوَ الْخَطَأ، وَإِنَّمَا عنيت بِقَوْلِي لحنت، أَي: فطنت، بِمَعْنى الصُّوفِيَّة. فَقَالَ ابْن الشاه: فِي الدُّنْيَا أحد يَرْمِي مثل هَذَا وَأَضْرَابه بالزندقة؟ وَأمر بتخلية سبيلنا. فتخلصنا مِمَّا كُنَّا فِيهِ، وَمِمَّا نحاذره، وكفينا بأضعف الْأَسْبَاب وأيسرها.

عبد الله بن طاهر يطلق الطوسي من حبسه

عبد الله بن طَاهِر يُطلق الطوسي من حَبسه حبس عبد الله بن طَاهِر، مُحَمَّد بن أسلم الطوسي، فَكتب إِلَيْهِ بعض إخوانه يعزيه عَن مَكَانَهُ. فَأَجَابَهُ: كتبت إِلَيّ تعزيني، وَإِنَّمَا كَانَ يجب أَن تهنيني، أريت الْعَجَائِب، وَعرضت عَليّ المصائب، إِنِّي رَأَيْت الله تَعَالَى يتحبب إِلَى من يُؤْذِيه، فَكيف من يُؤْذى فِيهِ، إِنِّي نزلت بَيْتا سَقَطت فِيهِ عني فروض وَحُقُوق، مِنْهَا الْجُمُعَة، وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وعيادة الْمَرِيض، وَقَضَاء حُقُوق الإخوان، وَمَا نزلت بَيْتا خيرا لي فِي ديني مِنْهُ. فَأخْبر بذلك ابْن طَاهِر، فَقَالَ: نَحن فِي حَاجَة إِلَى ابْن أسلم، أَطْلقُوهُ، فأفرج عَنهُ.

المأمون يغضب على فرج الرخجي ثم يرضى عنه، ويقلده فارس والأهواز

الْمَأْمُون يغْضب على فرج الرخجي ثمَّ يرضى عَنهُ، ويقلده فَارس والأهواز وَكَانَ الْمَأْمُون قد غضب على فرج الرخجي، فَكَلمهُ عبد الله بن طَاهِر، ومسرور الْخَادِم، فِي إِطْلَاقه. قَالَ فرج: فَبت لَيْلَتي، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، فَقَالَ لي: لما أَتَى فرجا من ربه فرج جِئْنَا إِلَى فرج نبغي بِهِ الفرجا فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، لم أشعر إِلَّا واللواء قد عقد لي على ولَايَة فَارس والأهواز، وَأطلق لي خمس مائَة ألف دِرْهَم مَعُونَة. فَإِذا أَبُو الينبغي الشَّاعِر على الْبَاب، وَقد كتبت هَذَا الْبَيْت فِي رقْعَة. فَقلت لَهُ: مَتى قلته؟ قَالَ لي: البارحة، فِي الْوَقْت الَّذِي رَضِي عَنْك فِيهِ. فَأمرت لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم.

محبوس يتحدث عن هلاك الحجاج

مَحْبُوس يتحدث عَن هَلَاك الْحجَّاج قَالَ عمَارَة بن عقبَة، من آل سلمى بن المهير، حَدثنِي ملازم بن حرَام الْحَنَفِيّ، عَن عَمه ملازم بن قريب الْحَنَفِيّ، قَالَ: كنت فِي حبس الْحجَّاج بِسَبَب الحرورية، فحبس مَعنا رجل، فَأَقَامَ حينا لَا نَسْمَعهُ يتَكَلَّم بِكَلِمَة. حَتَّى كَانَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ الْحجَّاج فِي اللَّيْلَة الَّتِي تليه، أقبل غراب فِي عَشِيَّة ذَلِك الْيَوْم، فَوَقع على حَائِط السجْن، فنعق. فَقَالَ لَهُ الرجل: وَمن يقدر على مَا تقدر عَلَيْهِ يَا غراب؟ ثمَّ نعق الثَّانِيَة، فَقَالَ: مثلك من بشر بِخَير، يَا غراب. ونعق الثَّالِثَة، فَقَالَ لَهُ: من فِيك إِلَى السَّمَاء يَا غراب. فَقُلْنَا لَهُ: مَا سمعناك تَكَلَّمت مُنْذُ حبست إِلَى السَّاعَة، فَمَا دعَاك إِلَى مَا قلت؟ فَقَالَ: إِنَّه نعق الأولى، فَقَالَ: وَقعت على ستْرَة الْحجَّاج.

فَقلت: وَمن يقدر على مَا تقدر عَلَيْهِ؟ ثمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَة: إِن الْحجَّاج وجع. فَقلت: مثلك من بشر بِخَير. ثمَّ نعق الثَّالِث، فَقَالَ: اللَّيْلَة يَمُوت الْحجَّاج. فَقلت: من فِيك إِلَى السَّمَاء. ثمَّ قَالَ: إِن انبلج الصُّبْح قبل أَن أخرج، فَلَيْسَ عَليّ بَأْس، وَإِن دعيت قبل الصُّبْح، فستضرب عنقِي، ثمَّ تلبثون ثَلَاثًا لَا يدْخل عَلَيْكُم أحد، ثمَّ يستدعى بكم فِي الْيَوْم الرَّابِع فتطالبون بالكفلاء، فَمن وجد لَهُ كَفِيلا، خلي سَبيله، وَمن لم يُوجد لَهُ كَفِيل، فَلهُ ويل طَوِيل. فَلَمَّا دخل اللَّيْل سمعنَا الصُّرَاخ على الْحجَّاج، وَأخذ الرجل قبل الصُّبْح فَضربت عُنُقه، ثمَّ لم يدْخل علينا أحد ثَلَاثَة أَيَّام. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الرَّابِع استدعينا، فَطلب منا الكفلاء، حَتَّى صَار الْأَمر إِلَيّ، فَلم يكن لي كَفِيل. فَمَكثت طَويلا حَتَّى خفت أَن أرد إِلَى الْحَبْس، فَتقدم رجل فضمنني. فَقلت لَهُ: من أَنْت يَا عبد الله، حَتَّى أشكرك. فَقَالَ: اذْهَبْ، فلست بمسئول عَنْك أبدا. فَانْطَلَقت.

يحسن إلى كاتب بغا الكبير على غير معرفة منه له

يحسن إِلَى كَاتب بغا الْكَبِير على غير معرفَة مِنْهُ لَهُ وَقَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن بن عبد الْأَعْلَى الإسكافي: كنت أكتب لبغا الْكَبِير، فصرفني، ونكبني، وَأخذ مَالِي وضياعي، وحبسني بعد ذَلِك، وتهددني، ونالني مِنْهُ كل مَكْرُوه. فَإِنِّي لفي حَبسه، إِذْ سَمِعت حَرَكَة، فَسَأَلت عَنْهَا، فَقيل لي: قد وافى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الطاهري، صَاحب الشرطة. فَقلت: إِنَّمَا حضر لعقوبتي، فطارت نَفسِي جزعا. فَلم ألبث أَن دعيت، فَحملت إِلَيْهِ فِي قيودي، وَعلي ثِيَاب فِي نِهَايَة الْوَسخ، فأدخلت عَلَيْهِ كالميت لما بِي ولعظيم الْخَوْف، فَلَمَّا وَقعت عين إِسْحَاق عَليّ، تَبَسم، فسكنت نَفسِي. فَقَالَ لي بغا: إِن أخي أَبَا الْعَبَّاس، يَعْنِي: عبد الله بن طَاهِر، كتب إِلَيّ يشفع فِي أَمرك، وَقد شفعته، وأزلت عَنْك الْمُطَالبَة، ورضيت عَنْك، ورددت عَلَيْك ضياعك، فَانْصَرف إِلَى مَنْزِلك. فَبَكَيْت بكاء شَدِيدا، لعظم مَا ورد على قلبِي من السرُور، ففكت قيودي، وغيرت حَالي، وانصرفت. فَبت لَيْلَتي، وبكرت فِي السحر إِلَى إِسْحَاق لأشكره، وأسأله عَمَّا أوجب

مَا جرى؛ لِأَنَّهُ شَيْء مَا طمعت فِيهِ، وَلَا كَانَت لي وَسِيلَة إِلَى أبي الْعَبَّاس وَلَا إِسْحَاق، فَلَقِيته، وشكرته، ودعوت لَهُ وَلأبي الْعَبَّاس، وَسَأَلته عَن سَبَب ذَلِك. فَقَالَ: ورد عَليّ كتاب الْأَمِير أبي الْعَبَّاس يَقُول: قد كَانَت كتب أبي مُوسَى بغا ترد عَليّ بمخاطبات توجب الْأنس والخلطة، وَتلْزم الشُّكْر والْمنَّة، ثمَّ تَغَيَّرت فبحثت عَن السَّبَب، فَعلمت أَن ذَلِك الْكَاتِب صرف، وَأَنه منكوب، وَحقّ لمن أحسن عشرتنا، ووكد الْمحبَّة بَيْننَا وَبَين إِخْوَاننَا، حَتَّى بَان لنا موقعه، وعرفنا مَوْضِعه لما صرف، أَن نرعى حَقه، فصر، أبقاك الله، إِلَى أخي أبي مُوسَى، وسله فِي أَمر كَاتبه المصروف، عني، واستصفحه عَمَّا فِي نَفسه مِنْهُ، واستطلقه، وسله رده إِلَى كتبته، وَإِن كَانَ مَا يُطَالِبهُ بِهِ مِمَّا لَا ينزل عَنهُ، فأده عَنهُ من مالنا، كَائِنا مَا كَانَ. فَلَقِيته، فَفعل مَا رَأَيْت، وَأَنا أعاود الْخطاب فِي استكتابك، وَقد أَمر لَك الْأَمِير بِكَذَا وَكَذَا، من المَال، فَخذه. فَأَخَذته، وشكرته، ودعوت للأميرين، وانصرفت. فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام، حَتَّى ردني إِسْحَاق إِلَى كِتَابَة بغا بشفاعة أبي الْعَبَّاس، وَرجعت حَالي ونعمتي.

كيف تخلص عمر بن هبيرة من السجن

كَيفَ تخلص عمر بن هُبَيْرَة من السجْن حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي سُلَيْمَان بن أبي شيخ، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن زِيَاد، قَالَ: كَانَ عمر بن هُبَيْرَة، واليا على الْعرَاق، ولاه يزِيد بن عبد الْملك، فَلَمَّا مَاتَ يزِيد بن عبد الْملك، واستخلف هِشَام، قَالَ عمر بن هُبَيْرَة: سيولي هِشَام الْعرَاق، أحد الرجلَيْن، سعيدا الْحَرَشِي،

أَو خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، فَإِن ولى ابْن النَّصْرَانِيَّة، خَالِدا، فَهُوَ الْبلَاء. فولى هِشَام خَالِدا الْعرَاق، فَدخل واسطا، وَقد أذن عمر بِالصَّلَاةِ، وَقد تهَيَّأ، واعتم، وَبِيَدِهِ الْمرْآة يُسَوِّي عمَامَته، إِذْ قيل لَهُ: هَذَا خَالِد قد دخل، فَقَالَ عمر: هَكَذَا تقوم السَّاعَة، تَأتي بَغْتَة. فَتقدم خَالِد، وَأخذ عمر بن هُبَيْرَة، فقيده، وَألبسهُ مدرعة صوف، فَقَالَ لَهُ: يَا خَالِد، بئس مَا سننت على أهل الْعرَاق، أما تخَاف أَن تصرف فتبتلى بِمثل هَذَا؟ فَلَمَّا طَال حَبسه، جَاءَ موَالِيه، واكتروا دَارا بِجَانِب الْحَبْس، ثمَّ نقبوا مِنْهَا سربا إِلَى الْحَبْس، واكتروا دَارا إِلَى جَانب سور الْمَدِينَة، مَدِينَة وَاسِط، فَلَمَّا جَاءَت اللَّيْلَة الَّتِي أَرَادوا أَن يخرجوه فِيهَا من الْحَبْس، وَقد أفْضى النقب إِلَى الْحَبْس، فَأخْرج فِي السرب، ثمَّ خرج من الدَّار يمشي، حَتَّى بلغ الدَّار الَّتِي إِلَى جَانب السُّور، وَقد نقب فِي السُّور نقب إِلَى خَارج الْمَدِينَة، وَقد هيأت لَهُ خيل، فَركب وَسَار، وَعلم بِهِ بعد مَا أَصْبحُوا، وَقد كَانَ أظهر عِلّة قبل ذَلِك ليمسكوا عَن تفقده فِي كل وَقت. فَأتبعهُ خَالِد، سعيد الْحَرَشِي، فَلحقه، وَبَينه وَبَين الْفُرَات شَيْء يسير، فتعصب لَهُ وَتَركه.

فَقَالَ الفرزدق فِي ذَلِك: وَلما رَأَيْت الأَرْض قد سد ظهرهَا ... وَلم يبْق إِلَّا بَطنهَا لَك مخرجا دَعَوْت الَّذِي ناداه يُونُس بعد مَا ... ثوى فِي ثَلَاث مظلمات ففرجا خرجت وَلم يمنن عَلَيْك سفاهة ... سوى زَائِد التَّقْرِيب من آل أعوجا فَأَصْبَحت تَحت الأَرْض قد سرت لَيْلَة ... وَمَا سَار سارٍ مثلهَا حِين أدلجا قَالَ سُلَيْمَان بن أبي شيخ: فَحَدثني ابْن أبي خيرة، عَن أبي الحبحاب،

قَالَ: حَدثنِي خازم، مولى ابْن هُبَيْرَة، قَالَ: كنت مَعَ عمر بن هُبَيْرَة حِين هرب من السجْن، فسرنا حَتَّى بلغنَا دمشق، بعد الْعَتَمَة، فَأتى مسلمة بن عبد الْملك، فأجاره، وأنزله مَعَه فِي بَيته، وَصلى مسلمة خلف هِشَام الصُّبْح. فَلَمَّا دخل هِشَام دَاره اسْتَأْذن عَلَيْهِ مسلمة، فَأذن لَهُ، فَدخل. فَقَالَ لَهُ هِشَام: يَا أَبَا سعيد، أَظن ابْن هُبَيْرَة قد طرقك اللَّيْلَة. قَالَ: أجل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَقد أجرته، فهبه لي. قَالَ: قد وهبته لَك.

كيف تخلص قيسبة بن كلثوم من أسره

كَيفَ تخلص قيسبة بن كُلْثُوم من أسره أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْقرشِي، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: ذكر ابْن الْكَلْبِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: خرج قيسبة بن كُلْثُوم السكونِي، وَكَانَ ملكا، يُرِيد الْحَج، وَكَانَت الْعَرَب تحج فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَا يعرض بَعْضهَا لبَعض. فَمر ببني عَامر بن عقيل، فَوَثَبُوا عَلَيْهِ، وأسروه، وَأخذُوا مَاله، وكل مَا كَانَ مَعَه، وألقوه فِي الْقد، فَمَكثَ فِيهِ ثَلَاث سِنِين، وشاع فِي الْيمن، أَن الْجِنّ استطارته. فَبَيْنَمَا هُوَ فِي يَوْم شَدِيد الْبرد، فِي بَيت عَجُوز مِنْهُم، آيس من الْفرج،

إِذْ قَالَ لَهَا: أَتَأْذَنِينَ لي أَن آتِي الأكمة، فأتشرق عَلَيْهَا؟ فقد أضرّ بِي الْبرد. فَقَالَت لَهُ: نعم، وَكَانَت عَلَيْهِ جُبَّة حبرَة، لم يتْرك عَلَيْهِ غَيرهَا. فَمشى فِي قيوده حَتَّى صعد الأكمة، ثمَّ أقبل يضْرب ببصره نَحْو الْيمن، وتغشاه عِبْرَة، فَبكى، ثمَّ رفع طرفه إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فاطر السَّمَاء فرج لي مِمَّا أَصبَحت فِيهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك، إِذْ عرض لَهُ رَاكب يسير، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَن أقبل، فَأقبل عَلَيْهِ الرَّاكِب، فَقَالَ لَهُ: مَا حَاجَتك؟ قَالَ: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيد الْيمن. قَالَ: وَمن أَنْت؟ قَالَ: أَبُو الطمحان القيني، فاستعبر قيسبة. فَقَالَ أَبُو الطمحان: من أَنْت؟ فَإِنِّي أرى عَلَيْك سِيمَا الْخَيْر ولباس الْمُلُوك، وَأَنت بدار لَيْسَ فِيهَا ملك. فَقَالَ: أَنا قيسبة بن كُلْثُوم السكونِي، خرجت عَام كَذَا وَكَذَا حَاجا، فَوَثَبَ عَليّ أهل هَذَا الْحَيّ، وصنعوا بِي مَا ترى وكشف لَهُ عَن أغلاله وقيوده، فاستعبر لَهُ أَبُو الطمحان. فَقَالَ لَهُ قيسبة: هَل لَك فِي مائَة نَاقَة حَمْرَاء؟ قَالَ: مَا أحوجني إِلَى ذَلِك.

قَالَ: أنخ، فَأَنَاخَ. ثمَّ قَالَ: أَمَعَك سكين؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ارْفَعْ لي عَن رحلك، فَرفع لَهُ عَن رَحْله، حَتَّى بدا خشب مُؤخر الرحل. فَكتب عَلَيْهِ بالمسند، وَلَيْسَ يكْتب بِهِ غير أهل الْيمن: بلغن كِنْدَة الْمُلُوك جَمِيعًا ... حَيْثُ سَارَتْ بالأكرمين الْجمال أَن ردوا الْخَيل بالخميس عجالا ... واصدروا عَنهُ والروايا ثقال هزئت جارتي وَقَالَت عجيبا ... إِذْ رأتني فِي جيدي الأغلال إِن تريني عاري الْعِظَام أَسِيرًا ... قد براني تضعضع واختلال فَلَقَد أقدم الكتيبة بِالسَّيْفِ ... عَليّ السِّلَاح والسربال وَكتب تَحت الشّعْر إِلَى أَخِيه، أَن يدْفع لأبي الطمحان مائَة نَاقَة حَمْرَاء، ثمَّ قَالَ لَهُ: أَقْْرِئ هَذَا قومِي، فَإِنَّهُم سيعطونك مائَة نَاقَة حَمْرَاء. فَخرج تسير بِهِ نَاقَته، حَتَّى أَتَى حَضرمَوْت، فتشاغل بِمَا ورد لَهُ، وَنسي أَمر قيسبة، حَتَّى فرغ من حَوَائِجه. ثمَّ سمع نسْوَة من عَجَائِز الْيمن، يتذاكرن قيسبة، ويبكين، فَذكر أمره، فَأتى أَخَاهُ الجون بن مَالك، وَهُوَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأمه، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، أَنا أدلك على قيسبة، وَقد جعل لي مائَة نَاقَة حَمْرَاء. فَقَالَ: هِيَ لَك.

فكشف لَهُ عَن الرحل، فَلَمَّا قَرَأَهُ الجون بن مَالك، أَمر لَهُ بِمِائَة نَاقَة حَمْرَاء، ثمَّ أَتَى قيس بن معدي كرب الْكِنْدِيّ، أَبَا الأشعب بن قيس، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِن أخي فِي بني عَامر بن عقيل أَسِيرًا، فسر معي بقومك لنخلصه. فَقَالَ لَهُ قيس: تسير تَحت لِوَائِي، حَتَّى أطلب ثأرك وأنجدك، وَإِلَّا فَامْضِ راشدا. فَقَالَ لَهُ الجون: مس السَّمَاء أيسر من ذَلِك، وأهون عَليّ مِمَّا جِئْت بِهِ. فضجت السّكُون، ثمَّ فاءوا، وَرَجَعُوا، وَقَالُوا لَهُ: وَمَا عَلَيْك من هَذَا؟ هُوَ ابْن عمك، وَيطْلب لَك بثأرك، فأنعم لَهُ بذلك. وَسَار قيس، وَسَار مَعَه الجون تَحت لوائه، وَكِنْدَة والسكون مَعَه، فَهُوَ أول يَوْم اجْتمعت فِيهِ السّكُون وَكِنْدَة لقيس وَبِه أدْرك الشّرف، فَسَار حَتَّى أوقع ببني عَامر بن عقيل، فَقتل مِنْهُم مقتلة عَظِيمَة، واستنقذ قيسبة، فَقَالَ فِي ذَلِك سَلامَة بن صبيح الْكِنْدِيّ: لَا تشتمونا إِذْ جلبنا لكم ... ألفي كميت كلهَا سلهبه نَحن أبلنا الْخَيل فِي أَرْضكُم ... حَتَّى ثَأْرنَا مِنْكُم قيسبه واعترضت من دونهَا مذْحج ... فصادفوا من خَيْلنَا مشغبه

جاءه الفرج من حيث لم يحتسب

جَاءَهُ الْفرج من حَيْثُ لم يحْتَسب حَدثنِي أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق الْكَاتِب، ابْن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، قَالَ: كنت، وَأَنا حدث، أتعلم فِي ديوَان زِمَام السوَاد، بَين يَدي كَاتب فِيهِ، يُقَال لَهُ: أَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَتْح، وَيعرف بالمطوق، عَاشَ إِلَى بعد سنة عشْرين وَثَلَاث مائَة، وَأخرج إِلَيْنَا كتابا قد عمله فِي أَخْبَار الوزراء، مُنْذُ وَفَاة عبيد الله بن خاقَان، إِلَى آخر أَيَّام القاهر بِاللَّه، أَو بعْدهَا، الشَّك من أبي الْحسن أَحْمد بن يُوسُف، وَسَماهُ: كتاب (مَنَاقِب الوزراء ومحاسن أخبارهم) ، فَقَرَأَ علينا بعضه، وَأخْبرنَا بِالْبَاقِي مناولة. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَأَعْطَانِي أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف، هَذَا الْكتاب، مناولة، فَوجدت فِيهِ: أَن الْقَاسِم بن عبيد الله اعتقل أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن بسطَام فِي دَاره أَيَّامًا، لِأَشْيَاء كَانَت فِي نَفسه عَلَيْهِ،

وَأَرَادَ أَن يُوقع بِهِ، فَلم يزل ابْن بسطَام، يداريه، ويلطف بِهِ، إِلَى أَن أطلقهُ، وقلده آمد، وَمَا يتَّصل بهَا من الْأَعْمَال، وَأخرجه إِلَيْهَا، وَفِي نَفسه مَا فِيهَا، ثمَّ نَدم على ذَلِك، فَوجه إِلَيْهِ فِي آخر أَيَّام وزارته بقائد يُقَال لَهُ عَليّ بن حبش، ابْن أخي قوصرة، ووكله بِهِ، فَكَانَ يَأْمر وَينْهى فِي عمله، وَهُوَ مُوكل بِهِ فِي دَاره، خَائِف على نَفسه، لما ظهر من إقدام الْقَاسِم على الْقَتْل. قَالَ ابْن بسطَام: فَأَنا أخوف مَا كنت على حَالي وَنَفْسِي، وَلَيْسَ عِنْدِي خبر، حَتَّى ورد عَليّ كتاب عنوانه، لأبي الْعَبَّاس، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، من الْعَبَّاس بن الْحسن.

فَلَمَّا رَأَيْت العنوان نَاقص الدُّعَاء، علمت أَن الْقَاسِم بن عبيد الله قد مَاتَ، وَأَن الْعَبَّاس بن الْحسن قد تقلد الوزارة، فَلم أتمالك نَفسِي فَرحا وسرورا بالسلامة فِي نَفسِي، وَزَوَال الْخَوْف عني. وقرأت الْكتاب، فَإِذا هُوَ بِصِحَّة الْخَبَر، ويأمرني بِالْخرُوجِ إِلَى مصر، وتقلد الْأَمَانَة على الْحُسَيْن بن أَحْمد المادرائي. قَالَ عَليّ بن الْفَتْح: فَخرج ابْن بسطَام إِلَى مصر، وَلم يزل يتقلد الْأَمَانَة على الْحُسَيْن بن أَحْمد إِلَى أَن تقلد عَليّ بن مُحَمَّد بن الْفُرَات الوزارة، فقلده مصر وأعمالها، قَالَ: فَلم يزل بهَا إِلَى أَن مَاتَ.

العلوي الصوفي يحتال للخلاص من سجن المعتصم

الْعلوِي الصُّوفِي يحتال للخلاص من سجن المعتصم حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الْوراق الْمَعْرُوف بالصيرفي، ابْن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَثْرَم، الْمُقْرِئ الْبَغْدَادِيّ، بِالْبَصْرَةِ، فِي الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين وَثَلَاث مائَة، بِكِتَاب المبيضة، لأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن عمار، فِي خبر الْعلوِي الصُّوفِي، الْخَارِج بالجوزجان، على المعتصم، وَهُوَ مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن عَليّ بن عمر بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وَكَانَ عبد الله بن طَاهِر حاربه، وأسره، وَبعث بِهِ إِلَى المعتصم، وَهُوَ بِبَغْدَاد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس بن عمار، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْحسن النَّوْفَلِي، وَهُوَ عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل، قَالَ:

حدثت أَن المعتصم أَمر أَن يبْنى حبس فِي بُسْتَان مُوسَى، كَانَ الْقيم بِهِ مسرور مولى الرشيد. قَالَ: وَكنت أرى أَعلَى هَذَا الْبناء من دجلة إِذا ركبتها، إِذْ كَانَ كالبئر الْعَظِيمَة، قد حفرت إِلَى المَاء، أَو قريب مِنْهُ، ثمَّ بني فِيهَا بِنَاء على هَيْئَة المنارة، مجوف من بَاطِنه، وَهُوَ من دَاخله مدرج، قد حفر فِيهِ، فِي مَوَاضِع من التدريج، مستراحات، وَبني فِي كل مستراح شَبِيها بِالْبَيْتِ، يجلس فِيهِ رجل وَاحِد، كَأَنَّهُ على مِقْدَاره، يكون مكبوبا على وَجهه، لَا يُمكنهُ أَن يجلس فِيهِ، وَلَا يمد رجلَيْهِ، فَلَمَّا قدم مُحَمَّد، حبس فِي بَيت فِي أَسْفَل ذَلِك الْحَبْس، فَلَمَّا اسْتَقر فِيهِ أَصَابَهُ من الْجهد لضيقه، وظلمته، وَمن الْبرد أَمر عَظِيم، لنداوة الْموضع ورطوبته، فكاد أَن يتْلف من سَاعَته. فَتكلم بِكَلَام دَقِيق سَمعه من كَانَ فِي أعالي الْبِئْر مِمَّن وكل بالموضع، فَقَالَ: إِن كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يُرِيد قَتْلِي، فالساعة أَمُوت، وَإِن لم يكن يُرِيد قَتْلِي فقد أشفيت عَلَيْهِ. فَأخْبر المعتصم بذلك، فَقَالَ: مَا أُرِيد قَتله، وَأمر بِإِخْرَاجِهِ، فَأخْرج وَقد زَالَ عقله، وأغمي عَلَيْهِ، فَطرح فِي الشَّمْس، وطرحت عَلَيْهِ اللحف، وَأمر بحبسه فِي بَيت كَانَ قد بني فِي الْبُسْتَان، فَوْقه غرفَة، وَكَانَ فِي

الْبَيْت خلاء إِلَى الغرفة الَّتِي فَوْقه، وَفِي الغرفة أَيْضا خلاء آخر إِلَى سطحها، فَلم يزل مَحْبُوسًا فِيهِ حَتَّى تهَيَّأ لَهُ الْخُرُوج فِي لَيْلَة الْفطر سنة تسع عشرَة وَمِائَتَيْنِ. قَالَ: فَحَدثني عَليّ بن الْحُسَيْن بن عمر بن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَهُوَ ابْن عَم أَبِيه، قَالَ: أَصبَحت يَوْم الْفطر، وَأَنا أتهيأ للرُّكُوب إِلَى الْمصلى، فَأَنا أَشد منطقتي فِي وسطي، وَقد لبست ثِيَابِي أبادر الرّكُوب إِلَى الْمصلى، فَمَا راعني إِلَّا مُحَمَّد بن الْقَاسِم، قد دخل إِلَى منزلي، فملأني رعْبًا وذعرا. وَقلت لَهُ: كَيفَ تخلصت؟ فَقَالَ: أَنا أدبر أَمْرِي فِي التَّخَلُّص مُنْذُ حبست، وَوصف لي الْخَلَاء الَّذِي كَانَ فِي الْبَيْت الَّذِي حبس فِيهِ إِلَى الغرفة الَّتِي فَوْقه، والخلاء الَّذِي كَانَ فِي الغرفة إِلَى سطحها. قَالَ: وَأدْخل معي يَوْم حبست لبد، فَكَانَ وطائي وفراشي. قَالَ: وَكنت أرى بغرش، وَهِي قَرْيَة من قرى خُرَاسَان، حِبَالًا تعْمل من لبود، وتضفر كَمَا يفعل بالسيور، فتجيء أحكم شَيْء، فسولت لي نَفسِي أَن أعمل من اللبد الَّذِي تحتي حبلا، وَكَانَ على بَاب الْبَيْت قوم موكلون بِي يحفظونني، لَا يدْخل عَليّ أحد مِنْهُم، إِنَّمَا يكلموني من خلف الْبَاب ويناولوني من تَحْتَهُ مَا أتقوت بِهِ. فَقلت لَهُم: إِن أظفاري قد طَالَتْ جدا، وَقد احتجت إِلَى مقراض، فَجَاءَنِي رجل يمِيل إِلَى مَذْهَب الزيدية، بمقراض أحد جانبيه منقوش كَأَنَّهُ مبرد.

وَقلت لَهُم: إِن فِي هَذَا الْبَيْت فَارًّا قد آذوني، ويقذرونني إِذا قربوا مني، فَاقْطَعُوا لي جَرِيدَة من النّخل أطردهم بهَا. فَقطعُوا لي من بعض نخل الْبُسْتَان جَرِيدَة، فرموا بهَا إِلَيّ، وَكنت لَا أَزَال أضْرب بهَا فِي الْبَيْت، أريهم أَنِّي أطْرد الفار، وأسمعهم صَوتهَا أَيَّامًا، ثمَّ قشرت الخوص عَنْهَا، وقطعتها على مِقْدَار مَا ظَنَنْت أَنه يعْتَرض فِي ذَلِك الْخَلَاء إِذا رميت بهَا، فضممت مَا قطعته مِنْهَا بعضه إِلَى بعض، وقصصت اللبد، وفتلت مِنْهُ حبلا، على مَا كنت أرى يعْمل بغرش، ثمَّ شددت مَا قطعته من الجريدة فِي رَأس الْحَبل، ثمَّ رميت بِهِ فِي الكوة، وعالجته مرَارًا حَتَّى اعْترض فِيهَا، ثمَّ اعتمدت عَلَيْهَا وصعدت إِلَى الغرفة، وَمن الغرفة إِلَى السَّطْح، فَفعلت ذَلِك مرَارًا، فِي أَيَّام كَثِيرَة، وتمكنت من الْحَرَكَة؛ لِأَنِّي بردت بِجَانِب المقراض إِحْدَى حلقتي الْقَيْد، وَلم يمكنني أَن أبرد الْأُخْرَى، فَكنت إِذا أردْت الْحَرَكَة، شددت الْقَيْد مَعَ ساقي، وأتحرك، وَقد صرت مُطلقًا. فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِه اللَّيْلَة، وَقد شغل النَّاس بالعيد، وَانْصَرف من كَانَ على الْبَاب من الموكلين، فَلم أحس مِنْهُم أحدا إِلَّا شَيخا وَاحِدًا كنت أسمع كَلَامه وحركته، وأطلع فَأرَاهُ. فَصَعدت بَين العشائين إِلَى الغرفة، وَمن الغرفة إِلَى السَّطْح، فَأَشْرَفت، فَإِذا المعتصم يفْطر وَالنَّاس بَين يَدَيْهِ، والشموع تزهر، فَرَجَعت. فَلَمَّا كَانَ فِي جَوف اللَّيْل صعدت وَالنَّاس نيام، وَنزلت إِلَى الْبُسْتَان، فَإِذا فِيهِ قَائِد وَمَعَهُ جمَاعَة، فصاح بِي بَعضهم: من أَنْت؟

قلت: مديني من أَصْحَاب الْحمام، وَكَانَ فِي الْبُسْتَان مِنْهُم جمَاعَة يشرفون على أَمر الْحمام. فَقَالَ لي: إِلَى أَيْن تخرج السَّاعَة، اطرَح نَفسك حَتَّى تصبح، وتفتح الْأَبْوَاب، فطرحت نَفسِي بَينهم، حَتَّى فتح بَاب الْبُسْتَان فِي الْغَلَس، وَقد تحرّك النَّاس، فصرت إِلَى دجلة لأعبر، فَوجدت الشَّيْخ الَّذِي كَانَ بَقِي من الموكلين بِي يُرِيد العبور، فَنزلت لأعبر، فَطلب مني الملاح قِطْعَة، فَقلت لَهُ: مَا معي شَيْء، أَنا رجل غَرِيب ضَعِيف الْحَال. فَقَالَ لي الشَّيْخ: اعبر، فَأَنا أعْطِيه عَنْك، وَأَعْطَاهُ الشَّيْخ عني قِطْعَة، وعبرت حَتَّى جئْتُك. قَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن: فَقلت لَهُ: وَالله، مَا منزلي لَك بِموضع، فَاخْرُج عني من ساعتك، وَلَا تقم فِيهِ لَحْظَة، وَركبت إِلَى الْمصلى. فَصَارَ إِلَى منزل رجل من الشِّيعَة، فأخفاه.

حسن سيرته كانت سبب اعتقاله

حسن سيرته كَانَت سَبَب اعتقاله وَحدثنَا أَبُو مُحَمَّد الْأَثْرَم، فِي كتاب المبيضة، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس بن عمار، قَالَ: حَدثنِي هَاشم بن أَحْمد بن الْأَشْهب الْبَغَوِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله جَعْفَر بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن رَبَاح الْجَوْهَرِي، قَالَ: حَدثنِي الْمفضل بن حَمَّاد الْكُوفِي، من أَصْحَاب الْحسن بن صَالح بن حَيّ، بوفاة عِيسَى بن زيد بن عَليّ، بِالْكُوفَةِ، وَكَيف ستر ذَلِك عَن الْمهْدي، فَذكر حَدِيثا طَويلا، قَالَ فِيهِ: لما تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار على الرشيد، بِحسن طَريقَة أَحْمد بن عِيسَى بن زيد، وميل النَّاس إِلَيْهِ، أَمر بِحمْلِهِ، فَحمل إِلَى بَغْدَاد، وَمَعَهُ الْقَاسِم بن عَليّ بن عمر بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد بن الْقَاسِم الصُّوفِي الْخَارِج بخراسان فِي أَيَّام المعتصم، فحبسا عِنْد الْفضل بن الرّبيع، فَكَانَا فِي حَبسه فِي دَاره الشارعة على دجلة، قرب رَأس الجسر، بمشرعة الصخر. وَكَانَ حسن الصَّنِيع إِلَيْهِمَا، يؤتيان بمائدة كمائدته الَّتِي تُوضَع بَين يَدَيْهِ، ويواصلان من الْحَلْوَى والفاكهة، والثلج فِي الصَّيف، بِمثل مَا يكون على

مائدته، فَإِذا أكلا، رفعت من بَين أَيْدِيهِمَا، وَوضعت بَين أَيدي الموكلين بهما. فأكلا يَوْمًا من الْأَيَّام، وَرفعت الْمَائِدَة فَجعلت بَين يَدي الموكلين بهما، فَأَكَلُوا، وَأَكْثرُوا، وَدخل وَقت القائلة، فَنَامُوا 106 م، فَخرج أَحْمد بن عِيسَى إِلَى حب فِي نَاحيَة الدهليز، فَرَأى الْقَوْم نياما، فغرف من الْحبّ، بالكوز الَّذِي مَعَه، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ للقاسم: يَا هَذَا اعْلَم أَنِّي قد رَأَيْت فرْصَة بَيِّنَة، وَهَؤُلَاء نيام، وَالْبَاب غير مقفل، لم يحكموا كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إغلاقه، فَاخْرُج بِنَا. فَقَالَ لَهُ الْقَاسِم: أنْشدك الله، فَإنَّك تعلم، أَنا فِي عَافِيَة من كثير مِمَّا فِيهِ أهل الحبوس، وَالْفضل محسن إِلَيْنَا. فَقَالَ لَهُ أَحْمد: دَعْنِي مِنْك، وَاعْلَم أَن الْعَلامَة بيني وَبَيْنك، أَن أغرف من الْحبّ، فَإِن تحرّك الْقَوْم رجعت إِلَيْك، وَكَانَت علتي ظَاهِرَة بسب الْكوز، وَإِن لم يتحركوا، فَأَنا وَالله خَارج، وتاركك بموضعك، وَاعْلَم أَنَّك لَا تسلم بعدِي. ثمَّ خرج، فغرف من الْحبّ بالكوز، ثمَّ طَرحه من قامته، قَالَ: وَكَانَ أطول مني ومنك، فَمَا تحرّك أحد مِنْهُم، ثمَّ انثنى عَليّ، وَقَالَ: قد رَأَيْت مَا استظهرت بِهِ لَك ولنفسي، وَأَنا وَالله خَارج، ثمَّ مضى، وَاتبعهُ الْقَاسِم، ففتحا الْبَاب، وخرجا، فَقَالَا: لَا نَجْتَمِع فِي طَرِيق، وَلَكِن موعدنا، مَوضِع كَذَا.

فَلَمَّا جازا العتبة بِخَمْسِينَ ذِرَاعا، لقيهمَا غُلَام للفضل بن الرّبيع، مدنِي، أعرف بهما من أَنفسهمَا، فبهت الْغُلَام لما رآهما، فَأَوْمأ إِلَيْهِ أَحْمد، بكمه، كالآمر بغضب: تَنَح، فَمَا ملك الْغُلَام نَفسه أَن تنحى، ثمَّ كَانَ عزمه أَن يَسْتَقِيم فِي طَرِيقه ذَاك، فَلَمَّا بلي من الْغُلَام بِمَا بلي، عدل عَن تِلْكَ الطَّرِيق، وَسَار فِي طَرِيق أُخْرَى للاستظهار على الْغُلَام، وأسرع حَتَّى نجا، وَذكر بَقِيَّة الحَدِيث.

محمد الحمداني يحل محل أخيه في إمارة الموصل

مُحَمَّد الحمداني يحل مَحل أَخِيه فِي إِمَارَة الْموصل وَمن طريف مَا شَاهَدْنَاهُ فِي هَذَا الْبَاب: أَن أَبَا تغلب، فضل الله، عدَّة الدولة، ابْن نَاصِر الدولة أبي مُحَمَّد، استوحش من أَخِيه مُحَمَّد، بعد موت أَبِيهِمَا، فَقبض عَلَيْهِ، واستصفى مَاله، وَقبض عقاره وضياعه، وَنعمته،

وَثقله بالحديد، وأنفذه إِلَى القلعة الْمَعْرُوفَة بأردمشت، وَهِي مَشْهُورَة حَصِينَة، من أَعمال الْموصل، فحبسه بهَا فِي مطمورة، ووكل بحفظه عجوزا يَثِق بهَا، جلدَة ضابطة، يُقَال لَهَا: نازبانو، وأمرها أَن لَا توصل إِلَيْهِ أحدا، وَلَا تعرفه خَبرا، وَأَن تخفي مَوْضِعه عَن جَمِيع شحنة القلعة وحفظتها، فَفعلت ذَلِك، فَأَقَامَ على حَاله تِلْكَ نَحْو ثَمَان سِنِين. ثمَّ اتّفق أَن انحدر أَبُو تغلب معاونا لعز الدولة أبي مَنْصُور بختيار بن

معز الدولة أبي الْحُسَيْن، ومعهما العساكر، يقصدان بَغْدَاد لمحاربة عضد الدولة، وتاج الْملَّة أبي شُجَاع، وَخرج للقائهما، فَكَانَت بَينهم الْوَاقِعَة الْعَظِيمَة بقصر الجص، وَقتل فِيهَا عز الدولة بختيار، وَانْهَزَمَ أَبُو تغلب، فَدخل الْموصل، وَخَافَ من تخلص أَخِيه مُحَمَّد، فَكتب إِلَى غُلَام لَهُ، كَانَت القلعة مسلمة إِلَيْهِ، يُقَال لَهُ: طاشتم، أَن يُمكن صَالح بن بانويه، رَئِيس الأكراد، وَكَانَ كالشريك لطاشتم فِي حفظ القلعة، من أَخِيه مُحَمَّد بن نَاصِر الدولة، ليمضي فِيهِ مَا أمره بِهِ، وَكتب إِلَى صَالح، يَأْمُرهُ بقتل مُحَمَّد، فمكن طاشتم صَالحا مِنْهُ. فَلَمَّا أَرَادَ الدُّخُول على مُحَمَّد، ليَقْتُلهُ، منعت نازبانو من ذَلِك، وَقَالَت: لَا أمكن مِنْهُ، إِلَّا بِكِتَاب يرد عَليّ من أبي تغلب. وشارف عضد الدولة الْموصل، وأجفل عَنْهَا أَبُو تغلب، وكردته العساكر،

فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الطّلب، وَورد عَلَيْهِ كتاب من القلعة بِمَا قَالَت نازبانو، فَإلَى أَن يُجيب عَنهُ، أحَاط عَسَاكِر عضد الدولة بالقلعة، ونازلوها، فَانْقَطع مَا بَين أبي تغلب وَبَينهَا، فَلم يصل إِلَيْهَا كتاب، وَفتحهَا عضد الدولة بعد شهور، بِأَن واطأه صَالح، بِالْقَبْضِ على طاشتم، وَكتب إِلَيْهِ يعرفهُ بِمَا عمله، ويستأمره فِيمَا يعمله. وَكَانَ لمُحَمد خصي أسود مَمْلُوك، يَلِي أَمر دَاره، اسْمه نَاصح، وَكَانَ بعد الْقَبْض على مُحَمَّد، قد وَقع إِلَى عضد الدولة، وَهُوَ بِفَارِس، فَصَارَ من وُجُوه خدمه، وَحضر مَعَه وقْعَة قصر الجص، فَلَمَّا ورد خبر فتح القلعة، أذكرهُ نَاصح بوعد كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي إِطْلَاق مَوْلَاهُ مُحَمَّد، إِذا فتح القلعة، فَكتب بِأَن يطْلب مُحَمَّد فِي القلعة، فَإِن وجد حَيا، أطلق وأنفذ بِهِ إِلَيْهِ مكرما، فحين دخل صَالح، وَمَعَهُ من صعد إِلَى القلعة من أَصْحَاب عضد الدولة، إِلَى مُحَمَّد فِي محبسه، جزع جزعا شَدِيدا، وَلم يشك أَنهم يُرِيدُونَ قَتله، بِأَمْر أبي تغلب، فَأخذ يتَضَرَّع، وَيَقُول: مَا يَدْعُو أخي إِلَى قَتْلِي. فَقَالَ لَهُ صَالح: لَا خوف عَلَيْك إِنَّمَا أمرنَا الْملك أَن نطلقك، وتمضي إِلَيْهِ مكرما، فقد ملك هَذِه الْبِلَاد. فَقَالَ: أغلب ملك الرّوم على هَذِه النواحي، وَفتح القلعة؟ قَالُوا: لَا، وَلَكِن الْملك عضد الدولة. قَالَ: الَّذِي كَانَ بشيراز؟ قَالُوا: نعم، وَقد جَاءَ إِلَى بَغْدَاد. قَالَ: وَأَيْنَ بختيار؟ قَالُوا: قتل. قَالَ: وَأَبُو تغلب؟

قَالُوا: انهزم وَدخل إِلَى بِلَاد الرّوم. قَالَ: وَأَيْنَ عضد الدولة؟ قَالُوا: بالموصل، وَهُوَ ذَا نحملك إِلَيْهِ مكرما. فَسجدَ حِينَئِذٍ، وَبكى بكاء شَدِيدا، ثمَّ حمد الله، فأرادوا فك قيوده، فَقَالَ: لَا أمكن من ذَلِك، إِلَّا أَن يُشَاهد حَالي الْملك. فَحمل إِلَى الْموصل إِلَى عضد الدولة، فرأيته وَقد أصعد بِهِ مُقَيّدا من الْمعبر الَّذِي عبر فِيهِ فِي دجلة، إِلَى دَار أبي تغلب الَّتِي نزل بهَا عضد الدولة بالموصل، وَكنت أَنا إِذْ ذَاك أتقلدها لَهُ، وَجَمِيع مَا فَتحه مِمَّا كَانَ فِي يَد أبي تغلب مُضَافا إِلَى حلوان، وَقطعَة من طَرِيق خُرَاسَان، فَرَأَيْت مُحَمَّدًا يمشي فِي قيوده، حَتَّى دخل إِلَيْهِ، فَقبل الأَرْض بَين يَدي عضد الدولة، ودعا لَهُ، وشكره، فَأخْرج إِلَى حجرَة من الدَّار، فَأخذ حديده، وَحمل على فرس فاره بمركب ذهب، وَقيد بَين يَدَيْهِ خمس دَوَاب بمراكب فضَّة مذهبَة، وَخمْس بجلالها، وَثَلَاثُونَ بغلا محملة مَالا صامتا، وَمن صنوف الثِّيَاب الفاخرة،

والفرش السّري، وَالطّيب، والآلات المرتفعة الْقدر، وَنقل إِلَى دَار قد فرغت لَهُ، وفرشت بفرش حسن، وملئت بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الصفر، والآلات، والعلوفات، وَالْحَيَوَان، والحلوى، وأطعمة نقلت إِلَيْهِ من المطبخ، وأنبذة، وَغير ذَلِك. ثمَّ أقطعه بعد أَيَّام، إقطاعا بِثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم، وولاه إِمَارَة بَلَده وأعماله، وَجَمِيع مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ أَبُو تغلب.

أسره الروم في أيام معاوية وأطلقوه في أيام عبد الملك

أسره الرّوم فِي أَيَّام مُعَاوِيَة وأطلقوه فِي أَيَّام عبد الْملك روى حميد، كَاتب إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، أَن إِبْرَاهِيم حَدثهُ، أَن مخلدا الطَّبَرِيّ، كَاتب الْمهْدي على ديوَان السِّرّ، حَدثهُ أَن سالما مولى هِشَام بن عبد الْملك، وكاتبه على ديوَان الرسائل، أخبرهُ، أَنه كَانَ فِي ديوَان عبد الْملك يتَعَلَّم كَمَا يتَعَلَّم الْأَحْدَاث فِي الدَّوَاوِين، إِذْ ورد كتاب صَاحب يُرِيد الثغور الشامية، على عبد الْملك، يُخبرهُ فِيهِ أَن خيلا من الرّوم تراءت للْمُسلمين، فنفروا إِلَيْهَا، ثمَّ عَادوا وَمَعَهُمْ رجل كَانَ قد أسر فِي أَيَّام مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، فَذكر أَن الرّوم لما تواقفوا مَعَ الْمُسلمين، أخبروهم أَنهم لم يَأْتُوا لِحَرْب، وَإِنَّمَا جَاءُوا بِهَذَا الْمُسلم ليسلموه إِلَى الْمُسلمين؛ لِأَن عَظِيم الرّوم أَمرهم بذلك. وَذكر صَاحب الْبَرِيد، أَن النافرين ذكرُوا، أَنهم سَأَلُوا الْمُسلم عَمَّا قَالَ الرّوم، فَوَافَقَ قَوْله قَوْلهم، وَذكر أَن الرّوم قد أَحْسنُوا إِلَيْهِ، فانصرفوا عَنْهُم، وَإِنِّي سَأَلته عَن سَبَب مخرجه، فَذكر أَنه لَا يخبر بذلك أحدا دون أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَأمر عبد الْملك بإشخاص الْمُسلم إِلَيْهِ، فأشخص إِلَى دمشق. فَلَمَّا دخل على عبد الْملك، قَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: قَتَّات بن رزين اللَّخْمِيّ. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: كَذَا كَانَ فِي الأَصْل الَّذِي نقلت مِنْهُ: قَتَّات، وَأَظنهُ خطأ؛ لِأَن الْمَشْهُور قباث بن رزين اللَّخْمِيّ، وَقد روى الحَدِيث عَن

عَليّ بن رَبَاح اللَّخْمِيّ، عَن عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، أَو لَعَلَّه غَيره، وَالله أعلم. رَجَعَ الحَدِيث: أسكن فسطاط مصر فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالحمراء، أسرت فِي زمن مُعَاوِيَة، وطاغية الرّوم إِذْ ذَاك توما بن مَرْزُوق. فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: فَكيف كَانَ فعله بكم؟ قَالَ: لم أجد أحدا أَشد عَدَاوَة لِلْإِسْلَامِ وَأَهله مِنْهُ، إِلَّا أَنه كَانَ حَلِيمًا، فَكَانَ الْمُسلمُونَ فِي أَيَّامه أحسن أحوالا مِنْهُم فِي أَيَّام غَيره، إِلَى أَن أفْضى الْأَمر إِلَى ابْنه ليون، فَقَالَ فِي أول مَا ملك: إِن الأسرى إِذا طَال أسرهم فِي بلد أنسوا بِهِ، وَلَو كَانَ على غَايَة الرداءة، وَلَيْسَ شَيْء أنكأ لقُلُوبِهِمْ من نقلهم من بلد إِلَى بلد، فَأمر بِاثْنَيْ عشر قدحا، فَكتب على رَأس كل قدح اسْم بطرِيق من بطارقة الْبلدَانِ، وَيضْرب بِالْقداحِ فِي كل سنة أَربع مَرَّات، فَمن خرج اسْمه فِي الْقدح الأول، حول إِلَيْهِ الْمُسلمُونَ، فاحتبسهم عِنْده شهرا، ثمَّ إِلَى الثَّانِي، ثمَّ إِلَى الثَّالِث، ثمَّ تُعَاد القداح بعد ذَلِك. فَكُنَّا لَا نصير عِنْد أحد من البطارقة، إِلَّا قَالَ لنا: احمدوا الله حَيْثُ لم يبتلكم ببطريق البرجان، فَكُنَّا نرتاع لذكره، وَنَحْمَد رَبنَا إِذْ لم يبتلنا بِهِ، فَمَكثْنَا على ذَلِك سِنِين. ثمَّ ضربت القداح، فَخرج الأول وَالثَّانِي لبطريقين، وَالثَّالِث لبطريق البرجان، فَمر بِنَا فِي الشَّهْرَيْنِ غم كَبِير، نترقب الْمَكْرُوه. ثمَّ انْقَضى الشهران، فحملنا إِلَيْهِ، فَرَأَيْنَا على بَابه من الْجمع خلاف مَا كُنَّا نعاين، ورأينا من زبانيته من الغلظة خلاف مَا كُنَّا نرى، ثمَّ وصلنا إِلَيْهِ،

فَتبين لنا من فظاظته وغلظته، مَا أيقنا مَعَه بالهلكة، ثمَّ دَعَا بالحدادين، فَأمر بتقييد الْمُسلمين بأمثال مَا كَانَ يقيدهم بِهِ غَيره، فَلم يزل الْحَدِيد يعْمل فِي رجل وَاحِد وَاحِد، حَتَّى صال الْحداد إِلَيّ، فَنَظَرت إِلَى وَجه البطريق، فرأيته قد نظر إِلَيّ نظرا بِخِلَاف الْعين الَّتِي كَانَ ينظر بهَا إِلَى غَيْرِي، ثمَّ كلمني بِلِسَان عَرَبِيّ، فَسَأَلَنِي عَن اسْمِي ونسبي ومسكني، بِمثل مَا سَأَلَني عَنهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فصدقته عَمَّا سَأَلَني عَنهُ. ثمَّ قَالَ لي: كَيفَ حفظك لكتابكم؟ فأعلمته أَنِّي حَافظ. قَالَ: اقْرَأ آل عمرَان، فَقَرَأت مِنْهَا خمسين آيَة. فَقَالَ: إِنَّك لقارئ فصيح، ثمَّ سَأَلَني عَن روايتي للشعر، فأعلمته أَنِّي راوية. فاستنشدني لجَماعَة من الشُّعَرَاء، فَقَالَ: إِنَّك لحسن الرِّوَايَة. ثمَّ قَالَ لخليفته: إِنِّي قد ومقت هَذَا الرجل، فَلَا تحدده. ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ من الْإِنْصَاف أَن أسوءه فِي أَصْحَابه، ففك الْحَدِيد عَن جَمَاعَتهمْ، وَأحسن مثواهم، وَلَا تقصر فِي قراهم. ثمَّ دَعَا صَاحب مطبخه، فَقَالَ لَهُ: لست أطْعم طَعَاما، مَا دَامَ هَذَا الْعَرَبِيّ عِنْدِي، إِلَّا مَعَه، فاحذر أَن تدخل مطبخي مَا لَا يحل للْمُسلمين أكله، وَأَن تجْعَل الْخمر فِي شَيْء من طبيخك، ثمَّ دَعَا بِمَائِدَتِهِ، واستدناني حَتَّى قعدت إِلَى جَانِبه. فَقلت لَهُ: فدتك نَفسِي وبأبي أَنْت، وَأحب أَن تُخبرنِي من أَي الْعَرَب أَنْت؟

فَضَحِك، وَقَالَ: لست أعرف لمسألتك جَوَابا؛ لِأَنِّي لست عَرَبيا فأجيبك على سؤالك. فَقلت لَهُ: مَعَ هَذِه الفصاحة بِالْعَرَبِيَّةِ؟ فَقَالَ: إِن كَانَ الْعلم بِاللِّسَانِ ينْقل الْإِنْسَان من جنسه إِلَى جنس من حفظ لِسَانه، فَأَنت إِذا رومي، فَإِن فصاحتك بِلِسَان الرّوم لَيست بِدُونِ فصاحتي بِلِسَان الْعَرَب، فعلى قِيَاس قَوْلك يَنْبَغِي أَن تكون روميا، وأكون أَنا عَرَبيا. فصدقت قَوْله، وأقمت عِنْده خمس عشرَة لَيْلَة، لم أكن مُنْذُ خلقت، فِي نعْمَة، أكبر مِنْهَا. فَلَمَّا كَانَت لَيْلَة سِتّ عشرَة، فَكرت أَن الشَّهْر قد مضى نصفه، وَأَن اللَّيَالِي تقربني من الِانْتِقَال إِلَى غَيره، فَبت مغموما. وَصَارَ رَسُوله إِلَيّ فِي الْيَوْم السَّادِس عشر، يدعوني إِلَى طَعَامه، فَلَمَّا حضر الطَّعَام بَين أَيْدِينَا، رأى أكلي مقصرا عَمَّا كَانَ يعْهَد، فَضَحِك، ثمَّ قَالَ لي: أحسبك يَا عَرَبِيّ، لما مضى نصف الشَّهْر، فَكرت فِي أَن الْأَيَّام تقربك من الِانْتِقَال عني إِلَى غَيْرِي مِمَّن لَا يعاملك بِمثل معاملتي، وَلَا يكون عيشك مَعَه مثل عيشك معي، فسهرت، واعتراك لذَلِك غم غير طَعَامك، فأعلمته أَنه قد صدق. فَقَالَ: مَا أَنا إِن لم أحسن الِاخْتِيَار لصديقي بَحر، وَقد أمنك الله مِمَّا حذرت، وَلم ألبث فِي الْيَوْم الَّذِي وصلت إِلَيّ فِيهِ، حَتَّى سَأَلت الْملك، فصيرك عِنْدِي، مَا كنت فِي أَرض الرّوم، فلست تنقل عَن يَدي، وَلَا تخرج مِنْهَا إِلَّا إِلَى بلدك، وَأَرْجُو أَن يسبب الله ذَلِك على يَدي، فطابت نَفسِي، وَلم أزل مُقيما عِنْده، إِلَى أَن انْقَضى الشَّهْر. فَلَمَّا انْقَضى ضرب بِالْقداحِ، فَخرج الأول، وَالثَّانِي، وَالثَّالِث، لبطارقة غير الَّذِي نَحن عِنْده، فحول أَصْحَابِي، وَبقيت وحدي.

وتغديت فِي ذَلِك الْيَوْم مَعَ البطريق، وَكَانَ من عادتي أَن أنصرف من عِنْده بعد غدائي إِلَى إخْوَانِي من الْمُسلمين، فنتحدث، ونأنس، ونقرأ الْقُرْآن، ونجمع الصَّلَوَات، ونتذاكر الْفَرَائِض، وَيسمع بَعْضنَا من بعض مَا حفظ من الْعلم وَغَيره، فَانْصَرَفت ذَلِك الْيَوْم بعد غدائي إِلَى الْموضع الَّذِي كنت أصير إِلَيْهِ، وَفِيه السلمون، فَلم أر فِيهِ أحدا إِلَّا الْكَفَرَة، فَضَاقَ صَدْرِي ضيقا تمنيت مَعَه أَنِّي كنت مَعَ أَصْحَابِي، فَبت بليلة صعبة لم أطْعم فِيهَا الغمض، وأصبحت أكسف خلق الله بَالا، وأسوأهم حَالا. وَصَارَ إِلَيّ الرَّسُول فِي وَقت الْغَدَاء، فصرت إِلَيْهِ، فَتبين الْغم فِي أسرة وَجْهي، ومددت يَدي إِلَى الطَّعَام، فَرَأى مد يَدي إِلَيْهِ، خلاف مدي الَّذِي كَانَ يعرف، فَضَحِك، ثمَّ قَالَ: أحسبك اغتممت لفراق أَصْحَابك؟ فأعلمته أَنه صدق، وَسَأَلته: هَل عِنْده حِيلَة فِي ردهم إِلَى يَده. فَقَالَ: إِن الْملك لم ير أَن ينْقل أَصْحَابك من يَدي إِلَى يَد غَيْرِي إِلَّا ليغمهم بِمَا يفعل، وَمن الْمحَال أَن يدع تَدْبيره فِي الْإِضْرَار بهم، لميلي إِلَيْك ومحبتي لَك، وَلَيْسَ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَاب حِيلَة، فَسَأَلته أَن يسْأَل الْملك إخراجي عَن يَده، وضمي إِلَى أَصْحَابِي أكون مَعَهم حَيْثُ كَانُوا. فَقَالَ: وَلَا فِي هَذَا أَيْضا حِيلَة؛ لِأَنِّي لَا أستجيز أَن أنقلك من سَعَة إِلَى ضيق، وَمن كَرَامَة إِلَى هوان، وَمن نعْمَة إِلَى شقاء. فَلَمَّا قَالَ ذَلِك، تبين فِي الانكسار وَغَلَبَة الْغم، فَقَالَ لي: بلغ بك الْغم إِلَى النِّهَايَة؟ فَأَخْبَرته: أَنه قد بلغ بِي الْغم، أَن اخْتَرْت الْمَوْت على الْحَيَاة، لعلمي

أَنه لَا رَاحَة لي بِغَيْرِهِ. فَقَالَ لي: إِن كنت صَادِقا فقد دنا فرجك. فَسَأَلته عَمَّا دله على ذَلِك، فَقَالَ لي: إِنِّي وَقعت فِي نكبات أَشد هولا مِمَّا أَنْت فِيهِ، وَكَانَ عَاقبَتهَا الْفرج. وأعلمني أَن بطرقة بَلَده لم تزل فِي آبَائِهِ يتوارثونها، وَأَن عَددهمْ كَانَ كثيرا، وَلم يبْق غير أَبِيه وَعَمه، وَكَانَت البطرقة إِلَى عَمه دون أَبِيه، فَأَبْطَأَ على أَبِيه وَعَمه الْوَلَد، فبذلا للمتطببين الْكثير من الْأَمْوَال لعلاجهما بِمَا يصلح الرِّجَال للنِّسَاء، إِلَى أَن بَطل الْعم، ويئس من الانتشار، فصرف بعض الْأَطِبَّاء عنايته إِلَى معالجة أبي البطريق، فعلقت أمه بِهِ. فَلَمَّا علم الْعم أَنه قد علقت أمه بِهِ، جمع عدَّة من الحبالى، من أَلْسِنَة مُخْتَلفَة، مِنْهَا الْعَرَبِيّ، والرومي، والإفرنجي، والصقلابي، والخزري، وَغير ذَلِك، فوضعن فِي دَاره. فَلَمَّا وضعت البطريق أمه، أَمر بتصيير أُولَئِكَ النِّسَاء كُلهنَّ مَعَه، وَتقدم إِلَى كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ، أَلا تكَلمه إِلَّا بلسانها. فَلم تستتم لَهُ أَربع سِنِين، حَتَّى تكلم بِكُل الْأَلْسِنَة الَّتِي لأمهاته اللَّاتِي أرضعنه. ثمَّ أَمر بتصيير ملاعبيه ومؤدبيه من جَمِيع أَجنَاس النِّسَاء اللواتي ربينه، فَكَانُوا يعلمونه الْكِتَابَة، وَقِرَاءَة كتبهمْ فَلم تمر عَلَيْهِ تسع سِنِين، حَتَّى عرف ذَلِك كُله. ثمَّ أَمر عَمه أَن يضم إِلَيْهِ جمَاعَة من الفرسان يعلمونه الثقافة والمناولة

وَجَمِيع مَا يتعلمه الفرسان، وَتقدم بِمَنْعه من سُكْنى الْمنَازل، وَأمر أَن ينزل فِي الْمضَارب، وَأَن يمْنَع من أكل اللَّحْم إِلَّا مَا يصيده طَائِر يحملهُ على يَدَيْهِ، أَو كلب يسْعَى بَين يَدَيْهِ، أَو صيد بسهمه، فَكَانَت تِلْكَ حَاله حَتَّى استوفى عشر سِنِين، ثمَّ مَاتَ عَمه، وَولي أَبوهُ البطرقة بعد عَمه، وَأمره بالقدوم عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ، وَرَأى فهمه، وأدبه، وشمائله، اشْتَدَّ عجبه بِهِ، فسمح لَهُ بِمَا لم تكن الْمُلُوك تسمح بِهِ لأولادها، وَأعد لَهُ الْمضَارب والفساطيط الديباج، وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة كثيفة من الفرسان ووسع على الْجَمِيع فِي كل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ورده إِلَى سُكْنى الْمضَارب، وَأَخذه بالاستبعاد عَن منَازِل أَبِيه. قَالَ البطريق: فَلَمَّا تمت لي خمس عشرَة سنة، ركبت يَوْمًا لارتياد مَكَان أكون فِيهِ، فبصرت بغدير مَاء قدرت طوله ألف ذِرَاع وَعرضه مَا بَين ثَلَاث مائَة ذِرَاع إِلَى أَربع مائَة ذِرَاع، فَأمرت بِضَرْب مضاربي عَلَيْهِ، وتوجهت إِلَى الصَّيْد، فرزقت مِنْهُ فِي ذَلِك الْيَوْم، مَا لم أطمع فِي مثله كَثْرَة، وَنزلت فِي بعض الْمضَارب فَأمرت الطباخين، فطبخوا لي مَا اشْتهيت من الطَّعَام، ثمَّ نصبت الْمَائِدَة بَين يَدي. فَإِنِّي لأنظر إِلَى الطبيخ يغْرف، إِذْ سَمِعت ضجة عَظِيمَة، فَمَا فهمت خَبَرهَا حَتَّى رَأَيْت رُءُوس أَصْحَابِي تتساقط عَن أبدانهم، فتنحيت عَن مَكَاني

الَّذِي كنت فِيهِ، وخلعت الثِّيَاب الَّتِي كَانَت عَليّ، ولبست ثِيَاب بعض عَبِيدِي، ثمَّ ضربت ببصري يمنة ويسرة، فَلم أر حَولي إِلَّا مقتولا، وَإِذا فَاعل ذَلِك بِأَصْحَابِي منسر من مناسر البرجان. ثمَّ أسرت كَمَا يؤسر العبيد، وَاحْتمل جَمِيع مَا كَانَ مَعنا، من مضرب وَغَيره، وصاروا بِي إِلَى ملك البرجان. فَلَمَّا رَآنِي، وَلم يكن لَهُ ولد ذكر، أَمر بالتوسعة عَليّ، وَأَن أكون وَاقِفًا عِنْد رَأسه، وسماني ابْنه. وَكَانَ للْملك بنت، وَكَانَ بهَا مغرما، وَكَانَ قد علمهَا الفروسية، ومساورة الفرسان، ومساهمتهم ومراكضتهم. فَقَالَ، وَأَنا حَاضر، لجَماعَة من بطارقته: من مِنْكُم يتَوَجَّه إِلَى ملك الرّوم، فيجيئني بكاتب من بَلَده؛ ليعلم ابْني الْكِتَابَة. فأعلمته أَن رَسُوله لَا يَأْتِيهِ بأكتب مني. فَأمرنِي أَن أكتب بَين يَدَيْهِ، فَكتبت، فَاسْتحْسن خطي، وقرنه بكتب كَانَت ترد عَلَيْهِ من وَالِدي، فَرَأى خطي أَجود مِنْهَا، فَدفع إِلَيّ ابْنَته، وَأَمرَنِي أَن أعلمها الْكِتَابَة، فهويتها، وهويتني. فَمَكثت معي حَتَّى استوفت ثَلَاث عشرَة سنة، ثمَّ عدت إِلَيّ يَوْمًا وَهِي باكية، فَقلت لَهَا: مَا يبكيك يَا سيدتي؟ فَقَالَت: دَعْنِي، يحِق لي الْبكاء، فسألتها عَن السَّبَب. فَقَالَت: كنت جالسة بَين يَدي أبي وَأمي فِي هَذِه اللَّيْلَة، فغلبتني عَيْني،

فَنمت، فَسمِعت أبي يَقُول لأمي: أرى ثديي ابْنَتك قد تفلكا، وَأرى هَذَا الرُّومِي قد غلظ كَلَامه، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يجتمعا بعد هَذَا الْوَقْت، فَإِذا جَلَست غَدا مَعَه، فابعثي إِلَيْهِمَا من يفرق بَينهمَا، حَتَّى لَا يَرَاهَا، وَلَا ترَاهُ. قَالَ البطريق: وَمن سنة البرجان، أَن يكون الرجل يخْطب لابنته زوجا، حَتَّى يُزَوّجهَا، وَلَا يخْطب لَهَا إِلَّا من تختاره الْبِنْت. قَالَ البطريق: فَقلت لابنَة الْملك، إِذا سَأَلَك أَبوك، من تحبين أَن أَخطب لَك من الرِّجَال فَقولِي: لست أُرِيد إِلَّا هَذَا الرُّومِي. فَغضِبت، وَقَالَت: كَيفَ يجوز أَن أسأَل أبي أَن يزوجني بِعَبْد؟ قَالَ: فَقلت لَهَا: مَا جعلني الله عبدا، وَأَنا ابْن ملك، وَأبي ملك الرّوم. قَالَ البطريق: وَأهل البرجان، يسمون البطريق الرُّومِي الَّذِي يتَوَلَّى حد برجان: ملك الرّوم. فسألتني: هَل أخْبرتهَا بِحَق؟ فأعلمتها أَنه حق. فَمَا انْقَضى كلامنا، حَتَّى جَاءَ رَسُول الْملك، ففرقوا بَيْننَا، وَلم يمض بعد ذَلِك، إِلَّا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى دَعَاني الْملك، فَدخلت عَلَيْهِ، فَرَأَيْت أَمَارَات الشَّرّ مستحكمة فِي وَجهه. فَقَالَ لي: يَا شقي، مَا حملك على الْكَذِب فِي نسبك؟ وَأَنا أحكم على من انتسب إِلَى غير أَبِيه بِالْقَتْلِ. فَقلت لَهُ: مَا انتسبت إِلَى غير أبي. فَقَالَ لي: أَتَقول إِنَّك ابْن ملك الرّوم؟ فأعلمته أَنِّي أَقُول ذَلِك، ودعوته إِلَى الْكَشْف عَنهُ.

فَقَالَ: لست أحتاج إِلَى كشف أَمرك برَسُول أرْسلهُ ليعرف خبرك، وَلَكِن لي أَشْيَاء أمتحنك بهَا، فأعرف صدقك من كَذبك، فدعوته إِلَى كشفها بِمَا شَاءَ. فَدَعَا بِدَابَّة، ولبد، وسرج، ولجام، فَأمرنِي بتناول الدَّابَّة، فَأخذت الدَّابَّة من يَد السائس، ثمَّ أَمرنِي بِأخذ اللبد، فَأَخَذته، ثمَّ أَمرنِي بإلقائة على الدَّابَّة، فَفعلت مَا أَمرنِي بِهِ، ثمَّ أَمرنِي بتناول السراج، فَأَخَذته، ثمَّ أَمرنِي بشد الحزام، والثفر، واللبب، وَأخذ اللجام وإلجام الدَّابَّة، فَفعلت ذَلِك، ثمَّ أَمرنِي بركوب الدَّابَّة، فركبت، وَأَمرَنِي بالسير فسرت، وَأَمرَنِي بالإقبال والإدبار، فَفعلت، ثمَّ أَمرنِي بالنزول، فَنزلت. فَقَالَ، عِنْد ذَلِك: أشهد أَنه ابْن ملك الرّوم؛ لِأَنَّهُ أَخذ الدَّابَّة أَخذ ملك، وَعمل سَائِر الْأَشْيَاء مِثْلَمَا تعمله الْمُلُوك، فَاشْهَدُوا أَنِّي قد زَوجته ابْنَتي. فَلَمَّا قَالُوا شَهِدنَا، قَالَ: لَا تشهدوا. فَلَمَّا سَمِعت قَوْله: لَا تشهدوا، تخوفت أَن يَأْتِي على نَفسِي. ثمَّ قَالَ لي: لم أتوقف عَن الشَّهَادَة رَغْبَة عَنْك، وَلَكنَّا لنا شَرط لَا نقدر أَن نخالفه، وَلم نَأْمَن أَن تضطر إِلَيْهِ، فنحملك على شرطنا، وَهُوَ مَا لم نخبرك بِهِ، ونوقفك عَلَيْهِ، فنكون قد ظَلَمْنَاك، أَو نَدع لَك سنة بلدنا، فنكون قد فارقنا سنتنا، إِن سنتنا يَا رومي، أَن لَا نفرق بَين الزَّوْجَيْنِ إِذا مَاتَ أَحدهمَا، فَإِن مَاتَ الرجل قبل الْمَرْأَة، نومناها مَعَه فِي نعشه، وحملناهما مَعًا، حَتَّى ننزلهما إِلَى بِئْر هِيَ مأوى مَوتَانا، وَجَعَلنَا مَعَهُمَا طَعَاما وَشَرَابًا لثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ أنزلناهما على الْبِئْر، فَإِذا صَارا إِلَى قَرَارهَا سيبنا الحبال عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إِن مَاتَت الْمَرْأَة قبل الرجل، جعلناها فِي سريرها، وَجَعَلنَا زَوجهَا مَعهَا، وصيرناهما جَمِيعًا فِي الْبِئْر، فَإِن رضيت بِهَذِهِ السّنة فَبَارك الله لَك فِي زَوجك، وَإِن لم ترض

أقلناك، فلسنا نُزَوِّجك، وَلَا تستقيم لنا على خلاف سنتنا، فأحوجتني الصبابة بهَا، أَن قلت: قد رضيت بِهَذِهِ السّنة. فَأمر بتجهيزها وتسليمها إِلَيّ، وَجمع بَيْننَا، فأقمت مَعهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لَا نرى إِلَّا أَنا قد فزنا بِملك الدُّنْيَا. ثمَّ اعتلت عِلّة كَانَت مَعهَا غشية، لم يشك كل من رَآهَا إِلَّا أَنَّهَا قبضت، فجهزت بأفخر ثِيَابهَا، وجهزت مَعهَا بِمثل ذَلِك، وحملنا على نعش وَاحِد، وَركب الْملك، وَأهل المملكة، فشيعونا حَتَّى وافوا بِنَا شَفير الْبِئْر، ثمَّ شدوا أسافل السرير بالحبال، وَجعلُوا مَعنا فِي النعش طَعَاما وَشَرَابًا لثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ حطونا حَتَّى صرنا إِلَى قرارة الْبِئْر. ثمَّ أرخيت علينا الحبال، فَسقط حَبل مِنْهَا على وَجه الْجَارِيَة، فأزال الوجع مَا كَانَ بهَا من الغشي، فانتبهت، فَلَمَّا انْتَبَهت، رَأَيْت أَن الدُّنْيَا قد جمعت لي. واستمرت عَيْني على الظلمَة، فَرَأَيْت فِي الْموضع الَّذِي أَنا فِيهِ، من الْخبز الْيَابِس وَالْخمر مَاله دهر كثير، فأخذنا نتغذى بِهِ جَمِيعًا. وَكُنَّا لَا نعدم فِي يَوْم من الْأَيَّام، إِلَّا النَّادِر، سريرا يدلى فِيهِ زوجان، أَحدهمَا ميت، وَالْآخر حَيّ، فَإِن كَانَ النَّازِل رجلا حَيا، توليت أَنا قَتله، لِئَلَّا يكون مَعَ زَوْجَتي غَيْرِي، وَكَذَلِكَ إِن كَانَت الْحَيَّة امْرَأَة، تولت زَوْجَتي قَتلهَا، لِئَلَّا يكون مَعَ زَوجهَا غَيرهَا. فَمَكثْنَا فِي الْبِئْر على هَذِه الْحَال أَكثر من سنة، ثمَّ دُلي فِي الْبِئْر دلو، فَعلمت أَن مدلي الدَّلْو غير برجاني، وَأَنه لَا يدْخل ذَلِك الْموضع غير برجاني، إِلَّا رومي، وَوَقع لي أَن أقدم الْجَارِيَة قبلي، لتتخلص، ثمَّ تعرفهم حَالي، فيردوا الدَّلْو إِلَيّ، فأصعد.

فَحملت بنت الْملك فجعلتها فِي الدَّلْو بكسوتها، وحليها، وجواهرها، واجتذب الْقَوْم الدَّلْو، فَخرجت إِلَيْهِم الْجَارِيَة. فَإِذا الْقَوْم مماليك لأبي، وَلم ينتبهوا للسؤال عني، وهابتهم الْجَارِيَة، أَن تَقول لَهُم شَيْئا، وَقد كَانُوا رَأَوْا مَا فِيهِ أُمِّي وَأبي وَمَا غلب عَلَيْهِمَا من الْحزن لفقدي، فصاروا إِلَيْهِمَا بالجارية ليتسلون بهَا، فسرا بهَا، وسكنا إِلَيْهَا. واستمرت الهيبة لَهما بالجارية، فحصلت شَرّ مُحَصل. وَقد كَانَ لوالدي صديق، لَهُ أدب وَحِكْمَة، وَعلم بالتصوير، صور لَهما صُورَتي فِي خَشَبَة، وزوقها، وَجعلهَا فِي بَيت، وَقَالَ لأبوي: إِذا ذكرتما ابنكما، وَاشْتَدَّ غمكما، فادخلا فانظرا إِلَى هَذِه الصُّورَة، فأنكما ستبكيان بكاء كثيرا يعقبكما سلوة. فَلَمَّا صَارَت الْجَارِيَة إِلَى أَبَوي، ورأتهما يدخلَانِ ذَلِك الْبَيْت كثيرا، ويخرجان، وَقد بكيا، استوقفتهما يَوْمًا، وهما داخلان، فبصرت بالصورة، فَلَمَّا رأتها لطمت وَجههَا، ونتفت شعرهَا، ومزقت ثِيَابهَا. فَسَأَلَاهَا عَن السَّبَب فِيمَا صنعت بِنَفسِهَا، فَقَالَت: هَذِه صُورَة زَوجي، فَسَأَلَاهَا عَن اسْمه، وَاسم أَبِيه وَأمه، فأسمتهم جَمِيعًا. فَقَالَا لَهَا: فَأَيْنَ زَوجك؟ قَالَت: فِي الْبِئْر الَّتِي أخرجت مِنْهَا، فَركب أبي وَأمي فِي أَكثر أهل الْبَلَد، وَمَعَهُمْ الغلمان الَّذين أخرجُوا الْجَارِيَة من الْبِئْر، حَتَّى وافوا الْبِئْر، فدلوا الدَّلْو، وَكنت قد سللت سَيفي الَّذِي كَانَ أنزل معي من غمده، وَجعلت ذبابه بَين ثديي لأتكئ عَلَيْهِ، فَأخْرجهُ من ظَهْري، فَأَسْتَرِيح من الدُّنْيَا، لغَلَبَة الْغم عَليّ، فَوَثَبت، فَقَعَدت فِي الدَّلْو، واجتذبوني حَتَّى خرجت،

فَوجدت أبي، وَأمي، وامرأتي، على شَفير الْبِئْر، وَقد أحضروا لي الدَّوَابّ لأركب وأنصرف إِلَى بلادي، وَكَانَ أبي قد صَار ملك تِلْكَ الْبِلَاد، فَلم أطعهما، وأعلمتهما أَن الأصوب الْبعْثَة إِلَى أبي الْجَارِيَة، وَأمّهَا، حَتَّى يريَا ابنتهما مِثْلَمَا رأيتماني. ففعلا ذَلِك، ووجها إِلَى أبي الْجَارِيَة، وَهُوَ صَاحب البرجان، فَخرج فِي أهل مَمْلَكَته، حَتَّى عاينها، وَأَقَامُوا عرسا جَدِيدا، وَحدثت مهادنة بَين الرّوم والبرجان جرت فِيهَا أَيْمَان مُؤَكدَة أَن لَا يعدو أَحدهمَا على صَاحبه ثَلَاثِينَ سنة، وَصَارَ الْقَوْم إِلَى بِلَادهمْ، وصرنا إِلَى مَنَازلنَا. قَالَ: وَمَات أبي، فورثت البطرقة عَنهُ، وَرزقت من بنت ملك البرجان الْوَلَد، وَأَنت يَا عَرَبِيّ، فَإِن كَانَ الْغم قد بلغ مِنْك إِلَى مَا ذكرت فقد جَاءَك الْفرج. فَمَا انْقَضى كَلَام البطريق، حَتَّى دخل عَلَيْهِ رَسُول ملك الرّوم يَدعُوهُ، فَمضى إِلَيْهِ، ثمَّ عَاد إِلَيّ، فَقَالَ: يَا عَرَبِيّ، قد جَاءَك الْفرج، كنت عِنْد الْملك، وَقد جرى ذكر الْعَرَب، ورمتهم البطارقة عَن قَوس وَاحِدَة، فَذكرُوا أَنهم لَا عقول لَهُم وَلَا آدَاب، وَأَن قهرهم الرّوم بالغلبة والاتفاق، وَلَا بِحسن التَّدْبِير. فأعلمت الْملك أَن الْأَمر بِخِلَاف مَا قَالُوا، فَإِن للْعَرَب آدابا، وأذهانا، وتدبيرا جيدا. فَقَالَ لي الْملك: أَنْت لمحبتك لضيفك الْعَرَبِيّ تفرط فِي إِعْطَاء الْعَرَب مَا لَيْسَ لَهَا، وتصفها بِمَا لَيْسَ فِيهَا. فَقلت: إِن رأى الْملك أَن يَأْذَن فِي إِحْضَار هَذَا الْعَرَبِيّ، ليجمع بَينه وَبَين هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمين، ليعرف فضيلته، فَأمرنِي بحملك إِلَيْهِ. فَقلت: بئس مَا صنعت بِي؛ لِأَنِّي أَخَاف إِن غلبني أَصْحَابه أَن يستخف بِي، وَإِن غلبتهم أَن يضطغن عَليّ. فَقَالَ: هَذِه صفة الْعَامَّة، والملوك على خلَافهَا، وَأَنا أخْبرك أَنَّك إِن

غلبتهم جللت فِي عين الْملك، وَكنت عِنْده بمَكَان يقْضِي لَك فِيهِ حَاجَة، وَإِن غلبوك سره غَلَبَة أهل دينه لَك، فَأوجب لَك أَيْضا بِذَاكَ ذماما، وَإِن أقل مَا يرى أَن يقْضِي لَك حَاجَة، فَإِن غلبت أَو غلبت فسله إخراجك من بَلَده، وردك إِلَى بلادك، فَإِنَّهُ سَوف يفعل ذَلِك. قَالَ قباث: فَلَمَّا دخلت على الْملك، استدناني، وقربني، وأكرمني، وَقَالَ لي: نَاظر هَؤُلَاءِ البطارقة. فأعلمته، أَنِّي لَا أرْضى لنَفسِهِ بمناظرتهم، وَأَنِّي لَا أناظر إِلَّا البطريق الْأَكْبَر، فَأمر بإحضاره. فَلَمَّا دخل، سلمت عَلَيْهِ، وَقلت لَهُ: مرْحَبًا أَيهَا الشَّيْخ الْكَبِير الْقدر. ثمَّ قلت لَهُ: يَا شيخ، كَيفَ أَنْت؟ قَالَ: فِي عَافِيَة. قلت: فَكيف أحوالك كلهَا؟ قَالَ: كَمَا تحب. فَقلت لَهُ: فَكيف ابْنك؟ فتضاحكت البطارقة كلهَا، وَقَالُوا: زعم البطريق، يعنون الَّذِي هُوَ صديقي أَن هَذَا أديب، وَأَن لَهُ عقلا، وَهُوَ لَا يعلم بجهله، أَن الله تَعَالَى قد صان هَذَا البطريق عَن أَن يكون لَهُ ابْن. فَقلت: كأنكم ترفعونه عَن أَن يكون لَهُ ابْن؟ قَالُوا: إِي وَالله، إِنَّا لنرفعه، إِذْ كَانَ الله رَفعه عَن ذَلِك. فَقلت: وَاعجَبا، أيجل عبد من عبيد الله، أَن يكون لَهُ ابْن، وَلَا يجل

الله تَعَالَى، وَهُوَ خَالق الْخَلَائق كلهَا، عَن أَن يكون لَهُ ابْن. قَالَ: فنخر البطريق نخرة أفزعتني، ثمَّ قَالَ: أَيهَا الْملك، أخرج هَذَا السَّاعَة عَن بلدك، لَا يفْسد عَلَيْك أَهله. فَدَعَا الْملك بالفرسان، فضمني إِلَيْهِم، وأحضر لي دَوَاب الْبَرِيد، وَأمر بحملي عَلَيْهَا، وتسليمي إِلَى من يَلْقَانَا فِي أَرض الْإِسْلَام من الْمُسلمين، فسلموني إِلَى من تسلمني من أهل الثغر. ثمَّ ذكر حَدِيثا لعبد الْملك، مَعَ الرجل، لَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب فأذكره، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.

استنقذ المذحجيين من أسر بني مازن

استنقذ المذحجيين من أسر بني مَازِن وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه الْفرج بعد الشدَّة، قَالَ: بَلغنِي أَن عَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ، قَالَ: خرجت فِي خيل من بني زبيد، أُرِيد غطفان، فَبَيْنَمَا أَنا أَسِير، وَقد انْفَرَدت عَن أَصْحَابِي، إِذْ سَمِعت صَوت رجل ينشد شعرًا، فَحفِظت مِنْهُ قَوْله: أما من فَتى لَا يخَاف العطب ... يبلغ عَمْرو بن معدي كرب بأننا ننوط فِي مَازِن ... بأرجلنا الْيَوْم نوط الْقرب فَإِن هُوَ لم يأتنا عَاجلا ... فَيكْشف عَنَّا ظلام الكرب وَإِلَّا استغثنا بِعَبْد المدان ... وَعبد المدان لَهَا إِن طلب قَالَ: فَعلمت أَنه أَسِير فِي بني مَازِن بن صعصعة، فَقلت لخيلي: قفوا حَتَّى آتيكم، فَاقْتَحَمت على الْقَوْم وحدي، فَإِذا هم يصطلون. فَقلت: أَنا أَبُو ثَوْر، أَيْن أسرى بني مذْحج؟ فَنَادَى الأسرى من الرِّجَال، وبادر الْقَوْم إِلَيّ يطلبوني، فَلم أزل أقاتلهم وأقتل مِنْهُم حَتَّى استعفوني، وَقَالُوا: إننا وَالله لنعلم، أَنَّك لم تأتنا وَحدك إِلَّا وَأَنت لَا تبالي بِنَا، فلك الأسرى فَاكْفُفْ عَنَّا خيلك.

فَنزلت، وأطلقت بَعضهم، وَقلت: ليحل بَعْضكُم بَعْضًا، وليركب كل وَاحِد مِنْكُم مَا وجد من الْخَيل، وَأَقْبَلت خيل فركبوها. فَقلت للأسرى: هَل علمْتُم بموضعي، حِين أنشدتم مَا سَمِعت. قَالُوا: لَا وَالله، وَمَا أَصْبَحْنَا يَوْمًا، مُنْذُ حبسنا، آيس من الْفرج من يَوْمنَا هَذَا، فَلذَلِك أَقُول: ألم ترني إِذْ ضمني الْبَلَد القفر ... سَمِعت نِدَاء يصدع الْقلب يَا عَمْرو أغثنا فَإنَّا عصبَة مذحجية ... نناط على وفر وَلَيْسَ لنا وفر فَقلت لخيلي أنطروني فإنني ... سريع إِلَيْكُم حِين ينصدع الْفجْر وأقحمت مهري حِين صادفت غرَّة ... على الطف حَتَّى قيل قد قتل الْمهْر فأنجيت أسرى مذْحج من هوَازن ... وَلم ينجهم إِلَّا السكينَة وَالصَّبْر وَنَادَوْا جَمِيعًا حل منا وثاقنا ... أَخا الْبَطْش إِن الْأَمر يحدثه الْأَمر وأبت بأسرى لم يكن بَين قَتلهمْ ... وَبَين طعاني ضَارِبًا عَنْهُم فتر يزِيد وَعمر وَالْحصين وَمَالك ... ووهب وسُفْيَان وسابعهم وبر تكلفنا يَا عَمْرو مَا لَيْسَ عندنَا ... هوَازن فَانْظُر مَا الَّذِي فعل الدَّهْر قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: أنشدنا أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين، أَولهمَا: ألم تَرَ لما ضمني الْبَلَد القفر، وَفِي الثَّانِي: نراد على وتر وَلَيْسَ لنا وفر، قَالَ: فيهمَا خَفِيف رمل بالوسطى لمُحَمد بن الْحَارِث بن بسخنر، عَن عَمْرو، قَالَ: وَذكر أَنه لِابْنِ بانه وَفِيهِمَا ثَانِي ثقيل عَن. . .

أَخْبرنِي بِهَذَا الْخَبَر، مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْقَاسِم الزَّيْنَبِي، قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَليفَة الجُمَحِي، عَن مُحَمَّد بن سَلام، وَذكر نَحوه.

الباب السادس

الْبَاب السَّادِس من فَارق شدَّة إِلَى رخاء بعد بشرى مَنَام لم يشب صدق تَأْوِيله بكذب الأحلام , مَا عرض المعتضد فِي أَيَّامه للعلويين وَلَا آذاهم وَلَا قتل مِنْهُم أحدا أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى ابْن أبي عباد الحسني، قَالَ: رأى المعتضد، وَهُوَ فِي حبس أَبِيه، كَأَن شَيخا جَالِسا على دجلة، يمد يَده إِلَى مَائِهَا فَيصير فِي يَده وتجف دجلة، ثمَّ يردهُ من يَده، فتعود دجلة كَمَا كَانَت، قَالَ: فَسَأَلت عَنهُ، فَقيل لي: هَذَا عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام. فَقُمْت إِلَيْهِ، وسلمت عَلَيْهِ، فَقَالَ لي: يَا أَحْمد، إِن هَذَا الْأَمر صائر إِلَيْك، فَلَا تتعرض لوَلَدي، وصنهم، وَلَا تؤذهم.

فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وحَدثني أبي رَحمَه الله بِهَذَا الحَدِيث، على أتم من هَذَا، بِإِسْنَاد ذكره عَن ابْن حمدون النديم، قَالَ: حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن حمدون، أَو قَالَ: حَدثنِي من قَالَ حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد، أَنا أشكك؛ لِأَنِّي لم أكتبه، وَإِنَّمَا حفظته فِي المذاكرة، وَلَعَلَّ الْأَلْفَاظ تزيد أَو تنقص، قَالَ: قَالَ لي المعتضد بِاللَّه، وَهُوَ خَليفَة: لما قدم أبي، وَهُوَ عليل، الْعلَّة الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَأَنا فِي حَبسه، ازْدَادَ خوفي على نَفسِي، وَلم أَشك فِي أَن إِسْمَاعِيل بن بلبل، سيحمله على قَتْلِي، أَو يحتال بحيلة يسفك بهَا دمي، إِذا وجد أبي قد ثقل، وأيس مِنْهُ. فَنمت لَيْلَة من تِلْكَ اللَّيَالِي، وَأَنا من الْخَوْف على أَمر عَظِيم، وَقد صليت صَلَاة كَثِيرَة ودعوت الله عز وَجل، فَرَأَيْت فِي مَنَامِي كأنني قد خرجت إِلَى شاطئ دجلة، فَرَأَيْت رجلا جَالِسا على الشاطئ، يدْخل يَده فِي المَاء، فَيقبض عَلَيْهِ، فتقف دجلة، وَلَا يخرج من تَحت يَده قَطْرَة من المَاء، حَتَّى يجِف مَا تَحت يَده، ويتزايد المَاء فَوق يَده وَيقف كالطود الْعَظِيم، ثمَّ يخرج يَده من المَاء فَيجْرِي، يفعل ذَلِك مرَارًا، فهالني مَا رَأَيْت. فدنوت مِنْهُ، وسلمت عَلَيْهِ، وَقلت لَهُ: من أَنْت يَا عبد الله الصَّالح؟ فَقَالَ: أَنا عَليّ بن أبي طَالب.

فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ادْع الله لي. فَقَالَ: إِن هَذَا الْأَمر صائر إِلَيْك، فاعتضد بِاللَّه، واحفظني فِي وَلَدي، فانتبهت، وَكَأَنِّي أسمع كَلَامه لسرعة الْمَنَام. فوثقت بأنني أتقلد الْخلَافَة، وقويت نَفسِي، وَزَالَ خوفي، فَقلت لغلام لم يكن معي فِي الْحَبْس غَيره: إِذا أَصْبَحْنَا فَامْضِ فابتع لي خَاتمًا، وانقش على فصه أَحْمد المعتضد بِاللَّه، وجئني بِهِ. فَمضى، وَفعل، وأتاني بِهِ، فلبسته، وَقلت: إِذا وليت الْخلَافَة جعلت لقبي المعتضد بِاللَّه. ثمَّ أخذت أقطع ضيق صَدْرِي فِي الْحَبْس، بتصفح أَحْوَال الدُّنْيَا، والفكر فِي تَدْبِير عمَارَة الخراب مِنْهَا، وَوجه فتح المنغلق، وَتَعْيِين الْعمَّال للنواحي، والأمراء فِي الْبِلَاد. ثمَّ أخذت رقْعَة، فَكتبت، بدر: الْحَاجِب، عبيد الله بن سُلَيْمَان: الْوَزير، فلَان: أَمِير الْبَلَد الْفُلَانِيّ، فلَان: عَامل الْبَلَد الْفُلَانِيّ، فلَان: للديوان الْفُلَانِيّ، إِلَى أَن أتيت على مَا فِي نَفسِي من ذَلِك، ثمَّ دفعتها للغلام، وَقلت لَهُ: احتفظ بِهَذِهِ، فَإِن دمي ودمك مرتهنان بِمَا فِيهَا، فحفظها. فَمَا مضى إِلَّا أَيَّام يسيرَة، حَتَّى لحقت الْمُوفق غشية، لم يشك الغلمان مَعهَا أَنه قد مَاتَ، فأخرجوني، فَأتوا بِي إِلَى بَيت فِيهِ الْمُوفق، فَلَمَّا رَأَيْته علمت أَنه غير ميت، فَجَلَست عِنْده، وَأخذت يَده أقبلها وأترشفها، فأفاق، فَلَمَّا رَآنِي أفعل ذَلِك، أظهر التقبل لي، وَأَوْمَأَ إِلَى الغلمان، أَن قد أَحْسَنْتُم فِيمَا فَعلْتُمْ.

ثمَّ مَاتَ الْمُوفق فِي ليلته تِلْكَ، وَوليت مَكَانَهُ، فابتدأت بتقرير الْأُمُور، على مَا كنت قَرّرته فِي الرقعة، ثمَّ وليت الْخلَافَة، فأمضيت بقايا تِلْكَ التدبيرات كلهَا. قَالَ لي أبي: قَالَ لي ابْن حمدون: مَا عرض المعتضد فِي أَيَّامه للعلويين، وَلَا آذاهم، وَلَا قتل مِنْهُم أحدا.

سليمان بن وهب يتفاءل بمنام رآه وهو محبوس

سُلَيْمَان بن وهب يتفاءل بمنام رَآهُ وَهُوَ مَحْبُوس حَدثنِي عَليّ بن هِشَام بن عبد الله الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْحُسَيْن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الحصيبي، ابْن بنت ابْن الْمُدبر، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْفضل مَيْمُون بن هَارُون بن مخلد بن أبان الْكَاتِب، قَالَ عَليّ بن هِشَام: وَمَيْمُون هَذَا، هُوَ جد أبي الْحُسَيْن بن مَيْمُون الْأَفْطَس، كَاتب المتقي فِي أَيَّام أَبِيه، ووزيره لما اسْتخْلف، قَالَ: كَانَت بيني وَبَين أبي أَيُّوب سُلَيْمَان بن وهب، مَوَدَّة وكيدة، فَلَمَّا تسهلت محنته بعد قتل إيتاخ، صرت إِلَيْهِ وَهُوَ مَحْبُوس مُقَيّد، إِلَّا أَنه مرفه فِي الْكسْوَة، وَكبر الدَّار، والفرش، وَحسن الْخدمَة، وَقد صلحت حَاله بِالْإِضَافَة إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أول نكبته من الضَّرْب والتضييق. فَحَدثني: أَنه رأى فِي ليلته تِلْكَ، فِي مَنَامه، كَأَن قَائِلا يَقُول لَهُ: اصبر وَرب الْبَيْت لَا يقتادها ... أحد سواك وحظك الموفور قَالَ: فصرت إِلَى أَخِيه أبي عَليّ الْحسن بن وهب، فَحَدَّثته بذلك، فسر بِهِ، وَكَانَ كالمستتر الْمُمْتَنع عَن لِقَاء السُّلْطَان، فَعمل شعرًا ضمنه الْبَيْت، وسألني إيصاله إِلَى أَخِيه أبي أَيُّوب سُلَيْمَان، فَأَخَذته، وأدخلته إِلَيْهِ، وَهُوَ: الدمع من عَيْني أَخِيك غزير ... فِي لَيْلَة ونهاره محدور بِأبي وَأمي خطوك الْمَقْصُور ... أمقيد، ومصفد، وأسير؟

وَزَادَنِي غَيره، فِي غير هَذِه الرِّوَايَة: مَاذَا بقلب أَخِيك مذ فارقته ... ليكاد من شوق إِلَيْك يطير فَكَأَنَّمَا هُوَ قرحَة مقروفة ... مِنْهَا البلابل والهموم تثور فكر يجول بهَا الضَّمِير كَأَنَّمَا ... يذكو بهَا حول الشغاف سعير وجوى دخيل لَيْسَ يعلم كنهه ... مِمَّا يلاقيه أَخ وعشير فيظنه أخدانه متسليا ... والبث فِي أحشائه مَسْتُور رَجَعَ إِلَى الرِّوَايَة الأولى: مَا كنت أحسبني أعيش ومهجتي ... تَحت الخطوب تَدور حَيْثُ تَدور قلقا فَإنَّك بالعزاء جدير ... وعَلى النوائب مُنْذُ كنت صبور عثرات مثلك فِي الزَّمَان كَثِيرَة ... ولهن بعد مثابة وحبور إِن تمس فِي حلق الْحَدِيد فحشوها ... مِنْك السماحة والندى وَالْخَيْر والفصل للشبهات رَأْيك ثاقب ... فِيهَا يضيء سداده وينير وَزَادَنِي غَيره أَيْضا: وَتحمل العبء الثقيل بثقله ... مِنْك المجرب عزمه المخبور رَجَعَ إِلَى الرِّوَايَة الأولى: فاصبر وَرب الْبَيْت لَا يقتادها ... أحد سواك وحظك الموفور

وَالله مرجو لكربتنا مَعًا ... وعَلى الَّذِي نرجوه مِنْهُ قدير قَالَ: فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام يسيرَة، حَتَّى أطلق سُلَيْمَان بن وهب، ثمَّ انْتهى بعد سِنِين إِلَى الوزارة. وَذكر هَذَا الْخَبَر مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كِتَابه: (كتاب الوزراء) ، على قريب من هَذَا؛ إِلَّا أَنه أَتَى من الشّعْر ببيتين فَقَط.

لم يقصد النهاية دار الحسن بن مخلد لأنه كان متعطلا

لم يقْصد النِّهَايَة دَار الْحسن بن مخلد لِأَنَّهُ كَانَ متعطلا حَدثنِي عَليّ بن هِشَام، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْفرج مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حَفْص الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عبيد الله بن سُلَيْمَان، قَالَ: كَانَ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مخلد، أول من رفعني، واستخلفني على ديوَان الضّيَاع، فَكنت أخلفه عَلَيْهِ، إِلَى أَن ولي شُجَاع بن الْقَاسِم الوزارة، مَعَ كتبة أوتامش، فِي أَيَّام المستعين، فَاشْتَدَّ جزع أبي مُحَمَّد مِنْهُ.

فَسَأَلته عَن سَبَب ذَلِك، فَقَالَ: هَذَا رجل حمَار، لَا يغار على صناعته، وَهُوَ مَعَ هَذَا من أَشد النَّاس حِيلَة وشرا، وَهُوَ يعرف كبر نَفسِي، وَصغر نَفسه، وَقد بَدَأَ بِأبي جَعْفَر أَحْمد بن إِسْرَائِيل، فَصَرفهُ عَن ديوَان الْخراج، ونكبه، ونفاه إِلَى أنطاكية، وَلست آمن أَن يَجْعَلنِي فِي أَثَره. قَالَ: فَمَا مضى إِلَّا أُسْبُوع، حَتَّى ظهر أَن أَبَا مُوسَى عِيسَى بن فرخان شاه القنائي الْكَاتِب قد سعى مَعَ شُجَاع فِي تقلد ديوَان الضّيَاع، ثمَّ تقلده صارفا لِلْحسنِ بن مخلد، وخلع عَلَيْهِ، فازداد جزع الْحسن، وأغلق بَابه، وَقطع الرّكُوب. فَبَيْنَمَا أَنا عِنْده فِي بعض العشيات، إِذْ أَتَت رقْعَة من شُجَاع، يستدعيه، ويؤكد عَلَيْهِ فِي البدار، فارتاع، ونهض، وَتعلق قلبِي بِهِ، فَقَعَدت أنْتَظر، إِلَى أَن عَاد، وَهُوَ مغموم مكروب. فَقلت: مَا خبرك؟ قَالَ: قد فرغ شُجَاع من التَّدْبِير عَليّ، وَذَلِكَ أَنه قد صَحَّ عِنْدِي بعد افتراقنا، أَن أوتامش قَالَ البارحة لبَعض خواصه: قد ثقلنا على شُجَاع، وحملناه مَالا يُطيق من كتبتي والوزارة، وَتَركنَا هَذَا الشَّيْخ الْحسن بن مخلد، متعطلا، وَلَا بُد أَن يفرج لَهُ شُجَاع عَن كتبتي، أَو الوزارة، لأقلده أَحدهَا، فَلَمَّا بلغ ذَلِك شجاعا، أنفذ إِلَيّ فِي الْوَقْت. فَلَمَّا لَقيته السَّاعَة، قَالَ لي: يَا أَبَا مُحَمَّد، أَنْت شَيْخي، ورئيسي، وَأَنت اصطنعتني، وَأَنا معترف بِالْحَقِّ لَك، وَآخر مَا لَك عِنْدِي من الإنعام

أَن قلدتني عمالة همذان، فانتقلت مِنْهَا إِلَى هَذِه الْمرتبَة، والأمير يحذرك الحذر كُله، وَقد أَقَامَ على أَنه لَا بُد من نكبتك وإفقارك، فللحال الَّتِي بَيْننَا، مَا أَقمت على الِامْتِنَاع عَلَيْهِ من هَذَا، وَسَأَلته فِي أَمرك، وَبعد أَن جرت خطوب، تقرر أَن لَا تجاوره، وتشخص إِلَى بَغْدَاد، ورضيته بذلك، وصرفت عَنْك النكبة، وَقد أَمرنِي بإخراجك من ساعتك، وَمَا زلت مَعَه حَتَّى استنظرته لَك ثَلَاثَة أَيَّام، أَولهَا يَوْمنَا هَذَا، فاعمل على هَذَا، وَأَنَّك تمْضِي إِلَى بلد الْأَمر وَالنَّهْي فِيهِ إِلَى أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر، وَهُوَ صديقك، ويخدمك النَّاس كلهم، وَلَا تخْدم أحدا، وتقرب من ضيعتك. فأظهرت لَهُ الشُّكْر، وضمنت لَهُ الْخُرُوج، وَأَنا خَائِف مِنْهُ أَن يدعني حَتَّى أخرج آلتي وحرمي، ثمَّ يقبض على ذَلِك كُله، وينكبني. فَقلت: الْوَجْه أَن تفرق جَمِيع مَالك وحرمك والأمتعة وَالدَّوَاب، وتودعه ثقاتك، وإخوانك، من وُجُوه قواد الأتراك وكتابهم، وتطرح الثّقل الَّذِي لَا قيمَة

لَهُ من خيش وستائر وأسرة وَآلَة المطبخ فِي الزواريق، وتجلس فِي الحراقة الْعَجَائِز اللواتي لَا تفكر فِيهِنَّ، ليظن أَنَّهُنَّ الْحرم، وتجتهد أَن يكون خُرُوجك ظَاهرا، وَلَا تكاشف بالاستتار، بل على سَبِيل توق ومراوغة، فَإِذا حصلت بِبَغْدَاد، دبرت أَمرك حِينَئِذٍ بِمَا ترى. فَقَالَ: هَذَا رَأْي صَحِيح، وَأخذ يصلح أمره على هَذَا. فَلَمَّا كَانَ فِي لَيْلَة الْيَوْم الثَّالِث، لم أنم أَكثر اللَّيْل، فكرا فِيهِ، وغما بأَمْره، ثمَّ نمت لما غلبتني عَيْني، فَرَأَيْت فِي السحر كَأَن قَائِلا يَقُول لي: لَا تغتم، فقد ركب الأتراك من أَصْحَاب وصيف وبغا، إِلَى أوتامش وكاتبه شُجَاع، وَقد هجموا عَلَيْهِمَا، وقتلوهما، وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُمَا. فانتبهت مروعا، وَوجدت الْوَقْت حِين انفجار الصُّبْح، فَصليت، وَركبت إِلَى الْحسن بن مخلد، فَدخلت إِلَيْهِ من بَاب لَهُ غامض؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد أغلق أبوابه الْمَعْرُوفَة، فَسَأَلته عَن خَبره. فَقَالَ: هَذَا آخر الْأَجَل، وَقد خفت أَن يعاجلني شُجَاع بِالْقَبْضِ عَليّ، وَقد أغلقت أبوابي، واستظهرت بغلمان يراعون رسله، فَإِن جَاءُوا وَرَأَوا أَمَارَات الشَّرّ مِنْهُم، خرجت من هَذَا الْبَاب الغامض، وَأَن يسْأَلُوا عَن شُجَاع،

فَإِن كَانَ فِي دَاره قَالُوا لمن جَاءَ يطلبني: إِنَّه فِي دَار الْأَمِير، وَإِن كَانَ فِي دَار الْأَمِير، قَالُوا للرسل: إِنَّه فِي دَار شُجَاع، مدافعة عني حَتَّى أهرب، قَالَ: فقصصت عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، فتضاحك، وَقَالَ: مَا ظننتك بِهَذِهِ الْغَفْلَة، نَحن فِي الْيَقَظَة على مَا ترى، كَيفَ يَصح لنا خبرك فِي مَنَامك؟ هَذَا إِنَّمَا نمت وَأَنت تتمنى خلاصي، فَرَأَيْت ذَلِك فِي مَنَامك. فَخرجت من عِنْده أُرِيد دَاري، فلقيني جمَاعَة فِي الطَّرِيق، فعرفوني أَن الأتراك قد ركبُوا بِالسِّلَاحِ، فعدت إِلَى منزلي، وأغلقت بَابي، ووصيت عيالي بِحِفْظ الدَّار، ثمَّ عدت، فَدخلت إِلَى الْحسن، فَأَخْبَرته بالْخبر، فَأمر بمراعاة الْأَمر. فَمَا زلنا نتعرف الْأَخْبَار، سَاعَة بساعة، إِلَى أَن جَاءَ النَّاس فعرفونا أَن الأتراك قتلوا شجاعا، ثمَّ دخل رجل، فَقَالَ: أَنا رَأَيْت السَّاعَة رَأس أوتامش، وَصَحَّ الْخَبَر بِقَتْلِهِمَا جَمِيعًا. ونهبت سامراء كلهَا، فَمَا أفلت أحد من النهب أحسن من إفلات الْحسن بن مخلد؛ لِأَن مَاله كُله كَانَ قد حصل عِنْد القواد وكتابهم، فَلم يضع مِنْهُ شَيْء، وَكَانَ متعطلا، فَلم يقْصد النهابة دَاره، وَمَا أمسينا إِلَّا فِي أتم سرُور وَفَرح؛ لِأَنَّهُ فرج عَنَّا بِمَا لم يكن فِي حسابنا.

اتخذ من رؤيا ادعى أنه رآها سببا للتخلص من حبس سيف الدولة

اتخذ من رُؤْيا ادّعى أَنه رَآهَا سَببا للتخلص من حبس سيف الدولة حَدثنِي أَبُو الْفرج المَخْزُومِي، الْمَعْرُوف بالببغاء الشَّاعِر، قَالَ: كَانَ بحلب بزاز يعرف بِأبي الْعَبَّاس بن الْمَوْصُول، اعتقله سيف الدولة، بخراج كَانَ عَلَيْهِ، مُدَّة، وَكَانَ الرجل حاذقا بالتعبير للرؤيا. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام، كنت بِحَضْرَة سيف الدولة، وَقد وصلت إِلَيْهِ رقْعَة الْبَزَّاز، يسْأَله فِيهَا حُضُور مَجْلِسه، فَأمر بإحضاره. وَقَالَ: لأي شَيْء سَأَلت الْحُضُور؟ فَقَالَ: لعلمي أَنه لَا بُد أَن يُطلقنِي الْأَمِير سيف الدولة من الاعتقال، فِي هَذَا الْيَوْم. قَالَ: وَمن أَيْن علمت ذَلِك؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْت البارحة فِي مَنَامِي، فِي آخر اللَّيْل، رجلا قد سلم إِلَيّ مشطا، وَقَالَ لي: سرح لحيتك، فَفعلت ذَلِك، فتأولت التسريح، سراحا من شدَّة واعتقال، وَلكَون الْمَنَام فِي آخر اللَّيْل، حكمت أَن تَأْوِيله يَصح

سَرِيعا، ووثقت بذلك، فَجعلت الطَّرِيق إِلَيْهِ مَسْأَلَة الْحُضُور، لأستعطف الْأَمِير. فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنت التَّأْوِيل، وَالْأَمر على مَا ذكرت، وَقد أطلقتك، وسوغتك خراجك فِي هَذِه السّنة. فَخرج الرجل يشكره وَيَدْعُو لَهُ.

خراساني يودع بدرة من المال لدى أبي حسان الزيادي فيسارع إلى إنفاقها

خراساني يودع بدرة من المَال لَدَى أبي حسان الزيَادي فيسارع إِلَى إنفاقها أَخْبرنِي القَاضِي أَبُو طَالب مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِسْحَاق بن البهلول التنوخي، فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته عَنهُ، بَعْدَمَا سمعته مِنْهُ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خلف وَكِيع القَاضِي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو سهل الرَّازِيّ القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو حسان الزيَادي القَاضِي، قَالَ: جَاءَنِي رجل من أهل خُرَاسَان، فأودعني بدرة دَرَاهِم، فأخذتها مَضْمُونَة، وَكنت مضيقا، فأسرعت فِي إنفاقها، وَكَانَ قد عزم الْمُودع على الْحَج، ثمَّ بدا لَهُ، فَعَاد يطْلبهَا فاغتممت، وَقلت لَهُ: تعود إِلَيّ من غَد.

ثمَّ فزعت إِلَى الله تَعَالَى، ودعوته، وَركبت بغلتي فِي الْغَلَس، وَأَنا لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أتوجه، وعبرت الجسر وَأخذت نَحْو المخرم، وَمَا فِي نَفسِي أحد أقصده، فاستقبلني رجل رَاكب، فَقَالَ: إِلَيْك بعثت. فَقلت: من بَعثك؟ فَقَالَ: دِينَار بن عبد الله، فَأَتَيْته، وَهُوَ جَالس. فَقَالَ لي: مَا حالك؟ قلت: وَمَا ذَاك؟ فَقَالَ: وَمَا نمت اللَّيْلَة إِلَّا أَتَانِي آتٍ، فَقَالَ: أدْرك أَبَا حسان. فَحَدَّثته بحديثي، فَدَعَا بِعشْرين ألف دِرْهَم، فَدَفعهَا إِلَيّ، فَرَجَعت، فَصليت فِي مَسْجِدي الْغَدَاة، وَجَاء الرجل، فَدفعت إِلَيْهِ مَاله، وأنفقت الْبَاقِي. وَوَقع إِلَيّ هَذَا الْخَبَر، من طَرِيق آخر، فَحَدثني طَلْحَة بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الشَّاهِد، وقرأته بِالْإِجَازَةِ عَن طَلْحَة، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الخصيبي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل نطاحة، قَالَ: حَدثنِي أَبُو سهل الرَّازِيّ القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو حسان الزيَادي القَاضِي، قَالَ: أضقت إضاقة بلغت بهَا إِلَى الْغَايَة، حَتَّى ألح عَليّ الخباز، والقصاب، والبقال، وَسَائِر المعاملين، وَلم تبْق لي حِيلَة. فَإِنِّي يَوْمًا من الْأَيَّام على تِلْكَ الْحَال، مفكرا فِي أَمْرِي، كَيفَ أعمل، وَكَيف أحتال، إِذْ دخل عَليّ غلامي، فَقَالَ: بِالْبَابِ حَاج يسْتَأْذن عَلَيْك. فَقلت: أدخلهُ.

فَدخل عَليّ رجل خراساني، فَسلم، وَقَالَ: أَنْت أَبُو حسان؟ قلت: نعم، فَمَا حَاجَتك؟ قَالَ: أَنا رجل غَرِيب، أُرِيد الْحَج، وَمَعِي جملَة مَالِي، وَهُوَ عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَقد أحضرته فِي بدرة معي أَسأَلك أَن تقبضها وتدعها قبلك، إِلَى أَن أَقْْضِي حجي، وأرجع، فَإِنِّي غَرِيب، وَمَا أعرف أحدا فِي هَذَا الْبَلَد. فَقلت: هَات البدرة. فسلمها إِلَيّ، وَخرج بعد أَن وزن مَا فِيهَا. فَلَمَّا خرج، فتحتها على الْفَوْر، وأحضرت المعاملين، فَقضيت جَمِيع ديوني، واتسعت بِالْبَاقِي، وَقلت: أضمنها فِي مَالِي إِلَى أَن يعود من الْحَج، وَإِلَى أَن يَجِيء، يَأْتِي الله بفرج من عِنْده. فَكنت فِي يومي ذَاك، فِي سَعَة، وَأَنا فَرح، لست أَشك فِي خُرُوج الْخُرَاسَانِي. فَلَمَّا أَصبَحت من الْغَد، دخل عَليّ الْغُلَام، فَقَالَ: الْخُرَاسَانِي الَّذِي أودعك البدرة، بِالْبَابِ. فَقلت: أدخلهُ. فَدخل، وَقَالَ: اعْلَم أَنِّي كنت عَازِمًا على الْحَج، ثمَّ ورد عَليّ خبر وَفَاة أبي، وَقد عزمت على الرُّجُوع إِلَى بلدي، فتفضل عَليّ بِإِعَادَة البدرة الَّتِي أَعطيتك أمس. فورد عَليّ أَمر عَظِيم، لم يرد عَليّ مثله قطّ، وتحيرت، وَلم أدر بِمَا أُجِيبهُ، ثمَّ فَكرت، فَقلت: مَاذَا أَقُول لَهُ؟ إِن جحدته قدمني إِلَى القَاضِي، واستحلفني

فَكَانَت الفضيحة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والهتك، وَإِن دافعته صَاح وهتكني. فَقلت لَهُ: نعم، عافاك الله، إِن منزلي هَذَا لَيْسَ بالحريز، وَلما أخذت مِنْك البدرة، أنفذتها إِلَى مَوضِع أحرز مِنْهُ، فتعود إِلَيّ غَدا، لأسلمها إِلَيْك. فَانْصَرف، وَبقيت متحيرا، لَا أَدْرِي مَا أعمل، وَعظم عَليّ الْأَمر جدا، فأدركني اللَّيْل، وفكرت فِي بكور الْخُرَاسَانِي، فَلم يأخذني النّوم، وَلَا قدرت على الغمض. فَقُمْت إِلَى الْغُلَام، فَقلت: أَسْرج البغلة. فَقَالَ: يَا مولَايَ، هَذَا أول اللَّيْل، إِلَى أَيْن تمْضِي؟ فَرَجَعت إِلَى فِرَاشِي، فَإِذا النّوم مُمْتَنع عَليّ، فَلم أزل أقوم إِلَى الْغُلَام، وَهُوَ يردني، حَتَّى فعلت ذَلِك مَرَّات، وَأَنا لَا يأخذني الْقَرار. وطلع الْفجْر، فأسرج الْغُلَام البغلة، فركبت، وَأَنا لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أتوجه، فطرحت عنان البغلة، وَأَقْبَلت أفكر وَهِي تسير، حَتَّى بلغت الجسر فعدلت بِي إِلَيْهِ، فتركتها فعبرت. ثمَّ قلت: إِلَى أَيْن أعبر، إِلَى أَيْن أتوجه؟ وَلَكِن إِن رجعت، رَأَيْت الْخُرَاسَانِي على بَابي، وَلَكِن أدعها تمْضِي حَيْثُ شَاءَت، فمضت البغلة، فَلَمَّا عبرت البغلة الجسر، أخذت بِي يمنة، نَاحيَة دَار الْمَأْمُون، وتركتها،

وَمَرَّتْ، فَلم أزل كَذَلِك إِلَى أَن قربت من درا الْمَأْمُون، وَالدُّنْيَا بعد مظْلمَة. فَإِذا فَارس قد تَلقانِي، فَنظر فِي وَجْهي، ثمَّ سَار وَتَرَكَنِي، ثمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: أَلَسْت أَبَا حسان الزيَادي؟ فَقلت: بلَى. قَالَ: إِلَيْك بعثت. فَقلت: مَا تُرِيدُ، رَحِمك الله، وَمن بعث بك؟ فَقَالَ: الْأَمِير الْحسن بن سهل. فَقلت: وَمَا يُرِيد مني الْحسن بن سهل؟ ثمَّ قلت: امْضِ بِنَا، فَمضى حَتَّى اسْتَأْذن على الْحسن بن سهل، فَدخلت إِلَيْهِ.

فَقَالَ: يَا أَبَا حسان، مَا خبرك، وَكَيف حالك، وَلم انْقَطَعت عَنَّا؟ فَقلت: لأسباب، وَذَهَبت لأعتذر عَن التَّخَلُّف. فَقَالَ: دع هَذَا عَنْك، أَنْت فِي لوثة، وَفِي أَمر مَا هُوَ، فَإِنِّي رَأَيْتُك فِي النّوم، فِي تَخْلِيط كثير. فشرحت لَهُ قصتي، من أَولهَا إِلَى أَن لَقِيَنِي صَاحبه، وَدخلت عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَا يغمك الله يَا أَبَا حسان، هَذِه بدرة للخراساني، مَكَان بدرته، وَهَذِه بدرة أُخْرَى تتسع بهَا، فَإِذا نفدت أعلمنَا. فَرَجَعت من سَاعَتِي، فَدفعت للخراساني بدرته، واتسعت بِالْبَاقِي، وَفرج الله عني، فَلهُ الْحَمد. وحَدثني بِهَذَا الحَدِيث أَيْضا، أَبُو الْفرج مُحَمَّد بن جَعْفَر، من ولد صَالح صَاحب الْمصلى، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي حسان الزيَادي، وَكَانَ مُحدثا بِبَغْدَاد، ثِقَة، مَشْهُورا، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، قَالَ: كنت وليت الْقَضَاء من قبل أبي يُوسُف القَاضِي رَحمَه الله، ثمَّ صرفت، وتعطلت، وأضقت إضاقة شَدِيدَة، وركبني دين فادح، لخباز، وبقال، وقصاب، وعطار، وبزاز، وَغَيرهم، حَتَّى قطعُوا معاملتي لِكَثْرَة مَالهم عَليّ، وإياسهم من أَن أقضيهم، فتضاعفت إضاقتي، واشتدت حيرتي. فَإِنِّي يَوْمًا بمسجدي، قد صليت بأَهْله الْغَدَاة، ثمَّ انفتلت أدرس أَصْحَابِي الْفِقْه إِذْ جَاءَنِي رجل خراساني، وَذكر الحَدِيث على نَحْو مَا ذكره

طَلْحَة إِلَّا أَنه لم يقل فِيهِ جملَة: فَإلَى. . . .، وَقَالَ أَبُو الْفرج فِي حَدِيثه: فَلَمَّا بلغت مربعة الخرسي، استقبلني موكب فِيهِ شموع ونفاطات، قد أَضَاء مِنْهُ الطَّرِيق، فَصَارَ كالنهار، فطلبت زقاقا أستخفي فِيهِ، حَتَّى يجوز الموكب، فَلم أجد، فَإِذا بِرَجُل من الموكب، يَقُول: أَبُو حسان وَالله، فتأملته، فَإِذا هُوَ دِينَار بن عبد الله، فَسلمت عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِلَيْك جِئْت، أرسل إِلَيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّاعَة، وَأَمرَنِي أَن أركب إِلَيْك بنفسي، وأحضره إياك. فمضيت مَعَه، حَتَّى أدخلني على الْمَأْمُون. فَقَالَ لي الْمَأْمُون: مَا قصتك؟ فَإِنِّي رَأَيْتُك فِي النّوم البارحة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْمُرنِي بإغاثتك. فَحَدَّثته بحديثي. فَقَالَ الْمَأْمُون: أعْطوا أَبَا حسان ثَلَاث بدر، وولاني الرّيّ، وَأَمرَنِي بِالْخرُوجِ إِلَيْهَا. قَالَ: فعدت إِلَى بَيْتِي وَمَا طلع الْفجْر، فَلَمَّا كَانَ وَقت صَلَاتي فِي مَسْجِدي، خرجت، وَإِذا بالخراساني، فَلَمَّا قضيت الصَّلَاة، أدخلته إِلَى الْبَيْت، فأخرجت إِلَيْهِ الْبَدْر.

فَلَمَّا رَآهَا، قَالَ: مَا هَذَا؟ فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، وأعطيته بدرة مِنْهَا، فَأَخذهَا وَانْصَرف. وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كتاب (الوزراء) ، فِي أَخْبَار دِينَار بن عبد الله: أَن رَسُوله لَقِي أَبَا حسان فِي الطَّرِيق، فَقَالَ لَهُ: قسمت شَيْئا على عيالنا، فَذكرت عِيَالك، فأنفذت إِلَيْك عشرَة آلَاف دِرْهَم، فَأَخذهَا، وَرجع من الطَّرِيق، وباكره الْخُرَاسَانِي فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا كلهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد أنْفق جَمِيع مَال الْخُرَاسَانِي، ثمَّ عَاد من غَد إِلَى دِينَار، فَعرفهُ وشكره وعرفه الحَدِيث. فَقَالَ: فَكَأَنَّمَا قضينا الْخُرَاسَانِي فِي مَاله، ثمَّ أَمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم أُخْرَى، وَلم يذكر ابْن عَبدُوس فِي خَبره ذكر الْمَنَام. وحَدثني أبي هَذَا الحَدِيث فِي المذاكرة، قَالَ: حَدثنِي شيخ، ذكره أبي وأنسيته أَنا، عَن أبي حسان الزيَادي، بِنَحْوِ مَا ذكره مُحَمَّد بن جَعْفَر فِي حَدِيثه، إِلَّا أَنه قَالَ فِيهِ: إِن الْخُرَاسَانِي قَالَ فِي حَدِيثه لأبي حسان: إِن رَجَعَ الْحجَّاج وَلم ترني قد رجعت إِلَيْك، فَاعْلَم أَنِّي هَلَكت، والبدرة هبة مني إِلَيْك، وَإِن رجعت فَهِيَ لي، ثمَّ يتقارب لفظ الْحَدِيثين، إِلَى أَن لقِيه فِي الْجَانِب الشَّرْقِي قوم فَلَمَّا رَآهُمْ تنحى عَن طريقهم، فَلَمَّا رَأَوْهُ بطيلسان بَادرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا لَهُ: أتعرف منزل رجل يُقَال لَهُ: أَبُو حسان الزيَادي؟ فَقَالَ: أَنا هُوَ فَقَالُوا لَهُ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَحمل، فَأدْخل إِلَى الْمَأْمُون. فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟

فَقَالَ: رجل من أَصْحَاب أبي يُوسُف القَاضِي من الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب الحَدِيث. قَالَ: بِأَيّ شَيْء تكنى؟ فَقَالَ: بِأبي حسان. فَقَالَ: بِمَاذَا تعرف؟ فَقَالَ: بالزيادي، وَلست مِنْهُم، وَإِنَّمَا نزلت فيهم، فنسبت إِلَيْهِم. فَقَالَ: قصتك، فشرحت لَهُ قصتي. فَبكى بكاء شَدِيدا، وَقَالَ: وَيحك، مَا تركني رَسُول الله أَن أَنَام بسببك، أَتَانِي فِي أول اللَّيْل فَقَالَ: أغث أَبَا حسان الزيَادي، فانتبهت وَلم أعرفك، واعتمدت السُّؤَال عَنْك، وَأثبت اسْمك ونسبك ونمت، فَأَتَانِي، فَقَالَ كمقالته، فانتبهت منزعجا، ثمَّ نمت، فَأَتَانِي، وَقَالَ: وَيحك، أغث أَبَا حسان، فَمَا تجاسرت على النّوم، وَأَنا ساهر، وَقد بثثت فِي طَلَبك، ثمَّ أَعْطَانِي عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَقَالَ: هَذِه للخراساني، ثمَّ أَعْطَانِي عشرَة آلَاف دِرْهَم أُخْرَى، وَقَالَ: اتَّسع بِهَذِهِ، وَأصْلح أَمرك، وَعمر دَارك، واشتر مركوبا سريا، وثيابا حَسَنَة، وعبدا يمشي بَين يَدي دابتك، ثمَّ أَعْطَانِي ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، وَقَالَ: جهز بهَا بناتك، وزوجهن، فَإِذا كَانَ يَوْم الموكب، فصر إِلَيّ، حَتَّى أقلدك عملا جَلِيلًا، وَأحسن إِلَيْك. فَخرجت وَالْمَال بَين يَدي مَحْمُول، حَتَّى أتيت مَسْجِدي، فَصليت الْغَدَاة، والتفت فَإِذا الْخُرَاسَانِي بِالْبَابِ، فأدخلته إِلَى الْبَيْت، وأخرجت بدرة فدفعتها إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَيْسَ هَذِه بدرتي، أُرِيد مَالِي بِعَيْنِه. فقصصت عَلَيْهِ قصتي، فَبكى، وَقَالَ: وَالله لَو صدقني فِي أول الْأَمر عَن خبرك لما طالبتك، وَأما الْآن، فوَاللَّه لَا دخل مَالِي شَيْء من مَال هَؤُلَاءِ، وَأَنت فِي حل، وَانْصَرف.

فأصلحت أَمْرِي، وبكرت يَوْم الموكب إِلَى بَاب الْمَأْمُون، فَدخلت، وَهُوَ جَالس جُلُوسًا عَاما. فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ استدناني، ثمَّ أخرج عهدا من تَحت مُصَلَّاهُ، وَقَالَ: هَذَا عَهْدك على قَضَاء الْمَدِينَة الشرقية من الْجَانِب الغربي من مَدِينَة السَّلَام، وَقد أجريت عَلَيْك فِي كل شهر كَذَا وَكَذَا، فَاتق الله تدم عَلَيْك عناية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَعجب النَّاس من كَلَام الْمَأْمُون وسألوني عَن مَعْنَاهُ، فَأَخْبَرتهمْ الْخَبَر، فانتشر. فَمَا زَالَ أَبُو حسان قَاضِي الشرقية، إِلَى آخر أَيَّام الْمَأْمُون.

حبسه المهدي وأطلقه الرشيد

حَبسه الْمهْدي وَأطْلقهُ الرشيد أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، قَالَ: حَدثنِي بشر بن مُوسَى الْأَسدي، قَالَ: أَخْبرنِي بعض الهاشميين، قَالَ: حبس الْمهْدي يَعْقُوب بن دَاوُد وزيره، فطال حَبسه، فَرَأى فِي مَنَامه، كَأَن قَائِلا يَقُول لَهُ: قل: يَا رَفِيق، يَا شفيق، أَنْت رَبِّي الْحقيق، ادْفَعْ عني الضّيق، إِنَّك على كل شَيْء قدير. قَالَ: فقلتها، فَمَا شَعرت إِلَّا بالأبواب تفتح، ثمَّ أدخلت على الرشيد، فَقَالَ: أَتَانِي الَّذِي أَتَاك، فاحمد الله عز وَجل. وخلى سبيلي. وَقد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر، على خلاف هَذَا، فحدثنا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي خَالِد بن يزِيد الْأَزْدِيّ. وَأَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو بكر

مُحَمَّد بن مُحَمَّد السَّرخسِيّ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عبد الله الْمقدمِي القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد المعي، قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن يزِيد، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يَعْقُوب بن دَاوُد، قَالَ: قَالَ لي أبي: حَبَسَنِي الْمهْدي فِي بِئْر بنيت عَلَيْهَا قبَّة، فَكنت فِيهَا خمس عشرَة سنة، حَتَّى مضى صدر من خلَافَة الرشيد، وَكَانَ يدلى لي فِي كل يَوْم رغيف وكوز مَاء، وأؤذن بأوقات الصَّلَاة، فَلَمَّا كَانَ رَأس ثَلَاث عشرَة سنة، أَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، فَقَالَ: حنا على يُوسُف رب فَأخْرجهُ ... من قَعْر جب وبئر حولهَا غمم فحمدت الله تَعَالَى، وَقلت: أَتَانِي الْفرج، ثمَّ مكثت حولا لَا أرى شَيْئا، فَلَمَّا كَانَ رَأس الْحول، أَتَانِي ذَلِك الْآتِي، فَقَالَ: عَسى فرج يَأْتِي بِهِ الله إِنَّه ... لَهُ كل يَوْم فِي خليقته أَمر ثمَّ أَقمت حولا لَا أرى شَيْئا، ثمَّ أَتَانِي ذَلِك الْآتِي، بعد الْحول، فَقَالَ: عَسى الكرب الَّذِي أمسيت فِيهِ ... يكون وَرَاءه فرج قريب فَيَأْمَن خَائِف ويفك عان ... وَيَأْتِي أَهله النائي الْغَرِيب

فَلَمَّا أَصبَحت، نوديت، فَظَنَنْت أَنِّي أؤذن بِالصَّلَاةِ، فدلي إِلَيّ حَبل، وَقيل لي: شدّ بِهِ وسطك، فَفعلت، فأخرجوني، فَلَمَّا تَأَمَّلت الضَّوْء، غشي بَصرِي، فَأخذ من شعري، وألبست ثيابًا، وأدخلت إِلَى مجْلِس، فَقيل لي: سلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَقَالَ: لست بِهِ. فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْهَادِي، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَقَالَ: لست بِهِ. فَقلت: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد، وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَقَالَ: وَعَلَيْك السَّلَام، يَا يَعْقُوب بن دَاوُد، وَالله مَا شفع أحد فِيك إِلَيّ، غير أَنِّي حملت اللَّيْلَة صبية لي على عنقِي، فَذكرت حملك إيَّايَ على عُنُقك، فرثيت لَك من الْمحل الَّذِي كنت فِيهِ، فأخرجتك، ثمَّ أكرمني، وَقرب مجلسي. ثمَّ إِن يحيى بن خَالِد تنكر لي، كَأَنَّهُ خَافَ أَن أغلب على الرشيد دونه، فخفته، فاستأذنت فِي الْحَج، فَأذن لي. فَلم يزل مُقيما بِمَكَّة، حَتَّى مَاتَ بهَا.

حَدثنِي أبي فِي المذاكرة بِإِسْنَاد لَهُ، وَكَانَ فِي الْخَبَر: أَن الْمهْدي حَبسه قي بِئْر، ووكل أمره إِلَى خَادِم لَهُ، واستحلفه أَن لَا يخبر بِخَبَرِهِ أحدا من الْخلق كلهم، فَكَانَ الْخَادِم الْمُوكل بِهِ، ينزل إِلَيْهِ فِي كل يَوْم رغيفين، ودورق مَاء، مِنْهُ شربه وَطهُوره، وَفِي الْبِئْر مَوضِع يتَطَهَّر فِيهِ، فَكَانَ كَذَلِك خمس عشرَة سنة. فَلَمَّا كَانَ بعد خمس عشرَة سنة 115 م سَأَلَ عَنهُ الرشيد، فَقيل لَهُ: سلم إِلَى فلَان الْخَادِم، وَذكر أَنه مَاتَ. فأحضر الْخَادِم، وَسَأَلَهُ عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّه مَاتَ. فاستثبته، فَرَأى كلَاما مُخْتَلفا، فجد بِهِ، فَقَالَ: لَا أعرف غير مَوته، فهدده، فَأَقَامَ على الْإِنْكَار، إِلَى أَن استحضر الرشيد المقارع. فاقل: أَنا أصدق، استحلفني أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي، أَلا أخبر بِخَبَرِهِ أحدا من الْخلق أبدا. فأكرهه الرشيد، فَدلَّ على الْبِئْر الَّتِي هُوَ فِيهَا، ثمَّ تتفق الرِّوَايَات. قَالَ: فَلَمَّا وقف بَين يَدي الرشيد، وَسلم، قَالَ لَهُ الرشيد، مخفيا كَلَامه، من أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: الْمهْدي. قَالَ: قد مضى لحَال سَبيله، فَسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَسلم. فَقَالَ: قُولُوا لَهُ من أَمِير الْمُؤمنِينَ؟

قَالَ: الْهَادِي. قَالَ: قد مضى لحَال سَبيله، فَسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَسلم. فَقَالَ: قُولُوا لَهُ، من أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: هَارُون، ثمَّ تتفق الرِّوَايَتَانِ. وَرُوِيَ لي هَذَا الْخَبَر على وَجه آخر، وَهُوَ أَضْعَف عِنْدِي، غير أَنِّي أجيء بِهِ كَمَا بَلغنِي، فَحدثت بروايات مُخْتَلفَة، قَالُوا: حدث عبد الله بن أَيُّوب، قَالَ: رَأَيْت يَعْقُوب بن دَاوُد فِي الطوف، فَقلت لَهُ: كَيفَ كَانَ سَبَب خُرُوجك؟ قَالَ: كنت فِي المطبق حَتَّى خفت على بَصرِي، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، فَقَالَ لي: يَا يَعْقُوب كَيفَ ترى مَكَانك؟ فَقلت: وَمَا سؤالك؟ أما ترى مَا أَنا فِيهِ، أَلَيْسَ يَكْفِيك هَذَا؟ فَقَالَ: أَسْبغ الْوضُوء، وصل أَربع رَكْعَات، وَقل: يَا محسن، يَا مُجمل، يَا منعم، يَا مفضل، يَا ذَا الْفضل وَالنعَم، يَا عَظِيم، يَا ذَا الْعَرْش الْعَظِيم، اجْعَل لي مِمَّا أَنا فِيهِ فرجا ومخرجا. فانتبهت، وَقلت فِي نَفسِي: هَذَا فِي النّوم، وَرجعت إِلَى نَفسِي، فَحفِظت الدُّعَاء، وَقمت، فَتَوَضَّأت، وَصليت، ودعوت بِهِ، فَلَمَّا أَسْفر الصُّبْح، جَاءُونِي، فأخرجوني. فَقلت: مَا دَعَاني إِلَّا ليقتلني. فَلَمَّا رَآنِي، أَوْمَأ إِلَيْهِم، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْحمام، فنظفوه، وأتوني بِهِ، فطابت نَفسِي، وسجدت شكرا لله تَعَالَى، فأطلت السُّجُود. فَقَالُوا لي: قُم.

فَقَالَ لَهُم الرشيد: دَعوه مَا دَامَ سَاجِدا، ثمَّ رفعت رَأْسِي، ثمَّ مُضِيّ بِي إِلَى الْحمام. فَلَمَّا خرجت خلع عَليّ، ثمَّ ضرب بِيَدِهِ على ظَهْري، وَقَالَ لي: يَا يَعْقُوب، لَا يمنن عَلَيْك أحد بمنة، فَمَا زلت مُنْذُ اللَّيْلَة قلقا بِأَمْرك.

المهدي يطلق علويا من حبسه لمنام رآه

الْمهْدي يُطلق علويا من حَبسه لمنام رَآهُ وجدت فِي بعض الْكتب: أَن الْمهْدي استحضر صَاحب شرطته لَيْلًا، وَقد انتبه من نَومه فَزعًا، فَقَالَ لَهُ: ضع يدك على رَأْسِي، واحلف بِمَا أستحلفك بِهِ. قَالَ: فَقلت: يَدي تقصر عَن رَأس أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِن عَليّ وَعلي، وَحلفت بأيمان الْبيعَة أَنِّي أمتثل مَا تَأمر بِهِ. فَقَالَ: صر إِلَى المطبق، واطلب فلَانا الْعلوِي الْحُسَيْنِي، فَإِذا وجدته فَأخْرجهُ وخيره بَين الْإِقَامَة عندنَا مُطلقًا مكرما محبورا، وَبَين الْخُرُوج إِلَى أَهله، فَإِن اخْتَار الْخُرُوج قدت إِلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، وأعطيته كَذَا وَكَذَا، وَإِن اخْتَار الْمقَام أَعْطيته كَذَا وَكَذَا، وَهَذِه توقيعات بذلك. فأخذتها وصرت إِلَى من أزاح علتي فِي الْجَمِيع، وَجئْت إِلَى المطبق، فطلبت الْفَتى، فَأخْرج إِلَيّ وَهُوَ كالشن الْبَالِي، فعرفته أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَعرضت عَلَيْهِ الْحَالين، فَاخْتَارَ الْخُرُوج إِلَى أَهله بِالْمَدِينَةِ، فَسلمت إِلَيْهِ الصِّلَة والحملان. فَلَمَّا جَاءَ ليركب ويمضي، قلت: بِالَّذِي فرج عَنْك، هَل تعلم مَا دَعَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى إطلاقك؟ قَالَ: إِنِّي وَالله، كنت اللَّيْلَة نَائِما، فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَنَامِي، وَقد أيقظني، وَقَالَ: يَا بني ظلموك؟ قلت: نعم، يَا رَسُول الله. قَالَ: قُم، فصل رَكْعَتَيْنِ، وَقل بعد الْفَرَاغ، يَا سَابق الْفَوْت، وَيَا سامع الصَّوْت، وَيَا ناشز الْعِظَام بعد الْمَوْت، صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد، وَاجعَل لي من أَمْرِي فرجا ومخرجا، إِنَّك تعلم وَلَا أعلم، وتقدر وَلَا أقدر، وَأَنت علام الغيوب، يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ.

قَالَ: فَقُمْت، وَصليت، وَجعلت أكرر الْكَلِمَات، حَتَّى دعوتني. قَالَ: فحمدت الله على توفيقي لمسألته، وعدت إِلَى الْمهْدي، فَحَدَّثته بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ: صدق وَالله، لقد أَتَانِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، فَأمرنِي بِإِطْلَاقِهِ. وَفِي خبر آخر: لقد أَتَانِي زنجي فِي فِرَاشِي، بعمود حَدِيد، فَقَالَ لي: أطلق فلَانا الْعلوِي الْحُسَيْنِي وَإِلَّا قتلتك، فانتبهت فَزعًا، فَمَا جسرت على النّوم، حَتَّى جئتني، فَأمرت بِإِطْلَاقِهِ.

المعتمد يطلق بريئين من حبسه لمنام رآه

الْمُعْتَمد يُطلق بريئين من حَبسه لمنام رَآهُ حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي، فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته عَنهُ، بَعْدَمَا سمعته مِنْهُ، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن يزِيد المهلبي، قَالَ: كُنَّا لَيْلَة بَين يَدي الْمُعْتَمد على الله، فَحمل عَلَيْهِ النَّبِيذ 117 م، فَجعل يخْفق بِرَأْسِهِ نعاسا. فَقَالَ: لَا يبرحن أحد، ثمَّ نَام مِقْدَار نصف سَاعَة، وانتبه، وَكَأَنَّهُ مَا شرب شَيْئا. فَقَالَ: أحضروا لي من الْحَبْس رجلا يعرف بمنصور الْجمال، فأحضر. فَقَالَ لَهُ: مُنْذُ كم أَنْت مَحْبُوس؟ فَقَالَ: مُنْذُ ثَلَاث سِنِين. قَالَ: فأصدقني عَن خبرك؟ قَالَ: أَنا رجل من أهل الْموصل، كَانَ لي جمل أعمل عَلَيْهِ وأعود بكرائه على عيلتي، فَضَاقَ الْكسْب عَليّ بالموصل، فَقلت: أخرج إِلَى سر من رأى فَإِن الْعَمَل ثمَّ أَكثر، فَخرجت.

فَلَمَّا قربت مِنْهَا، إِذا جمَاعَة من الْجند قد ظفروا بِقوم يقطعون الطَّرِيق، وَكتب صَاحب الْبَرِيد بعددهم، وَكَانُوا عشرَة، فَأَعْطَاهُمْ وَاحِد من الْعشْرَة مَالا على أَن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مَكَانَهُ، وَأخذُوا جملي، فسألتهم بِاللَّه عز وَجل، وعرفتهم خبري، فَأَبَوا، ثمَّ حبسوني، فَمَاتَ بعض الْقَوْم، وَأطلق بَعضهم، وَبقيت وحدي. فَقَالَ الْمُعْتَمد: أحضروني خمس مائَة دِينَار، فجاءوه بهَا. فَقَالَ: ادفعوها إِلَيْهِ، وأجرى عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ دِينَارا فِي كل شهر، وَقَالَ: اجعلوا أَمر جمالنا إِلَيْهِ. ثمَّ أقبل علينا، فَقَالَ: رَأَيْت السَّاعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي النّوم، فَقَالَ: يَا أَحْمد، وَجه السَّاعَة إِلَى الْحَبْس، وَأخرج منصورا الْجمال، فَإِنَّهُ مظلوم، وَأحسن إِلَيْهِ، فَفعلت مَا رَأَيْتُمْ. قَالَ: ثمَّ نَام من وقته، وانصرفنا. وَوَقع إِلَيّ هَذَا الْخَبَر، بطرِيق آخر، بأتم من هَذِه الرِّوَايَة، فَحَدثني أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد الصلحي، الَّذِي كَانَ كَاتب أبي بكر بن رائق، ثمَّ كتب لسيف الدولة، ثمَّ كَانَ آخر تصرف تصرفه، أَن كتب للمطيع لله، رَحمَه الله، على ضيَاع الْخدمَة، وخاص أمره، فِي وزارة أبي مُحَمَّد المهلبي لمعز الدولة، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ الأوارجي الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد

عبد الله بن حمدون النديم، قَالَ: كَانَ الْمُعْتَمد مَعَ سماحة أخلاقه، وَكَثْرَة جوده وسخائه، شَدِيد العربدة على ندمائه إِذا سكر، لَا يكَاد يسلم لَهُ من العربدة مجْلِس إِلَّا فِي الْأَقَل، فاشتهى يَوْمًا أَن يصطبح على أترج، فَاتخذ لَهُ مِنْهُ شَيْء كثير، مفرط الْعدَد، وعبي، وحزم بعضه، فاصطبح عَلَيْهِ، وَلم يدع شَيْئا من الْخلْع والصلات والحملان، إِلَّا وَعَمله مَعَ ندمائه فِي ذَلِك الْيَوْم، وخصني مِنْهُ بالكثير، وَكَانَ كثير الشّرْب، وَكَانَت علامته إِذا أَرَادَ أَن ينْهض جُلَسَاؤُهُ، أَن يلْتَفت إِلَى سَرِير لطيف، كَانَ إِذا جلس يسْتَند إِلَيْهِ، ويشيل رجلَيْهِ، كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يصعد، فَيقوم جُلَسَاؤُهُ، فَإِذا كَانَ يُرِيد النّوم صعده، فَنَامَ،

وَإِن لم يرد النّوم، رد رجله إِذا قمنا، وَأتم شربه مَعَ بعض خدمه، أَو حرمه. فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم، جلسنا بِحَضْرَتِهِ نهارنا أجمع، وَقطعَة من اللَّيْل، ثمَّ رد رجله إِلَى السرير فِي أول اللَّيْل، فقمنا، وَانْصَرف الجلساء إِلَى حجرَة مرسومة بهم، وانصرفت إِلَى حجرَة مرسومة بِي من بَينهم. فَلَمَّا انتصف اللَّيْل، إِذا بالخدم يدقون بَاب حُجْرَتي، فانتبهت مَرْعُوبًا، فَقَالُوا: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقُمْت، وَقلت: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، مضى يَوْمنَا وَبَعض ليلتنا، أحسن مُضِيّ، وقدرت أَنِّي أفلت من عربدته، فقد عَن لَهُ أَن يعربد عَليّ، فاستدعاني فِي هَذَا الْوَقْت. فَأَتَيْته وَأَنا فِي نِهَايَة الْجزع، أفكر كَيفَ أشاغله عَن العربدة، إِلَى أَن صرت بِحَضْرَتِهِ.

فَلَمَّا رَآنِي قَائِما لم يستجلسني، وَقَالَ لِخَادِمِهِ: عَليّ بِصَاحِب الشرطة السَّاعَة. فمت جزعا، وَقلت فِي نَفسِي وَأَنا وَاقِف بَين يَدَيْهِ: لم تجر عَادَته فِي العربدة باستدعاء صَاحب الشرطة، وَمَا هَذَا إِلَّا لبلية قد احتيل بهَا عَليّ عِنْده. فَأَقْبَلت أنظر إِلَيْهِ طَمَعا أَن يفاتحني بِكَلِمَة، فأداريه فِي الْجَواب، وَهُوَ لَا يرفع رَأسه عَن الأَرْض، إِلَى أَن جَاءَ صَاحب الشرطة، فَرفع رَأسه إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: فِي حَبسك رجل يعرف بفلان بن فلَان الْجمال؟ وَفِي رِوَايَة: يعرف بمنصور الْجمال؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أحضرنيه السَّاعَة. فَمضى ليحضره، فسهل عَليّ الْأَمر قَلِيلا، ووقفت، وَهُوَ لَا يخاطبني بِشَيْء، إِلَى أَن أحضر الرجل. فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَمد: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا مَنْصُور بن فلَان الْجمال. قَالَ: وَمَا قصتك؟ قَالَ: أَنا مظلوم، حبست مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سنة، وَأَنا رجل من أهل الْجبَال، كَانَ لي جمال أعيش من فضل أجرتهَا. وَكَانَ يتقلد بلدنا فلَان الْعَامِل، فاستدعي إِلَى الحضرة، فَأخذ جمالي غصبا يَسْتَعِين بهَا فِي حمل مَتَاعه. فتظلمت إِلَيْهِ وَصحت، فَلم يَنْفَعنِي ذَلِك، وَقَالَ: إِذا صرت بالحضرة رَددتهَا عَلَيْك.

فَخرجت مَعَه لِئَلَّا تذْهب الْجمال أصلا، فَكنت مَعَ جمالي أخدمها فِي الطَّرِيق. فَلَمَّا قربنا من حلوان سل الأكراد مِنْهَا جملا محملًا، فَبَلغهُ الْخَبَر، فأحضرني، وَقَالَ: أَنْت سرقت الْجمل بِمَا عَلَيْهِ، فَقلت: غلمانك يعلمُونَ أَن الأكراد سلوه. فَقَالَ: الأكراد إِنَّمَا جَاءُوا بمواطأة مِنْك، ثمَّ أَمر بضربي، وتقييدي، وطرحي على بعض جمالي. فَلَمَّا وردنا الحضرة أنفذت إِلَى الْحَبْس، وَأخذ الْجمال، وَلم يكن لي متظلم، وَلَا مُذَكّر وَلَا مُتَكَلم، فطال حبسي، وطالت بِي المحنة إِلَى الْآن. فَقَالَ لبَعض الخدم: امْضِ السَّاعَة إِلَى فلَان الْعَامِل، واقعد على دماغه، وَلَا تَبْرَح، أَو يرد عَلَيْهِ جماله أَو قيمتهَا على مَا يُرِيد، فَإِذا قبض ذَلِك، فاحمله إِلَى الخزانة، واكسه كسْوَة حَسَنَة، وادفع إِلَيْهِ كَذَا وَكَذَا دِينَارا، واصرفه مصاحبا. ثمَّ قَالَ لصَاحب الشرطة: فِي حَبسك رجل يعرف بفلان بن فلَان الْحداد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أحضرنيه السَّاعَة، فَأحْضرهُ. فَقَالَ لَهُ: مَا قصتك؟ قَالَ: أَنا رجل حبست بظُلْم، أَنا رجل من أهل الشَّام، وَكَانَت لي نعْمَة فَزَالَتْ، فهربت من بلدي واتصلت محنتي إِلَى أَن وافيت الحضرة طلبا للتَّصَرُّف، فَتعذر عَليّ حَتَّى كدت أتلف جوعا. فسالت عَن عمل أعمله لَيْلًا لأتوفر نَهَارا على طلب التَّصَرُّف، وَأنْفق فِي النَّهَار مَا أكسبه لَيْلًا، فأرشدت إِلَى حداد يعْمل لَيْلًا، فقصدته، فاستأجرني

بدرهم فِي كل لَيْلَة، وَكنت أعمل مَعَه، وَكَانَ مَعَه غُلَام آخر يضْرب بالمطرقة، فأفسد ذَلِك الْغُلَام على الْحداد نعلا كَانَ يضْربهَا، فاغتاظ عَلَيْهِ، ورماه بالنعل الْحَدِيد على قلته، فَتلف للْوَقْت، فهرب الْحداد، وَبقيت أَنا فِي الْموضع متحيرا لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أمضي، وأحس الحارس فِي الْحَال بِمَا رابه فِي الدّكان، فهجم عَليّ فوجدني قَائِما، والغلام مَيتا فَلم يشك أَنِّي الْقَاتِل، فَقبض عَليّ ورفعني، فحبست إِلَى الْآن، فَقَالَ لصَاحب الشرطة: خل عَنهُ. وَقَالَ لخادم آخر: خُذْهُ فَغير حَاله، وادفع إِلَيْهِ خمس مائَة دِينَار، ودعه ينْصَرف مصاحبا. ثمَّ رفع رَأسه إِلَيّ، وَقَالَ: يَابْنَ حمدون، الْحَمد الله الَّذِي وفقني لهَذَا الْفِعْل، فَفرج عني، فَقلت: كَيفَ تكلّف أَمِير الْمُؤمنِينَ النّظر فِي هَذَا بِنَفسِهِ، فِي مثل هَذَا الْوَقْت؟ فَقَالَ: وَيحك إِنِّي رَأَيْت فِي مَنَامِي رجلا يَقُول لي: فِي حَبسك رجلَانِ مظلومان، يُقَال لأَحَدهمَا: مَنْصُور الْجمال، وَالْآخر: فلَان بن فلَان الْحداد، فأطلقهما السَّاعَة وَأحسن إِلَيْهِمَا وأنصفهما، فانتبهت مذعورا، ثمَّ نمت. فَمَا استثقلت حَتَّى رَأَيْت الشَّخْص بِعَيْنِه، يَقُول لي: وَيلك آمُرك أَن تطلق رجلَيْنِ مظلومين فِي حَبسك، قد طَال مكثهما، وَأَن تنصفهما وتحسن إِلَيْهِمَا، فَلَا تفعل، وَترجع تنام؟ لقد هَمَمْت أَن أوجعك، فكاد يمد يَده إِلَيّ. فَقلت لَهُ: يَا هَذَا من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد رَسُول الله، فَكَأَنِّي قبلت يَده، وَقلت: يَا رَسُول الله، مَا عرفتك، وَلَو عرفتك مَا تجاسرت على تَأْخِير أَمرك.

قَالَ: قُم، فاعمل فِي أَمرهمَا السَّاعَة، بِمَا أَمرتك بِهِ، فانتبهت مذعورا، فاستدعيتك لتشاهد مَا يجْرِي. فَقلت: هَذِه عناية من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأمير الْمُؤمنِينَ، واهتمام بِمَا يصلح دينه، وَيثبت ملكه، ومنة عَظِيمَة عَلَيْهِ، لله عز وَجل وَلِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ: امْضِ فقد أزعجناك، فعدت إِلَى حُجْرَتي. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد عشيا، دخلت إِلَيْهِ وَهُوَ جَالس للشُّرْب على الرَّسْم فَأَحْبَبْت أَن أعرف الجلساء مَا جرى البارحة، ليسر هُوَ بذلك، وَكنت أعرف من طبعه أَنه يحب الإطراء والمدح، وَنشر مَا هَذَا سَبيله، فَإِنَّهُ إِذا عمل جميلا أَكثر من ذكره، وتبجح بِهِ، وَإِن كَانَ صَغِيرا. فَقلت لَهُ: إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يخبر خدمه، بِمَا كَانَ من المعجزة البارحة، وعناية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخلافته. فَقَالَ: وَمَا ذَاك؟ فَقلت: إحضاري البارحة، وإحضار صَاحب الشرطة، وَالْجمال، والحداد، ورؤياه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا أمره بِهِ فيهمَا، وَمَا تقدم بِهِ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ من إنصافهما. فَقَالَ: وَالله مَا أذكر من هَذَا شَيْئا، وَمَا كنت إِلَّا سَكرَان، ونائما طول لَيْلَتي، وَمَا انْتَبَهت. فَقلت: بلَى يَا سَيِّدي. فتنكر، وَقَالَ: يَابْنَ حمدون قد صرت تغالطني وتخادعني بِالْكَذِبِ؟

فَقلت: أعيذ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِاللَّه، هَذَا أَمر مَشْهُور فِي الدَّار عِنْد الخدم الْخَاصَّة وَصَاحب الشرطة نَفسه، وقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، وشرحتها. فاستدعى الخدم، فتحدثوا بِمثل مَا ذكرته، فأظهر تَعَجبا شَدِيدا، وَحلف بِاللَّه الْعَظِيم، وبالبراءة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وبالنفي من الْعَبَّاس، أَنه لَا يذكر شَيْئا من ذَلِك، وَلَا يعلم أَنه كَانَ نَائِما، وَلَا رأى مناما، وَلَا انتبه، وَلَا جلس، وَلَا استدعى أحدا، وَلَا أَمر بِأَمْر. فَمَا رَأَيْت أعجب من هَذَا الْمَنَام وَالْحَال، وَلَا أطرف من هَذَا الِاتِّفَاق فِي نسيانه بعد ذَلِك. وَوجدت فِي خبر آخر، قريب من هَذَا، وَلَا يذكر فِيهِ حَدِيث الأترج، وَذكر فِيهِ أَن اسْم الْجمال، كَانَ نصرا، وَأَنه كَانَ من نهاوند، وَله جمال يكريها، وَأَن صَاحب المعونة، اكترى مِنْهُ عشْرين جملا، وَحمل عَلَيْهَا عشْرين رجلا من الأكراد أسرى، ليحملهم إِلَى الحضرة، فَسَار الْجمال مَعَهم، فهرب مِنْهُم فِي بعض الطَّرِيق وَاحِد، فَوَقع لصَاحب المعونة أَن نصرا الْجمال هربه، فقيده، وَحمله مَكَانَهُ، فَلَمَّا دخلُوا الحضرة، أنفذ الْجمال مَعَ الْقَوْم، إِلَى الْحَبْس، وَأخذ صَاحب المعونة جماله.

أبو بكر المادرائي يولي عاملا وهو على صهوة جواده

أَبُو بكر المادرائي يولي عَاملا وَهُوَ على صهوة جَوَاده وحَدثني أَبُو مُحَمَّد الصلحي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ المادرائي بِمصْر، وَكَانَ شَيخا جَلِيلًا، عَظِيم الْحَال وَالنعْمَة والجاه، قديم الرياسة والولايات الْكِبَار للأعمال، وَقد وزر لخماوريه بن أَحْمد بن طولون، وتقلد مصر مَرَّات، وعاش سِتا وَتِسْعين سنة، وَمَات فِي سنة نَيف وَأَرْبَعين وَثَلَاث مائَة، قَالَ: كنت أكتب لخمارويه بن أَحْمد بن طولون، فِي حداثتي، فركبتني الأشغال، وقطعني ترادف الْأَعْمَال عَن تصفح أَحْوَال المتعطلين. وَكَانَ ببابي شيخ من شُيُوخ الْكتاب قد طَالَتْ عطلته، وَقد غفلت عَن تصريفه.

فَرَأَيْت لَيْلَة فِي مَنَامِي أبي، وَكَأَنَّهُ يَقُول لي: وَيحك يَا بني، أما تَسْتَحي من الله، أَن تتشاغل بأعمالك، وَالنَّاس ببابك يتلفون ضرا وهزالا؟ هُوَ ذَا فلَان، شيخ من شُيُوخ الْكتاب، قد أفْضى أمره إِلَى أَن تقطع سراويله، فَمَا أمكنه أَن يَشْتَرِي بدله، أحب أَن لَا تغفل أمره أَكثر من هَذَا. فانتبهت مُتَعَجِّبا، واعتقدت الْإِحْسَان إِلَى الشَّيْخ من غَد، ونمت، فَأَصْبَحت وَقد أنسيت أمره. فركبت إِلَى دَار خمارويه بن أَحْمد، فَإِنِّي لأسير إِذْ ترَاءى لي الشَّيْخ على دويبة لَهُ ضَعِيفَة، فَأَهوى ليترجل لي، فانكشف فَخذه، فَإِذا هُوَ لابس خفا بِلَا سَرَاوِيل. فحين وَقعت عَيْني على ذَلِك ذكرت الْمَنَام، فَقَامَتْ قيامتي، فوقفت فِي موضعي، واستدعيته، فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، مَا حل لَك مَا صنعت بِنَفْسِك من تَركك إذكاري بِأَمْرك، أما كَانَ فِي الدُّنْيَا من يُوصل لَك رقْعَة، أَو يُخَاطب فِي أَمرك؟ الْآن قد قلدتك النَّاحِيَة الْفُلَانِيَّة، ورزقتك رزقها وَهُوَ فِي كل شهر مِائَتَا دِينَار، وأطلقت لَك من خزانتي ألف دِينَار مَعُونَة، وَأمرت لَك من الثِّيَاب والحملان بِكَذَا وَكَذَا، فاقبض ذَلِك واخرج، فَإِن حسن أثرك فِي عَمَلك، زدتك، وَفعلت بك وصنعت. وضممت إِلَيْهِ من يتنجز لَهُ ذَلِك.

أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري

أدْرك أَبَا مُحَمَّد الْأَزْرَق الْأَنْبَارِي حَدثنِي أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن البهلول الْأَنْبَارِي التنوخي، قَالَ: خرج أخي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن يُوسُف، يقْصد أخانا أَبَا يَعْقُوب إِسْحَاق بن يُوسُف، وَهُوَ حِينَئِذٍ بِمصْر، وَمَعَهُ زَوْجَة كَانَت لأبي يَعْقُوب إِسْحَاق بِبَغْدَاد، وبنية لَهُ مِنْهَا، وَمضى. فَلَمَّا عَاد حَدثنِي أَنه سلك فِي قافلة كَبِيرَة، من هيت على طَرِيق السماوة، يُرِيد: دمشق، قَالَ: فَلَمَّا حصلنا فِي أعماق السماوة، أخفرتنا خفراؤنا، وَجَاء قوم من الْأَعْرَاب، فظاهروهم علينا، وأظهروا أَنهم من غَيرهم، وَقَطعُوا علينا، فَاسْتَاقُوا ركائبنا، فَبَقيت أَنا وَالنَّاس مطرحين على المَاء الَّذين كُنَّا نزلنَا عَلَيْهِ بِلَا جمل، وَلَا زَاد، وَلَا دَلِيل، فأيسنا من الْحَيَاة. فَقلت للنَّاس: إِن الْمَوْت لَا بُد مِنْهُ على كل حَال، أَقَمْنَا فِي أماكننا أم

سرنا، فَلِأَن نسير فِي طلب الْخَلَاص فَلَعَلَّ الله أَن يَرْحَمنَا ويخلصنا، أولى من أَن نموت هَهُنَا، وَإِن متْنا فِي سيرنا كَانَ أعذر. فساعدوني، وسرنا يَوْمنَا وليلتنا، وَأَنا أحمل الصبية ابْنة أخي؛ لِأَن أمهَا عجزت عَن حملهَا، وَكلما طَال علينا الطَّرِيق، وَلم نر إنْسَانا وَلَا محجة، أحسسنا بِالْهَلَاكِ، وَمَات منا قوم، وَأَنا خلال ذَلِك، قد بدأت بِقِرَاءَة ختمة، وَأَنا متشاغل بهَا، وبالدعاء. إِلَى أَن وقعنا فِي الْيَوْم الثَّانِي، على حلَّة أَعْرَاب، فأنكرونا، فَلم أعمل عملا، حَتَّى ولجت بَيت امْرَأَة مِنْهُم، فَأَمْسَكت ذيلها، وَكنت سَمِعت أَن الْإِنْسَان إِذا عمل ذَلِك أَمن شرهم، وَوَجَب حَقه عَلَيْهِم، ثمَّ تفرقنا فِي الْبيُوت. وَاخْتلفت أَحْوَال النَّاس، فَأَما أَنا، فَإِن صَاحب الْبَيْت الَّذِي نزلت عَلَيْهِ، لما رأى هيبتي ودرسي لِلْقُرْآنِ، أكرمني، وَلم أزل أحادثه وأرفق بِهِ. فَقَالَ لي: مَا تشَاء؟ فَقلت: تركبني وَهَذِه الْمَرْأَة، وَهَذِه الصبية رَاحِلَة، وتسير مَعنا إِلَى دمشق على رَاحِلَة أُخْرَى، بزاد وَمَاء، حَتَّى أُعْطِيك ثمن راحلتك وأهبها لَك، وأقضي حَقك بعد هَذَا. قَالَ: فتذمم واستحيا، وقدرت أَنِّي إِذا دخلت دمشق، وجدت بهَا

من أصدقاء أخي، من آخذ مِنْهُ مَا أُرِيد. فكساني الْأَعرَابِي، وكسا الْمَرْأَة والصبية، ووطأ لي رَاحِلَة، وَحمل مَعنا من المَاء والزاد كفايتنا، وَركب هُوَ رَاحِلَة أُخْرَى، وَكَانَ أَكثر من وصل مَعنا إِلَى ذَلِك الْموضع، قد تَأتي لَهُ مثل مَا تَأتي لي، فصرنا رفْقَة صَالِحَة الْعدَد. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، شارفنا دمشق مَعَ طُلُوع الشَّمْس، فَإِذا بِأَهْلِهَا قد خَرجُوا يستقبلوننا، وكل من لَهُ صديق أَو معرفَة، يسْأَل عَنهُ، وَقد بَلغهُمْ خبر الْقطع، فَمَا شَعرت إِلَّا بِإِنْسَان يسْأَل عني، بكنيتي ونسبي. فَقلت: هأناذا. فَعدل إِلَيّ، وَقَالَ: أَنْت أَبُو مُحَمَّد الْأَزْرَق الْأَنْبَارِي؟ فَقلت: نعم. فَقَالَ: إِلَيّ، وَأخذ بِخِطَام رَاحِلَتي، وتبعني الْأَعرَابِي براحلته، حَتَّى دَخَلنَا مَعَ الرجل دمشق. فجَاء بِنَا الرجل، إِلَى دَار حَسَنَة سَرِيَّة، تدل على نعْمَة حَسَنَة، فأنزلنا، وَلم أَشك أَنه صديق لأخي. فَنزلت، وأنزلت الْأَعرَابِي معي، وَأخذت جمالنا، وأدخلنا الْحمام، وألبست خلعة نظيفة، وَفعل بِالْمَرْأَةِ والصبية مثل ذَلِك، وأقمت عِنْده يَوْمَيْنِ فِي خفض عَيْش، لَا أسأله عَن شَيْء، وَلَا يسألني.

فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث، قَالَ: مَا صُورَة هَذَا الْأَعرَابِي مَعَك؟ فَأَخْبَرته بِمَا أَخذنَا مِنْهُ. فَقَالَ لي: خد مَا تُرِيدُ من المَال. فَقلت: أُرِيد كَذَا وَكَذَا دِينَارا، فَأَعْطَانِي ذَلِك، فَدَفَعته إِلَى الْأَعرَابِي، وسلمت إِلَيْهِ جمليه. وَسَأَلت الرجل أَن يزوده زادا كثيرا، لَا يكون مثله فِي الْبَادِيَة، فَأخْرج لَهُ شَيْئا كثيرا، وَخرج الْأَعرَابِي شاكرا. فَقَالَ لي الرجل: إِلَى أَيْن تُرِيدُ من الْبِلَاد، وَكم يَكْفِيك من النَّفَقَة؟ فَلَمَّا قَالَ لي ذَلِك، ارتبت بِهِ، وَقلت: لَو كَانَ هَذَا من أصدقاء أخي الَّذين كاتبهم بتفقدي، لَكَانَ يعرف مقصدي. فَقلت لَهُ: كم كاتبك أخي أَن تدفع إِلَيّ؟ قَالَ: وَمن أَخُوك؟ قلت: أَبُو يَعْقُوب الْأَزْرَق الْأَنْبَارِي، الْكَاتِب بِمصْر. فَقَالَ: وَالله، مَا سَمِعت بِهَذَا الِاسْم قطّ، وَلَا أعرفهُ. فورد عَليّ أعجب مورد، وَقلت لَهُ: يَا هَذَا، إِنِّي ظننتك صديقا لأخي، وَأَن مَا عاملتني بِهِ من الْجَمِيل من أَجله، فانبسطت إِلَيْك بِالطَّلَبِ، وَلَو لم أعتقد هَذَا لانقبضت، فَمَا السَّبَب فِيمَا عاملتني بِهِ؟ فَقَالَ: أَمر هُوَ أوكد من أَمر أَخِيك، يجب أَن يكون انبساطك إِلَيْهِ أتم. فَقلت: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِن خبر الْوَقْعَة بالقافلة الَّتِي كنت فِيهَا، بلغنَا فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا،

فَمَا بَقِي كَبِير أحد بِدِمَشْق، إِلَّا وَردت عَلَيْهِ مُصِيبَة عَظِيمَة، إِمَّا بذهاب مَال، أَو بغم على صديق، غَيْرِي، فَإِنِّي لم يكن لي شَيْء من ذَلِك يتَعَلَّق قلبِي بِهِ، واتعد النَّاس لِلْخُرُوجِ، لتلقي المنقطعين، وَإِصْلَاح أَحْوَالهم، وَلم أعزم أَنا. فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل، رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، وَهُوَ يَقُول لي: أدْرك أَبَا مُحَمَّد الْأَزْرَق الْأَنْبَارِي، وأغثه، وَأصْلح شَأْنه بِمَا يبلغهُ مقْصده، فَلَمَّا أَصبَحت، خرجت مَعَ النَّاس، فَسَأَلت عَنْك، فَكَانَ مَا رَأَيْت، والآن اذكر مَا تريده. فَبَكَيْت بكاء شَدِيدا، لم أقدر مَعَه على خطابه مُدَّة، ثمَّ نظرت إِلَى مَا يبلغنِي مصر، فطلبته مِنْهُ، فَأَخَذته، وأصلحت أَمْرِي، وَسَأَلت الرجل عَن اسْمه، فَقَالَ: أَنا فلَان بن فلَان الصَّابُونِي، ذكره أَبُو مُحَمَّد، وأنسيه أَبُو الْحسن. قَالَ: فَلَمَّا بلغت إِلَى مصر، حدثت أخي بِالْحَدِيثِ، فَعجب مِنْهُ، وَبكى. قَالَ أَبُو الْحسن: وَضرب الدَّهْر ضربه، وَورد أَبُو يَعْقُوب أخي إِلَى بَغْدَاد بعد سِنِين، فتذاكرنا هَذَا الحَدِيث. فَقَالَ أخي: لما عرفني أخي أَبُو مُحَمَّد، مَا عَامله بِهِ ابْن الصَّابُونِي الدِّمَشْقِي هَذَا، جعلته صديقا لي، فَكنت أكاتبه. فَلَمَّا وَردت إِلَى دمشق، وجدت حَاله قد اختلت، لمحن لحقته، فَوهبت لَهُ ضيعتي بِدِمَشْق، وَكَانَت جليلة الْغلَّة وَالْقيمَة، فسلمتها إِلَيْهِ، مُكَافَأَة لما عَامل بِهِ أَبَا مُحَمَّد أخي.

اعتقلهم الوزير ابن الزيات وأطلقوا لموت الواثق

اعتقلهم الْوَزير ابْن الزيات وأطلقوا لمَوْت الواثق قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كتاب (الوزراء) ، حَدثنِي الْحُسَيْن بن عَليّ الباقطائي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: قَالَ لي أَحْمد بن الْمُدبر: لما أَمر مُحَمَّد بن عبد الْملك بحبسي، أدخلت محبسا فِيهِ أَحْمد بن إِسْرَائِيل، وَسليمَان بن وهب، وهما يطالبان، فَجعلت فِي بَيت ثَالِث، فَكُنَّا نتحدث وَنَأْكُل جَمِيعًا، وَرُبمَا أَدخل إِلَيْنَا النَّبِيذ، فنشرب. وَكَانَ أَحْمد بن إِسْرَائِيل شَدِيد الْجُبْن، وَكَانَ يُنكر علينا، ويمنعنا أَن نتحدث بِشَيْء، أَو نرجو لأنفسنا. فَجَاءَنِي يَوْمًا سُلَيْمَان بن وهب، فَقَالَ لي: رَأَيْت البارحة فِي نومي، كَأَن قَائِلا يَقُول لي: يَمُوت الواثق إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَقُمْ بِنَا إِلَى أبي جَعْفَر نحدثه. فَقلت: وَالله، إِن سمع بِهَذَا أَبُو جَعْفَر، ليشقن ثَوْبه، وليسدن أُذُنه خوفًا.

فَقَالَ لي: قُم على كل حَال، فقمنا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَأخْبرهُ سُلَيْمَان بِمَا رأى. فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، أَنْت أجسر النَّاس، وأشدهم جِنَايَة على نَفسك وعلينا، إِنَّمَا تُرِيدُ أَن يسمع هَذَا فنقتل. فَقَالَ لَهُ: فتكتب هَذِه الرُّؤْيَا عنْدك، لتمتحن صدقهَا. فنفر، وَقَالَ: أَنا لَا أكتب مثل هَذَا، فكتبته أَنا فِي رقْعَة صَغِيرَة. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثَّلَاثِينَ، دخل عَليّ أَحْمد بن إِسْرَائِيل، فَقَالَ لي: يَا أَبَا الْحسن، هَذَا يَوْم الثَّلَاثِينَ، فأخرجت الرقعة، فَإِذا هُوَ قد حفظ الْيَوْم، وَمضى يَوْمنَا إِلَى آخِره. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل، لم نشعر إِلَّا وَالْبَاب يدق دقا شَدِيدا، وَصَاح بِنَا صائح: الْبُشْرَى، قد مَاتَ الواثق، اخْرُجُوا. فَقَالَ أَحْمد بن إِسْرَائِيل: قومُوا بِنَا، فقد حقق الله الرُّؤْيَا، وأتانا بالفرج، وصدقت الرُّؤْيَا. فَقَالَ سُلَيْمَان بن وهب: كَيفَ نمشي مَعَ بعد مَنَازلنَا؟ وَلَكِن نوجه من يجيئنا بِمَا نركب. فاغتاظ أَحْمد بن إِسْرَائِيل، وَقَالَ: نعم، نقعد، حَتَّى يجلس خَليفَة آخر، فَيُقَال لَهُ: إِن فِي الْحَبْس جمَاعَة من الْكتاب عَلَيْهِم أَمْوَال، فيأمر بالتوثيق منا، إِلَى أَن ينظر فِي أمرنَا، قُم عافاك الله، حَتَّى نمر. فَخرج، وَخَرجْنَا على أَثَره. فَقبل أَن نخرج من بَاب الهاروني، سمعنَا رجلَيْنِ يَقُول أَحدهمَا للْآخر: سَأَلَ الْخَلِيفَة جَعْفَر المتَوَكل عَمَّن فِي الْحَبْس، فَقيل: فِيهِ جمَاعَة من الْكتاب،

فَقَالَ: يكونُونَ فِيهِ إِلَى أَن نَنْظُر فِي أُمُورهم. فجددنا فِي الْمَشْي وقصدنا غير مَنَازلنَا، واستترنا. وبحثنا عَن الْأَخْبَار، فَبَلغنَا إِقْرَار الْخَلِيفَة مُحَمَّد بن عبد الْملك، فَكتبت إِلَيْهِ رقْعَة عَن جماعتنا، نعرفه خبرنَا واتساع آمالنا فِيهِ، ونستأذنه فِيمَا نعمل. فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ الرقعة وَقع على ظهرهَا: لم استخفيتم؟ وَلَيْسَ مِنْكُم إِلَّا من عنايتي تخصه، ورأيي فِيهِ جميل، أما أَبُو أَيُّوب فقد تكلم فِي حَقه أَبُو مَنْصُور إيتاخ، واستوهبه، فوهب لَهُ، وَأمرت بإحضاره ليخلع عَلَيْهِ، فليحضر، وَأما أَبُو جَعْفَر فَإِنَّهُ طُولِبَ بِمَا لَا يلْزمه، وَقد وضحت حجَّته فِي بُطْلَانه، فليصر إِلَيّ، وَأما أَبُو الْحسن فَإِنَّهُ قذف بباطل، فاظهروا جَمِيعًا، واثقين بِمَا عِنْدِي من حياطتكم ورعايتكم. فصرنا إِلَيْهِ جَمِيعًا، وَزَالَ عَنَّا مَا كُنَّا فِيهِ، فَخلع على سُلَيْمَان خَاصَّة.

من شعر سليمان بن وهب لما حبس

من شعر سُلَيْمَان بن وهب لما حبس قَالَ: وَفِي هَذِه الحبسة كتب سُلَيْمَان بن وهب إِلَى أَخِيه الْحسن بن وهب فِيمَا حَكَاهُ مُحَمَّد بن عَبدُوس: هَل رَسُول وَكَيف لي برَسُول ... إِن ليلِي ليل السقيم العليل هَل رَسُول إِلَى أخي وشقيقي ... لَيْت أَنِّي مَكَان ذَاك الرَّسُول يَا أخي لَو ترى مَكَاني فِي الْحَبْس ... وحالي وزفرتي وعويلي وعثاري إِذا أردْت قيَاما ... وقعودي فِي مثقلات الكبول لرأيت الَّذِي يغمك فِي الْأَعْدَاء ... أَن يسلكوا جَمِيعًا سبيلي هَذِه جملَة أَرَانِي غَنِيا ... مَعهَا عَن أذاك بالتفصيل وَلَعَلَّ الْإِلَه يَأْتِي بصنع ... وخلاص وفرجة عَن قَلِيل وَذكر أبياتا أخر، تَمامًا لهَذِهِ الأبيات، لم أذكرها؛ لِأَنَّهَا لَيست من هَذَا الْمَعْنى، ثمَّ قَالَ: وَقد ذكر مُحَمَّد بن دَاوُد، فِي كِتَابه الْمُسَمّى كتاب (الوزراء) من خُرُوج سُلَيْمَان بن وهب من حبس الواثق غير هَذَا، قَالَ فِي كِتَابه: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عبيد الله بن سُلَيْمَان، واقتص مُحَمَّد بن عَبدُوس، قصَّة طَوِيلَة، لَيْسَ فِيهَا ذكر مَنَام، فَذَكرتهَا أَنا فِي كتابي هَذَا، فِي بَاب من خرج من حبس

أَو أسر أَو اعتقال، إِلَى سراح وسلامة وَصَلَاح حَال، ورويتها عَن عَليّ بن عِيسَى، عَن عبيد الله بن سُلَيْمَان، بِأَلْفَاظ قَوِيَّة، أقوى من الْأَلْفَاظ الَّتِي أوردهَا ابْن عَبدُوس، وَلم أذكرها هَهُنَا؛ لِأَن هَذَا الْخَبَر مُخْتَصّ بالمنامات، فَجَعَلته فِي بَابه، وأوردت تِلْكَ الْقِصَّة فِي الْبَاب الْمُفْرد لأمثالها.

بين الوزير المهلبي والحسين السمري

بَين الْوَزير المهلبي وَالْحُسَيْن السمري حَدثنِي عَليّ بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الحطمي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد السمري كَاتب الدِّيوَان بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُحَمَّد المهلبي، فِي وزارته قبض عَليّ بِالْبَصْرَةِ، وطالبني بِمَال وحبسني حَتَّى يئست من الْفرج، فَرَأَيْت لَيْلَة فِي الْمَنَام، كَأَن قَائِلا يَقُول لي: اطلب من ابْن الراهبوني دفترا خلقا عِنْده، على ظَهره دُعَاء، فَادع الله بِهِ، فَإِنَّهُ يفرج عَنْك، وَكَانَ ابْن الراهبوني هَذَا، صديقا لي من تناء أهل وَاسِط مُقيما بِالْبَصْرَةِ. فَلَمَّا كَانَ من غَد، جَاءَنِي، فَقلت لَهُ: عنْدك دفتر على ظَهره دُعَاء. فَقَالَ لي: نعم. قلت: جئني بِهِ، فَجَاءَنِي بِهِ، فَرَأَيْت مَكْتُوبًا على ظَهره: اللَّهُمَّ أَنْت أَنْت، انْقَطع الرَّجَاء إِلَّا مِنْك، وخابت الآمال إِلَّا فِيك، صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد، وَلَا تقطع اللَّهُمَّ مِنْك رجائي، وَلَا رَجَاء من يرجوك فِي شَرق الأَرْض وغربها، يَا قَرِيبا غير بعيد، وَيَا شَاهدا لَا يغيب، وَيَا غَالِبا غير مغلوب، اجْعَل لي من أَمْرِي فرجا ومخرجا، وارزقني رزقا وَاسِعًا من حَيْثُ لَا أحتسب، إِنَّك على كل شَيْء قدير.

قَالَ: فواصلت الدُّعَاء بذلك، فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام يسيرَة، حَتَّى أخرجني المهلبي من الْحَبْس، وقلدني الإشراف على أَحْمد الطَّوِيل، فِي أَعماله بأسافل الأهواز. قَالَ لي أَبُو الْحسن الْأنْصَارِيّ: قَالَ لي أَبُو عَليّ زَكَرِيَّا بن يحيى الْكَاتِب النَّصْرَانِي، حَدثنِي بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عبد الله السمري، وكتبت عَنهُ الدُّعَاء، ونقلته، وحفظته، وتقلبت بِي الْأَحْوَال، فَكتبت لأبي جَعْفَر ممله، صَاحب مائدة معز الدولة، فاعتقلني بعد مُدَّة، ونكبني، فواصلت الدُّعَاء بِهِ، فأطلقني بعد أَيَّام يسيرَة

رأى في المنام أن غناه بمصر

رأى فِي الْمَنَام أَن غناهُ بِمصْر حَدثنِي أَبُو الرّبيع سُلَيْمَان بن دَاوُد الْبَغْدَادِيّ، صَاحب كَانَ لأبي، وَكَانَ قَدِيما يخْدم القاضيين أَبَا عمر مُحَمَّد بن يُوسُف، وَابْنه أَبَا الْحُسَيْن فِي دورهما، وَكَانَت جدته تعرف بسمسمة، قهرمانة كَانَت فِي دَار القَاضِي أبي عمر مُحَمَّد بن يُوسُف رَحمَه الله، قَالَ: كَانَ فِي جوَار القَاضِي قَدِيما، رجل انتشرت عَنهُ حِكَايَة، وَظهر فِي يَده مَال جليل، بعد فقر طَوِيل، وَكنت أسمع أَن أَبَا عمر حماه من السُّلْطَان، فَسَأَلت عَن الْحِكَايَة، فدافعني طَويلا، ثمَّ حَدثنِي، قَالَ: ورثت عَن أبي مَالا جَلِيلًا، فأسرعت فِيهِ وأتلفته حَتَّى أفضيت إِلَى بيع أَبْوَاب دَاري وسقوفها، وَلم يبْق لي من الدُّنْيَا حِيلَة، وَبقيت مُدَّة بِلَا قوت إِلَّا من غزل أُمِّي، فتمنيت الْمَوْت. فَرَأَيْت لَيْلَة فِي النّوم، كَأَن قَائِلا يَقُول لي: غناك بِمصْر، فَاخْرُج إِلَيْهَا. فبكرت إِلَى أبي عمر القَاضِي، وتوسلت إِلَيْهِ بالجوار، وبخدمة كَانَت من أبي لِأَبِيهِ، وَسَأَلته أَن يزودني كتابا إِلَى مصر؛ لأتصرف بهَا، فَفعل، وَخرجت. فَلَمَّا حصلت بِمصْر أوصلت الْكتاب، وَسَأَلت التَّصَرُّف، فسد الله عَليّ الْوُجُوه حَتَّى لم أظفر بِتَصَرُّف، وَلَا لَاحَ لي شغل. ونفدت نفقتي، فَبَقيت متحيرا، وفكرت فِي أَن أسأَل النَّاس، وأمد يَدي على الطَّرِيق، فَلم تسمح نَفسِي، فَقلت: أخرج لَيْلًا، وأسأل، فَخرجت بَين العشاءين، فَمَا زلت أَمْشِي فِي الطَّرِيق، وتأبى نَفسِي الْمَسْأَلَة، ويحملني الْجُوع

عَلَيْهَا، وَأَنا مُمْتَنع، إِلَى أَن مضى صدر من اللَّيْل. فلقيني الطَّائِف، فَقبض عَليّ، ووجدني غَرِيبا، فَأنْكر حَالي، فَسَأَلَنِي عَن خبري، فَقلت: رجل ضَعِيف، فَلم يصدقني، وبطحني، وضربني مقارع. فَصحت: أَنا أصدقك. فَقَالَ: هَات. فقصصت عَلَيْهِ قصتي من أَولهَا إِلَى آخرهَا، وَحَدِيث الْمَنَام. فَقَالَ لي: أَنْت رجل مَا رَأَيْت أَحمَق مِنْك، وَالله لقد رَأَيْت مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سنة، فِي النّوم، كَأَن رجلا يَقُول لي: بِبَغْدَاد فِي الشَّارِع الْفُلَانِيّ، فِي الْمحلة الْفُلَانِيَّة، فَذكر شارعي، ومحلتي، فَسكت، وأصغيت إِلَيْهِ، وَأتم الشرطي الحَدِيث، فَقَالَ: دَار يُقَال لَهَا: دَار فلَان، فَذكر دَاري، واسمي، فِيهَا بُسْتَان، وَفِيه سِدْرَة، وَكَانَ فِي بُسْتَان دَاري سِدْرَة، وَتَحْت السِّدْرَة مدفون ثَلَاثُونَ ألف دِينَار، فَامْضِ، فَخذهَا، فَمَا فَكرت فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا الْتفت إِلَيْهِ، وَأَنت يَا أَحمَق، فَارَقت وطنك، وَجئْت إِلَى مصر بِسَبَب مَنَام. قَالَ: فقوي بذلك قلبِي، وأطلقني الطَّائِف، فَبت فِي بعض الْمَسَاجِد، وَخرجت مَعَ السحر من مصر، فَقدمت بَغْدَاد، فَقطعت السِّدْرَة، وأثرت تحتهَا، فَوجدت قمقما فِيهِ ثَلَاثُونَ ألف دِينَار، فَأَخَذته، وَأَمْسَكت يَدي، ودبرت أَمْرِي، فَأَنا أعيش من تِلْكَ الدَّنَانِير، من فضل مَا ابتعت مِنْهَا من ضَيْعَة وعقار إِلَى الْيَوْم.

خزيمة بن هازم يصرف الحراني ويعقد له على طريق الفرات

خُزَيْمَة بن هازم يصرف الْحَرَّانِي ويعقد لَهُ على طَرِيق الْفُرَات وجدت فِي كتاب أبي الْفرج عبد الْوَاحِد المَخْزُومِي الحنطبي، عَن عَليّ بن الْعَبَّاس النوبختي، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن عبد الله التغلبي، قَالَ: كَانَ من بقايا شُيُوخ خُرَاسَان، مِمَّن يلْزم دَار الْعَامَّة بسر من رأى، شيخ يكنى أَبَا عصمَة، وَكَانَ يحدثنا كثيرا، بأخبار الدولة وَأَهْلهَا، فحدثنا يَوْمًا: أَن خُزَيْمَة بن خازم كَانَ يجلس فِي دَاره للنَّاس، فِي كل يَوْم ثلاثاء، فَلَا يحجب عَنهُ أحد، وَلَا يسْتَأْذن لمن يدْخل، إِنَّمَا يدْخلُونَ أَرْسَالًا، بِغَيْر إِذن، فَمن كَانَ من الْأَشْرَاف ووجوه النَّاس، سلم وَانْصَرف، وَمن كَانَ من طلاب الْحَوَائِج، أَو خطاب التَّصَرُّف، دفع رقعته إِلَى الْحَاجِب، فيجتمع النَّاس ويدخلون، فَيعرض رقاعهم عَلَيْهِ.

وَكَانَ قد أفرد لهَذَا كَاتبا حصيفا، يُقَال لَهُ: الْحسن بن مسلمة، يتصفح الرّقاع قبل عرضهَا عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ يجوز أَن يُوقع عَنهُ فِيهِ بِخَطِّهِ، وَقع وَسلمهُ إِلَى أربابه، وَمَا كَانَ لَا بُد من وُقُوفه عَلَيْهِ، وتوقيعه فِي بِخَطِّهِ، أوقفهُ عَلَيْهِ، وَمن كَانَ من النَّاس زَائِرًا، أَو مسترفدا، عرضت رقعته عَلَيْهِ، فَيكون هُوَ الْموقع فِيهَا بِمَا يرَاهُ. فَلَا يكَاد ينْصَرف أحد من ذَلِك الْجمع الْعَظِيم المفرط، إِلَّا وَهُوَ مسرور بِقَضَاء حَاجته. قَالَ أَبُو عصمَة: وَكَانَ مِمَّن يتَصَرَّف فِي الْأَعْمَال، رجل من الْأَعْرَاب، ذُو لِسَان وفصاحة، يُقَال لَهُ: حَامِد بن عَمْرو الْحَرَّانِي، وَكَانَ فِيهِ إلحاح شَدِيد، وملازمة تَامَّة إِذا تعطل، فيؤذي بذلك ويبرم. وَكَانَ يُخَاطب خُزَيْمَة فِي أَيَّام الثُّلَاثَاء، وَلَا يقنع بذلك، حَتَّى يلازم بَابه كل يَوْم، وَإِذا ركب خاطبه على الطَّرِيق، وَرُبمَا تعرض لَهُ فِي دَار الْخَلِيفَة فخاطبه، وَلم يكن فِي طبع خُزَيْمَة احْتِمَال مثل ذَلِك. قَالَ أَبُو عصمَة: فَحَدثني الْحسن بن مسلمة، كَاتب خُزَيْمَة، قَالَ: نظر خُزَيْمَة إِلَى هَذَا الرجل فِي دَاره، وَكَانَ قد لقِيه فِي الطَّرِيق، فخاطبه قبل ذَلِك بِيَوْم، وأضجره، وَوَافَقَ من خُزَيْمَة ضجرا بِشَيْء حدث من أُمُور المملكة، مَعَ مَا فِيهِ من الجبروتية وَالْكبر. فحين خاطبه الرجل صَاح فِيهِ، وَأمر بِإِخْرَاجِهِ من دَاره إخراجا عنيفا، ثمَّ دَعَاني، فَقَالَ: وَالله، لَئِن دخل هَذَا دَاري، لَأَضرِبَن عُنُقه، وَلَئِن وقف لي على طَرِيق، أَو كلمني فِي دَار السُّلْطَان، لَأَضرِبَن عُنُقه، فَأخْبرهُ بذلك، وحذره، وَتقدم إِلَى البوابين والحجاب بِمَنْعه، وَكَانَ خُزَيْمَة إِذا وعد أَو توعد، فَلَيْسَ إِلَّا الْوَفَاء.

فَخرجت إِلَى الْحجاب والبوابين وَأَصْحَاب المقارع، فبالغت فِي تحذيرهم، وتهديدهم، وعرفتهم مَا قَالَ، وَأَنه حلف أَن تضرب أَعْنَاقهم إِذا خالفوا، وأكدت الْوَصِيَّة بجهدي، مستظهرا لنَفْسي. وَخرجت إِلَى خَارج الدَّار، فَوجدت الرجل قَائِما، فأعلمته أَن دَمه مُرْتَهن بنظرة ينظرها إِلَيْهِ خُزَيْمَة فِي دَار السُّلْطَان، أَو على بَابه، أَو فِي الطَّرِيق، وحذرته تحذيرا شَدِيدا، وخوفته من سفك دَمه، وَأَن لَا يَجْعَل عَلَيْهِ سَبِيلا، فشكرني على تحذيره، وَانْصَرف كئيبا. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا من الْغَد، غَدَوْت إِلَى دَار خُزَيْمَة على رسمي، للملازمة، فَلَمَّا دَنَوْت من الْبَاب، إِذا بِالرجلِ وَاقِفًا كَمَا كَانَ يقف منتظرا لركوبه. فَعظم ذَلِك عَليّ، وَقلت: يَا هَذَا، أما تخَاف الله؟ أَتُحِبُّ أَن تقتل نَفسك؟ أما تعرف الرجل؟ فَقَالَ: وَالله، مَا أتيت هَذَا عَن جهل مني وَلَا اغترار، بل أَتَيْته على أصل قوي، وَسبب وثيق، وسترى من لطف الله مَا يَسُرك، وتعجب مِنْهُ. قَالَ الْحسن: فَزَاد عجبي مِنْهُ، وَدخلت الدَّار، فصادفت خُزَيْمَة فِي صحن الدَّار يُرِيد الرّكُوب، فحين نظر إِلَيّ، قَالَ: مَا فعل حَامِد بن عَمْرو؟ قلت: رَأَيْته السَّاعَة بِالْبَابِ، وَقد تهددته، فَلَمَّا رَأَيْته الْيَوْم بِالْبَابِ تعجبت من جَهله وَعوده، مَعَ مَا أعذرت إِلَيْهِ من الْوَعيد، وأمرته بالانصراف، فَأَجَابَنِي بِجَوَاب لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَأَنا بَرِيء من فعله. فَقَالَ: بِأَيّ شَيْء أجابك؟ فَأَخْبَرته، فَسكت خُزَيْمَة، وَخرج فَركب، فحين رَآهُ حَامِد ترجل لَهُ.

فصاح بِهِ: لَا تفعل، والحقني إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ وَسَار خُزَيْمَة، فَدخل دَار الرشيد، ودخلنا مَعَه إِلَى حَيْثُ جرت عادتنا أَن نبلغه من الدَّار، فَجَلَسْنَا فِيهِ، وَمضى خُزَيْمَة يُرِيد الْخَلِيفَة، وَجَاء حَامِد فَجَلَسَ إِلَى جَانِبي. فَقلت لَهُ: أصدقني عَن خبرك، وَالسَّبَب فِي جسارتك على خُزَيْمَة، وَلينه لَك بعد الغلظة، وعرفته مَا جرى بيني وَبَين خُزَيْمَة ثَانِيًا. فَقَالَ: طب نفسا، فَمَا أبدي لَك شَيْئا إِلَّا بعد بُلُوغ آخر الْأَمر. فَبَيْنَمَا نَحن كَذَلِك، إِذْ دعِي حَامِد إِلَى حَيْثُ كَانَ مرسوما بِأَن يدْخلهُ من يخلع عَلَيْهِ، فتحيرت فَلم يكن بأسرع من أَن خرج وَعَلِيهِ الْخلْع، وَبَين يَدَيْهِ لِوَاء قد عقد لَهُ على طَرِيق الْفُرَات بأسره، فَقُمْت إِلَيْهِ وهنأته. وَقلت: وَلَا السَّاعَة تُخبرنِي الْخَبَر؟ فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْء، وودعني وَمضى، فأقمت بمكاني إِلَى أَن خرج خُزَيْمَة، فسرت مَعَه إِلَى دَاره، فَلَمَّا اسْتَقر دَعَاني، فَسَأَلَنِي عَن أُمُور جرت. وَقَالَ: أَظُنك أنْكرت مَا جرى من أَمر حَامِد؟ قلت: إِي وَالله، أَيهَا الْأَمِير. قَالَ: فاسمع الْخَبَر، اعْلَم أَنِّي كنت فِي نِهَايَة الغيظ عَلَيْهِ، وَأمرت فِيهِ بِمَا عملته أمس، فَلَمَّا كَانَ البارحة، رَأَيْته فِي النّوم، كَأَنَّهُ قَائِم يُصَلِّي، وَقد رفع يَدَيْهِ إِلَى الله يَدْعُو عليَّ.

فَصحت بِهِ: لَا تفعل، لَا تفعل، وادن مني، فَانْفَتَلَ من صلَاته، وَجَاء حَتَّى وقف بَين يَدي. فَقلت لَهُ: مَا يحملك على أَن تَدْعُو عَليّ؟ فَقَالَ: لِأَنَّك أهنتني، واستخففت بِي، وهددتني بِالْقَتْلِ ظلما، وَقطعت أملي من طلب رِزْقِي وقوتي، وَأَنا أشكوك إِلَى الله، وَأَسْتَعِينهُ عَلَيْك. وَكَأَنِّي أَقُول لَهُ: طب نفسا، وَلَا تدع عَليّ، فَإِنِّي أحسن إِلَيْك غَدا، وأوليك عملا، واستيقظت. فعجبت من الْمَنَام، وَعلمت أَنِّي قد ظلمت الرجل، وَقلت فِي نَفسِي: شيخ من الْعَرَب، لَهُ سنّ وَشرف، أَسَأْت إِلَيْهِ بِغَيْر جرم، وأرعبته، وماذا عَلَيْهِ إِذا لج فِي طلب الرزق؟ وَعلمت أَن الَّذِي رَأَيْته فِي مَنَامِي موعظة فِي أمره، وحث على حفظ النعم، وَأَن لَا أنفرها بقلة الشُّكْر، وَاسْتِعْمَال الظُّلم. فاعتقدت أَن أوليه، كَمَا وعدته فِي النّوم، فَكَانَ مَا رَأَيْت. قَالَ الْحسن بن مسلمة: فَقَوِيت رَأْيه فِي هَذَا، ودعوت لَهُ، وانصرفت، فَجَاءَنِي من الْعشي حَامِد، مُسلما، ومودعا، ليخرج إِلَى عمله. فَقلت لَهُ: هَات الْآن خبرك. فَقَالَ: نعم، انصرفت من بَاب خُزَيْمَة موجع الْقلب، قلقا، مرتاعا. فَأخْبرت عيالي، فَصَارَ فِي دَاري مأتم، وبكاء عَظِيم، وَلم أطْعم أَنا، وَلَا هم شَيْئا يَوْمنَا وليلتنا، وأمسيت كَذَلِك. فَلَمَّا هدأت الْعُيُون تَوَضَّأت، واستقبلت الْقبْلَة، فَصليت مَا شَاءَ الله، وتضرعت إِلَى الله، ودعوته بإخلاص نِيَّة، وَصدق طوية، وأطلت، فحملتني عَيْني، فَنمت وَأَنا ساجد فِي الْقبْلَة.

فَرَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَنِّي على حَالي فِي الصَّلَاة وَالدُّعَاء، وَكَأن خُزَيْمَة قد وقف عَليّ، وَأَنا أَدْعُو، فصاح بِي: لَا تفعل، لَا تفعل، واغد عَليّ، فَإِنِّي أحسن إِلَيْك، وأوليك، فانتبهت مذعورا، وَقد قويت نَفسِي، فَقلت: أبكر إِلَيْهِ، فَلَعَلَّ الله أَن يطْرَح فِي قلبه الرقة، فَغَدَوْت إِلَيْهِ، فَكَانَ مَا رَأَيْت. قَالَ الْحسن: فَكثر تعجبي لِاتِّفَاق المنامين، فَقلت لحامد، لقد أَخْبرنِي الْأَمِير بِمثل مَا ذكرته، لم يخرم مِنْهُ حرفا، وبكرت إِلَى خُزَيْمَة، فَحَدَّثته بِالْحَدِيثِ، فَعجب مِنْهُ، وأحضر حامدا حَتَّى سمع مِنْهُ ذَلِك، وَأمر لَهُ بكسوة وصلَة وحملان، وَلم يزل بعد ذَلِك يتَعَمَّد إكرامه.

بين الوزير علي بن عيسى والعطار الكرخي

بَين الْوَزير عَليّ بن عِيسَى والعطار الْكَرْخِي وَيُقَارب هَذَا حديثان، حَدثنِي بِأَحَدِهِمَا بعض أهل بَغْدَاد: أَن عطارا من أهل الكرخ، كَانَ مَشْهُورا بالستر وَالْأَمَانَة، فَرَكبهُ دين، وَقَامَ من دكانه، وَلزِمَ بَيته مستترا، وَأَقْبل على الدُّعَاء وَالصَّلَاة، إِلَى أَن صلى لَيْلَة الْجُمُعَة صَلَاة كَثِيرَة، ودعا، ونام، فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامه، وَهُوَ يَقُول لَهُ: اقصد عَليّ بن عِيسَى، وَكَانَ إِذْ ذَاك وزيرا، فقد أَمرته أَن يدْفع إِلَيْك أَربع مائَة دِينَار، فَخذهَا وَأصْلح بهَا أَمرك. قَالَ الرجل: وَكَانَ عَليّ سِتّ مائَة دِينَار دينا، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، قلت: قد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «من رَآنِي فِي مَنَامه فقد رَآنِي، فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي» ، فَلم لَا أقصد الْوَزير. فَلَمَّا صرت بِبَابِهِ، منعت من الْوُصُول إِلَيْهِ، فَجَلَست إِلَى أَن ضَاقَ صَدْرِي، وهممت بالانصراف، فَخرج الشَّافِعِي صَاحبه، وَكَانَ يعرفنِي معرفَة ضَعِيفَة، فَأَخْبَرته الْخَبَر. فَقَالَ: يَا هَذَا، الْوَزير وَالله فِي طَلَبك مُنْذُ السحر إِلَى الْآن، وَقد سَأَلَني

عَنْك فأنسيتك، وَمَا عرفك أحد، وَالرسل مبثوثة فِي طَلَبك، فَكُن بمكانك، ثمَّ رَجَعَ فَدخل، فَلم يكن بأسرع من أَن دعِي بِي، فَدخلت إِلَى عَليّ بن عِيسَى. فَقَالَ لي: مَا اسْمك؟ قلت: فلَان بن فلَان الْعَطَّار. قَالَ: من أهل الكرخ؟ قلت: نعم. قَالَ: أحسن الله إِلَيْك فِي قصدك إيَّايَ، فوَاللَّه مَا تهنأت بعيش مُنْذُ البارحة، فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَاءَنِي البارحة فِي مَنَامِي، فَقَالَ: أعْط فلَان بن فلَان الْعَطَّار من أهل الكرخ أَربع مائَة دِينَار يصلح بهَا شَأْنه، فَكنت الْيَوْم فِي طَلَبك، وَمَا عرفك أحد. فَقلت: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَاءَنِي البارحة، فَقَالَ لي كَيْت وَكَيْت. قَالَ: فَبكى عَليّ بن عِيسَى، وَقَالَ: أَرْجُو أَن تكون هَذِه عناية من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِي. ثمَّ قَالَ: هاتوا ألف دِينَار، فجاءوه بهَا عينا. فَقَالَ: خُذ مِنْهَا أَربع مائَة دِينَار، امتثالا لأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وست مائَة دِينَار هبة مني لَك. فَقلت: أَيهَا الْوَزير مَا أحب أَن أزداد على عَطاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، فَإِنِّي أَرْجُو الْبركَة فِيهِ، لَا فِيمَا عداهُ. فَبكى عَليّ بن عِيسَى، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْيَقِين، خُذ مَا بدا لَك. فَأخذت أَربع مائَة دِينَار، وانصرفت، فقصصت قصتي على صديق لي، وأريته الدَّنَانِير، وَسَأَلته أَن يقْصد غرمائي، ويتوسط بيني وَبينهمْ، فَفعل. وَقَالُوا: نمهله بِالْمَالِ ثَلَاث سِنِين.

فَقلت: لَا، وَلَكِن يَأْخُذُونَ مني الثُّلُث عَاجلا، والثلثين فِي سنتَيْن، فِي كل سنة ثلثا، فرضوا بذلك، وأعطيتهم مِائَتي دِينَار، وَفتحت دكاني بالمائتي دِينَار الْبَاقِيَة. فَمَا حَال الْحول إِلَّا وَمَعِي ألف دِينَار، فَقضيت ديني، وَمَا زَالَ مَالِي يزِيد، وحالي يصلح، وَالْحَمْد لله.

طاهر بن يحيى العلوي وجرايته من الحاج الخراساني

طَاهِر بن يحيى الْعلوِي وجرايته من الْحَاج الْخُرَاسَانِي وَالْخَبَر الآخر، مَا حَدثنِي بِهِ أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق، عَن أبي الْقَاسِم بن أماجور المنجم، قَالَ: كنت إِذا حججْت، دخلت على طَاهِر بن يحيى الْعلوِي، فَرَأَيْت عِنْده خراسانيا، كَانَ يحجّ فِي كل سنة، فَإِذا دخل الْمَدِينَة، جَاءَ إِلَى طَاهِر بن يحيى فَأعْطَاهُ مِائَتي دِينَار، فَكَانَت كالجراية لَهُ مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض السنين، جَاءَ يُرِيد دَاره؛ ليعطيه المائتي دِينَار، فاعترضه رجل من أهل الْمَدِينَة، فشنع بطاهر عِنْده، وَقَالَ لَهُ: تضيع دنانيرك الَّتِي تدفعها إِلَى طَاهِر، وَهُوَ يَأْخُذهَا مِنْك وَمن غَيْرك، فيصرفها فِيمَا يكرههُ الله تَعَالَى، وَيفْعل ويصنع، وَتكلم فِيهِ بقبيح. قَالَ الْخُرَاسَانِي: فَانْصَرَفت عَنهُ، وتصدقت بِالدَّنَانِيرِ، وَخرجت من الْمَدِينَة، وَلم ألق طَاهِرا. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الثَّانِي دخلت الْمَدِينَة، فتصدقت بِالْمَالِ، وطويت طَاهِرا.

فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الثَّالِث تأهبت لِلْحَجِّ، فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامِي، يَقُول لي: وَيحك قبلت فِي ابْني طَاهِر قَول أعدائه، وَقطعت عَنهُ مَا كنت تبره بِهِ؟ لَا تفعل، فاقصده، وأعطه مَا فَاتَهُ، وَلَا تقطعه عَنهُ مَا اسْتَطَعْت. قَالَ: فانتبهت فَزعًا، ونويت ذَلِك، وَأخذت صرة فِيهَا سِتّ مائَة دِينَار، وحملتها معي، فَلَمَّا صرت بِالْمَدِينَةِ بدأت بدار طَاهِر، فَدخلت عَلَيْهِ وَجَلَست، ومجلسه حفل. فحين رَآنِي، قَالَ: يَا فلَان، لَو لم يبْعَث بك إِلَيْنَا مَا جئتنا. فَقلت: كلمة وَافَقت أمرا، لَيْسَ إِلَّا أَن أتغافل، فَقلت: مَا معنى هَذَا الْكَلَام أصلحك الله؟ فَقَالَ: قبلت فِي قَول عَدو الله، وعدو رَسُوله، وَقطعت عادتك عني، حَتَّى لامك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامك وأمرك أَن تُعْطِينِي السِّت مائَة دِينَار، هَاتِهَا، وَمد يَده إِلَيّ. فتداخلني من الدهش مَا ذهلت مَعَه، فَقلت: أصلحك الله، هَكَذَا وَالله كَانَت الْقَضِيَّة، فَمن أعلمك بذلك؟ فَقَالَ لي: بَلغنِي خبر دخولك الْمَدِينَة فِي السّنة الأولى، فَلَمَّا رَحل الْحَاج وَلم تأتني أثر ذَلِك فِي حَالي، وَسَأَلت عَن الْقِصَّة، فَعرفت أَن بعض أَعْدَائِنَا لقيك، فشنع بِي عنْدك، فآلمني ذَلِك. فَلَمَّا كَانَ فِي الْحول الثَّانِي، بَلغنِي دخولك وخروجك، وَأَنَّك قد عملت على قَوْله فيَّ فازددت غما لذَلِك. فَلَمَّا كَانَ مُنْذُ شهور، ازدادت إضاقتي، وَامْتنع مني النّوم غما لما دفعت إِلَيْهِ، فَفَزِعت إِلَى الصَّلَاة، فَصليت مَا شَاءَ الله، وَأَقْبَلت أَدْعُو بالفرج، فحملتني عَيْني فِي الْمِحْرَاب، فَنمت، فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامِي، وَهُوَ

يَقُول لي: لَا تهتم، فقد لقِيت فلَانا الْخُرَاسَانِي، وعاتبته على قبُوله فِيك قَول أعدائك، وأمرته أَن يحمل إِلَيْك مَا فاتك، وَلَا يقطع عَنْك بعْدهَا ذَلِك، ويبرك مَا اسْتَطَاعَ، وانتبهت، فحمدت الله وشكرته، فَلَمَّا رَأَيْتُك علمت أَن الْمَنَام جَاءَ بك. قَالَ: فأخرجت الصرة الَّتِي فِيهَا سِتّ مائَة دِينَار، فدفعتها إِلَيْهِ، وَقبلت يَده، وَسَأَلته أَن يُحِلنِي من قبُول قَول ذَلِك الرجل فِيهِ.

قصة العلوية الزمنة

قصَّة العلوية الزمنة حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن فَهد الْأَزْدِيّ، قَالَ: كَانَ فِي شَارِع دَار الرَّقِيق، جَارِيَة علوِيَّة، أَقَامَت زمنة خمس عشرَة سنة، وَكَانَ أبي فِي جوارها، أَيَّام نزولنا بدرب المعوج من هَذ الشَّارِع، فِي دَار شَفِيع المقتدري، الَّتِي كَانَ اشْتَرَاهَا، يتفقدها، ويبرها، وَكَانَت مسجاة، لَا يُمكنهَا أَن تنْقَلب من جنب إِلَى جنب، أَو تقلب، وَلَا تقعد، أَو تقعد، وَكَانَ لَهَا من يخدمها فِي ذَلِك، وَفِي الإنجاء، وَالْأكل، لقُصُور أطرافها، وأعضائها، وَكَانَت فقيرة، إِنَّمَا قوتها وقوت خادمتها من بر النَّاس.

فَلَمَّا مَاتَ أبي اخْتَلَّ أمرهَا، وَبلغ تجني، أم ولد الْوَزير المهلبي خَبَرهَا، فَكَانَت تقوم بأمرها، وأجرت عَلَيْهَا جراية فِي كل شهر، وَكِسْوَة فِي كل سنة. فباتت لَيْلَة من اللَّيَالِي على حَالهَا، وأصبحت من الْغَد، وَقد برأت، ومشت، وَقَامَت، وَقَعَدت. وَكنت مجاورا لَهَا، وَكنت أرى النَّاس يأْتونَ بَاب دارها، فأنفذت امْرَأَة من دَاري، ثِقَة، حَتَّى شاهدتها، وَسمعتهَا تَقول: إِنِّي ضجرت بنفسي ضجرا شَدِيدا، فدعوت الله تَعَالَى بالفرج مِمَّا أَنا فِيهِ، أَو الْمَوْت، وبكيت بكاء شَدِيدا مُتَّصِلا، وَبت وَأَنا متألمة، قلقة، ضجرة، وَكَانَ سَبَب ذَلِك، أَن الْجَارِيَة الَّتِي كَانَت تخدمني تضجرت بِي، وخاطبتني بِمَا ضَاقَ صَدْرِي مَعَه. فَلَمَّا استثقلت فِي نومي رَأَيْت كَأَن رجلا دخل عَليّ، فارتعت مِنْهُ، وَقلت لَهُ: يَا هَذَا، كَيفَ تستحل أَن تراني؟ فَقَالَ: أَنا أَبوك، فظننته أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هُوَ ذَا ترى مَا أَنا فِيهِ.

فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد رَسُول الله. فَبَكَيْت، وَقلت: يَا رَسُول الله، ادْع لي بالفرج والعافية. فحرك شَفَتَيْه بِشَيْء لَا أفهمهُ، ثمَّ قَالَ: هَاتِي يَديك، فأعطيته يَدي، وَأَخذهمَا، وجذبني بهما، فَقُمْت. فَقَالَ: امشي على اسْم الله. فَقلت: كَيفَ أَمْشِي؟ فَقَالَ: هَاتِي يَديك، فَأَخذهُمَا، وَمَا زَالَ يمشي بِي، وهما فِي يَدَيْهِ سَاعَة، ثمَّ أجلسني، حَتَّى فعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات. ثمَّ قَالَ لي: قد وهب الله لَك الْعَافِيَة، فاحمديه واتقيه، وَتَرَكَنِي وَمضى. فانتبهت، وَأَنا لَا أَشك أَنه وَاقِف، لسرعة الْمَنَام، فَصحت بالخادم، فظنت أَنِّي أُرِيد الْبَوْل، فتثاقلت. فَقلت لَهَا: وَيحك، أسرجي، فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فانتبهت، فوجدتني مسجاة، فشرحت لَهَا الْمَنَام. فَقَالَت: أَرْجُو أَن يكون الله تَعَالَى قد وهب لَك الْعَافِيَة، هَاتِي يدك، فأعطيتها يَدي، فأجلستني. ثمَّ قَالَت لي: قومِي، فَقُمْت مَعهَا، ومشيت متوكئة عَلَيْهَا، ثمَّ جَلَست، فَفعلت ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، الْأَخِيرَة فِيهِنَّ مشيت وحدي. فصاحت الخادمة سُرُورًا بِالْحَال، وإعظاما لَهَا، فَقدر الْجِيرَان أَنِّي قد مت، فَجَاءُوا، فَقُمْت أَمْشِي بَين أَيْديهم. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَمَا زَالَت قوتها تزيد، إِلَى أَن رَأَيْتهَا قد جَاءَت إِلَى والدتي فِي خف وَإِزَار، بعد أَيَّام، وَلَا دَاء بهَا، فبررناها، وَهِي إِلَى الْآن بَاقِيَة، وَهِي من أصلح وَأَوْرَع أهل زَمَاننَا، وَقد تزوجت بِرَجُل علوي مُوسر، وصلحت

حَالهَا، وَلَا تعرف إِلَى الْآن، إِلَّا بالعلوية الزمنة. فَمضى على هَذَا الحَدِيث سنُون كَثِيرَة، وَجرى بيني وَبَين القَاضِي أبي بكر مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، الْمَعْرُوف بِابْن قريعة، مذاكرة بالمنامات، فَحَدثني بِحَدِيث مَنَام هَذِه العلوية، وقصتها، وعلتها، على مثل مَا حَدثنِي بِهِ أَبُو مُحَمَّد، وَقَالَ: وَأَنا كنت أحمل إِلَيْهَا جرايتها من عِنْد تجني، جَارِيَة الْوَزير أبي مُحَمَّد المهلبي، وكسوتها على طول السنين، وَسمعت مِنْهَا هَذَا الْمَنَام، ورأيتها تمشي بعد ذَلِك صَحِيحَة، بِلَا قلبة، وتجيء إِلَى تجني، وتجني

زوجتها بالعلوي، وأعطتني مَالا، فَقُمْت بتجهيزها، وأمرها، حَتَّى أعرس بهَا زَوجهَا، وَهِي إِلَى الْآن من خِيَار النِّسَاء. قَالَ مؤلف الْكتاب: وحَدثني بعد هَذَا جمَاعَة أسكن إِلَيْهِم من أهل شَارِع دَار الرَّقِيق، بِخَبَر هَذِه العلوية، على قريب من هَذَا، وَهِي بَاقِيَة إِلَى حِين معرفتي بخبرها فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَثَلَاث مائَة. ثمَّ كنت فِي سنة سبع وَسبعين وَثَلَاث مائَة عِنْد أبي الْفَتْح أَحْمد بن عَليّ بن هَارُون المنجم، فَرَأَيْت فِي دَاره بدرب سُلَيْمَان من شَارِع دَار الرَّقِيق وَأَنا عِنْده، امْرَأَة عجوزا، قد دخلت، فأعظمها. فَقلت: من هَذِه؟ فَقَالَ: العلوية الزمنة، صَاحِبَة الْمَنَام، وَكَانَت تمشي بخفها وإزارها. فسألتها أَن تجْلِس، فَفعلت، واستخبرتها، فحدثتني، فَقَالَت: اعتللت من برسام، وَأَنا فِي حُدُود عشْرين سنة من عمري، ثمَّ انجلى عني، وَقد لحق حقوي شَيْء أزمنني، فَكنت مطروحة على الْفراش سبعا

وَعشْرين سنة، لَا أقدر أَن أقعد، وَلَا أقوم أصلا، وأنجو فِي موضعي، وأغسل، وَكنت مَعَ ذَلِك، لَا أجد ألما. ثمَّ بعد سِنِين كَثِيرَة من علتي، رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي مَنَامِي، وَأَنا أَقُول لَهُ: يَا جدي، ادْع الله عز وَجل أَن يفرج عني، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا وقتك. ثمَّ رَأَيْت أَمِير الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنهُ، فَقلت لَهُ: أما ترى مَا أَنا فِيهِ، فاسأل رَسُول الله أَن يَدْعُو لي، أَو ادْع لي أَنْت، فَكَأَنَّهُ قد دافعني. ثمَّ توالت عَليّ بعد ذَلِك رؤيتي لَهما فِي النّوم، فَجرى بيني وَبَينهمَا قريب من هَذَا، وَرَأَيْت الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا، وَكَأَنِّي أسأَل كل وَاحِد مِنْهُمَا الدُّعَاء بالعافية، فَلَا يفعل. فَلَمَّا مَضَت سبع وَعِشْرُونَ سنة لَحِقَنِي ألم شَدِيد، أَيَّامًا فِي حقوي فقاسيت مِنْهُ شدَّة شَدِيدَة، فَأَقْبَلت أبْكِي، وأدعو الله بالفرج. فَرَأَيْت لَيْلَة فِي مَنَامِي، النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعرفته؛ لِأَنِّي كنت أرَاهُ طول تِلْكَ السنين على صُورَة وَاحِدَة، وَكَأَنِّي أَقُول لَهُ: يَا جدي، مَتى يفرج الله عني؟ فَكَأَنَّهُ أَدخل يَده فِي طرف كمي، وجس بدني، من أَوله إِلَى آخِره، حَتَّى بلغ حقوي، فَوضع يَده عَلَيْهِ، وَتكلم بِكَلَام لَا أفهمهُ، ثمَّ ردني على قفاي، كَمَا كنت نَائِمَة، وَقَالَ: قد فرج الله عَنْك، فقومي. فَقلت: كَيفَ أقوم؟ فَقَالَ: هَاتِي يدك، فأعطيته يَدي، فأقعدني. ثمَّ قَالَ: قومِي على اسْم الله. فَقُمْت، ثمَّ خطا بِي خطوَات يسيرَة، وَقَالَ: قد عوقبت. فانتبهت، وَأَنا مستلقية على ظَهْري، كَمَا كنت نَائِمَة، إِلَّا أنني فرحانة،

فرمت الْقعُود، فَقَعَدت لنَفْسي وحدي، ودليت رجْلي من السرير، فتدلتا، فرمت الْقيام عَلَيْهِمَا، فَقُمْت، ومشيت، فَقلت للْمَرْأَة الَّتِي تخدمني: لست آمن أَن يشيع خبري، فيتكاثر النَّاس عَليّ، فيؤذوني، وَأَنا ضيعفة من الْأَلَم الَّذِي لَحِقَنِي، إِلَّا أَنِّي كنت لما انْتَبَهت، لم أحس بِشَيْء من الْأَلَم، وَلم أجد غير ضعف يسير. فَقلت: اكْتُمِي أَمْرِي يَوْمَيْنِ، إِلَى أَن صلحت قوتي فيهمَا، وزادت قدرتي على الْمَشْي وَالْحَرَكَة، وَفَشَا خبري، وَكثر النَّاس عَليّ، فَلَا أعرف إِلَى الْآن، إِلَّا بالعلوية الزمنة. فسألتها عَن نَسَبهَا، فَقَالَت: أَنا فَاطِمَة بنت عَليّ بن الْحسن بن الْقَاسِم بن عبد الله بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم، لم تذكر لي غير هَذَا، وَلَا سَأَلتهَا عَنهُ.

أبو القاسم السعدي يرى مناما فيتوب عن فعل المنكر

أَبُو الْقَاسِم السَّعْدِيّ يرى مناما فيتوب عَن فعل الْمُنكر حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن فَهد الْأَزْدِيّ الْموصِلِي، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْقَاسِم السَّعْدِيّ يحدث أبي بِبَغْدَاد، قَالَ: كنت وَأَنا حدث السن، مشغوفا بِغُلَام لبي شغفا شَدِيدا، منهمكا مَعَه فِي الْفساد، فَكَانَ رُبمَا هجرني، فأترضاه بِكُل مَا أقدر عَلَيْهِ، حَتَّى يرضى. قَالَ: وَإنَّهُ غضب عَليّ مرّة غَضبا شَدِيدا، فهرب، واستتر عني خَبره، فلحقني من الْحيرَة والوله، مَا قطعني عَن النّظر فِي أَمْرِي، وصيرني كَالْمَجْنُونِ، وَاجْتَهَدت فِي صرف ذَلِك عني فَمَا انْصَرف. وَحضر وَقت خُرُوج النَّاس إِلَى الحائر، على ساكنه أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكتبت رقْعَة أسأَل الله عز وَجل فِيهَا الْفرج مِمَّا أَنا فِيهِ، وأتوسل إِلَى الله تَعَالَى بالحسين بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، ودفعتها إِلَى بعض من خرج، وَسَأَلته أَن يَدْفَعهَا فِي نَاحيَة من الْقَبْر. وَكَانَت لَيْلَة النّصْف من شعْبَان، فَفَزِعت إِلَى الله، فِي كشف مَا بِي، وتفردت بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاء، قِطْعَة من اللَّيْل، ثمَّ حَملَنِي النّوم.

فَرَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَنِّي فِي مَقَابِر قُرَيْش، وَالنَّاس مجتمعون فِيهَا، إِذْ قيل: قد جَاءَ الْحُسَيْن بن عَليّ، وَفَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للزيارة. فتشوفت لرؤيتهما، فَإِذا بالحسين، فِي صُورَة كهل، حسن الْوَجْه، بدراعة، وعمامة، وخف، قد أقبل، وَمَعَهُ فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام، متنقبة بنقاب أَبيض، وَمِلْحَفَة بَيْضَاء. فاعترضت الْحُسَيْن، وَقلت: يَابْنَ رَسُول الله، كتبت إِلَيْك رقْعَة فِي حَاجَة لي، فَإِن رَأَيْت أَن تعْمل فِيهَا؟ فَلم يجبني، وَدخل إِلَى الْقبَّة الَّتِي فِيهَا مُحَمَّد بن عَليّ بن مُوسَى رَضِي الله عَنْهُم، وَدخلت فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام مَعَه، وَكَأن قوما قد وقفُوا يمْنَعُونَ النَّاس من الدُّخُول إِلَيْهَا، فمل أزل أكابس وأتوصل، إِلَى أَن دخلت، فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْخطاب، فَلم يجبني. فَقلت لفاطمة: يَا سيدة النِّسَاء، إِن رَأَيْت أَن تعملي فِي أَمْرِي. فَقَالَت: على أَن تتوب؟ فَقلت: نعم. فَقَالَت: الله؟ فَقلت: الله. فكررت ذَلِك عَليّ ثَلَاثًا، ثمَّ أَوْمَأت إِلَى جمَاعَة مِمَّن كَانُوا قيَاما، فَقَالَت: خذوه، فأخذوني، ونزعت خَاتمًا من يَدهَا فَدَفَعته إِلَيْهِم، وخاطبتهم بِمَا لم أفهمهُ، فحملوني حَتَّى غبت من عينهَا، وأضجعوني وحلوا سراويلي وشدوا

ذكري بخيط حَلَبِيّ، وَوَضَعُوا على الشد طينا وختموه بالخاتم. فورد عَليّ من الْأَلَم أَمر عَظِيم أنبهني، فانتبهت وَقد أثر الْخَيط فِي الْموضع، وَصَارَ أثر الْخَاتم كَأَنَّهُ الجديري، مستديرا حول الْموضع، ثمَّ قَالَ لأبي: إِن شِئْت كشفت لَك فأريتك، فقد أريته لجَماعَة، فَقَالَ: لَا أستحل النّظر إِلَى ذَلِك. قَالَ السَّعْدِيّ: فَأَصْبَحت من غَد، وَمَا فِي قلبِي أَلْبَتَّة من الْغُلَام شَيْء، وابتعت الْجَوَارِي، فَكنت أطأهن، لَا أنكر من جماعي شَيْئا. ثمَّ طالبتني بالغلمان، فدافعتها مُدَّة، ثمَّ غلبتني الشَّهْوَة، فاستدعيت غُلَاما، فَلم أقدر عَلَيْهِ، واسترخى الْعُضْو، وَبَطل، فَلَمَّا فارقته، أنعظت، فعاودته، فاسترخى، فجربت ذَلِك على عدَّة غلْمَان، فَكَانَت صُورَتي وَاحِدَة فجددت تَوْبَة ثَانِيَة، وَمَا نقضتها بعد ذَلِك. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَكَانَ أَبُو عَليّ الْقَارئ الضَّرِير، قد سمع معي هَذَا الْخَبَر من السَّعْدِيّ، فَأَخْبرنِي بعد مُدَّة طَوِيلَة، وَحلف لي على ذَلِك، أَنه رأى فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا، فِي النّوم، قَالَ: فَقلت لَهَا: يَا سيدتي، مَنَام السَّعْدِيّ الَّذِي حَكَاهُ صَحِيح؟ فَقَالَت: نعم.

أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيف

أَبُو جَعْفَر بن بسطَام لَهُ قصَّة فِي رغيف حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد الْأَنْبَارِي الْكَاتِب، قَالَ: كَانَ ابْن الْفُرَات، يتبع أَبَا جَعْفَر بن بسطَام بالأذية، ويقصده بالمكاره، فلقي مِنْهُ فِي ذَلِك شَدَائِد كَثِيرَة. وَكَانَت أم أبي جَعْفَر قد عودته مُنْذُ كَانَ طفْلا، أَن تجْعَل لَهُ فِي كل لَيْلَة، تَحت مخدته الَّتِي ينَام عَلَيْهَا، رغيفا من الْخبز، فَإِذا كَانَ فِي غَد، تَصَدَّقت بِهِ، عَنهُ. فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة من أذية ابْن الْفُرَات لَهُ، دخل إِلَى ابْن الْفُرَات فِي شَيْء احْتَاجَ إِلَى ذَلِك فِيهِ، فَقَالَ لَهُ ابْن الْفُرَات: لَك مَعَ أمك خبر فِي رغيف؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: لَا بُد أَن تصدقني. فَذكر أَبُو جَعْفَر الحَدِيث، فحدثه بِهِ على سَبِيل التطايب بذلك من أَفعَال النِّسَاء. فَقَالَ ابْن الْفُرَات: لَا تفعل، فَإِنِّي بت البارحة، وَأَنا أدبر عَلَيْك تدبيرا لَو تمّ لاستأصلتك، فَنمت، فَرَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَن بيَدي سَيْفا مسلولا، وَقد قصدتك لأقتلك بِهِ، فاعترضتني أمك بِيَدِهَا رغيف تترسك بِهِ مني، فَمَا وصلت إِلَيْك، وانتبهت. فَعَاتَبَهُ أَبُو جَعْفَر على مَا كَانَ بَينهمَا، وَجعل ذَلِك طَرِيقا إِلَى

استصلاحه، وبذل لَهُ من نَفسه مَا يُريدهُ من حسن الطَّاعَة، وَلم يبرح حَتَّى أرضاه، وصارا صديقين. وَقَالَ لَهُ ابْن الْفُرَات: وَالله، لَا رَأَيْت مني بعْدهَا سوءا أبدا.

بينما كان يترقب القتل وافاه الفرج في مثل لمح البصر

بَيْنَمَا كَانَ يترقب الْقَتْل وافاه الْفرج فِي مثل لمح الْبَصَر ذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كِتَابه، كتاب (الوزراء) ، عَن أبي الْعَبَّاس بن الْفُرَات، عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن يُونُس، عَن أَبِيه، أَنه كَانَ يكْتب لرجاء بن أبي الضَّحَّاك، وَهُوَ بِدِمَشْق، وَأَن عَليّ بن إِسْحَاق بن يحيى بن معَاذ، كَانَ يتقلد خلَافَة صول أرتكين على المعونة بِدِمَشْق، فَوَثَبَ على رَجَاء، فَقتله، وَقبض على جمَاعَة من أَسبَابه، وَأمر بحبسي، فحبست فِي يَدي سجان كَانَ جارا لي، فَكَانَ يأتيني بالْخبر سَاعَة بساعة. فَدخل إِلَيّ، وَقَالَ: قد أخرج رَأس صَاحبك رَجَاء على قناة. ثمَّ جَاءَنِي، وَقَالَ: قد قتل مطببه، ثمَّ جَاءَنِي، فَقَالَ: قد قتل ابْن عَمه، ثمَّ جَاءَنِي، فَقَالَ: قد قتل كَاتبه الآخر. ثمَّ قَالَ: السَّاعَة، وَالله، يدعى بك لتقتل، فقد سَمِعت نبأ ذَلِك، فنالني جزع شَدِيد، وَخرج السجان، فأقفل الْبَاب عَليّ. فدعي بِي، فدافع عني، وَقَالَ: الْبَيْت الَّذِي هُوَ فِيهِ مقفل، والمفتاح مَعَ

شَرِيكي، والساعة يَجِيء، وَبعث فِي طلبه. فنالني فِي تِلْكَ السَّاعَة نُعَاس، فَرَأَيْت فِي مَنَامِي، كَأَنِّي ارتطمت فِي طين كثير، وَكَأَنِّي قد خرجت، وَمَا بل قدمي مِنْهُ شَيْء، فَاسْتَيْقَظت وتأولت الْفرج، وَسمعت حَرَكَة شَدِيدَة، فَلم أَشك أَنَّهَا لطلبي، فعاودني الْجزع. فَدخل السجان، فَقَالَ: أبشر، فقد أَخذ الْجند عَليّ بن إِسْحَاق فحبسوه. فَلم ألبث حَتَّى جَاءَنِي الْجند، فأخرجوني، وَجَاءُوا بِي إِلَى مجْلِس عَليّ بن إِسْحَاق الَّذِي كَانَ فِيهِ جَالِسا، وقدامه دَوَاة وَكتاب قد كَانَ كتبه إِلَى المعتصم فِي تِلْكَ السَّاعَة، يُخبرهُ بِخَبَر قَتله رَجَاء، وَجعل لَهُ ذنوبا، ولنفسه معاذير. وَسَماهُ رَجَاء الْمَجُوسِيّ، وَالْكَافِر، فخرقت الْكتاب، وكتبت بالْخبر كَمَا يجب إِلَى المعتصم. فحبس طَويلا، ثمَّ أظهر الوسواس، وَتكلم فِيهِ أَحْمد بن أبي دؤاد فَأطلق.

المنصور يرى مناما فيرفع الظلامة عن محبوس

الْمَنْصُور يرى مناما فيرفع الظلامة عَن مَحْبُوس وجدت فِي بعض الْكتب: أَن الْمَنْصُور اسْتَيْقَظَ من مَنَامه لَيْلَة من اللَّيَالِي، وَهُوَ مذعور لرؤيا رَآهَا، فصاح بِالربيعِ، وَقَالَ لَهُ: صر السَّاعَة إِلَى الْبَاب الثَّانِي الَّذِي يَلِي بَاب الشَّام فَإنَّك ستصادف هُنَاكَ رجلا مجوسيا مُسْتَندا إِلَى الْبَاب الْحَدِيد، فجئني بِهِ، فَمضى الرّبيع مبادرا، وَعَاد والمجوسي مَعَه. فَلَمَّا رَآهُ الْمَنْصُور، قَالَ: نعم، هُوَ هَذَا، مَا ظلامتك؟ قَالَ: إِن عاملك بالأنبار جاورني فِي ضَيْعَة لي، فسامني أَن أبيعه إِيَّاهَا، فامتنعت؛ لِأَنَّهَا معيشتي، وَمِنْهَا أقوت عيالي، فغصبني إِيَّاهَا. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: فَبِأَي شَيْء دَعَوْت قبل أَن يصير إِلَيْك رَسُولي؟ قَالَ: قلت: اللَّهُمَّ إِنَّك حَلِيم ذُو أَنَاة، وَلَا صَبر لي على أناتك. فَقَالَ الْمَنْصُور للربيع: أشخص هَذَا الْعَامِل، وَأحسن أدبه، وانتزع ضَيْعَة هَذَا الموجسي من يَده، وَسلمهَا إِلَى هَذَا الْمَجُوسِيّ، وابتع من الْعَامِل ضيعته، وَسلمهَا إِلَيْهِ أَيْضا. فَفعل الرّبيع ذَلِك كُله فِي بعض نَهَار يَوْم، وَانْصَرف الْمَجُوسِيّ، وَقد فرج الله عَنهُ، وزاده، وَأحسن إِلَيْهِ.

صاحب الشرطة ببغداد يرى مناما يرشده إلى القاتل ويبرئ فيجا مظلوما

صَاحب الشرطة بِبَغْدَاد يرى مناما يرشده إِلَى الْقَاتِل وَيُبرئ فيجا مَظْلُوما وجدت فِي كتاب: حدث الْقَاسِم بن كرسوع، صَاحب أبي جَعْفَر محبرة، قَالَ: كَانَ ابْن أبي عون، صَاحب الشرطة، قد وعد محبرة أَنه يَجِيئهُ للإقامة عِنْده، وَالشرب مصطبحا على ستارته فِي يَوْم الثُّلَاثَاء، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، وَتعلق قلب محبرة بتأخره، فَبعث غُلَاما لَهُ يَطْلُبهُ وَيعرف خَبره فِي تَأَخره. فَعَاد إِلَى محبرة، وَقَالَ: وجدته فِي مجْلِس الشرطة، يضْرب رجلا بالسياط، وَذكر أَنه يَجِيء السَّاعَة، فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، جَاءَ ابْن أبي عون، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: أفسدت صبوحنا، وشغلت قلبِي بتأخرك، فَمَا سَبَب ذَلِك؟

فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت البارحة فِي مَنَامِي، كَأَنِّي بكرت بلَيْل لأجيك، وَلَيْسَ بَين يَدي إِلَّا غُلَام وَاحِد، فسرت فِي خراب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُصعب، لأجيء إِلَى رحبة الجسر، فَإِنِّي لأسير فِي الْقَمَر، إِذْ رَأَيْت شَيخا بهيا نظيف الثَّوْب، على رَأسه قلنسوة لاطية، وَفِي يَده عكاز، فَسلم عَليّ، وَقَالَ: إِنِّي أرشدك إِلَى مَا فِيهِ مثوبة: فِي حَبسك فيج مظلوم، وافى من الْمَدَائِن،

فِي وَقت ضيق، فاتهم بِأَنَّهُ قتل رجلا، وَهُوَ بَرِيء من دَمه، وَقد ضرب وَحبس، وَقَاتل الرجل غَيره، وَهُوَ فِي غرفَة وسطى من ثَلَاث غرف مَبْنِيَّة على طاق العكي بالكرخ، واسْمه فلَان بن فلَان، ابْعَثْ من يَأْخُذهُ، فَإنَّك ستجده سَكرَان، عُرْيَان، بسراويل، وَفِي يَده سكين مخضبة بِالدَّمِ، فَاصْنَعْ بِهِ مَا ترى، وَأطلق الفيج البائس. قلت: أفعل، وانتبهت، فركبت، وسرت، حَتَّى وافيت رحبة الجسر، فَقلت: مَا حدث فِي هَذِه اللَّيْلَة؟

فَقَالُوا: وجدنَا هَذَا الْقَتِيل، وَهَذَا الفيج مَعَه، فضربناه، وَلم يقر. فَرَأَيْت بِهِ أثر ضرب عَظِيم، فَسَأَلته عَن خَبره، فَقَالَ: أَنا مَعْرُوف بِالْمَدَائِنِ بسلامة الطَّرِيقَة، ومعاشي التفيج، أنفذني فلَان بن فلَان من الْمَدَائِن، إِلَى فلَان بن فلَان من أهل بَغْدَاد، بِهَذِهِ الْكتب، وَأخرج إضبارة، فَدخلت أَوَائِل بَغْدَاد وَقت الْعَتَمَة، فوجت فِي الطَّرِيق رجلا مقتولا، فَجَزِعت، وَلم أدر أَيْن آخذ، فَأَنا على حَالي إِذْ أدركني الأعوان، فظنوني قتلته، وَوَاللَّه مَا أعرفهُ، وَلَا رَأَيْته قطّ، وَقد حبسوني وضربوني، فَالله، الله، فِي دمي. فَقلت: قد فرج الله عَنْك، انْطلق حَيْثُ شِئْت، ثمَّ أخذت الرجالة، ومضيت إِلَى طاق العكي، فَإِذا الثَّلَاث غرف مصطفة، فهجمت على الْوُسْطَى، فَإِذا فِيهَا رجل سَكرَان عَلَيْهَا سَرَاوِيل فَقَط، وَفِي يَده سكين مخضب بِالدَّمِ، وَهُوَ يَقُول: أَخ عَلَيْك، والك، نعم يَا سَيِّدي، أَنا جرحته، أَخُو القحبة، وَإِن مَاتَ فَأَنا قتلته، فأنزلته مكتوفا، وَبعثت بِهِ إِلَى الْحَبْس، وانحدرت إِلَى الْمُوفق، فأعلمته بِالْحَدِيثِ، فتعجب، وَتقدم إِلَيّ أَن أضْرب الْقَاتِل بالسياط إِلَى أَن يتْلف، وأصلبه فِي مَوضِع جِنَايَته، فتشاغلت بذلك إِلَى أَن فرغت مِنْهُ، ثمَّ جئْتُك.

عزم على قتله ثم من عليه وأطلقه ثم يمن عليه ويطلقه

عزم على قَتله ثمَّ من عَلَيْهِ وَأطْلقهُ ثمَّ يمن عَلَيْهِ ويطلقه حَدثنِي عَليّ بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، وَكَانَ ابْن أخي مُوسَى بن إِسْحَاق القَاضِي الْأنْصَارِيّ، قَالَ: كنت خرجت مَعَ أبي، وَهُوَ يكْتب لأبي جَعْفَر الْكَرْخِي مُحَمَّد بن الْقَاسِم، لما تقلد الْموصل والديارات، وَكَانَ قد ضم إِلَى أبي جَعْفَر جمَاعَة من قواد السُّلْطَان، فَلَمَّا صرنا بنصيبين كَانَ أبي قد مضى وَأَنا مَعَه إِلَى أبي الْعَبَّاس أَحْمد

بن كشمرد مُسلما عَلَيْهِ، فتحدثا، فَسَمعته يحدثه، قَالَ: لما أسرني أَبُو طَاهِر القرمطي، فِيمَن أسره بالهبير، حَبَسَنِي وَأَبا الهيجاء،

والغمر، فِي ثَلَاث حجر مُتَقَارِبَة، ومكننا أَن نتزاور، ونجتمع على الحَدِيث. فمكن أَبَا الهيجاء خَاصَّة، واختص بِهِ، وَعمل على إِطْلَاقه، وشفعه فِي أَشْيَاء. فَسَأَلت أَبَا الهيجاء أَن يسْأَله إطلاقي، فوعدني، واستدعاه القرمطي، فَمضى إِلَيْهِ وَعَاد إِلَى حجرته، فَجئْت وَسَأَلته: هَل خاطبه؟ فدافعني. فَقلت: لَعَلَّك أنسيت؟ فَقَالَ: لَا وَالله، ولوددت أَنِّي مَا ذكرتك لَهُ، إِنِّي وجدته متغيظا عَلَيْك، فَقَالَ: وَالله، لَأَضرِبَن عُنُقه عِنْد طُلُوع الشَّمْس فِي غَد. ورحل أَبُو الهيجاء، فورد عَليّ أَمر عَظِيم، وعدت إِلَى حُجْرَتي، وَقد يئست من الْحَيَاة، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل، رَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَن قَائِلا يَقُول لي: اكْتُبْ فِي رقْعَة: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، من العَبْد الذَّلِيل، إِلَى الْمولى الْجَلِيل، مسني الضّر وَالْخَوْف، وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ، فَبِحَق مُحَمَّد وَآل مُحَمَّد، اكشف همي وحزني، وَفرج عني، واطرح هَذِه الرقعة فِي هَذَا النَّهر، وَأَوْمَأَ إِلَى ساقية كَانَت تجْرِي هُنَاكَ فِي المطبخ. فانتبهت من نومي، وكتبت الرقعة، وطرحتها فِي الساقية. فَلَمَّا كَانَ السحر استدعاني القرمطي، فَلم أَشك أَنه الْقَتْل، فَلَمَّا دخلت إِلَيْهِ أدناني وأجلسني، وَقَالَ: قد كَانَ رَأْيِي فِيك غير هَذَا، إِلَّا أَنِّي قد رَأَيْت تخليتك.

فَخرجت، فَإِذا على الْبَاب رَاحِلَة، وَرجل يصحبني، فركبت، وَدخلت الْبَصْرَة سالما، وَلَحِقت أَبَا الهيجاء بهَا، فَدَخَلْنَا مَعًا إِلَى بَغْدَاد.

محمد بن سليمان الكاتب دخل مصر أجيرا ثم دخلها أميرا

مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْكَاتِب دخل مصر أَجِيرا ثمَّ دَخلهَا أَمِيرا قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن زكي: كنت مَعَ صَاحِبي عِيسَى النوشري، وَكَانَ مُضَافا لمُحَمد بن سُلَيْمَان الْكَاتِب على حَرْب الطولونية، إِلَى أَن افتتحت مصر، فتقلدها عِيسَى.

قَالَ: قَالَ عِيسَى: خرج يَوْمًا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان إِلَى ظَاهر الْفسْطَاط، فَانْتهى بِهِ السّير إِلَى قبَّة كَانَت لِأَحْمَد بن طولون، يُقَال لَهَا: قبَّة الْهَوَاء، مطلة على النّيل وعَلى الْبر، فَجَلَسَ فِيهَا وَمَعَهُ الْحُسَيْن بن حمدَان وَجَمَاعَة من القواد، ثمَّ قَالَ: الْحَمد لله الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمر كُله يفعل مَا يَشَاء. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن بن حمدَان: لَا شكّ أَن تجديدك الْحَمد لأمر. قَالَ: نعم، وَهُوَ عَجِيب طريف ذكرته السَّاعَة، وَهُوَ أَنِّي نزعت إِلَى مصر وَأَنا فِي حَال رثَّة، فِي زِيّ صغَار الأتباع، فَضَاقَ عَليّ المعاش بهَا؟ فاتصلت بلؤلؤ الطولوني، فَأجرى عَليّ دينارين فِي كل شهر، وصيرني مشرفا فِي

إصطبله على كراعه، فَكنت هُنَاكَ من حَيْثُ لَا يعرف وَجْهي جيدا، وَلَا أقدم على الْوُقُوف بَين يَدَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام أحضرني، فَقَالَ: وَيحك من أَيْن يعرفك الْأَمِير؟ يَعْنِي: أَحْمد بن طولون. فَقلت: وَالله، مَا رَآنِي قطّ، وَلَا وَقعت عينه عَليّ إِلَّا فِي الطَّرِيق، وَلَا محلي مَحل من يتَصَدَّى للقائه. فَقَالَ: دَعَاني السَّاعَة، وَهُوَ فِي قبَّة الْهَوَاء، فَقَالَ: مَعَك رجل أشقر أشهل، يُقَال لَهُ: مُحَمَّد بن سُلَيْمَان. فَقلت: مَا أعرفهُ. فَقَالَ: بل هُوَ فِي جنبتك، فَأَبْعَده عَنْك، فَإِنِّي رَأَيْته البارحة وَفِي يَده مكنسة يكنس دَاري بهَا، فتوق وَيحك، وَلَا تتعرف إِلَى أحد من حَاشِيَته، وأقرني على أَمْرِي، فامتثلت أمره. وَمَضَت لهَذَا الحَدِيث شهور، ثمَّ دَعَاني ثَانِيَة، فَقَالَ: وَيحك، مَاذَا بليت بِهِ مِنْك، وبليت أَنْت بِهِ من هَذَا الْأَمِير؟ دَعَاني بعدة من أَصْحَاب الرسائل، فوافيته وَأَنا فِي غَايَة الوجل، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمرتك بِصَرْف مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْأَزْرَق الْأَشْقَر؟ فَقلت: قد عرفتك يَا سَيِّدي أَنِّي مَا استخدمت من هَذِه سَبيله، وَلَا وَقعت لي عَلَيْهِ عين.

فَقَالَ: كذبت، هُوَ مَعَك فِي إصطبلك، فَأخْرجهُ السَّاعَة عَن الْبَلَد، فَإِنِّي قد رَأَيْته البارحة فِي النّوم، وَفِي يَده مكنسة، وَهُوَ يكنس بِهِ سَائِر حجري وداري، ونسأل الله الْكِفَايَة. فَقلت للؤلؤ: وَأي ذَنْب لَيْسَ يَا سَيِّدي فِي الأحلام؟ فَقَالَ لي: صدقت، فاستتر إِلَى أَن يتناسى الْأَمِير ذكرك، فَفعلت، وَكَانَ يجْرِي عَليّ ذَلِك الرزق، وَأَنا لَا أعمل شَيْئا. فَلَمَّا تهَيَّأ من إِنْفَاذ لُؤْلُؤ إِلَى الشَّام مَا تهَيَّأ، نهضت مَعَه، وتخلف عَنهُ كِتَابه، لما كَانُوا علموه من تغير حَاله عِنْد صَاحبه، فأدناني، وقربني، وأجرى عَليّ فِي كل شهر عشرَة دَنَانِير، وحملني على دَابَّة وبغل، فلزمت خدمته، وكفيته، واستحمدت إِلَيْهِ، فزادني من رَأْيه، وَلم ينْتَه إِلَى الْعَريش، حَتَّى تنبه أَحْمد بن طولون على استيحاش لُؤْلُؤ، فَكتب إِلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى مصر، فشاورني، فأشرت عَلَيْهِ بالانحدار إِلَى نواحي ديار مُضر، وَأخذ مَا يستهدف لَهُ من المَال، وَلم أترك غَايَة إِلَّا أتيتها فِي تضريبه وتأليبه، حَتَّى أوردته مَدِينَة السَّلَام. ثمَّ تقلبت بِي الْأَحْوَال فِي خدمَة السُّلْطَان، وخدمة الدول، وَتُوفِّي أَحْمد بن طولون، وَقتل أَبُو الْجَيْش، وجيش ابْنه، وَتَوَلَّى بعدهمْ هَارُون بن خمارويه،

فاختصصت أَنا بالقاسم بن عبيد الله، فقلدني ديوَان الْجَيْش، ثمَّ ندبني لمحاربة هَارُون، وَضم إِلَيّ القواد وَالرِّجَال، وَكَانَ فيهم لُؤْلُؤ صَاحِبي، وَكَانَ أَصْغَر الْجَمَاعَة حَالا، وأحقرهم شَأْنًا، خَالِيا من الرِّجَال والكراع، فَلم أقصر فِي إصْلَاح حَاله، وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَة حَقه. فَلم أدن من الشَّام حَتَّى تَلقانِي بدر الحمامي، وتلاه طغج بن جف مسرعا، وصرت إِلَى مصر، فَلَمَّا شارفتها وثب شَيبَان بن أَحْمد بن طولون وَمن تَابعه من جند مصر، فَقتلُوا هَارُون، وَتَوَلَّى شَيبَان الْأَمر بعده، وانثال إِلَيّ القواد فِي الْأمان وَلحق بهم شَيبَان، وتخلف الرجالة وَقطعَة من الفرسان، وأظهروا الْخلاف، فأوقعت بهم، وأفنيتهم قتلا وأسرا، وَدخلت فسطاط مصر عنْوَة، وحويت النعم والمهج، وأشخصت الطولونية عَن الْبَلَد إِلَى الحضرة، حَتَّى لم يبْق مِنْهُم أحد. وَصَحَّ بذلك مَنَام أَحْمد بن طولون، فسبحان الَّذِي مَا شَاءَ فعل، وإياه نسْأَل خير مَا تجْرِي بِهِ أقداره، وَأَن يخْتم لنا بِخَير برحمته.

شفاه منام رآه أحد أصحابه

شفَاه مَنَام رَآهُ أحد أَصْحَابه حَدثنِي أَبُو الْفرج عبد الْوَاحِد بن نصر الْكَاتِب الْمَعْرُوف بالببغاء، قَالَ: اعتللت بحلب عِلّة، جف مِنْهَا بدني كُله، فَكنت كالخشبة، لَا أقدر على أَن أتحرك أَو أحرك، وَنحل جسمي، وتقلبت بِي أعلال مُتَّصِلَة متضادة صعبة، فَمَكثت حَلِيف الْفراش ثَلَاث سِنِين، وآيسني الْأَطِبَّاء من الْبُرْء، وَقَطعُوا مداواتي. وَكَانَ لي صديق شيخ يعرف بِأبي الْفرج بن دارم، من أهل بلدي، يَعْنِي: نَصِيبين، مُقيم بحلب، مواظب على عيادتي، وملازم لي، وَكَانَ لفرط اغتمامه بِي، وَأَن الْأَطِبَّاء قد آيسوه مني، يظْهر لي من الْجزع عَليّ أمرا يؤلم قلبِي، ويؤيسني من نَفسِي، ثمَّ تجَاوز ذَلِك إِلَى التَّصْرِيح باليأس، وتوطيني عَلَيْهِ، ثمَّ تعدى هَذَا إِلَى أَن صَار لَا يملك دمعته إِذا خاطبني. فضعفت عَن تحمل هَذَا، وتضاعفت بِهِ علتي، وخارت مَعَه قوتي، فاعتقدت أَن أَقُول لغلامي أَن يترصده، فَإِذا جَاءَ الرجل إِلَيّ قَالَ لَهُ عني: إِنِّي لَا أستحسن حجابه، وَإِن علتي تضاعفت مِمَّا أشاهده، وأسمعه مِنْهُ، ويسأله أَن يَنْقَطِع عني، أَو يقطع مخاطبتي بِمَا فِيهِ إِيَاس لي، وقررت عزمي على هَذَا فِي لَيْلَة من اللَّيَالِي، وَلم أخاطب بِهِ غلامي.

فَلَمَّا كَانَ فِي صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة، باكرني ابْن دارم، فحين وَقعت عَيْني عَلَيْهِ، تثاقلت بِهِ خوفًا من أَن يسْلك معي مذْهبه، وهممت أَن أفْتَتح خطابه بِمَا كنت عزمت على مراسلته بِهِ، فَسَبَقَنِي بِأَن قَالَ لي: جئْتُك مبشرا. فَقلت: بِمَاذَا؟ قَالَ: رَأَيْت البارحة فِي مَنَامِي، كَأَنِّي بالرقة، وَالنَّاس يهرعون إِلَى زِيَارَة قُبُور الشُّهَدَاء. قَالَ أَبُو الْفرج: وهم جمَاعَة مِمَّن قتل بصفين مَعَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، مِنْهُم عمار بن يَاسر، حملُوا إِلَى ظَاهر الرقة، فدفنوا بهَا، وَالْحَال فِي ذَلِك مَشْهُور، والقبور إِلَى الْآن مغشية معمورة. قَالَ لي ابْن دارم: وَرَأَيْت كَأَن أَكثر النَّاس مطيفون بقبة، فَسَأَلت عَنْهَا، فَقيل لي: هِيَ على قبر عمار بن يَاسر رَضِي الله عَنهُ، فقصدتها، وطفت بهَا،

فَإِذا الْقَبْر مَكْشُوف، وَفِيه رجل شيخ، بِثِيَاب بيض، وَفِي رَأسه ضربات بَيِّنَة دامية، وعَلى لحيته دم، وَالنَّاس يسألونه فَيُجِيبهُمْ، فلحقتني حيرة، وَلم أدر عَمَّا أسأله. فَقلت لَهُ: يَا سَيِّدي، لَعَلَّك عَارِف بِأبي الْفرج عبد الْوَاحِد بن نصر المَخْزُومِي الْمَعْرُوف بالببغاء. فَقَالَ: نعم، أَنا عَارِف بِهِ. فَقلت: أيعيش أم لَا؟ فَقَالَ: نعم، يعِيش، وَيبرأ، وَلَكِن أَنْت لَك ابْن فاحذر عَلَيْهِ من عِلّة تلْحقهُ قَرِيبا، واستيقظت. وَأخذ يهنيني بالعافية، وَيَقُول: سرني مَا جرى، وَلَكِن قد أوحشني فِي أَمر ابْني، وأسأل الله تَعَالَى الْكِفَايَة. قَالَ أَبُو الْفرج: وَكَانَ للرجل ابْن، لَهُ نَحْو الثَّلَاثِينَ سنة، وَهُوَ فِي الْحَال معافى، فَلَمَّا مَضَت خَمْسَة أَيَّام من الرُّؤْيَا حم الْفَتى، وتزايدت علته، فَمَاتَ فِي الْيَوْم الرَّابِع عشر من يَوْم حم، فَقَوِيت نَفسِي فِي صِحَة الْمَنَام، وَمَا مضى على موت الْفَتى إِلَّا أَيَّام يسيرَة، حَتَّى أدبر مرضِي، وَلم تزل الْعَافِيَة تقوى إِلَى أَن عوفيت، وعادت صحتي كَمَا كَانَت بعد مُدَّة يسيرَة.

رأى الإسكندر رؤيا تبعها انتصاره على دارا ملك الفرس

رأى الْإِسْكَنْدَر رُؤْيا تبعها انتصاره على دَارا ملك الْفرس وجدت فِي بعض الْكتب: أَنه لما اشتدت الْحَرْب بَين الْإِسْكَنْدَر، وَبَين دَارا بن دَارا، استظهر دَارا عَلَيْهِ، وأشرف الْإِسْكَنْدَر على الْهَلَاك، وأيس من النَّصْر، وَحَال الشتَاء بَينهمَا، فَانْصَرف الْإِسْكَنْدَر إِلَى مُعَسْكَره، مغموما مهموما ليلته، ثمَّ نَام. فَرَأى فِي مَنَامه، كَأَنَّهُ صارع دَارا، فصرعه دَارا، فانتبه، وَقد كربه ذَلِك، وَزَاد فِي همه وغمه. فَقص رُؤْيَاهُ على بعض فلاسفته، فَقَالَ: أبشر أَيهَا الْملك بالغلبة والنصر، فَإنَّك تغلب دَارا على الأَرْض، لِأَنَّك كنت تَلِيهَا لما صرعك. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام يسيرَة انهزم دَارا، وَقتل، وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْإِسْكَنْدَر.

رؤيا عبد الله بن الزبير وتعبيرها

رُؤْيا عبد الله بن الزبير وتعبيرها قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَمثل هَذَا مَا هُوَ مَشْهُور فِي رِوَايَات أَصْحَاب الْأَخْبَار وَالسير، أَن عبد الله بن الزبير رأى فِي مَنَامه، كَأَنَّهُ صارع عبد الْملك بن مَرْوَان، فصرع عبد الْملك، وسمره على الأَرْض بأَرْبعَة أوتاد. فَأرْسل رَاكِبًا إِلَى الْبَصْرَة، وَأمره أَن يلقى مُحَمَّد بن سِيرِين، ويقص الرُّؤْيَا عَلَيْهِ، وَلَا يذكر لَهُ من أنفذه. فَأَتَاهُ وقص عَلَيْهِ الْمَنَام، فَقَالَ لَهُ ابْن سِيرِين: من رأى هَذَا؟ قَالَ: أَنا رَأَيْته فِي رجل بيني وَبَينه عَدَاوَة. فَقَالَ: لَيْسَ هَذِه رُؤْيَاك، هَذِه رُؤْيا ابْن الزبير أَو عبد الْملك، أَحدهمَا فِي الآخر. فَسَأَلَهُ الْجَواب، فَقَالَ: مَا أفسرها أَو تصدقني، فَلم يصدقهُ، فَامْتنعَ من التَّفْسِير، فَانْصَرف الرَّاكِب إِلَى ابْن الزبير، فَأخْبرهُ بِمَا جرى. فَقَالَ لَهُ: ارْجع إِلَيْهِ، واصدقه، أنني رَأَيْتهَا فِي عبد الْملك.

فَرجع الرَّاكِب إِلَى ابْن سِيرِين، وَصدقه، فَقَالَ لَهُ: قل لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن عبد الْملك يَغْلِبك على الأَرْض، ويلي هَذَا الْأَمر من وَلَده لظهره أَرْبَعَة، بِعَدَد الْأَوْتَاد الَّتِي سمرته بهَا على الأَرْض.

رأى في منامه أنه قد صرع خصمه فكان تعبير رؤياه أن الخصم هو المنتصر

رأى فِي مَنَامه أَنه قد صرع خَصمه فَكَانَ تَعْبِير رُؤْيَاهُ أَن الْخصم هُوَ الْمُنْتَصر حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم الْحسن بن بشر الْآمِدِيّ، الْكَاتِب، الْمُقِيم كَانَ بِالْبَصْرَةِ، إِلَى أَن مَاتَ، قَالَ: لما سعى أَبُو أَحْمد طَلْحَة بن الْحسن بن الْمثنى، مَعَ جَيش أبي الْقَاسِم بن أبي عبد الله البريدي، فِي أَن يقبضوا عَلَيْهِ، ويحبسوه عِنْد أبي أَحْمد، إِلَى

أَن يرد الْمُطِيع لله، أَو جَيش لَهُ إِلَى الْبَصْرَة، فيملكوها، ويتسلمون مِنْهُ أَبَا الْقَاسِم البريدي، وَكَانَت الْقِصَّة الْمَشْهُورَة فِي ذَلِك. فبلغني ذَلِك، فخلوت بِأبي أَحْمد، وَكنت أكتب لَهُ حِينَئِذٍ، وَكَانَ لَا يحتشمني فِي أُمُوره، وثنيته عَن هَذَا الرَّأْي، وعرفته وُجُوه الْغَلَط فِيهِ، والمخاطرة بدمه وَنعمته، وَهُوَ غير قَابل لمشورتي، إِلَى أَن أكثرت عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: اعْلَم أنني قد رَأَيْت رُؤْيا أَنا بهَا واثق فِي تَمام مَا قد شرعت فِيهِ من الْقَبْض على هَذَا الرجل. فعجبت فِي نَفسِي من رجل يُخَالف الحزم الظَّاهِر، والرأي الْوَاضِح، من أجل مَنَام، ثمَّ قلت لَهُ: مَا الرُّؤْيَا؟ فَقَالَ: رَأَيْت كَأَن حَيَّة عَظِيمَة، قد خرجت عَليّ من حَائِط هَذَا العرضي، قَالَ: وَكَانَ جَالِسا فِي عرضي دَاره، قَالَ: فَكَأَنِّي قد رميتها، فأثبتها فِي الْحَائِط. فحين قَالَ أَبُو أَحْمد: أثبتها فِي الْحَائِط، ذكرت تَأْوِيل مَنَام ابْن الزبير، وقص الْمَنَام الَّذِي ذكرته، فَسبق إِلَى قلبِي، أَن تَأَول مَنَام أبي أَحْمد، أَنه قد أثبت عدوه فِي حَائِطه، وَأَن عدوه سيغلبه على الْبَلَد. قَالَ: فَأَمْسَكت، وَقطعت الْكَلَام، فَمَا مَضَت إِلَّا مُدَّة يسيرَة، حَتَّى شاع التَّدْبِير، وَصَحَّ الْخَبَر بِهِ عِنْد أبي الْقَاسِم البريدي، فبادر إِلَى الْقَبْض على

فائق الأعسر، وَكَانَ هُوَ الَّذِي نَدبه أَبُو أَحْمد للقبض على البريدي، وَأَن يكون أَمِير الْبَلَد، إِلَى أَن يرد جَيش الْخَلِيفَة، فقرره، فَأقر بالْخبر على شَرحه، فَقبض أَبُو الْقَاسِم على أبي أَحْمد بعد قَبضه على فائق بيومين أَو ثَلَاثَة، فاستصفاه، وَأَهله، وَولده، ثمَّ قَتله بعد ذَلِك بأيام.

الرشيد يولي أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق

الرشيد يولي أَخَاهُ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي دمشق بَلغنِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، قَالَ: كنت فِي جفوة شَدِيدَة من أخي الرشيد، أثرت فِي جاهي، ونقصت حَالي، وأفضيت مَعهَا إِلَى الْإِضَافَة بِتَأْخِير أرزاقي، وَظُهُور اطراحه إيَّايَ، فاختلت لذَلِك أحوالي، وركبني دين فادح، فَبلغ بِي القلق والفكر فِيهِ لَيْلَة من اللَّيَالِي، مبلغا شَدِيدا، ونمت فَرَأَيْت فِي النّوم كَأَنِّي وَاقِف بَين يَدي أبي الْمهْدي، وَهُوَ يسألني عَن حَالي، وَأَنا أَشْكُو إِلَيْهِ مَا نكبني بِهِ الرشيد، وأنهيت إِلَيْهِ حَالي، وَأَنا أَقُول: ادْع الله عَلَيْهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَكَأَنَّهُ يَقُول: اللَّهُمَّ أصلح ابْني هَارُون، يكررها ثَلَاثًا. فَكَأَنِّي أَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَشْكُو إِلَيْك ظلم هَارُون لي، وَأَسْأَلك أَن تَدْعُو عَلَيْهِ، فتدعو لَهُ. فَقَالَ: وَمَا عَلَيْك، إِن أصلحه الله لَك وللكافة، أَن يبْقى على حَاله، هُوَ ذَا أمضي إِلَيْهِ السَّاعَة، وآمره أَن يرجع لَك، وَيَقْضِي دينك، ويوليك جند دمشق. فكأنني أومي إِلَيْهِ بسبابتي، وَأَقُول لَهُ: دمشق، دمشق، اسْتِقْلَالا لَهَا. فَيَقُول لي: حركت مسبحتك اسْتِقْلَالا لدمشق، فَكلما خف مِنْهَا حظك، كَانَ فِي الْعَاقِبَة أَجود لَك. فانتبهت، وأحضرت رجلا كَانَ مؤدبي فِي أَيَّام الْمهْدي، فَسَأَلته عَن المسبحة، فَقَالَ: كَانَ عبد الله بن الْعَبَّاس، يُسَمِّي السبابَة: المسبحة، فَمَا

سُؤال الْأَمِير لي عَنْهَا؟ فقصصت عَلَيْهِ الرُّؤْيَا، وَامْتنع النّوم عني، فَأخذ يحدثني وَأَنا جَالس فِي فِرَاشِي، إِذْ جَاءَنِي رَسُول الرشيد، فارتعت لَهُ ارتياعا شَدِيدا، وَلم أعبأ بالمنام، وَخفت أَن يُرِيدنِي لسوء يوقعه بِي. فَقلت: أدافعه إِلَى أَن تطلع الشَّمْس، ثمَّ يكون دخولي الدَّار نَهَارا، فَإِن كَانَ أرادني لغيلة لم تتمّ. فتقاطرت رسله حَتَّى أعجلوني عَن الرَّأْي، واضطروني إِلَى الرّكُوب فِي الْحَال، فَدخلت إِلَيْهِ وَأَنا شَدِيد الْجزع، وَهُوَ جَالس فِي فرَاشه ينتحب. فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: سَأَلتك بِاللَّه يَا أخي هَل رَأَيْت اللَّيْلَة فِي مَنَامك شَيْئا؟ فَقلت: نعم، السَّاعَة رَأَيْت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي. فَلَمَّا قلت لَهُ ذَلِك ازْدَادَ بكاؤه، ثمَّ قَالَ لي: وَيحك، بِاللَّه، شكوتني إِلَيْهِ وَسَأَلته أَن يَدْعُو عَليّ؟ فَقلت: قد كَانَ ذَلِك، وَلكنه قَالَ كَذَا وَكَذَا، وشرحت لَهُ مَا قَالَ. فَقَالَ: السَّاعَة وَالله، جَاءَنِي فِي مَنَامِي، فَقص عَليّ جَمِيع مَا ذكرت، وَقد وفى بوعده، وَالله لأمتثلن أمره، ولأصلن رَحِمك، كم دينك؟ قلت: كَذَا وَكَذَا، فَأمر بِقَضَائِهِ. وَقَالَ: لَا تَبْرَح، حَتَّى أُصَلِّي وَأخرج، فأعقد لَك على دمشق، فانتظرت حَتَّى وَجَبت الصَّلَاة، فصلى، وَجَاء وَقت جُلُوسه، فَجَلَسَ، واستدعاني فأظهر تكرمتي، وَعقد لي لِوَاء على دمشق، وَأمر النَّاس، فَسَارُوا معي إِلَى منزلي، فَعَاد جاهي، وصلحت حَالي.

يرى مناما وهو محبوس فيطلق من حبسه

يرى مناما وَهُوَ مَحْبُوس فيطلق من حَبسه حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم طَلْحَة بن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الْمُقْرِئ، الشَّاهِد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الخصيبي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْفضل مَيْمُون بن هَارُون، قَالَ: حَدثنِي مُوسَى بن عبد الْملك، قَالَ: رَأَيْت وَأَنا فِي الْحَبْس، كَأَن قَائِلا يَقُول لي: لَا زلت تعلو بك الجدود ... نعم وحفت بك السُّعُود أبشر فقد نلْت مَا تُرِيدُ ... يبيد أعداءك المبيد لم يمهلوا ثمَّ لم يقالوا ... بل يفعل الله مَا يُرِيد فاصبر فَصَبر الْفَتى حميد ... واشكر فَفِي شكرك الْمَزِيد

فانتبهت، وَقد طفىء السراج، فطلبت شَيْئا، حَتَّى كتبت الأبيات على الْحَائِط، وأصبحت وَقد قويت نَفسِي. قَالَ: فَمَا مضى على ذَلِك إِلَّا أَيَّام يسيرَة حَتَّى أطلقت.

يكره شخصا على العمل ثم يحبسه ويعذبه

يكره شخصا على الْعَمَل ثمَّ يحْبسهُ ويعذبه وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، كتاب الْفرج بعد الشدَّة والضيقة، قَالَ: قَالَ تَوْبَة الْعَنْبَري: أكرهني يُوسُف بن عمر على الْعَمَل، فَلَمَّا رجعت حَبَسَنِي حَتَّى لم يبْق فِي رَأْسِي شَعْرَة سَوْدَاء. فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فَقَالَ لي: يَا تَوْبَة أطالوا حَبسك؟ قلت: أجل. فَقَالَ: سل الله عز وَجل الْعَفو والعافية، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ثَلَاثًا،

فَاسْتَيْقَظت، فكتبتها، وتوضأت، وَصليت مَا شَاءَ الله، ثمَّ جعلت أَدْعُو حَتَّى وَجَبت صَلَاة الصُّبْح، فصليتها. فجَاء حرسي، فَقَالَ: أَيْن تَوْبَة الْعَنْبَري، فَحَمَلَنِي فِي قيودي، فَأَدْخلنِي عَلَيْهِ، وَأَنا أَتكَلّم، بِهن، فَلَمَّا رَآنِي، أَمر بإطلاقي. قَالَ تَوْبَة: فعلمتها فِي السجْن رجلا، فَقَالَ: إِنِّي لم أدع إِلَى عَذَاب قطّ، فقلتهن، إِلَّا خلوا عني، فجيء بِي يَوْمًا إِلَى الْعَذَاب، فَجعلت أتذكرهن، فَلَا أذكرهن، حَتَّى جلدت مائَة سَوط، فذكرتهن بعد، فدعوت بِهن، فَخلوا عني. حَدثنَا عَليّ بن الْحسن بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنَا حَاتِم بن عبد الله، أَنه حدث عَن سيار بن حَاتِم، قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن مطر، قَالَ: حَدثنَا تَوْبَة الْعَنْبَري، فَذكر مثله، وَزَاد فِيهِ، فقيدني، فَمَا زلت فِي السجْن، حَتَّى لم يبْق فِي رَأْسِي شَعْرَة سَوْدَاء.

رأى في منامه أن قد أخرجت من داره اثنتا عشرة جنازة

رأى فِي مَنَامه أَن قد أخرجت من دَاره اثْنَتَا عشرَة جَنَازَة وروى الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه أَيْضا، عَن معمر بن الْمثنى، عَن عَليّ بن الْقَاسِم، قَالَ: حَدثنِي رجل قَالَ: رَأَيْت فِي الْمَنَام، أَيَّام الطَّاعُون، أَنهم أخرجُوا من دَاري اثْنَتَيْ عشرَة جَنَازَة، وَأَنا وعيالي اثْنَا عشر نفسا، فَمَاتَ عيالي، وَبقيت وحدي، فاغتممت، وضاق صَدْرِي. فَخرجت من الدَّار ثمَّ رجعت فِي الْغَد، فَإِذا لص قد دخل ليَسْرِق، فطعن فِي الدَّار، فَمَاتَ، وأخرجت مِنْهَا جنَازَته. وسري عني مَا كنت فِيهِ، ووهب الله الْعَافِيَة والسلامة.

وهب بن منبه يصاب بالإملاق ثم يعطيه الله من فضله

وهب بن مُنَبّه يصاب بالإملاق ثمَّ يُعْطِيهِ الله من فَضله ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه الْفرج بعد الشدَّة: أَن وهب بن مُنَبّه، قَالَ: أملقت حَتَّى قنطت أَو كدت، فَأَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي، وَمَعَهُ شَيْبه بالفستقة، فَدَفعهَا إِلَيّ. وَقَالَ: افضض، ففضضتها فَإِذا حريرة. فَقَالَ: انشر، فنشرتها فَإِذا فِيهَا ثَلَاثَة أسطر ببياض: لَا يَنْبَغِي لمن عرف عَن الله عدله، أَو عقل عَن الله أمره، أَن يستبطىء الله فِي رزقه. قَالَ: فَأَعْطَانِي الله بعْدهَا، فَأكْثر.

درس في الإيثار

درس فِي الإيثار وَذكر أَيْضا عَن الْوَاقِدِيّ، أَنه قَالَ: أضقت إضاقة شَدِيدَة، وهجم شهر رَمَضَان، وَأَنا بِغَيْر نَفَقَة، فَضَاقَ ذرعي بذلك، فَكتبت إِلَى صديق لي علوي، أسأله أَن يقرضني ألف دِرْهَم، فَبعث إِلَيّ بهَا فِي كيس مختوم، فتركتها عِنْدِي. فَلَمَّا كَانَ عشي ذَلِك الْيَوْم، وَردت عَليّ رقْعَة صديق لي، يسألني إسعافه لنفقة شهر رَمَضَان، بِأَلف دِرْهَم، فوجهت إِلَيْهِ بالكيس بِخَاتمِهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْغَد، جَاءَنِي صديقي الَّذِي اقْترض مني، والعلوي الَّذِي اقترضت مِنْهُ فَسَأَلَنِي الْعلوِي عَن خبر الدَّرَاهِم، فَقلت: صرفتها فِي مُهِمّ. فَأخْرج الْكيس بختمه، وَضحك، وَقَالَ: وَالله لقد قرب هَذَا الشَّهْر وَمَا عِنْدِي إِلَّا هَذِه الدَّرَاهِم، فملا كتبت إِلَيّ وجهت بهَا إِلَيْك، وكتبت إِلَى صديقنا هَذَا، أقترض مِنْهُ ألف دِرْهَم، فَوجه إِلَيّ بالكيس، فَسَأَلته عَن الْقِصَّة، فشرحها، وَقد جئْنَاك لنقتسمها، وَإِلَى أَن ننفقها يَأْتِي الله بالفرج. قَالَ الْوَاقِدِيّ: فَقلت لَهما، لست أَدْرِي أَيّنَا أكْرم، فقسمناها، وَدخل شهر رَمَضَان، فأنفقت أَكثر مَا حصل مِنْهَا، وضاق صَدْرِي، وَجعلت أفكر فِي أَمْرِي.

فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك، إِذْ بعث إِلَيّ يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي فِي سحرة يَوْم، فصرت إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا واقدي، رَأَيْتُك البارحة فِيمَا يرى النَّائِم، وَأَنت على حَال دلتني على أَنَّك فِي غم شَدِيد وأذى، فاشرح لي أَمرك. فشرحته، إِلَى أَن بلغت حَدِيث الْعلوِي، وصديقي وَالْألف دِرْهَم، فَقَالَ: مَا أردي أَيّكُم أكْرم، وَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، وَلَهُمَا بِعشْرين ألف، وقلدني الْقَضَاء.

الباب السابع

الْبَاب السَّابِع من استنقذ من كرب وضيق خناق بِإِحْدَى حالتي عمد أَو اتِّفَاق , مُحَمَّد بن زيد الْعلوِي يضْرب مثلا عَالِيا فِي النبل حَدثنَا أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بالأصبهاني الْكَاتِب، قَالَ: كَانَ مُحَمَّد بن زيد الْعلوِي، الدَّاعِي بطبرستان، إِذا افْتتح الْخراج، نظر مَا فِي بَيت المَال من خراج السّنة الَّتِي قبلهَا، فَفرق فِي قبائل قُرَيْش قسطا، على دعوتهم، وَفِي الْأَنْصَار، وَفِي الْفُقَهَاء، وَأهل الْقرَاءَات، وَسَائِر طَبَقَات النَّاس، حَتَّى يفرق جَمِيع مَا بَقِي. فَجَلَسَ سنة من السنين، يفرق المَال، على مَا كَانَ يفعل، فَلَمَّا فرغ من بني هَاشم، دَعَا بِسَائِر بني عبد منَاف، فَقَامَ رجل، فَقَالَ لَهُ: من أَي بني عبد منَاف أَنْت؟ فَسكت.

قَالَ: لَعَلَّك من ولد مُعَاوِيَة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَمن أَي وَلَده أَنْت؟ فَسكت. قَالَ: لَعَلَّك من ولد يزِيد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: بئس الِاخْتِيَار اخْتَرْت لنَفسك، من قصدك بَلَدا ولَايَته لآل أبي طَالب، وعندك ثأرهم فِي سيدهم وَإِخْوَته وَبني عَمه، وَقد كَانَت لَك مندوحة عَنْهُم بِالشَّام وَالْعراق، عِنْد من يتَوَلَّى جدك، وَيُحب رفدك، فَإِن كنت جِئْت عَن جهل بِهَذَا مِنْك فَمَا يكون بعد جهلك شَيْء، وَإِن كنت جِئْت متمريا بهم، فقد خاطرت بِنَفْسِك. فَنظر إِلَيْهِ العلويون نظرا شَدِيدا، فصاح بهم مُحَمَّد، وَقَالَ: كفوا عافاكم الله، كأنكم تظنون أَن فِي قتل هَذَا دركا أَو ثأرا بالحسين بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا، وَأي جرم لهَذَا؟ إِن الله عز وَجل قد حرم أَن تطالب نفس بِغَيْر مَا اكْتسبت، وَالله، لَا يعرض لَهُ أحد إِلَّا أقدته بِهِ، واسمعوا حَدِيثا أحدثكُم بِهِ، يكون قدوة لكم فِيمَا تستأنفون من أُمُوركُم. حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، قَالَ: عرض على الْمَنْصُور، سنة حج، جَوْهَر فاخر، فَعرفهُ، وَقَالَ: هَذَا كَانَ لهشام بن عبد الْملك، وَهَذَا بِعَيْنِه، قد بَلغنِي خَبره، عِنْد ابْنه مُحَمَّد، وَمَا بَقِي مِنْهُم أحد غَيره.

ثمَّ قَالَ الرّبيع: إِذا كَانَ غَدا، وَصليت بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَحصل النَّاس فِيهِ، فأغلق الْأَبْوَاب كلهَا، ووكل بهَا ثقاتك من الشِّيعَة، واقفلها وَافْتَحْ للنَّاس بَابا وَاحِدًا، وقف عَلَيْهِ، فَلَا يخرج إِلَّا من عَرفته. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، فعل الرّبيع مَا أمره بِهِ، وَتبين مُحَمَّد بن هِشَام الْقِصَّة، فَعلم أَنه هُوَ الْمَطْلُوب، وَأَنه مَأْخُوذ، فتحير. وَأَقْبل مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِم السَّلَام على أثر ذَلِك، فَرَآهُ متحيرا، وَهُوَ لَا يعرفهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، أَرَاك متحيرا فَمن أَنْت؟ وَلَك أَمَان الله التَّام الْعَام، وَأَنت فِي ذِمَّتِي حَتَّى أخلصك. فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد بن هِشَام بن عبد الْملك، فَمن أَنْت؟ قَالَ: أَنا مُحَمَّد بن زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب. فَقَالَ مُحَمَّد بن هِشَام: عِنْد الله احتسب نَفسِي. قَالَ: لَا بَأْس عَلَيْك، فَإنَّك لست قَاتل زيد، وَلَا فِي قَتلك إِدْرَاك ثَأْره، وَأَنا الْآن بخلاصك، أولى مني بِإِسْلَامِك، وَلَكِن تعذرني فِي مَكْرُوه أتناولك بِهِ، وقبيح أخاطبك بِهِ، يكون فِيهِ خلاصك بِمَشِيئَة الله تَعَالَى. قَالَ: أَنْت وَذَاكَ. قَالَ: فَطرح رِدَاءَهُ على رَأسه وَوَجهه، ولببه بِهِ، وَأَقْبل يجره. فَلَمَّا وَقعت عين الرّبيع عَلَيْهِ، لطمه لطمات، وَجَاء بِهِ إِلَى الرّبيع، وَقَالَ:

يَا أَبَا الْفضل، إِن هَذَا الْخَبيث جمال من أهل الْكُوفَة، أكراني جماله ذَاهِبًا وراجعا، وَقد هرب مني فِي هَذَا الْوَقْت، وأكرى بعض القواد الخراسانية، ولي عَلَيْهِ بذلك بَيِّنَة، فتضم إِلَيّ حرسيين يصيران بِهِ معي إِلَى القَاضِي، ويمنعان الْخُرَاسَانِي من عراره. فضم إِلَيْهِ حرسيين، وَقَالَ: امضيا مَعَه. فَلَمَّا بعد عَن الْمَسْجِد، قَالَ لَهُ: يَا خَبِيث، تُؤدِّي إِلَيّ حَقي؟ قَالَ: نعم يَا ابْن رَسُول الله. فَقَالَ للحرسيين: انصرفا، وَأطْلقهُ مُحَمَّد. فَقبل مُحَمَّد بن هِشَام رَأسه، وَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسالاته، ثمَّ أخرج جوهرا لَهُ قدر، فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: تشرفني يَا سَيِّدي بِقبُول هَذَا مني. فَقَالَ: يَا ابْن عَم، إِنَّا أهل بَيت، لَا نقبل على الْمَعْرُوف مُكَافَأَة، وَقد تركت لَك دم زيد، وَهُوَ أعظم من متاعك، فَانْصَرف راشدا، ووار شخصك، حَتَّى يخرج هَذَا الرجل، فَإِنَّهُ مجد فِي طَلَبك، فَمضى، وتوارى. قَالَ: ثمَّ أَمر مُحَمَّد بن زيد، الدَّاعِي بطبرستان، للأموي، بِمثل مَا أَمر بِهِ لسَائِر بني عبد منَاف، وَضم إِلَيْهِ جمَاعَة من موَالِيه، وَأمرهمْ أَن يخرجُوا مَعَه إِلَى الرّيّ، ويأتوه بِكِتَاب بسلامته. فَقَامَ الْأمَوِي، فَقبل رَأسه، وَمضى وَمَعَهُ الْقَوْم، حَتَّى وصل إِلَى مأمنه، وجاءوه بِكِتَاب بسلامته.

بين الإسكندر وملك الصين

بَين الْإِسْكَنْدَر وَملك الصين حَدثنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، إملاء من حفظه، قَالَ: قَرَأت فِي بعض الْأَخْبَار للأوائل، أَن الْإِسْكَنْدَر لما انْتهى إِلَى الصين، وحاصر ملكهَا، أَتَاهُ حَاجِبه، وَقد مضى من اللَّيْل شطره، فَقَالَ لَهُ: هَذَا رَسُول ملك الصين بِالْبَابِ، يسْتَأْذن عَلَيْك. فَقَالَ: أدخلهُ. فَوقف بَين يَدي الْإِسْكَنْدَر، وَسلم , وَقَالَ: إِن رأى الْملك أَن يخليني، فعل. فَأمر الْإِسْكَنْدَر من بِحَضْرَتِهِ بالانصراف، وَبَقِي حَاجِبه، فَقَالَ: إِن الَّذِي جِئْت لَهُ لَا يحْتَمل أَن يسمعهُ غَيْرك. فَقَالَ: فتشوه، ففتش، فَلم يُوجد مَعَه شَيْء من السِّلَاح. فَوضع الْإِسْكَنْدَر بَين يَدَيْهِ سَيْفا مسلولا، وَأخرج حَاجِبه، وكل من كَانَ عِنْده، وَقَالَ لَهُ: قف بمكانك، وَقل مَا شِئْت. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَنا ملك الصين، لَا رَسُوله، وَقد جِئْت أَسأَلك عَمَّا تريده، فَإِن كَانَ مِمَّا يُمكن الانقياد إِلَيْهِ، وَلَو على أشق الْوُجُوه، قبلته، وغنيت أَنا وَأَنت عَن الْحَرْب. قَالَ الْإِسْكَنْدَر: وَمَا آمنك مني؟

قَالَ: علمي بأنك رجل عَاقل، وَلَيْسَ بَيْننَا عَدَاوَة، وَلَا مُطَالبَة بذحل، وَأَنت تعلم أَنَّك إِن قتلتني لم يكن ذَلِك سَببا لِأَن يسلم إِلَيْك أهل الصين ملكهم، وَلم يمنعهُم قَتْلِي من أَن ينصبوا لأَنْفُسِهِمْ ملكا غَيْرِي، ثمَّ تنْسب أَنْت إِلَى غير الْجَمِيل، وضد الحزم. فَأَطْرَقَ الْإِسْكَنْدَر، وَعلم أَنه رجل عَاقل، فَقَالَ: الَّذِي أريده مِنْك، ارْتِفَاع مملكتك لثلاث سِنِين عَاجلا، وَنصف ارتفاعها فِي كل سنة. قَالَ: هَل غير ذَلِك شَيْء؟ قَالَ: لَا قَالَ: قد أَجَبْتُك. قَالَ: فيكف يكون حالك حِينَئِذٍ؟ قَالَ: أكون قَتِيل أول محَارب، وأكلة أول مفترس. قَالَ: فَإِن قنعت مِنْك بارتفاع ثَلَاث سِنِين، كَيفَ يكون حالك؟ قَالَ: أصلح مِمَّا كَانَت، وأفسح مُدَّة. قَالَ: فَإِن قنعت مِنْك بارتفاع سنة؟ قَالَ: يكون ذَلِك كمالا لأمر ملكي، وموفيا لجَمِيع لذاتي. قَالَ: فَإِن اقتصرت مِنْك على ارْتِفَاع السُّدس؟ قَالَ: يكون السُّدس موفرا، وَيكون الْبَاقِي للجيش ولسائر الْأَسْبَاب. قَالَ: قد اقتصرت مِنْك على هَذَا، فشكره، وَانْصَرف. فَلَمَّا طلعت الشَّمْس، أقبل جَيش ملك الصين حَتَّى طبق الأَرْض، وأحاط بِجَيْش الْإِسْكَنْدَر حَتَّى خَافُوا الْهَلَاك، وتواثب أَصْحَابه فَرَكبُوا، واستعدوا للحرب. فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ طلع ملك الصين، وَعَلِيهِ التَّاج، وَهُوَ رَاكب،

فَلَمَّا رأى الْإِسْكَنْدَر، ترجل. فَقَالَ لَهُ الْإِسْكَنْدَر: غدرت؟ قَالَ: لَا وَالله. قَالَ: فَمَا هَذَا الْجَيْش؟ قَالَ: إِنِّي أردْت أَن أريك أنني لم أطعك من قلَّة وَلَا من ضعف، وَأَنت ترى هَذَا الْجَيْش، وَمَا غَابَ عَنْك مِنْهُ أَكثر، وَلَكِنِّي رَأَيْت الْعَالم الْأَكْبَر مُقبلا عَلَيْك، مُمكنا لَك مِمَّن هُوَ أقوى مِنْك، وَأكْثر عددا، وَمن حَارب الْعَالم الْأَكْبَر غلب، فَأَرَدْت طَاعَته بطاعتك والذلة لأَمره بالذلة لَك. فَقَالَ الْإِسْكَنْدَر: لَيْسَ مثلك من يُؤْخَذ مِنْهُ شَيْء، فَمَا رَأَيْت بيني وَبَيْنك أحدا يسْتَحق التَّفْضِيل، وَالْوَصْف بِالْعقلِ، غَيْرك، وَقد أعفيتك من جَمِيع مَا أردته مِنْك، وَأَنا منصرف عَنْك. فَقَالَ ملك الصين: أما إِذْ فعلت ذَلِك، فلست تخسر. فَلَمَّا انْصَرف الْإِسْكَنْدَر، أتبعه ملك الصين، من الْهَدَايَا، بِضعْف مَا كَانَ قَرَّرَهُ مَعَه.

بين إسحاق الموصلي وغلامه فتح

بَين إِسْحَاق الْموصِلِي وَغُلَامه فتح أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته عَنهُ، بعد مَا سمعته مِنْهُ، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن يحيى، قَالَ: كَانَ لإسحاق الْموصِلِي غُلَام يُقَال لَهُ: فتح، يسْقِي المَاء لأهل دَاره على بغلين من بغاله دَائِما. قَالَ إِسْحَاق: فَقلت لَهُ يَوْمًا: أيش خبرك يَا فتح؟ قَالَ: خبري أَن لَيْسَ فِي هَذِه الدَّار أَشْقَى مني ومنك، أَنْت تطعم أهل الدَّار الْخبز، وَأَنا أسقيهم المَاء. فاستظرفت قَوْله، وضحكت مِنْهُ، وَقلت لَهُ: فَأَي شَيْء تحب؟ قَالَ: تعتقني، وتهب لي البغلين، لأستقي عَلَيْهِمَا لنَفْسي. فَفعلت.

أنسب بيت قالته العرب

أنسب بَيت قالته الْعَرَب أَخْبرنِي أَبُو الْفرج، قَالَ: حَدثنِي خلف بن وضاح، قَالَ: حَدثنِي عبد الْأَعْلَى بن عبد الله بن مُحَمَّد بن صَفْوَان الجُمَحِي، قَالَ: حملت دينا بعسكر الْمهْدي، فَركب الْمهْدي يَوْمًا بَين أبي عبيد الله، وَعمر بن بزيع وَأَنا وَرَاءه فِي موكبه على برذون قطوف، فَقَالَ: مَا أنسب بَيت قالته الْعَرَب؟ فَقَالَ أَبُو عبيد الله: قَول امْرِئ الْقَيْس: وَمَا ذرفت عَيْنَاك إِلَّا لتضربي ... بسهميك فِي أعشار قلب مقتل فَقَالَ: هَذَا أَعْرَابِي قح.

فَقَالَ عمر بن بزيع: قَول كثير يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: أُرِيد لأنسى ذكرهَا فَكَأَنَّمَا ... تمثل لي ليلى بِكُل سَبِيل فَقَالَ: مَا هَذَا بِشَيْء، وَمَا لَهُ يُرِيد أَن ينسى ذكرهَا، حَتَّى تمثل لَهُ؟ فَقلت: عِنْدِي حَاجَتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: الْحق بِي. فَقلت: لَا لحاق بِي، لَيْسَ ذَلِك فِي دَابَّتي. فَقَالَ: احملوه على دَابَّة. قلت: هَذَا أول الْفَتْح، فَحملت على دَابَّة، فلحقته. فَقَالَ: مَا عنْدك؟ فَقلت: قَول الْأَحْوَص يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِذا قلت إِنِّي مشتف بلقائها ... فَحم التلاقي بَيْننَا زادني سقما فَقَالَ: أَحْسَنت، حَاجَتك؟ قلت: عَليّ دين. قَالَ: اقضوا دينه. فقضي ديني.

تقلد الإنفاق على عسكرين فأفاد في أقل من شهر سبع مائة ألف درهم

تقلد الْإِنْفَاق على عسكرين فَأفَاد فِي أقل من شهر سبع مائَة ألف دِرْهَم ذكر ابْن عَبدُوس فِي كِتَابه، كتاب الوزراء: حدث أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد، قَالَ: قَالَ لي الريان بن الصَّلْت: كنت فِي خدمَة الْفضل بن سهل، فِيمَا كنت فِيهِ، من ثقته واستنامته، على مَا كنت عَلَيْهِ. فدعاني فِي وَقت من الْأَوْقَات، إِلَى أَن يضم إِلَيّ أَرْبَعَة آلَاف من الشاكرية والجند، ويقودني عَلَيْهِم، ويجريني مجْرى قواده، فامتنعت عَلَيْهِ من ذَلِك، وأعلمته أَنِّي لَا أقوم بذلك، وَلَا أصلح لَهُ، وَلَا آمن أَن أتقلد مِنْهُ مَا يَقع فِيهِ التَّقْصِير، فَيسْقط حظي عِنْده، ومنزلتي لَدَيْهِ. فَأنْكر ذَلِك عَليّ أَشد الْإِنْكَار، وعاودني فِيهِ مرَارًا، فَلم أجبه إِلَيْهِ، فَلَمَّا رأى إقامتي على الِامْتِنَاع، جفاني، وَأعْرض عني، وامتدت الْأَيَّام على هَذَا، حَتَّى أداني ذَلِك إِلَى الاختلال الشَّديد الَّذِي أضرّ بِي. فَدخل إِلَيّ غلامي يَوْمًا، فَأَعْلمنِي أَنه لَا نَفَقَة عِنْده، وَلَا مُضْطَرب لَهُ فِي احتيالها، لِامْتِنَاع التُّجَّار عَن إِعْطَائِهِ، لتأخر مَالهم علينا عَنْهُم، وَأَنه لَا علف لدوابنا، وَلَا قوت لنا.

فأومأت إِلَى عِمَامَة ملحم كَانَت بحضرتي، وأمرته بِبَيْعِهَا، وَصرف ثمنهَا فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ، فَبَاعَهَا بِثمَانِيَة دَرَاهِم. وَورد عَليّ فِي ذَلِك الْيَوْم كتاب وَكيلِي على أَهلِي، بِمَدِينَة السَّلَام، يعلمني ضيق الْأَمر عَلَيْهِ فِيمَا يحْتَاج إِلَى إِقَامَته للعيال، وَإنَّهُ التمس من التُّجَّار مِقْدَار ألفي دِرْهَم، فَلم يُجِيبُوهُ إِلَيْهَا، فَعظم عَليّ مَا ورد من ذَلِك، وَضَاقَتْ بِي الْمذَاهب. فَبَيْنَمَا أَنا قَاعد فِي عَشِيَّة يومي ذَلِك، إِذْ أَتَانِي الْفضل يَأْمُرنِي بِحُضُور الدَّار، وَالْمقَام فِيهَا، إِلَى عِنْد خُرُوجه من دَار الْمَأْمُون، فحضرتها بعد صَلَاة الْعَتَمَة، فأقمت، إِلَى أَن خرج الْفضل فِي وَقت السحر، فَلَقِيته، وَبَين يَدَيْهِ خرائط كَثِيرَة مَحْمُولَة. فَقَالَ: صليت صَلَاة اللَّيْل؟ قلت: نعم. فَقَالَ: لكني مَا صليت، فَكُن هَاهُنَا إِلَى أَن أُصَلِّي، فصلى، ثمَّ انْفَتَلَ من صلَاته، فدعاني. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا هَذِه الخرائط؟ قلت: لَا. قَالَ: هَذِه ثَمَانِي وَسِتُّونَ خريطة وَردت، وقرأتها، وأجبت عَنْهَا بخطي فدعوت الله لَهُ بِحسن المعونة والتوفيق. ثمَّ قَالَ لي: يَا رَيَّان، إِن أَبَا مُحَمَّد الْحسن بن سهل قد دفع إِلَى وَاسِط،

وَرَأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يمده بِدِينَار بن عبد الله ونعيم بن خازم فِي عشرَة آلَاف رجل، وَأَن يقلدك الْإِنْفَاق عَلَيْهِم فِي عسكريهما، وَأَن يجرى لَك فِي كل شهر عشرَة آلَاف دِرْهَم، ولكاتبك ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، ولقراطيسك ألف دِرْهَم، وَأَن يوظف لَك على كل عَسْكَر عشرَة أجمال لحملك، أَو مائَة دِينَار عوضا

عَنْهَا، ثمَّ أَمر لي فِي ذَلِك الْوَقْت، أَن تحمل إِلَيّ أرزاق ثَلَاثَة أشهر، فَمَا صليت الصُّبْح حَتَّى حمل إِلَيّ اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ألف دِرْهَم، وَأخذ فِي تجهيز العسكرين. قَالَ: وَبعث إِلَيّ الْفضل بفرس من دوابه وَأَمرَنِي أَن أبْعث بِهِ إِلَى نعيم بن خازم، وأعلمه أَنه خصّه بِهِ، وَأَنه من خيله الَّتِي يركبهَا، فوجهت بِهِ إِلَى نعيم بن خازم، فأظهر السرُور والابتهاج بذلك، والتعظيم لَهُ، ووهب لغلامي عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَبعث إِلَيّ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم. فَكتبت بذلك إِلَى الْفضل، فَكتب على رقعتي: أردد على نعيم مَا بعث بِهِ إِلَيْك، وَمَا وهب لغلامك، واقبض لنَفسك عوضا مِنْهُ، مائَة وَعشْرين ألف دِرْهَم. ثمَّ أَمر بعد أَيَّام لدينار، بِسبع مائَة ألف دِرْهَم صلَة ومعونة، ولنعيم بن خازم بِخمْس مائَة ألف دِرْهَم، فَبعثت بهَا إِلَيْهِمَا، فَبعث إِلَيّ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم. فَكتبت إِلَى الْفضل رقْعَة، فأعلمته فِيهَا بِمَا فعلاه، فَوَقع على ظهرهَا: اقبل من دِينَار مَا بعث بِهِ إِلَيْك، واردد إِلَى نعيم مَا بعث بِهِ، واقبض لنَفسك عوضا من ذَلِك مائَة ألف دِرْهَم. قَالَ: وسرنا عَن مرو، فَلَمَّا صرنا فِي الطَّرِيق، ورد عَليّ كتاب الْفضل، يَأْمُرنِي فِيهِ، أَن أحمل إِلَى دِينَار ألف ألف دِرْهَم وَخمْس مائَة ألف دِرْهَم، وَإِلَى نعيم ألف ألف دِرْهَم، فَفعلت، فَحمل إِلَيّ دِينَار مائَة ألف دِرْهَم، وَخمسين ألف دِرْهَم، وَبعث إِلَيّ نعيم مائَة ألف دِرْهَم، فَقبلت من دِينَار مَا بعث بِهِ، ورددت على نعيم مَا بعث بِهِ، حَسْبَمَا حد لي فِي رقعتي الأولى وَالثَّانيَِة، وَلم أكتب بالْخبر فِي ذَلِك إِلَى الْفضل، لِئَلَّا يتَوَهَّم عَليّ استدعاء الْعِوَض، وَكتب لَهُ بذلك صَاحب خبر، كَانَ لَهُ فِي السِّرّ علينا، فَوَقع على ظهر كِتَابه إِلَيّ،

قد علمت أَنَّك أَمْسَكت عَن الْكِتَابَة إِلَيّ بِمَا فعله نعيم ودينار، وَمَا كَانَ من ردك على نعيم مَا بعث بِهِ، لِئَلَّا أتوهم عَلَيْك الاستدعاء للصلة، وَقد رَأَيْت أَن تقبض لنَفسك عوضا عَن ذَلِك مِائَتي ألف دِرْهَم. قَالَ الريان: فَلم تمض سَبْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، حَتَّى حصل عِنْدِي سبع مائَة ألف دِرْهَم.

المأمون بخراسان ينقلب حاله من أشد الضيق إلى أفسح الفرج

الْمَأْمُون بخراسان يَنْقَلِب حَاله من أَشد الضّيق إِلَى أفسح الْفرج وَذكر فِي كِتَابه عَن جِبْرِيل بن بختيشوع، فِي خبر طَوِيل أَنه سمع الْمَأْمُون يَقُول: كَانَ لي بخراسان يَوْم عَجِيب، فَأولى الله فِيهِ بإحسانه جميلا، لما توجه طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى عَليّ بن عِيسَى بن ماهان، كَمَا قد عرفتموه من ضعف طَاهِر وَقُوَّة عَليّ، وقر فِي نفوس عسكري جَمِيعًا، أَن طَاهِرا ذَاهِب وَلحق أَصْحَابِي إضاقة شَدِيدَة، وَظَهَرت فيهم خلة عَظِيمَة، ونفد مَا كَانَ معي، فَلم يبْق مِنْهُ لَا قَلِيل وَلَا كثير وأفضيت إِلَى حَال كَانَ أصلح مَا فِيهَا الْهَرَب، فَلم أدر إِلَى أَيْن أهرب، وَلَا كَيفَ آخذ، وَبقيت حائرا متفكرا. فَأَنا وَالله كَذَلِك وَكنت نازلا فِي دَار أَبْوَابهَا حَدِيد، ولي مستشرفات أَجْلِس فِيهَا إِذا شِئْت، وَعدد غلماني سِتَّة عشر غُلَاما، لَا أملك غَيرهم، وَإِذا بالقواد والجيش جَمِيعًا قد شغبوا، وطلبوا أَرْزَاقهم، ووافوا جَمِيعًا يشتموني، ويتكلمون بِكُل قَبِيح.

فَكَانَ الْفضل بن سهل بَين يَدي، فَأمر بإغلاق الْأَبْوَاب، وَقَالَ لي: قُم فاصعد إِلَى الْمجْلس الَّذِي يستشرف فِيهِ، إشفاقا عَليّ من دُخُولهمْ، وَسُرْعَة أَخذهم إيَّايَ، وتعليلا لي بالصعود. فَقلت: الْقَوْم يدْخلُونَ السَّاعَة، فيأخذوني، فَلِأَن أكون بموضعي، أصلح. فَقَالَ لي: يَا سَيِّدي اصْعَدْ، فوَاللَّه، مَا تنزل إِلَّا خَليفَة. فَجعلت أهزأ بِهِ، وأعجب مِنْهُ، وأحسب أَنه إِنَّمَا قَالَ مَا قَالَ، ليسمعني. وأركنت للهرب من بعض أَبْوَاب الدَّار، فَلم يكن إِلَى ذَلِك سَبِيل، لإحاطة الْقَوْم بِالدَّار والأبواب كلهَا. فالح عَليّ أَن أصعد، فَصَعدت وَأَنا وَجل، فَجَلَست فِي المستشرف، وَأَنا أرى الْعَسْكَر. فَلَمَّا علمُوا بصعودي اشْتَدَّ كلبهم، وشتمهم، وضجيجهم، وبادروني بالوعيد والشتم، فأغلظت على الْفضل بن سهل وَقلت لَهُ: أَنْت جَاهِل، غررتني، وَلم تدعني أعمل برأيي، وَلَيْسَ الْعجب إِلَّا مِمَّن قبل مِنْك، وَهُوَ فِي هَذَا كُله، يحلف أنني لَا أنزل إِلَّا خَليفَة، وغيظي عَلَيْهِ، وتعجبي من حمقه، ومواصلة الْأَيْمَان أنني لَا أنزل إِلَّا خَليفَة، مَعَ مَا أشاهده، وَالْحَال يزِيد، أَشد عَليّ مِمَّا أقاسيه من الْجند. ثمَّ وضع الْقَوْم النَّار فِي شوك جَمَعُوهُ، وأدنوه من الدَّار، ونقبوا فِي سورها عدَّة نقوب، وثلموا مِنْهُ قِطْعَة، فَذَهَبت نَفسِي خوفًا وجزعا، وَعلمت أَنِّي بَين أَن أحترق، وَبَين أَن يصلوا إِلَيّ فيقتلوني، فهممت بِأَن ألقِي نَفسِي إِلَيْهِم، وقدرت أَنهم إِذا رأوني اسْتَحْيوا مني، وأقصروا. وَجعل الْفضل بن سهل يقبل يَدي ورجلي، ويناشدني أَن لَا أفعل، وَيحلف لي أَنِّي لَا أنزل إِلَّا خَليفَة، وَفِي يَده الإسطرلاب، ينظر فِيهِ فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت.

فَلَمَّا اشْتَدَّ عَليّ الْأَمر، واستحكم الْيَأْس، قَالَ لي: يَا سَيِّدي، قد وَالله أَتَاك الْفرج، أرى شَيْئا فِي الصَّحرَاء قد أقبل، وَمَعَهُ فرجنا، فازددت من قَوْله غيظا، وَأمرت غلماني بتأمل الصَّحرَاء، فَلم أر، وَلم يرَوا شَيْئا. وجد الْقَوْم فِي الْهدم والحريق، حَتَّى هَمَمْت لما داخلني أَن أرمي بِالْفَضْلِ إِلَيْهِم. فَقَالَ الغلمان: إِنَّا نرى فِي الصَّحرَاء شَيْئا يلوح، فَنَظَرت فَإِذا شبح، وَجعل يزِيد تبيانا، إِلَى أَن تبينوا رجلا على بغلة، ثمَّ قرب، فَإِذا هُوَ يلوح، وَقرب من الْعَسْكَر، وقويت لَهُ قُلُوبنَا، وَرَأى الْجند ذَلِك فتوقفوا، وخالطهم، فَإِذا هُوَ يَقُول: الْبُشْرَى، هَذَا رَأس عَليّ بن عِيسَى بن ماهان معي فِي المخلاة، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك أَمْسكُوا عَنَّا، وانقلبوا بِالدُّعَاءِ، وَالسُّرُور بالظفر وَالْفَتْح. فَقَالَ لي الْفضل بن سهل: يَا سَيِّدي، إئذن لي فِي إِدْخَال بَعضهم، فَأَذنت لَهُ، فَشرط عَلَيْهِم أَن لَا يدْخل إِلَّا من يُرِيد، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِك، وسمى قوما من الْقَوْم، فأدخلهم. فَكَانَ أول من دخل عَليّ، عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ، فَقبل يَدي، وَسلم عَليّ بالخلافة، ثمَّ أَدخل القواد بعده، وَاحِدًا، وَاحِدًا، فَفَعَلُوا مثل ذَلِك، فأطفأ الله عز وَجل النائرة، ووهب السَّلامَة، وقلدني الْخلَافَة، فظفرت

من أَمْوَال عَليّ بن عِيسَى بن ماهان، وَمَا فِي عسكره، بِمَا أَصْلحنَا بِهِ أُمُور جندنا. ثمَّ ذكر تَمام الحَدِيث. وحَدثني بِهَذَا الْخَبَر، أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد الصلحي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو سعيد سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة، قَالَ: قَالَ الْفضل بن مَرْوَان: كنت مَعَ الْمَأْمُون، وَقد خرج إِلَى نواحي الإسحاقي ليتصيد فِي جمَاعَة من عسكره قَليلَة، فَذكر هَذَا الْخَبَر بِطُولِهِ، وصدره وعجزه على مَا فِي كتاب ابْن عَبدُوس، مِمَّا لم أذكرهُ، فَذكر فِيهِ هَذِه الْقطعَة من الْخَبَر، على قريب مِمَّا هِيَ مَذْكُورَة هَاهُنَا.

طلب الولاية على بزبندات البحر وصدقات الوحش

طلب الْولَايَة على بزبندات الْبَحْر وصدقات الْوَحْش وَذكر أَيْضا فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن مخلد، وَكَانَ يلقب لبد، لطول عمره، وروى عَنهُ الْمَدَائِنِي الْكَاتِب، عَن أَبِيه مخلد بن يزِيد: أَن الْمَأْمُون، أول مَا قدم الْعرَاق، خطر لَهُ أَن يُقَلّد الْأَعْمَال، الشِّيعَة الَّذين قدمُوا مَعَه من خُرَاسَان، فطالت عطلة كتاب السوَاد وعماله، وَكَانُوا يحْضرُون دَاره فِي كل يَوْم، حَتَّى ساءت أَحْوَالهم. فَخرج يَوْمًا بعض مَشَايِخ الشِّيعَة، وَكَانَ مغفلا، فَتَأمل وُجُوههم، فَلم ير فيهم أسن من مخلد بن يزِيد، فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي أَن أتخير نَاحيَة من نواحي الْخراج، صَالِحَة الْمرْفق، ليوقع بتقليدي إِيَّاهَا، فاختر لي نَاحيَة.

فَقَالَ: لَا أعرف لَك عملا أولى بك من بزبندات الْبَحْر، وصدقات الْوَحْش. فَقَالَ لَهُ: أكتبه لي، فَكَتبهُ لي مخلد , فَعرض الشيعي الرقعة على الْمَأْمُون، وَسَأَلَ تَقْلِيده ذَلِك الْعَمَل. فَقَالَ لَهُ: من كتب لَك هَذِه الرقعة؟ فَقَالَ: شيخ من الْكتاب، يحضر الدَّار فِي كل يَوْم. فَقَالَ: هلمه. فَلَمَّا دخل، قَالَ لَهُ الْمَأْمُون: مَا هَذَا يَا جَاهِل؟ تفرغت لِأَصْحَابِي؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَصْحَابنَا هَؤُلَاءِ ثِقَات يصلحون لحفظ مَا يصل إِلَى أَيْديهم من الخزائن وَالْأَمْوَال، وَأما شُرُوط الْخراج، وَحكمه، وَمَا يجب تَعْجِيل استخراجه، وَمَا يجب تَأْخِيره، وَمَا يجب إِطْلَاقه، وَمَا يجب مَنعه، وَمَا يجب إِنْفَاقه، وَمَا يجب الاحتساب بِهِ، فَلَا يعرفونه، تقليدهم يعود بذهاب الِارْتفَاع، فَإِن كنت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تثق بِنَا، فضم إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم رجلا منا، فَيكون الشيعي بِحِفْظ المَال، وَنحن نجمعه. فاستطاب الْمَأْمُون رَأْيه وَكَلَامه، وَأمر بتقليد عُمَّال السوَاد وَكتابه، وَأَن يضم إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم، وَاحِدًا من الشِّيعَة، وَضم مخلد إِلَى ذَلِك الشَّيْخ، وقلده نَاحيَة جليلة.

المنصور يقتل مؤدب ولده جعفر ظلما

الْمَنْصُور يقتل مؤدب وَلَده جَعْفَر ظلما وَذكر فِي كِتَابه: أَن الْمَنْصُور ضم رجلا يُقَال لَهُ: فُضَيْل بن عمرَان الْكُوفِي إِلَى جَعْفَر ابْنه، يكْتب لَهُ، وَيقوم بأَمْره. وَكَانَت لجَعْفَر حاضنة تعرف بِأم عُبَيْدَة، فثقل عَلَيْهَا مَكَان فُضَيْل، فسعت بِهِ إِلَى أبي جَعْفَر، وَادعت عِنْده أَنه يلْعَب بِجَعْفَر، فَبعث الْمَنْصُور، مَوْلَاهُ الريان، وَهَارُون بن غَزوَان، مولى عُثْمَان بن نهيك، إِلَى الفضيل وَأَمرهمَا بقتْله، وَكتب لَهما منشورا بذلك، فصارا إِلَيْهِ فقتلاه.

وَكَانَ الفضيل دينا، عفيفا، فَقيل للمنصور فِي ذَلِك، وَأَنه أَبْرَأ النَّاس مِمَّا قرف بِهِ، فأحضر الْمَنْصُور غُلَاما من غلمانه، وَجعل لَهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، إِن أدْركهُ قبل أَن يقتل، فَصَارَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ قد قتل، وَلم يجِف دَمه. واتصل خبر قَتله بِجَعْفَر بن أبي جَعْفَر، فَطلب الريان، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ، قَالَ لَهُ: وَيلك، مَا يَقُول أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي قتل رجل مُسلم بِغَيْر جرم؟ فَقَالَ لَهُ الريان: هُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، يفعل مَا يَشَاء. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: يَا ماص بظر أمه، أُكَلِّمك بِكَلَام الْخَاصَّة، فتكلمني بِكَلَام الْعَامَّة؟ جروا بِرجلِهِ، فألقوه فِي دجلة. قَالَ الريان: فَأخذُوا وَالله برجلي، فَقلت: أُكَلِّمك بِكَلِمَة، ثمَّ اعْمَلْ مَا شِئْت. فَقَالَ: ردُّوهُ، فَرددت، فَقَالَ: قل. فَقلت لَهُ: أَبوك إِنَّمَا يسْأَل عَن قتل فُضَيْل بن عمرَان وَحده؟ وَمَتى يسْأَل عَنهُ، وَقد قتل عَمه عبد الله بن عَليّ، وَقتل عبد الله بن الْحسن، وعشرات من أَوْلَاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قتل من أهل الدُّنْيَا مَا لَا يُحْصى

وَلَا يعد، هُوَ إِلَى أَن يسْأَل عَن فُضَيْل بن عمرَان جوشانة تَحت خصى فِرْعَوْن، قَالَ: فَضَحِك، وَقَالَ: خلوا عَنهُ، لَعنه الله، فَأَفلَت مِنْهُ.

مالك بن طوق يتزوج المهناة بنت الهيثم الشيباني

مَالك بن طوق يتَزَوَّج المهناة بنت الْهَيْثَم الشَّيْبَانِيّ وجدت فِي كتاب أبي الْفرج الحنطبي المَخْزُومِي الْكَاتِب: أَن مُحَمَّد بن عبد الحميد الْجُشَمِي قَالَ: حججْت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، فَأَنا فِي بعض الْمنَازل رَاجعا، إِذْ رَأَيْت فُقَرَاء بالبادية يستميحون، فوقفت مِنْهُم عَليّ جَارِيَة تَتَصَدَّق، بِوَجْه كَأَنَّهُ الْقَمَر حِين اسْتَدَارَ، أَو كقرن الشَّمْس حِين أنار، فَرددت طرفِي عَنْهَا، واستعذت بِاللَّه من الْفِتْنَة بهَا، فَلم تزل تذْهب وتجيء، فِيمَا بَين رجال الْحَج، وتعود إِلَى رحلي، فوقفت. فَقلت لَهَا: أما تستحين أَن تبدين هَذَا الْوَجْه فِي مثل هَذَا الْموضع، بِحَضْرَة الْخَلَائق. فلطمت وَجههَا، وَقَالَت: لم أبده حَتَّى تقضت حيلتي ... فبذلته وَهُوَ الْأَعَز الأكرم ويعز ذَاك عَليّ إِلَّا أَنه ... دهر يجور كَمَا ترَاهُ وَيظْلم قد صنته وحجبته حَتَّى إِذا ... لم يبْق لي طمع وَمَات الْهَيْثَم أبرزته من حجبه مقهورة ... وَالله يشْهد لي بِذَاكَ وَيعلم كشف الزَّمَان قناعه فِي بَلْدَة ... قل الصّديق بهَا وَعز الدِّرْهَم أَصبَحت فِي أَرض الْحجاز غَرِيبَة ... وَأَبُو ربيعَة أسرتي ومحلم قَالَ: فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت من جمَالهَا، وفصاحتها، وأدبها، وشعرها، فبررتها، وَقلت لَهَا: مَا اسْمك؟

قَالَت: أَنا المهناة بنت الْهَيْثَم الشَّيْبَانِيّ، وَكَانَ أبي جارا لبني فَزَارَة، فاعتل، واستنفد مَاله، وَتُوفِّي، وَتَرَكَنِي فقيرة، فَاحْتَجت إِلَى التكفف. قَالَ: ورحلنا، فَلَمَّا صرنا بالرحبة، دخلت إِلَى مَالك بن طوق مُسلما، فَسَأَلَنِي عَن طريقي وسفري، وَمَا رَأَيْته من الْأَعَاجِيب فِيهِ، فَحَدَّثته بِحَدِيث الْجَارِيَة، فأعجب بِهِ، واستطرف الأبيات، وكتبها مني، ورحلت إِلَى منزلي بِالشَّام. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام من اجتماعنا، أَتَانِي رَسُوله يستزيرني، فصرت إِلَيْهِ، فَبَيْنَمَا أَنا جَالس عِنْده يَوْمًا، فَإِذا خادمان قد جَاءَا مَعَهُمَا أكياس مختومة، وتخوت ثِيَاب مشدودة، فوضعاها بَين يَدي. فَقلت لمَالِك: مَا هَذَا؟

قَالَ: هَذَا حقل دلالتك على المهناة بنت الْهَيْثَم الشَّيْبَانِيّ، الَّتِي أَظْفرنِي الله مِنْهَا بِمَا كَانَت أمنيتي تقصر عَنهُ، وَهِي أنفذت إِلَيْك بِهَذَا من مَالهَا، وَلَك من مَالِي ضعفه. فَقلت: كَيفَ كَانَ خَبَرهَا؟ فَقَالَ: إِنَّك لما انصرفت، أنفذت رسلًا إِلَى الْبَادِيَة، أَثِق بعقولهم وأمانتهم، فَمَا زَالُوا يسْأَلُون عَنْهَا، حَتَّى ظفروا بهَا، فحملوها، ووليها مَعهَا، فتزوجتها، فَرَأَيْت مِنْهَا مَا زَاد على مَا كَانَ زرعه حَدِيثك عَنْهَا فِي نَفسِي، وَقد أفضت عَلَيْهَا من دنياي، بِحَسب تمكنها من قلبِي، فسألتني عَن سَبَب طلبي إِيَّاهَا، فَأَخْبَرتهَا بخبرك، وكتبت أستزيرك لأعرفك هَذَا، وأقضي حَقك، وَقد أمرت لَك بِعشْرين ألف دِرْهَم، وَعشر تخوت ثِيَاب. قَالَ عبد الحميد: وَكَانَت أم عدَّة من أَوْلَاده.

بين ابن أبي البغل عامل أصبهان وأحد طلاب التصرف

بَين ابْن أبي الْبَغْل عَامل أَصْبَهَان وَأحد طلاب التَّصَرُّف حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم سعد بن عبد الرَّحْمَن الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: كَانَ أَبُو الْحُسَيْن بن أبي الْبَغْل يتقلد بلدنا، فَقدم عَلَيْهِ شيخ من الْكتاب يطْلب التَّصَرُّف، وَأورد عَلَيْهِ كتبا من الحضرة، يذكرُونَ فِيهَا طول عطلته، وَمحله من الصِّنَاعَة، ويسألونه تصريفه، فَسلم إِلَيْهِ الْكتب، فَتَركهَا ابْن أبي الْبَغْل بَين يَدَيْهِ، وَكَانَت كَثِيرَة، وَكَانَ فِيهِ حِدة وضجرة، فاستكثرها، وفض مِنْهَا وَاحِدًا، فقرأه، وَأَقْبل على شغله، من غير أَن يقْرَأ بَاقِي الْكتب. فَقَالَ لَهُ الرجل: إِن رَأَيْت أَن تقف على بَاقِي الْكتب. فضجر، وتغيظ، وَقَالَ: أَلَيْسَ كلهَا فِي معنى وَاحِد؟ قد وَالله بلينا بكم يَا متعطلين، كل يَوْم يصير إِلَيْنَا مِنْكُم وَاحِد يُرِيد تَصرفا، لَو كَانَت

خَزَائِن الأَرْض لي، لكَانَتْ قد نفدت، يَا هَذَا، مَالك عِنْدِي تصرف، وَلَا عمل شاغر فأرده إِلَيْك، وَلَا فِي مَالِي فضل فأبرك، فدبر أَمرك بِحَسب ذَلِك، هَذَا وَالرجل سَاكِت. فَلَمَّا سكن ابْن أبي الْبَغْل، قَامَ الرجل، وَقَالَ: أحسن الله جزاءك وَفعل بك وصنع، وأسرف فِي الشُّكْر وَالدُّعَاء لَهُ، وَولى منصرفا. فَقَالَ ابْن أبي الْبَغْل: ردُّوهُ، فَرجع. فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، هُوَ ذَا تسخر مني، على أَي شَيْء تشكرني؟ على إياسي لَك من التَّصَرُّف، أَو على قطع رجائك من الصِّلَة، أَو قَبِيح ردي لَك، أَو ضجري عَلَيْك؟ أم تُرِيدُ خدعتي بِهَذَا الْفِعْل؟ فَقَالَ: وَالله، مَا أُرِيد خداعك، وَمَا كَانَ مِنْك من قَبِيح الرَّد فَغير مُنكر، لِأَنَّك سُلْطَان، ولحقك ضجر، وَلَعَلَّ الْأَمر كَمَا ذكرته من كَثْرَة الواردين عَلَيْك، وَقد بعلت بهم، وَاتفقَ لقُوَّة نحسي، أَن كَانَ هَذَا الرَّد الْقَبِيح وَقع فِي بَابي، وَلم أشكرك إِلَّا فِي مَوضِع الشُّكْر، لِأَنَّك صدقتني عَمَّا فِي نَفسك من أول وهلة، وأعتقت عنقِي من رق الطمع، وأرحتني من التَّعَب بِالْغُدُوِّ والرواح إِلَيْك، وخدمة قوم أستشفع بهم إِلَيْك، وكشفت لي مَا أدبر بِهِ نَفسِي، وكسوتي جَدِيدَة، وَبَقِيَّة نفقتي معي، ولعلي أتحمل بهَا إِلَى بلد آخر، فِي وَجه أحد سواك. قَالَ: فَأَطْرَقَ ابْن أبي الْبَغْل، وَمضى الرجل، فَرفع رَأسه، فاستدعاه، وَاعْتذر إِلَيْهِ، وَأمر لَهُ بصلَة، وَقَالَ لَهُ: خُذ هَذِه، إِلَى أَن أقلدك مَا يصلح لَك، فَإِنِّي أرى فِيك مصطنعا. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام قَلّدهُ عملا جَلِيلًا، وصلحت حَال الرجل مَعَه.

بين جحظة البرمكي ومحبرة بن أبي عباد الكاتب

بَين جحظة الْبَرْمَكِي ومحبرة بن أبي عباد الْكَاتِب حَدثنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، عَن جحظة، أَنه قَالَ: اتَّصَلت عَليّ إضاقة، حَتَّى بِعْت فِيهَا كل مَا أملك، وَبقيت وَلَيْسَ فِي دَاري غير البواري، فَأَصْبَحت يَوْمًا أفلس من طنبور مقطع الأوتار، ففكرت فِي الْحِيلَة، فَوَقع لي أَن أكتب إِلَى محبرة الْكَاتِب، وَكنت أجاوره بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ منقرسا، يلازم بَيته، حَتَّى صَار لَا يُمكنهُ الْحَرَكَة، إِلَّا أَن يحمل فِي محفة، وَكَانَ ظريفا، عَظِيم النِّعْمَة، كثير الشّرْب والقصف، فأتطايب عَلَيْهِ، ليدعوني، أَو يبرني بِشَيْء، فَكتبت إِلَيْهِ:

مَاذَا ترى فِي جدي ... وبرمة بوارد وقهوة ذَات لون ... يَحْكِي خدود الخرائد ومسمع يتَغَنَّى ... من آل يحيى بن خَالِد إِن المضيع لهَذَا ... نزر الْمُرُوءَة بَارِد قَالَ: فَمَا شَعرت إِلَّا بمحفة محبرة، يحملهَا غلمانه، إِلَى دَاري، وَأَنا جَالس على بَابهَا. فَقلت: لم جِئْت، وَمن دعَاك؟ قَالَ: أَنْت. قلت: إِنَّمَا قلت مَاذَا ترى، وعنيت فِي مَنْزِلك، وَلم أقل أَنه عِنْدِي، وبيتي وَالله أفرع من فؤاد أم مُوسَى. فَقَالَ: قد جِئْت الْآن، وَلَا أرجع، وَلَكِن أحضر من دَاري، مَا أُرِيد. فَقلت: ذَاك إِلَيْك، فَدخل الدَّار، فَلم ير فِيهَا إِلَّا بَارِية. فَقَالَ: يَا أَبَا الْحسن، هَذَا وَالله فقر مدقع. فَقلت: هُوَ مَا ترى.

فانفذ إِلَى دَاره، فجاءوه بفرش حَسَنَة، وَآلَة، وقماش، وآنية، وَطَعَام كثير من مطبخه، وألوان الْأَشْرِبَة، والفواكه، والمشام، وعبي الْمجْلس، وفرش الْفرش، وَجلسَ يَوْمه يشرب على غنائي وغناء مغنية دعوتها لَهُ كَانَت تألفني. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، سلم إِلَيّ غُلَامه كيسا فِيهِ ألفا دِرْهَم، ورزمة ثِيَاب صحاحا ومقطوعة من فاخر الثِّيَاب , واستدعى محفته فَجَلَسَ فِيهَا، وشيعته. فَلَمَّا بلغ آخر الصحن، قَالَ: مَكَانك يَا أَبَا الْحسن، فَكل مَا فِي دَارك هُوَ لَك، فَلَا تدع أحدا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا. وَقَالَ للغلمان: اخْرُجُوا بَين يَدي، فَخَرجُوا، وأغلقت بَابي على قماش يُسَاوِي ألوفا كَثِيرَة.

تاجر خراساني يجد الفرج عند صاحبه الكرخي

تَاجر خراساني يجد الْفرج عِنْد صَاحبه الْكَرْخِي حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد العبقسي، عَن بعض تجار الكرخ بِبَغْدَاد، قَالَ: كنت أعامل رجلا من الخراسانية، أبيع لَهُ فِي كل موسم مَتَاعا، فأنتفع من سمسرته بألوف دَرَاهِم. فَلَمَّا كَانَ سنة من السنين تَأَخّر عني، فأثر ذَلِك فِي حَالي، وتواترت عَليّ محن، فأغلقت دكاني وَجَلَست فِي بَيْتِي، مستترا من دين لَحِقَنِي، أَربع سِنِين. فَلَمَّا كَانَ فِي وَقت الْحَاج، تتبعت نَفسِي خبر الْخُرَاسَانِي، طَمَعا فِي إصْلَاح أَمْرِي بِهِ، فمضيت إِلَى سوق يحيى، فَلم أعْط لَهُ خَبرا، فَرَجَعت، فَنزلت الجزيرة وَأَنا تَعب مغموم.

وَكَانَ يَوْمًا حارا، فَنزلت إِلَى دجلة، فتغسلت، وصعدت، فابتل مَوضِع قدمي، فَقلعت رجْلي قِطْعَة من الرمل، انكشفت عَن سير. فَلبِست ثِيَابِي، وَجَلَست مفكرا أولع بالسير، فَلم أزل أجره حَتَّى ظهر لي هميان مَوْصُول بِهِ، فَأَخَذته، فَإِذا هُوَ مَمْلُوء دَنَانِير، فأخفيته تَحت ثِيَابِي، ووافيت منزلي، فَإِذا فِيهِ ألف دِينَار. فَقَوِيت نَفسِي قُوَّة شَدِيدَة، وعاهدت الله عز وَجل، أَنه مَتى صلحت حَالي، وعادت، أَن أعرف الْهِمْيَان، فَمن أَعْطَانِي صفته، رَددته عَلَيْهِ. واحتفظت بالهميان، وأصلحت أَمْرِي مَعَ غرمائي، وَفتحت دكاني، وعدت إِلَى رسمي من التِّجَارَة والسمسرة، فَمَا مَضَت إِلَّا ثَلَاث سِنِين حَتَّى حصل فِي ملكي أُلُوف دَنَانِير. وَجَاء الْحَج، فتتبعتهم لأعرف الْهِمْيَان، فَلم أجد من يُعْطِنِي صفته، فعدت إِلَى دكاني. فَبَيْنَمَا أَنا جَالس، إِذا رجل قَائِم حِيَال دكاني، أَشْعَث، أغبر، وافي السبال، فِي خلقَة سُؤال الخراسانية، وزيهم، فظننته سَائِلًا، فأومأت إِلَى دريهمات لأعطيه، فأسرع الِانْصِرَاف، فارتبت بِهِ، فَقُمْت، وَلَحِقتهُ، وتأملته، فَإِذا هُوَ صَاحِبي الَّذِي كنت أنتفع بسمسرته فِي السّنة بألوف الدَّرَاهِم. فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، مَا الَّذِي أَصَابَك؟ وبكيت رَحْمَة لَهُ. فَبكى، وَقَالَ: حَدِيثي طَوِيل.

فَقلت: الْبَيْت، وَحَمَلته إِلَى منزلي، فأدخلته الْحمام، وألبسته ثيابًا نظافا، أطعمته، وَسَأَلته عَن خَبره. فَقَالَ: أَنْت تعرف حَالي ونعمتي، وَإِنِّي أردْت الْخُرُوج إِلَى الْحَج فِي آخر سنة جِئْت إِلَى بَغْدَاد، فَقَالَ لي أَمِير الْبَلَد، عِنْدِي قِطْعَة ياقوت أَحْمَر كَالْكَفِّ، لَا قيمَة لَهَا عظما وجلالة، وَلَا تصلح إِلَّا للخليفة، فَخذهَا مَعَك، فبعها لي بِبَغْدَاد، واشتر لي من ثمنهَا مَتَاعا طلبه، من عطر، وطرف، بِكَذَا وَكَذَا، وأحمل الْبَاقِي مَالا. فَأخذت الْقطعَة الْيَاقُوت، وَهِي كَمَا قَالَ، فجعلتها فِي هميان جلد، من صفته كَيْت وَكَيْت، وَوصف الْهِمْيَان الَّذِي وجدته، وَجعلت فِي الْهِمْيَان ألف دِينَار عينا من مَالِي، وَحَمَلته فِي وسطي. فَلَمَّا جِئْت إِلَى بَغْدَاد، نزلت أسبح عشيا فِي الجزيرة الَّتِي بسوق يحيى، وَتركت الْهِمْيَان وثيابي بِحَيْثُ ألاحظها. فَلَمَّا صعدت من دجلة، لبست ثِيَابِي عِنْد غرُوب الشَّمْس، وأنسيت الْهِمْيَان، فَلم أذكرهُ إِلَى أَن أَصبَحت، فعدت أطلبه، فَكَأَن الأَرْض ابتلعته. فهونت على نَفسِي الْمُصِيبَة، وَقلت: لَعَلَّ قيمَة الْحجر ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، أغرمها لَهُ. فَخرجت إِلَى الْحَج، فَلَمَّا رجعت، حاسبتك على ثمن متاعي، واشتريت للأمير مَا أَرَادَهُ، وَرجعت إِلَى بلدي، فأنفذت إِلَى الْأَمِير مَا اشْتَرَيْته، وأتيته، فَأَخْبَرته بخبري. وَقلت لَهُ: خُذ مني تَمام ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، عوضا عَن الْحجر. فطمع فِي، وَقَالَ: قِيمَته خَمْسُونَ ألف دِينَار، وَقبض عَليّ، وعَلى جَمِيع مَا أملكهُ من مَال ومتاع، وَأنزل بِي صنوف المكاره، حَتَّى أشهد عَليّ فِي جَمِيع

أملاكي، وحبسني سبع سِنِين، كنت يردد عَليّ فِيهَا الْعَذَاب. فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِه السّنة، سَأَلَهُ النَّاس فِي أَمْرِي، فأطلقني. فَلم يمكنني الْمقَام ببلدي، وَتحمل شماتة الْأَعْدَاء، فَخرجت على وَجْهي أعالج الْفقر، بِحَيْثُ لَا أعرف، وَجئْت مَعَ الْحَج الْخُرَاسَانِي، أَمْشِي أَكثر الطَّرِيق، وَلَا أَدْرِي مَا أعمل، فَجئْت إِلَيْك لأشاورك فِي معاش أتعلق بِهِ. فَقلت: قد رد الله عَلَيْك بعض ضالتك، هَذَا الْهِمْيَان الَّذِي وَصفته، عِنْدِي، وَكَانَ فِيهِ ألف دِينَار أَخَذتهَا، وعاهدت الله تَعَالَى، أنني ضامنها لمن يعطيني صفة الْهِمْيَان، وَقد أَعْطَيْتنِي أَنْت صفته، وَعلمت أَنه لَك، وَقمت، فَجِئْته بكيس فِيهِ ألف دِينَار. وَقلت لَهُ: تعيش بِهَذَا فِي بَغْدَاد، فَإنَّك لَا تعدم خيرا إِن شَاءَ الله. فَقَالَ لي: يَا سَيِّدي الْهِمْيَان بِعَيْنِه عنْدك، لم يخرج عَن يدك؟ قلت: نعم. فشهق شهقة، ظَنَنْت أَنه قد مَاتَ مَعهَا، وَغشيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاق بعد سَاعَة، قَالَ لي: أَيْن الْهِمْيَان؟ فَجِئْته بِهِ، فَطلب سكينا، فَأَتَيْته بهَا، فخرق أَسْفَل الْهِمْيَان، وَأخرج مِنْهُ حجر ياقوت أَحْمَر، أشرق مِنْهُ الْبَيْت، وَكَاد يَأْخُذ بَصرِي شعاعه، وَأَقْبل يشكرني، وَيَدْعُو لي. فَقلت لَهُ: خُذ دنانيرك. فَحَلَفت بِكُل يَمِين، لَا يَأْخُذ مِنْهَا إِلَّا ثمن نَاقَة، ومحمل، وَنَفَقَة تبلغه، فَبعد كل جهد أَخذ ثَلَاث مائَة دِينَار، وأحلني من الْبَاقِي، وَأقَام عِنْدِي، إِلَى أَن عَاد الْحَاج، فَخرج مَعَهم.

فَلَمَّا كَانَ الْعَام الْمقبل، جَاءَنِي بقريب مِمَّا كَانَ يجيئني بِهِ سَابِقًا من الْمَتَاع. فَقلت لَهُ: أَخْبرنِي خبرك. فَقَالَ: مضيت، فشرحت لأهل الْبَلَد خبري، وأريتهم الْحجر، فجَاء معي وُجُوههم إِلَى الْأَمِير، أعلموه الْقِصَّة، وخاطبوه فِي إنصافي. فَأخذ الْحجر، ورد عَليّ جَمِيع مَا كَانَ أَخذه مني، من مَتَاع، وعقار، وَغير ذَلِك، ووهب لي من عِنْده مَالا. وَقَالَ: اجْعَلنِي فِي حل مِمَّا عَذَّبْتُك وآذيتك، فأحللته. وعادت نعمتي إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ، وعدت إِلَى تجارتي ومعاشي، وكل هَذَا بِفضل الله تَعَالَى وبركتك، ودعا لي. وَكَانَ يجيئني بعد ذَلِك، حَتَّى مَاتَ.

أضاع هميانه في طريق الحج ووجده أحوج ما يكون إليه

أضاع هِمْيَانه فِي طَرِيق الْحَج ووجده أحْوج مَا يكون إِلَيْهِ حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي: قَالَ حَدثنِي أبي: أَن رجلا حج، وَفِي وَسطه هميان فِيهِ دَنَانِير وجواهر، قيمَة الْجَمِيع ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، وَكَانَ الْهِمْيَان ديباج أسود. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق، جلس يَبُول، فانحل الْهِمْيَان من وَسطه وَسقط، وَلم يعلم بذلك إِلَّا بعد أَن سَار من الْموضع فراسخ. وَاتفقَ أَن رجلا جَاءَ على أَثَره، فَجَلَسَ يَبُول مَكَانَهُ، فَرَأى الْهِمْيَان، فَأَخذه، وَكَانَ لَهُ دين، فحفظه. قَالَ الرجل: فَلم يُؤثر فِي قلبِي ذَهَابه، لِكَثْرَة مَالِي، فاحتسبته عِنْد الله تَعَالَى، وتغافلت. وَكَانَ معي تِجَارَة بأموال عَظِيمَة، فَقضيت حجي، وعدت إِلَى بلدي. فَلَمَّا كَانَ بعد سِنِين، افْتَقَرت لمحن توالت عَليّ، حَتَّى لم يبْق لي شَيْء،

فهربت على وَجْهي من بلدي، وَقد أفضيت إِلَى الصَّدَقَة عَليّ، وزوجتي معي، فأويت إِلَى بعض الْقرى، فَنزلت فِي خَان خراب. فَأصَاب زَوْجَتي الطلق، وَمَا أملك غير دانق وَنصف فضَّة، وَكَانَت لَيْلَة مطيرة، فَولدت.

فَقَالَت: يَا هَذَا، السَّاعَة أَمُوت، فَأخْرج، وَخذ لي شَيْئا أتقوى بِهِ. فَخرجت أتخبط فِي الظلمَة والمطر، حَتَّى جِئْت إِلَى بقال فوقفت عَلَيْهِ، فكلمني بعد كل جهد، فشرحت لَهُ حَالي، فرحمني، وَأَعْطَانِي بِتِلْكَ الْقطعَة حلبة، وزيتا، أغلاهما عِنْده، وأعارني غضارة جعلته فِيهَا، فمشيت أُرِيد موضعي، فزلقت , فَانْكَسَرت الغضارة، وَذهب مَا فِيهَا. فورد عَليّ أَمر عَظِيم، مَا ورد عَليّ مثله قطّ، وَأَقْبَلت ألطم، وأبكي، وأصيح، فَإِذا بِرَجُل قد أخرج رَأسه من شباك فِي دَار، وَقَالَ: وَيلك، مَالك تبْكي، مَا تدعنا ننام، فشرحت لَهُ قصتي. فَقَالَ: هَذَا الْبكاء كُله بِسَبَب دانق وَنصف؟ فتداخلني من الْغم أَكثر من الأول، فَقلت: يَا هَذَا، وَالله، مَا لما ذهب عِنْدِي مَحل، وَلَكِن بُكَائِي رَحْمَة لنَفْسي مِمَّا دفعت إِلَيْهِ، وَإِن زَوْجَتي وَوَلَدي السَّاعَة يموتان جوعا، وَوَاللَّه، وَإِلَّا فعلي وَعلي، وَحلفت بأيمان مُغَلّظَة، لقد حججْت فِي سنة كَذَا، وَأَنا أملك من المَال، مَا ذهب مني هميان فِيهِ دَنَانِير وجواهر بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار، مَا فَكرت فِيهِ، وَهُوَ ذَا تراني الْآن أبْكِي بِسَبَب دانق وَنصف فضَّة، فاسأل الله الْعَافِيَة والسلامة، وَلَا تعيرني فتبتلى بِمثل بلواي. فَقَالَ لي: بِاللَّه عَلَيْك، مَا كَانَ صفة هميانك؟ فلطمت رَأْسِي، وَقلت: مَا يقنعك مَا خاطبتني بِهِ وَمَا ترَاهُ من صُورَتي، وقيامي فِي الطين والمطر، حَتَّى تتلهى بِي، وَأي شَيْء يَنْفَعنِي وينفعك من صفة همياني، وَقد ضَاعَ من كَذَا وَكَذَا سنة، ومشيت. وَإِذا هُوَ قد خرج يَصِيح بِي: تَعَالَى خُذ هَذَا، فقدرته يتَصَدَّق عَليّ، فَجِئْته.

فَقَالَ: أيش صفة هميانك؟ وَقبض على يَدي، فَلم أقدر أتخلص مِنْهُ، فوصفت لَهُ همياني. فَقَالَ لي: ادخل، فَدخلت منزله. فَقَالَ: أَيْن زَوجتك؟ فَقلت: فِي الخان الْفُلَانِيّ. فأنفذ غلمانه، فَأتوا بهَا، فَأدْخلهَا إِلَى حرمه، فأصلحوا أمرهَا، وأطعموها مَا احْتَاجَت إِلَيْهِ، وكساني كسْوَة حَسَنَة، وأدخلني الْحمام، وأصبحت عِنْده فِي عيشة طيبَة. فَقَالَ لي: أقِم عِنْدِي أَيَّامًا لأضيفك، فأقمت عِنْده عشرَة أَيَّام، فَكَانَ يعطيني فِي كل يَوْم عشْرين دِينَارا، وَأَنا متحير من عَظِيم بره، بعد شدَّة جفائه. فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك، قَالَ لي: أَي شَيْء تتصرف فِيهِ؟ فَقلت: كنت تَاجِرًا. فَقَالَ: أقِم عِنْدِي، وَأَنا أَعطيتك رَأس مَال فتتجر فِي شركتي. فَقلت: أفعل. فَدفع إِلَيّ مِائَتي دِينَار، وَقَالَ لي: أتجر بهَا هَاهُنَا. فَقلت: هَذَا معاش، قد أغناني الله تَعَالَى بِهِ، يجب أَن ألزمهُ، فَلَزِمته. فَلَمَّا كَانَ بعد شهور، ربحنا، فَجِئْته، فَقلت لَهُ: خُذ ربحك. فَقَالَ لي: اجْلِسْ , فَجَلَست. فَأخْرج إِلَى همياني، وَقَالَ: أتعرف هَذَا؟ فحين رَأَيْته، شهقت شهقة غشي عَليّ مِنْهَا. ثمَّ أَفَقْت بعد سَاعَة، فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، أملك أَنْت أم نَبِي؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِّي ممتحن بِحِفْظ هميانك مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سنة، فَلَمَّا سَمِعتك تِلْكَ اللَّيْلَة تَقول مَا قلته، وأعطيتني علامته، أردْت أَن أُعْطِيك هُوَ،

فَخَشِيت أَن تَنْشَق مرارتك من الْفَرح، فأعطيتك تِلْكَ الدَّنَانِير الَّتِي أوهمتك أَنَّهَا هبة لَك، وَإِنَّمَا أَعطيتك ذَلِك كُله من هميانك، وَالدَّنَانِير المائتان، قرض، فَخذ هميانك واجعلني فِي حل. فَأَخَذته، ودعوت لَهُ، ورددت عَلَيْهِ الْقَرْض، وَرجعت إِلَى بلدي، وبعت الْجَوْهَر وأضفت ثمنه إِلَى الدَّنَانِير، واتجرت بهَا، فَمَا مَضَت إِلَّا سنيات، حَتَّى صرت صَاحب عشرَة آلَاف دِينَار، وصلحت حَالي، فَأَنا فِي فضل الله تَعَالَى، أعيش إِلَى الْآن.

الوزير علي بن عيسى يقول: ليتني تمنيت المغفرة

الْوَزير عَليّ بن عِيسَى يَقُول: لَيْتَني تمنيت الْمَغْفِرَة حَدثنِي أَبُو سهل بن زِيَاد الْقطَّان، صَاحب عَليّ بن عِيسَى، قَالَ: كنت مَعَ عَليّ بن عِيسَى بِمَكَّة، حِين نفي إِلَيْهَا، فَدَخَلْنَا فِي حر شَدِيد، وَقد كدنا نتلف، فَطَافَ عَليّ بن عِيسَى، وسعى، وَجَاء فألفى نَفسه كالميت من الْحر والتعب، وقلق قلقا شَدِيدا. وَقَالَ: أشتهي على الله عز وَجل، شربة مَاء بثلج. فَقلت لَهُ: يَا سيدنَا، تعلم أَن هَذَا مَا لَا يُوجد بِهَذَا الْمَكَان. فَقَالَ: هُوَ كَمَا قلت، وَلَكِن نَفسِي ضَاقَتْ عَن ستر هَذَا، فاستروحت إِلَى المنى. قَالَ: وَخرجت من عِنْده، فَرَجَعت إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام، فَمَا استقررت

فِيهِ، حَتَّى نشأت سَحَابَة، فأبرقت، وأرعدت رعدا مُتَّصِلا شَدِيدا، ثمَّ جَاءَت بمطر يسير، وَبرد كثير. فبادرت إِلَى الغلمان، فَقلت: اجْمَعُوا، فجمعنا شَيْئا كثيرا، وَكَانَ عَليّ بن عِيسَى نَائِما. فَلَمَّا كَانَ وَقت الْمغرب، خرج إِلَى الصَّلَاة، فَقلت لَهُ: أَنْت وَالله مقبل، والنكبة زائلة، وَهَذِه عَلَامَات الإقبال، فَاشْرَبْ الثَّلج كَمَا طلبت. وجئته إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام بأقداح مَمْلُوءَة بالأشربة والأسوقة، مكبوسة بالبرد، فَأقبل يسْقِي ذَلِك من كَانَ بِقُرْبِهِ من الصُّوفِيَّة والمجاورين والضعفاء، ويستزيد، وَنحن نأتيه بِمَا عندنَا من ذَلِك، وَكلما قلت لَهُ: اشرب، يَقُول: حَتَّى يشرب النَّاس. فخبأت من الْبرد مِقْدَار خَمْسَة أَرْطَال، وَقلت لَهُ: لم يبْق شَيْء. فَقَالَ: الْحَمد لله، لَيْتَني كنت تمنيت الْمَغْفِرَة، بَدَلا من تمني الثَّلج، فلعلي كنت أجَاب.

فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيّ بَيته حَلَفت عَلَيْهِ أَن يشرب، فَمَا زلت أداريه حَتَّى شرب مِنْهُ بِقَلِيل مَاء وَسَوِيق، وتقوت بِهِ بَاقِي ليلته.

فتى ورث مالا فأتلفه ثم آل أمره إلى صلاح

فَتى ورث مَالا فأتلفه ثمَّ آل أمره إِلَى صَلَاح حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي، أَيْضا، عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَ يجاورنا بِبَغْدَاد فَتى من أَوْلَاد الْكتاب، ورث مَالا جَلِيلًا، فأتلفه فِي القيان، وَأكله إسرافا، حَتَّى لم يبْق مِنْهُ شَيْء، وَاحْتَاجَ إِلَى نقض دَاره، فَلم يبْق مِنْهَا غير بَيت يكنه. فَحَدثني بعض من كَانَ يعاشره وَانْقطع عَنهُ لما افْتقر، قَالَ: قصدته يَوْمًا بعد انقطاعي عَنهُ نَحْو سنة، لأعرف خَبره، فَدخلت إِلَيْهِ، فَوَجَدته نَائِما فِي ذَلِك الْبَيْت، فِي يَوْم بَارِد، على حَصِير خلق، قد تُوطأ قطنا

كَأَنَّهُ حَشْو فرَاش، وتغطى بِقطن كَانَ فِي لِحَاف، فَهُوَ بَين ذَلِك الْقطن كَأَنَّهُ السفرجل. فَقلت لَهُ: وَيحك، بلغت إِلَى هَذَا الْحَد. فَقَالَ: هُوَ مَا ترى. فَقلت: فَهَل لَك حَاجَة. قَالَ: أَو تقضيها؟ فَظَنَنْت أَنه يطْلب مني شَيْئا أسعفه بِهِ، فَقلت: إِي وَالله. فَقَالَ: أشتهي أَن تحملنِي إِلَى بَيت فُلَانَة الْمُغنيَة، حَتَّى أَرَاهَا، وَهِي الَّتِي كَانَ يتعشقها، وأتلف مَاله عَلَيْهَا. وَبكى، فرحمته، فمضيت إِلَى منزلي، فَأَتَيْته من ثِيَابِي بِمَا لبسه، وأدخلته الْحمام، وَحَمَلته إِلَى بَيْتِي، فأطعمته، وبخرته، وذهبنا إِلَى دَار الْمُغنيَة. فَلَمَّا رأتنا، لم تشك أَن حَاله قد صلحت، وَأَنه قد جاءها بِدَرَاهِم، فبشت فِي وَجهه، وَسَأَلته عَن حَاله، فصدقها عَن حَاله، حَتَّى انْتهى إِلَى ذكر الثِّيَاب، وَأَنَّهَا لي. فَقَالَت لَهُ فِي الْحَال: قُم، قُم. فَقَالَ: لم؟ فَقَالَت: لِئَلَّا تَجِيء ستي، فتراك، وَلَيْسَ مَعَك شَيْء، فتحرد عَليّ، لم أدخلتك، فَاخْرُج برا، حَتَّى أصعد فأكلمك من فَوق، فَخرج، وَجلسَ ينْتَظر أَن تخاطبه من روزنة فِي الدَّار، إِلَى الطَّرِيق، فأقلبت عَلَيْهِ مرقة سكباج،

فصيرته آيَة ونكالا. فَبكى، وَقَالَ لي: بلغ أَمْرِي إِلَى هَذَا؟ أشهد الله، وأشهدك، أَنِّي تائب. فَضَحكت مِنْهُ، وَقلت: أَي شَيْء تنفعك التَّوْبَة الْآن وَقد افْتَقَرت؟ فرددته إِلَى بَيته، ونزعت ثِيَابِي عَنهُ، وَتركته بَين الْقطن، كَمَا كَانَ أَولا، وحملت ثِيَابِي فغسلتها وانقطعت عَنهُ، فَمَا عرفت لَهُ خَبرا. وَبعد نَحْو ثَلَاث سِنِين، بَيْنَمَا أَنا ذَات يَوْم بِبَاب الطاق، إِذا أَنا بِغُلَام يطْرق لرجل رَاكب، فَرفعت رَأْسِي، فَإِذا بِهِ على برذون فاره، بمركب فضَّة، خَفِيف، مليح، وَثيَاب حَسَنَة، وَكَانَ أَولا يركب من الدَّوَابّ أفخرها، وَمن المراكب أثقلها. فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ لي: يَا فلَان، فَعلمت أَن حَاله قد صلحت، فَقبلت فخده. وَقلت: سَيِّدي أَبُو فلَان. قَالَ: نعم، قد صنع الله تَعَالَى، وَله الْحَمد، الْبَيْت، الْبَيْت، فتبعته إِلَى منزله، فَإِذا بِالدَّار الأولة، قد رمها، وجصصها، من غير بَيَاض، وطبقها، وَبنى فِيهَا مجلسين مُتَقَابلين، وخزائن، ومستراح، وَجعل بَاقِي مَا كَانَ فِيهَا، صحنا كَبِيرا، وَقد صَارَت حَسَنَة، غير أَنَّهَا لَيست بذلك الْأَمر الأول. فَأَدْخلنِي إِلَى حجرَة مِنْهَا، كَانَ يَخْلُو فِيهَا قَدِيما، قد أَعَادَهَا كأحسن

مَا كَانَت، وفيهَا فرش حَسَنَة، وَفِي دَاره ثَلَاثَة غلْمَان، قد جعل كل خدمتين إِلَى وَاحِد مِنْهُم، وَقد أَقَامَ على حرمه خَادِمًا كَانَ لِأَبِيهِ، وَله سائس هُوَ شاكريه، وَشَيخ بواب كَانَ يَصْحَبهُ قَدِيما، ووكيل يتسوق لَهُ. فَجَلَسَ، وأجلسني، وأحضر فَاكِهَة قَليلَة، فِي آلَة مقتصدة مليحة، وَجَاءُوا بعْدهَا بِطَعَام نظيف، كَاف، غير مُسْرِف وَلَا مقصر، فأكلنا، ثمَّ نَام، وَلم تكن تِلْكَ عَادَته، ومدت ستارة، وأحضرت مشام ورياحين، فِي صواني وزبديات، والجميع متوسط مليح، غير مُسْرِف فانتبه، فصلى وتبخر بِقِطْعَة ند وبخرني بِقِطْعَة عود مطرى، وَقدم بَين يَدَيْهِ صينية فِيهَا من مطبوخ الْعِنَب شَيْء حسن، وَقدم بَين يَدي صينية فِيهَا نَبِيذ التَّمْر، جيد. فَقلت: يَا سَيِّدي مَا هَذِه الترتيبات الَّتِي لست أعرفهَا.

فَقَالَ: دع مَا مضى، فَإِن الْحَال لَا تحْتَمل الْإِسْرَاف، فَأقبل يشرب، وَأَنا أساعده، فتغنى من وَرَاء الستارة، ثَلَاث جواري فِي نِهَايَة طيب الْغناء، كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ أطيب من الَّتِي أنْفق عَلَيْهَا مَاله. فَلَمَّا طابت أَنْفُسنَا، قَالَ لي: تذكر أيامنا الأولة؟ قلت: نعم. قَالَ: أَنا الْآن فِي نعْمَة متوسطة، وَمَا قد أفدته من الْعقل، وَالْعلم بِأَمْر الدُّنْيَا وَأَهْلهَا يسليني عَمَّا ذهب مني، وَهُوَ ذَا ترى فرشي، وآلتي، ومركوبي، وَإِن لم يكن ذَلِك بالعظيم المفرط، فَفِيهِ جمال، وبلاغ، وتنعم، وكفاية، وَهُوَ مغن عَن الْإِسْرَاف، والتخرق، والتبذير، وَقد تخلصت من تِلْكَ الشدَّة، تذكر يَوْم عاملتني فُلَانَة الْمُغنيَة، بِمَا عاملتني؟ قلت: نعم وَالْحَمْد لله الَّذِي كشف ذَلِك عَنْك، فَمن أَيْن هَذِه النِّعْمَة؟ قَالَ: مَاتَ مولى لأبي، وَابْن عَم لي، فِي يَوْم وَاحِد بِمصْر، فَحصل لي من تركتهما أَرْبَعُونَ ألف دِينَار، فوصل أَكْثَرهَا إِلَيّ، وَأَنا بَين الْقطن كَمَا رَأَيْتنِي، فحمدت الله، واعتقدت التَّوْبَة من التبذير، وَأَن أدبر مَا رزقته، فعمرت هَذِه الدَّار بِأَلف دِينَار، واشتريت الْفرش، والآلة، والجواري بِتِسْعَة آلَاف دِينَار، وسلمت إِلَى بعض التُّجَّار الثِّقَات، ألفي دِينَار، يتجر لي بهَا، وأودعت بطن الأَرْض عشرَة آلَاف دِينَار، للحوادث، وابتعت بِالْبَاقِي ضَيْعَة تغل لي فِي كل سنة نفقتي هَذِه الَّتِي شاهدتها، فَمَا أحتاج إِلَى قرض، وَلَا استزادة، وَلَا تقبل غلَّة، إِلَّا وَعِنْدِي بَقِيَّة من الْغلَّة الأولة، فَأَنا أتقلب فِي نعْمَة الله، عز وَجل، كَمَا ترى، وَمن تَمام النِّعْمَة، إِنِّي لَا أعاشرك، وَلَا أحدا مِمَّن كَانَ يحسن لي السَّرف، يَا غلْمَان، أَخْرجُوهُ. قَالَ: فأخرجت، فوَاللَّه مَا أذن لي بعْدهَا فِي الدُّخُول عَلَيْهِ.

أبو يوسف القاضي يأكل اللوزينج بالفستق

أَبُو يُوسُف القَاضِي يَأْكُل اللوزينج بالفستق وحَدثني أبي، قَالَ: بَلغنِي أَن أَبَا يُوسُف صحب أَبَا حنيفَة، ليتعلم الْعلم، على فقر وَشدَّة، وَكَانَت أمة تحتال لَهُ فِيمَا يتقوته يَوْمًا بِيَوْم، فَطلب يَوْمًا مَا يَأْكُل، فَجَاءَتْهُ بغضارة مغطاة، فكشفها، فَإِذا فِيهَا دفاتر. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَت: هَذَا الَّذِي أَنْت مشتغل بِهِ نهارك أجمع، فَكل مِنْهُ. فَبكى، وَبَات جائعا، وَتَأَخر عَن الْمجْلس من الْغَد، حَتَّى احتال فِيمَا أكله، ثمَّ مضى إِلَى أبي حنيفَة، فَسَأَلَهُ عَن سَبَب تَأَخره، فَصدقهُ. فَقَالَ لَهُ: أَلا عَرفتنِي فَكنت أمدك؟ وَلَا يجب أَن تغتم، فَإِنَّهُ إِن طَال عمرك، فستأكل اللوزينج بالفستق. قَالَ: فَلَمَّا خدمت الرشيد، واختصصت بِهِ، قدم بِحَضْرَتِهِ يَوْمًا، جَام

فِيهِ لوزينج بفستق، فدعاني إِلَيْهِ، فحين أكلت مِنْهُ، ذكرت أَبَا حنيفَة، فَبَكَيْت، وحمدت الله تَعَالَى، فَسَأَلَنِي الرشيد عَن قصتي، فَأَخْبَرته.

الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذان

الشَّيْخ الْخياط وأذانه فِي غير وَقت الْأَذَان حَدثنِي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الْهَاشِمِي: أَن شَيخا من التُّجَّار، كَانَ لَهُ على بعض القواد، مَال جليل بِبَغْدَاد، فماطله بِهِ، وجحده إِيَّاه، واستخف بِهِ. قَالَ: فعزمت على التظلم إِلَى المعتضد، لِأَنِّي كنت تظلمت إِلَى عبيد الله بن سُلَيْمَان الْوَزير، فَلم يَنْفَعنِي ذَلِك. فَقَالَ لي بعض إخْوَانِي: عَليّ أَن آخذ لَك المَال، وَلَا تحْتَاج إِلَى أَن تتظلم إِلَى الْخَلِيفَة، قُم معي السَّاعَة، فَقُمْت مَعَه.

فجَاء بِي إِلَى خياط فِي سوق الثُّلَاثَاء، يخيط، ويقرىء الْقُرْآن فِي مَسْجِد، فَقص عَلَيْهِ قصتي، فَقَامَ مَعنا. فَلَمَّا مشينا، تَأَخَّرت، وَقلت لصديقي: لقد عرضت هَذَا الشَّيْخ، وإيانا، لمكروه عَظِيم، هَذَا إِذا حصل على بَاب الرجل، صفع، وصفعنا مَعَه، هَذَا لم يلْتَفت إِلَى شَفَاعَة فلَان، وَفُلَان، وَلم يفكر فِي الْوَزير، فَكيف يفكر فِي هَذَا الْفَقِير؟ فَضَحِك، وَقَالَ: لَا عَلَيْك، امش، واسكت. فَجِئْنَا إِلَى بَاب الْقَائِد، فحين رأى غلمانه الْخياط، أعظموه وأهووا التَّقْبِيل يَده، فَمَنعهُمْ من ذَلِك، وَقَالُوا: مَا جَاءَ بك أَيهَا الشَّيْخ، فَإِن صاحبنا رَاكب، فَإِن كَانَ لَك أَمر يتم بِنَا بادرنا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَادْخُلْ، واجلس إِلَى أَن يَجِيء، فَقَوِيت نَفسِي بذلك، ودخلنا وَجَلَسْنَا. وَجَاء الْقَائِد، فَلَمَّا رأى الشَّيْخ أعظمه إعظاما تَاما، وَقَالَ: لست أنزع ثِيَابِي، أَو تَأْمُرنِي بِأَمْرك. فخاطبه فِي أَمْرِي، فَقَالَ: وَالله، مَا عِنْدِي إِلَّا خَمْسَة آلَاف دِرْهَم تسأله أَن يَأْخُذهَا، وأعطيه رهنا فِي بَاقِي مَاله. فبادرت إِلَى الْإِجَابَة، فأحضر الدَّرَاهِم، وحليا بِقِيمَة الْبَاقِي، فقبضت

ذَلِك مِنْهُ، وأشهدت عَلَيْهِ الرجل، وصديقي، أَن الرَّهْن عِنْدِي إِلَى أجل فَإِن حل الْأَجَل وَلم يُعْطِنِي، فقد وكلني فِي بَيْعه، وَقبض مَالِي من ثمنه، فخرجنا، وَقد أجَاب إِلَى ذَلِك. فَلَمَّا بلغنَا مَسْجِد الْخياط، قلت لَهُ: قد رد الله تَعَالَى عَليّ هَذَا المَال بسببك، فَأحب أَن تَأْخُذ مِنْهُ مَا أَحْبَبْت، بِطيبَة من قلبِي. فَقَالَ: مَا أسْرع مَا كافأتني على الْجَمِيل بالقبيح، انْصَرف، بَارك الله لَك فِي مَالك. فَقلت: قد بقيت لي حَاجَة. قَالَ: قل. قلت: تُخبرنِي عَن سَبَب طَاعَته لَك، مَعَ تهاونه بِأَكْثَرَ أهل الدولة. فَقَالَ: قد بلغت مرادك، فَلَا تقطعني عَن شغلي، وَمَا أعيش بِهِ. فألححت عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنا رجل أُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي هَذَا الْمَسْجِد، وأقرىء الْقُرْآن، مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة، ومعاشي من هَذِه الْخياطَة، لَا أعرف غَيرهَا. وَكنت مُنْذُ دهر، قد صليت الْمغرب، وَخرجت أُرِيد منزلي، فاجتزت بتركي كَانَ فِي هَذِه الدَّار، وَامْرَأَة جميلَة مجتازة، وَقد تعلق بهَا وَهُوَ سَكرَان، ليدخلها دَاره، وَهِي ممتنعة تستغيث، وَلَيْسَ من أحد يغيثها، أَو يمنعهُ مِنْهَا، وَتقول فِي جملَة كَلَامهَا: إِن زَوجي قد حلف عَليّ بِالطَّلَاق، أَن لَا أَبيت برا، فَإِن بيتني، خرب بَيْتِي، مَعَ مَا يرتكبه مني من الْفَاحِشَة. قَالَ: فرفقت بِهِ وَسَأَلته تَركهَا، فَضرب رَأْسِي بدبوس كَانَ فِي يَده،

فشجني، ولكمني، وَأدْخل الْمَرْأَة بَيته. فصرت إِلَى منزلي، وغسلت الدَّم، وشددت الشَّجَّة، واسترحت، وَخرجت لصَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة. فَلَمَّا صلينَا، قلت لمن معي فِي الْمَسْجِد: قومُوا بِنَا إِلَى عَدو الله، هَذَا التركي، لننكر عَلَيْهِ، وَلَا نَبْرَح، أَو نخرج الْمَرْأَة. فَقَامُوا، وَجِئْنَا فضججنا على بَابه، فَخرج إِلَيْنَا فِي عدَّة غلْمَان، فأوقع بِنَا، وقصدني من بَين الْجَمَاعَة، فضربني ضربا عَظِيما كدت أتلف مِنْهُ، فَحَمَلَنِي الْجِيرَان إِلَى منزلي كالتالف، فعالجني أَهلِي، ونمت نوما قَلِيلا، وَقمت نصف اللَّيْل، فَمَا حَملَنِي النّوم، للألم، والفكر فِي الْقِصَّة. فَقلت: هَذَا قد شرب طول ليلته، وَلَا يعرف الْأَوْقَات، فَلَو أَذِنت، لوقع لَهُ أَن الْفجْر قد طلع، وَأطلق الْمَرْأَة، فلحقت بَيتهَا قبل الْفجْر، فَسلمت من أحد المكروهين. فَخرجت إِلَى الْمَسْجِد متحاملا، وصعدت المنارة، فَأَذنت، وَجَلَست

أطلع مِنْهَا إِلَى الطَّرِيق، أترقب خُرُوج الْمَرْأَة، فَإِن خرجت، وَإِلَّا أَقمت الصَّلَاة لِئَلَّا يشك فِي الصَّباح، فيخرجها. فَمَا مَضَت إِلَّا سَاعَة، وَالْمَرْأَة عِنْده، حَتَّى رَأَيْت الشَّارِع قد امْتَلَأَ خيلا، ورجالا، ومشاعل، وهم يَقُولُونَ: من أذن السَّاعَة؟ فَفَزِعت، وَسكت. ثمَّ قلت: أخاطبهم، لعَلي أستعين بهم على إِخْرَاج الْمَرْأَة، فَصحت من المنارة: أَنا أَذِنت. فَقَالُوا لي: انْزِلْ، وأجب أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقلت: دنا الْفرج، فَنزلت، فَإِذا بدر، وعدة غلْمَان، فَحَمَلَنِي، وأدخلني على المعتضد، فَلَمَّا رَأَيْته، هِبته، وارتعت، فسكن مني. وَقَالَ: مَا حملك على أَن تغر الْمُسلمين بأذانك فِي غير وقته، فَيخرج ذُو الْحَاجة فِي غير وَقتهَا، ويمسك المريد للصَّوْم، فِي وَقت قد أَبَاحَ الله لَهُ الْأكل فِيهِ، وَيَنْقَطِع العسس والحرس عَن الطّواف؟ فَقلت: يؤمنني أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَأُصَدِّقهُ. فَقَالَ: أَنْت آمن. فقصصت عَلَيْهِ قصَّة التركي، وأريته الْآثَار. فَقَالَ: يَا بدر، عَليّ بالغلام السَّاعَة وَالْمَرْأَة، وعزلت فِي مَوضِع. فَمضى بدر، وأحضر الْغُلَام وَالْمَرْأَة، فَسَأَلَهَا المعتضد عَن الصُّورَة، فَأَخْبَرته بِمثل مَا أخْبرته. فَقَالَ لبدر: بَادر بهَا السَّاعَة على زَوجهَا، مَعَ ثِقَة يدخلهَا دارها، ويشرح لزَوجهَا الْقِصَّة، ويأمره عني بالتمسك بهَا، وَالْإِحْسَان إِلَيْهَا.

ثمَّ استدعاني، فوقفت بإزائه، فَجعل يُخَاطب الْغُلَام، وَأَنا وَاقِف أسمع. فَقَالَ لَهُ: كم جرايتك؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَكم عادتك؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَكم صَلَاتك؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَكم جَارِيَة لَك؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَذكر عدَّة جواري. قَالَ: أفما كَانَ فِيهِنَّ، وَفِي هَذِه النِّعْمَة العريضة، كِفَايَة عَن ارْتِكَاب مَعْصِيّة الله تَعَالَى، وخرق هَيْبَة السُّلْطَان، حَتَّى اسْتعْملت ذَلِك، وجاوزته إِلَى الْوُثُوب بِمن أَمرك بِالْمَعْرُوفِ؟ فأسقط الْغُلَام فِي يَده، وَلم يحر جَوَابا. فَقَالَ: هاتوا جوالقا، ومداق الجص، وأدخلوه الجوالق، فَفَعَلُوا ذَلِك بِهِ. وَقَالَ للفراشين: دقوه، فدقوه، وَأَنا أسمع صياحه، إِلَى أَن مَاتَ،

فَأمر بِهِ، فَطرح فِي دجلة، وَتقدم إِلَى بدر، أَن يحمل مَا فِي دَاره. ثمَّ قَالَ لي: يَا شيخ، أَي شَيْء رَأَيْت من أَجنَاس الْمُنكر، كَبِيرا كَانَ أَو صَغِيرا، أَو أَي أَمر عَن لَك، فَمر بِهِ وَأنكر الْمُنكر، وَلَو على هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَى بدر فَإِن جرى عَلَيْك شَيْء، أَو لم يقبل مِنْك، فالعلامة بَيْننَا أَن تؤذن فِي مثل الْوَقْت الَّذِي أَذِنت فِيهِ، فَإِنِّي أسمع صَوْتك، وأستدعيك، وأفعل هَذَا بِمن لَا يقبل مِنْك. فدعوت لَهُ، وانصرفت. وانتشر الْخَبَر فِي الْأَوْلِيَاء والغلمان، فَمَا خاطبت أحدا بعْدهَا فِي إنصاف أحد، أَو كف عَن قَبِيح إِلَّا أَطَاعَنِي كَمَا رَأَيْت، خوفًا من المعتضد. وَمَا احتجت إِلَى الْأَذَان فِي مثل ذَلِك الْوَقْت.

أحيحة بن الجلاح أكب على إصلاح ضيعته

أحيحة بن الجلاح أكب على إصْلَاح ضيعته وجدت فِي بعض الْكتب: أَن أحيحة بن الجلاح، أسْرع فِي مَاله فأتلفه مَعَ إخْوَان لَهُ، حَتَّى افْتقر، فهجروه وقطعوه، وَاحْتَاجَ إِلَيْهِم فِي الشَّيْء الْيَسِير فمنعوه، فلحقته شدَّة، وضر وَجهد. فَمَاتَ بعض أَهله، فورثه مَالا، وضيعة خرابا تعرف بالزوراء، فَأخذ المَال، وَخرج على الضَّيْعَة يعمرها بِهِ، فطمع فِيهِ الْقَوْم الَّذين أنْفق مَاله عَلَيْهِم، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ يَعْتَذِرُونَ مِمَّا جرى، يرغبونه فِي مواصلتهم، ومعاشرتهم، وَكَانَ أديبا، فَكتب إِلَيْهِم: إِنِّي مكب على الزَّوْرَاء أعمرها ... إِن الْكَرِيم على الإخوان ذُو المَال كل النداء إِذا ناديت يخذلني ... إِلَّا ندائي إِذا ناديت يَا مَالِي فأيسوا مِنْهُ، وَكفوا عَنهُ، وثابت حَاله، وَحسنت ضيعته.

مجلس غناء بمحضر الرشيد

مجْلِس غناء بِمحضر الرشيد وروى حَمَّاد، عَن أبي صَدَقَة، وَكَانَ يحضر مجْلِس الرشيد مَعَ المغنين، فَرُبمَا غنى، وَرُبمَا لم يغن، قَالَ: فَدَعَانَا الرشيد يَوْمًا، فَدَخَلْنَا، والستارة دونه، وَهُوَ من خلفهَا جَالس، فَقَالَ خَادِم من خلفهَا: عَن يَا ابْن جَامع، فَانْدفع يُغني بِهَذَا الصَّوْت: قف بالمنازل سَاعَة فَتَأمل ... هَل بالديار لزائر من منزل أَولا فَفِيمَ توقفي وتلددي ... وسط الديار كأنني لم أَعقل مَا بالديار من البلى وَلَقَد أرى ... أَن سَوف يحملني الْهوى فِي محمل وأحق من يبكي بِكُل محلّة ... عرضت لَهُ فِي منزل للمعول عان بِكُل حمامة سجعت لَهُ ... وغمامة برقتْ بِنَوْء الأعزل يبكي فتفضحه الدُّمُوع فعينه ... مَا عَاشَ مخضلة كفيض الْجَدْوَل فَقَالَ الْخَادِم: ليغن هَذَا الصَّوْت مِنْكُم من كَانَ يُحسنهُ، فغنى كل من أحْسنه مِنْهُم، فَكَأَنَّهُ لم يطرب لَهُ.

فَأقبل الْخَادِم عَليّ، فَقَالَ: إِن كنت تحسن أَن تغنيه، فغنه. فَقلت: نعم , فعجبوا من إقدامي على صَوت لم يستطب من جَمَاعَتهمْ، فغنيته. فَقَالَ الْخَادِم: أَحْسَنت، وَالله، فأعده، فأعدته، وَأعَاد الِاسْتِحْسَان، وَالْأَمر بإعادته على ذَلِك سبع مَرَّات. ثمَّ قَالَ لي الْخَادِم: قُم يَا أَبَا صَدَقَة، فَادْخُلْ، حَتَّى تغني أَمِير الْمُؤمنِينَ بِحَيْثُ يراك، فَدخلت، والمغنون كلهم محجوبون، فغنيته إِيَّاه، ثَلَاث مَرَّات، فطرب فِي جَمِيعهنَّ.

وَقَالَ: أَحْسَنت يَا أَبَا صَدَقَة. فَلَمَّا سَمِعت مَا خصني بِهِ من استحسانه، قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن لهَذَا الصَّوْت حَدِيثا عجيبا، أَفلا أحَدثك بِهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لَعَلَّه يزْدَاد حسنا. فَقَالَ: بلَى، هَات. فَقلت: كنت يَا سَيِّدي، عبدا لبَعض آل الزبير، وَكنت خياطا مجيدا، أخيط الْقَمِيص بِدِرْهَمَيْنِ، والسراويل بدرهم، وأؤدي ضريبتي إِلَى سَيِّدي فِي كل يَوْم دِرْهَمَيْنِ، وآخذ مَا فضل عَن ذَلِك، فَبَيْنَمَا أَنا ذَات يَوْم منصرفا، وَقد خطت قَمِيصًا لبَعض الطالبيين، وَقد أخذت مِنْهُ دِرْهَمَيْنِ، وانصرفت إِلَى مَوضِع يجْتَمع فِيهِ المغنون، كنت أقصده إِذا فرغت من شغلي، لشغفي بِالْغنَاءِ، فَلَمَّا صرت بحذاء بركَة الْمهْدي، إِذا أَنا بسوداء على رقبَتهَا جرة، تُرِيدُ أَن تملأها من مَاء العقيق، وَهِي تغني بِهَذَا الصَّوْت، أحسن غناء يكون، فَأَصَابَنِي من الطَّرب بغنائها مَا أذهلني عَن كل شَيْء. فَقلت لَهَا: فدَاك أبي وَأمي، ألقِي عَليّ هَذَا الصَّوْت. فَقَالَت: استحسنته؟ فَقلت: إِي وَالله. فَقَالَت: وَحقّ الْقَبْر وَمن فِيهِ، لَا أعدته إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ. فَدفعت الدرهمين إِلَيْهَا، فأحدرت جرتها عَن رقبَتهَا فارغة، فَوَضَعتهَا

على الأَرْض، وَجَلَست عَلَيْهَا، وَكَأَنِّي أنظر إِلَى فقحتها وَقد برزت عَن الجرة نَحْو ذِرَاع، وَأَقْبَلت تلقيه عَليّ، وتوقع على الجرة، حَتَّى أَخَذته، ثمَّ أخذت الجرة على رقبَتهَا، وانصرفت. فحين انصرفت، أنسيت الصَّوْت ولحنه، حَتَّى كَأَنِّي لم أسمعهُ قطّ، فَبَقيت متحيرا لَا أَدْرِي مَا أصنع، وانصرفت إِلَى سَيِّدي بأسوء حَال، وأكسف بَال. فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ: هَات ضريبتك. فلجلجت فِي كَلَامي، وَقلت: يَا سَيِّدي، اسْمَع حَدِيثي. فَقَالَ: يَا ابْن اللخناء، أبي تتعرض؟ فبطحني، وضربني مائَة مقرعة، وَحلق رَأْسِي ولحيتي، وَمَنَعَنِي قوتي، وَكَانَ أَرْبَعَة أرغفة، فَلم يكن شَيْء من ذَلِك، أَشد عَليّ، من ذهَاب الصَّوْت مني، وَبت لَيْلَتي أسوء خلق الله حَالا، وَأَنا لَا أعرف الْجَارِيَة، وَلَا موضعهَا وَلَا لمن هِيَ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، خرجت وَلها أطلبها فِي الْموضع الَّذِي لقيتها فِيهِ، وأسأل الله أَن يحوج أَهلهَا إِلَى المَاء، حَتَّى تخرج لتأتيهم بِهِ، فأراها، فَلم أزل أطلبها، لَا أعمل شَيْئا إِلَى الْعَصْر. فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك، وَإِذا بهَا قد أَقبلت، فَلَمَّا رأتني، وَمَا بِي من الوله، قَالَت لي: مَالك، أنسيت الصَّوْت؟ فَقلت: إِي وَالله، وَضربت مائَة مقرعة، ومنعت قوتي لَيْلَتي، وحلقت رَأْسِي ولحيتي.

فَقلت: دع هَذَا عَنْك، فَوَرَبِّ الْكَعْبَة، لاسمعته مني، فضلا عَن أَخذه إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ. فَقلت: الله، الله، فِي فيمرن عَليّ اللَّيْلَة مثل مَا مر عَليّ البارحة، فارحميني. فَقَالَت: قد سَمِعت الْيَمين، وَذَهَبت لتمضي. فَقلت: اصْبِرِي، وَجئْت إِلَى بقال كَانَ يعاملني، فرهنت عِنْده الجلمين، على دِرْهَمَيْنِ، وَجئْت بهما إِلَيْهَا، فأخذتهما، وجعلتهما فِي فِيهَا. فَلَمَّا بدأت بالصوت، ذكرته، فَقلت: الله، الله، ردي عَليّ الدرهمين، فَلَا حَاجَة بِي إِلَى غنائك. فَقَالَت: أَنْت أَحمَق، وَلست تعرف هَذَا الْأَمر، لَئِن لم أردده عَلَيْك مائَة مرّة مَا حصل لَك مِنْهُ شَيْء، وَجَلَست على الجرة، فغنته مائَة مرّة، أعدهَا عَلَيْهَا حَتَّى فهمته، وصرت بِهِ أمهر مِنْهَا، وانصرفت. فساعة فارقتها، لحقتني الندامة، وَقلت: سيلحقني اللَّيْلَة أَكثر مِمَّا لَحِقَنِي البارحة، لفقد الجلمين. فَرَجَعت إِلَى مولَايَ، فحين رَآنِي، قَالَ: هَات ضريبتك. فَقلت لَهُ: اسْمَع مني. قَالَ: أَي شَيْء أسمع، يَا ابْن الْفَاجِرَة، أما كَفاك مَا مر بك أمس، ووثب إِلَى السَّوْط. فَقلت لَهُ: اسْمَع، واصنع مَا شِئْت. فَقَالَ: هَات، فغنيته الصَّوْت.

فَقَالَ: أَحْسَنت، وَالله، يعز عَليّ مَا أَصَابَك، أما الضَّرْب فقد مضى، وَلَا حِيلَة فِيهِ، وَأما قوتك فمردود، وَأما ضريبتك، فساقطة عَنْك مَا عِشْنَا وَلَو مت أَنا وعيالي جوعا، فَأَنت الْيَوْم وَاحِدًا منا أبدا مَا بَقينَا، فَهَذَا خبر الصَّوْت. وَكَانَ المغنون الَّذين حَضَرُوا، إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، وَابْنه إِسْحَاق، وَابْن جَامع , وَمُسلم بن سَلام. فَأمر لكل وَاحِد مِنْهُم بِأَلف دِينَار، وَأمر لي بِعشْرَة آلَاف دِينَار، مثل مَا أَمر لجماعتهم، ثمَّ استدعى ألف دِينَار، فَقَالَ: خُذ هَذِه بدل الْمِائَة مقرعة الَّتِي ضربت. فَانْصَرَفت، والمغنون يتعجبون مِمَّا جرى.

الوليد بن يزيد يستقبل البريد بموت هشام

الْوَلِيد بن يزِيد يسْتَقْبل الْبَرِيد بِمَوْت هِشَام وَحدث الْمُنْذر بن عَمْرو، وَكَانَ كَاتبا للوليد بن يزِيد بن عبد الْملك، قَالَ: أرسل إِلَيّ الْوَلِيد صَبِيحَة الْيَوْم الَّذِي أَتَتْهُ فِيهِ الْخلَافَة، فَقَالَ لي: يَا أَبَا الزبير، مَا أَتَت عَليّ لَيْلَة أطول من البارحة، وَعرضت لي أُمُور حدثت نَفسِي فِيهَا بِأُمُور، وَهَذَا الرجل قد جد بِنَا، فاركب بِنَا. فَرَكبْنَا جَمِيعًا، وسرنا نَحْو ميلين، فَوقف على تل، فَجعل يشكو إِلَيّ هشاما، إِذْ نظر إِلَى رهج، قد أقبل، وَقَعْقَعَة الْبَرِيد. فتعوذ بِاللَّه من شَرّ هِشَام، وَقَالَ: إِن هَذَا الْبَرِيد، قد أقبل، بِمَوْت حَيّ، أَو هلك عَاجل. فَقلت: لَا يسؤك الله أَيهَا الْأَمِير، بل يَسُرك وينفعك، إِذْ بدا رجلَانِ على الْبَرِيد مقبلان، أَحدهمَا مولى لآل أبي سُفْيَان بن حَرْب، فَلَمَّا رَأيا الْوَلِيد نزلا، وسلما عَلَيْهِ بالخلافة، فَوَجَمَ، فَجعلَا يكرران عَلَيْهِ السَّلَام بالخلافة. فَقَالَ لَهما: ويحكما مَا الْخَبَر، أمات هِشَام؟ قَالَا: نعم. قَالَ: فمرحبا بكما، مَا مَعَكُمَا؟ قَالَا: كتاب مَوْلَاك سَالم بن عبد الرَّحْمَن، فَقَرَأَ الْكتاب، وانصرفنا. وَسَأَلَ عَن عِيَاض بن سَالم، كَاتبه الَّذِي كَانَ هِشَام قد حَبسه، وضربه، فَقَالَا: لم يزل مَحْبُوسًا، حَتَّى نزلت بِهِشَام مُصِيبَة الْمَوْت، فَلَمَّا بلغ إِلَى حَال لَا يُرْجَى مَعهَا الْحَيَاة لَهُ، أرسل عِيَاض إِلَى الْخزَّان: احتفظوا بِمَا فِي أَيْدِيكُم،

وَلَا يصل أحد إِلَى شَيْء مِنْهُ، فأفاق هِشَام إفاقة، فَطلب شَيْئا، فَمَنعه الْخزَّان، فَقَالَ: أرانا كُنَّا خزانا للوليد، وَقضى من سَاعَته. فَخرج عِيَاض لوقته من السجْن عِنْدَمَا قضى هِشَام، فغلق الْأَبْوَاب، وختمها، وَأمر بِهِشَام، فَأنْزل عَن فرَاشه، ومنعهم أَن يكفنوه من الخزائن، فَكَفنهُ غَالب مَوْلَاهُ، وَلم يَجدوا قمقما يسخن فِيهِ المَاء، حَتَّى استعاروه. وَذكر بَاقِي الحَدِيث مِمَّا لَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب.

254 ابن جامع المغني يأخذ صوتا بثلاثة دراهم فيفيد منه ثلاثة آلاف دينار

254 ابْن جَامع الْمُغنِي يَأْخُذ صَوتا بِثَلَاثَة دَرَاهِم فَيُفِيد مِنْهُ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار حدث مُحَمَّد بن صلصال، عَن إِسْمَاعِيل بن جَامع، أَنه قَالَ: ضامني الدَّهْر ضيما شَدِيدا بِمَكَّة، فَأَقْبَلت مِنْهَا بعيالي إِلَى الْمَدِينَة، فَأَصْبَحت يَوْمًا، وَمَا معي إِلَّا ثَلَاثَة دَرَاهِم، لَا أملك غَيرهَا، وَإِذا بِجَارِيَة على رقبَتهَا جرة، تُرِيدُ الركي، وَهِي تتغنى بِهَذَا الصَّوْت: شَكَوْنَا إِلَى أحبابنا طول ليلنا ... فَقَالُوا لنا مَا أقصر اللَّيْل عندنَا ... وَذَاكَ لِأَن النّوم يغشى عيونهم ... سَرِيعا وَلَا يغشى لنا النّوم أعينا إِذا مَا دنا اللَّيْل المضر بِذِي الْهوى ... قلقنا وهم يستبشرون إِذا دنا فَلَو أَنهم كَانُوا يلاقون مِثْلَمَا ... نلاقي لكانوا فِي الْمضَاجِع مثلنَا قَالَ: فَأخذ الْغناء بقلبي، وَلم يدُرْ لي مِنْهُ حرف. فَقلت: يَا جَارِيَة مَا أَدْرِي أوجهك أحسن، أم غناؤك؟ فَلَو شئتِ؛ لأعدتِ، فَقَالَت: حبا وكرامة، ثمَّ أسندت ظهرهَا إِلَى جِدَار قريب مِنْهَا، وَرفعت إِحْدَى رِجْلَيْهَا، فَوَضَعتهَا على الْأُخْرَى، وَوضعت الجرة على سَاقهَا، ثمَّ انبعثت، فغنته، فوَاللَّه مَا دَار لي مِنْهُ حرف. فَقلت: قد أَحْسَنت، فَلَو تفضلت، وأعدته مرّة أُخْرَى،

ففطنت، وكلحت، وَقَالَت: مَا أعجب أَمركُم، لَا يزَال أحدكُم يَجِيء إِلَى الْجَارِيَة عَلَيْهَا الضريبة، فيحبسها. فضربتُ يَدي إِلَى الثَّلَاثَة دَرَاهِم، فدفعتها إِلَيْهَا، وَقلت: أقيمي بِهَذِهِ وَجهك الْيَوْم، إِلَى أَن نَلْتَقِي. فأخذتها كالكارهة، وَقَالَت: أَنْت الْآن تُرِيدُ أَن تَأْخُذ مني صَوتا، أحسبك ستأخذ بِهِ ألف دِينَار، وَألف دِينَار، وَألف دِينَار، وانبعثت تغني. فأعملت فكري فِي غنائها، حَتَّى دَار لي الصَّوْت، وفهمته، فَانْصَرَفت مَسْرُورا إِلَى منزلي، وَأَنا أردده، حَتَّى خف على لساني. ثمَّ إِنِّي خرجت إِلَى بَغْدَاد، فدخلتها، فطرحني المكاري بِبَاب محول، لَا أَدْرِي أَيْن أتوجه، فَلم أزل أَمْشِي مَعَ النَّاس، حَتَّى أتيت الجسر، فعبرته، ثمَّ انْتَهَيْت إِلَى شَارِع الميدان، فَرَأَيْت مَسْجِدا بِالْقربِ من دَار الْفضل بن الرّبيع مرتفعا، فَقلت: هَذَا مَسْجِد قوم سراة، فدخلته، وَحَضَرت صَلَاة الْمغرب، فَصليت، وأقمت بمكاني إِلَى أَن صليت الْعشَاء، وَبِي من الْجُوع والتعب أَمر عَظِيم. فَانْصَرف أهل الْمَسْجِد، وَبَقِي رجل يُصَلِّي، وَخَلفه جمَاعَة خدم وفحول، ينتظرون فَرَاغه، فصلى مَلِيًّا، ثمَّ انْصَرف إِلَيّ بِوَجْهِهِ، وَقَالَ: أحسبك غَرِيبا. قلت: أجل. قَالَ: فَمَتَى كنت فِي هَذِه الْمَدِينَة؟ قلت: دَخَلتهَا آنِفا، وَلَيْسَ لي بهَا منزل وَلَا معرفَة، وَلَيْسَت صناعتي من الصَّنَائِع الَّتِي يمت بهَا إِلَى أهل الْخَيْر. فَقَالَ: وَمَا صناعتك؟ قلت: أُغني. فَقَامَ، وَركب مبادرا، ووكل بِي بعض من كَانَ مَعَه، فَسَأَلت الْمُوكل بِي عَنهُ، فَقَالَ لي: هَذَا سَلام الأبرش، ثمَّ عَاد، فَأخذ بيَدي، فَانْتهى بِي إِلَى قصر من قُصُور الْخَلِيفَة، فَأَدْخلنِي مَقْصُورَة فِي آخر الدهليز، ودعا بِطَعَام من طَعَام الْمُلُوك على مائدة، فَأكلت، فَإِنِّي لكذلك، إِذْ سَمِعت ركضا فِي الدهليز، وقائلا يَقُول: أَيْن الرجل؟ فَقيل: هُوَ ذَا.

فدعي لي بغسول، وَطيب، وخلعة، فَلبِست وتطيبت، وحملت إِلَى دَار الْخَلِيفَة على دَابَّة، فعرفتها بالحرس وَالتَّكْبِير والنيران، فجاوزت مقاصير عدَّة، حَتَّى صرت إِلَى دَار قوراء، وَسطهَا أسرة، قد أضيف بَعْضهَا إِلَى بعض، فَأمرت بالصعود، فَصَعدت، فَإِذا رجل جَالس، وَعَن يَمِينه ثَلَاث جوَار، وَإِذا حياله مجَالِس خَالِيَة، قد كَانَ فِيهَا قوم قَامُوا عَنْهَا. فَلم ألبث أَن خرج خَادِم من وَرَاء السّتْر، فَقَالَ للرجل: تغن، فغنى صَوتا لي وَهُوَ: لم تمش ميلًا وَلم تركب على جمل ... وَلم تَرَ الشَّمْس إِلَّا دونهَا الكلل تمشي الهوينا كَأَن الشَّمْس بهجتها ... مشي اليعافير فِي جيآتها الوهل فغنى بِغَيْر إِصَابَة، وأوتار مُخْتَلفَة الدساتين، وَعَاد الخدم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تليه، فَقَالَ لَهَا: غَنِي، فغنت أَيْضا، صَوتا لي، كَانَت فِيهِ أحسن حَالا، وَهُوَ:

يَا دَار أمست خلاء لَا أنيس بهَا ... إِلَّا الظباء وَإِلَّا الناشط الفرِد أَيْن الَّذين إِذا مَا زرتهم جذلوا ... وطارعن قلبيَ التشواق والكمد؟ قَالَ: ثمَّ عَاد إِلَى الثَّانِيَة، فغنت صَوتا لحكم الْوَادي، وَهُوَ: فوَاللَّه مَا أَدْرِي أيغلبني الْهوى ... إِذا جد جد الْبَين أم أَنا غالبه فَإِن أستطع أغلب وَإِن يغلب الْهوى ... فَمثل الَّذِي لاقيت يغلب صَاحبه ثمَّ عَاد إِلَى الثَّالِثَة، فَقَالَ لَهَا: غَنِي، فغنت بِصَوْت لحنين، وَهُوَ: مَرَرْنَا على قيسية عامرية ... لَهَا بشر صافي الْأَدِيم هجان فَقَالَت وَأَلْقَتْ جَانب السّتْر دونهَا ... لأية أَرض أَو لأي مَكَان فَقلت لَهَا إِمَّا تَمِيم فأسرتي ... هديتِ وَإِمَّا صَاحِبي فيماني رفيقان ضم السفْر بيني وَبَينه ... وَقد يلتقي الشتى فيأتلفان

ثمَّ عَاد إِلَى الرجل، فغنى صَوتا لي، فشبّه فِيهِ، من شعر عمر بن أبي ربيعَة: أَمْسَى بأسماء هَذَا الْقلب معمودا ... إِذا أَقُول صَحا يعتاده عيدا كَأَن أحور غزلان بِذِي رشإ ... أعارها سِنَة الْعَينَيْنِ والجيدا ومشرقا كشعاع الشَّمْس بهجته ... ومسبطرّا على لبّاته سُودًا ثمَّ عَاد إِلَى الْجَارِيَة الأولى، فغنت صَوتا لحكم الْوَادي، وَهُوَ: تعيرنا أَنا قَلِيل عديدنا ... فَقلت لَهَا إِن الْكِرَام قَلِيل وَمَا ضرنا أنّا قَلِيل وجارنا ... عَزِيز وجار الْأَكْثَرين ذليل وَإِنَّا أنَاس لَا نرى الْقَتْل سبة ... إِذا مَا رَأَتْهُ عَامر وسلول يقرب حب الْمَوْت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول ثمَّ عَاد إِلَى الثَّانِيَة، فغنت صَوتا، فَتَقول فِيهِ: وددتك لما كَانَ ودك خَالِصا ... وأعرضت لما صَار نهبا مقسمًا وَلَا يلبث الْحَوْض الْجَدِيد بِنَاؤُه ... إِذا كثر الوراد أَن يتهدما ثمَّ عَاد إِلَى الْجَارِيَة الثَّالِثَة، فغنت بِشعر الخنساء، وَهُوَ:

وَمَا كرّ إِلَّا كَانَ أول طَاعن ... وَمَا أبصرته الْعين إِلَّا اقشعرت فيدرك ثارا وهْو لم يخطه الْغنى ... فَمثل أخي يَوْمًا بِهِ الْعين قرت فلست أرزّى بعده برزية ... فأذكره إِلَّا سلت وتجلت وغنى الرجل فِي الدّور الثَّالِث، بِهَذِهِ الأبيات: لحى الله صعلوكا مناه وهمه ... من الدَّهْر أَن يلقى لبوسا ومطعما ينَام الضُّحَى حَتَّى إِذا ليله بدا ... تنبه مسلوب الْفُؤَاد متيما وَلَكِن صعلوكا يساور همه ... ويمضي إِلَى الهيجاء ليثا مصمما فَذَلِك إِن يلق الْمنية يلقها ... حميدا وَإِن يسْتَغْن يَوْمًا فَرُبمَا قَالَ: وتغنت الْجَارِيَة: إِذا كنت رَبًّا للقلوص فَلَا يكن ... رفيقك يمشي خلفهَا غير رَاكب أنخها فأردفه فَإِن حملتكما ... فَذَاك وَإِن كَانَ الْعقَاب فعاقب قَالَ: وغنت الْجَارِيَة، بِشعر عَمْرو بن معدي كرب، وَهُوَ: ألم ترني إِذْ ضمني الْبَلَد القفر ... سَمِعت نِدَاء يصدع الْقلب يَا عَمْرو

أغثنا فَإنَّا عصبَة مذحجية ... نراد على وفر وَلَيْسَ لنا وفر وَأَظنهُ أغفل الثَّانِيَة، فغنت الثَّالِثَة، بِهَذِهِ الأبيات: فَلَمَّا وقفنا للْحَدِيث وأسفرت ... وُجُوه زهاها الْحسن أَن تتقنعا تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امْرُؤ بَاغ أضلّ وأوضعا فَلَمَّا تواضعن الْأَحَادِيث قُلْنَ لي ... أخفت علينا أَن نغر ونخدعا قَالَ: فتوقعت مَجِيء الْخَادِم، فَقلت للرجل: بِأبي أَنْت، خُذ الْعود، وَشد وتر كَذَا، وارفع الطَّبَقَة، وَحط دساتن كَذَا، فَفعل مَا أَمرته. وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ لي: تغن عافاك الله. فغنيت بِصَوْت الرجل الأول، على غير مَا غنى، فَإِذا جمَاعَة من الخدم يُحْضِرُونَ حَتَّى استندوا إِلَى الأسرة، فَقَالُوا: وَيحك، لمن هَذَا الْغناء؟ فَقلت: لي. فناصرفوا، وَعَاد إِلَيّ خَادِم، فَقَالَ: كذبت، هَذَا لِابْنِ جَامع، فسكتّ. وَدَار الدّور الثَّانِي، فَلَمَّا انْتهى إِلَيّ؛ قلت لِلْجَارِيَةِ الَّتِي تلِي الرجل: خذي الْعود، فَعلمت مَا أُرِيد، فأصلحته على غنائها، فغنيت بِهِ، فَخرج الخدم، وَقَالُوا: وَيحك، لمن هَذَا الْغناء؟ فَقلت: لي. فَرَجَعُوا، ثمَّ عَاد ذَلِك الْخَادِم من بَينهم، فَقَالَ: كذبت، هَذَا لِابْنِ جَامع.

وَدَار الدّور، فَلَمَّا انْتهى إِلَيّ الْغناء، قلت لِلْجَارِيَةِ الْأُخْرَى، سوي الْعود على كَذَا، فَعلمت مَا أُرِيد، وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ لي: تغن، فغنيت هَذَا الصَّوْت، وَهُوَ لَا يعرف إِلَّا بِي، وَهُوَ: عوجي عَليّ فسلمي جبر ... فيمَ الْوُقُوف وَأَنْتُم سفر؟ مَا نَلْتَقِي إِلَّا ثَلَاث منى ... حَتَّى يفرق بَيْننَا النَّفر فتزلزلت عَلَيْهِم الدَّار، وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ: وَيحك، لمن هَذَا الْغناء؟ فَقلت: لي. فَمضى، ثمَّ عَاد، فَقَالَ: كذبت، هَذَا لِابْنِ جَامع. قلت: فَأَنا ابْن جَامع. فَمَا شَعرت إِلَّا وأمير الْمُؤمنِينَ، وجعفر بن يحيى، قد أَقبلَا من وَرَاء السّتْر الَّذِي كَانَ يخرج مِنْهُ الْخَادِم. فَقَالَ لي الْفضل بن

الرّبيع: هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد أقبل إِلَيْك، فَلَمَّا صعد السرير، وثبْتُ قَائِما. فَقَالَ: ابْن جَامع؟ فَقلت: ابْن جَامع، جعلت فدَاك، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: مَتى كنت فِي هَذِه الْمَدِينَة؟ فَقلت: دَخَلتهَا فِي الْوَقْت الَّذِي علم بِي فِيهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ.

فَقَالَ: اجْلِسْ، وَمضى هُوَ وجعفر، فَجَلَسَا فِي تِلْكَ الْمجَالِس. فَقَالَ: أبشر، وابسط أملك، فدعوت لَهُ. فَقَالَ: غن يَابْنَ جَامع، فخطر ببالي صَوت الْجَارِيَة السَّوْدَاء، فَأمرت الرجل بإصلاح الْعود على مَا أردْت من الطَّبَقَة، فَعرف مَا أُرِيد، فوزنه وزنا. فَلَمَّا أخذت الأوتار والدساتين موَاضعهَا، وتعاهدها؛ ابتدأت أُغني بِصَوْت الْجَارِيَة، فَنظر الرشيد إِلَى جَعْفَر، فَقَالَ: هَل سَمِعت كَذَا قطّ؟ قَالَ: لَا وَالله، وَلَا خرق مسامعي مثله قطّ. فَرفع الرشيد رَأسه إِلَى خَادِم كَانَ بِالْقربِ مِنْهُ، فَأتى بكيس فِيهِ ألف دِينَار، فَرمى بِهِ إِلَيّ، فصيرته تَحت فَخذي، ودعوت لَهُ. فَقَالَ: يَابْنَ جَامع، رد عَليّ هَذَا الصَّوْت، فرددته عَلَيْهِ، وتزيدت فِي غنائي. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: أما ترى كَيفَ تزيد فِي الْغناء، وَهَذَا خلاف الأول، وَإِن كَانَ اللّحن وَاحِدًا. فَرفع الرشيد رَأسه إِلَى الخدام، فَأتى بكيس فِيهِ ألف دِينَار، فَرمى بِهِ إِلَيّ، فَجَعَلته تَحت فَخذي الآخر. ثمَّ قَالَ: تغن، يَا إِسْمَاعِيل، بِمَا حضرك. فَجعلت أقصد الصَّوْت بعد الصَّوْت، بِمَا كَانَ يبلغنِي أَنه يَشْتَرِي عَلَيْهِ الْجَوَارِي، فأغنيه، فَلم أزل كَذَلِك، إِلَى أَن عسعس اللَّيْل. فَقَالَ: أتعبناك، يَا إِسْمَاعِيل، هَذِه اللَّيْلَة، فأعد عَليّ الصَّوْت؛ يَعْنِي: صَوت الْجَارِيَة، فغنيته بِهِ، فَرفع رَأسه إِلَى الْخَادِم، فَوَافى بكيس ثَالِث فِيهِ ألف دِينَار. فَذكرت قَول الْجَارِيَة، فتبسمت، فلحظني، وَقَالَ: يَابْنَ الفاعلة، فيمَ تبسمت؟ فجثيت على ركبتي، وَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، الصدْق منجاة. قَالَ: قل.

فقصصت عَلَيْهِ خبر الْجَارِيَة، فَلَمَّا اسْتَوْفَيْته؛ قَالَ: صدقت، قد يكون مثل هَذَا، وَقَامَ. وَنزلت من وَرَاء السّتْر، لَا أَدْرِي أَيْن أمضي، فابتدرني فراشان، فصارا بِي إِلَى دَار قد أَمر لي أَمِير الْمُؤمنِينَ بهَا، فِيهَا من الْفرش، والآلة، والخدم، جَمِيع مَا أُرِيد، فخلت فَقِيرا، وأصبحت من المياسير. ذكر الْأَصْبَهَانِيّ: أَن صَوت إِسْمَاعِيل الَّذِي غناهُ، لَا يعرف إِلَّا بِهِ، وَهُوَ: فَلَو كَانَ لي قلبان عشتُ بِوَاحِد ... وخلّفتُ قلبا فِي هَوَاك يعذّب ولكنني أَحْيَا بقلب معذب ... فَلَا الْعَيْش يصفو لي وَلَا الْمَوْت يقرب تعلمت أَسبَاب الرِّضَا خوف سخطها ... وَعلمهَا حبي لَهَا كَيفَ تغْضب ولي ألف وَجه قد عرفت مَكَانَهُ ... وَلَكِن بِلَا قلب إِلَى أَيْن أذهب؟

255 ابن هرمة يتحدث عن أفضال عبد الواحد بن سليمان

255 ابْن هرمة يتحدث عَن أفضال عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان قَالَ: قَالَ رجل لِابْنِ هرمة: بِمَا اسْتحق مِنْك عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان أَن تَقول فِيهِ: أعبد الْوَاحِد المأمول إِنِّي ... أغص حذار سخطك بالقراح وجدنَا غَالِبا كَانَت جنَاحا ... وَكَانَ أَبوك قادمة الْجنَاح؟ فَقَالَ: إِن ذهبت أعدد صنائعه الَّتِي اسْتحق لَهَا مني هَذَا القَوْل، طَالَتْ، وَلَكِن أخْبرك بأصغر صَنِيعَة لَهُ عِنْدِي. كنت مُنْقَطِعًا إِلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ أَيَّام كَانَ يتولاها، فأغناني عَن سواهُ، ثمَّ عزل، فَظَنَنْت أَن الْوَالِي سيحسن إِلَيّ، فَلم يبرني بِشَيْء، فأنفقت مَا كَانَ معي، حَتَّى لم يبْق لي شَيْء. فَقلت لأختي: وَيحك، أما تَرين مَا أَنا فِيهِ من الشدَّة، وَتعذر الْقُوت؟ قَالَت: بِسوء اختيارك. قلت: فبمن تشيرين؟

فَقَالَت: مَا أعرف لَك غير عبد الْوَاحِد بن سُلَيْمَان. فَقلت: وَمن لي بِهِ، وَهُوَ بِدِمَشْق، وَأَنا بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَت: أَنا أعينك على قصدك إِلَيْهِ. فَقلت: افعلي. فباعت حليا كَانَ لَهَا، واشترت لي رَاحِلَة، وزودتني، فوافيت دمشق بعد اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة، فأنخت عشَاء على بَاب عبد الْوَاحِد، وعقلت رَاحِلَتي، وَدخلت الْمَسْجِد، فحططت فِيهِ رحلي. فَلَمَّا صلى عبد الْوَاحِد، وَجلسَ يسبح؛ حوّل وَجهه إِلَى جُلَسَائِهِ، فَنظر إِلَى رحلي، فَقَالَ: لمن هَذَا؟ فَوَثَبت، وَقبلت يَده، وَقلت: أَنا يَا سَيِّدي، عَبدك ابْن هرمة. فَقَالَ: مَا خبرك يَا أَبَا إِسْحَاق؟ فَقلت: شَرّ خبر، بعْدك، أَيهَا الْأَمِير، تلاعبت بِي المحن، وجفاني الصّديق، ونبا بِي الوطن، فَلم أجد معولا إِلَّا عَلَيْك. فوَاللَّه، مَا أجابني إِلَّا بدموعه، ثمَّ قَالَ: وَيحك، أبلغ بك الْجهد إِلَى مَا ذكرت؟ فَقلت: إِي وَالله، وَمَا أخفيه عَنْك أَكثر. فَقَالَ: اسكن، وَلَا ترع. ثمَّ إِنَّه نظر إِلَى فتية بَين يَدَيْهِ، كَأَنَّهُمْ الصقور، فَوَثَبُوا، فاستدعى أحدهم، وهمس إِلَيْهِ بِشَيْء، فَمضى مسرعا، ثمَّ أَوْمَأ إِلَى الثَّانِي، فهمس إِلَيْهِ بِشَيْء، وَكَذَلِكَ الثَّالِث، فَمضى. ثمَّ أقبل الأول، وَمَعَهُ خَادِم على رَأسه كيس، فَصَبَّهُ فِي حجري، فَقَالَ لَهُ أَبوهُ: كم هَذَا؟ فَقَالَ: ألف دِينَار وَسبع مائَة دِينَار، وَوَاللَّه مَا فِي خزانتك غَيرهَا.

ثمَّ أقبل الثَّانِي، وَبَين يَدَيْهِ عبد على كتفه كارة، فصبها بَين يَدَيْهِ، فَإِذا فِيهَا حلي مخلع من بَنَاته ونسائه. فَقَالَ: وَالله، مَا تركت لَهُنَّ شَيْئا، إِلَّا أَخَذته. وَأَقْبل الثَّالِث، وَمَعَهُ غلامان، مَعَهُمَا كارتان عظيمتان من فاخر ثِيَابه، فَوضع ذَلِك بَين يَدي. ثمَّ قَالَ: يَابْنَ هرمة، أَنا أعْتَذر إِلَيْك من قلَّة مَا حبوتك بِهِ، مَعَ بعد الْعَهْد، وَطول الشقة، وسعة الأمل، وَلَكِنَّك جئتنا فِي آخر السّنة، وَقد تقسمت أَمْوَالنَا الْحُقُوق، ونهبتنا أَيدي المؤملين، فَلم يبْق عندنَا غير هَذِه الصبابة، آثرناك بهَا على أَنْفُسنَا، وسللناها لَك من أفواهنا، وَلَو قدمت قبل هَذَا الْإِعْسَار؛ لأعطيناك مَا يَكْفِيك، وَلَو علمنَا بك؛ لأتاك عفوا، وَلم تتجشم الْمَشَقَّة، وَلم نحوجك إِلَى مَا سوانا، وَذَلِكَ منا لَك أبدا، مَا بقيت، فأقسم عَلَيْك، لما أَصبَحت إِلَّا على ظهر راحلتك، وتداركت أهلك، فخلصتهم من هَذِه المحنة، فَقُمْت إِلَى نَاقَتي، فَإِذا هِيَ قد ضعفت. فَقَالَ: مَا أرى فِي نَاقَتك خيرا، يَا غُلَام، أعْطه نَاقَتي الْفُلَانِيَّة، فجِئ بهَا برحلها، فَكَانَت، وَالله، أحب إِلَيّ من جَمِيع مَا أَعْطَانِي، ثِقَة ببلوغها، ثمَّ دَعَا بناقتين أُخْرَيَيْنِ، وأوقرهما من المَال وَالثيَاب، وَزَادا يَكْفِينِي لطريقي، ووهب لي عَبْدَيْنِ. وَقَالَ: هَذَانِ يخدمانك فِي السَّقْي والرعي، فَإِن شِئْت بعتهما، وَإِن شِئْت أبقيتهما، أفتلومني أَنِّي أغص حذار سخطه بريقي؟ قَالَ: لَا وَالله.

256 القائد هرثمة بن أعين يتحدث عما أمره به الهادي في ليلة موته

256 الْقَائِد هرثمة بن أعين يتحدث عَمَّا أمره بِهِ الْهَادِي فِي لَيْلَة مَوته حَدثنِي عَليّ بن هِشَام، عَن مُحَمَّد بن الْفضل: أَن هرثمة بن أعين، قَالَ: كنت اختصصت بمُوسَى الْهَادِي، وَكنت، مَعَ ذَلِك، شَدِيد الحذر مِنْهُ؛ لإقدامه على سفك الدِّمَاء. فاستدعاني نصف نَهَار، فِي يَوْم شَدِيد الْحر، قبل أكلي، فتداخلني مِنْهُ رعب، وبادرت فَدخلت عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي حجرَة من دور حرمه، فصرف جَمِيع من كَانَ بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ لي: اخْرُج وأغلق الْبَاب، وعد إِلَيّ، فازداد جزعي، فَفعلت، وعدت إِلَيْهِ. فَقَالَ لي: قد تأذيت بِهَذَا الْكَلْب الملحد، يحيى بن خَالِد، لَيْسَ لَهُ فكر غير تضريب الْجَيْش، واجتذابهم إِلَى صَاحبه هَارُون، يُرِيد أَن يقتلني، ويسوق إِلَيْهِ الْخلَافَة، وَأُرِيد أَن تمْضِي اللَّيْلَة إِلَى هَارُون، وتقبض عَلَيْهِ، وتذبحه، وتجيني بِرَأْسِهِ، إِمَّا فِي دَاره، وَإِمَّا أَن تخرجه برسالتي تستدعيه إِلَى حضرتي، ثمَّ تعدل بِهِ إِلَى دَارك، فتقتله، وتجيني بِرَأْسِهِ. فورد عَليّ لأعظم وَارِد، فَقلت: تَأذن، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فِي الْكَلَام؟ فَقَالَ: قل.

فَقلت: أَخُوك، وَابْن أَبِيك، وَله بعْدك الْعَهْد، فَكيف تكون صورتنا، أَولا عِنْد الله، ثمَّ عِنْد الْجَيْش؟ فَقَالَ: إِنَّك إِن فعلت هَذَا، وَإِلَّا ضربت عُنُقك السَّاعَة. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. فَقَالَ: وَأُرِيد إِذا فرغت مِنْهُ هَذِه اللَّيْلَة، أَن تخرج من فِي الْحَبْس من الطالبيين، فَتضْرب رِقَاب أَكْثَرهم، وتغرق البَاقِينَ. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. قَالَ: ثمَّ ترحل إِلَى الْكُوفَة، فتجمع من تقدر عَلَيْهِ من الْجَيْش، فَتخرج من بهَا من العباسيين، وشيعتهم، وعمالنا، والمتصرفين، ثمَّ تضرمها بالنَّار، حَتَّى لَا يبْقى فِيهَا جِدَار. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذَا أَمر عَظِيم. فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أعداؤنا، وشيعة آل أبي طَالب، وكل آفَة ترد علينا، فَهِيَ من جهتهم، وَلَا بُد من هَذَا. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. فَقَالَ: لَا تَبْرَح من مَكَانك إِلَى نصف اللَّيْل؛ لتمضي إِلَى هَارُون. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. ونهض عَن مَوْضِعه، وَدخل إِلَى دور النِّسَاء، وَجَلَست مَكَاني، لَا أَشك أَنه قد قبض عَليّ ليقتلني، وَيُدبر هَذِه الْأُمُور على يَد غَيْرِي، لما أظهرت لَهُ من الْجزع عِنْد كل بَاب مِنْهَا، والتخطئة لرأيه، والامتناع عَلَيْهِ، ثمَّ الْإِجَابَة، وَقد علم الله، تَعَالَى، أَنِّي مَا أَجَبْته إِلَّا على أَن أخرج من حَضرته، فأركب فرسي من بَابه، وَألْحق بِطرف من الأَرْض، وأفارق جَمِيع نعمتي، فَأَكُون بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيّ، حَتَّى أَمُوت، أَو يَمُوت. فَلَمَّا اعتقلني، وَدخل دَار الْحرم؛ لم أَشك فِي أَنه قد فطن لغرضي، وَأَنه سيقتلني؛ لِئَلَّا يفشو السِّرّ، فوردت عَليّ شدَّة شَدِيدَة، وغلبت عَليّ،

فطرحت نَفسِي فِي الْحر مغموما، جائعا، على عتبَة الْمجْلس، ونمت. فَمَا انْتَبَهت إِلَّا بخادم قد أيقظني، وَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَنَظَرت الْوَقْت، فَإِذا هُوَ نصف اللَّيْل. فَقلت: إِنَّا لله، عزم وَالله على قَتْلِي، فمشيت مَعَه، وَأَنا أَتَشهد، إِلَى ممرات سَمِعت مِنْهَا كَلَام النِّسَاء. فَقلت: عزم على قَتْلِي بِحجَّة، يَقُول: من أذن لَك فِي الدُّخُول إِلَى حرمي، ويعتل عَليّ بذلك، فوقفت. فَقَالَ لي الْخَادِم: ادخل. فَقلت: لَا أَدخل. فَقَالَ لي: ادخل، وَيحك. فَقلت: هوذا أسمع صَوت الْحرم، وَلَا يجوز لي أَن أَدخل. فجذبني، فَصحت: وَالله، لَا دخلت، وَلَو ضربت عنقِي، أَو أسمع كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ، بِالْإِذْنِ لي. وَإِذا امْرَأَة تصيح: وَيلك يَا هرثمة، أَنا الخيزران، وَقد حدث أَمر عَظِيم، استدعيتك لَهُ، فَادْخُلْ. فتحيرت، وَدخلت، وَإِذا ستارة ممدودة، فَقيل لي من وَرَائِهَا: إِن مُوسَى قد مَاتَ، وأراحك الله مِنْهُ، وَجَمِيع الْمُسلمين، فَانْظُر إِلَيْهِ، فَأَتَيْته، فَإِذا هُوَ

مسجى على فرَاشه، فمسست قلبه، ومجسه، ومناخره، فَإِذا هُوَ ميت بِلَا شكّ. فَقلت: مَا كَانَ خَبره؟ فَقَالَت لي الخيزران: كنت بِحَيْثُ أسمع خطابه لَك فِي أَمر ابْني هَارُون، وَأمر الطالبيين، وَأهل الْكُوفَة، فَلَمَّا دخل عَليّ؛ استعطفته، وَسَأَلته أَن لَا يفعل شَيْئا من ذَلِك، فصاح عَليّ، فَلم أزل أرْفق بِهِ، إِلَى أَن كشف لَهُ ثديي، وشعري، وبكيت، وتمرغت بَين يَدَيْهِ، وَنَاشَدْته الله أَن لَا يفعل، فَانْتَهرنِي، وَقَالَ: وَالله، لَئِن لم تمسكي؛ لَأَضرِبَن عُنُقك السَّاعَة، فخفته، وَقمت، فصففت قدمي فِي الْمِحْرَاب، أُصَلِّي، وأبكي، وأدعو عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ مُنْذُ سَاعَة، طرح نَفسه على فرشه لينام، فشرق، فتداركناه بكوز مَاء، فازداد شرقه، إِلَى أَن تلف، فَامْضِ إِلَى يحيى بن خَالِد، وعرّفه مَا جرى، وامضيا إِلَى هَارُون، وجيئا بِهِ قبل انتشار الْخَبَر، وجددا لَهُ الْبيعَة على النَّاس. فَخرجت وَجئْت بالرشيد، فَمَا أَصْبَحْنَا إِلَّا وَقد فَرغْنَا من بيعَته، واستقام أمره، وتوطأت الْخلَافَة لَهُ، وكفاني الله، تَعَالَى، وَالنَّاس، مَا كَانَ أظلنا من مَكْرُوه مُوسَى، وَكَانَ ذَلِك سَبَب اختصاصي الْعَظِيم بالرشيد، وتضاعف نعمتي ومحلي عِنْده.

257 دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد

257 دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد حَدثنِي عَليّ بن هِشَام قَالَ: كَانَ فِي يَد صاعد بن مخلد ضمانات كَثِيرَة، وَكَانَت مُعَامَلَته مَعَ أبي نوح عِيسَى بن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ صاعد من وُجُوه النَّاس. فَحَضَرَ صاعد بَين يَدي أبي نوح، يحاسبه فِي أَمْوَال وَجَبت عَلَيْهِ، فجرت بَينهمَا مناظرات، فشتم فِيهَا أَبُو نوح صاعدا، فَرد عَلَيْهِ صاعد، مثل مَا قَالَه لَهُ. فاستعظم الْحَاضِرُونَ ذَلِك، واستخفوا بصاعد، وَقَالُوا لَهُ: يَا مَجْنُون، مَا هَذَا الْفِعْل؟ قتلت نَفسك، ثمَّ أقاموه، وخلصوه من أبي نوح، وَقَالُوا: هَذَا مَجْنُون، لم يدر مَا خرج من رَأسه. فَانْصَرف إِلَى منزله، متحيرا، لَا يدْرِي مَا يصنع فِيمَا نزل بِهِ، فَحدث أَخَاهُ عبدونا بِمَا جرى.

فَقَالَ لَهُ: إِن لم تُطِعْنِي، قبض عَلَيْك فِي غَد، وطالبك من المصادرة بِمَا لَا يَفِي بِهِ حالك، وَلَا حَال جَمِيع أهلك، وقتلك، بِلَا شكّ، تشفيا. قَالَ لَهُ صاعد: فَمَا الرَّأْي؟ قَالَ: كم عنْدك من المَال، واصدقني؟ قَالَ: خَمْسُونَ ألف دِينَار. قَالَ: أتطيب نَفسك أَن تتعرى عَنْهَا، وتحرس دمك، وَمَا يبْقى من حالك وضياعك، أم لَا تسمح بذلك؟ فتؤخذ مِنْك تَحت المقارع، وَتذهب النَّفس وَالنعْمَة كلهَا؟ فَقَالَ لَهُ: قد تعريت عَنْهَا؛ كي تبقى نَفسِي. قَالَ: فادفع إِلَيّ مِنْهَا ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، فَفعل. فحملها عبدون، وأتى حَاجِب مُوسَى بن بغا، فَقَالَ لَهُ: خُذ هَذِه الْعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وأوصلني إِلَى فلَان الْخَادِم، وَكَانَ هَذَا خادمه

الَّذِي يتعشقه مُوسَى، ويطيعه فِي كل أُمُوره، ومُوسَى إِذْ ذَاك هُوَ الْخَلِيفَة، وكتبته كالوزارة، والأمور فِي يَده، والخليفة فِي حجره. قَالَ: فَأخذ الْحَاجِب ذَلِك، وأوصله إِلَى الْخَادِم، فَأحْضرهُ الْعشْرين ألف دِرْهَم، وَقَالَ: خُذ هَذِه، وأوصلني إِلَى الْأَمِير السَّاعَة، وأعني عَلَيْهِ فِي حَاجَة أُرِيد أَن أسأله إِيَّاهَا، ومشورة أُشير بهَا عَلَيْهِ، فأوصله الْخَادِم إِلَيْهِ. فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ؛ سعى إِلَيْهِ بكتابه، وَقَالَ بِهِ: قد نبهوك، وَأخذُوا مَالك، وأخربوا ضياعك، وَأخي يَجْعَل كتابتك أجلّ من الوزارة، ويغلب لَك على الْأُمُور، ويوفر عَلَيْك كَذَا، وَيحمل إِلَيْك اللَّيْلَة، من قبل أَن ينتصف اللَّيْل، خمسين ألف دِينَار عينا، هَدِيَّة لَك، لَا يُرِيد عَنْهَا مُكَافَأَة، وَلَا يرتجعها من مَالك، وتستكتبه، وتخلع عَلَيْهِ. فَقَالَ مُوسَى: أفكر فِي هَذَا؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا فكر، وألح عَلَيْهِ. فَقَالَ الْخَادِم: فِي الدُّنْيَا أحد جَاءَهُ مثل هَذَا المَال، فَرده؟ وَكَاتب بكاتب، فَأَجَابَهُ مُوسَى، وأنعم لَهُ. فَقَالَ لَهُ عبدون: فتستدعي أخي السَّاعَة، وتشافهه بذلك، فأنفذ إِلَيْهِ، فَأحْضرهُ، وَقرر عَلَيْهِ ذَلِك، وَبَات عبدون فِي الدَّار لتصحيح المَال، فوفاه. وَبكر صاعد، فَخلع عَلَيْهِ لكتابته، وأركب الْجَيْش كُله فِي خدمته، وانقلبت سامراء، بِظُهُور الْخَبَر.

فبكر بعض المتصرفين إِلَى الْحسن بن مخلد، وَكَانَ صديقا لأبي نوح، فَقَالَ لَهُ: قد خلع على صاعد. فَقَالَ: لأي شَيْء؟ فَقَالَ: تقلد كِتَابَة مُوسَى بن بغا، فاستعظم ذَلِك. وَركب فِي الْحَال إِلَى أبي نوح، وَقَالَ لَهُ: عرفت خبر صاعد؟ فَقَالَ: نعم، الْكَلْب، قد بلغك مَا عاملني بِهِ، وَالله لَأَفْعَلَنَّ بِهِ، ولأصنعن. فَقَالَ لَهُ: أَنْت نَائِم؟ ! لَيْسَ هَذَا أردْت، قد ولي الرجل كِتَابَة الْأَمِير مُوسَى بن بغا، وخلع عَلَيْهِ، وَركب مَعَه الْجَيْش بأسرهم إِلَى دَاره. فَقَالَ أَبُو نوح: لَيْسَ هَذَا مَا ظننته، بَات خَائفًا منا، فأصبحنا خَائِفين مِنْهُ، فَمَا الرَّأْي عنْدك؟ قَالَ: أَن أصلح بَيْنكُمَا السَّاعَة. فَركب الْحسن بن مخلد إِلَى صاعد، فهنأه، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يُصَالح أَبَا نوح، وَقَالَ لَهُ: أَنْت بِلَا زَوْجَة، وَأَنا أجعلك صهره، وتعتضد بِهِ، وَإِن كنت قد نصرت عَلَيْهِ، فَهُوَ من تعلم مَوْضِعه وَمحله وَمحل مصاهرته ومودته، وَلم يَدعه حَتَّى أجَاب إِلَى الصُّلْح والمصاهرة. فَقَالَ لَهُ: فتركب معي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَبُو الْبِنْت، وَالزَّوْج يقْصد الْمَرْأَة، وَلَوْلَا ذَاك لجاءك. فَحَمله من يَوْمه إِلَى أبي نوح، واصطلحا، وَوَقع العقد فِي الْحَال بَينهمَا فِي ذَلِك الْمجْلس، وَزوج أَبُو نوح ابْنَته الْأُخْرَى بِالْعَبَّاسِ بن الْحسن بن مخلد، فَولدت لَهُ أَبَا عِيسَى، الْمَعْرُوف بـ: ابْن بنت أبي نوح، صَاحب بَيت مَال الْإِعْطَاء،

ثمَّ تقلد زِمَام ديوَان الْجَيْش لِعَمِّهِ سُلَيْمَان بن الْحسن، فَكَانَت كِتَابَة صاعد لمُوسَى، ومصاهرته لأبي نوح، أول مرتبَة عَظِيمَة بلغَهَا، وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال، حَتَّى بلغ الوزارة.

زور مناما فجاء مطابقا للحقيقة

زور مناما فجَاء مطابقا للْحَقِيقَة قَالَ رجل من شُيُوخ الْكتاب، يُقَال لَهُ: عباد بن الْحَرِيش: صَحِبت عَليّ بن الْمَرْزُبَان، وَهُوَ يتقلد شيراز، من قبل عَمْرو بن اللَّيْث الصفار، فصادر المتصرفين على أَمْوَال، ألزمهم إِيَّاهَا، فَكنت مِمَّن أَخذ خطه عَن الْعَمَل الَّذِي تَوليته، بِثَمَانِينَ ألف دِرْهَم، فأديت مِنْهَا أَرْبَعِينَ ألفا، ودرجت حَالي، حَتَّى لم يبْق لي شَيْء فِي الدُّنْيَا غير دَاري الَّتِي أسكنها، وَلَا قدر لثمنها فِيمَا بَقِي عَليّ، فَلم أدر مَا أصنع. وفكرت، فَوجدت عَليّ بن الْمَرْزُبَان، رجلا حرا سليم الصَّدْر، فرويت لَهُ رُؤْيا، أَجمعت على أَن أَلْقَاهُ بهَا، وأجعلها سَببا لشكوى حَالي إِلَيْهِ، والتوصل إِلَى الْخَلَاص، وَكنت قد حفظت الرُّؤْيَا. فاحتلت خمسين درهما، وبكرت إِلَيْهِ قبل طُلُوع الْفجْر، فدققت بَابه. فَقَالَ حَاجِبه، من خلف الْبَاب: من أَنْت؟

فَقلت: عباد بن الْحَرِيش. فَقَالَ: فِي هَذَا الْوَقْت؟ قلت: مُهِمّ، فَفتح الْبَاب. فشكوت إِلَيْهِ حَالي، وَقلت: هَذِه خَمْسُونَ درهما، لَا أملك غَيرهَا، خُذْهَا، وأدخلني عَلَيْهِ، قبل أَن يتكاثر النَّاس عَلَيْهِ. فَدخل، فَاسْتَأْذن لي، وتلطف، إِلَى أَن أوصلني إِلَيْهِ، وَهُوَ يستاك. فَقَالَ: مَا جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت؟ فدعوت لَهُ، وَقلت: بِشَارَة رَأَيْتهَا البارحة. فَقَالَ: مَا هِيَ؟ فَقلت: رَأَيْتُك فِي النّوم، كَأَنَّك تَجِيء إِلَى شيراز، من حَضْرَة الْأَمِير، وتحتك فرس أَشهب عَال، لم تَرَ عَيْني قطّ أحسن مِنْهُ، وَعَلَيْك السوَاد، وقلنسوة الْأَمِير، وَفِي يدك خَاتمه، وحولك مائَة ألف إِنْسَان، مَا بَين فَارس وراجل، وَقد تلقوك، وَأَنا فيهم، إِلَى الْعقبَة الْفُلَانِيَّة، وَقد لقيك أَمِير الْبَلَد، فترجل لَك وَأَنت تجوز، وطريقك كُله أَخْضَر، مزهر بِالنورِ، وَالنَّاس يَقُولُونَ: إِن الْأَمِير، قد استخلفك على جَمِيع أمره. فَقَالَ: خيرا رَأَيْت، وَخيرا يكون، فَمَا تُرِيدُ؟ فشكوت إِلَيْهِ حَالي، وَذكرت لَهُ أَمْرِي. فَقَالَ: أنظر لَك بِعشْرين ألف، وَتُؤَدِّي عشْرين ألف دِرْهَم. فَحَلَفت لَهُ بأيمان الْبيعَة، أَنه لم يبْق لي إِلَّا مسكني، وثمنه شَيْء يسير، وبكيت، وَقبلت يَده، واضطربت بِحَضْرَتِهِ، فرحمني، وَكتب إِلَى الدِّيوَان

بِإِسْقَاط مَا عَليّ، وانصرفت. فَلم تمض إِلَّا شهور، حَتَّى كتب عَمْرو بن اللَّيْث إِلَى عَليّ بن الْمَرْزُبَان، يستدعيه، ويأمره بِحمْل مَا اجْتمع لَهُ من المَال صحبته. وَكَانَ قد جمع من الْأَمْوَال، مَا لم يسمع أَنه اجْتمع قطّ لأحد من مَال فَارس، مبلغه سِتُّونَ ألف ألف، فحملها مَعَه إِلَى نيسابور، وَخرج عَمْرو، فَتَلقاهُ وَجَمِيع قواده. فأعظم الْأَمْوَال، واستخلفه على فَارس وأعمالها، حَربًا وخراجا، وخلع عَلَيْهِ سوادا، وَحمله على فرس أشب عَال، وَدفع إِلَيْهِ خَاتمه، ورده إِلَى فَارس. فَوَافى فِي وَقت الرّبيع، وَلم يحل الْحول على رُؤْيَايَ، وَخرج أَمِير الْبَلَد، يستقبله على ثَلَاثِينَ فرسخا، وَخرجت فَلَقِيته على الْعقبَة الَّتِي ذكرتها فِي الْمَنَام الْمَوْضُوع، وَالدُّنْيَا على الْحَقِيقَة خضراء بأنوار الرّبيع، وَحَوله أَكثر من مائَة ألف فَارس وراجل، وَعَلِيهِ قنسوة عَمْرو بن اللَّيْث، وَفِي يَده خَاتمه، وَعَلِيهِ السوَاد، فدعوت لَهُ. فَلَمَّا رَآنِي تَبَسم، وَأخذ بيَدي، وأحفى بِي السُّؤَال، ثمَّ فرق الْجَيْش بَيْننَا، فلحقته إِلَى دَاره، فَلم أستطع الْقرب مِنْهُ لِكَثْرَة الدَّوَابّ، فَانْصَرَفت، وباكرته فِي السحر. فَقَالَ لي الْحَاجِب: من أَنْت؟

فَقلت: عباد بن الْحَرِيش، فَأَدْخلنِي عَلَيْهِ، وَهُوَ يستاك. فَضَحِك إِلَيّ، وَقَالَ: قد صحت رُؤْيَاك. فَقلت: الْحَمد لله. فَقَالَ: لَا تَبْرَح من الدَّار حَتَّى أنظر فِي أَمرك. وَكَانَ بارا بأَهْله، ورسمه إِذا ولي عملا، أَن لَا ينظر فِي شَيْء من أَمر نَفسه، حَتَّى ينظر فِي أَمر أَهله، فَيصْرف من صلح مِنْهُم للتَّصَرُّف، فَإِذا فرغ؛ عدل إِلَى الْأَخَص، فالأخص من حَاشِيَته، فَإِذا فرغ من ذَلِك؛ نظر فِي أَمر نَفسه. فَجَلَست فِي الدَّار إِلَى الْعَصْر، وَهُوَ ينظر فِي أَمر أَهله، والتوقيعات تخرج بالصلات والأرزاق، وَكتب التقليدات، إِلَى أَن صَاح الْحَاجِب: عباد بن الْحَرِيش، فَقُمْت إِلَيْهِ، فَأَدْخلنِي عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِنِّي مَا نظرت فِي أَمر أحد غير أَهلِي، فَلَمَّا فرغت مِنْهُم؛ بدأت بك قبل النَّاس كلهم، فاحتكم مَا تُرِيدُ؟ فَقلت: ترد عَليّ مَا أخذت مني، وتوليني الْعَمَل الَّذِي كَانَ بيَدي. فَوَقع لي بذلك، وَقَالَ: امْضِ، فقد أوغرت لَك الْعَمَل، فَخذ ارتفاعه كُله. فَكَانَ يستدعيني كل مُدَّة، وَلَا يَأْخُذ مني شَيْئا، وَإِنَّمَا يكْتب لي روزات من مَال الْعَمَل، وَيصْلح لي حسبانات يخلدها الدِّيوَان، فأرجع إِلَى الْعَمَل. فَكنت على ذَلِك إِلَى أَن زَالَت أَيَّامه، فَرَجَعت إِلَى شيراز وَقد اجْتمع لي مَال عَظِيم، صودرت على بعضه، وَجَلَست فِي بَيْتِي، وعقدت نعْمَة ضخمة، وَلم أتصرف إِلَى الْآن.

شر السلطان يدفع بالساعات

شَرّ السُّلْطَان يدْفع بالساعات حَدثنِي ابْن أبي عَلان، وَقد جرى حَدِيث السُّلْطَان، وَأَن شَره يدْفع بالساعات، قَالَ: ورد علينا أَبُو يُوسُف البريدي، كَاتب السيدة، يطالبني، أَنا وَأَبا يحيى الرامَهُرْمُزِي، أَن نضمن مِنْهُ ضيَاع السيدة، وشدد علينا، وَنحن ممتنعون.

إِلَى أَن أخلى لنا مَجْلِسه يَوْم خَمِيس، وناظرنا مناظرة طَوِيلَة، وشدد علينا، حَتَّى كدنا أَن نجيبه، وَكَانَ علينا فِي ذَلِك ضَرَر كَبِير، وخسران ظَاهر، لَو أجبناه. فَقلت لأبي يحيى: اجْتهد أَن تدفع الْمجْلس الْيَوْم؛ لنفكر إِذا انصرفنا، كَيفَ نعمل. وَكَانَ أَبُو يُوسُف مُحدثا طيب الحَدِيث، فجره أَبُو يحيى إِلَى المحادثة، وَسكت لَهُ يستمع. وَكَانَت عَادَة أبي يُوسُف فِي كَلَامه، أَن يَقُول فِي كل قِطْعَة من حَدِيثه: أفهمت؟ فَكَانَ كلما قَالَ ذَلِك لأبي يحيى؛ قَالَ لَهُ: لَا، فَأَعَادَ أَبُو يُوسُف الحَدِيث، وَيخرج مِنْهُ إِلَى حَدِيث آخر. فَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن حميت الشَّمْس، وَقربت من موضعنا، فَرجع أَبُو يُوسُف إِلَى ذكر الضَّمَان، وطالبنا بِالْعقدِ. فَقلت: إِنَّه قد حمي الْوَقْت، وَهَذَا لَا يَتَقَرَّر فِي سَاعَة، وَلَكِن نعود غَدا، ورفقنا بِهِ، فَقَالَ: انصرفا، فانصرفنا. واستدعانا من غَد، فكتبنا إِلَيْهِ: هَذَا يَوْم جُمُعَة، يَوْم ضيق، وَيحْتَاج فِيهِ إِلَى دُخُول الْحمام، وَالصَّلَاة، وَقل أَمر يتم قبل الصَّلَاة، وَلَكنَّا نبكر يَوْم السبت. فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت؛ صرنا إِلَيْهِ، وَقد وَضعنَا فِي أَنْفُسنَا الْإِجَابَة، فحين دَخَلنَا عَلَيْهِ، ورد عَلَيْهِ كتاب فقرأه، وشغل قلبه، فَقَالَ: انصرفا الْيَوْم. فانصرفنا، ورحل من الْغَد عَن الأهواز؛ لِأَن الْكتاب كَانَ يتَضَمَّن صرفه، فبادر قبل وُرُود الصَّارِف، وكفينا أمره.

كيفية إغراء العمال بأخذ المرافق

كَيْفيَّة إغراء الْعمَّال بِأخذ الْمرَافِق وَقَالَ: ورد علينا فِي وَقت من الْأَوْقَات، بعض الْعمَّال مُتَقَلِّدًا للأهواز، من قبل السُّلْطَان، فتتبع رسومنا، ورام نقض شَيْء مِنْهَا. فَكنت أَنا وَجَمَاعَة من التناء فِي الْمُطَالبَة، وَكَانَ فِيهَا ذهَاب غلاتنا فِي تِلْكَ السّنة، لَو تمّ علينا، وَذَهَاب أَكثر قيمَة ضياعنا. فَقَالَ لي الْجَمَاعَة: لَيْسَ لنا غَيْرك، تَخْلُو بِهِ، وتبذل لَهُ مرفقا، وتكفيناه. فَجِئْته، وخلوت بِهِ، وبذلت لَهُ مرفقا جَلِيلًا، فَلم يقبله، وَدخلت عَلَيْهِ بالْكلَام من غير وَجه، فَمَا لَان، وَلَا أجَاب. فَلَمَّا يئست مِنْهُ، وكدت أَن أقوم؛ قلت لَهُ: يَا هَذَا الرجل، أَنْت مُقيم من هَذَا الْأَمر، على خطإ شَدِيد؛ لِأَنَّك تظلمنا، وتزيل رسومنا، من حَيْثُ لَا يحمدك السُّلْطَان، وَلَا تنْتَفع أَنْت أَيْضا بِذَاكَ. وَمَعَ هَذَا فَأَخْبرنِي، هَل تأمن أَن تكون قد صرفت، وَكتاب صرفك فِي الطَّرِيق، يرد عَلَيْك بعد يَوْمَيْنِ، أَو ثَلَاثَة، فَتكون قد أهلكتنا، وأثمت فِي أمورنا، وفاتك هَذَا الْمرْفق الْجَلِيل، ولعلنا نَحن نكفي، وَيَجِيء غَيْرك، فَلَا يطالبنا، أَو يطالبنا فنبذل لَهُ نَحن هَذَا الْمرْفق، فيقبله، وَيكون الضَّرَر يدْخل عَلَيْك. فحين سمع هَذَا وَافق، كَأَنَّهُ قد علم من أمره ضعفا بِبَغْدَاد، وتلونا،

وَأَنِّي قد أحسست بانحلال أمره، وَأَن لي بِبَغْدَاد من يكاتبني بالأخبار. فَأخذ يخاطبني مُخَاطبَة من أَيْن وَقع إِلَيّ هَذَا، فقويته فِي نَفسه، فَأجَاب إِلَى أَخذ الْمرْفق، وَإِزَالَة الْمُطَالبَة. فَسلمت إِلَيْهِ رِقَاعًا إِلَى الصيارف بِالْمَالِ، وَأخذت مِنْهُ حجَّة بِزَوَال الْمُطَالبَة، فَانْصَرَفت وَقد بلغت مَا أردْت. فَلَمَّا كَانَ بعد خَمْسَة أَيَّام؛ ورد عَلَيْهِ كتاب الصّرْف، فَدخلت إِلَيْهِ، فَأخذ يشكرني ويخبرني بِمَا ورد عَلَيْهِ، فأوهمته أَنِّي كنت قلت لَهُ ذَلِك عَن أصل، وكفيناه.

الصوفي المتوكل وجام فالوذج حار

الصُّوفِي المتَوَكل وجام فالوذج حَار حَدثنِي ابْن سيار، عَن شيخ من الصُّوفِيَّة، قَالَ: صَحِبت شَيخا من الصُّوفِيَّة، وَجَمَاعَة مِنْهُم، فِي سفر، فَجرى ذكر التَّوَكُّل والأرزاق وَضعف النَّفس. فَقَالَ ذَلِك الشَّيْخ: عَليّ، وَعلي، وَحلف بأيمان مُغَلّظَة، لَا ذقت شَيْئا، أَو يبْعَث الله، عز وَجل، إِلَيّ جَام فالوذج حَار، وَلَا آكله إِلَّا بعد أَن يحلف عَليّ، أَو يجرى عَليّ مَكْرُوه، وَكُنَّا نمشي فِي الصَّحرَاء. فَقَالَت الْجَمَاعَة: أَنْت جَاهِل، وَنحن نمشي، حَتَّى انتهينا إِلَى الْقرْيَة، وَقد مضى عَلَيْهِ يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ، وَلم يطعم شَيْئا، ففارقته الْجَمَاعَة، غَيْرِي. فَطرح نَفسه فِي مَسْجِد فِي الْقرْيَة، وَقد ضعفت قوته، وأشرف على الْمَوْت، فأقمت عِنْده. فَلَمَّا كَانَ فِي لَيْلَة الْيَوْم الثَّالِث، وَقد انتصف اللَّيْل، وَكَاد يتْلف؛ دق علينا بَاب الْمَسْجِد، ففتحته، فَإِذا بِجَارِيَة سَوْدَاء وَمَعَهَا طبق مغطى، فَلَمَّا رأتنا؛ قَالَت: أَنْتُم من أهل الْقرْيَة، أم غرباء؟

فَقُلْنَا: غرباء. فَكشفت عَن جَام فالوذج حَار. فَقَالَت: كلوا. فَقلت لَهُ: كل. فَقَالَ: لَا أفعل. فَقلت: وَالله، لَا أكلت، أَو تَأْكُل، وَوَاللَّه لتأكلن؛ لأبر قسمه. فَقَالَ: لَا أفعل. فشالت الْجَارِيَة يَدهَا، فصفعته صفعة عَظِيمَة، وَقَالَت: وَالله، لَئِن لم تَأْكُل، لأصفعنك هَكَذَا، إِلَى أَن تَأْكُل. فَقَالَ: كل معي، فَأكلت مَعَه، فنظفنا الْجَام. فَلَمَّا أَخَذته لتمضي؛ قلت لَهَا: بِاللَّه، حدثينا بِخَبَر هَذَا الْجَام. قَالَت: نعم، أَنا جَارِيَة رَئِيس هَذِه الْقرْيَة، وَهُوَ رجل حَدِيد، طلب منا مُنْذُ سَاعَة، فالوذج حَار، فقمنا لنصلحه، وَهُوَ شتاء وَبرد، فَإلَى أَن نخرج الْحَوَائِج، ونعقد الفالوذج، تَأَخّر عَلَيْهِ، فَطَلَبه، فَقُلْنَا: نعم، فَحلف بِالطَّلَاق، أَنه لَا يَأْكُلهُ، وَلَا أحد من أهل دَاره، وَلَا أحد من أهل الْقرْيَة، إِلَّا غَرِيب. فَأَخَذته، وَجعلت أدور فِي الْمَسَاجِد، إِلَى أَن وجدتكما، وَلَو لم يَأْكُل هَذَا الشَّيْخ؛ لقتلته صفعا، وَلَا تطلق ستي. فَقَالَ لي الشَّيْخ: كَيفَ ترى، إِذا أَرَادَ أَن يفرج؟

سخاء الأمير سيف الدولة

262 سخاء الْأَمِير سيف الدولة وحَدثني عبد الله بن مَعْرُوف، قَالَ: دخلت حلب إِلَى أبي مُحَمَّد الصلحي، وَأبي الْحسن المغربي، أسلم عَلَيْهِمَا، وَكَانَا فِي صُحْبَة سيف الدولة، وهما فِي دَار وَاحِدَة نازلان لضيق الدّور. وَكَانَ وَكيل كل وَاحِد مِنْهُمَا يبكر فيقيم لَهما جَمِيع مَا يحتاجان إِلَيْهِ من الْمَائِدَة والوظائف، فَإِذا كَانَ من الْغَد؛ بكر وَكيل الآخر، فَأَقَامَ لَهما ولغلمانهما، من الْمَائِدَة والوظائف مَا، يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ على هَذَا. فَلَمَّا دخلت إِلَيْهِمَا وَجَلَست؛ دخل شيخ ضَرِير، فَسلم وَجلسَ، ثمَّ قَالَ: إِن لي بالأمير، سيف الدولة، حُرْمَة واختصاص، أَيَّام مقَامه بالموصل، وَقد لحقتني محن وشدائد، أملته لكشفها، وَقد قصدته، وَهَذِه رقعتي إِلَيْهِ،

فَإِن رَأَيْتُمَا أَن تتفضلا بإيصالها إِلَيْهِ، فعلتما، وَأخرج رقْعَة طَوِيلَة جدا. فَلَمَّا رأيها؛ قَالَا لَهُ: هَذِه عَظِيمَة، وَلَا ينشط الْأَمِير لقراءتها، فغيرها واختصرها، وعد فِي وَقت آخر، فَإنَّا نعرضها عَلَيْهِ. فَقَالَ: الَّذِي أحب، أَن تتفضلا بِعرْض هَذِه الرقعة. فدافعاه عَن ذَلِك، فَقَامَ يجر رجلَيْهِ، منكسر الْقلب، فتداخلني رَحْمَة لَهُ، وَركبت، وَدخلت على سيف الدولة، وَهُوَ جَالس. وَكَانَ رسمه أَن لَا يصل إِلَيْهِ أحد، إِلَّا برقعة يَكْتُبهَا الْحَاجِب، باسم من حضر، فَإِذا قَرَأَ الرقعة، إِن شَاءَ أذن لَهُ، وَإِن شَاءَ صرفه. فَلَمَّا استقررت عرض الْحَاجِب عَلَيْهِ رقْعَة فِيهَا: فلَان بن فلَان، الْموصِلِي الضَّرِير. فَقَالَ لَهُ: هَذَا فِي الدُّنْيَا؟ أَيْن هُوَ؟ فَقيل: بِالْبَابِ. فَقَالَ: يدْخل، فَمَا أَظُنهُ، مَعَ مَا أعرفهُ من زهده فِي الطّلب وَقصد الْمُلُوك، قصدنا إِلَّا من شدَّة، فَدخل الشَّيْخ الَّذِي رَأَيْته عِنْد الصلحي والمغربي. فَلَمَّا رَآهُ استدناه، وبش لَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، أما سَمِعت بِأَنا فِي الدُّنْيَا؟ أما علمت مَكَاننَا على وَجه الأَرْض؟ أما حَان لَك أَن تَزُورنَا إِلَى الْآن، مَعَ مَا لَك من الْحُرْمَة وَالسَّبَب الوكيد؟ لقد أَسَأْت إِلَى نَفسك، وأسأت الظَّن بِنَا. فَجعل يَدْعُو لَهُ ويشكره، وَيعْتَذر، فقربه، وَجلسَ سَاعَة، ثمَّ سلم إِلَيْهِ تِلْكَ الرقعة بِعَينهَا، فَأَخذهَا من يَده، وَقرأَهَا. ثمَّ استدعى يُونُس بن بَابا، وَكَانَ خازنه، فَحَضَرَ، فَأسر إِلَيْهِ شَيْئا. ثمَّ استدعى رَئِيس الفراشين، فخاطبه سرا. واستدعى خَادِمًا لَهُ، فخاطبه بِشَيْء.

واستدعى صَاحب الإصطبل، فَأمره بِشَيْء، فَانْصَرَفت الْجَمَاعَة. وَعَاد ابْن بَابا، فَوضع بَين يَدَيْهِ صرتين فيهمَا خمس مائَة دِينَار، وثيابا كَثِيرَة صحاحا، من ثِيَاب الشتَاء والصيف، وطيبا كثيرا. ثمَّ جَاءَ عريف الفراشين ببسط وَآلَة وفرش تَسَاوِي أُلُوف دَرَاهِم، فَصَارَ ذَلِك كَالتَّلِّ بَين يَدَيْهِ. وَكَانَ يُعجبهُ إِذا أَمر لإِنْسَان بِشَيْء أَن يكون بِحَضْرَتِهِ مجتمعا، فيراه بَين يَدَيْهِ، ثمَّ يَهبهُ لَهُ. فَاجْتمع ذَلِك، والضرير لَا يعلم، وَعِنْده أَنه قد تغافل عَنهُ، فَهُوَ فِي الريب. ثمَّ حضر صَاحب الكراع، وَمَعَهُ بغلة تَسَاوِي ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، ومركب ثقيل. وَجَاء غُلَام أسود عَلَيْهِ ثِيَاب جدد، فَسلمت إِلَيْهِ البغلة، فَأَمْسكهَا فِي الميدان أَسْفَل الدكة الَّتِي عَلَيْهَا الْأَمِير. فَقَالَ للغلام: كم جرايتك فِي السّنة؟ قَالَ: عشرُون دِينَارا. فَقَالَ: قد جَعلتهَا ثَلَاثِينَ، وخدمة هَذَا الشَّيْخ خدمَة لنا، فَلَا تقصر فِيهَا، وَلَا ينكسر قَلْبك بخروجك عَنَّا من دَارنَا، وَأَعْطوهُ سلفا لسنة، فَدفع إِلَيْهِ ذَلِك فِي الْحَال. ثمَّ قَالَ: فرغوا الدَّار الْفُلَانِيَّة لَهُ، ويحدر زورق من تل فافان إِلَى الْموصل، فِيهِ كران حِنْطَة، وكر شعير، وفواكه الشَّام ومآكلها، فاعملوا بِهَذَا ثبتا، فَفعل ذَلِك.

ثمَّ استدعى أَبَا إِسْحَاق بن شهرام، كَاتبه، الْمَعْرُوف بـ: ابْن ظلوم الْمُغنيَة، وَكَانَ يكْتب لَهُ، ويترسل إِلَى ملك الرّوم، ويبعثه فِي صَغِير أُمُوره وكبيرها، فساره بِشَيْء، وَكَانَ صَاحب سره. فابتدأ ابْن شهرام يعْتَذر إِلَى الضَّرِير، عَن سيف الدولة، باعتذار طَوِيل، وَأَنَّك قصدتنا فِي آخر وَقت، وَقد نفدت غلاتنا، وتقسمت أَمْوَالنَا الْحُقُوق وَالزُّوَّارِ والجيوش، وببابنا خلق من الرؤساء، ونحتاج أَن نواسيهم، وَلَوْلَا ذَلِك لأوفينا على أملك، وَقد أمرنَا لَك بِكَذَا وَكَذَا، وَجعل ابْن شهرام يقْرَأ عَلَيْهِ مَا فِي الثبت، وَسيف الدولة يسمع. فَقلت لَهُ: لَا تورد على الشَّيْخ هَذِه الْجَائِزَة جملَة، عقيب الْيَأْس الَّذِي لحقه، فَتَنْشَق مرارته. فَلَمَّا استوفى؛ بَكَى الشَّيْخ بكاء شَدِيدا، وَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، لقد زِدْت، وَالله، على أملي بطبقات، وأوفيت على غناي بدرجات، وقضيت حَقي، وَمَا هُوَ أعظم من حَقي، وَمَا أحسن أَن أشكرك، وَلَكِن الله، تَعَالَى، يتَوَلَّى مكافأتك، فَمن عَليّ يدك، فَأذن لَهُ، فقبلها. فَجَذَبَهُ سيف الدولة، وساره بِشَيْء، فَضَحِك، وَقَالَ: إِي وَالله، أَيهَا الْأَمِير. فاستدعى خَادِمًا للحرم، وساره بِشَيْء، وَقَامَ الشَّيْخ إِلَى دَاره الَّتِي أخلاها لَهُ، وَقَالَ لَهُ: أقِم فِيهَا إِلَى أَن أنظر فِي أَمرك، وَتخرج إِلَى عِيَالك. فَسَأَلت الْخَادِم عَمَّا ساره بِهِ، فَقَالَ: أَمرنِي أَن أخرج إِلَيْهِ جَارِيَة، من وصائف أُخْته، فِي نِهَايَة الْحسن، فِي ثِيَاب وَآلَة قيمتهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم، قَالَ: فحملتها إِلَيْهِ.

قَالَ ابْن مَعْرُوف: فَقُمْت قَائِما، وَقلت: أَيهَا الْأَمِير، مَا سمع بِهَذَا الْفِعْل عَن أحد من أهل الأَرْض قَدِيما، وَلَا حَدِيثا. فَقَالَ: دَعْنِي من هَذَا، مَا معنى قَوْلك لِابْنِ شهرام: لَا تورد عَلَيْهِ هَذَا كُله مَعَ الْيَأْس، فَتَنْشَق مرارته؟ فَقلت: نعم، كنت مُنْذُ سَاعَة عِنْد أبي مُحَمَّد الصلحي وَأبي الْحسن المغربي، فَجرى كَذَا وَكَذَا، وقصصت عَلَيْهِ قصَّة الضَّرِير مَعَهُمَا، وَأَنه انْصَرف أخزى منصرف، ثمَّ جَاءَ بعد الْيَأْس، فعاملته بِهَذَا الْفِعْل الْعَظِيم. فَقَالَ: أحضروا الصلحي والمغربي، فأحضرا. فَقَالَ لَهما: ويحكما، ألم أحسن إلَيْكُمَا؟ وأنوه باسمكما؟ وَأَرْفَع مِنْكُمَا؟ ، وأصطنعكما؟ وَعدد أياديه عَلَيْهِمَا. فَقَالَا: بلَى، وأخذا يشكرانه. فَقَالَ: مَا أُرِيد هَذَا، أَفَمَن حَقي عَلَيْكُمَا، أَن تقطعا عني رَجَاء مؤملي وقاصدي، وتنسباني عِنْدهم إِلَى الضجر برقاعهم؟ مَا كَانَ عَلَيْكُمَا لَو أخذتما رقْعَة الضَّرِير، فأوصلتماها إِلَيّ؟ فَإِن جرى على يَدي شَيْء؛ كنتما شريكاي فِيهِ، وَإِن ضجرت؛ كَانَ الضجر مَنْسُوبا إِلَيّ دونكما، وكنتما بريئين مِنْهُ، وَقد قضيتما حق قَصده، فَلَا حَقه قضيتما، وَلَا حق الله فِيمَا أَخذه على ذَوي الجاه، وأسرف فِي توبيخهما، كَأَنَّهُمَا قد أذنبا ذَنبا. فَجعلَا يعتذران إِلَيْهِ، ويقولان: مَا أردنَا إِلَّا التَّخْفِيف عَنهُ من قِرَاءَة شَيْء طَوِيل؛ لينقلها إِلَى أخف مِنْهَا، وَلَو علمنَا أَنه أيس؛ لأخذنا رقعته وعرضناها. فدعَتْ الْجَمَاعَة لَهُ، وَحلفت أَن هَذَا التأنيب فِي الْجُود أحسن من الْجُود، ورفقوا بِهِ حَتَّى انبسط فِي الحَدِيث.

ألمعية المأمون وذكاؤه

ألمعية الْمَأْمُون وذكاؤه قَالَ: دَعَا الْمَأْمُون يَوْمًا بِأبي عباد، فَدفع إِلَيْهِ كتابا مَخْتُومًا، وَأمره أَن يَأْتِي عَمْرو بن مسْعدَة، فيناظره على مَا فِيهِ بَابا بَابا، وَيَأْخُذ تَحت كل بَاب خطه فِيهِ، ويختمه بِخَاتمِهِ، وَخَاتم عَمْرو، ويحتفظ بِهِ إِلَى أَن يسْأَله عَنهُ، وَلَا يذكرهُ ابْتِدَاء، وأكد على ذَلِك. قَالَ: فَعلمت أَنَّهَا وقيعة، وَقد كنت شاركت عمرا فِي أَشْيَاء، فَصَارَت إِلَيْنَا مِنْهَا أَمْوَال، فَخفت أَن تكون مَذْكُورَة فِي الْكتاب. فقصدت عمرا، فَوَجَدته فِي بُسْتَان أَحْمد بن يُوسُف، يلْعَب بالشطرنج مَعَ بعض أَصْحَابه، فعرفته أَنِّي مُحْتَاج إِلَى الْخلْوَة مَعَه. فَقَالَ: دَعْنِي السَّاعَة، فقد اسْتَوَى لي هَذَا الدست.

فَضَاقَ صَدْرِي، وقلبت الشطرنج، وَقلت: قد سَالَ السَّيْل، وهلكنا وَأَنت غافل، اقْرَأ هَذَا الْكتاب، فقرأه، فطالبته أَن يكْتب خطه، تَحت كل فصل مِنْهُ، بحجته. فَضَحِك، وَقَالَ: وَيحك، أما تَسْتَحي، تخْدم رجلا طول هَذِه الْمدَّة، وَلَا تعرف أخلاقه، وَلَا مذْهبه؟ فَقلت: يَا هَذَا، أَخْبرنِي عَنْك، إِن أقدمت على جحد مَا فِي هَذَا الْكتاب، لتعذر حجَّة؛ مَا شاركتك فِيهِ، أما أَنا فوَاللَّه مَا أجحد، وَلَكِن أَصْبِر لأمر الله، تَعَالَى. قَالَ: فتحب أَن أطلعك على مَا هُوَ أَشد عَلَيْك من هَذَا؟ قلت: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: كتاب دَفعه إِلَيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ مُنْذُ سنة، وَأَمرَنِي فِيهِ بِمثل مَا أَمرك فِي هَذَا، فَعرفت ضيق صدرك، فَلم أذكرهُ لَك. فكدت أَمُوت إِلَى أَن أفرغ من كَلَامه، فَقلت لَهُ: أَرِنِي إِيَّاه، فَأحْضرهُ، وقرأته، وَأَنا أنتفض، وَعَمْرو يضْحك. فَلَمَّا فرغت مِنْهُ؛ قلت: عِنْد الله أحتسب نَفسِي ونعمتي. فَقَالَ: أَنْت، وَالله، مَجْنُون. فَقلت: دَعْنَا من هَذَا، وَوَقع تَحت كل فصل. فَنظر إِلَى جملَة مَا نسب إِلَيْهِ فِي الْكتاب، فَوَجَدَهُ أَرْبَعِينَ ألف ألف دِرْهَم، فَوَقع فِي آخِره: لَو قصرت همتنا فِي هَذَا الْقدر وأضعافه؛ لوسعتنا مَنَازلنَا، وَمَا يَفِي هَذَا، بدلجة فِي برد، أَو رَوْحَة فِي حر، وَأَرْجُو أَن يُطِيل الله بَقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ، ويبلغنا فِيهِ مَا نؤمله بِهِ، وعَلى يَده. وَكَانَ جملَة مَا رفع عَليّ، سَبْعَة وَعِشْرُونَ ألف ألف دِرْهَم. فَقَالَ: يَا هَذَا، إِن صاحبنا لَيْسَ ببخيل، وَلكنه رجل يكره أَن يطوى

معروفه، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يعلمنَا أَنه قد علم بِمَا صَار إِلَيْنَا، فَأمْسك عَنهُ على علم. ثمَّ ختم الْكتاب بِخَاتمِهِ وخاتمي، وانصرفت وَأَنا فِي الْمَوْت، فَلم ألبث أَن كتبت وصيتي، وأحكمت أَمْرِي، وَكنت سنة مغموما، وذاب جسمي. فَقَالَ لي الْمَأْمُون يَوْمًا: يَا أَبَا عباد، قد أنْكرت حالك، أتشكو عِلّة؟ فَقلت: لَا، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِنِّي، مُنْذُ سنة، حَيّ كميت؛ لأجل الْكتاب الَّذِي دَفعه إِلَيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ لأناظر عَلَيْهِ عَمْرو بن مسْعدَة. فَقَالَ: أمسك عني، حَتَّى أُعِيد عَلَيْك جَمِيع مَا جرى بَيْنكُمَا، فَحَدثني بِجَمِيعِ مَا دَار بَيْننَا، كَأَنَّهُ كَانَ ثالثنا. فَقلت: لقد استقصى لَك الَّذِي وكلته بخبرنا، وَالله، مَا خرم مِنْهُ حرفا. فَقَالَ: وَالله، مَا وكلت بكما أحدا، وَلَكِن ظنا ظننته، وَعلمت أَنه لَا يَدُور بَيْنكُمَا غَيره، وَلَقَد عجبت من غير عجب؛ لِأَن عقول الرِّجَال يدْرك بَعْضهَا بَعْضًا، وَهَذَا عَمْرو بن مسْعدَة، أعرف بِنَا مِنْك، وأوسع صَدرا، وَأبْعد همة، وَمَا أردْت بِمَا فعلت، إِلَّا أَن تعلما أَنِّي قد عرفت مَا صَار إلَيْكُمَا، وتستكثرانه، فَأَحْبَبْت أَن أزيل عنكما غم المساترة، وَثقل المراقبة، وَأَنِّي لمتذمم لَكمَا، خجل من ضعف أثري عَلَيْكُمَا. فسررت، وصرت كَأَنِّي أطلقت من عقال، فشكرته ودعوت لَهُ. ثمَّ قلت: مَا أصنع بذلك الْكتاب؟ قَالَ: خرقه إِلَى لعنة الله، وامض مصاحبا، آمنا، فِي ستر الله، عز وَجل.

الحسين بن الضحاك يعيش ببقايا هبات الأمين

الْحُسَيْن بن الضَّحَّاك يعِيش ببقايا هبات الْأمين أَخْبرنِي الصولي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو أَحْمد، قَالَ: كَانَ أبي صديقا للحسين بن الضَّحَّاك، وَكَانَ يعاشره، فَحَمَلَنِي مَعَه يَوْمًا، وَجعل يحادثه، إِلَى أَن قَالَ: يَا أَبَا عَليّ، قد تَأَخَّرت أرزاقك، وانقطعت موادك، ونفقتك كَبِيرَة، فَكيف تمشي أمورك؟ فَقَالَ لَهُ: وَالله يَا أخي، مَا قوام أَمْرِي، إِلَّا ببقايا هبات الْأمين، وهبات جَارِيَته، فَإِنِّي حظيت مِنْهُمَا، بِأَمْر طريف، على غير تعمد. وَذَلِكَ أَن الْأمين دَعَاني يَوْمًا، فَقَالَ لي: يَا حُسَيْن، إِن جليس الرجل

عشيره وثقته وَمَوْضِع سره وأنسه، وَإِن جاريتي، فُلَانَة، أحسن النَّاس وَجها وغناء، وَهِي مني بِمحل نَفسِي، وَقد كدرت عَليّ صفو الْحَيَاة، ونغصتها عَليّ، بعجبها بِنَفسِهَا، وبتجنيها عَليّ وإدلالها؛ لما تعلمه من حبي لَهَا، وَإِنِّي محضرها، ومحضر صَاحِبَة لَهَا لَيست مِنْهَا فِي شَيْء؛ لتغني مَعهَا، فَإِذا غنت أَوْمَأت إِلَيْك على أَن أمرهَا أبين من أَن يخفى عَلَيْك، فَلَا تستحسن غناءها، وَلَا تشرب عَلَيْهِ، وَإِذا غنت الْأُخْرَى، فَاشْرَبْ، واطرب، وَاسْتحْسن، وشق ثِيَابك، وَعلي بِكُل ثوب مائَة ثوب. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة، لأمير الْمُؤمنِينَ. فَجَلَسَ فِي حجرَة خلوته، وأحضرني، وسقاني أرطالا، فغنت المحسنة، وَقد أَخذ مني الشَّرَاب، فَمَا ملكت نَفسِي أَن استحسنت، وطربت، فَأَوْمأ إِلَيّ، وقطب فِي وَجْهي. ثمَّ غنت الاخري، فَجعلت أتكلف القَوْل، وأفعله. ثمَّ غنت المحسنة ثَانِيَة، فَأَتَت بِمَا لم أسمع مثله حسنا قطّ، فَمَا ملكت نَفسِي أَن صحت، وطربت، وشربت، وَهُوَ ينظر إِلَيّ، ويعض شَفَتَيْه غيظا عَليّ، وَقد زَالَ عَقْلِي، فَمَا أفكر فِيهِ، حَتَّى فعلت ذَلِك مرَارًا، وَكلما زَاد شربي، ذهب عَقْلِي. فَأمر بجر رجْلي وصرفي، وَأمر أَن لَا أَدخل عَلَيْهِ، فَجَاءَنِي النَّاس يتوجعون لي، ويسألون عَن قصتي، فَقلت: حمل عَليّ النَّبِيذ، فأسأت أدبي، فَمَنَعَنِي من الدُّخُول إِلَيْهِ. وَمضى لما أَنا فِيهِ شهر، وَقد استمرت عَليّ المحنة. فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك، إِذْ جَاءَتْنِي الْبشَارَة، بِأَنَّهُ قد رَضِي عني، وَأمر بإحضاري، فَحَضَرت، وَأَنا خَائِف، فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ؛ أَعْطَانِي يَده فَقَبلتهَا، فَضَحِك إِلَيّ، ثمَّ قَامَ وَقَالَ: اتبعني.

فتبعته، فَدخل تِلْكَ الْحُجْرَة بِعَينهَا، وَلم يحضر غَيْرِي وَغَيره وَغير المحسنة، الَّتِي نالني من أجلهَا مَا نالني، وأحضر الشَّرَاب، فغنت، فسكتّ. فَقَالَ: قل مَا شِئْت، وَلَا تخف، فَلَقَد خار الله لَك فِي خلافي، وَجرى الْقدر بِمَا تحب. اعْلَم أَن هَذِه الْجَارِيَة، عَادَتْ إِلَى الْحَال الَّتِي أحبها مِنْهَا، وأرضتني فِي أفعالها، واصطلحنا، فأذكرتني بك، وَسَأَلتنِي الرِّضَا عَنْك، وَالْإِحْسَان إِلَيْك، وَقد فعلت، وَأمرت لَك بِعشْرَة آلَاف دِينَار، ووصلتك هِيَ بِدُونِ ذَلِك، وَلَو كنت فعلت مَا أَمرتك، حَتَّى تعود إِلَى مثل هَذِه الْحَال، ثمَّ تحقد عَلَيْك، فتسألني أَن لَا تصل إِلَيّ قطّ، لأجبتها. فدعوت لَهُ، وشكرته، وحمدت الله على توفيقه إيَّايَ، وزدت فِي الِاسْتِحْسَان وَالسُّرُور إِلَى أَن انصرفت، وَحمل معي المَال. فَمَا كَانَ يمْضِي أُسْبُوع إِلَّا أَتَتْنِي ألطافها، وصلاتها، من الْجَوْهَر وَالثيَاب، بِغَيْر علم الْأمين. وَمَا جالسته يَوْمًا، إِلَّا سَأَلته أَن يصلني بِشَيْء. فَجَمِيع مَا أنفقهُ إِلَى السَّاعَة، من فضل مَا وصلني مِنْهَا.

من مكارم البرامكة

من مَكَارِم البرامكة ذكر سعيد بن سُلَيْمَان الْبَاهِلِيّ، قَالَ: أضقت إضاقة شَدِيدَة، وَكثر عَليّ الْغُرَمَاء، فاستترت مُدَّة، ثمَّ صرت إِلَى عبد الله بن مَالك، فشكوت إِلَيْهِ حَالي، وشاورته فِي أَمْرِي. فَقَالَ: لست أعرف لَك غير قصد البرامكة، ومسألتهم فِي إصْلَاح مَا اخْتَلَّ من أَمرك. فَقلت: وَمن يحْتَمل تيههم وصلفهم؟ قَالَ: تحتمله، فِي جنب مَا تقدر من صَلَاح حالك. قَالَ: فصرت إِلَى جَعْفَر وَالْفضل ابْني يحيى، فشكوت إِلَيْهِمَا أَمْرِي. فَقَالَا: نكفيك، إِن شَاءَ الله. فَانْصَرَفت إِلَى عبد الله بن مَالك، فعرفته مَا جرى. فَقَالَ: أقِم عِنْدِي، وَلَا ترجع إِلَى مَنْزِلك، وتقاسى غرماءك، فأقمت عِنْده. فَصَارَ إِلَيّ غُلَام لي، فَقَالَ: يَا مولَايَ، رحبتنا مَمْلُوءَة بالجمال عَلَيْهَا المَال، وَرجل مَعَ الْجمال، مَعَه رقْعَة يزْعم أَنَّهَا من الْفضل وجعفر، وَأَنه رسولهما. فَقَالَ لي عبد الله: أَرْجُو أَن يكون قد فرج الله عَنْك. فَضرب إِلَيّ مَنْزِلك، وَإِذا رَسُول جَعْفَر وَالْفضل، وَمَعَهُ رقْعَة يذكران فِيهَا:

أَنَّهُمَا عرفا أَمِير الْمُؤمنِينَ خبري، وَأَن عَليّ ثَمَان مائَة ألف دِرْهَم، دينا، فَأمر بحملها إِلَيّ. ثمَّ قَالَا لَهُ: فَإِذا قضى دينه، يرجع إِلَى الدَّين؟ فَأمر لي بثمان مائَة ألف دِرْهَم أُخْرَى، لنفقتي. وأنهما أضافا إِلَيْهَا من أموالهما، ألفي ألف دِرْهَم، فحملاها مَعَ ذَلِك. فاستوفيت من رسولهما، ثَلَاثَة آلَاف ألف، وست مائَة ألف دِرْهَم. وَقد ذكر أَبُو الْحسن القَاضِي هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، على قريب من هَذَا اللَّفْظ وَالْمعْنَى، بِغَيْر إِسْنَاد، وَلم يذكر فِيهِ مبلغ المَال، وَلَا حَال الاستتار.

المأمون يهب أحد كتابه اثني عشر ألف ألف درهم

الْمَأْمُون يهب أحد كِتَابه اثْنَي عشر ألف ألف دِرْهَم وجدت فِي كتاب عَتيق، فِيهِ أَخْبَار جمعهَا يَعْقُوب بن بَيَان الْكَاتِب: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن دَاوُد بن الْجَعْد، قَالَ: حَدثنِي يزِيد بن دِينَار بن عبد الله، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن يحيى بن خاقَان] ، قَالَ: كنت كَاتب الْحسن بن سهل، فَقدم الْمَأْمُون مَدِينَة السَّلَام، فَقَالَ لي: يَا يحيى، خلوت بِالسَّوَادِ، ولعبت بالأموال الَّتِي لي، واحتجنتها، واقتطعتها. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا أَنا كَاتب الرجل، والمناظرة فِي الْأَمْوَال والأعمال، مَعَ صَاحِبي، لَا معي. فَقَالَ: مَا أطالب غَيْرك، وَلَا أعرف سواك، فصالحني على مائَة ألف ألف دِرْهَم. قَالَ: فَضَحكت.

فَقَالَ: يَا يحيى، أجد وتهزل؟ فَقلت: لَا، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّمَا ضحِكت تَعَجبا، وَبِاللَّهِ، مَا أملك إِلَّا سبع مائَة ألف دِرْهَم. فَقَالَ: دع هَذَا عَنْك، واعطني خمسين ألف ألف دِرْهَم. قَالَ: فَمَا زلت أجاذبه، ويجاذبني، إِلَى أَن بلغ اثْنَا عشر ألف ألف دِرْهَم، فَلَمَّا بلغ إِلَيْهَا؛ قَالَ: نفيت من الرشيد، إِن نقصتك شَيْئا مِنْهَا. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. قَالَ: أقِم لي ضمينا، إِن لم تف لي بهَا؛ طالبته. قلت: صَاحِبي، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، يضمنني. فَقَالَ: أَترَانِي إِن دافعت الْأَدَاء، أطالب الْحسن بن سهل عَنْك؟ هَذَا مَا لَا يكون. فَقلت: عبد الله بن طَاهِر؟ فَقَالَ: عبد الله بن طَاهِر، سَبيله سَبِيل صَاحبك. قلت: فحميد؟ قَالَ: وَهَذِه سَبيله. قلت: فَفرج مَوْلَاك، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: مَلِيء، وَالله، وثقة، ثمَّ الْتفت إِلَى فرج، فَقَالَ: أتضمنه يَا فرج؟ قَالَ: نعم، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد ضمنته. فَقَالَ: أَنا، وَالله، محرجه بالإلحاح فِي الْمُطَالبَة، حَتَّى يهرب، أَو يسْتَتر، ثمَّ آخذك بِالْمَالِ، فتؤديه، فَإنَّك ملي بِهِ. فَقَالَ فرج: صَاحِبي ثِقَة، وَهُوَ لَا يخفرني، إِن شَاءَ الله. قَالَ يحيى: فَكتبت إِلَى الْحسن بن سهل، وَعبد الله بن طَاهِر، وَحميد،

ودينار بن عبد الله، وغسان، وَرِجَال الْمَأْمُون، أسألهم إعانتي فِي المَال. قَالَ: فحملوا لي ذَلِك عَن آخِره، حمل كل إِنْسَان مِنْهُم، على قدره، قَالَ يحيى: فَكتبت رقْعَة إِلَى الْمَأْمُون، أعرفهُ أَن المَال قد حضر، وأسأله أَن يَأْمر من يقبضهُ. قَالَ: فأحضرني، فَلَمَّا وَقعت عينه عَليّ؛ قَالَ لي: يَا خائن، الْحَمد لله الَّذِي بَين لي خِيَانَتك، وَأظْهر لي كَذبك، ألم تذكر أَنَّك لَا تملك إِلَّا سبع مائَة ألف دِرْهَم؟ فَكيف تهَيَّأ لَك أَن حملت فِي عشرَة أَيَّام اثْنَي عشر ألف ألف دِرْهَم؟ قَالَ: فَقلت: حُمِلَتْ، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، من هَذِه الجريدة، وَدفعت إِلَيْهِ جَرِيدَة بأسماء من حمل إِلَيّ المَال، ومبلغ مَا حمل كل وَاحِد مِنْهُم. قَالَ: فَقَرَأَ الجريدة، ثمَّ أطرق مَلِيًّا، وَرفع رَأسه، فَقَالَ: لَا يكون أَصْحَابنَا، أَجود منا، هَذَا المَال قد وهبناه لَك، وأبرأنا ضمينك. قَالَ يحيى: فَانْصَرَفت، فَرددت المَال إِلَى أَصْحَابه، فَأَبَوا أَن يقبلوه، وَقَالُوا: قد وهبناه لَك، فَاصْنَعْ بِهِ مَا أَحْبَبْت. قَالَ: فَحَلَفت أَن لَا أقبل مِنْهُ درهما، وَقلت لَهُم: أَخَذته فِي وَقت حَاجَتي، ورددته عِنْد استغنائي عَنهُ وقبولي إِيَّاه فِي هَذَا الْوَقْت ضرب من التغنم. فرددته عَلَيْهِم.

ما بقي له غير درهمين ثم جاءه الفرج

مَا بَقِي لَهُ غير دِرْهَمَيْنِ ثمَّ جَاءَهُ الْفرج وَوجدت فِي هَذَا الْكتاب، عَن يَعْقُوب بن بَيَان: حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا، وَهُوَ عِنْدِي ثِقَة، وَقد تجارينا لُزُوم المتعطلين أَبْوَاب المتشاغلين، وَتعذر الشّغل عَلَيْهِم، بعد أَن قُلْنَا جَمِيعًا: إِن الأرزاق مقسومة، وَإِن الله، تَعَالَى، إِذا أذن فِيهَا سهلها، قَالَ: فَحَدثني عَمْرو بن حَفْص، عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَ أبي حَفْص، قد صحب بعض عُمَّال فَارس إِلَى فَارس، فَأَقَامَ على بَابه سِتَّة أشهر، يلقاه كل يَوْم فِيهَا، فَلَا يكلمهُ الْعَامِل فِيهَا بِشَيْء، وينصرف أبي إِلَى منزله. قَالَ: فنفدت نَفَقَته، وَبَاعَ كل مَا كَانَ مَعَه، حَتَّى قَالَ لَهُ غُلَامه يَوْمًا: مَا بَقِي إِلَّا الدَّابَّة، والبغل، ودرهمان. قَالَ: فَقَالَ لَهُ: اشْتَرِ لنا بِالدِّرْهَمَيْنِ خوخا، فَإِنَّهُ أرخص من الْخبز، لنتقوته، إِلَى أَن يفرج الله، عز وَجل، عَنَّا. قَالَ: فَفعل الْغُلَام ذَلِك، وَأكل حَفْص من الخوخ شَيْئا ونام، فَمَا اسْتَيْقَظَ إِلَّا بدق الْبَاب، وَإِذا رَسُول الْعَامِل يَأْمُرهُ بالحضور، فَركب، فَوجدَ الْعَامِل قَاعِدا فِي دَاره على كرْسِي ينتظره. فَلَمَّا دخل؛ قَالَ الْعَامِل: لَا جَزَاك الله خيرا عني، وَلَا عَن نَفسك. قَالَ: وَلم ذَاك، أصلحك الله؟ قَالَ: أتستقيم على بَابي سِتَّة أشهر، وَلم تَرَ على نَفسك أَن تريني وَجهك يَوْمًا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: أعزّك الله، أَنا فِي مجلسك كل يَوْم. قَالَ: وَالله، مَا وَقعت لي عَلَيْك عين، وَلَا خطرت ببالي إِلَّا السَّاعَة،

فَإِنِّي ذكرتك، فَعلمت طول مقامك فِي العطلة والغربة. ودعا بكتابه، فَكتب كتبي على فسا ودرابجرد، وَخرجت من يومي إِلَى الْعَمَل، فحصلت مِنْهُ، فِي مديدة قريبَة، سوى نفقتي، سِتّ مائَة ألف دِرْهَم.

268 سبب توبته عن النبيذ

268 سَبَب تَوْبَته عَن النَّبِيذ حَدثنِي عَليّ بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، وَعبيد الله بن مُحَمَّد العبقسي، وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَا: حَدثنَا أَبُو الْفَتْح الْقطَّان: أَن رجلا من أَوْلَاد التُّجَّار، زَالَت نعْمَته، وَصَارَ بوابا لأبي أَحْمد الْحُسَيْن بن مُوسَى الموسوي الْعلوِي، نقيب الطالبيين، أيده الله، بِبَغْدَاد، قَالَ: حَدثنِي خَالِي، وَكَانَ صيرفيا، قَالَ: كنت وَجَمَاعَة من إخْوَانِي، عِنْد بَعْضنَا مُجْتَمعين نشرب، وَعِنْدنَا غُلَام أَمْرَد، وَنحن نَأْكُل بطيخا، وَفِي يَد كل وَاحِد منا سكينا.

فَأخذ الْغُلَام يمزح مَعَ وَاحِد منا فِي يَده سكين؛ ليأخذها مِنْهُ، فَرمي بالسكين، كالضجر من مجاذبته إِيَّاهَا، فَوَقَعت فِي قلب الْغُلَام، فَتلف فِي الْحَال، فقمنا لنهرب. فَقَالَ صَاحب الْبَيْت: مَا هَذِه فتوة، إِمَّا أَن نبتلى كلنا، أَو نتخلص كلنا. فأغلقنا بَاب الدَّار، وشققنا بطن الْغُلَام، فألقينا مَا فِيهِ فِي المستراح، وفصلنا أعضاءه، فَأخذ كل منا عضوا، وَخَرجْنَا مُتَفَرّقين؛ لنلقي ذَلِك بِحَيْثُ يخفى خَبره. فَوَقع معي الرَّأْس، فلففته فِي فوطة، وَجَعَلته فِي كمي.

فَلَمَّا مشيت؛ استقبلني رجالة الْمُحْتَسب، فقبضوا على كمي، وَقَالُوا: قد أمرنَا الْمُحْتَسب بِخَتْم كل كيس نجده، حَتَّى يفتح بِحَضْرَتِهِ، وَيخرج مَا فِيهِ، وَتُؤْخَذ مِنْهُ الزائفة. فرفقت بهم، وبذلت لَهُم دَارهم كَثِيرَة، فَلم يجيبوا، وَمَشوا بِي مَعَهم، وأمسكوني يُرِيدُونَ الْمُحْتَسب. فَنَظَرت، فَإِذا أَنا هَالك، وفكرت فِي الْحِيلَة والخلاص، فَلم تتجه، حَتَّى رَأَيْت دربا ضيقا لطيف الْبَاب، كَأَنَّهُ بَاب دَار وَأَنا أعرفهُ منفذا. فَقلت لَهُم: أَنْتُم تُرِيدُونَ ختم كيسي، فَمَا معنى تشبثكم بيَدي وكمي كَأَنِّي لص؟ أَنا مَعكُمْ إِلَى الْمُحْتَسب، فَخلوا عَن يَدي، فَفَعَلُوا، وأطافوا بِي. فَلَمَّا صرت على بَاب الدَّرْب؛ سعيت، وأغلقت بَابه، واستوثقت مِنْهُ، وسعيت إِلَى آخِره، فَإِذا بِئْر كنيف قد فتحت لتنقى، وَتركت مَفْتُوحَة، فألقيت الفوطة بِمَا فِيهَا فِي الْبِئْر، وَخرجت أسعى من طرف الدَّرْب الآخر، حَتَّى بلغت منزلي، وحمدت الله، تَعَالَى، على الْخَلَاص من الهلكة، وتبت عَن النَّبِيذ.

269 حلف بالطلاق لا يحضر دعوة، ولا يشيع جنازة

269 حلف بِالطَّلَاق لَا يحضر دَعْوَة، وَلَا يشيع جَنَازَة حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن مُوسَى الموسوي الْعلوِي النَّقِيب، قَالَ: حَدثنِي شيخ كَانَ يخدمني، وَقد تجارينا أَحَادِيث النَّاس، فَقَالَ: إِنَّه حلف بِالطَّلَاق، أَلا يحضر دَعْوَة، وَلَا يشيع جَنَازَة، وَلَا يودع وَدِيعَة، فَسَأَلته عَن ذَلِك. فَقَالَ: كنت انحدرت إِلَى الْبَصْرَة من بَغْدَاد، فَصَعدت إِلَى بعض مشارع الْبَصْرَة عشَاء، فاستقبلني رجل، فكناني بِغَيْر كنيتي، وبش فِي وَجْهي، وأحفى، وَجعل يسألني عَن قوم لَا أعرفهم، وَيحلف عَليّ فِي النُّزُول عِنْده. وَكنت غَرِيبا، لَا أعرف مَكَانا، فَقلت: أَبيت عِنْده اللَّيْلَة إِلَى غَد، فأطلب موضعا. فموهت عَلَيْهِ القَوْل، فجذبني إِلَى منزله، وَكَانَ معي رَحل صَالح، وَفِي كمي دَرَاهِم كَثِيرَة. فَدخلت إِلَيْهِ، فَإِذا عِنْده دَعْوَة، وَالْقَوْم على نَبِيذ، وَقد خرج لحَاجَة،

فشبهني بصديق لَهُ، وتموه عَلَيْهِ أَمْرِي لسكره. وَكَانَ فِيمَن عِنْده، رجل لَهُ غُلَام أَمْرَد، فَلَمَّا أخذُوا مضاجعهم للنوم؛ أرقت من بَينهم. فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة؛ رَأَيْت وَاحِدًا من الْجَمَاعَة، قد قَامَ إِلَى الْغُلَام الْأَمْرَد، ففسق بِهِ، وَرجع إِلَى مَوْضِعه، وَكَانَ قَرِيبا من صَاحب الْغُلَام. واستيقظ فِي الْحَال صَاحب الْغُلَام، فَتقدم إِلَى غُلَامه ليفسق بِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ؟ ألم تكن السَّاعَة عِنْدِي، وَفعلت بِي كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: قد جَاءَنِي السَّاعَة من فعل بِي، وظننته إياك، فَلم أتحرك، وَلم أَظن أَن أحدا يَجْسُر عَلَيْك. فنخر الرجل، وجرد سكينا من وَسطه، وَقَامَ، وَأَنا أرعد، فَلَو كَانَ دنا مني، حَتَّى يجدني أرعد؛ لَقَتَلَنِي، وَظن أَنِّي صَاحب الْقِصَّة. فَلَمَّا أَرَادَ الله، عز وَجل، من بَقَاء حَياتِي مَا أَرَادَ، بَدَأَ بِصَاحِبِهِ، فَوضع يَده على قلبه، فَوَجَدَهُ يخْفق، وَقد تناوم عَلَيْهِ، يَرْجُو بذلك السَّلامَة، فَوضع السكين فِي قلبه، وَأمْسك فَاه، فاضطرب الرجل، وَتلف. فَأخذ الرجل بيد غُلَامه، وَفتح الْبَاب، وَانْصَرف. فورد عَليّ أَمر عَظِيم. وَقلت: أَنا غَرِيب، وينتبه صَاحب الْبَيْت، فَلَا يعرفنِي، وَلَا يشك فِي أَنِّي صَاحب الْجِنَايَة، فأقتل. فَتركت رحلي، وَأخذت رِدَائي، ونعلي، وَطلبت الْبَاب، فَلم أزل أَمْشِي، لَا أَدْرِي أَيْن أقصد، وَاللَّيْل منتصف، وَخفت العسس، فَرَأَيْت

أتون حمام لم يُوقد بعد. فَقلت: أختبئ فِيهِ، إِلَى أَن يفتح الْحمام، فَأدْخلهُ، فَجَلَست فِي كسر الأتون. فَمَا لَبِثت حينا، حَتَّى سَمِعت وَقع حافر، وَإِذا بِرَجُل يَقُول: قد رَأَيْتُك يَابْنَ الفاعلة، وَدخل الأتون، وَأَنا كالميت من الْفَزع، لَا أتحرك، فَلَمَّا لم يجد حسا، أَدخل رَأسه وَيَده، يُومِئ بِسيف مَعَه فِي الأتون، وَأَنا بعيد عَن أَن ينالني السَّيْف، صابر، مستسلم. فَلَمَّا لم يحس أحدا؛ خرج إِلَى بَابه، وَإِذا مَعَه جَارِيَة، فَأدْخلهَا الأتون، فذبحها، وَتركهَا وَمضى. فَرَأَيْت بريق خلخالين فِي رِجْلَيْهَا، فانتزعتهما مِنْهَا، وَخرجت، وَمَا زلت أَمْشِي فِي الطَّرِيق متحيرا، إِلَى أَن صرت إِلَى بَاب حمام قد فتح، فدخلته، وخبأت مَا معي فِي ثِيَابِي، عِنْد الحمامي. وَخرجت وَقد أَصبَحت، فضممت الخلخالين إِلَى مَا معي، وَطلبت الطَّرِيق، فَعرفت أَنِّي بِالْقربِ من دَار صديق لي، فطلبتها، فدققت بَابه، فَفتح لي، وسر بمقدمي، وأدخلني. فَدفعت إِلَيْهِ منديلي الَّذِي كَانَ فِيهِ دراهمي والخلخالين؛ ليخبئهما، فَلَمَّا نظر إِلَيْهِمَا تغير وَجهه. فَقلت: مَا لَك؟

فَقَالَ: من أَيْن لَك هَذَانِ الخلخالان؟ فَأَخْبَرته بخبري كُله فِي لَيْلَتي، فَدخل مسرعا إِلَى دَار حرمه، وَخرج إِلَيّ. فَقَالَ: أتعرف الرجل الَّذِي رَأَيْته قتل الْجَارِيَة؟ قلت: أما بِوَجْهِهِ فَلَا؛ لِأَن اللَّيْل والظلمة كَانَت حائلة بَيْننَا، وَلَكِن إِن سَمِعت كَلَامه عَرفته. فأعد طَعَاما، وَغدا فِي أمره، وَعَاد بعد سَاعَة، وَمَعَهُ رجل شَاب من الْجند، فَكَلمهُ، وغمزني عَلَيْهِ. فَقلت: نعم، هَذَا هُوَ الرجل. ثمَّ أكلنَا، وَحضر الشَّرَاب، فَحمل عَلَيْهِ بالنبيذ، فَسَكِرَ، ونام مَوْضِعه، فأغلق بَاب الدَّار، وَذبح الرجل. وَقَالَ لي: إِن المقتولة أُخْتِي، وَكَانَ هَذَا قد أفسدها، ونمى الْخَبَر إِلَيّ مُنْذُ أَيَّام فَلم أصدق، إِلَّا أَنِّي طردت أُخْتِي، وأبعدتها عني، فمضت إِلَيْهِ، وَلست أَدْرِي مَا كَانَ بَينهمَا، حَتَّى قَتلهَا، وَإِنَّمَا عرفت الخلخالين وَدخلت فسألتها عَنْهَا. فَقيل لَهَا: هِيَ عِنْد فلَان. فَقلت: قد رضيت عَنْهَا، فوجهوا، فردوها، فلجلجوا فِي القَوْل، فَعلمت أَن الرجل قد قَتلهَا كَمَا ذكرت، فَقتلته، فَقُمْ حَتَّى ندفنه. فخرجنا لَيْلًا، أَنا وَالرجل، حَتَّى دفناه، وعدت إِلَى المشرعة، هَارِبا من الْبَصْرَة، حَتَّى دخلت بَغْدَاد. وَحلفت أَلا أحضر دَعْوَة أبدا، وَلَا أودع وَدِيعَة أبدا. وَأما الْجِنَازَة، فَإِنِّي خرجت بِبَغْدَاد، نصف النَّهَار، فِي يَوْم حَار، لحَاجَة، فاستقبلتني جَنَازَة يحملهَا نفسان.

فَقلت: غَرِيب، فَقير، أحملها مَعَهُمَا فأثاب، فَدخلت تحتهَا، بَدَلا من أحد الحمالين. فحين اسْتَقَرَّتْ على كَتِفي؛ افتقدت الْحمال، فَلم أَجِدهُ، فَصحت: يَا حمال، يَا حمال. فَقَالَ الآخر: امش، واسكت، قد انْصَرف الْحمال. فَقلت: السَّاعَة، وَالله، أرمي بهَا. فَقَالَ الْحمال: وَالله، لَئِن فعلت لأصيحن. فَاسْتَحْيَيْت، وَقلت: ثَوَاب، فحملناها إِلَى مَسْجِد الْجَنَائِز، فَلَمَّا حططنا الْجِنَازَة فِي مَسْجِد الْجَنَائِز؛ هرب الْحمال الآخر. فَقلت: مَا لهَؤُلَاء الملاعين، وَالله، لأتمن الثَّوَاب، فأخرجت من كمي دَرَاهِم، وَصحت: يَا حفار، أَيْن قبر هَذِه الْجِنَازَة؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقلت: أحفر، فَأخذ مني دِرْهَمَيْنِ، وحفر قبرا. فَلَمَّا صوبت عَلَيْهِ الْجِنَازَة؛ ليَأْخُذ الْمَيِّت فيدفنه، وثب الحفار من الْقَبْر فلطمني، وَجعل عمامتي فِي رقبتي، وَصَاح: يَا قوم، قَتِيل، فَاجْتمع النَّاس، فَسَأَلُوهُ. فَقَالَ: هَذَا الرجل، جَاءَ بِهَذَا الْمَيِّت، بِلَا رَأس؛ لأدفنه، وَحل الْكَفَن، فوجدوا الْأَمر على مَا قَالَه الْأَمر على مَا قَالَه الحفار. فدهشت، وتحيرت، وَجرى عَليّ من مَكْرُوه الْعَامَّة، مَا كَادَت نَفسِي تتْلف مَعَه. ثمَّ حملت إِلَى صَاحب الشرطة، وَأخْبر الْخَبَر، فَلم يرد شَاهدا عَليّ، فجردت للسياط، وَأَنا سَاكِت باهت.

وَكَانَ لَهُ كَاتب عَاقل، فحين رَآنِي، وَرَأى حيرتي، قَالَ لَهُ: أَنْظرنِي، حَتَّى أكشف حَال هَذَا الرجل، فَإِنِّي أَحْسبهُ مَظْلُوما، فأمهله. فَقَامَ، وخلا بِي، وساءلني، فَأَخْبَرته خبري، وَلم أَزْد فِيهِ وَلم أنقص. فنحى الْمَيِّت عَن الْجِنَازَة، وفتشها، فَوجدَ عَلَيْهَا مَكْتُوبًا: إِنَّهَا لِلْمَسْجِدِ الْفُلَانِيّ، فِي النَّاحِيَة الْفُلَانِيَّة. فَأخذ مَعَه رِجَاله وَمضى، فَدخل الْمَسْجِد متنكرا، فَوجدَ فِيهِ خياطا، فَسَأَلَهُ عَن جَنَازَة هُنَاكَ، كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يحمل عَلَيْهَا مَيتا لَهُ. فَقَالَ الْخياط: لِلْمَسْجِدِ جَنَازَة، إِلَّا أَنَّهَا قد أخذت مِنْهُ الْغَدَاة؛ لحمل ميت، وَلم ترد. قَالَ: من أَخذهَا؟ قَالَ: أهل تِلْكَ الدَّار، وَأَوْمَأَ إِلَيْهَا. فكبسها الْكَاتِب برجالة الشرطة، فَوجدَ رجَالًا عزابا، فَقبض عَلَيْهِم، وَحَملهمْ إِلَى الشرطة، وَأخْبر صَاحب الشرطة بالْخبر. وَقرر الْقَوْم، فأقروا أَنهم تغايروا على غُلَام أَمْرَد كَانَ مَعَهم، فَقَتَلُوهُ، وطرحوا رَأسه فِي بِئْر حفروها فِي الدَّار، وَحَمَلُوهُ على تِلْكَ الصُّورَة، وَأَن الحمالين كَانَا من جملَة الْقَوْم، وعَلى أصل هربا. فَضربت أَعْنَاق الْقَوْم، وخلي سبيلي. فَهَذَا سَبَب يَمِيني فِي أَلا أحضر جَنَازَة.

270 ابن قمير الموصلي وقع في ورطة وتخلص منها

270 ابْن قمير الْموصِلِي وَقع فِي ورطة وتخلص مِنْهَا وحَدثني عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي، قَالَ: حَدثنِي ابْن قمير، مُجَلد الْكتب، كَانَ، بالموصل، قَالَ: أَعْطَانِي أَبُو عبد الله بن أبي الْعَلَاء بن حمدَان، دفترا أجلده، وأكد عَليّ الْوَصِيَّة فِي حفظه، فَأَخَذته مِنْهُ، ومضيت إِلَى دكاني. وَكَانَ طريقي على دجلة، فَنزلت إِلَى مشرعة أتوضأ، فَسقط الدفتر من كمي فِي المَاء، فتناولته عجلا قبل أَن يغرق، وَقد ابتل، فَقَامَتْ قيامتي، وَلم أَشك أَنه سيجزي عَليّ مَكْرُوه شَدِيد من أبي عبد الله، من ضرب، وَحبس، وَأخذ مَال، فَعمِلت على الْهَرَب من الْموصل. ثمَّ قلت: أجففه، وأجلده، وأجتهد فِي أَن أسلمه إِلَى غُلَام لَهُ، وَهُوَ لَا يعلم، واستتر، فَإِن ظهر الحَدِيث؛ هربت، وَإِن كفى الله، تَعَالَى، ذَلِك، وتمت عَلَيْهِ الْحِيلَة ظَهرت.

فحللته، وجففته، وثقلته، حَتَّى رَجَعَ واستوى، أَكثر مَا يُمكن من مثله، وجلدته، وتأنقت فِي التجليد. فَلَمَّا فرغت مِنْهُ؛ جِئْت إِلَى الْحَاجِب لأسلمه إِلَيْهِ من بَاب الدَّار وأمضي، فصادفت الْحَاجِب جَالِسا فِي الدهليز، فَسلمت إِلَيْهِ الدفتر. فَقَالَ: ادخل إِلَيْهِ، وادفعه من يدك إِلَى يَده، فَلَعَلَّهُ يتوقعك، وَلَعَلَّه يَأْمر لَك بِشَيْء. فَقلت: لَا أُرِيد، فَإِنِّي مستعجل. فَقَالَ: لَا يجوز، وَلم يدعني حَتَّى دخلت إِلَيْهِ، فَلم أَشك أَن ذَلِك من سوء الِاتِّفَاق عَليّ، الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَكْرُوه، ومشيت فِي الصحن وَأَنا فِي صُورَة عَظِيمَة من الْهم. فَوجدت أَبَا عبد الله جَالِسا على بركَة مَاء فِي صحن دَاره، والغلمان قيام على رَأسه، فأخرجت الدفتر من كمي. فَقَالَ لأحد غلمانه: خُذْهُ من يَده، وهاته. فجَاء الْغُلَام من جَانب الْبركَة، وَأَنا من الْجَانِب الآخر، وَمد يَده ليأخذه، فأعطيته إِيَّاه، فَلم يتَمَكَّن فِي يَده، حَتَّى سقط الدفتر فِي الْبركَة، وغاص إِلَى قعرها. فجن أَبُو عبد الله، وَشتم الْغُلَام، وَقَالَ: مقارع، مقارع. فحمدت الله، عز وَجل، على استتار أَمْرِي من حَيْثُ لَا أحتسب، وكفايتي مَا كنت أخافه. وَخرجت، والغلام يضْرب.

271 واسطي أتلف ماله وافتقر ثم صلح حاله بعد أهوال

271 واسطي أتلف مَاله وافتقر ثمَّ صلح حَاله بعد أهوال حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد الصُّورِي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: كَانَ فِي جوارنا بواسط، شَاب أتلف مَاله فِي اللّعب، فافتقر فقرا شَدِيدا، ثمَّ رَأَيْته بعد ذَلِك بِمدَّة، وَقد أثرى، وصلحت حَاله، وَأَقْبل على شَأْنه. فَقلت لَهُ: مَا سَبَب هَذَا؟ فدافعني. ثمَّ قَالَ: أحَدثك، وتكتم عَليّ؟ فَقلت: نعم. فَقَالَ: إِن الْفقر بلغ بِي إِلَى حَال تمنيت مَعهَا الْمَوْت، وَولدت امْرَأَتي ذَات لَيْلَة، وَكَانَت لَيْلَة الْعِيد، فَلم يكن معي مَا أَشْتَرِي لَهَا مَا يمسك رمقها، فَخرجت على وَجْهي، أطلب من أَتصدق مِنْهُ شَيْئا أَعُود بِهِ إِلَى امْرَأَتي. فأفضيت إِلَى زقاق طَوِيل لَا أعرفهُ، فَدخلت، فَإِذا هُوَ لَا ينفذ، وَإِذا فِيهِ بَاب دَار مَفْتُوح، ومستراح. فَدخلت الدَّار بِغَيْر إِذن، فَإِذا بِرَجُل يطْبخ قدرا، فصاح عَليّ، وَقَالَ: من أَنْت، وَيلك؟ ، فقصصت عَلَيْهِ خبري. فَقَالَ: امْضِ إِلَى ذَلِك الْبَيْت، واجلس إِلَى أَن أفرغ من الْقدر، فأعطيك مِنْهَا مَعَ الْخبز شَيْئا إِلَى امْرَأَتك، وَنَفَقَة تكفيك أَيَّامًا. فَدخلت الْبَيْت، فَرمى إِلَيّ كسَاء، وَقَالَ: تغط بِهِ، ونم سَاعَة.

وَكَانَت لَيْلَة بَارِدَة، وَكنت بقميص وَاحِد، فتغطيت بالكساء، وانضجعت، وَلم يدْخل عَيْني النّوم، لما بِي من الْجُوع وَالْغَم. فَمَا لَبِثت أَن جَاءَ رجل عُرْيَان، فَدخل وعَلى رَأسه شَيْء ثقيل، فَقَامَ الَّذِي يطْبخ، فأغلق الْبَاب، وَأنزل مَا كَانَ على رَأسه. وَقَالَ لَهُ: وَيلك، غبت، حَتَّى أَيِست مِنْك. فَقَالَ: كنت يومي وليلتي، مختبئا خلف حطب لَهُم، حَتَّى تمكنت من أَخذ هَذِه البدرة، وَمَا أَدْرِي أدنانير هِيَ، أم دَرَاهِم؟ وَأَنا ميت جوعا، فأطعمني شَيْئا. قَالَ: فَأخذ الرجل يغْرف من الْقدر، وَمضى الْعُرْيَان فَلبس شَيْئا، وَجَاء إِلَى الآخر، وَقد غرف، فَجعلَا يأكلان، وَقد خرجت نَفسِي فَزعًا. فَلَمَّا أكلا؛ أخرجَا شرابًا، وَجعلا يشربان، وَأَنا متحير لَا أَدْرِي مَا أصنع، وَلست أجترئ أطلب من الرجل شَيْئا. وَأَقْبل الْعُرْيَان يشرب أَكثر من الآخر الَّذِي كَانَ يطْبخ، وَجعل الَّذِي كَانَ يطْبخ، يَقُول لَهُ: استكثر من الشّرْب لتدفأ، إِلَى أَن سكر الْعُرْيَان، ونام. فَقَامَ الأول، فَطَافَ فِي الدَّار، ثمَّ جَاءَنِي، فكلمني فسكتّ؛ خوفًا من أَن يعلم أَنِّي قد علمت بقصتهما، فَيَقْتُلنِي، فَظن أنني قد نمت. فَمضى إِلَى النَّائِم، فذبحه، ثمَّ أمْسكهُ حَتَّى مَاتَ، ثمَّ لفه فِي كسَاء، وَحمله على عَاتِقه، وَخرج من الدَّار. فَقلت لنَفْسي: لأي شَيْء قعودي؟

فَقُمْت، فَجئْت إِلَى البدرة، فجعلتها فِي الكساء الَّذِي كَانَ عَليّ، وَخرجت أسعى سعيا شَدِيدا. فَلم أزل كَذَلِك، حَتَّى رَأَيْت مَسْجِدا قد فَتحه إِنْسَان، وَخرج مِنْهُ، وَجلسَ يَبُول، فدخلته، وَجَاء الرجل الَّذِي كَانَ يَبُول، فدخله، وأغلق بَابه. وَقَالَ لي: أَي شَيْء أَنْت؟ فَقلت: غَرِيب، جِئْت السَّاعَة من السوَاد، وَلم أجسر أَن أتجاوز هَذَا الْموضع، فأجرني، أجارك الله. فَقَالَ: نم مَكَانك، فَتركت البدرة تَحت جَنْبي واتكأت عَلَيْهَا. فَلم ألبث حَتَّى سَمِعت فِي الطَّرِيق صَوت رجل يسْعَى سعيا شَدِيدا، وَإِذا كَلَام صَاحِبي بِعَيْنِه، وَهُوَ يَقُول: عَملهَا ابْن الزَّانِيَة، ويلي على دَمه. فأبصرته من شباك الْمَسْجِد، وَإِذا فِي يَده خنجر مُجَرّد، وَهُوَ يتَرَدَّد ذَاهِبًا وجائيا، وأعماه الله عَن دُخُول الْمَسْجِد، إِلَى أَن مضى. وَلم أزل ساهرا لَا يحملني النّوم؛ خوفًا مِنْهُ، وإشفاقا على مَا معي، إِلَى أَن أَضَاء الصُّبْح، وَأذن فِي الْمَسْجِد. وَخرجت كَأَنِّي أتوضأ، وحملت مَا معي، ومشيت، وَالنَّاس قد كَثُرُوا فِي الطَّرِيق، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى بَيْتِي، فأخفيت مَا جِئْت بِهِ، وأصلحت حَالي، وَحَال زَوْجَتي. ثمَّ خرجت إِلَى ضَيْعَة، كَانَت لأبي، خراب، فأقمت بهَا مُدَّة، حَتَّى عمرتها بِأَكْثَرَ ذَلِك المَال، وَعلمت أَنه لَا يتَّفق مثل هَذَا الِاتِّفَاق أبدا، ولزمت شأني، وصلحت حَالي.

قَالَ: فَقَالَ أبي: مَا حدثت بِهَذَا الحَدِيث حَتَّى مَاتَ الرجل، وَلَا أُسَمِّيهِ أبدا.

اللجاج شؤم

اللجاج شُؤْم حَدثنِي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْأَنْبَارِي الشَّاهِد، بِبَغْدَاد، أحد كتاب قضاتها وخلفائهم، وَيعرف أَيْضا بـ: صهر القَاضِي ابْن سيار، الَّذِي كَانَ يخلف القَاضِي أَبَا الْقَاسِم التنوخي، رَحمَه الله، على أَعمال نواحي وَاسِط وكور الأهواز، وَخلف بعده عدَّة قُضَاة رُؤَسَاء، وَكَانَ من شُيُوخ غلْمَان أبي الْحسن الْكَرْخِي، وَقد رَأَيْت أَنا أَبَا الْحسن هَذَا كثيرا عِنْد أبي، رَضِي الله عَنهُ، وَلم أسمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُ، قَالَ: حَدثنِي شيخ من الْبَصرِيين، أَثِق بِهِ، قَالَ: عادلت فلَانا القَاضِي، ذكره ابْن مرغول، رَحمَه الله، وأنسيه مُحَمَّد بن مُحَمَّد، إِلَى الْحَج. قَالَ: وتشاجر رجلَانِ فِي الرّفْقَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا من الْقَافِلَة. قَالَ: وجذبهما ذَلِك القَاضِي إِلَيْهِ، وَلم يزل يتوسط بَينهمَا ويترقق بهما، وَقد اسْتعْمل كل وَاحِد مِنْهُمَا اللجاج والمشاحنة، وَأَقَامَا عَلَيْهَا، وَهُوَ يصبر عَلَيْهِمَا، وَيَقُول: اللجاج شُؤْم فَلَا تستعملانه، ويكرر هَذِه اللَّفْظَة، إِلَى أَن فصل بَينهمَا. فَقَالَ لي: أذكرني حَدِيثا فِي اللجاج، جرى على يَدي، لَك فِيهِ، وَلكُل من سَمعه أدب. قَالَ: فأذكرته بعد وَقت.

فَقَالَ: كنت أتولى الْقَضَاء، فِي الْبَلَد الْفُلَانِيّ، فَتقدم إِلَيّ رجلَانِ، فَادّعى أَحدهمَا على الآخر عشْرين دِينَارا. فَقلت للْمُدَّعى عَلَيْهِ: مَا تَقول؟ فَقَالَ: لَهُ عَليّ ذَلِك، إِلَّا أَنِّي عبد لآل فلَان، مكَاتب، مَأْذُون لي فِي التَّصَرُّف، واتجرت، فخسرت، وَلَيْسَ معي مَا أعْطِيه، وَقد عاملني هَذَا الرجل سِنِين كَثِيرَة، وَربح عَليّ أَضْعَاف هَذِه الدَّنَانِير مرَارًا، فَإِن رأى القَاضِي أَن يسْأَله الرِّفْق بِي، فَإِنِّي عبد، وَضَعِيف، وَلَا حِيلَة لي. فَسَأَلته أَن يرفق بِهِ، ويؤخره، فَامْتنعَ. فَقلت: قد سَمِعت. فَقَالَ: مَا لي حِيلَة. فَقَالَ الرجل: احبسه لي. فَعَاد العَبْد يسألني، فَسَأَلته أَن لَا يفعل، وَبكى العَبْد، فرققت لَهُ، وَسَأَلت خَصمه أَن لَا يحْبسهُ، وَأَن ينظره. فَقَالَ: لَا أفعل. فَقَالَ العَبْد: إِن حَبَسَنِي أهلكني، وَوَاللَّه مَا أرجع إِلَى شَيْء، وَإنَّهُ ليضايقني، ويلج فِي أَمْرِي، وَقد انْتفع مني بأضعاف هَذِه الدَّنَانِير، وَورث مُنْذُ أَيَّام من أخي أُلُوف دَنَانِير، فأشير عَليّ بمنازعته إِلَى القَاضِي فِي الْمِيرَاث، فَلم أفعل. قَالَ: فحين قَالَ ذَلِك، توجه لي وَجه طمع فِي خلاصه من لجاج ذَلِك الْغَرِيم، وَقد كَانَ غاظني بلجاجه ومحكه. فَقلت: كَيفَ ورث أَخَاك، وَأَرَدْت منازعته؟

فَقَالَ: إِن أخي كَانَ عبدا لَهُ، مَأْذُونا لَهُ فِي التَّصَرُّف، وَكَانَ يتجر ويتصرف، وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ ضريبته، وَجمع مَالا وأمتعة، بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، ثمَّ مَاتَ، وَلم يخلف أحدا غَيْرِي، وَأَنا رجل ضَعِيف مَمْلُوك، ولي ابْنَانِ طفلان من امْرَأَة حرَّة، وهما حران، فَأَنا أعولهما، وأعول نَفسِي وزوجتي، وأؤدي إِلَى مولَايَ ضريبته، فطمعت فِي أَن أنازعه فِي الْمِيرَاث، وآخذ شَيْئا أَعُود بِهِ على نَفسِي وأولادي وعيالي، فَقيل لي: إِنَّك لَا تَرث، فَلم أحب منازعته؛ صِيَانة لَهُ، وَهُوَ الْآن يضايقني. قَالَ: فَقلت للرجل: هُوَ كَمَا قَالَ، إِن أَخَاهُ كَانَ عَبدك، وَمَات، وَخلف عَلَيْك تَرِكَة قيمتهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار؟ قَالَ: نعم. فَقلت لَهُ: وَلِهَذَا العَبْد طفلان حران؟ قَالَ: نعم. فَقلت: قُم، فَأَخَّرَهُ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَا تطالبه بهَا. فَقَالَ: مَا أَبْرَح إِلَّا بِالدَّنَانِيرِ، أَو بحبسه. فَقلت: أقبل رَأْيِي، وَلَا تلج. فَقَالَ: لَا أفعل. فَقلت: إِنَّك مَتى لم تفعل؛ خرج من يدك مَال جليل. فَقَالَ: لَا أفعل. قَالَ: فَقلت للْعَبد: قد أَذِنت لَك أَن تَتَكَلَّم عَن ابنيك الطفلين، وهما، على مَذْهَب عبد الله بن مَسْعُود وَهُوَ مذهبي، أَحَق بِالْمِيرَاثِ من مَوْلَاهُ، وَإِن كنت أَنْت حَيا، فَإنَّك بِمَنْزِلَة الْمَيِّت للعبودية، فطالبه عَن ابنيك الحرين الطفلين بِالتَّرِكَةِ.

قَالَ: فطالبه بهَا. فأحضرت الشُّهُود، فَأَعَادَ الْخُصُومَة وَالدَّعْوَى، وَلم أزل بالمولى، حَتَّى أسمعت الشُّهُود إِقْرَاره بِمَا كَانَ أقرّ بِهِ عِنْدِي، ثمَّ حكمت للابنين الطفلين بِالتَّرِكَةِ، وانتزعت جَمِيعهَا من يَده، وسلمت إِلَيْهِ مِنْهَا عشْرين دِينَارا؛ لما أقرّ لَهُ العَبْد بِهِ، وَجعلت ذَلِك دينا عَلَيْهِ لابْنَيْهِ. وسلمت مِقْدَار ثمن العَبْد، من مَال الطفلين، إِلَى أَمِين من أمنائي، وَقلت: اشْتَرِ أباهما من مَوْلَاهُ بِهَذِهِ الدَّنَانِير، واعتقه عَلَيْهِمَا، فَفعل. وَجعلت بَاقِي مَال الطفلين فِي يَد أَبِيهِمَا، وَأمين جعلته عَلَيْهِ مشرفا، وَأمرت الْأَب أَن يتجر لَهما بِالْمَالِ، وَيَأْخُذ ثلث الرِّبْح، بِحَق قِيَامه، وحكمت بِالْجَمِيعِ، وأشهدت على إنفاذي الحكم لَهُ الشُّهُود. فَقَامَ العَبْد، وَهُوَ فرحان، وَقد فرج الله عَنهُ، وآمنه أَن يحبس، وعتقت رقبته، وَصَارَ مُوسِرًا. وَقَامَ اللجوج خاسرا حائرا، وَقد أَخذ عشْرين دِينَارا، وَأعْطى ثَلَاثَة آلَاف دِينَار.

ابن الجصاص الجوهري يلتقط جواهره المبعثرة لم يفقد منها شيئا

ابْن الْجَصَّاص الْجَوْهَرِي يلتقط جواهره المبعثرة لم يفقد مِنْهَا شَيْئا حَدثنِي أَبُو عَليّ بن أبي عبد الله بن الْجَصَّاص، قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: اتّفق أَنِّي كنت يَوْم قبض عَليّ المقتدر جَالِسا فِي دَاري، وَأَنا ضيق الصَّدْر، ضيقا شَدِيدا، لَا أعرف سَببه. وَكَانَ من عادتي إِذا لَحِقَنِي مثل ذَلِك، أَن أخرج جَوَاهِر عِنْدِي فِي درج معزولة لهَذَا، من ياقوت أَحْمَر وأزرق وأصفر، وحبا كبارًا ودرا فاخرا، يكون قيمَة الْجَمِيع خمسين ألف دِينَار، وَأكْثر، وأستدعي صينية ذهب لَطِيفَة، فأجعله فِيهَا، وألعب بِهِ، وأفلبه، فيزول ضيق صَدْرِي. فاستدعيت ذَلِك الدرج، فجاءوني بِهِ بِلَا صينية، فأنكرت ذَلِك، وَأمرت بإحضارها، وَفتحت الدرج، وفرغت مَا فِيهِ فِي حجري، ورددته على الْخَادِم، وأنفذته يجيئني بالصينية، وَأَنا جَالس فِي بُسْتَان، فِي صحن دَاري، فِي يَوْم بَارِد، طيب الشَّمْس، وَهُوَ مزهر بصنوف الشقائق والمناثير، وَأَنا أَلعَب بِتِلْكَ الْجَوَاهِر، إِذْ دخل النَّاس إِلَيّ بالصياح وَالْمَكْرُوه والكبس، فقربوا مني.

فدهشت، وَلم أحب أَن يظهروا على مَا فِي حجري، فنفضت جَمِيعه فِي ذَلِك الزهر فِي الْبُسْتَان، وَلم ينتبهوا لَهُ. فَأخذت فَحملت، وَجرى عَليّ مَا جرى من المصادرة، وَبقيت فِي الْحَبْس الْمدَّة الطَّوِيلَة، وتقلبت الْفُصُول على الْبُسْتَان، فجف مَا فِيهِ، وَلم يفكر أحد فِي قلعه، أَو زراعته، وإثارته، وأغلقت الدَّار، فَمَا قربهَا أحد من أَصْحَابِي وَلَا أعدائي، بعد الَّذِي أَخذ مِنْهَا، وفرغت، وَوَقع الْيَأْس من وجود شَيْء فِيهَا. ثمَّ سهل الله إطلاقي، فأطلقت، فحين جِئْت إِلَى دَاري، وَرَأَيْت الْموضع الَّذِي كنت جَالِسا فِيهِ ذَلِك الْيَوْم؛ ذكرت حَدِيث الْجَوْهَر الَّذِي كَانَ فِي حجري، ونفضي إِيَّاه فِي الْبُسْتَان. فَقلت: ترى، بَقِي مِنْهُ شَيْء؟ ثمَّ قلت: هَيْهَات، هَيْهَات، وَأَمْسَكت. فَلَمَّا كَانَ فِي الْغَد، أخليت الدَّار، وَقمت بنفسي وَمَعِي غُلَام يثير الْبُسْتَان بَين يَدي، وَأَنا أفتش شَيْئا شَيْئا مِمَّا يثيره، وَأَجد الْوَاحِدَة بعد الْوَاحِدَة، من ذَلِك الْجَوْهَر، وَكلما وجدت شَيْئا؛ حرصت على الإثارة، وَطلب الْبَاقِي، إِلَى أَن أثرت جَمِيع الْبُسْتَان، فَوجدت جَمِيع ذَلِك الْجَوْهَر، مَا ضَاعَ لي مِنْهُ وَاحِدَة. فَأَخَذته، وحمدت الله، وَعلمت أَنه قد بقيت لي بَقِيَّة من الإقبال صَالِحَة.

الوزير ابن مقلة ينكب رجلا ثم يحسن إليه

الْوَزير ابْن مقلة ينكب رجلا ثمَّ يحسن إِلَيْهِ حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد يحيى بن سُلَيْمَان بن فَهد، رَحمَه الله، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الخباز، قَالَ: كَانَ أَبُو عَليّ بن مقلة نكبني، وصادرني لشَيْء كَانَ فِي نَفسه عَليّ، فأفقرني، حَتَّى لم يدع لي شَيْئا على وَجه الأَرْض. وأطلقني من الْحَبْس، فلزمت بَيْتِي حَزينًا، فَقِيرا يتَعَذَّر عَليّ الْقُوت. ثمَّ لم أجد بدا من الِاضْطِرَاب فِي معاشي، فأشير عَليّ أَن ألزم ابْن مقلة وأستعطفه، وَقيل لي: إِنَّه إِذا نكب إنْسَانا فخدمه؛ رق عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَزِمته مديدة، لَا أرَاهُ يرفع إِلَيّ رَأْسا، وَلَا يذكرنِي. قَالَ: وَكَانَ يعرفنِي بِحسن الثِّيَاب ونظافتها، والتفقد فِي أَمر نَفسِي، أَيَّام يساري. وَاتفقَ أَنِّي حضرت دَاره فِي يَوْم جُمُعَة غدْوَة، وَلم أكن دخلت الْحمام قبل ذَلِك بأسبوع، وَلَا حلقت شعري، وَلَا غيرت ثِيَابِي، وَأَنا وسخ الْجَسَد وَالثيَاب، طَوِيل الشّعْر، وَإِنَّمَا أخرت ذَلِك؛ لإضاقتي عَن مِقْدَار مَا أحتاج إِلَيْهِ، ولشغل قلبِي أَيْضا وغمي بالفقر المدقع الَّذِي دفعت إِلَيْهِ، وهوان نَفسِي عَليّ. فَخرج ابْن مقلة ليركب، فَقُمْت إِلَيْهِ فِي جملَة النَّاس، فدعوت لَهُ.

فحين رَآنِي، تأملني طَويلا، ثمَّ أَوْمَأ إِلَى خَادِم لَهُ بِكَلَام لَا أفهمهُ، وَركب. فَجَاءَنِي الْخَادِم، فَقَالَ: الْوَزير يَأْمُرك أَن لَا تَبْرَح من الدَّار، إِلَى أَن يعود، وأخذني إِلَى حجرَة، فأجلسني فِيهَا. فَقَامَتْ قيامتي، وَخفت أَن يكون قدر أَن تكون لي بَقِيَّة حَال، وَيُرِيد الرُّجُوع عَليّ بالمطالبة، وَلَيْسَ ورائي شَيْء، فأتلف. فتداخلني من الْجزع أَمر عَظِيم، وحصلت فِي شدَّة كَانَت أَشد عَليّ مِمَّا مر بِي، فَلم يكن بأسرع من أَن عَاد. فَجَاءَنِي الْخَادِم، فَقَالَ: قُم إِلَى الْوَزير، فقد طَلَبك. فَجئْت، حَتَّى دخلت عَلَيْهِ، وَهُوَ خَال وَحده، وَلَيْسَ بَين يَدَيْهِ غير أبي الْحُسَيْن، ابْنه، فَرَحَّبَ بِي، وأكرمني، وَرَأَيْت من بره مَا زَالَ عني مَعَه الْخَوْف. ثمَّ قَالَ: يَا أَبَا عَليّ، أعرفك نظيف الثَّوْب، حسن الْقيام على نَفسك، فَلم أَنْت بِهَذِهِ الصُّورَة؟ قَالَ: ففطنت أَنه لما رَآنِي على صُورَتي تِلْكَ؛ رق لي. فَقلت: أَيهَا الْوَزير، لم يبْق لي، وَالله، حَال، وَإنَّهُ ليتعذر عَليّ مَا أغير بِهِ هَذَا الْمِقْدَار من أَمْرِي، وَفتحت أَبْوَاب الشكاية، إِلَى أَن بَكَيْت. فَقَالَ: إِنَّا لله، إِنَّا لله، مَا ظَنَنْت أَن حالك بلغت إِلَى هَذَا، وَلَقَد أسأنا إِلَيْك.

قَالَ: ثمَّ مد يَده إِلَى الدواة، فَكتب لي على الجهبذ، بِأَلف دِينَار صلَة، وَوَقع توقيعا آخر، بِأَن أبايع ضَيْعَة من الْمَبِيع بألفي دِينَار، بِحَيْثُ أخْتَار ذَلِك، ثمَّ قَالَ: خُذ هَذِه الدَّنَانِير فاتجر بهَا، وَأصْلح مِنْهَا حالك، وابتع بِهَذِهِ الألفي دِينَار ضَيْعَة من الْمَبِيع، تغل لَك ألف دِينَار فِي السّنة، واخترها وشاور فِيهَا، فَإِذا وَقع اختيارك عَلَيْهَا؛ فأسمها لي؛ لأكتب بمبايعتك إِيَّاهَا؛ لتستكفي بغلتها سنتك، إِلَى أَن أنظر لَك بعد هَذَا، فأرد جاهك، فشكرته ودعوت لَهُ، ونهضت. فَقَالَ: قف، فوقفت. فَقَالَ لِابْنِهِ أبي الْحُسَيْن: بحياتي عَلَيْك، عاون أَبَا عَليّ حَتَّى يحصل لَهُ هَذَا كُله فِي أُسْبُوع، وَفِي دفْعَة وَاحِدَة، وَلَا ينمحق عَلَيْهِ. قَالَ: فوعدني أَبُو الْحُسَيْن بذلك، وَأَمرَنِي بالمصير إِلَيْهِ، فَانْصَرَفت. ورحت إِلَى أبي الْحُسَيْن، فَأَعَانَنِي، فَحصل ذَلِك كُله لي فِي أَيَّام قَليلَة، وحصلت لي الضَّيْعَة، فاستغللتها فِي تِلْكَ السّنة ألف دِينَار. ولزمت أَبَا عَليّ، فعوضني بمكاسب جليلة، عَاد إِلَيّ مِنْهَا أَكثر مِمَّا خرج عَن يَدي بنكبته.

ابن عبدون الأنباري الكاتب يكسب في ليلة واحدة مائة ألف دينار

ابْن عبدون الْأَنْبَارِي الْكَاتِب يكْسب فِي لَيْلَة وَاحِدَة مائَة ألف دِينَار قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كتاب (الوزراء) : حُكيَ عَن مُحَمَّد بن خلف، الْمَعْرُوف بـ: ابْن عبدون الْأَنْبَارِي الْكَاتِب، أَنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنا يَوْمًا أدرج فِي بعض سِكَك الْمَدِينَة، وَكَانَت حِينَئِذٍ لَا يدخلهَا رَاكِبًا إِلَّا من لَهُ نباهة، إِذْ سَمِعت خَلْفي وَقع حوافر، فَنَظَرت فَإِذا يُوسُف بن الْوَلِيد الْأَنْبَارِي، وَكَانَت بيني وَبَينه مَوَدَّة وقرابة، فَلم أسلم عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: من أَيْن يَا أَبَا عبد الله؟ فَقلت: إِنِّي كسرت هَذِه السّنة ثَلَاثَة آلَاف فَرسَخ، وانصرفت وَأَنا سبروت.

فَقَالَ لي: ثَلَاثَة آلَاف فَرسَخ؟ قلت: نعم، مضيت إِلَى مصر، فأخفقت، ثمَّ مضيت إِلَى فَارس، ثمَّ إِلَى كرمان، ثمَّ إِلَى خُرَاسَان، وانقلبت إِلَى أذربيجان، وانصرفت بِغَيْر شَيْء، وَأَنا أَتَمَنَّى أَن يهب الله، تَعَالَى، قوتا، فأتمونه فِي بلدي. فَقَالَ لي: كم يَكْفِيك من الرزق؟

فَقلت: إِن كَانَ فِي بلدي، فخمسة عشر دِينَارا فِي كل شهر، أتقوت بهَا أَنا وعيالي، وَهُوَ مَا لَا فضل فِيهِ لشَهْوَة وَلَا نائبة. فَقَالَ: كن معي. فاتبعته، فَصَارَ بِي إِلَى ديوَان فِيهِ كتاب، وحجرة لَطِيفَة، فدخلتها، فَإِذا فِي صدرها الْفضل بن مَرْوَان، وَهُوَ يكْتب حِينَئِذٍ للمعتصم، وَهُوَ أَمِير، فوصفني للفضل، ورغبه فِي استخدامي، فَرمى إِلَيّ الْفضل بِكِتَاب، وَقَالَ: أجب عَنهُ بِمَا يجب. فاستعلمت مِنْهُ الدُّعَاء، وأجبت الرجل عَن الْكتاب، وعرضته عَلَيْهِ، فَرضِي خطي ولفظي. وَقَالَ لي: كم يَكْفِيك فِي كل شهر الرزق؟ فَقَالَ لَهُ يُوسُف: الَّذِي ذكر أَنه يقنعه خَمْسَة عشر دِينَارا فِي كل شهر. فَقَالَ: هَذَا قوت، وَلَا بُد من استظهار لنائبة، وَلَكِن قد جَعلتهَا ثَلَاثِينَ دِينَارا فِي كل شهر، فَقبلت يَده. فَقَالَ: الزمني ليلك ونهارك، طلبتك أم لم أطلبك، فَإِن الْمُلَازمَة رَأس مَال الْكَاتِب. قَالَ: فَلَزِمته كَمَا رسم.

وَكَانَ صَالح بن شيرزاد، يخلفه فِي دَار المعتصم، وَقد استولى على المعتصم، بحيلته وتلطفه، على حمارية كَانَت فِيهِ، وَكره ذَلِك الْفضل بن مَرْوَان، واجتهد فِي قلعه، فَلم يتَمَكَّن. فَقَالَ لي يَوْمًا، مَا فِي نَفسه من ذَلِك، وَقَالَ: أَنا أحب أَن أجعلك مَكَانَهُ، إِلَّا أَنِّي أَتَخَوَّف أَن تسلك مسلكه، فَهَل فِيك خير؟ فَقلت: قد عرفت أخلاقي وطبعي، فَإِن كنت عنْدك مِمَّن يصلح للخير، وَإِلَّا فَلَا تثق إِلَيّ. فَكَانَ فِي هَذَا التَّدْبِير، حَتَّى حدث أَمر القبط بِمصْر، فندب الْمَأْمُون أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاق؛ لمحاربتهم، فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ. فَخرج أَبُو إِسْحَاق إِلَى مصر، وَمَعَهُ الْفضل بن مَرْوَان، واستخلف صَالح بن شيرزاد بِحَضْرَة الْمَأْمُون، فِيمَا لَا يضرّهُ أَن يغلب عَلَيْهِ، وسله عَن المعتصم، وَجَعَلَنِي مَكَانَهُ، وشخصنا. فكسبت مَعَ المعتصم، فِي لَيْلَة وَاحِدَة، مائَة ألف دِينَار حَلَالا طيبا، وَذَلِكَ أَن الْقَتْل كثر فِي أهل مصر، وجلا الْبَاقُونَ، وأشرف الْبَلَد على الخراب.

وشق ذَلِك على الْمَأْمُون، وَأنْكرهُ على أبي إِسْحَاق إنكارا شَدِيدا، فَكَانَ فِيمَا رَآهُ تسكين النَّاس، وردهم إِلَى مصر. فوردت عَليّ فِي يَوْم وَاحِد، كتب جمَاعَة من رُؤَسَاء الْبَلَد، يسْأَلُون الْأمان لَهُم. فَقلت للفضل فِي ذَلِك. فَقَالَ: أجبهم إِلَى مَا التمسوا، وأجب كل من سَأَلَ مثل ذَلِك. فَكتبت فِي لَيْلَة، لمِائَة رجل، أَمَانًا، فظهروا، وَبعث إِلَيّ كل وَاحِد مِنْهُم، من ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، إِلَى ألف دِينَار، إِلَى خمس مائَة دِينَار، وَبَعْضهمْ لم يبْعَث إِلَيّ شَيْئا. فحصلت مَا اجْتمع لي، فَكَانَ مائَة ألف دِينَار، وأحييت مائَة إِنْسَان، وفرجت عَنْهُم، وَعَن أتباعهم، وَمن يلوذ بهم، وكشفت كربَة عَظِيمَة عَن أبي إِسْحَاق.

الفضل بن سهل ومسلم بن الوليد الأنصاري

الْفضل بن سهل وَمُسلم بن الْوَلِيد الْأنْصَارِيّ أَخْبرنِي أَبُو الْفرج، الْمَعْرُوف بـ: الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن نصر المهلبي، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد عبد الله بن سُلَيْمَان، عَن أبي الْخطاب الْأَزْدِيّ، قَالَ: كَانَ مُسلم بن الْوَلِيد، وَالْفضل بن سهل، متجاورين فِي قنطرة البردان، وَكَانَا صديقين. قَالَ مُسلم: فأعسرت إعسارا شَدِيدا، ولحقتني محنة، وَولي الْفضل بن سهل الوزارة، بمرو، فتحملت إِلَيْهِ على مشقة. فَلَمَّا رَآنِي رحب بِي وأدناني، وَقَالَ: أَلَسْت الْقَائِل: فَاجْرِ مَعَ الدَّهْر إِلَى غَايَة ... ترفع فِيهَا حالك الْحَال؟ فَقلت: نعم. قَالَ: صرنا إِلَى هَذِه الْحَال، وصرت بِنَا إِلَيْهَا، وَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم،

وولاني عملا اخترته. فَانْصَرَفت عني المحنة الَّتِي كنت أعانيها، وحصلت لي نعْمَة طائلة. قرئَ على أبي بكر الصولي، وَأَنا أسمع، فِي كِتَابه؛ كتاب (الوزراء) ، بِالْبَصْرَةِ، فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، حَدثكُمْ أَحْمد بن يزِيد المهلبي، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أبي سعد، فَذكر بِإِسْنَادِهِ نَحوه، إِلَّا أَنه ذكر فِي الشّعْر زِيَادَة أَرْبَعَة أَبْيَات، لَا تتَعَلَّق بكتابي هَذَا فأذكرها، وَذكر أَن الْفضل ولى مُسلما بريد جرجان.

كيف طهر عثمان بن حيان المري المدينة من الغناء

كَيفَ طهر عُثْمَان بن حَيَّان المري الْمَدِينَة من الْغناء أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي الحرمي بن أبي الْعَلَاء، قَالَ: حَدثنَا الزبير بن بكار، قَالَ: حَدثنِي عمي مُصعب، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة الحرامي الْأَكْبَر، قَالَ: لما قدم عُثْمَان بن حَيَّان المري الْمَدِينَة واليا عَلَيْهَا؛ قَالَ لَهُ قوم من وُجُوه النَّاس: قد وليت الْمَدِينَة على كَثْرَة من الْفساد، فَإِن كنت تُرِيدُ أَن تصلح، فطهرها من الْغناء والزناء.

فصاح فِي ذَلِك، وَأجل أَهله ثَلَاثًا، يخرجُون فِيهَا من الْمَدِينَة. وَكَانَ ابْن أبي عَتيق غَائِبا، وَكَانَ من أهل الْفضل والعفاف وَالصَّلَاح، فَلَمَّا كَانَ فِي آخر لَيْلَة من الْأَجَل؛ قدم. فَقَالَ: لَا أَدخل منزلي حَتَّى أَدخل على سَلامَة القس. فَقَالَ لَهَا، وَقد دخل عَلَيْهَا: مَا دخلت منزلي، حَتَّى جِئتُكُمْ أسلم عَلَيْكُم. قَالُوا: مَا أغفلك عَن أمورنا، فأخبروه الْخَبَر. فَقَالَ: اصْبِرُوا لي اللَّيْلَة. فَقَالُوا: نَخَاف أَن لَا يمكنك شَيْء، ونؤذى. فَقَالَ: إِن خِفْتُمْ شَيْئا؛ فاخرجوا فِي السحر. ثمَّ خرج، وَاسْتَأْذَنَ على عُثْمَان بن حَيَّان، فَأذن لَهُ، فَسلم عَلَيْهِ، وَذكر غيبته، وَأَنه جَاءَ ليقضي حَقه، ثمَّ جزاه خيرا على مَا فعل من إِخْرَاج أهل الْغناء والزناء. وَقَالَ: أَرْجُو أَن لَا تكون عملت عملا، هُوَ خير لَك من ذَلِك.

قَالَ عُثْمَان: قد فعلت مَا بلغك، وَأَشَارَ عَليّ بِهِ أَصْحَابك. قَالَ: قد وفقت، وَلَكِن مَا تَقول، يَرْحَمك الله، فِي امْرَأَة كَانَت هَذِه صناعتها، ثمَّ تركتهَا، وَأَقْبَلت على الصّيام وَالصَّدَََقَة وَالْخَيْر، وَإِنِّي رسولها إِلَيْك، تَقول: أتوجه إِلَيْك، وَأَعُوذ بك أَن تخرجني من جوَار رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن مَسْجده. فَقَالَ: إِنِّي أدعها لَك ولكلامك. فَقَالَ ابْن أبي عَتيق: لَا يدعك النَّاس، وَلَكِن تَأْتِيك، وَتسمع كَلَامهَا، وَتنظر إِلَيْهَا، فَإِن رَأَيْت أَن مثلهَا يسع أَن تتْرك، تركتهَا. قَالَ: نعم. فَجَاءَهُ بهَا، وَقَالَ لَهَا: احملي مَعَك سبْحَة، وتخشعي، فَفعلت. فَلَمَّا دخلت على عُثْمَان؛ حدثته، فَإِذا هِيَ من أعلم النَّاس بِأُمُور النَّاس، فأعجب بهَا، وحدثته عَن آبَائِهِ وأمورهم ففكه لذَلِك. فَقَالَ لَهَا ابْن أبي عَتيق: اقرئي للأمير، فَقَرَأت.

فَقَالَ لَهَا: احدي لَهُ، فَفعلت، فَكثر عجبه بهَا. فَقَالَ: كَيفَ لَو سَمعتهَا فِي صناعتها، فَلم يزل ينزله شَيْئا شَيْئا، حَتَّى أمرهَا بِالْغنَاءِ، فَقَالَ لَهَا ابْن أبي عَتيق، غَنِي: سددن خصاص الْبَيْت لما دخلنه ... بِكُل لبان وَاضح وجبين فغنته، فَقَامَ عُثْمَان بن حَيَّان، فَقعدَ بَين يَديهَا، ثمَّ قَالَ: لَا وَالله، مَا مثل هَذِه تخرج. فَقَالَ ابْن أبي عَتيق: لَا يدعك النَّاس، يَقُولُونَ: أقرّ سَلامَة، وَأخرج غَيرهَا. فَقَالَ: دعوهم جَمِيعًا، فتركوهم. وَأصْبح النَّاس يتحدثون بذلك، يَقُولُونَ: كلم ابْن أبي عَتيق الْأَمِير فِي سَلامَة القس، فتركوا جَمِيعًا.

أضاع كيسه واستعاده بعد سنة

أضاع كيسه واستعاده بعد سنة أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، الْكَاتِب اللّغَوِيّ، الْمَعْرُوف بـ: الْحَاتِمِي، قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، قَالَ: أخبرنَا ثَعْلَب، قَالَ: أخبرنَا عمر بن شبة، قَالَ: حَدثنِي سعيد بن عَامر، قَالَ: حَدثنَا هِشَام بن خَالِد الربعِي، قَالَ: دخلت الْمَسْجِد، وَمَعِي كيس فِيهِ ألف دِرْهَم، لَا أملك غَيره، فَوَضَعته على ركن سَارِيَة، وَصليت، ثمَّ ذهبت ونسيته. فكربني أمره، وفدحت حَالي لفقده، فَمَا حدثت بذلك أحدا سنة، وجهدني الضّر. قَالَ: فَصليت من بعد ذَلِك، إِلَى تِلْكَ السارية، ودعوت الله، وَسَأَلته رده عَليّ، وعجوز إِلَى جَانِبي تسمع قولي. فَقَالَت: يَا عبد الله، مَا الَّذِي أسمعك تذكر؟ قلت: كيسا أنسيته على هَذِه السارية عَام أول. قَالَت: هوذا عِنْدِي، وَأَنا مُنْذُ سنة أراقبك، فَجَاءَت بِهِ بِخَاتمِهِ.

عبد الله بن الزبير يطالب بني هاشم بالبيعة أو يضرب أعناقهم

عبد الله بن الزبير يُطَالب بني هَاشم بالبيعة أَو يضْرب أَعْنَاقهم أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، الْمَعْرُوف بـ: الْحَاتِمِي، قَالَ: أَخْبرنِي عِيسَى بن عبد الْعَزِيز الطاهري، قَالَ: أَخْبرنِي الدِّمَشْقِي، عَن الزبير بن بكار، قَالَ: جمع عبد الله بن الزبير بني هَاشم بِمَكَّة، وَقَالَ: لَا تمْضِي الْجُمُعَة حَتَّى تبايعوا، أَو آمُر بِضَرْب أَعْنَاقكُم. فَنَهَضَ إِلَيْهِم قبل الْجُمُعَة يُرِيد قَتلهمْ، فَنَاشَدَهُ الْمسور بن مخرمَة الزُّهْرِيّ، أَن يدعهم إِلَى الْوَقْت الَّذِي وَقت لَهُم، وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة، فَفعل. فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْجُمُعَة؛ دَعَا مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة، رَضِي الله عَنهُ، خَادِمًا لَهُ بغِسل وَثيَاب، وَهُوَ لَا يشك فِي الْقَتْل. وَقد كَانَ الْمُخْتَار بن أبي عبيد بعث أَبَا عبد الله وَأَصْحَابه إِلَيْهِم، فَجَاءَهُمْ الْخَبَر بِحَال مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة، وَمَا دفع إِلَيْهِ من ابْن الزبير، وَقد نزلُوا ذَات

عرق، فتخلل مِنْهُم سَبْعُونَ رجلا حَتَّى وافوا مَكَّة صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة، فشهروا السِّلَاح، وَنَادَوْا: يَا مُحَمَّد. فَبلغ الْخَبَر ابْن الزبير، فراعه، وتخلص مُحَمَّد، رَضِي الله عَنهُ، وَمن كَانَ مَعَه، وَأرْسل محمدٌ عليَّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَنَادَى فِي الْقَوْم الَّذين أنفذهم الْمُخْتَار: من كَانَ يرى لله، تَعَالَى، عَلَيْهِ حَقًا فليستأمر نَفسه، فَإِنَّهُ لَا حَاجَة لي بِأَمْر النَّاس لَهُ كَارِهُون، وَأَنا إِن أعطيتهَا عفوا قبلتها، وَإِن كَرهُوا ذَلِك لم أختره. فَبعث ابْن الزبير إِلَى مُحَمَّد: إِنِّي أصالحك على أَن تتنحى عني، فتلحق بأيلة، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك، وَلحق بأيلة. وكف الله، تَعَالَى، ابْن الزبير، وَقبض يَده عَمَّا حاوله من قَتله، وَقتل أهل بَيته.

عاقبة الظلم

عَاقِبَة الظُّلم وجدت فِي بعض الْكتب: حدث عَليّ بن الْمُعَلَّى، عَن الزُّهْرِيّ الْبَصْرِيّ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد أبي عبد الله جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، وَذكر حَدِيثا فِيهِ: أَن أَبَا عبد الله قَالَ: إِن قوم سدوم هَلَكُوا بمجوسي. قيل: مَا سَبَب ذَلِك؟ قَالَ: أما تعرفُون بِالْبَصْرَةِ عنْدكُمْ جِسْرًا، يُقَال لَهُ: جسر الْخشب؟ قُلْنَا: بلَى. قَالَ: ذَاك جسر سدوم، جَاءَهُ رجل مَجُوسِيّ، وَمَعَهُ زَوجته حَامِلا، راكبة حمارا، تُرِيدُ العبور، فمنعوها إِلَّا أَن يَأْخُذُوا خَمْسَة دَرَاهِم، فأبيا أَن يعطيا ذَلِك، فطلبوا مِنْهُمَا عشرَة دَرَاهِم، فأبيا أَن يعطيا ذَلِك فشمصوا الْحمار، وَقَطعُوا ذَنبه، فاضطربت الْمَرْأَة، فَأسْقطت جَنِينهَا، فاشتدت بالمجوسي محنته. وَقَالَ: إِلَى من نتظلم فِيمَا فعل بِنَا؟ فَقيل: إِلَى صَاحب هَذَا الْقصر. فَدخل إِلَيْهِ، وَقَالَ: فعل بِي كَيْت وَكَيْت. قَالَ: لَا بَأْس، ادْفَعْ إِلَيْهِم حِمَارك، يعملوا عَلَيْهِ إِلَى أَن ينْبت ذَنبه، وادفع إِلَيْهِم زَوجتك، حَتَّى يطئوها إِلَى أَن تحمل. فَرفع الْمَجُوسِيّ رَأسه إِلَى السَّمَاء، وَقَالَ: اللَّهُمَّ، إِن كَانَ هَذَا الحكم من عنْدك، وَأَنت بِهِ رَاض، فَأَنا بِهِ أرْضى وأرضى.

فَبعث الله إِلَيْهِ ملكا من الْمَلَائِكَة، فَأخذ بعضده، وعضد زَوجته، فَعبر بهما الجسر. فَقَالَ لَهُ: يَا عبد الله، من أَنْت؟ فَلَقَد مننت عَليّ. قَالَ: أَنا ملك من الْمَلَائِكَة، لما أَن قلت: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا حكم من عنْدك، وَأَنت بِهِ رَاض، فَأَنا أرْضى وأرضى؛ بَعَثَنِي الله لأخلصك، فالتفِتْ إِلَى الْقَوْم، وَانْظُر مَا أَصَابَهُم. فَالْتَفت الْمَجُوسِيّ، فَإِذا الْقَوْم قد خسف بهم.

دواء عجيب وضعه الطبيب للكاتب زنجي

دَوَاء عَجِيب وَضعه الطَّبِيب لِلْكَاتِبِ زنجي أَخْبرنِي عَليّ بن نصر بن فنن، الْكَاتِب النَّصْرَانِي: أَن أَبَا عبد الله زنجيا الْكَاتِب، سرق مِنْهُ مَال جليل، وَكَانَ شَدِيد الْبُخْل، فناله غم شَدِيد، حَتَّى أنحل جِسْمه، واجتهد فِي صرف الْهم وَالْغَم عَنهُ، فَلم يجد إِلَى ذَلِك سَبِيلا. فَشَاور الْأَطِبَّاء فِي ذَلِك، وَعمِلُوا لَهُ أَشْيَاء وصفوها لَهُ، فَمَا نجعت، إِلَى أَن اسْتَشَارَ عَليّ بن نصر، الطَّبِيب النَّصْرَانِي، جده، وَكَانَ يطب زنجيا وَيلْزمهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يصوغ إهليلجة من ذهب، ويمسكها فِي فِيهِ. فَفعل ذَلِك، فَلم تمض إِلَّا أَيَّام، حَتَّى زَالَ غمه، وَعَاد إِلَى صِحَة جِسْمه.

يا غياث المستغيثين أغثني

يَا غياث المستغيثين أَغِثْنِي وجدت فِي بعض الْكتب: حُكيَ أَن رجلا خرج فِي وَجه شتاء، فَابْتَاعَ بِأَرْبَع مائَة دِرْهَم، كَانَ لَا يملك غَيرهَا، فراخ الزرياب للتِّجَارَة. فَلَمَّا ورد دكانه بِبَغْدَاد؛ هبت ريح بَارِدَة، فأماتتها كلهَا إِلَّا فرخا وَاحِدًا، كَانَ أضعفها وأصغرها، فأيقن بالفقر. فَلم يزل يبتهل إِلَى الله، تَعَالَى، ليلته أجمع بِالدُّعَاءِ والاستغاثة، ويسأله الْفرج مِمَّا لحقه، وَكَانَ قَوْله: يَا غياث المستغيثين، أَغِثْنِي. فَلَمَّا انجلى الصُّبْح؛ زَالَ الْبرد، وَجعل ذَلِك الفرخ الْبَاقِي ينفش ريشه، وَيَقُول: يَا غياث المستغيثين، أَغِثْنِي. فَاجْتمع النَّاس على دكان الرجل، يرَوْنَ الفرخ، ويسمعون الصَّوْت. فاجتازت جَارِيَة راكبة، من جواري أم المقتدر، فَسمِعت صَوت الطَّائِر، ورأته، واستامته، وتقاعد الرجل، فاشترته بألفي دِرْهَم، وأعطته الدَّرَاهِم، وَأخذت الطَّائِر.

قصة سليمان الأنباري النصراني

قصَّة سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي النَّصْرَانِي وجدت فِي بعض الْكتب: كَانَ بسر من رأى، ثَلَاثَة إخْوَة نَصَارَى أنباريون، أحدهم مُوسر، وَلم يسم، وَالثَّانِي متجمل، يُقَال لَهُ: عون، وَالثَّالِث يُقَال لَهُ: سَلمَة، فَقير، فآل أَمر سَلمَة فِيمَا يكابده من شدَّة الْفقر، إِلَى أَن تعذر عَلَيْهِ قوت يَوْمه. فَمضى إِلَى أَخِيه عون، وَسَأَلَهُ أَن يتلطف إِلَى أَخِيه المسر، فِي أَن يشْغلهُ فِيمَا يعود عَلَيْهِ نَفعه، ويخدمه فِيهِ، بَدَلا من الْغَرِيب. فَامْتنعَ الْأَخ الْمُوسر من ذَلِك، وعاوده دفعات، واستعطفه، وضره يتزايد. فَقَالَ الْمُوسر، على سَبِيل الولع: إِن شَاءَ أَن أصيره مَكَان الشاكري، وصبر على الْعَدو، فعلت. فَعرض عون على سَلمَة ذَلِك، فَقَالَ سَلمَة: مَا عرض أخونا عَليّ هَذَا إِلَّا لأمتنع، ويجعله حجَّة، وَأَنا أستجيب إِلَيْهِ وأصبر، وأرجع إِلَى الله، تَعَالَى، فِي كشف الْحَال الَّتِي أكون فِيهَا مَعَه، وَأَرْجُو الْفرج ببغيه عَليّ، وَلَا أَضَع نَفسِي بِمَسْأَلَة النَّاس، فَفعل ذَلِك. فَكَانَ أَخُوهُ يركب، وَهُوَ يمشي فِي أَثَره بطليسان ونعل، حَتَّى لَا يظْهر أَنه غُلَامه، وَإِذا نزل فِي مَوضِع؛ لحقه، وَأخذ ركابه، وتسلم المركوب، وَحفظه إِلَى أَن يخرج.

فَلم يزل على هَذَا، إِلَى أَن طلب وصيف الْكَبِير، رَفِيق بغا، من يجلسه بِبَاب دَاره، فَيكْتب إِلَى المطبخ، من الْحَيَوَان والحوائج؛ ليقايس بِهِ مَا يحْتَسب عَلَيْهِ. فوصف عون أَخَاهُ سَلمَة لذَلِك، وَوجه إِلَيْهِ فَأحْضرهُ، فَامْتنعَ، وَذكر أَنه لَا دربة لَهُ بِهِ، وَلَا فِيهِ آلَة لَهُ. فضمن لَهُ عون معاونته، وإجمال الْحساب فِي كل عَشِيَّة، وَأجْرِي عَلَيْهِ رزق يسير. وَجلسَ بِالْبَابِ، وَصَارَ يَدْعُو بالحمالين، فَيثبت مَا يحضرونه، وَيرْفَع فِي كل يَوْم مدرجا بتفصيل ذَلِك. فَلَمَّا انْقَضى الشَّهْر جمع وصيف المدارج، وأحضر كَاتبا غَرِيبا، وَتقدم إِلَيْهِ أَن يؤرجها على أصنافها. وَعمل كِتَابه ديوانه عملا بِمَا رَفعه الوكلاء فِي ذَلِك الشَّهْر، فظهرت فِيهِ زِيَادَة عَظِيمَة، فحطت وتوفر مَالهَا. وَحسن موقع ذَلِك من وصيف، وأحضر سَلمَة، وَمَا كَانَ رَآهُ قبل ذَلِك، وَصرف المتصرفين فِي المطبخ بِهِ، وأسنى جائزته. فتوفر على يَده فِي الشَّهْر الثَّانِي، مِمَّا كَانَ حط من الأسعار، مَا حسن موقعه.

فَرد إِلَيْهِ قهرمة دَاره، فتتابعت التوفيرات، واتصلت جوائزه إِيَّاه، وزيادته فِي جاريه. وطالت مُدَّة خدمته لوصيف، وَغلب على حَاله، وَاتفقَ لَهُ خلْوَة المتَوَكل، وَحُضُور وصيف. فَقَالَ لوصيف: قد كثر وَلَدي، وَأُرِيد لَهُم شَيخا، عفيفا، ثِقَة، لَيْسَ فِيهِ بِأَو، وَلَا مخرقة؛ لأفرد لَهُم على يَده إقطاعات أجعلها لَهُم، فلست أحب أَن أَوسط كتابي أمره. فَوَقع فِي نفس وصيف، أَن يصف سَلمَة، وبخل بِهِ، فَلم يزل يتَرَدَّد ذَلِك فِي قلبه. ثمَّ قَالَ: اعْلَم، يَا مولَايَ، أَن الله قد رَزَقَنِي هَذِه الصّفة الَّتِي تريدها مني، وَالرجل عِنْدِي، فَإِذا فَكرت فِي حقوقك، وَأَن نعمتي مِنْك؛ لم أستحسن أَن أكتمك، وَإِذا فَكرت فِيمَا أفقده مِنْهُ؛ توقفت، والآن، فقد أنطقني إقبالك بِذكرِهِ، وَهُوَ سَلمَة بن سعيد النَّصْرَانِي. فَقَالَ: أحضرنيه السَّاعَة. فَأحْضرهُ فِي الْوَقْت، فحين عاينه المتَوَكل وَقع فِي نَفسه صِحَة مَا وَصفه، فَوَقع لكل ابْن بإقطاع ثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم، وَلكُل ابْنة بِمِائَة وَخمسين ألف دِرْهَم، وَقيل: إِن المتَوَكل مَاتَ عَن خمسين ابْنا، وَخمْس وَخمسين ابْنة، وَدفع إِلَيْهِ التوقيع.

وَقَالَ لَهُ: نجز هَذَا، واختر من الضّيَاع مَا ترى، وانصب لَهَا ديوانا، وَوَصله، وَجعل لَهُ منزلَة كَبِيرَة، بِكِتَابَة الْوَلَد. فَلَمَّا فرغ من ذَلِك، وَقَامَ بِهِ؛ جرى أَمر آخر، أوجب أَن رد إِلَيْهِ أَيْضا أَمر سَائِر الْحرم، وَجعل لَهُ قبض جراياتهن وأرزاقهن، وإنفاق ذَلِك عَلَيْهِنَّ، وَصرف وكلاءهن وأسبابهن عَنْهُن، وزادت مَنْزِلَته بذلك لِكَثْرَة الْحرم. فَبَيْنَمَا سَلمَة يتَرَدَّد فِي دَار المتَوَكل، إِلَى مقاصير الْوَلَد وَالْحرم، وَقعت عين المتَوَكل عَلَيْهِ، فاستدعاه. وَقَالَ لَهُ: يَا سَلمَة، مَا أَكثر مَا يذهب على الْمُلُوك، حفظت بك وَلَدي وحرمي، وأضعت نَفسِي، وَلَيْسَ لي مِنْك عوض، قد رددت إِلَيْك بَيت المَال، وخزائن الْفرش، وَالْكِسْوَة، وَالطّيب، وَسَائِر أَمر الدَّار، فتسلم ذَلِك، واستخلف عَلَيْهِ من تثق بِهِ. وَكَانَ قد أنكر عَلَيْهِ فِي بعض خدمته شَيْئا، فَأمر باعتقاله، ففرشت لَهُ حجرَة، وَترك خلفاؤه يعْملُونَ. ثمَّ ذكره فِي اللَّيْل، وَهُوَ يشرب، فَقَالَ لخادم: امْضِ إِلَى الْحُجْرَة الَّتِي فِيهَا سَلمَة، فَاطلع عَلَيْهِ، وعرفني الصُّورَة الَّتِي تَجدهُ عَلَيْهَا. فعاود وَذكر أَنه وجده يسود، ثمَّ أَعَادَهُ بعد وَقت آخر، فَوَجَدَهُ على ذَلِك، وَأَعَادَهُ الثَّالِثَة، فَكَانَت الصُّورَة وَاحِدَة. فَاسْتَحْضرهُ، وَقَالَ: أَنْت شيخ كَبِير، تسود ليجود خطك فِي الْآخِرَة، أَو لتصل بِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَكثر مِمَّا وصلت إِلَيْهِ؟ قَالَ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، وَلَكِنَّك لما اعتقلتني، وأقررت أَصْحَابِي؛

وثقت بِحسن رَأْيك، فَلم أقطع التأهب لخدمتك، لِأَنِّي أكاتبك كثيرا، فِيمَا أستأمرك بِهِ، فَأَنا أحب أَن لَا تقع عَيْنك على مَا تستقبحه من الْخط. فَحسن موقع هَذَا القَوْل من المتَوَكل، وَأمر بإحضار حقة، فِيهَا خَاتم الْخَاصَّة، فَدفعهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا خَاتمِي، وَقد رددت إِلَيْك ختم مَا كنت أختمه بيَدي، من غير أَن تستأمرني فِيهِ؛ ليعلم الْخَاص وَالْعَام أَنِّي رفعت مِنْك، وزدت فِي محلك، وَلَا يخلقك عِنْدهم الاعتقال. ثمَّ رَآهُ المتَوَكل بعد ذَلِك، وَفِي وَقت من الْأَوْقَات، مَاشِيا فِي الدَّار، فَقَالَ: سَلمَة شيخ كَبِير، هوذا يهرم ويتلف بِهَذَا الْمَشْي؛ لِأَنَّهُ يُرِيد أَن يطوف فِي كل يَوْم على الْحرم وَالْولد، وَقد رَأَيْت أَن أجريه مجْرى نَفسِي، فِي إِطْلَاق الرّكُوب لَهُ فِي دَاري. وَكَانَ المتَوَكل يركب حمارا يتخطى بِهِ فِي الممرات، ويركب سَلمَة حمارا، وَلم يكن فِي الدَّار من يركب غَيرهمَا.

ابن الطبري الكاتب النصراني تجلب له التوفيق رفسة حصان

ابْن الطَّبَرِيّ الْكَاتِب النَّصْرَانِي تجلب لَهُ التَّوْفِيق رفسة حصان وجدت فِي بعض الْكتب: أَن عبد الله، الْمَعْرُوف بـ: ابْن الطَّبَرِيّ النَّصْرَانِي الْكَاتِب، قدم سر من رأى يلْتَمس التَّصَرُّف، فَلَزِمَ الدَّوَاوِين مُدَّة، إِلَى أَن نفدت نَفَقَته، وانقطعت حيلته، وَلم يبْق إِلَّا مَا عَلَيْهِ من كسوته، فَعدم الْقُوت ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها، وَهُوَ صابر خوفًا من أَن يَبِيع مَا عَلَيْهِ، فيتعطل عَن الْحَرَكَة، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الرَّابِع عمل على بيع مَا عَلَيْهِ ليَأْكُل بِبَعْضِه، وليشتري بِالْبَعْضِ الآخر تاسومة، ومرقعة، وركوة، وَيخرج فِي زِيّ فيج إِلَى بلد آخر؛ لِأَنَّهُ بَقِي ثَلَاثَة أَيَّام لم يَأْكُل شَيْئا. ثمَّ شرهت نَفسه إِلَى الرُّجُوع إِلَى الدِّيوَان، مؤملا فرجا يَسْتَغْنِي بِهِ عَن هَذَا، من تصرف، أَو غَيره. فَمشى يُرِيد الدِّيوَان، وَهُوَ مغموم مفكر، إِذْ سمع صَوت حافر من وَرَائه، وَقوم يصيحون: الطَّرِيق، الطَّرِيق. فلشدة مَا بِهِ، غفل عَن التنحي عَن الطَّرِيق، فكبسه شَهْري كَانَ رَاكِبه

الْمُؤَيد بِاللَّه بن المتَوَكل على الله، وَهُوَ إِذْ ذَاك أحد أَوْلِيَاء العهود، فداسه، وَسقط على وَجهه. فصعب ذَلِك على الْمُؤَيد، وَلم يكن يعرفهُ، فَاغْتَمَّ أَن يجْرِي مِنْهُ على إِنْسَان مثل ذَلِك، فَأمر أَن يحمل إِلَى دَاره، فَفعل ذَلِك، وأفردت لَهُ حجرَة، وَمن يَخْدمه، وعولج بالدواء، وَالطَّعَام، وَالشرَاب، وَالطّيب، والفرش، حَتَّى برِئ بعد أَيَّام، فأنفذ إِلَيْهِ ألفي دِرْهَم، وَسَأَلَهُ إحلاله مِمَّا جرى عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَا أقبلها، أَو تقع عَيْني على الْمُؤَيد، فأشافهه بِالدُّعَاءِ. فأوصل إِلَيْهِ، فشكره، ودعا لَهُ، وقص عَلَيْهِ قصَّته، وَسَأَلَهُ استخدامه. فخف على قلبه الْمُؤَيد، واستكتبه، وَأمر أَن يصرف فِي دَاره، وَفِي دَار والدته إِسْحَاق، جَارِيَة المتَوَكل، فتصرف فِيهَا مُدَّة، وصلحت حَاله. وَكَانَ الْمُوفق، أَخُو الْمُؤَيد من أمه، قد رأى ابْن الطَّبَرِيّ، فاجتذبه إِلَى خدمته، ونفق عَلَيْهِ، وانْتهى أمره مَعَه إِلَى أَن جعل إِلَيْهِ تربية المعتضد، وأكسبه الْأَمْوَال الجليلة.

أبو بكر محمد بن طغج ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصر

أَبُو بكر مُحَمَّد بن طغج ينْتَقل من ضعف الْحَال إِلَى ملك مصر وجدت فِي بعض الْكتب: حدث أَبُو الطّيب بن الْجُنَيْد، الَّذِي كَانَ صاحبا لأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن يحيى بن زَكَرِيَّا بن شيرزاد، وَكَانَ قبل ذَلِك جارا لِأَبِيهِ أبي الْقَاسِم، قَالَ: كَانَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن طغج بن جف ينزل قَدِيما بِالْقربِ من مَنَازلنَا بِبَغْدَاد، يقصر فرج، وَكَانَ رَقِيق الْحَال، ضَعِيفا جدا. وَكَانَ لَهُ على بَاب دويرته، دكان يجلس عَلَيْهَا دَائِما، ودابته مشدودة

إِلَى جَانبهَا، وَهُوَ يراعيها بالعلف وَالْمَاء بِنَفسِهِ. وَكَانَ لَهُ رزق سلطاني يسير، يتَأَخَّر عَنهُ أبدا، فَلَا يقبضهُ إِلَّا فِي الْأَحَايِين. وَكَانَ شَدِيد الاختلال، ظَاهر الْفقر، وَكَانَ لَهُ عدَّة بَنَات لَا ذكر فِيهِنَّ. وَكَانَ يجتاز بِهِ أَبُو الْقَاسِم يحيى بن زَكَرِيَّا بن شيرزاد، أَو أحد ابنيه، أَبُو الْحسن، وَأَبُو جَعْفَر، فَيقوم قَائِما، وَيظْهر التَّعَبُّد لَهما، وَلَا يزَال وَاقِفًا إِلَى أَن يبعدا عَنهُ. وَكنت رُبمَا جَلَست إِلَيْهِ، فيأنس بِي ويحدثني، ويشكو بثه، وَمَا يقاسيه من كَثْرَة العائلة، وضيق الْحَال. وَيَقُول: لَيْت كَانَ لي، فِيمَا رزقته من الْوَلَد، ذكر وَاحِد، فَكنت أتعزى بِهِ قَلِيلا، ويخف بالرجاء لَهُ، وَالسُّرُور بِهِ، بعض كربي وهمي بهؤلاء الْبَنَات. قَالَ أَبُو الطّيب: وَضرب الدَّهْر من ضربه، وتقلب من تقلبه، وَطَالَ الْعَهْد بِابْن طغج، وَخرج فِي جملَة تَجْرِيد جرد إِلَى الشَّام، وأنسيناه، وترجمت بِهِ الظنون، وترامت بِهِ الْأَحْوَال، حَتَّى بلغ أَن يُقَلّد مصر وأعمالها، وَكَانَ من علو شَأْنه، وارتفاع ملكه، وَحُصُول الْأَمر لَهُ، ولولده من بعده، مَا كَانَ، مِمَّا هُوَ مَشْهُور. وَكَانَ قد طَرَأَ إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَة أحد التُّجَّار الواسعي الْأَحْوَال، من جوارنا، مِمَّن كَانَ يعرف ابْن طغج على تِلْكَ الْأَحْوَال الأول، فَلَمَّا كَانَ بعد سِنِين،

عَاد الرجل إِلَى الحضرة، فحدثنا بِعظم أَمر ابْن طغج، واتساع ملكه. وَقَالَ: رَأَيْته غير الرجل الَّذِي كُنَّا نعرفه، مكانة، ورجاحة، وَحين رَآنِي قربني وأكرمني، وَمَا زَالَ مُسْتَبْشِرًا بِي، يحادثني وأحادثه، ويسألني عَن وَاحِد وَاحِد، من بني شيرزاد، وَغَيرهم من الْجِيرَان، وَأَنا أخبرهُ. حَتَّى قَالَ فِي بعض قَوْله: الْحَمد لله الَّذِي بِيَدِهِ الْأُمُور، مَا شَاءَ فعل، يَا فلَان، أَلَسْت ذَاكِرًا مَا كنت فِيهِ بِبَغْدَاد، من تِلْكَ الْأَحْوَال الخسيسة، وَمَا كنت أُلَاقِي من الشدَّة، والفقر، والفاقة، وَالْغَرَض بالعيش، والهم بأولئك الْبَنَات؟ قلت: نعم، يَا سَيِّدي. قَالَ: وَالله لقد كنت أَتَمَنَّى وأسأل الله أَن يَرْزُقنِي ابْنا، فَكلما اجتهدت فِي ذَلِك جَاءَتْنِي ابْنة، حَتَّى تكاملن فِي بَيْتِي عشرا. وَكنت أَتَمَنَّى مُنْذُ سنّ الحداثة أَن أرزق دَابَّة أبلق، واستشعر أَنِّي إِذا ركبت ذَلِك؛ فقد حصلت لي كل فَائِدَة ونعمة؛ لشدَّة شهوتي لَهَا، فَمَا سهل الله لي مَا طلبته من هَذَا الْبَاب أَيْضا شَيْئا. وتكهلت، وعلت سني، وَأَنا على تِلْكَ الْأَحْوَال. وَضرب الدَّهْر ضربه، وَخرجت من بَغْدَاد، فابتدأ الإقبال يَأْتِي، والإدبار ينْصَرف. وَكَانَ الله، تَعَالَى، يَرْزُقنِي فِي كل سنة ابْنا، وَيقبض عني ابْنة، حَتَّى مَاتَ الْبَنَات كُلهنَّ، وَنَشَأ لي هَؤُلَاءِ البنون، وَأَوْمَأَ إِلَى أَحْدَاث بَين يَدَيْهِ كَأَنَّهُمْ الطواويس حسنا وجمالا.

ثمَّ قَالَ: وملكت من الْخَيل الْعتاق والبراذين وَالْبِغَال وَالْحمير البلق، مَا لم يملك أحد مثله، وَلَا اجْتمع لأحد مَا يُقَارِبه، وَأكْثر من أَن يُحْصى، وَصَارَ لغلمان غلماني الكراع الْكثير، فَقُمْ بِنَا حَتَّى ندخل الإصطبلات، فتشاهدها، وتعجب. فَأخذ بيَدي، ومشينا حَتَّى دَخَلنَا إِلَى إصطبل البلق، فَمَا أَشك، أَنا عددنا من صنوف الدَّوَابّ البلق أَكثر من خمس مائَة رَأس، ثمَّ ضجرنا، وَمَا زلنا نجتاز فِي الإصطبل سنة سنة. فَيَقُول: هَذَا إصطبل الفلانيات، وَهُوَ يسْأَل صَاحب كراعه، كم فِي هَذَا؟ فَيَقُول: فِي هَذَا خمس مائَة، وَفِي هَذَا أَربع مائَة، وَنَحْو ذَلِك.

ثمَّ عدنا إِلَى الْمجْلس، وَقد أبهجني مَا رَأَيْت، وَهُوَ يحمد الله على تفضله وإحسانه، ولازمته، وَمَا فَارَقت دَاره حَتَّى قضيت حوائجي، ونفعني، وَأحسن إِلَيّ، وَمَا قصر، وعدت إِلَى الشَّام مكرما.

غريب الدار ليس له صديق

غَرِيب الدَّار لَيْسَ لَهُ صديق ذكر عَن رجل كَانَ بِالْبَصْرَةِ، أَنه كَانَ ذَا يسَار، وتغيرت حَاله، فَخرج عَن الْبَصْرَة، ثمَّ عَاد إِلَيْهَا وَقد أثرى، فَجعل يحدث بألوان لقيها إِلَى أَن قَالَ: تَغَيَّرت حَالي، إِلَى أَن دخلت بَغْدَاد، غَرِيبا، سليبا، لَا أهتدي إِلَى مَذْهَب وَلَا حِيلَة. قَالَ: فَجعلت أسأَل: أَيْن السُّوق؟ أَيْن الطَّرِيق؟ إِلَى أَن ضجرت، فَقلت وَأَنا مكروب: غَرِيب الدَّار لَيْسَ لَهُ صديق ... جَمِيع سُؤَاله أَيْن الطَّرِيق؟ تعلق بالسؤال بِكُل صقع ... كَمَا يتَعَلَّق الرجل الغريق وَجعلت أردد ذَلِك وأمشي، وَإِذا بِرَجُل مشرف من منظر، فَقَالَ لي: ترفق يَا غَرِيب فَكل عبد ... تطيف بِحَالهِ سَعَة وضيق وكل مُصِيبَة تَأتي ستمضي ... وَإِن الصَّبْر مسلكه وثيق فخف مَا بِي، وَرفعت رَأْسِي إِلَيْهِ، وَسَأَلته عَن خَبره. فَقَالَ: اصْعَدْ إِلَيّ أحَدثك، فَصَعدت إِلَيْهِ. فَقَالَ: وَردت هَذَا الْبَلَد، وَأَنا غَرِيب، فتحيرت، وَالله، كتحيرك،

إِلَى أَن مَرَرْت بِهَذِهِ الغرفة، فَأَشْرَف عَليّ رجل كَانَ فِيهَا، لَا أعرفهُ، فَقَالَ لي: اصْعَدْ. فَصَعدت، فأسكننيها، ثمَّ تقلبت بِي الْأَحْوَال، فابتعت الدَّار، وأثريت، وَأَنا أتبرك بهَا، وأجلس فِيهَا كثيرا، فلعلها أَن تكون مباركة عَلَيْك أَيْضا، فَإِن لي فِيمَا سواهَا من الدّور، مسَاكِن تجذبني. فَفعلت، وَأَقْبَلت أحوالي، واحتجت إِلَى الاتساع، فانتقلت عَنْهَا.

عبد الله بن مالك الخزاعي يتسلم كتابا من الرشيد يخبره بمقتل جعفر البرمكي

عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ يتسلم كتابا من الرشيد يُخبرهُ بمقتل جَعْفَر الْبَرْمَكِي وجدت فِي بعض الْكتب: أَن البرامكة قصدت عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ بالعداوة، وَكَانَ الرشيد حسن الرَّأْي فِيهِ، فَكَانُوا يغزونه بِهِ، حَتَّى قَالُوا لَهُ: لَا بُد من نَكْتُبهُ. فَقَالَ: مَا كنت لأَفْعَل هَذَا، وَلَكِن أبعده عَنْكُم. فَقَالُوا: ينفى. فَقَالَ: لَا، وَلَكِن أوليه ولَايَة دون قدره، وَأخرجه إِلَيْهَا. فرضوا بذلك، فَكَتَبُوا لَهُ على حران والرها فَقَط، وأمروه بِالْخرُوجِ عَن الْخَلِيفَة. قَالَ عبد الله: فودعتهم وَاحِدًا وَاحِدًا، حَتَّى صرت إِلَى جَعْفَر لأودعه. فَقَالَ لي: مَا على الأَرْض عَرَبِيّ أنبل مِنْك، يَا أَبَا الْعَبَّاس، يغْضب عَلَيْك الخليقة، فيوليك حران والرها.

فَقلت: فَمَا ذَنبي حَتَّى غضب عَليّ، وَأي شَيْء جرى مني حَتَّى أوجب الَّذِي أَن يفعل بِي هَذَا؟ قَالَ: جزؤاك أَن يضْرب وسطك، وتصلب نصفا فِي جَانب، وَنصفا فِي جَانب. فَقلت: الْعجب مني حَيْثُ صرت إِلَيْك، ونهضت، وَخرجت. وَقطعت طريقي بالهم، وَالْغَم، مِمَّا دفعت إِلَيْهِ، وَأَنِّي لَا آمنهم، مَعَ غيبتي، على السّعَايَة عَليّ. فَبَيْنَمَا أَنا فِي عَشِيَّة يَوْم، على بَاب الدَّار الَّتِي نزلتها، جَالِسا على كرْسِي، إِذْ أقبل إِلَيّ مولى لي، فَقَالَ لي سرا: قد قتل جَعْفَر بن يحيى الْبَرْمَكِي. فتوهمت أَنه هُوَ أمره بذلك ليجد عَليّ حجَّة ينكبني بهَا، فبطحته، وضربته ثَلَاث مائَة مقرعة، وحبسته، وَبت بليلة طَوِيلَة على السَّطْح فِي دَاري. فَلَمَّا كَانَ فِي السحر، إِذا صَوت حلق الْبَرِيد، فارتعت، وَنزلت عَن السَّطْح. وَقلت فِي نَفسِي: إِن هجم عَليّ صَاحب الْبَرِيد فَهِيَ بلية، وَإِن ترجل لي فَفرج. فَلَمَّا بصر بِي صَاحب الْبَرِيد ترجل لي، فطابت نَفسِي، وَدفع إِلَيّ كتابا من الرشيد، يُخْبِرنِي فِيهِ بقتْله جَعْفَر، وَقَبضه على البرامكة، ويأمرني بالشخوص إِلَى حَضرته. فشخصت، فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ؛ عاملني من الْإِكْرَام والإنعام بِمَا زَاد على أمنيتي.

وَخرجت فَأتيت الجسر، فَوجدت جعفرا، قد ضرب وَسطه، وصلب نصفه فِي جَانب، وَنصفه فِي الْجَانِب الآخر.

نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب برغم ما بينهما من عداوة

نجاح بن سَلمَة ينصح سُلَيْمَان بن وهب برغم مَا بَينهمَا من عَدَاوَة حُكيَ أَن الواثق سخط على سُلَيْمَان بن وهب، فَرده إِلَى مُحَمَّد بن أبي إِسْحَاق، وَأمره أَن يَأْخُذ خطه بِثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم، يُؤَدِّيهَا بعد خَمْسَة عشر يَوْمًا، فَإِن أذعن لذَلِك، وَإِلَّا ضربه خمس مائَة سَوط. فطالبه مُحَمَّد بكتب الْخط، فَامْتنعَ، فَدَعَا لَهُ بالسياط، وجرد لضربه. وَدخل نجاح بن سَلمَة، فَلَمَّا رَآهُ سُلَيْمَان أَيقَن بِالْمَوْتِ، واستغاث بِهِ سُلَيْمَان. فَقَالَ نجاح لمُحَمد: خله، وأخلني وإياه، فَفعل. فَقَالَ نجاح لِسُلَيْمَان: أتعلم أَن فِي الدُّنْيَا أحدا أعدى لَك مني؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فهوذا أحامي عَنْك الْيَوْم لأجل الصِّنَاعَة، أَيّمَا أحب إِلَيْك وآثر

فِي نَفسك؛ أَن تَمُوت السَّاعَة بِلَا شكّ، أَو يكون ذَلِك إِلَى خَمْسَة عشر يَوْمًا، قد يفرج الله فِيهَا عَنْك؟ قَالَ: بلَى أكون إِلَى خَمْسَة عشر يَوْمًا بَين الْأَمريْنِ. قَالَ: فَاكْتُبْ خطك بِمَا طولبت بِهِ. فَكتب خطه. قَالَ سُلَيْمَان: فَمَا مَضَت سِتَّة أَيَّام، حَتَّى مَاتَ الْخَلِيفَة، وَبَطل ذَلِك المَال. وَصَارَ نجاح بن سَلمَة بمشورته تِلْكَ على سُلَيْمَان، أحب إِلَيْهِ من أَخِيه وَولده، وزالت الْعَدَاوَة من بَينهمَا. قَالَ مؤلف الْكتاب: هَذَا الْخَبَر عِنْدِي أَنه مُضْطَرب؛ لِأَشْيَاء كَثِيرَة، وَلَكِنِّي كتبته، كَمَا وجدته، وَقد مضى فِيمَا تقدم من هَذَا الْكتاب خبر نكبة الواثق لِسُلَيْمَان بن وهب، بِمَا هُوَ أصح من هَذِه الْحِكَايَة.

المعتمد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه ثم يعفو عنه

الْمُعْتَمد يَأْمر بِقطع يَد غُلَام من غلمانه ثمَّ يعْفُو عَنهُ بَلغنِي أَن أَبَا مُحَمَّد بن حمدون، قَالَ: اشْتهى الْمُعْتَمد أَن يتَّخذ لَهُ فرش ديباج، بستوره وَجَمِيع آلاته، على صُورَة صورها، وألوان اقترحها. فَعمل ذَلِك بتنيس، وَحمل إِلَيْهِ، فسر بِهِ غَايَة السرُور، وَتقدم، فنجد، ونضد، وَنصب، وأحضرني والندماء، وَهُوَ يَأْكُل فِيهِ، فَمَا منا إِلَّا من وَصفه وَاسْتَحْسنهُ، ثمَّ قَامَ لينام وينتبه، فيشرب فِيهِ، وصرفنا. فَمَا شعرنَا إِلَّا وَقد امْتَلَأت الدَّار ضجة وصياحا، ودعا بِنَا، فوجدناه يزأر كالأسد. وَإِذا نصف ستر من تِلْكَ الستور قد قطع، وَهُوَ يَقُول: لَيْسَ بِي قِطْعَة، وَلَا قِيمَته؛ لِأَنَّهُ يمكنني أَن أسْتَعْمل مَكَانَهُ، وَإِنَّمَا بِي أَنه نغص عَليّ السرُور بِهِ أول يَوْم، واجترأ عَليّ بِمثل هَذَا الْفِعْل، وأصعب من هَذَا أَنه

قطعه وَأَنا أرَاهُ، وغاص الَّذِي قطعه عَن عَيْني فَلم أثْبته. ثمَّ دَعَا بنحرير الْخَادِم وَحلف لَهُ بأيمان مُغَلّظَة، أَنه إِن لم يبْحَث إِلَى أَن يحضر الْجَانِي، ليضربن عُنُقه، وَجلسَ على حَاله مغضبا. وَمضى نحرير، فَمَا أبعد حَتَّى أحضر صَبيا من الفراشين، كَأَنَّهُ الْبَدْر حسنا، وَقطعَة الديباج مَعَه، وَقد أقرّ بقطعها، وَاعْتذر، وبذل التَّوْبَة، وَهُوَ يبكي، وَيسْأل الْإِقَالَة. فَلم يسمع الْمُعْتَمد مِنْهُ ذَلِك، وَأمر نحرير أَن يُخرجهُ، فَيقطع يَده، فَأخْرج، وَمَا منا إِلَّا من آلمه قلبه عَلَيْهِ؛ لملاحة وَجهه، وَصغر سنه، وَلَيْسَ منا من يَجْسُر على مَسْأَلَة الْمُعْتَمد فِيهِ، وَنحن قيام سكُوت. حَتَّى صرخَ الْمُعْتَمد على الله من يَده صراخا عَظِيما وتأوه، وَقَالَ: قد دخل شَيْء فِي أُصْبُعِي السَّاعَة، وَزَاد الْأَلَم عَلَيْهِ، وَجِيء بِمن رَآهَا، فأحضر منقاشا، فأخرجت من إصبعه شظية من قصب كالشعرة، فَمَا نَدْرِي مِم يتعجب، من صغرها؟ أَو من دُخُولهَا فِي لَحْمه مَعَ ضعفها؟ أَو من شدَّة إيلامها إِيَّاه، وَمن كَونهَا فَوق الديباج سَاعَة طرح ونفض؟ فَلَمَّا استراح؛ قَالَ: يَا قوم، إِن كَانَ هَذَا الْقدر الْيَسِير قد آلمني هَذَا الْأَلَم الْكثير، فَمَا حَال هَذَا الصَّبِي الَّذِي أمرنَا بِقطع يَده؟ قُلْنَا: أَسْوَأ حَال وأشدها، فَيجب أَن تجْعَل الْعَفو عَنهُ شكرا لما كفيته. فَقَالَ: ابْعَثُوا إِلَى نحرير من يلْحقهُ، فَإِن كَانَ لم يقطعهُ؛ منع من قطعه. فتسابق الغلمان، فلحقوه، وَالزَّيْت يغلي، وَقد مدت يَده لتقطع، فخلوه، وَسلم.

مروءة عدي بن الرقاع العاملي

مُرُوءَة عدي بن الرّقاع العاملي أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن جرير، عَن مُحَمَّد بن سَلام، قَالَ: عزل الْوَلِيد بن عبد الْملك عُبَيْدَة بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن الْأُرْدُن، وضربه، وحلقه، وأقامه للنَّاس. وَقَالَ للموكلين بِهِ: من أَتَاهُ متوجعا، وَأثْنى عَلَيْهِ؛ فأتوني بِهِ. فَأَتَاهُ عدي الرّقاع العاملي، وَكَانَ عُبَيْدَة محسنا إِلَيْهِ، فَوقف عَلَيْهِ، وَأَنْشَأَ يَقُول: وَمَا عزلوك مَسْبُوقا وَلَكِن ... إِلَى الغايات سباقا جوادا وَكنت أخي وَمَا وَلدتك أُمِّي ... وصُولا باذلا لَا مستزادا

فقد هيضت بنكبتك القدامى ... كَذَاك الله يفعل مَا أَرَادَا فَوَثَبَ الموكلون بِهِ، فأدخلوه إِلَى الْوَلِيد، وَأَخْبرُوهُ بِمَا جرى. فتغيظ عَلَيْهِ الْوَلِيد، وَقَالَ لَهُ: أتمدح رجلا قد فعلت بِهِ مَا فعلت؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه كَانَ إِلَيّ محسنا، ولي مؤثرا، فَفِي أَي وَقت كنت أكافئه بعد هَذَا الْيَوْم؟ قَالَ: صدقت، وكرمت، وَقد عَفَوْت عَنْك وَعنهُ لَك، فَخذه وَانْصَرف. فَانْصَرف بِهِ إِلَى منزله.

غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية؟

غُدَّة كَغُدَّة الْبَعِير وَمَوْت فِي بَيت سَلُولِيَّة؟ 3: 135 52 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي غَسَّانَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَأَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ، عَمُّ أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي ظَمْيَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَوَلَةَ، قَالَتْ: كَانَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَارِسَ قَيْسٍ، وَكَانَ عَمِيقًا، وَكَانَ أَعْوَرَ. وَكَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ رُمِيَ مِنْهُ، وَمِنْ أَرْبَدَ، أَخِي لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ، بِمَا أَهَمَّهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ؛

وَذَلِكَ أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ، فَلَقِيَهُمَا، فَوَسَّدَ عَامِرًا وِسَادَةً، وَقَالَ: §«أَسْلِمْ، يَا عَامِرُ» . قَالَ: عَلَى أَنْ تَجْعَلَ لِي الْوَبَرَ، وَلَكَ الْمَدَرَ؟ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَعَلَى أَنْ تَجْعَلَنِي الْخَلِيفَةَ بَعْدَكَ، إِنْ أَنَا أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: «لَا» . قَالَ: فَمَا الَّذِي تَجْعَلُ لِي؟ قَالَ: «أَعِنَّةَ الْخَيْلِ، تُقَاتِلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ: أَوَلَيْسَتْ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ بِيَدِي الْيَوْمَ؟ وَوَلَّى عَامِرٌ مُغْضَبًا، وَهُوَ يَقُولُ: لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلا جُرْدًا، وَرِجَالا مُرْدًا، وَلأَرْبِطَنَّ عَلَى كُلِّ نَخْلَةٍ فَرَسًا. وَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَهُ وَأَكْفِيكَهُ، وَإِمَّا أَنْ أَقْتُلَهُ وَاكْفِنِيهِ. قَالَ أَرْبَدُ: اكْفِنِيهِ، وَأَنَا أَقْتُلُهُ. فَانْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَامِرٌ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: «اقْتَرِبْ» . فَاقْتَرَبَ حَتَّى حَنَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَلَّ أَرْبَدُ سَيْفَهُ، وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ بَرِيقَهُ، فَتَعَوَّذَ مِنْهُ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، تَعَالَى، فَأَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَيَبِسَتْ يَدُهُ عَلَى السَّيْفِ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا رَأَى عَامِرٌ أَرْبَدَ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا؛ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ لأَرْبَدَ: مَا مَنَعَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: إِنِّي لَمَّا سَلَلْتُ بَعْضَ سَيْفِي؛ يَبِسَتْ يَدِي، فَوَاللَّهِ مَا قَدَرْتُ عَلَى سَلِّهِ.

قَالَ ابْنُ سَلامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أَرَدْتُ سَلَّ سَيْفِي؛ نَظَرْتُ فَإِذَا فَحْلٌ مِنَ الإِبِلِ قَطِمٌ، فَاغِرٌ فَاهُ، بَيْنَ يَدَيْهِ، يَهْوِي إِلَيَّ، فَوَاللَّهِ، لَوْ سَلَلْتُهُ لَخِفْتُ أَنْ يَبْتَلِعَ رَأْسِي. ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ، أَرِحْنِي مِنْهُمَا، وَاكْفِنِيهِمَا» . فَأَمَّا أَرْبَدُ؛ فَأَرْسَلَ اللَّهُ، تَعَالَى، عَلَيْهِ صَاعِقَةً، فَأَحْرَقَتْهُ. وَأَمَّا عَامِرٌ؛ فَطُعِنَ فِي عُنُقِهِ، فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْجَمَلِ، فَلَجَأَ إِلَى بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ سَلُولَ. فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمَوْتُ؛ جَعَلَ يَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ! ثُمَّ مَاتَ. وَفِي أَرْبَدَ نَزَلَ قَوْلُهُ، تَعَالَى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرَّعْد: 13] وَفِي أَرْبَد يَقُول لبيد أَخُوهُ

: أخْشَى على أَرْبَد الحتوف وَلَا ... أرهب نوء السَّمَاء والأسل أفجعني الرَّعْد وَالصَّوَاعِق ... بالفارس يَوْم الكريهة النجل.

خرج ليغير فوقع على زيد الخيل

خرج ليغير فَوَقع على زيد الْخَيل أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الله بن أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا ابْن دُرَيْد، بِإِسْنَاد ذكره عَن هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي شيخ من بني شَيبَان، قَالَ: أَصَابَت بني شَيبَان سنة ذهبت بالأموال، فَخرج رجل مِنْهُم بعياله حَتَّى أنزلهم الْحيرَة. وَقَالَ لَهُم: كونُوا قَرِيبا من الْملك يُصِيبكُم من خَيره، إِلَى أَن أرجع إِلَيْكُم. وَخرج على وَجهه لما قد حل بِهِ، يؤمل أَن يكْسب مَا يعود بِهِ على عِيَاله، وَقد جهده الْفقر، وَبلغ بِهِ الطوى. فَحدث، قَالَ: مشيت يَوْمًا وَلَيْلَة، بِحَيْثُ لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أتوجه، غير أَنِّي أجوب فِي الْبِلَاد. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد عشَاء، إِذا بِمهْر مُقَيّد حول خباء، فَقلت: هَذَا أول الْغَنِيمَة. فحللته، فَلم أذهب إِلَّا قَلِيلا، حَتَّى نوديت: خل عَن الْمهْر، وَإِلَّا اختلجت مهجتك. قَالَ: فَنزلت عَنهُ، وَتركته، ومضيت وَقد تحيرت فِي أَمْرِي، واغتممت غما شَدِيدا. فسرت سَبْعَة أَيَّام، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى مَوضِع عطن أباعر، مَعَ تطفيل الشَّمْس، فَإِذا خباء عَظِيم، وقبة من أَدَم.

فَقلت: مَا لهَذَا الخباء بُد من أهل، وَمَا لهَذِهِ الْقبَّة بُد من رب، وَمَا لهَذَا العطن بُد من إبل. فَنَظَرت فِي الخباء فَإِذا شيخ قد اخْتلفت ترقوتاه، وَكَأَنَّهُ نسر. قَالَ: فَجَلَست خَلفه، فَلَمَّا وَجَبت الشَّمْس، إِذا أَنا بِفَارِس قد أقبل، لم أر قطّ فَارِسًا أجمل مِنْهُ، وَلَا أجسم، على فرس عَظِيم، وَمَعَهُ أسودان يمشيان إِلَى جَنْبَيْهِ، وَإِذا مائَة من الْإِبِل مَعَ فَحلهَا، فبرك الْفَحْل، وبركن حوله. وَنزل الْفَارِس، وَقَالَ لأحد عبديه: احلب فُلَانَة، ثمَّ اسْقِ الشَّيْخ. قَالَ: فَحلبَ فِي عس حَتَّى ملأَهُ، ثمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضعه بَين يَدي الشَّيْخ، وَتَنَحَّى. فكرع مِنْهُ مرّة، أَو مرَّتَيْنِ، ثمَّ نزع، فثرت، فَشَربته. فَرجع العَبْد، فَأخذ العطس، فَقَالَ: يَا مولَايَ، قد أَتَى على آخِره. قَالَ: ففرح بذلك، وَقَالَ: احلب فُلَانَة، فحلبها، ثمَّ جَاءَ بالعس، فَوَضعه بَين يَدي الشَّيْخ. فكرع مِنْهُ كرعة وَاحِدَة، ثمَّ نزع فثرت إِلَيْهِ، فَشَرِبت نصفه، وكرهت أَن أتهم، إِن أتيت على آخِره. ثمَّ جَاءَ العَبْد، وَأخذ الْعس، وَقَالَ: يَا مولَايَ، قد شرب. قَالَ: دَعه، ثمَّ أَمر بِشَاة، فذبحت، وشوى للشَّيْخ مِنْهَا، وَأكل هُوَ وعبداه. فأمهلت حَتَّى نَامُوا، وَسمعت الغطيط، فثرت إِلَى الْفَحْل، فحللت عقاله،

ثمَّ ركبته، فَانْدفع بِي، واتبعته الْإِبِل، فسللتها لَيْلَتي كلهَا حَتَّى أَصبَحت. فَلَمَّا أَسْفر الصُّبْح، نظرت فَلم أر أحدا، فسللتها سلا عنيفا، حَتَّى تَعَالَى النَّهَار، فالتفتّ التفاتة، فَإِذا بِشَيْء كَأَنَّهُ طَائِر، فَمَا زَالَ يدنو حَتَّى تبينته، فَإِذا هُوَ فَارس على فرس، وَإِذا هُوَ صَاحِبي البارحة. فعقلت الْفَحْل، ونثلت كِنَانَتِي، ووقفت بَينه وَبَين الْإِبِل. فَدَنَا مني، وَقَالَ: حل عقاله. فَقلت: كلا، وَالله، لقد أضرّ بِي الْجهد، وخلفت نسيات، وصبية بِالْحيرَةِ، وآليت أَن لَا أرجع إلَيْهِنَّ إِلَّا بعد أَن أفيدهن خيرا، أَو أَمُوت. قَالَ: فَإنَّك ميت، حل عقاله. قلت: هُوَ ذَاك. قَالَ: إِنَّك لمغرور، أنصب لي خطامه، وَفِي خطامه خمس عجر، فنصبته. قَالَ: أَيْن تُرِيدُ أَن أَضَع سهمي؟ قلت: فِي هَذَا الْموضع. قَالَ: فَكَأَنَّمَا وَضعه بِيَدِهِ، حَتَّى والى بَين خَمْسَة أسْهم. قَالَ: فرددن نبلي، ودنا هُوَ، فَأخذ الْقوس وَالسيف. وَقَالَ: ارتدف خَلْفي، فَفعلت. فَقَالَ لي: وَقد عرف أَنِّي أَنا الَّذِي شربت اللَّبن عِنْد الشَّيْخ: مَا ظَنك بِي؟ قلت: أحسن الظَّن، مَعَ مَا لقِيت مني من تَعب ليلتك، وَقد أظفرك الله بِي.

فَقَالَ: أَتَرَى كُنَّا يلحقك منا سوء، وَقد بت تنادم مهلهلا ليلتك. قلت: زيد الْخَيل أَنْت؟ قَالَ: نعم، أَنا زيد الْخَيل. قلت: كن خير آخذ. قَالَ: لَيْسَ عَلَيْك بَأْس. فَمضى إِلَى مَوْضِعه الَّذِي كَانَ بِهِ، ثمَّ قَالَ: أما لَو كَانَت هَذِه الْإِبِل لي لسلمتها إِلَيْك، وَلكنهَا لابنَة مهلهل، فأقم عِنْدِي، فَإِنِّي على شرف غَارة. فأقمت أَيَّامًا، ثمَّ أغار على بني نمير بالملح، فَأصَاب مائَة بعير. فَقَالَ: هَذِه أحب إِلَيْك، أم تِلْكَ؟ فَقلت: هَذِه، فَأَعْطَانِيهَا. قَالَ: فَقلت: ابْعَثْ معي خفراء، فَفعل. وعدت إِلَى وطني، وَفرج الله بكرمه عني، وَأصْلح حَالي.

منع الله سوارا من الطعام والشراب وجاء به حتى أقعده بين يديك

منع الله سوارا من الطَّعَام وَالشرَاب وَجَاء بِهِ حَتَّى أقعده بَين يَديك ذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن أبي العشير، عَن إِسْحَاق بن يحيى بن معَاذ، وَقَالَ: حَدثنِي سوار، صَاحب رحبة سوار، قَالَ: انصرفت من دَار الْمهْدي، فَلَمَّا دخلت منزلي؛ دَعَوْت بالغداء، فحاشت نَفسِي، فَأمرت بِهِ فَرد. ثمَّ دَعَوْت بالنرد، ودعوت جَارِيَة لي ألاعبها، فَلم تطب نَفسِي بذلك، وَدخلت القائلة، فَلم يأخذني النّوم. فَنَهَضت، وَأمرت ببغلة لي شهباء، فأسرجت، فركبتها، فَلَمَّا خرجت استقبلني وَكيل لي وَمَعَهُ ألفا دِرْهَم. فَقلت لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: ألفا دِرْهَم، جبيتها من مستغلك الْجَدِيد. قَالَ: قلت: أمْسكهَا مَعَك، واتبعني. قَالَ: ومضيت، وخليت رَأس البغلة، حَتَّى عبرت الجسر، ثمَّ مَضَت بِي فِي شَارِع دَار الرَّقِيق، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الصَّحرَاء، ثمَّ رجعت إِلَى

بَاب الأنبار، فطوفت، فَلَمَّا صرت فِي شَارِع بَاب الأنبار؛ انْتَهَيْت إِلَى بَاب دَار لطيف، عِنْده شَجَرَة، وعَلى الْبَاب خَادِم، فوقفت، وَقد عطشت. فَقلت للخادم: أعندك مَا تسقينيه؟ قَالَ: نعم، فَأخْرج قلَّة نظيفة طيبَة الرّيح، عَلَيْهَا منديل، فناولنيها، فَشَرِبت. وَحضر وَقت الْعَصْر، فَدخلت مَسْجِدا، فَصليت فِيهِ، فَلَمَّا قضيت صَلَاتي، إِذا أَنا بأعمى يتلمس. قلت: مَا تُرِيدُ يَا هَذَا؟ قَالَ: إياك أُرِيد. قلت: وَمَا حَاجَتك؟ فجَاء، حَتَّى قعد إِلَيّ، فَقَالَ: شممت مِنْك رَائِحَة الطّيب، فتخيلت أَنَّك من أهل النِّعْمَة، فَأَرَدْت أَن ألقِي إِلَيْك شَيْئا.

فَقلت: قل. قَالَ: أَتَرَى هَذَا الْقصر؟ قلت: نعم. قَالَ: هَذَا قصر كَانَ لأبي، فَبَاعَهُ، وَخرج إِلَى خُرَاسَان، وَخرجت مَعَه، فَزَالَتْ عَنَّا النِّعْمَة الَّتِي كُنَّا فِيهَا، فَأتيت صَاحب الدَّار؛ لأسأله شَيْئا يصلني بِهِ، فَإِنِّي فِي ضنك شَدِيد، وضغطة عَظِيمَة، ورزوح حَال قَبِيح، وأصير إِلَى سوار، فَإِنَّهُ كَانَ صديقا لأبي. قلت: وَمن أَبوك؟ قَالَ: فلَان بن فلَان، فَإِذا أصدق النَّاس، كَانَ، لي. فَقلت: يَا هَذَا، إِن الله قد أَتَاك بِسوار، مَنعه الطَّعَام وَالشرَاب وَالنَّوْم، حَتَّى جَاءَ بِهِ فأقعده بَين يَديك. ثمَّ دَعَوْت الْوَكِيل، وَأخذت مِنْهُ الألفي دِرْهَم، فدفعتها إِلَيْهِ، وَقلت لَهُ: إِذا كَانَ غَدا، فصر إِلَيّ، إِلَى الْمنزل. ثمَّ مضيت، فَقلت: مَا أحدث الْمهْدي بِشَيْء أطرف من هَذَا، فَأَتَيْته، فاستأذنت عَلَيْهِ، فَأذن لي، فَحَدَّثته بِالْحَدِيثِ، فأعجب بِهِ، وَأمر لي بألفي دِينَار، فأحضرت. فَقَالَ لي: ادفعها إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَهَضت، فَقَالَ لي: اجْلِسْ، أعليك دين؟ قلت: نعم. قَالَ: كم مبلغه؟ قلت: خَمْسُونَ ألف دِينَار. فَقَالَ: تحمل إِلَيْك، فَاقْض بهَا دينك، فقبضتها. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد؛ أَبْطَأَ عَليّ المكفوف، وأتاني رَسُول الْمهْدي، يدعوني، فَجِئْته.

فَقَالَ: فَكرت فِي أَمرك، فَقلت: يقْضِي دينه، ثمَّ يحْتَاج إِلَى الْحِيلَة وَالْقَرْض، وَقد أمرت لَك بِخَمْسِينَ ألف دِينَار أُخْرَى. قَالَ: فقبضتها، وانصرفت. فَجَاءَنِي المكفوف، فَدفعت إِلَيْهِ الألفي دِينَار، وَقلت لَهُ: قد رزق الله خيرا كثيرا، وأعطيته من مَالِي ألفي دِينَار أُخْرَى، فَقبض أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، ودعا لي، وَقَالَ: وَالله، مَا ظَنَنْت أَنِّي أصل مِنْك، وَلَا من أحد من أهل هَذِه الْبِلَاد، إِلَى عشر هَذَا المَال، فجزاك الله خيرا.

عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك

عُرْوَة بن أذينة يفد على هِشَام بن عبد الْملك أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ، عَن يحيى بن عُرْوَة بن أذينة، قَالَ: أضاق أبي إضاقة شَدِيدَة، وتعذرت عَلَيْهِ الْأُمُور، فَعمل شعرًا امتدح بِهِ هِشَام بن عبد الْملك. وَدخل عَلَيْهِ فِي جملَة الشُّعَرَاء، فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ؛ نسبهم، فعرفهم جَمِيعًا، وَقَالَ لأبي: أَنْشدني قَوْلك: لقد علمت. . . .، فأنشده:

لقد علمت وَمَا الإشراف من خلقي ... أَن الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوف يأتيني أسعى لَهُ فيعنّيني تطلبه ... وَلَو جَلَست أَتَانِي لَا يعنّيني وَأي حَظّ امْرِئ لَا بُد يبلغهُ ... يَوْمًا وَلَا بُد أَن يحتازه دوني لَا خير فِي طمع يهدي إِلَى طبع ... وعلقة من قَلِيل الْعَيْش تكفيني لَا أركب الْأَمر تزري بِي عواقبه ... وَلَا يعاب بِهِ عرضي وَلَا ديني أقوم بِالْأَمر إِمَّا كَانَ من أربي ... وَأكْثر الصمت فِيمَا لَيْسَ يعنيني كم من فَقير غَنِي النَّفس تعرفه ... وَمن غَنِي فَقير النَّفس مِسْكين وَكم عَدو رماني لَو قصدت لَهُ ... لم يَأْخُذ الْبَعْض مني حِين يرميني وَكم أَخ لي طوى كشحا فَقلت لَهُ ... إِن انطواءك عني سَوف يطويني لَا أَبْتَغِي وصل من يَبْغِي مفارقتي ... وَلَا أَلين لمن لَا يَبْتَغِي ليني فَقَالَ هِشَام: أَلا جَلَست فِي بَيْتك، حَتَّى يَأْتِيك رزقك؟ قَالَ: وغفل عَنهُ هِشَام، فَخرج من وقته، وَركب رَاحِلَته، وَمضى منصرفا. فافتقده هِشَام، فَسَأَلَ عَنهُ، فَعرف خَبره، فَأتبعهُ بجائزة.

فَمضى الرَّسُول، فَلحقه على ثَلَاثَة فراسخ، وَقد نزل على مَاء يتغدى عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ: أردْت أَن تكذبنا، وَتصدق نَفسك؟ هَذِه جائزتك. فَقَالَ: قل لَهُ: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بِحَمْدِهِ. قَالَ يحيى: وَفرض لَهُ فريضتين، كنت فِي إِحْدَاهمَا.

أبو أيوب المورياني يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهم

أَبُو أَيُّوب المورياني يُجِيز ابْن شبْرمَة بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم قرئَ على أبي بكر الصولي، وَأَنا أسمع، فِي الْمَسْجِد الْجَامِع بِالْبَصْرَةِ، حَدثكُمْ الْغلابِي، قَالَ: حَدثنَا عمر بن شبة، قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن ميثم، وَقد كَانَ جَازَ الْمِائَة سنة، قَالَ: سَمِعت ابْن شبْرمَة، يَقُول: زوجت ابْني على ألفي دِرْهَم، وَمَا هِيَ عِنْدِي، فطولبت بهَا، فصرت إِلَى أبي أَيُّوب المورياني، فَقلت لَهُ: إِنِّي اخْتَرْتُك لحاجتي، وعرفته خبري، فَأمر لي بألفي دِرْهَم، فشكرته وَقمت. فَقَالَ: اجْلِسْ، أَلا تُرِيدُ خَادِمًا؟ قَالَ: فَقلت: إِن رزق الله. قَالَ: وَهَذِه أَلفَانِ لخادمك، أَلا تُرِيدُ نَفَقَة؟ أَلا تُرِيدُ كَذَا؟ ، وَجعل يعدد ويعطيني. حَتَّى قُمْت على خمسين ألف دِرْهَم، وصلني بهَا. ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، فِي كِتَابه، هَذَا الْخَبَر، بِلَا إِسْنَاد، على قريب من هَذَا.

الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه

الواثق يطرد أَحْمد بن الخصيب من حَضرته ثمَّ يعْفُو عَنهُ حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن رَجَاء بن أبي الضَّحَّاك الْكَاتِب، وَكَانَ يعرف بـ: الديناري؛ لما بَين أَبِيه الْحسن بن رَجَاء، وَبَين دِينَار بن عبد الله، من الْقَرَابَة، فَإِنَّهُمَا كَانَ ابْني خَالَة، على مَا أَخْبرنِي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بن سعيد الديناري الْكَاتِب، جد أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مقلد لأمه، قَالَ: لما تخلص أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن وهب من نكبة الْمُعْتَمد، وَكنت أكتب لَهُ، وَجلسَ فِي منزله؛ أَمرنِي أَن أكتب إِلَى الْعمَّال الَّذين ضيَاعه فِي أَعْمَالهم، كتبا أعرفهم فِيهَا رُجُوع الْخَلِيفَة لَهُ، وتبينه بَاطِل مَا أنهِي إِلَيْهِ، وَحمل بِهِ عَلَيْهِ،

وأخاطبهم عَنهُ فِي أَمر ضيَاعه وأسبابه. فَكتبت نُسْخَة، قلت فِيهَا: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ، أعزه الله، لما وقف على تمويه من موه عَلَيْهِ فِي أمرنَا؛ فعل وصنع. فَلَمَّا وقف على هَذَا الْفَصْل؛ خطّ على هَذَا الْحَرْف، وأبدله بِغَيْرِهِ، وَلم يُغير فِي النُّسْخَة سواهُ. وَقَالَ لي: إِذا فرغت من تَحْرِير الْكتب، فأذكرني بالتمويه، أحَدثك بِمَا كرهته لَهُ. قَالَ: فحررت الْكتب، فَلَمَّا خلا؛ سَأَلته: لم ضرب على التمويه؟ فَقَالَ: نعم لما غضب عَليّ الواثق، وعَلى أَحْمد بن الخصيب؛ بِسَبَب إيتاخ، وأشناس، كَانَت موجدته علينا بِسَبَب وَاحِد، وحبسه لنا فِي معنى وَاحِد، فَمَكثْنَا فِي الْحَبْس والقيد، إِلَى أَن كلم فِينَا، فَأمر بإحضارنا. فَقلت لِأَحْمَد بن الخصيب: قد دَعَانَا، وأظن أَنه سيوبخنا، ويعدد علينا مَا قرفنا بِهِ عِنْده؛ ليخرج مَا فِي نَفسه، فيعظم منته علينا، بِمَا يَأْتِيهِ من إطلاقنا، وَأعرف عجلتك، وتسرعك إِلَى مَا يَضرك، وَكَأَنِّي بك حِين يَبْتَدِئ

بتقريعنا، قد قطعت كَلَامه، وأنحيت عَلَيْهِ بلسانك ويديك، فأنشأت لنا اسْتِئْنَاف غضب وموجدة، وأكسبتنا شرا مِمَّا قد أملنا الْخَلَاص مِنْهُ. فَقَالَ لي: فَمَا أعمل؟ قلت: لست أحسبك تتهمني على نَفسِي وَلَا عَلَيْك، وَلَا تشك أننا حبسنا لقضية وَاحِدَة، فولني جَوَابه، وأعرني سكوتك، وَدعنِي أرْفق بِهِ، وأخدعه بِمَا تخدع بِهِ الْمُلُوك، فَلَعَلَّنَا نتخلص من الْمَكْرُوه الَّذِي نَحن فِيهِ. قَالَ: افْعَل. فاستحلفته على ذَلِك، فَحلف لي. فَلَمَّا دَخَلنَا الصحن؛ وجدنَا الْخَلِيفَة يستاك، وَبَين يَدَيْهِ طست ذهب، وإبريق ذهب، بيد فرَاش قَائِم، وبيد الْخَلِيفَة مسواك طوله ذراعان. فَلَمَّا رآنا، قَالَ: أَحْسَنت إلَيْكُمَا واصطنعتكما، فخنتماني، وكفرتما نعمتي، وفعلتما، وصنعتما. فَكَأَنِّي، وَالله، إِنَّمَا أوصيت أَحْمد بن الخصيب، أَلا يَدعه ينْطق. فَقَالَ لَهُ، وَقد رفع يَدَيْهِ فِي وَجهه: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا بلغك عَنَّا الْحق، وَلَا فعلنَا شَيْئا مِمَّا سعي بِنَا، وَلَقَد موه عَلَيْك فِي أمرنَا. فَقَالَ: إِنَّمَا يموه على غبي مثلك، فأومأت إِلَيْهِ بعيني، فَأمْسك بعض الْإِمْسَاك. وَعَاد الواثق يتمم كَلَامه، ويعد علينا نعمه ومننه، فَمَا ملك أَحْمد نَفسه، أَن رفع يَده، وَقَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا كفرنا نِعْمَتك، وَلَا فعلنَا، وَلَا صنعنَا، إِنَّمَا موه على أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أمرنَا.

فَقَالَ: يَا جَاهِل، قد عدت لَهَا، إِنَّمَا يجوز التمويه على أَحمَق مثلك، وأومأت إِلَيْهِ بعيني، فَأمْسك. وَعَاد الواثق فِي كَلَامه، فَمَا انضبط أَحْمد أَن رد قَوْله، وَجَاء بالتمويه. فحين سَمعهَا الواثق، انقلبت عَيناهُ فِي أم رَأسه، واستشاط غَضبا، وَأَغْلظ لَهُ فِي الشتم، وحذفه بالمسواك، فلولا أَنه زاغ عَنهُ؛ لهشم وَجهه، وأعمى عينه. ثمَّ قَالَ: يَا غلْمَان، أَخْرجُوهُ إِلَى لعنة الله، فَأخْرج أخزى خلق الله. ونالني من الْجزع وَالْغَم والحيرة فِي أمره أَمر عَظِيم، وَلم أدر أَقف، أم أمضي، وَخفت إِن وقفت أَن يَقُول: مَا وقوفك بَين يَدي، وقضيتكما وَاحِدَة؟ وَإِن مضيت أَن نرد جَمِيعًا إِلَى الْحَبْس، فَرَجَعت أتقهقر عَن موضعي قَلِيلا، كَأَنِّي أُرِيد الْخُرُوج. فَقَالَ لي: مَكَانك أَنْت يَا سُلَيْمَان، هَب هَذَا على مَا هُوَ عَلَيْهِ، أَنْت أَيْضا، تنكر أَنَّك فعلت كَذَا، وصنعت كَذَا! فَوجدت السَّيْل إِلَى مَا أردْت، فَلم أزل أعترف، وألزم نَفسِي الْجِنَايَة، وأديم الخضوع والاستعطاف، وأسأل الصفح وَالْإِقَالَة، إِلَى أَن قَالَ: قد عَفَوْت عَنْك، فَقبلت الأَرْض، وبكيت. فَقَالَ: اخلعوا عَلَيْهِ، واصرفوه إِلَى منزله، وليلزم الدَّار على عَادَته ورسمه. فَلَمَّا وليت؛ قَالَ: وَذَلِكَ الْكَلْب، قد كنت أردْت الْعَفو عَنهُ، فَأَخْرجنِي عَن حلمي سوء أدبه، فاخلعوا عَلَيْهِ أَيْضا. فَخرجت، وَإِذا بِأَحْمَد فِي بعض الممرات، فعرفته الْخَبَر، ثمَّ قلت لَهُ: يَا هَذَا، كدت أَن تَأتي علينا، أَرَأَيْت أحدا يُكَرر على الْخَلِيفَة لَفْظَة قد كرها، وأنكرها، ثَلَاث مَرَّات؟ أوما علمت أَن التمويه فِي الْحَقِيقَة ضرب من السخرية؟ قَالَ: فَلم يخرج من قلبِي فزع التمويه، من ذَلِك الْوَقْت، إِلَى الْآن.

غضب الرشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه معن بن زائدة وضربه مائة سوط

غضب الرشيد على مَرْوَان بن أبي حَفْصَة لمدحه معن بن زَائِدَة وضربه مائَة سَوط حَدثنِي عبد الله بن عمر بن الْحَارِث الوَاسِطِيّ السراج المكفوف، الْمَعْرُوف بـ: أبي أَحْمد الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدثنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أخي الْأَصْمَعِي، عَن عَمه، قَالَ: بعث إِلَيّ الرشيد فِي وَقت لم تكن عَادَته أَن يستدعيني فِي مثله، وَجَاءَنِي الرَّسُول بِوَجْه مُنكر، فأحضرني إحضارا عنيفا مُنْكرا مستعجلا، فوجلت وجلا شَدِيدا، وَخفت، وَجَزِعت. فَدخلت، فَإِذا الرشيد على بِسَاط عَظِيم، وَإِلَى جَانِبه كرْسِي خيزران، عَلَيْهِ جوَيْرِية خماسية، فَسلمت، فَلم يرد عَليّ، وَلَا رفع رَأسه إِلَيّ، وَجعل ينكت الأَرْض بإصبعه. فَقلت: سعي بِي عِنْده بباطل، يهلكني قبل كشفه، وأيست من الْحَيَاة. فَرفع رَأسه، وَقَالَ: يَا أصمعي، أَلا ترى الدعي ابْن الدعي، الْيَهُودِيّ، عبد بني حنيفَة، مَرْوَان بن أبي حَفْصَة، يَقُول لِمَعْنٍ بن زَائِدَة، وَإِنَّمَا هُوَ عبد من عبيدنا:

أَقَمْنَا بِالْيَمَامَةِ بعد معن ... مقَاما لَا نُرِيد بِهِ زيالا وَقُلْنَا أَيْن نَذْهَب بعد معن ... وَقد ذهب النوال فَلَا نوالا؟ وَكَانَ النَّاس كلهم لِمَعْنٍ ... إِلَى أَن زار حفرته عيالا فَقَالَ: إِن النوال قد ذهب، مَعَ بقائنا، فَمَا يصنع بِنَا إِذن؟ وَلم يرض حَتَّى جعلني وخاصتي عيالا لِمَعْنٍ، وَالله، لَأَفْعَلَنَّ بِهِ ولأصنعن. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، عبد من عبيدك، أَنْت أولى بأدبه، أَو الْعَفو عَنهُ. فَقَالَ: عَليّ بِمَرْوَان، فَدخل عَلَيْهِ. فَقَالَ: السِّيَاط، فَأخذ الخدم يضربونه بهَا، وَهُوَ يَصِيح: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا ذَنبي؟ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، استبقني، إِلَى أَن ضرب أَكثر من مائَة سَوط. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، اعْفُ عني، وَاذْكُر قولي فِيك، وَفِي آبَائِك. فَقَالَ: يَا غُلَام، كف عَنهُ، ثمَّ قَالَ: مَا قلت، يَا كلب؟ فأنشده قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا: هَل تطمسون من السَّمَاء نجومها ... بأكفكم أم تسترون هلالها؟

أم تدفعون مقَالَة عَن ربه؟ ... جِبْرِيل بلغَهَا النَّبِي فَقَالَهَا شهِدت من الْأَنْفَال آخر آيَة ... بتراثهم فأردتمُ إِبْطَالهَا فدعوا الْأسود خوادرا فِي غيلها ... لَا تولغن دماءكم أشبالها قَالَ: فَأمر بِإِطْلَاقِهِ، وَأَن يدْفع إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم. فَلَمَّا خرج؛ قَالَ: يَا أصمعي، تَدْرِي من هَذِه الصبية؟ قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: هَذِه مؤنسة بنت أَمِير الْمُؤمنِينَ، فدعوت لَهُ وَلها، وتأملته، فَإِذا هُوَ شَارِب ثمل. قَالَ: قُم فَقبل رَأسهَا. فَقلت: أفلتّ من وَاحِدَة، وَدفعت إِلَى أُخْرَى أَشد مِنْهَا، إِن أطعته أَدْرَكته الْغيرَة فقتلني، وَإِن عصيته قتلني بمعصيتي لَهُ، فَلَمَّا أحب الله، عز وَجل، من تَأْخِير أَجلي، ألهمني أَن وضعت كمي على رَأسهَا، وَقبلت كمي. فَقَالَ: وَالله يَا أصمعي، لَو أخطأتها لقتلتك، أَعْطوهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَالْحق بدارك. فَخرجت وَأَنا مَا أصدق بالسلامة، فَكيف بالحباء والكرامة.

أمدح بيت قالته العرب

أمدح بَيت قالته الْعَرَب قَالَ الْمفضل بن مُحَمَّد الضَّبِّيّ: أَصبَحت يَوْمًا بِبَغْدَاد، فِي خلَافَة الْمهْدي، وَأَنا من أَشد النَّاس إضاقة وضرا، لَا أَدْرِي مَا أعمل، حيرة وفكرا. فَخرجت فَجَلَست على بَاب منزلي بالصراة، أفكر فِيمَا أصنع، فَإِذا أَنا برَسُول الْمهْدي، قد وقف عَليّ. فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ، فراعني، وساء ظَنِّي. فَقلت: أَدخل، فألبس ثِيَابِي. فَقَالَ: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل. فَاشْتَدَّ جزعي، وخشيت أَن يأخذني بِمَا كَانَ بيني وَبَين إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، رَضِي الله عَنْهُم. فاستدعيت ثِيَابِي، وجددت وضُوءًا على الْبَاب، وَلم أخبر أَهلِي بقصتي،

وَلَا بِمَا هجم من الْغم عَليّ. وَقلت: إِن كَانَ خيرا، أَو شرا، فسيبلغهم، فَمَا معنى تَعْجِيل الْهم لَهُم؟ ومضيت مَعَ الرَّسُول، حَتَّى دخلت على الْمهْدي، وَأَنا فِي نِهَايَة الْجزع، فَسلمت، فَرد عَليّ السَّلَام. فَقلت فِي نَفسِي: لَيْسَ إِلَّا خيرا. فَقَالَ: لَهُ اجْلِسْ يَا مفضل، فَجَلَست. فَقَالَ: أَخْبرنِي عَن أمدح بَيت قالته الْعَرَب. فتبلدت سَاعَة، لَا أذكر شَيْئا، ثمَّ أجْرى الله على لساني، أَن قلت: قَول الخنساء. فأشرق وَجهه، وَقَالَ: حَيْثُ تَقول مَاذَا؟ فَقلت: حَيْثُ تَقول: وَإِن صخرا لوالينا وَسَيِّدنَا ... وَإِن صخرا إِذا نشتو لنحّار وَإِن صخرا لتأتم الهداة بِهِ ... كَأَنَّهُ علم فِي رَأسه نَار فَاسْتَبْشَرَ بِهِ، وَقَالَ: قد أخْبرت هَؤُلَاءِ بِهَذَا، وَأَوْمَأَ إِلَى جمَاعَة بَين يَدَيْهِ، فَلم يقبلُوا مني. قلت: كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَحَق بِالصَّوَابِ مِنْهُم. قَالَ: يَا مفضل، حَدثنِي الْآن. قلت: أَي الْأَحَادِيث؟

قَالَ: أَحَادِيث الْأَعْرَاب. فَلم أزل أحدثه، بِأَحْسَن مَا أحفظ مِنْهَا، إِلَى أَن كَاد الْمُنَادِي بِالظّهْرِ أَن يُنَادي. ثمَّ قَالَ لي: كَيفَ حالك، يَا مفضل؟ قلت: مَا يكون حَال رجل عَلَيْهِ عشرُون ألف دِرْهَم دينا حَالا، وَلَيْسَ فِي رزقه فضل لقضائها، وقصصت عَلَيْهِ قصَّة حَالي ويومي فِي الْإِضَافَة. فَقَالَ: يَا عمر بن بزيع، ادْفَعْ إِلَيْهِ السَّاعَة عشْرين ألف دِرْهَم يقْضِي بهَا دينه، وَعشْرين ألف دِرْهَم يصلح بهَا حَاله، وَعشْرين ألف دِرْهَم يُجهز بهَا بَنَاته، ويوسع بهَا على عِيَاله. ثمَّ قَالَ: يَا مفضل، مَا أحس مَا قَالَ ابْن مطير، فِي مثل حالك: وَقد تغدر الدُّنْيَا فيضحى غنيها ... فَقِيرا ويغنى بعد بؤس فقيرها وَكم قد رَأينَا من تكدر عيشة ... وَأُخْرَى صفا بعد اكدرار غديرها فَأخذت المَال، وانصرفت إِلَى بَيْتِي بستين ألف دِرْهَم، بعد الْإِيَاس، وتوطين النَّفس على ضرب الرَّقَبَة.

بين الأصمعي والبقال الذي على باب الزقاق

بَين الْأَصْمَعِي والبقال الَّذِي على بَاب الزقاق وجدت فِي بعض الْكتب عَن الْأَصْمَعِي، قَالَ: كنت بِالْبَصْرَةِ أطلب الْعلم، وَأَنا مقل، وَكَانَ على بَاب زقاقنا بقال، إِذا خرجت باكرا؛ يَقُول لي: إِلَى أَيْن؟ فَأَقُول: إِلَى فلَان الْمُحدث، وَإِذا عدت مسَاء؛ يَقُول لي: من أَيْن؟ فَأَقُول: من عِنْد فلَان الأخباري، أَو اللّغَوِيّ. فَيَقُول: يَا هَذَا، اقبل وصيتي، أَنْت شَاب، فَلَا تضيع نَفسك، واطلب معاشا يعود عَلَيْك نَفعه، وَأَعْطِنِي جَمِيع مَا عنْدك من الْكتب، حَتَّى أطرحها فِي الدن، وأصب عَلَيْهَا من المَاء للعشرة أَرْبَعَة، وأنبذه، وَأنْظر مَا يكون مِنْهُ، وَالله، لَو طلبت مني، بِجَمِيعِ كتبك، جرزة بقل، مَا أَعطيتك. فيضيق صَدْرِي بمداومته هَذَا الْكَلَام، حَتَّى كنت أخرج من بَيْتِي لَيْلًا، وَأدْخلهُ لَيْلًا، وحالي، فِي خلال ذَلِك، تزداد ضيقا، حَتَّى أفضيت إِلَى بيع آجر أساسات دَاري، وَبقيت لَا أهتدي إِلَى نَفَقَة يومي، وَطَالَ شعري، وأخلق ثوبي، واتسخ بدني. فَأَنا كَذَلِك متحيرا فِي أَمْرِي، إِذْ جَاءَنِي خَادِم للأمير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، فَقَالَ: أجب الْأَمِير.

فَقلت: مَا يصنع الْأَمِير بِرَجُل بلغ بِهِ الْفقر إِلَى مَا ترى؟ فَلَمَّا رأى سوء حَالي، وقبح منظري؛ رَجَعَ فَأخْبر مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بخبري، وَعَاد إِلَيّ، وَمَعَهُ تخوت ثِيَاب، ودرج فِيهِ بخور، وكيس فِيهِ ألف دِينَار. وَقَالَ: قد أَمرنِي الْأَمِير أَن أدْخلك الْحمام، وألبسك من هَذِه الثِّيَاب، وأدع بَاقِيهَا عنْدك، وأطعمك من هَذَا الطَّعَام، وَإِذا بخوان كَبِير فِيهِ صنوف الْأَطْعِمَة، وأبخرك؛ لترجع إِلَيْك نَفسك، ثمَّ أحملك إِلَيْهِ. فسررت سُرُورًا شَدِيدا، ودعوت لَهُ، وعملت مَا قَالَ، ومضيت مَعَه، حَتَّى دخلت على مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، فَسلمت عَلَيْهِ، فقربني، ورفعني. ثمَّ قَالَ: يَا عبد الْملك، قد اخْتَرْتُك لتأديب ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ، فاعمل على الْخُرُوج إِلَى بَابه، وَانْظُر كَيفَ تكون؟ فشكرته ودعوت لَهُ، وَقلت: سمعا وَطَاعَة، سأخرج شَيْئا من كتبي وأتوجه. فَقَالَ: وَدعنِي، وَكن على الطَّرِيق غَدا. فَقبلت يَده، وَقمت، فَأخذت مَا احتجت إِلَيْهِ من كتبي، وَجعلت بَاقِيهَا

فِي بَيت وسددت بَابه، وأقعدت فِي الدَّار عجوزا من أهلنا، تحفظها. وباكرني رَسُول الْأَمِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، وأخذني، وَجَاء بِي إِلَى زلال قد اتخذ لي، وَفِيه جَمِيع مَا أحتاج إِلَيْهِ، وَجلسَ معي ينْفق عَليّ، حَتَّى وصلت إِلَى بَغْدَاد. وَدخلت على أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد، فَسلمت عَلَيْهِ، فَرد عَليّ السَّلَام. وَقَالَ: أَنْت عبد الْملك بن قريب الْأَصْمَعِي. قلت: نعم، أَنا عبد أَمِير الْمُؤمنِينَ بن قريب الْأَصْمَعِي. قَالَ: اعْلَم أَن ولد الرجل مهجة قلبه، وَثَمَرَة فُؤَاده، وهوذا أسلم إِلَيْك ابْني مُحَمَّدًا بأمانة الله، فَلَا تعلمه مَا يفْسد عَلَيْهِ دينه، فَلَعَلَّهُ أَن يكون للْمُسلمين إِمَامًا. قلت: السّمع وَالطَّاعَة. فَأخْرجهُ إِلَيّ، وحولت مَعَه إِلَى دَار، قد أخليت لتأديبه، وَأَخْدَم فِيهَا من أَصْنَاف الخدم والفرش، وَأجْرِي عَليّ فِي كل شهر عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَأمر أَن تخرج إِلَيّ فِي كل يَوْم مائدة، فَلَزِمته. وَكنت مَعَ ذَلِك، أَقْْضِي حوائج النَّاس، وآخذ عَلَيْهَا الرغائب، وأنفذ جَمِيع مَا يجْتَمع لي، أَولا فأولا، إِلَى الْبَصْرَة، فأبني دَاري، وأشتري عقارا وضياعا. فأقمت مَعَه، حَتَّى قَرَأَ الْقُرْآن، وتفقه فِي الدَّين، وروى الشّعْر واللغة، وَعلم أَيَّام النَّاس وأخبارهم.

واستعرضه الرشيد، فأعجب بِهِ، وَقَالَ: يَا عبد الْملك، أُرِيد أَن يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فِي يَوْم الْجُمُعَة، فاختر لَهُ خطْبَة، فحفظه إِيَّاهَا. فحفظته عشرا، وَخرج، فصلى بِالنَّاسِ، وَأَنا مَعَه، فأعجب الرشيد بِهِ، وَأَخذه نثار الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم من الْخَاصَّة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل نَاحيَة، فَجمعت مَالا عَظِيما. ثمَّ استدعاني الرشيد، فَقَالَ: يَا عبد الْملك، قد أَحْسَنت الْخدمَة، فتمن. قلت: مَا عَسى أَن أَتَمَنَّى، وَقد حزت أماني. فَأمر لي بِمَال عَظِيم، وَكِسْوَة كَثِيرَة، وَطيب فاخر، وَعبيد، وإماء، وَظهر، وفرش، وَآلَة. فَقلت: إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْذَن لي فِي الْإِلْمَام بِالْبَصْرَةِ، وَالْكتاب إِلَى عَامله بهَا، أَن يُطَالب الْخَاصَّة والعامة، بِالسَّلَامِ عَليّ ثَلَاثَة أَيَّام، وإكرامي بعد ذَلِك. فَكتب إِلَيْهِ بِمَا أردْت، وانحدرت إِلَى الْبَصْرَة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فَشَتْ، فَمَا تَأَخّر عني أحد. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث؛ تَأَمَّلت أصاغر من جَاءَنِي، فَإِذا الْبَقَّال، وَعَلِيهِ عِمَامَة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قَصِيرَة، وقميص طَوِيل، وَفِي رجله جرموقان، وَهُوَ بِلَا سَرَاوِيل. فَقَالَ: كَيفَ أَنْت يَا عبد الْملك؟ فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بِمَا كَانَ يخاطبني بِهِ الرشيد. وَقلت: بِخَير، وَقد قبلت وصيتك، وجمعت مَا عِنْدِي من الْكتب،

وطرحتها فِي الدن، كَمَا أمرت، وصببت عَلَيْهَا من المَاء للعشرة أَرْبَعَة، فَخرج مَا ترى. ثمَّ أَحْسَنت إِلَيْهِ بعد ذَلِك، وَجَعَلته وَكيلِي.

المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة

الْمُنْذر بن الْمُغيرَة الدِّمَشْقِي أحد صنائع البرامكة قَالَ مسرور الْكَبِير: استدعاني الْمَأْمُون، فَقَالَ لي: قد أَكثر عَليّ أَصْحَاب أَخْبَار السِّرّ، أَن شَيخا يَأْتِي خرائب البرامكة، فيبكي وينتحب طَويلا، ثمَّ ينشد شعرًا يرثيهم بِهِ، وينصرف، فاركب أَنْت ودينار بن عبد الله، واستترا بالجدران، فَإِذا جَاءَ الشَّيْخ فأمهلاه، حَتَّى تشاهدا مَا يفعل، وتسمعا مَا يَقُول، فَإِذا أَرَادَ الِانْصِرَاف؛ فاقبضا عَلَيْهِ، وأتياني بِهِ. قَالَ مسرور: فركبت أَنا ودينار مغلسين، فأتينا الْموضع، فاختفينا فِيهِ، وأبعدنا الدَّوَابّ. فَلَمَّا كَانَ آخر اللَّيْل، إِذا بخادم أسود قد أقبل، وَمَعَهُ كرْسِي حَدِيد، فطرحه، وَجَاء على أَثَره كهل، فَجَلَسَ على الْكُرْسِيّ، وَتَلفت يَمِينا وَشمَالًا، فَلم ير أحدا، فَبكى وانتحب، حَتَّى قلت: قد فَارق الدُّنْيَا، وَأَنْشَأَ يَقُول: أما وَالله لَوْلَا خوف واشٍ ... وَعين للخليفة لَا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كَمَا للنَّاس بِالْحجرِ استلام ثمَّ بَكَى طَويلا، وَأَنْشَأَ يَقُول:

وَلما رَأَيْت السَّيْف جلل جعفرا ... ونادى منادٍ للخليفة فِي يحيى بَكَيْت على الدُّنْيَا وَزَاد تأسفي ... عَلَيْهَا وَقلت الْآن لَا تَنْفَع الدُّنْيَا وَذكر أبياتا طَوِيلَة، لَا تدخل فِي كتابي هَذَا، فأرويها. قَالَ: فَلَمَّا فرغ من إنشاده وَقَامَ؛ قبضنا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُونَ؟ قلت: هَذَا دِينَار بن عبد الله، وَأَنا مسرور خَادِم أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهُوَ يستدعيك. فَأبْلسَ، ثمَّ قَالَ: إِنِّي لَا آمنهُ على نَفسِي فأمهلاني حَتَّى أوصِي. فَقلت: شَأْنك وَمَا تُرِيدُ، فَقَامَ، وَسَار، وَنحن مَعَه، حَتَّى أَتَى بعض دكاكين العلافين، بفرضة الْفِيل.

فاستدعي دَوَاة وبياضا، وَكتب فِيهَا وَصيته، وَدفعهَا إِلَى الْخَادِم الَّذِي كَانَ مَعَه، وأنفذه إِلَى منزله، وسرنا بِهِ، حَتَّى أدخلْنَاهُ على الْمَأْمُون، فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ؛ زبره، وانتهره. ثمَّ قَالَ لَهُ: من أَنْت؟ وَبِمَ اسْتحق مِنْك البرامكة مَا تصنع فِي دُورهمْ وخراباتهم؟ فَقَالَ غير هائب، وَلَا محتشم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن للبرامكة عِنْدِي أياد، فَإِن أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ حدثته بإحداها. فَقَالَ: هَات. قَالَ: أَنا الْمُنْذر بن الْمُغيرَة الدِّمَشْقِي، من ذَوي الْحسب، نشأت فِي ظلّ نعم قديمَة، فَزَالَتْ عني، كَمَا تَزُول النعم عَن النَّاس، حَتَّى أفضيت إِلَى بيع مسْقط رَأْسِي ورءوس آبَائِي، وأملقت حَتَّى لَا غَايَة، فأشير عَليّ بِقصد البرامكة. فَخرجت من الشَّام إِلَى بَغْدَاد، وَمَعِي نَيف وَعِشْرُونَ امْرَأَة وصبيا وصبية، فَدخلت بهم مَدِينَة السَّلَام، فأنزلتهم فِي مَسْجِد. ثمَّ عَمَدت إِلَى ثويبات كنت قد أعددتها للقاء النَّاس، والتذرع بهَا للبرامكة، فلبستها، وسلكت الطَّرِيق، لَا أَدْرِي أَيْن أقصد، وَكنت كَمَا قيل: وَأصْبح لَا يدْرِي وَإِن كَانَ حازما ... أقدامه خير لَهُ أم وَرَاءه؟ فَلَمَّا قَالَ ذَلِك؛ بَكَى الْمَأْمُون، فَقَالَ لَهُ مسرور: أقصر يَا رجل، فقد أَتعبت أَمِير الْمُؤمنِينَ بوصفك. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: دَعه يتحدث بِمَا يُرِيد.

قَالَ: نعم، وَتركت عيالي جياعا لَا نَفَقَة لَهُم، وَلَا مَعَهم مَا يُبَاع، فأفضيت إِلَى مَسْجِد مزخرف، فِيهِ جمع شُيُوخ، بِأَحْسَن زِيّ، وأجمل هَيْئَة، فطمعت فِي مخاطبتهم، فَصَعدت إِلَى الْمَسْجِد، فَجَلَست مَعَهم، لم أَزْد على السَّلَام، وَجعلت أردد فِي صَدْرِي كلَاما أخاطبهم بِهِ، فيحصرني التشور، ويخجلني ذل الْمَسْأَلَة، ويحبسني عَن الْكَلَام، وأتصبب عرقا؛ حَيَاء وخوفا من أَن يُقَال لي: من أَنْت، وَمَا تُرِيدُ؟ وَمَا يمكنني الْجَواب، وَلَا أَدْرِي مَا أخاطبهم بِهِ، إِذْ لم تكن لي عَادَة بالخوض فِي مثله. فَأَنا كَذَلِك، إِذْ جَاءَ خَادِم فاستدعى الْقَوْم، فَقَامُوا، وَقمت مَعَهم، ومضينا، فأدخلوا دَارا ذَات دهليز طَوِيل، فَدخلت مَعَهم، وأفضينا إِلَى صحن وَاسع، وَإِذا شيخ بهي، فَإِذا هُوَ يحيى بن خَالِد، على دكة أبنوس فِي صحن الدَّار، فِي وسط الْبُسْتَان، وَله ميدان عِنْد بركَة، وَقد نصب عَلَيْهَا كراسي أبنوس. وَأَقْبل الْقَوْم، فجلسوا، وَجَلَست مَعَهم، وَتَأمل الخدم الْقَوْم وعددهم، فَإِذا نَحن مائَة رجل وَرجل، فَدخل الخدم وغابوا، ثمَّ خرج مائَة خَادِم وخادم، فِي يَد كل وَاحِد مِنْهُم مجمرة من ذهب، فِيهَا قِطْعَة كالفهر من عنبر، والخدم بأفخر الثِّيَاب، عَلَيْهِم مناطق الذَّهَب المرصعة بالجوهر، وهم يطيفون بِغُلَام، حِين اخضر شَاربه، حسن الْوَجْه، فسجروا العنبر. وَأَقْبل يحيى على الزريقي القَاضِي، وَقَالَ: زوج ابْن أخي هَذَا، بِابْنَتي عَائِشَة على صدَاق قدره مائَة ألف دِرْهَم. فَخَطب، وَعقد النِّكَاح، وأخذنا النثار من فتات الْمسك، وبنادق العنبر،

وتماثيل الند الصغار، والتقط النَّاس، والتقطت. ثمَّ جَاءَ مائَة خَادِم وخادم، فِي يَد كل وحد مِنْهُم صينية فضَّة فِيهَا ألف دِينَار، مخلوطة بالمسك، فَوضع بَين يَدي كل رجل منا صينية. فَأَقْبَلت الْجَمَاعَة تكور الدَّنَانِير فِي أكمامها، وَتَأْخُذ الصواني تَحت آباطها، وتنصرف، الأول فَالْأول، حَتَّى بقيت وحدي، لَا أجسر على أَخذ الصينية وَمَا فِيهَا، والأسف وَالْحَاجة يمنعاني أَن أقوم وأدعها، وَأَنا مطرق مفكر. حَتَّى ضَاقَ صَدْرِي، فَرفعت رَأْسِي، فغمزني بعض الخدم على أَخذهَا وَالْقِيَام، فأخذتها وَقمت، وَأَنا لَا أصدق، وَجعلت أَمْشِي وأتلفت، خوفًا من أَن يَتبعني من يَأْخُذهَا، وَيحيى يلاحظني من حَيْثُ لَا أعلم. فَلَمَّا قاربت السّتْر؛ رددت، فأيست من الصينية، فَجئْت، وَهِي معي، حَتَّى قربت مِنْهُ، فَأمرنِي بِالْجُلُوسِ، فَجَلَست. فَسَأَلَنِي عَن حَالي، وقصتي، وَمن أَنا، فصدقته، حَتَّى إِذا بلغت إِلَى تركي عيالي فِي الْمَسْجِد؛ بَكَى. ثمَّ قَالَ: عَليّ بمُوسَى، فجَاء. فَقَالَ: يَا بني، هَذَا رجل من أَبنَاء النعم، قد رمته الْأَيَّام بصروفها، والنوائب بحتوفها، فَخذه، واخلطه بِنَفْسِك، واصطنعه. فأخذني مُوسَى إِلَى دَاره، فَخلع عَليّ من أَفْخَر ثِيَابه، وَأمر بِحِفْظ الصينية لي، وقضيت على ذَلِك يومي وليلتي. ثمَّ استدعى أَخَاهُ الْعَبَّاس من الْغَد، وَقَالَ لَهُ: إِن الْوَزير سلم إِلَيّ هَذَا الْفَتى، وَأَمرَنِي فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا، وَأُرِيد أَن أركب الْيَوْم إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَلْيَكُن عنْدك الْيَوْم حَتَّى أرتجعه غَدا، فَكَانَ يومي عِنْده مثل أمسي. وَأَقْبلُوا يتداولوني كل يَوْم، وَاحِدًا بعد وَاحِد، وَأَنا قلق بِأَمْر عيالي، إِلَّا أنني لَا أذكرهم إجلالا لَهُم.

فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الْعَاشِر؛ أدخلت إِلَى الْفضل بن يحيى، فأقمت فِي دَاره يومي وليلتي. فَلَمَّا أَصبَحت؛ جَاءَنِي خَادِم من خدمه، فَقَالَ: يَا هَذَا، قُم إِلَى عِيَالك وصبيانك. فَقلت: إِنَّا لله، لم أحصل لهَؤُلَاء الصّبيان على الْأكل وَالشرب، والصينية وَمَا فِيهَا، وَمَا حصلته من النثار ذهب، فليت هَذَا كَانَ من أول يَوْم، وَكَيف أتوصل الْآن إِلَى يحيى، وَأي طَرِيق لي إِلَيْهِ؟ وتلاعبت بِي الأفكار مَخَافَة الْيَأْس، وأظلمت الدُّنْيَا فِي عَيْني، وَقمت أجر رجْلي، وَالْخَادِم يمشي بَين يَدي، حَتَّى أخرجني من الدَّار، فازداد إياسي، وَمَا زَالَ يمشي بَين يَدي حَتَّى أدخلني إِلَى دَار كَأَن الشَّمْس تطلع من جوانبها، وفيهَا من صنوف الْفرش والأثاث والآلات، مَا يكون فِي مثلهَا. فَلَمَّا توسطتها؛ رَأَيْت عيالي أَجْمَعِينَ فِيهَا، يرتعون فِي الديباج والشفوف، وَقد حمل إِلَيْهِم مائَة ألف دِرْهَم، وَعشرَة آلَاف دِينَار، والصينية والنثار، وَسلم إِلَيّ الْخَادِم صك ضيعتين جليلتين. وَقَالَ: هَذِه الدَّار وَمَا فِيهَا والضياع بغلاتها، لَك. فأقمت مَعَ البرامكة فِي أَخفض عَيْش، وَأجل حَال، حَتَّى نزلت بهم النَّازِلَة. ثمَّ قصدني عَمْرو بن مسْعدَة فِي الضيعتين، فألزمني فِي خراجهما، مَا لَا يَفِي بِهِ دخلهما.

فلحقتني شدَّة عَظِيمَة، فَكلما لحقتني نائبة، واشتدت بِي بلية؛ قصدت دُورهمْ ومنازلهم، فبكيتهم، ورثيتهم، وشكرتهم، ودعوت لَهُم على مَا كَانَ مِنْهُم إِلَيّ، وشكوت مَا حل بِي بعدهمْ، فأجد لذَلِك رَاحَة. قَالَ: فاستدعى الْمَأْمُون عَمْرو بن مسْعدَة، فَلَمَّا أُتِي بِهِ؛ قَالَ لَهُ: أتعرف هَذَا الرجل؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هُوَ بعض صنائع البرامكة. فَأمره أَن يرد على الرجل، كلما استخرج مِنْهُ، وَأَن يُقرر خراجه على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَيَّام البرامكة، وَأَن يَجْعَل لَهُ ضَيْعَة أُخْرَى من جملَة الإيغارات، يكون دَخلهَا لَهُ، ويتخذ بِهِ سجلا، وَأَن يقْضِي حَقه ويكرمه، فَبكى الشَّيْخ بكاء شَدِيدا. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: ألم اسْتَأْنف إِلَيْك جميلا، فَمَا بكاؤك؟ فَقَالَ: بلَى وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وزدت على كل فضل وإحسان، وَلَكِن هَذَا من بركَة الله، وبركة البرامكة عَليّ، وَبَقِيَّة إحسانهم إِلَيّ، فَلَو لم آتٍ خراباتهم، فأبكيهم وأندبهم، حَتَّى اتَّصل خبري بأمير الْمُؤمنِينَ، فَفعل بِي مَا فعل، من أَيْن كنت أصل إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: امْضِ مصاحبا، فَإِن الْوَفَاء مبارك، وَحسن الْعَهْد من الْإِيمَان.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان

هَل جَزَاء الْإِحْسَان إِلَّا الْإِحْسَان بَلغنِي أَنه كَانَ بِالْكُوفَةِ رجل من أهل الْأَدَب والظرف، يعاشر النَّاس، وتأتيه ألطافهم، فيعيش بهَا. ثمَّ انْقَلب الدَّهْر عَلَيْهِ، فَأمْسك النَّاس عَنهُ، وجفوه حَتَّى قعد فِي بَيته، والتجأ إِلَى عِيَاله، فشاركهن فِي فضل مغازلهن، وَاسْتمرّ ذَلِك عَلَيْهِ، حَتَّى نَسيَه النَّاس، وَلَزِمَه الْفقر. قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنا ذَات لَيْلَة فِي منزلي، على أسوإ حَال، إِذا وَقع حافر دَابَّة، وَرجل يدق بَابي، فكلمته من وَرَاء الْبَاب. فَقلت: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ: إِن أَخا لَك لَا أُسَمِّيهِ، يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَيَقُول لَك: إِنِّي رجل مستتر، وَلست آنس بِكُل أحد، فَإِن رَأَيْت أَن تصير إِلَيّ، لنتحدث ليلتنا. فَقلت فِي نَفسِي: لَعَلَّ جدي أَن يكون قد تحرّك؟ ثمَّ لم أجد لي مَا ألبسهُ، فاشتملت بإزار امْرَأَتي، وَخرجت، فَقدم إِلَيّ فرسا مجنوبا كَانَ مَعَه، فركبته إِلَى أَن أدخلني إِلَى فَتى من أجل النَّاس وأجملهم وَجها، فَقَامَ إِلَيّ، وعانقني، ودعا بِطَعَام فأكبنا، وبشراب فشربنا، وأخذنا فِي الحَدِيث، فَمَا خضت فِي شَيْء إِلَّا سبقني إِلَيْهِ. حَتَّى إِذا صَار وَقت السحر؛ قَالَ: إِن رَأَيْت أَن لَا تَسْأَلنِي عَن شَيْء من أَمْرِي، وَتجْعَل هَذِه الزِّيَارَة بيني وَبَيْنك، إِذا أرْسلت إِلَيْك فعلت، وَهَهُنَا

دَرَاهِم تقبلهَا، وَلَا تردها، وَلَا يضيق بعْدهَا عَنْك شَيْء، فَأخْرج إِلَيّ جرابا مملوءا دَرَاهِم. فدخلتني أريحية الشَّرَاب، فَقلت: اخترتني على النَّاس للمنادمة، ولسرك، وآخذ على ذَلِك أجرا؟ لَا حَاجَة لي فِي المَال. فجهد بِي، فَلم آخذه، وَقدم إِلَيّ الْفرس، فركبته، وعدت إِلَى منزلي، وعيالي متطلعون لما أجيء بِهِ، فَأَخْبَرتهمْ بخبري. وأصبحت نَادِما على فعلي، وَقد ورد عَليّ وعَلى عيالي مَا لم يكن فِي حسابنا، فَمَكثت حينا، لَا يَأْتِي إِلَيّ رَسُول الرجل، إِلَى أَن جَاءَنِي بعد مُدَّة، فصرت إِلَيْهِ، فعاودني بِمثل ذَلِك الْفِعْل، فعاودته بالامتناع، وانصرفت مخفقا، فَأَقْبَلت امْرَأَتي عَليّ باللوم والتوبيخ. فَقلت لَهَا: أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِن عاودني وَلم آخذ مَا يعطيني. فَمَكثت مُدَّة أطول من الأوّلة، ثمَّ جَاءَنِي رَسُوله، فَلَمَّا أردْت الرّكُوب؛ قَالَت لي امْرَأَتي: يَا ميشوم، اذكر يَمِينك، وبكاء بناتك، وَسُوء حالك. فصرت إِلَى الرجل، فَلَمَّا أفضينا إِلَى الشَّرَاب؛ قلت لَهُ: إِنِّي أجد عِلّة تمنعني مِنْهُ، وَإِنَّمَا أردْت أَن يكون رَأْيِي معي. فَأقبل الرجل يشرب، وَأَنا أحادثه، إِلَى أَن انبلج الْفجْر، فَأخْرج الجراب، وعاودني، فَأَخَذته، فَقبل رَأْسِي، وشكرني على قبُول بره، وَقدم إِلَيّ الْفرس، فَانْصَرَفت عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى منزلي، فألقيت الجراب. فَلَمَّا رَآهُ عيالي؛ سجدن لله شكرا، وفتحناه، فَإِذا هُوَ مَمْلُوء دَنَانِير. فأصلحت مِنْهُ حَالي، واشتريت مركوبا، وثيابا حَسَنَة، وأثاثا، وضيعة، قدرت أَن غَلَّتهَا تفي بِي وبعيالي بعدِي، واستظهرت على زماني بِبَقِيَّة الدَّنَانِير. وانثال النَّاس عَليّ، يظهرون السرُور بِمَا تجدّد لي، وظنوا أَنِّي كنت غَائِبا

فِي انتجاع ملك، فَقدمت مثريا، وَانْقطع رسل الرجل عني. فَبَيْنَمَا أَنا أَسِير يَوْمًا بِالْقربِ من منزلي، فَإِذا ضوضاء عَظِيمَة، وَجَمَاعَة مجتمعة. فَقلت: مَا هَذَا؟ قَالُوا: رجل من بني فلَان، كَانَ يقطع الطَّرِيق، فَطَلَبه السُّلْطَان، إِلَى أَن عرف خَبره هَهُنَا، فهجم عَلَيْهِ، وَقد خرج على النَّاس بِالسَّيْفِ، يمْنَع نَفسه. فقربت من الْجمع، وتأملت الرجل، فَإِذا هُوَ صَاحِبي بِعَيْنِه، وَهُوَ يُقَاتل الْعَامَّة، وَالشّرط، ويكشف النَّاس، فيبعدون عَنهُ، ثمَّ يتكاثرون عَلَيْهِ ويضايقونه. فَنزلت عَن فرسي، وَأَقْبَلت أقوده، حَتَّى دَنَوْت مِنْهُ، وَقد انْكَشَفَ النَّاس عَنهُ. فَقلت: بِأبي أَنْت وَأمي، شَأْنك وَالْفرس والنجاة، فَاسْتَوَى على ظَهره، فَلم يلْحق. فَقبض عَليّ الشَّرْط، وَأَقْبلُوا عَليّ يلهزوني، ويشتموني، حَتَّى جَاءُوا بِي إِلَى عِيسَى بن مُوسَى، وَهُوَ وَالِي الْكُوفَة، وَكَانَ بِي عَارِفًا. فَقَالُوا: أَيهَا الْأَمِير، كدنا أَن نَأْخُذ الرجل، فجَاء هَذَا، فَأعْطَاهُ فرسا نجا عَلَيْهِ. فَاشْتَدَّ غضب عِيسَى بن مُوسَى، وَكَاد أَن يُوقع بِي، وَأَنا مُنكر لذَلِك.

فَلَمَّا رَأَيْت المصدوقة؛ قلت: أَيهَا الْأَمِير، ادنني إِلَيْك أصدقك. فاستدناني، فشرحت لَهُ مَا كَانَ أفضت بِي الْحَال إِلَيْهِ، وَمَا عاملني بِهِ الرجل، وَأَنِّي كافأته بجميل فعله. فَقَالَ لي سرا: أَحْسَنت، لَا بَأْس عَلَيْك. ثمَّ الْتفت إِلَى النَّاس فَقَالَ: يَا حمقى، هَذَا يتهم؟ إِنَّمَا لفظ حافر فرسه حَصَاة، فقاده ليريحه، فغشيه رجل مستقتل بِسيف مَاض، قد نكلتم عَنهُ بأجمعكم، فَكيف كَانَ هُوَ يَدْفَعهُ عَن فرسه؟ انصرفوا، ثمَّ خلى سبيلي. فَانْصَرَفت إِلَى منزلي، وَقد قضيت ذمام الْفَتى، وحصلت النِّعْمَة بعد الشدَّة، وَأمنت عواقب الْحَال، وَكَانَ آخر عهدي بِهِ.

جعفر بن سليمان أمير البصرة يصفح عمن سرق منه جوهرا

جَعْفَر بن سُلَيْمَان أَمِير الْبَصْرَة يصفح عَمَّن سرق مِنْهُ جوهرا سرق لجَعْفَر بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي جَوْهَر فاخر بِالْبَصْرَةِ، وَهُوَ أميرها، فجهد أَن يعرف لَهُ خَبرا، فخفي عَلَيْهِ، فأقلقه ذَلِك، وغاطه، وجد بِالشّرطِ وضربهم، وألزمهم إِظْهَاره، فجدوا فِي الطّلب. فَلَمَّا كَانَ بعد شهور، أَتَاهُ بَعضهم بِرَجُل وجده فِي ساباط اللُّؤْلُؤ، يَبِيع درة فاخرة من ذَلِك الْجَوْهَر، قد قبض عَلَيْهِ، وضربه ضربا عَظِيما إِلَى أَن أقرّ، فَأخْبر جَعْفَر بِخَبَرِهِ، فَأذن بِدُخُولِهِ. فَلَمَّا رأى الرجل جعفرا؛ اسْتَغَاثَ بِهِ، وَبكى، ورققه، فرحمه جَعْفَر، وَقَالَ: ألم تكن طلبت مني هَذِه الدرة فِي وَقت كَذَا، فوهبتها لَك؟ فَقَالَ: بلَى. فَقَالَ للشّرط: خلوا عَنهُ، واطلبوا اللص.

أخذ الصينية من لا يردها ورآه من لا ينم عليه

أَخذ الصينية من لَا يردهَا وَرَآهُ من لَا ينم عَلَيْهِ وروت الْفرس قَرِيبا من هَذَا، فَذكرُوا أَن بعض مُلُوكهمْ، سخط على حَاجِب لَهُ سخطا شَدِيدا، وألزمه بَيته، وَكَانَ فِيهِ كالمحبوس، وَقطع عَنهُ أرزاقه وجراياته، فَأَقَامَ على ذَلِك سِنِين، حَتَّى تهتك، وَلم تبْق لَهُ حَال. ثمَّ بلغه أَن الْملك قد اتخذ سماطا عَظِيما، يحضرهُ النَّاس فِي غَد يَوْمه ذَلِك، فراسل أصدقاءه، وأعلمهم أَن لَهُ حَقًا يحضرهُ لبَعض وَلَده، واستعار مِنْهُم دَابَّة بسرجه ولجامه، وَغُلَامًا يسْعَى بَين يَدَيْهِ، وخلعه يلبسهَا، وسيفا، ومنطقة، فأعير ذَلِك، فلبسه، وَركب الدَّابَّة، وَخرج من منزله إِلَى أَن جَاءَ إِلَى دَار الْملك. فَلَمَّا رَآهُ البوابون لم يشكوا فِي أَنه مَا أقدم على ذَلِك إِلَّا بِأَمْر الْملك، وتذمموا لقديم رئاسته عَلَيْهِم، فأشفقوا من عودهَا أَن يحجبوه إِلَى أَن يستثبتوا. وَدخل هُوَ مظْهرا الْقُوَّة بِأَمْر نَفسه، وَلم تزل تِلْكَ حَاله مَعَ طَائِفَة، حَتَّى وصل إِلَى الْملك، وَقد أكل، وَهُوَ جَالس يشرف. فَلَمَّا رَآهُ الْملك قطب، وَأنكر حُضُوره، وهم بِأَن يَأْمر بِهِ، وبالحجاب، والبوابين، فكره أَن ينغص يَوْمًا قد أفرده بالسرور على نَفسه. وَأَقْبل الرجل يخْدم، فِيمَا كَانَ يخْدم فِيهِ قَدِيما، فازدادت الْحَال تمويها على الْحجاب والحاشية، إِلَى أَن كَاد الْمجْلس ينصرم، وغفل أَكثر من كَانَ حَاضرا عَنهُ. فَتقدم إِلَى صينية ذهب زنتها ألف مِثْقَال، مَمْلُوءَة مسكا، فَأَخذهَا بخفة،

وَجعل الْمسك فِي كمه، والصينية فِي خفه، وَالْملك يرَاهُ. وَخرج وَعَاد إِلَى منزله، ورد العواري إِلَى أَهلهَا، وَبَاعَ الْمسك، وَكسر الصينية، وَجعلهَا دَنَانِير، واتسع بهَا حَاله. وأفاق الْملك، من غَد، من سكره، وَسمع من يخْدم فِي الشَّرَاب يطْلب الصينية، وقهرمان الدَّار يضْرب قوما فِي طلبَهَا، فَذكر حَدِيث الْحَاجِب، وَعلم أَنه مَا حمل نَفسه على الْغرَر الشَّديد فِي ذَلِك، إِلَّا من وَرَاء شدَّة وضر. فَقَالَ لقهرمانة: لَا تطلب الصينية، فَمَا لأحد فِي ضياعها ذَنْب، فقد أَخذهَا من لَا يردهَا، وَرَآهُ من لَا ينم عَلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ بعد سنة؛ عَاد ذَلِك الْحَاجِب إِلَى شدَّة الإضاقة، بنفاد الدَّنَانِير، وبلغه خبر سماط يكون عِنْد الْملك، فِي غَد يَوْمه، فاحتال بحيلة أُخْرَى، حَتَّى دخل إِلَى حَضْرَة الْملك، وَهُوَ يشرب. فَلَمَّا رَآهُ الْملك؛ قَالَ: يَا فلَان، نفذت تِلْكَ الدَّنَانِير؟ فَقبل الأَرْض بَين يَدَيْهِ، وَبكى، ومرغ خديه، وَقَالَ: أَيهَا الْملك، قد احتلت مرَّتَيْنِ، على أَن تقتلني فَأَسْتَرِيح مِمَّا أَنا فِيهِ، من عظم الضّر الَّذِي أعانيه، أَو تَعْفُو عني كَمَا يَلِيق بك، وتذكر خدمتي، فأعيش فِي ظلك، وَلَيْسَت لي بعد هَذَا الْيَوْم حِيلَة. فرق لَهُ الْملك، وَعَفا عَنهُ، وَأمر برد أرزاقه عَلَيْهِ وَنعمته، ورده إِلَى حَالَته الأولى فِي خدمته.

سفتجة بثلاث صفعات يفتديها المحال عليه بخمس مائة وخمسين دينارا

سفتجة بِثَلَاث صفعات يفتديها الْمحَال عَلَيْهِ بِخمْس مائَة وَخمسين دِينَارا بَلغنِي عَن رجل من أهل ديار ربيعَة، كَانَت لَهُ حَال صَالِحَة، فَزَالَتْ، قَالَ: فلزمتني المحنة والإضاقة مُدَّة طَوِيلَة، فتحيرت وَلم أدر مَا أعمل. وَكَانَ أَمِير النَّاحِيَة، إِذْ ذَاك، الْعَبَّاس بن عَمْرو الغنوي، وَكَانَت بيني وَبَين كَاتبه معرفَة قديمَة، فأشير عَليّ بِأَن أَلْقَاهُ، وآخذ كتابا عَن الْعَبَّاس إِلَى بعض أصدقائه من أُمَرَاء النواحي وَأخرج إِلَيْهِ، فلعلي أتصرف مَعَه، وأعود من جِهَته بفائدة أجعلها أصل معيشة. فَلَقِيت الْكَاتِب، فَقَالَ لي: صر فِي غَد إِلَى دَار الْأَمِير، حَتَّى أكتب لَك. فمضيت إِلَيْهِ، فَكتب لي عَنهُ كتابا مؤكدا إِلَى بعض أُمَرَاء الْأَطْرَاف من أصدقاء الْعَبَّاس، فَخرجت أُرِيد منزلي.

فَلَمَّا صرت فِي بعض الممرات وَأَنا رجل طَوِيل مبدن، وَكنت قد حلقت رَأْسِي، وَعَلِيهِ منديل خَفِيف، قد أطارته الرّيح، فانكشف، وَلعلَّة انشغال قلبِي بأَمْري لم أرد المنديل. وَإِذا بصفعة قد جَاءَت، كَادَت تكبني على وَجْهي، وتوالت بعْدهَا اثْنَتَانِ. فالتفتّ، فَإِذا الْعَبَّاس بن عَمْرو، وَقد خرج إِلَى مَوضِع من مَوَاضِع الدَّار، وَكَانَ مشتهرا بالمصافعة، مكاشفا بهَا، هُوَ، وَجَمَاعَة من قواد المعتضد، أصدقاء أخلاء، يستعملون ذَلِك، ويكاشفون بِهِ. فقبضت على يَده، وَقلت: مَا هَذَا، أَيهَا الْأَمِير؟ مَا أُفَارِقك، أَو تُعْطِينِي شَيْئا أنتفع بِهِ عوضا عَن هَذَا الْفِعْل. فدافعني، وَأَنا متشبث بِهِ، وَسقط الْكتاب من كمي، فَقَالَ: مَا هَذَا الْكتاب؟ قلت: كتاب كتب لي عَنْك إِلَى فلَان؛ لأخرج إِلَيْهِ، فلعلي أتصرف مَعَه، أَو يبرني بِشَيْء. فَقَالَ: هوذا، أكتب لَك عَلَيْهِ سفتجة بالصفع، فَإِنَّهُ يفتديها مِنْك بِمَا تنْتَفع بِهِ. واستدعى دَوَاة، وَكتب لي إِلَى الرجل سفتجة، كَمَا يكْتب التُّجَّار، بِثَلَاث مكتوبات، كِنَايَة عَن ثَلَاث صفعات. فَأخذ الْكتاب، وانصرفت مُتَعَجِّبا مِمَّا جرى عَليّ، وَمن حرفتي فِي

أَن الْعَبَّاس لم يسمح لي بِشَيْء، مَعَ جوده، وتحملت، وَخرجت إِلَى ذَلِك الْبَلَد، فأوصلت الْكتاب الَّذِي كتبه لي الْكَاتِب عَنهُ. فردني ذَلِك الْأَمِير أقبح رد، وآيسني، وَقَالَ: قد بلينا بهؤلاء الشحاذين، يجيئونا فِي كل يَوْم بكتب لَا تَسَاوِي مدادها، ويقطعونا عَن أشغالنا، انْصَرف، فمالك عِنْدِي تصرف، وَلَا بر. فورد عَليّ مَا لم أر مثله، وَمَا هالني وَقطع بِي، وَكنت قد سَافَرت إِلَيْهِ، وَقطعت شقة بعيدَة، فَانْصَرَفت أسوء النَّاس حَالا. وفكرت لَيْلَتي، فَقلت: لَيْسَ إِلَّا الْعود إِلَيْهِ ومداراته، فَلَعَلَّ أَن يعطيني قدر نَفَقَة الطَّرِيق، فأتحمل بهَا. فعدت إِلَيْهِ، وخاطبته بِكُل رفق وخضوع وسؤال وَهُوَ يخْش عَليّ، ويؤيسني، إِلَى أَن قَالَ لحاجبه: أخرجه عني، وَلَا تَدعه بعْدهَا يدْخل إِلَيّ. فورد عَليّ أعظم من الأول، وَخرجت أخزى خُرُوج، وأقمت أَيَّامًا لَا أَعُود إِلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي مَا أصنع، إِلَّا أَن بقالا فِي الْمحلة الَّتِي نزلتها يعطيني خبْزًا وإداما بنسيئة. فَجَلَست إِلَيْهِ يَوْمًا وَأَنا متحير، وَالْغَم بَين عَليّ، فَسمِعت قَائِلا يَقُول: إِن الْأَمِير قد جلس للمظالم، جُلُوسًا ارْتَفع عَنهُ الْحجاب فِيهِ، ففكرت كَيفَ أعمل؟ وَذكرت الْكتاب بالسفتجة، فَقلت: أَمْشِي وأجعلها نادرة كالظلامة، فَإِن أَعْطَانِي شَيْئا، وَإِلَّا فضحته بَين رَعيته، وانصرفت. فَأخذت السفتجة، وَجئْت، فَلم أصادف بِالْبَابِ من يَمْنعنِي، فَدخلت إِلَيْهِ. فحين رَآنِي اغتاظ عَليّ، وَقَالَ لحاجبه: ألم آمُرك أَن لَا تدخل هَذَا إِلَيّ؟ فَقَالَ: كَانَ الْإِذْن عَاما، وَلم يُمَيّز. فَأقبل الْأَمِير عَليّ، فَقَالَ: ألم أقل لَك، وأؤيسك مني؟ فَمَا هَذِه الْمُلَازمَة،

كَأَن لَك عَليّ دينا، أَو سفتجة؟ فَقلت: نعم، لي على الْأَمِير، أعزه الله، سفتجة. فازداد غيظه، وَقَالَ كالمتعجب: سفتجة، سفتجة؟ فأخرجتها، فدفعتها إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا؛ عرف الْخط وَالْخطاب، فَنَكس رَأسه سَاعَة، خجلا، ثمَّ قَالَ لكاتب كَانَ بَين يَدَيْهِ، شَيْئا لَا أعلمهُ. فجذبني الْكَاتِب، وَقَالَ: إِن الْأَمِير قد تذمم مِمَّا عاملك بِهِ، وَأَمرَنِي بِدفع مائَة دِينَار إِلَيْك، فَقُمْ معي لتأخذها. فَقلت: مَا قصدت الْأَمِير ليبرني، أَنا رجل أوصلت إِلَيْهِ سفتجة بِمَال، فإمَّا قبلهَا فأعطانيه فَمَا أُرِيد غَيره، وَلَا أستزيد عَلَيْهِ، وَلَا أنقص مِنْهُ شَيْئا، وَإِمَّا كتب لي على السفتجة: رَاجِعَة، فأخذتها، وانصرفت. فساره الْكَاتِب بِمَا قلت، وَقَوي طمعي فِي الصنع، فَالْتَفت إِلَيّ الْكَاتِب، وَقَالَ: قد جعلهَا لَك الْأَمِير مِائَتي دِينَار، فانهض لتأخذها. فَقلت، لمن يَقُول هَذَا: مَا عِنْدِي غير مَا سَمِعت، ولان الْأَمِير، وتشددت، وَلم يزل الْكَاتِب يتوسط بَيْننَا، إِلَى أَن بذل خمس مائَة دِينَار. فَقلت: على شَرط أَنِّي لَا أَبْرَح من هَذَا الْمجْلس حَتَّى أقبضها وأسلمها إِلَى يَد تَاجر، وآخذ مِنْهُ سفتجة بهَا، وَيدْفَع إِلَيّ نَفَقَة تكفيني إِلَى أَن أعرف صِحَة السفتجة، ثمَّ أتحمل بباقي ذَلِك. فأجبت إِلَى ذَلِك، وأحضر التَّاجِر وَالْمَال، وَأخذت مِنْهُ سفتجة، ودفعوا لي خمسين دِينَارا للنَّفَقَة، وأقمت مُدَّة، إِلَى أَن عرفت خبر صِحَة السفتجة، وتحملت بِبَقِيَّة النَّفَقَة إِلَى بلدي. وَحصل لي المَال، فَجَعَلته بضَاعَة فِي متجر، صلحت بِهِ حَالي، إِلَى الْآن.

السبب في خلع المقتدر الخلع الثاني وعودته إلى الحكم

السَّبَب فِي خلع المقتدر الْخلْع الثَّانِي وعودته إِلَى الحكم ذكر أَصْحَاب التواريخ، ومصنفو الْكتب، وَأَبُو الْحسن عَليّ بن الْفَتْح الْكَاتِب، الْمَعْرُوف بـ: المطوق، على مَا أَخْبرنِي بِهِ أَحْمد بن يُوسُف بن يَعْقُوب التنوخي عَنهُ، فِي كِتَابه (مَنَاقِب الوزراء ومحاسن أخبارهم) ، وَمَا شَاهده أَحْمد بن يُوسُف من ذَلِك، وَجَمَاعَة حَدثُونِي بِهِ، مِمَّن شَاهد الْحَال؛ مِنْهُم: أَيُّوب بن الْعَبَّاس بن الْحسن، وَعلي، وَالقَاسِم، ابْنا هِشَام بن عبد الله الْكَاتِب، وَأَبُو الْحُسَيْن بن عَيَّاش الخرزي، خَليفَة أبي، رَحمَه الله، على الحكم بسوق الأهواز، وَمن لَا أحصي من شُيُوخنَا كَثْرَة، بِالسَّبَبِ فِي خلع المقتدر عَن الْخلَافَة الْخلْع الثَّانِي، بعبارات مُخْتَلفَة؛ معنى جَمِيعهَا: أَن الْجَيْش كُله الفرسان والرجالة شغبوا يطْلبُونَ الزِّيَادَات، ويتبسطون فِي التمَاس المحالات، وملوا أَيَّام المقتدر، وبغوا عَلَيْهِ بأَشْيَاء.

وَاتفقَ أَن سائسا لهارون بن غَرِيب الْخَال، علق بِغُلَام فِي الطَّرِيق، للْفَسَاد، فَرفع إِلَى أبي الْجُود، خَليفَة عَجِيب، غُلَام نازوك، على مجْلِس الجسر بالجانب الغربي، فجَاء غلْمَان هَارُون يخلصونه ومانعوهم، إِلَى أَن لحقه بعض أَصْحَاب نازوك، فَصَارَت بَينهم حَرْب، وانتهت

الْحَال إِلَى قصَص يطول شرحها. إِلَى أَن أطبق الْجَيْش بأسرهم على خلع المقتدر، فزحفوا إِلَى دَاره، بمواطأة من مؤنس المظفر، فقبضوا عَلَيْهِ، وَحَمَلُوهُ إِلَى دَار مؤنس، فِي يَوْم الْخَمِيس لثلاث عشرَة لَيْلَة خلت من الْمحرم سنة سبع عشرَة وَثَلَاث مائَة، فحبس فِيهَا، وخلع نَفسه، وَأشْهد عَلَيْهِ بِالْخلْعِ. وَكَانَ رَأس الْفِتْنَة، والقائم بهَا عبد الله بن حمدَان أَبُو الهيجاء، ونازوك المعتضدي، على مساعدة لَهما من مؤنس، وإطباق من الْجَيْش كلهم، وَجَاءُوا بِأبي مَنْصُور مُحَمَّد بن المعتضد بِاللَّه، فَأَجْلَسُوهُ فِي دَار الْخلَافَة، وسلموا عَلَيْهِ بهَا، ولقبوه القاهر بِاللَّه، فقلد نازوك الحجبة، مُضَافا إِلَى مَا كَانَ إِلَيْهِ من الشرطة، وَجعله صَاحب دَاره. فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ لسبع عشرَة لَيْلَة خلت مِنْهُ؛ بكر النَّاس إِلَى دَار الْخَلِيفَة لِلْبيعَةِ، وَجَاءَت إِلَى فنَاء الدَّار، مِمَّا يَلِي دجلة، جمَاعَة من الرجالة، يطالبون بِمَال الْبيعَة وَالزِّيَادَة. فجَاء نازوك وأشرف عَلَيْهِم من الرواق، وَمَعَهُ خَادِم من رُءُوس غلمانه، يُقَال لَهُ: عَجِيب، فَقَالَ لَهُم: مَا تُرِيدُونَ؟ نعطيكم ثَلَاث نَوَائِب. فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أرزاق سنة، وَزِيَادَة دِينَار، وَزَادُوا فِي القَوْل. فَقَالَ لَهُم: يصعد إِلَيّ مِنْكُم جمَاعَة، أفهم عَنْهُم، وأكلمهم، فَصَعدَ، إِلَيْهِ جمَاعَة مِنْهُم، من بَاب الْخَاصَّة، وتسلق إِلَى الرواق جمَاعَة مِنْهُم كَبِيرَة، وثاروا على غير مواطأة، وَلَا رَأْي متقرر.

فَقَالَ لَهُم نازوك: اخْرُجُوا إِلَى مجْلِس الْإِعْطَاء، حَتَّى نخرج المَال إِلَى الْكتاب، فيقبضونكم. فَقَالُوا: لَا نقبض إِلَّا هَهُنَا، وهجموا على التسعيني، يبوّقون، ويشتمون نازوك. فَمضى نازوك من بَين أَيْديهم، يُرِيد الْمَمَر فِي الطَّرِيق الَّذِي ينفذ إِلَى دجلة، وَكَانَ قد سد آخِره بالْأَمْس؛ احْتِيَاطًا لحفظ من فِي الدَّار، وتحرزا من هَرَبهمْ، فَلَمَّا رَآهُ مسدودا رَجَعَ، فَاسْتَقْبلهُ جمَاعَة من الرجالة يطلبونه. فَوَثَبَ عَلَيْهِ رجل أصفر مِنْهُم، فَضَربهُ بكلاب، وثناه آخر يكون فِي مطبخ أم المقتدر، وَله رزق فِي الرجالة، يُقَال لَهُ: سعيد، ويلقب: ضفدعا، فَقَتَلُوهُ، وَقتلُوا عجيبا، وَقَالُوا: لَا نُرِيد إِلَّا خليفتنا جَعْفَر المقتدر، وَقتل الخدم فِي الدَّار أَبَا الهيجاء، واختبأ القاهر فِي بعض الْحجر، عِنْد بعض الخدم. وَأَقْبلُوا بِرَأْس نازوك على رمح قد خرج طرفه من وسط الرَّأْس إِلَى دَار مؤنس، وهم يَقُولُونَ: مقتدر، يَا مَنْصُور. فطالبوا مؤنسا بالمقتدر، فخافهم على نَفسه، فَأخْرجهُ إِلَيْهِم، والمقتدر يستعفي من الْخُرُوج، وَيظْهر الزّهْد فِي الْخلَافَة، ويظن أَن مَا سَمعه حِيلَة على قَتله. إِلَى أَن سمع صياح النَّاس: مقتدر، يَا مَنْصُور، وَأعلم بقتل نازوك وَأبي الهيجاء، فسكن. وَقعد فِي طياره، وَانْحَدَرَ إِلَى دَاره، والرجالة يعدون على الشط بإزائه، إِلَى أَن خرج من الطيار، فالتحقوا بِهِ يقبلُونَ يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، حَتَّى دخل دَاره. وأحضر جمَاعَة من الهاشميين وَغَيرهم، فَبَايعُوهُ بيعَة ثَانِيَة، وَظهر ابْن

مقلة وزيره، وَكَانَ مستترا تِلْكَ الْأَيَّام، فأقره على الوزارة، ودبر أمره، وَزَالَ عَنهُ مَا كَانَ فِيهِ من المحنة والنكبة، وَلم ير خَليفَة أزيل عَن سَرِيره، وَأخرج من دَار ملكه، وأجلس آخر فِي مَوْضِعه، ولقب لقبا من ألقاب الْخُلَفَاء، وَتسَمى بأمير الْمُؤمنِينَ، وَأجْمع على بيعَته أهل المملكة والجيش كُله، وعَلى خلع الأول وحبسه، ثمَّ رَجَعَ إِلَى أمره وَنَهْيه، وَملكه وداره، فِي مُدَّة خَمْسَة أَيَّام، بِلَا سَبَب ممهد، وَلَا مواطأة لأحد، وَلَا مُشَاورَة، وَلَا مراسلة، إِلَّا مَا اتّفق فِي أَمر المقتدر، وأخيه القاهر.

خلع الأمين وعودته إلى الحكم

خلع الْأمين وعودته إِلَى الحكم قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب، وعَلى أَنه قد كَانَ جرى على مُحَمَّد الْأمين قريب من هَذَا، لما قبض عَلَيْهِ الْحُسَيْن بن عَليّ بن عِيسَى بن ماهان، وخلعه وحبسه، وعزم على أَن ينفذهُ إِلَى الْمَأْمُون، ثمَّ إِن الْجَيْش طالبوه بأرزاقهم، فَلم يكن مَعَه، مَا يَجعله لَهُم، فَوَعَدَهُمْ، فشغبوا وَلم يرْضوا بالوعد، وَاسْتَخْرَجُوا الْأمين من حَبسه، فَبَايعُوهُ ثَانِيًا، وردوه، وهرب الْحُسَيْن بن عَليّ، وزالت عَن الْأمين تِلْكَ الشدَّة، والقصة فِي ذَلِك مَشْهُورَة، رَوَاهَا أَصْحَاب التواريخ، بِمَا يطول اقتصاصه هُنَا، إِلَّا أَنه لم يجلس على سَرِيره خَليفَة آخر.

كيف خلع المقتدر الخلع الأول

كَيفَ خلع المقتدر الْخلْع الأول قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ المحسن ابْن القَاضِي أبي الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد التنوخي، رَحمَه الله تَعَالَى: وَقد جرت على المقتدر بِاللَّه شدَّة أُخْرَى، وَفرج الله عَنهُ، فِي قصَّة تشبه قصَّة الْأمين، سَوَاء بِسَوَاء، لما أجمع جَمِيع القواد والحاشية، على أَن قتلوا الْعَبَّاس بن الْحسن الْوَزير، وخلعوا المقتدر من الْخلَافَة الْخلْع الأول، وَبَايَعُوا ابْن المعتز، وأحضروه من دَاره إِلَى دَار سُلَيْمَان بن وهب المرسومة، إِذْ ذَاك، بالوزراء، وَجلسَ يَأْخُذ الْبيعَة على الْقُضَاة والأشراف والكافة، وَيُدبر الْأُمُور، ووزيره مُحَمَّد بن دَاوُد بن الْجراح، يُكَاتب أهل الْأَطْرَاف والعمال والأكناف بِخَبَر تقلدهما، وَقد تلقب بـ: الْمُنْتَصر بِاللَّه، وخوطب بالخلافة، وَأمره فِي نِهَايَة الْقَوْم، وَهُوَ على أَن يسير إِلَى دَار الْخلَافَة، فيجلس بهَا، وَيقبض على المقتدر، إِلَّا أَنه أخر ذَلِك؛ لتتكامل الْبيعَة، وتنفذ الْكتب، ويسير من غَد. وَكَانَ سوسن حَاجِب المقتدر، وَالْمُتوَلِّيّ لأمور دَاره، والغلمان المرسومين بحمايتها، مِمَّن وَافق ابْن المعتز، وَدخل مَعَ القواد فِيمَا دخلُوا فِيهِ، وَشرط

عَلَيْهِ أَن يُقَرّ على مَا إِلَيْهِ، وَيُزَاد شرطة بَغْدَاد. فَلَمَّا جلس ابْن المعتز فِي الْيَوْم الأول؛ كَانَ الْمُتَوَلِي لإيصال النَّاس إِلَيْهِ، وَالْخَادِم بِحَضْرَتِهِ فِيمَا يخْدم فِيهِ الْحَاجِب، أحد الخدم غَيره. فَبلغ ذَلِك سوسنا، فشق عَلَيْهِ، وتوهم أَن ذَلِك غدر بِهِ، وَرُجُوع عَمَّا شَرط، وووقف عَلَيْهِ، فَدَعَا الخدم، وغلمان الدَّار إِلَى نصْرَة المقتدر، فَأَجَابُوهُ فأغلق الْأَبْوَاب، وَأخذ أهبة الْحَرْب. وَأصْبح ابْن المعتز، فِي الْيَوْم الثَّانِي من بيعَته، وَهُوَ يَوْم الْأَحَد لسبع بَقينَ من شهر ربيع الأول، سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ، عَامِدًا على الْمسير إِلَى الدَّار، فثبطه مُحَمَّد بن دَاوُد، وعرفه رُجُوع رَأْي سوسن، عَمَّا كَانَ وَافق عَلَيْهِ. وصغّر القواد ذَلِك فِي نَفسه، فَلم يتشاغل بتلافيه، وأشاروا عَلَيْهِ بالركوب إِلَى دَار الْخلَافَة، وهم لَا يَشكونَ فِي تَمام الْأَمر، فَركب وهم مَعَه. وانقلبت الْعَامَّة مَعَ المقتدر، ورموا ابْن المغتر بالستر، وحاربوه مَعَ شرذمة أنفذهم سوسن لحربه مِمَّن أطاعه على نصْرَة المقتدر. وَلما شَاهد ابْن المعتز الصُّورَة؛ انهزم وهرب، وانحل ذَلِك الْأَمر الْعَظِيم كُله، وتفرق القواد، وَسَار بَعضهم خَارِجا عَن بَغْدَاد، وروسل باقيهم عَن المقتدر بالتلافي، فسكنوا، وعادوا إِلَى طَاعَته. وَطلب ابْن المعتز فَوجدَ، وَجِيء بِهِ إِلَى دَار الْخلَافَة، فحبس فِيهَا، ثمَّ قتل، وَكَانَت مدَّته، مُنْذُ ظهر يَوْم السبت، إِلَى قريب من الظّهْر من يَوْم الْأَحَد.

وَعَاد الْأَمر مُسْتَقِيمًا للمقتدر بِاللَّه، وانفرجت لَهُ تِلْكَ الشدَّة، عَن ثبات الْملك لَهُ. وَقد شرح هَذَا أَصْحَاب التواريخ، بِمَا لَا وَجه لإعادته هَهُنَا.

بعث الفضل بن سهل خدابود لقتال خارجي فجاء برأسه

بعث الْفضل بن سهل خدابود لقِتَال خارجي فجَاء بِرَأْسِهِ وَذكر عبد الله بن بشر، قرَابَة الْفضل بن سهل، قَالَ: كَانَ الْفضل إِذا دخل مَدِينَة السَّلَام، من السيب، مَوضِع قَرْيَة، لحوائجه، وَهُوَ، إِذْ ذَاك، صَغِير الْحَال، نزل على فامي بهَا، يُقَال لَهُ: خدابود، فيخدمه هُوَ وَأهل بَيته، وَيَقْضِي حَوَائِجه إِلَى أَن يعود. وتقضت الْأَيَّام، وَبلغ الْفضل مَعَ الْمَأْمُون مَا بلغ، بخراسان، وَقضي أَن الفامي ألح عَلَيْهِ الزَّمَان بنكبات مُتَّصِلَة، حَتَّى افْتقر، فَنَهَضَ إِلَى الْفضل بن سهل. وَقدم مرو، فَبَدَأَ بِي، فسررت بِهِ وأكرمته، وأصلحت من شَأْنه مَا يجب أَن يصلح لدُخُوله على الْفضل، وَقمت فَدخلت إِلَى الْفضل، وَقد جلس على مائدته. فَقلت لَهُ: أَتَذكر الشَّيْخ الفامي، الَّذِي كُنَّا ننزل عَلَيْهِ بِبَغْدَاد؟ فَقَالَ لي: سُبْحَانَ الله! تَقول لي تذكره، وَله علينا من الْحُقُوق مَا قد

علمت؟ فَكيف ذكرته؟ أَظن إنْسَانا أخْبرك بِمَوْتِهِ. فَقلت: هوذا فِي منزلي. فاستطير فَرحا، وَقَالَ: هاته السَّاعَة، ثمَّ رفع يَده، وَقَالَ: لَا آكل، أَو يَجِيء. فَقُمْت وَجئْت بِهِ، فحين قرب مِنْهُ؛ تطاول لَهُ، وَأَجْلسهُ بَين يَدَيْهِ، فِيمَا بيني وَبَينه، وَأَقْبل عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا هَذَا، مَا حَبسك عَنَّا طول هَذِه الْمدَّة؟ فَقَالَ: محن عاقبتي، ونكبات أصابتني. فَأقبل يسائله عَن وَاحِدَة وَاحِدَة من بَنَاته وَأَهله. فَقَالَ لَهُ: لم يبْق لي بعْدك ولد، وَلَا أهل، وَلَا مَال إِلَّا تلف، وَمَا تحملت إِلَيْك، إِلَّا من قرض وَمَسْأَلَة، فكاد الْفضل يبكي. فَلَمَّا استتم غداءه؛ أَمر لَهُ بِثِيَاب فاخرة، ومركوب، وَمَال لنفقته، وَأَن يدْفع إِلَيْهِ منزل وأثاث، وَاعْتذر إِلَيْهِ، ووعده النّظر فِي أمره. فَلَمَّا كَانَ من غَد؛ حضر عِنْده وكلاء تجار بَغْدَاد، وَكَانُوا قد قدمُوا عَلَيْهِ، يَبْتَغُونَ بيع غلات السوَاد مِنْهُ، وَأَعْطوهُ عطايا لم يجب إِلَيْهَا. فأحضرني، وَقَالَ: قد علمت مَا دَار بيني وَبَين هَؤُلَاءِ، فَاخْرُج إِلَيْهِم، وأعلمهم أَنِّي قد أنفذت البيع لَهُم بِمَا التمسوا، على أَن يجْعَلُوا لخدابود مَعَهم الرّبع. فَفعلت ذَلِك، وَأجَاب التُّجَّار، وفرحوا بِمَا تسهل لَهُم. ثمَّ قَالَ لخدابود: إِنَّهُم سيهولون عَلَيْك بِكَثْرَة الْمُؤَن، ويبذلون لَك مائَة ألف دِرْهَم على أَن تخرج من الشّركَة، فاحذر أَن تفعل، وَلَا تخرج بِأَقَلّ من خمسين ألف دِينَار. ثمَّ قَالَ: اخْرُج مَعَه، وتوسط فِيمَا بَينهم وَبَينه، فَفعلت ذَلِك،

وَلم أقنع حَتَّى قدم التُّجَّار لخدابود خمسين ألف دِينَار، وَدخل، فَعرف الْفضل مَا جرى، وشكره، وَأقَام مَعنا مُدَّة. ثمَّ دخل إِلَيْهِ يَوْمًا، وَالْفضل مغموم مفكر، فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، مَا الَّذِي قد بلغ بك إِلَى مَا أرى من الْفِكر وَالْغَم؟ قَالَ: أَمر لَا أَحسب لَك فِيهِ عملا، يَا خدابود. قَالَ: فَأَخْبرنِي بِهِ، فَإِن كَانَ عِنْدِي فِيهِ مَا يفرجه عَنْك، وَإِلَّا فَفِي الشكوى رَاحَة. قَالَ لَهُ الْفضل: إِن خارجيا قد خرج علينا بِبَعْض كور خُرَاسَان، وَنحن على إضاقة من المَال، وَأكْثر عساكرنا قد جردوا إِلَى بَغْدَاد، والخارجي يقوى فِي كل يَوْم، وَأَنا مرتبك فِي هَذَا الْأَمر. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، مَا ظَنَنْت الْأَمر إِلَّا أصعب من هَذَا، وَمَا هَذَا حَتَّى تفكر فِيهِ؟ أَنْت قد فتحت الْعرَاق، وَقتلت المخلوع، وأزلت مثل تِلْكَ الدولة، وتهتم بِهَذَا اللص الَّذِي لَا مَادَّة لَهُ؟ أنفذني إِلَيْهِ أَيهَا الْأَمِير، فَإِن أَتَيْتُك بِهِ، أَو بِرَأْسِهِ، بإقبالك، فَهُوَ الَّذِي تُرِيدُ، وَإِن قتلت؛ لم تنثلم الدولة بفقدي، على أَنِّي أعلم أَن بختك لَا يُخطئ فِي هَذَا الْمِقْدَار الْيَسِير. قَالَ: ففكر الْفضل سَاعَة، ثمَّ الْتفت إِلَيّ، فَقَالَ: لَعَلَّ الله يُرِيد أَن يعرفنا قدرته بخدابود. ثمَّ لفق رجَالًا، واحتال مَالا، ففرقه عَلَيْهِم، وخلع على خدابود، وقلده حَرْب الْخَارِجِي، والبلد الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَسَار خدابود بالعسكر، فَلَمَّا شَارف عَسْكَر الْخَارِجِي؛ جمع وجوده عسكره، وَقَالَ لَهُم: إِنِّي لست من أهل الْحَرْب، وأعول على نصْرَة الله، تَعَالَى، لخليفته على الْعباد، وعَلى إقبال الْأَمِير، وَلَيْسَ هَذَا الْخَارِجِي من أهل

المدد، وَإِنَّمَا هُوَ لص لَا شَوْكَة لَهُ، فاعملوا عمل واثق بالظفر، وَلَا تقنعوا بِدُونِ الْوُصُول إِلَيْهِ، وَلكم إِن جئْتُمْ بِهِ، أَو بِرَأْسِهِ، كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فحملوا وحققوا، فانجلت الْحَرْب عَن الْخَارِجِي قَتِيلا، فاحتز رَأسه. وَكتب خدابود إِلَى الْفضل: لست مِمَّن يحسن كتب الْفتُوح، وَلَا غَيرهَا، وَلَكِن الله جلت عَظمته قد أظفرنا بالخارجي، وَحصل رَأسه معي، وتفرق أَصْحَابه، وَأَنا أستخلف على النَّاحِيَة، وأسير بِرَأْسِهِ. قَالَ: وتلا الْكتاب مَجِيء خدابود بِالرَّأْسِ، فعجبنا مِمَّا تمّ لَهُ، وعلت حَاله مَعَ الْفضل.

موت زياد يفرج عن ابن أبي ليلى

موت زِيَاد يفرج عَن ابْن أبي ليلى وَذكر أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي، فِي كِتَابه: كتاب (الْفرج بعد الشدَّة والضيقة) ، عَن مُحَمَّد بن الْحجَّاج، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: كتب مُعَاوِيَة، إِلَى زِيَاد: إِنَّه قد تلجلج فِي صَدْرِي شَيْء من أَمر حُجْر بن عدي، فَابْعَثْ لي رجلا من أهل الْمصر، لَهُ فضل وَدين وَعلم، فَدَعَا عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، فَقَالَ لَهُ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ كتب إِلَيّ يَأْمُرنِي أَن أوجه إِلَيْهِ رجلا من أهل الْمصر، لَهُ دين وَفضل وَعلم؛ ليسأله عَن حجر بن عدي، فكنتَ عِنْدِي ذَلِك الرجل، فإياك أَن تقبح لَهُ رَأْيه فِي حجر، فأقتلك،

وَأمر لَهُ بألفي دِرْهَم، وكساه حلتين، وَحمله على راحلتين. قَالَ عبد الرَّحْمَن: فسرت، وَمَا فِي الأَرْض خطْوَة، أَشد عَليّ، من خطْوَة تدنيني إِلَى مُعَاوِيَة. فَقدمت بَابه، فاستأذنت، فَأذن لي، فَدخلت، فَسَأَلَنِي عَن سَفَرِي، وَمن خلفت من أهل الْمصر، وَعَن خبر الْعَامَّة والخاصة. ثمَّ قَالَ لي: انْطلق فضع ثِيَاب سفرك , والبس الثِّيَاب الَّتِي لحضرك، وعد. فَانْصَرَفت إِلَى منزلي، ثمَّ رجعت إِلَيْهِ، فَذكر حجرا، ثمَّ قَالَ: أما وَالله، لقد تلجلج فِي صَدْرِي مِنْهُ شَيْء، ووددت أَنِّي لم أكن قتلته. قلت: وَأَنا، وَالله، يَا مُعَاوِيَة، وددت أَنَّك لم تقتله، فَبكى. فَقلت: وَالله، لَوَدِدْت أَنَّك حَبسته. فَقَالَ لي: وددت أَنِّي كنت فرقتهم فِي كور الشَّام، فتكفينيهم الطواعين. قلت: وددت ذَلِك. فَقَالَ لي: كم أَعْطَاك زِيَاد؟ قلت: أَلفَيْنِ، وكساني حلتين، وحملني على راحلتين. قَالَ: فلك مثل مَا أَعْطَاك، اخْرُج إِلَى بلدك. فَخرجت وَمَا فِي الأَرْض شَيْء عَليّ من أَمر يدنيني من زِيَاد؛ مَخَافَة مِنْهُ. فَقلت: آتِي الْيمن، ثمَّ فَكرت، فَقلت: لَا أخْفى بهَا. فأجمعت على أَن أُتِي لعض عَجَائِز الْحَيّ، فأتوارى عِنْدهَا، إِلَى أَن يَأْتِي الله بالفرج من عِنْده. قَالَ: وقدمت الْكُوفَة، فَأمر بجهينة الظَّاهِرَة، حِين طلع الْفجْر، ومؤذنهم يُؤذن.

فَقلت: لَو صليت، فَنزلت، فصرت فِي الْمَسْجِد، حَتَّى أَقَامَ الْمُؤَذّن. فَلَمَّا قضينا الصَّلَاة؛ إِذا رجل فِي مُؤخر الصَّفّ، يَقُول: هَل علمْتُم مَا حدث البارحة؟ قَالُوا: وَمَا حدث؟ قَالَ: مَاتَ الْأَمِير زِيَاد. قَالَ: فَمَا سررت بِشَيْء، كسروري بذلك.

خرج يريد خالدا القسري فأعطاه الحكم فأغناه

خرج يُرِيد خَالِدا الْقَسرِي فَأعْطَاهُ الحكم فأغناه وَقد أَخْبرنِي عَليّ بن دبيس، عَن الْخُزَاعِيّ الْمَدَائِنِي، عَن أبي عمر الزَّاهِد، وَقد لقِيت أَبَا عمر، وحملت مِنْهُ شَيْئا من علومه ورواياته، وَأَجَازَ لي كل مَا صَحَّ مِنْهَا، فَدخل هَذَا فِي إِجَازَته. وَحدثنَا أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد الْوراق، فِي كتاب (نسب قُرَيْش) ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان الطوسي، قَالَ: حَدثنَا الزبير بن بكار، قَالَ: أَخْبرنِي عمي مُصعب، عَن نَوْفَل بن عمَارَة: أَن رجلا من قُرَيْش، من بني أُمِّي، لَهُ قدر وخطر، لحقه دين، وَكَانَ لَهُ مَال من نخل وَزرع، فخاف أَن يُبَاع عَلَيْهِ، فشخص من الْمَدِينَة يُرِيد الْكُوفَة، يقْصد خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، وَكَانَ واليا لهشام عبد الْملك على الْعرَاق، وَكَانَ يبر من قدم عَلَيْهِ من قُرَيْش. فَخرج الرجل يُريدهُ، وَأعد لَهُ من طرف الْمَدِينَة، حَتَّى قدم فيد، فَأصْبح بهَا. فَرَأى فسطاطا، عِنْده جمَاعَة، فَسَأَلَ عَنهُ، فَقيل: للْحكم بن عبد الْمطلب؛

يَعْنِي: أَبَا عبد الله بن عبد الْمطلب بن حَنْظَلَة بن الْحَارِث بن عبيد بن عَمْرو بن مَخْزُوم، وَكَانَ يَلِي المشاعر، فَلبس نَعْلَيْه، وَخرج حَتَّى دخل عَلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ؛ قَامَ إِلَيْهِ فَتَلقاهُ، وَسلم عَلَيْهِ وَأَجْلسهُ فِي صدر فرَاشه، ثمَّ سَأَلَهُ عَن مخرجه، فَأخْبرهُ بِدِينِهِ، وَمَا أَرَادَ من إتْيَان خَالِد بن عبد الله. فَقَالَ الحكم: انْطلق بِنَا إِلَى مَنْزِلك، فَلَو علمت بمقدمك لسبقتك إِلَى إتيانك، فَمضى مَعَه، حَتَّى أَتَى منزله، فَرَأى الْهَدَايَا الَّتِي أعدهَا لخَالِد، فَتحدث سَاعَة مَعَه. ثمَّ قَالَ: إِن منزلنا أحضر عدَّة، وَأَنْتُم مسافرون، وَنحن مقيمون، فأقسمت عَلَيْك إِلَّا قُمْت معي إِلَى الْمنزل، وَجعلت لنا من هَذِه الْهَدَايَا نَصِيبا. فَقَامَ الرجل مَعَه، وَقَالَ: خُذ مِنْهَا مَا أَحْبَبْت، فَأمر بهَا، فَحملت كلهَا إِلَى منزله، وَجعل الرجل يستحي أَن يمنعهُ شَيْئا، حَتَّى صَار إِلَى الْمنزل. فَدَعَا بالغداء، وَأمر بالهدايا، ففتحت، فَأكل مِنْهَا، وَمن حَضَره، ثمَّ أَمر ببقيتها فَرفعت إِلَى خزانته، وَقَامَ النَّاس. ثمَّ أقبل على الرجل، وَقَالَ لَهُ: أَنا أولى بك من خَالِد، وَأقرب مِنْهُ رحما ومنزلا، وَهَهُنَا مَال للغارمين، أَنْت أولى النَّاس بِهِ، وَأقرب، وَلَيْسَ لأحد عَلَيْك فِيهِ منَّة، إِلَّا الله، تَعَالَى، تقضي بِهِ دينك، ثمَّ دَعَا لَهُ بكيس فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، فَدفعت إِلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: قد قرب الله، جلت عَظمته، عَلَيْك الخطوة، فَانْصَرف إِلَى أهلك مصاحبا، مَحْفُوظًا. فَقَامَ الرجل من عِنْده، يَدْعُو لَهُ ويشكره، وَلم يكن لَهُ همة إِلَّا الرُّجُوع إِلَى أَهله، وَانْطَلق الحكم يشيعه.

ثمَّ قَالَ: كَأَنِّي بزوجتك، قد قَالَت: أَيْن طرائف الْعرَاق، خزها، وبزها، وعروضها؟ أما كَانَ لنا مِنْهَا نصيب؟ ثمَّ أخرج صرة قد كَانَ حملهَا مَعَه، فِيهَا خمس مائَة دِينَار، فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمت عَلَيْك، إِلَّا جعلت هَذِه عوضا عَن هَدَايَا الْعرَاق، وَانْصَرف. وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، هَذَا الْخَبَر، فِي كِتَابه: (كتاب الْفرج بعد الشدَّة) ، بِغَيْر إِسْنَاد، على قريب من هَذِه الْعبارَة.

لا بارك الله في مال بعد عثمان

لَا بَارك الله فِي مَال بعد عُثْمَان وَذكر أَيْضا فِي كِتَابه، بِغَيْر إِسْنَاد: أَن عُثْمَان بن طَلْحَة، رَكبه دين فادح، مبلغه ألفا دِينَار، فَأَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الْعرَاق؛ لمسألة السُّلْطَان قَضَاءَهُ عَنهُ. فَلَمَّا عزم على السّفر؛ اتَّصل خَبره بأَخيه بن طَلْحَة، فَقَالَ: لَا بَارك الله فِي مَال بعد عُثْمَان. فَدخل على نِسَائِهِ، فَجعل يخلع حليهن، حَتَّى جمع لَهُ أَكثر من ألفي دِينَار فَدَفعهَا إِلَيْهِ. فَقضى دينه، وَأقَام.

رفع صوته بالتلبية فحملت إليه أربعة آلاف دينار

رفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ فَحملت إِلَيْهِ أَرْبَعَة آلَاف دِينَار وَحدثنَا أَحْمد بن عبد الله، فِي هَذَا الْكتاب: كتاب (نسب قُرَيْش) ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدثنَا الزبير، قَالَ: حَدثنِي مفضل بن غَسَّان، عَن أَبِيه، عَن رجل من قُرَيْش، قَالَ: حج مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، من بني تيم بن مرّة، قَالَ: وَكَانَ معطاء، فَأعْطى حَتَّى بَقِي فِي إِزَار وَاحِد، وَحج مَعَه أَصْحَابه. فَلَمَّا نزل الروحاء؛ أَتَاهُ وَكيله، فَقَالَ: مَا مَعنا نَفَقَة، وَمَا بَقِي مَعنا دِرْهَم. فَرفع مُحَمَّد صَوته بِالتَّلْبِيَةِ، فلبى، ولبى أَصْحَابه، ولبى النَّاس، وبالماء مُحَمَّد بن هِشَام. فَقَالَ: وَالله، إِنِّي لأَظُن أَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر بِالْمَاءِ، فانظروا. فنظروا، وأتوه فَقَالُوا: هُوَ بِالْمَاءِ. فَقَالَ: مَا أَظن مَعَه درهما، احملوا إِلَيْهِ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم.

يزيد بن عبد الملك بن مروان يصف عمر بن هبيرة بالرجلة ويوليه العراق

يزِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان يصف عمر بن هُبَيْرَة بالرجلة ويوليه الْعرَاق قَالَ: وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، قَالَ: نَالَتْ عمر بن هُبَيْرَة إضاقة شَدِيدَة، فَأصْبح ذَات يَوْم فِي نِهَايَة الكسل، وضيق الصَّدْر والضجر مِمَّا هُوَ فِيهِ. فَقَالَ لَهُ أَهله ومواليه: لَو ركبت فَلَقِيت أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَلَعَلَّهُ، إِذا رآك، أَن يجْرِي لَك شَيْئا فِيهِ محبَّة، أَو يَسْأَلك عَن حالك، فتخبره. فَركب، فَدخل على يزِيد بن عبد الْملك، فَوقف بَين يَدَيْهِ سَاعَة، وخاطبه. ثمَّ نطر يزِيد بن عبد الْملك إِلَى وَجه عمر، وَقد تغير تغيرا شَدِيدا، أنكرهُ، فَقَالَ: أَتُرِيدُ الْخَلَاء؟ قَالَ: لَا. قَالَ: إِن لَك لشأنا. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أجد بَين كتفيّ أَذَى، لَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ يزِيد بن عبد الْملك: انْظُرُوا مَا هُوَ. فنظروا، فَإِذا بَين كَتفيهِ عقرب، قد ضَربته عدَّة ضربات. قلم يبرح حَتَّى كتب عَهده على الْعرَاق، وَجعل يزِيد بن عبد الْملك يصفه بالرجلة، وَشدَّة الْقلب.

كان خالد القسري لا يملك إلا ثوبه فجاءه الفرج بولاية العراق

كَانَ خَالِد الْقَسرِي لَا يملك إِلَّا ثَوْبه فَجَاءَهُ الْفرج بِولَايَة الْعرَاق وَذكر أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه: أَن خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، أَصَابَته إضاقة شَدِيدَة، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَات يَوْم من منزله، إِذْ أَتَاهُ رَسُول هِشَام بن عبد الْملك يَدعُوهُ لولاية الْعرَاق، فَتلوم، فاستحثه الرَّسُول. فَقَالَ لَهُ خَالِد: رويدا حَتَّى يجِف قَمِيصِي، وَقد كَانَ غسله قبل موافاة الرَّسُول، وَلم يكن بَقِي لَهُ غَيره. فَقَالَ لَهُ الرَّسُول: يَا هَذَا، أسْرع فِي الْإِجَابَة، فَإنَّك تدعى إِلَى قمصان كَثِيرَة. فجَاء إِلَى هِشَام، فولاه الْعرَاق.

يهلك ملوكا ويستخلف آخرين

يهْلك ملوكا ويستخلف آخَرين قَالَ: وَمن العجوبات، مَا ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، عَن عَليّ بن الْهَيْثَم، قَالَ: رَأَيْت شَيْئا قَلما رئي مثله؛ رَأَيْت ثقل الْفضل بن الرّبيع على ألف بعير، ثمَّ رَأَيْت ثقله فِي زنبيل، وَنحن مستترون، وَفِيه أدوية لعلته، وَهُوَ يَنْقُلهُ من مَوضِع إِلَى مَوضِع. وَرَأَيْت الْحسن بن سهل، وَكَانَ مَعَ طريف خادمي فِي بَيت الدهليز، وَثقله فِي زنبيل، فِيهِ نَعْلَانِ، وقميصان، وَإِزَار، وإسطرلاب، وَمَا أشبه ذَلِك، ثمَّ رَأَيْت ثقله على ألف بعير.

باع من إضاقته لجام دابته في الصباح وحصلت له عشرون ألف دينار وقت الظهر

بَاعَ من إضاقته لجام دَابَّته فِي الصَّباح وحصلت لَهُ عشرُون ألف دِينَار وَقت الظّهْر قَالَ: وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم مَيْمُون بن مُوسَى، قَالَ: خرج رجل من الكتّاب فِي عَسْكَر المعتصم إِلَى مصر، يُرِيد التَّصَرُّف، فَلم يحظ بِشَيْء مِمَّا أمّل، وَدخل المعتصم بِاللَّه مصر. قَالَ: فَحَدثني بعض المتصرفين عَنهُ، قَالَ: نزلت فِي دَار بِالْقربِ مِنْهُ، فَحَدثني الرجل بِمَا كنت وقفت على بعضه. قَالَ: أَصبَحت ذَات يَوْم، وَقد نفدت نفقتي، وتقطعت ثِيَابِي، وَأَنا من الْهم وَالْغَم، على مَا لَا يُوصف عظما. فَقَالَ لي غلامي: يَا مولَايَ، أَي شَيْء نعمل الْيَوْم؟ فَقلت لَهُ: خُذ لجام الدَّابَّة، فبعه، فَإِنَّهُ محلي، وابتع مَكَانَهُ لجاما حديدا، واشتر لنا خبْزًا سميذا، وجديا سمينا، فقد قرمت إِلَى أكلهما، وَعجل، وَلَا تدع أَن تبْتَاع فِيمَا تبتاعه كوز نَبِيذ شيروي. فَمضى الْغُلَام، وَجَلَست أفكر فِي أَمْرِي، وَمن أُلَاقِي، وَكَيف أعمل، وَإِذا بِبَاب الدَّار قد دق دقا عنيفا، حَتَّى كَاد أَن يكسر، وَإِذا رهج شَدِيد.

فَقلت لغلام كَانَ وَاقِفًا بَين يَدي: بَادر، فَانْظُر مَا هَذَا. فَإلَى أَن يفتح الْبَاب، كسر، وامتلأت الدَّار بالغلمان الأتراك وَغَيرهم، وَإِذا بأشناس، وَهُوَ حَاجِب المعتصم، وَمُحَمّد بن عبد الْملك الزيات، وَهُوَ الْوَزير، قد دخلا. فطرحت لَهُم زلية، فَجَلَسَا عَلَيْهَا، وَإِذا مَعَهُمَا حفارون. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك؛ بادرت فَقبلت أَيْدِيهِمَا، فسألاني عَن خبري، فخبرتهما إِيَّاه، وأنني قد خرجت فِي جملَة أهل الْعَسْكَر؛ طلبا للتَّصَرُّف، وَذكرت حَالي وَمَا قد آلت إِلَيْهِ، فوعداني جميلا، والحفارون يحفرون فِي وسط الدَّار، حَتَّى ترتجل النَّهَار، وَأَنا وَاقِف بَين أَيْدِيهِمَا، وَرُبمَا حدثتهما. فَالْتَفت أشناس إِلَى مُحَمَّد بن عبد الْملك، فَقَالَ: أَنا، وَالله، جَائِع. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: وَأَنا، وَالله، كَذَلِك. فَقلت عِنْد ذَلِك: يَا سَيِّدي، عِنْد خادمكما شَيْء قد اتخذ لَهُ، فَإِن أذنتما فِي إِحْضَاره أحضرهُ. فَقَالَا: هَات. فَقدمت الجدي، وَمَا كَانَ ابتيع لنا، فأكلا، واستوفيا، وغسلا أَيْدِيهِمَا. ثمَّ قَالَ لي أشناس: عنْدك من ذَلِك الْفَنّ؟ قلت: نعم، فسقيتهما ثَلَاثَة أقداح.

وَجعل أَحدهمَا يَقُول للْآخر: ظريف، وَمَا يَنْبَغِي لنا أَن نضيعه البائس. فَبَيْنَمَا الْحَال على ذَلِك، إِذْ ارْتَفع تَكْبِير الحفارين، وَإِذا هم قد كشفوا عَن عشْرين مرجلا دَنَانِير، فوجهوا بالبشارة إِلَى المعتصم، وأخرجت المراجل. فَلَمَّا نهضا؛ قَالَ أَحدهمَا للْآخر: فَهَذَا الشقي الَّذِي أكلنَا طَعَامه، وشربنا شرابه، ندعه هَكَذَا؟ فَقَالَ لَهُ الآخر: فنعمل مَاذَا؟ قَالَ: نحفن لَهُ من كل مرجل حفْنَة، لَا تُؤثر فِيهِ، فنكون قد أغنيناه، ونصدق أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن الحَدِيث. ثمَّ قَالَا: افْتَحْ حجرك، وَجعل كل وَاحِد، يحفن لي حفْنَة، من كل مرجل، وأخذا المَال، وانصرفا. فَنَظَرت، فَإِذا قد حصل لي عشرُون ألف دِينَار، فَانْصَرَفت بهَا إِلَى الْعرَاق، وابتعت بهَا ضيَاعًا ولزمت منزلي، وَتركت التَّصَرُّف.

سبحان خالقك يا أبا قلابة فقد تنوق في قبح وجهك

سُبْحَانَ خالقك يَا أَبَا قلَابَة فقد تنوق فِي قبح وَجهك وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أبي قلَابَة الْمُحدث، قَالَ: ضقت ضيقَة شَدِيدَة، فَأَصْبَحت ذَات يَوْم، والمطر يَجِيء كأفواه الْقرب، وَالصبيان يتضورون جوعا، وَمَا معي حَبَّة وَاحِدَة فَمَا فَوْقهَا، فَبَقيت متحيرا فِي أَمْرِي. فَخرجت وَجَلَست فِي دهليزي، وَفتحت بَابي، وَجعلت أفكر فِي أَمْرِي، وَنَفْسِي تكَاد تخرج غما لما ألاقيه، وَلَيْسَ يسْلك الطَّرِيق أحد من شدَّة الْمَطَر. فَإِذا بِامْرَأَة نبيلة، على حمَار فاره، وخادم أسود آخذ بلجام الْحمار، يَخُوض فِي الوحل، فَلَمَّا صَار بِإِزَاءِ دَاري؛ سلم، وَقَالَ: أَيْن منزل أبي قلَابَة؟ فَقلت لَهُ: هَذَا منزله، وَأَنا هُوَ. فسألتني عَن مَسْأَلَة، فأفتيتها فِيهَا، فصادف ذَلِك مَا أحبت، فأخرجت

من خفها خريطة، فَدفعت إِلَيّ مِنْهَا ثَلَاثِينَ دِينَارا. ثمَّ قَالَت: يَا أَبَا قلَابَة، سُبْحَانَ خالقك! فقد تنوق فِي قبح وَجهك، وانصرفت.

المنصور العباسي يتذكر ما ارتكب من العظائم فيبكي وينتحب

الْمَنْصُور العباسي يتَذَكَّر مَا ارْتكب من العظائم فيبكي وينتحب وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: دخل عَمْرو بن عبيد على أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، قبل دولة بني الْعَبَّاس، وَكَانَ صديقه، وَبَين يَدَيْهِ طبق عَلَيْهِ رغيف، وغضارة فِيهَا فضلَة سكباج، وَهُوَ يتغدى، وَقد كَاد يفرغ، فَلَمَّا بصر عَمْرو؛ قَالَ: يَا جَارِيَة، زيدينا من هَذَا السكباج، وهاتي خبْزًا. قَالَت: لَيْسَ عندنَا خبز، وَمَا بقى من السكباج شَيْء. قَالَ: فارفعي الطَّبَق، ثمَّ قَالَ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَاف: 129] فَلَمَّا أفْضى الْأَمر إِلَى أبي جَعْفَر، وارتكب العظائم؛ دخل عَلَيْهِ عَمْرو بن عبيد، فوعظه، ثمَّ قَالَ: أَتَذكر يَوْمًا دخلت عَلَيْك. . . وَأعَاد الحَدِيث، وَقد استخلفك، فَمَاذَا عملت؟ فَجعل الْمَنْصُور يبكي وينتحب، وَفِيه حَدِيث طَوِيل.

إن قرح الفؤاد يجرح جرحا

إِن قرح الْفُؤَاد يجرح جرحا وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، قَالَ: رُوِيَ لنا عَن خَالِد بن أَحْمد البطحاوي، مولى آل جَعْفَر بن أبي طَالب، قَالَ: تزوجت امْرَأَة، فَبينا أَنا ذَات لَيْلَة من ليَالِي الْعرس، وَلَيْسَ عندنَا قَلِيل وَلَا كثير، وَأَنا أهم النَّاس بذلك، إِذْ جَاءَتْنِي امْرَأَتَانِ، فطرقتا بَاب منزلي، فَخرجت إِلَيْهِمَا، فَإِذا بِجَارِيَة شَابة، وَأُخْرَى نَصَف. فَقَالَت: أَنْت خَالِد البطحاوي؟ قلت: نعم. قَالَت: أحب أَن تنشدنا قَوْلك: خلفوني بِبَطن حام، فأنشدتهما: خلفوني بِبَطن حام صَرِيعًا ... ثمَّ ولوا وغادروني صبحا جمع الله بَين كل محب ... ذبحوه بشفرة الْحبّ ذبحا غادر الْحبّ فِي فُؤَادِي قرحا ... إِن قرح الْفُؤَاد يجرح جرحا قَالَ: فرمت إِلَيّ الشَّابَّة بدملج ذهب، وانصرفتا، فَبِعْته بجملة دَرَاهِم، واتسعت بهَا.

أبو عمر القاضي يصبح وليس عنده درهم واحد فيجيئه الفرج في وقت قريب

أَبُو عمر القَاضِي يصبح وَلَيْسَ عِنْده دِرْهَم وَاحِد فيجيئه الْفرج فِي وَقت قريب وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: أضقت إضاقة شَدِيدَة فِي نكبتي، وأصبحت يَوْمًا، وَمَا عِنْدِي دِرْهَم وَاحِد فَمَا فَوْقه، وَكَانَ الْوَقْت شتاء، والمطر يَجِيء. فَجَلَست ضيق الصَّدْر، مفكرا فِي أَمْرِي، إِذْ جَاءَنِي صديق لي، فَقَالَ: قد جِئْت لأقيم عنْدك الْيَوْم، فازداد ضيق صَدْرِي، وَقلت لَهُ: بالرحب وَالسعَة، وأظهرت لَهُ السرُور بمجيئه. وَدخلت إِلَى النِّسَاء، فَقلت لَهُنَّ: احتلن فِيمَا ننفق فِي هَذَا الْيَوْم، على رهن، أَو بيع شَيْء من الْبَيْت، فقد طرقنا ضيف. وَخرجت فَجَلَست مَعَ الرجل، وَأَنا على نِهَايَة من شغل الْقلب؛ خوفًا أَن لَا يتَّفق قرض، وَلَا بيع؛ لأجل الْمَطَر. فَأَنا كَذَلِك، إِذْ دخل الْغُلَام، فَقَالَ: خَليفَة أبي الْأَغَر السّلمِيّ بِالْبَابِ. فَقلت: أَي وَقت هَذَا لخليفة أبي الْأَغَر؟ وأمرته أَن يخرج فيصرفه، ثمَّ تذممت من صرفه، وَقد قصدني فِي مثل هَذَا الْيَوْم. فَقلت: قل لَهُ يدْخل. فَدخل، وحادثني قَلِيلا، ثمَّ قرب مني، وَأخرج صرة فِيهَا مائَة دِينَار.

وَقَالَ: يَقُول لَك أَخُوك: وجهت إِلَيْك بِهَذِهِ الصرة، فتأمر بصرفها فِي مثل هَذَا الْيَوْم، فِي بعض مَا يصلح حالك. فامتنعت من قبُولهَا، فَلم يزل خَلِيفَته يلطف بِي، حَتَّى قبلتها.

بين أحمد بن أبي خالد وصالح الأضجم

بَين أَحْمد بن أبي خَالِد وَصَالح الأضجم حَدثنِي أبي أَبُو الْقَاسِم التنوخي فِي المذاكرة، بِإِسْنَاد ذهب عَن حفظي، قَالَ: كَانَ أَحْمد بن أبي خَالِد بغيضا، قَبِيح اللهجة، وَكَانَ مَعَ ذَلِك حرا، وَكَانَ يلْزمه رجل متعطل من طلاب التَّصَرُّف، يُقَال لَهُ: صَالح بن عَليّ الأضجم، من وُجُوه الكتّاب، فَحدث، قَالَ: طَالَتْ بِي العطلة فِي أَيَّام الْمَأْمُون، والوزير، إِذْ ذَاك، أَحْمد بن أبي خَالِد، وَضَاقَتْ حَالي، حَتَّى خشيت التكشف.

فبكرت يَوْمًا إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد مغلسا؛ لأكلمه فِي أَمْرِي، فَرَأَيْت بَابه قد فتح، وَخرج وَبَين يَدَيْهِ شمعة، يُرِيد دَار الْمَأْمُون. فَلَمَّا نظر إِلَيّ؛ أنكر عَليّ بكوري، وَعَبس فِي وَجْهي، وَقَالَ: فِي الدُّنْيَا أحد بكر هَذَا البكور ليشغلنا عَن أمرنَا. فَلم تصبر نَفسِي أَن قلت: لَيْسَ الْعجب مِنْك، أصلحك الله، فِيمَا استقبلتني بِهِ، وَإِنَّمَا الْعجب مني، وَقد سهرت لَيْلَتي، وأسهرت من فِي دَاري تأميلا لَك، وتوقعا للصبح؛ لأصير إِلَيْك، فأبثك أَمْرِي، وأستعين بك على صَلَاح حَالي، وَإِلَّا فَعَلَيَّ، وعليَّ، وَحلفت يَمِينا غَلِيظَة، لَا وقفت ببابك، وَلَا سَأَلتك حَاجَة، حَتَّى تصير إِلَيّ معتذرا مِمَّا كَلَّمتنِي بِهِ. وانصرفت مغموما مكروبا بِمَا لَقِيَنِي بِهِ، متندما على مَا فرط مني، غير شَاك فِي العطب، إِذْ كنت لَا أقدر على الْحِنْث، وَكَانَ ابْن أبي خَالِد لَا يلْتَفت إِلَى إبرار قسمي. فَإِنِّي لكذلك، وَقد طلعت الشَّمْس، إِذْ طلع بعض غلماني، فَقَالَ: أَحْمد بن أبي خَالِد، مقبل فِي الشَّارِع، ثمَّ دخل آخر، فَقَالَ: قد دخل دربنا، ثمَّ دخل آخر، فَقَالَ: قد وقف على الْبَاب، ثمَّ تبادر الغلمان بِدُخُولِهِ الدهليز، فَخرجت مُسْتَقْبلا لَهُ. فَلَمَّا اسْتَقر بِهِ مَجْلِسه فِي دَاري؛ ابتدأت أشكره على إبراره قسمي، فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ، كَانَ أَمْرِي بالبكور إِلَيْهِ فِي بعض مهماته، فَدخلت إِلَيْهِ، وَقد غلبني الْفِكر؛ لما فرط مني إِلَيْك، حَتَّى أنكر ذَلِك، فقصصت عَلَيْهِ قصتي مَعَك. فَقَالَ: قد أَسَأْت بِالرجلِ، قُم، فَامْضِ إِلَيْهِ، فَاعْتَذر مِمَّا قلت لَهُ. قلت: فأمضي إِلَيْهِ فارغ الْيَد؟

قَالَ: فتريد مَاذَا؟ قلت: يقْضِي دينه. قَالَ: كم هُوَ؟ قلت: ثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم. قَالَ: وقّع لَهُ بذلك. قلت: فَيرجع بعد إِلَى الدَّين؟ قَالَ: وَقع لَهُ بِثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم أُخْرَى. قلت: فولاية يشرف بهَا. قَالَ: ولّه مصر، أَو غَيرهَا، مِمَّا يشبهها. قلت: ومعونة على سَفَره؟ قَالَ: وَقع لَهُ بِثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم ثَالِثَة. قَالَ: وَأخرج التوقيع من خفه بِالْولَايَةِ، وبتسع مائَة ألف دِرْهَم، فَدفع ذَلِك إِلَيّ، وَانْصَرف. وَقد ذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كتاب (الوزراء) ، الْخَبَر على قريب من هَذَا.

جندي تركي تشتد إضاقته ثم يأتيه الفرج

جندي تركي تشتد إضاقته ثمَّ يَأْتِيهِ الْفرج وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم، قَالَ: كَانَ فِي جيراني، بالجانب الشَّرْقِي من مَدِينَة السَّلَام، رجل من الأتراك، لَهُ رزق فِي الْجند، فَتَأَخر رزقه فِي أَيَّام المكتفي، ووزارة الْعَبَّاس بن الْحسن، فَسَاءَتْ حَاله، ورثت هَيئته، حَتَّى أدمن الْجُلُوس عِنْد خباز كَانَ بِالْقربِ منا، وَكَانَ يستسعفه، فيعطيه فِي كل يَوْم خَمْسَة أَرْطَال خبْزًا، يتقوت بهَا هُوَ وَعِيَاله. فَاجْتمع عَلَيْهِ للخباز شَيْء، ضَاقَ بِهِ صدر الخباز مَعَه أَن يُعْطِيهِ سواهُ، فَمَنعه، فَخرج ذَات يَوْم، فَجَلَسَ، وَهُوَ عَظِيم الْهم، ثمَّ كشف لي حَدِيثه. وَقَالَ: قد عملت على مَسْأَلَة كل من يَشْتَرِي من الخباز شَيْئا، أَن يتَصَدَّق عَليّ، فقد حَملَنِي الْجُوع على هَذَا، وَكلما أردْت فعله؛ منعتني نَفسِي مِنْهُ. فَبَيْنَمَا هُوَ معي فِي هَذَا؛ إِذْ جَاءَ رجل بزِي نقيب، يسْأَل عَنهُ، فَدلَّ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ جَالِسا عِنْد الخباز. فَقَالَ لَهُ: قُم. فَقَالَ: إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى الدِّيوَان، حَتَّى تقبض رزقك، فقد خرج لَك ولأصحابك رزق شَهْرَيْن، فَمضى مَعَه. فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة؛ جَاءَنِي، وَقد قبض مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين دِينَارا. فرم منزله، وَأصْلح حَاله وَحَال عِيَاله، وابتاع دَابَّة وسرجا وسلاحا، وَقضى دينه، وَخرج مَعَ قَائِد كَانَ برسمه، وَحسنت حَالَته.

أحمد بن مسروق عامل الأهواز يتحدث عن الفرج الذي وجده في قانصة البطة

أَحْمد بن مَسْرُوق عَامل الأهواز يتحدث عَن الْفرج الَّذِي وجده فِي قانصة البطة وَذكر أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، عَن الْحُسَيْن بن مُوسَى، أخي إِبْرَاهِيم بن مُوسَى، قَالَ: خرجت إِلَى فَارس، فِي أَيَّام الْمُعْتَمد على الله، فمررت بالأهواز، والمتقلد لخراجها أَحْمد بن مَسْرُوق، فَاجْتَمَعْنَا وتذاكرنا حَدِيث الْغم والفرج، وَمَا ينَال النَّاس مِنْهُمَا، وَمن الْمَرَض وَالصِّحَّة. فَحَدثني: أَنه كَانَ فِي نَاحيَة إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فَلَمَّا توفّي، وَقدم مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر؛ تعطل، وافتقر، حَتَّى لم يبْق لَهُ شَيْء، وحالفته أمراض كَثِيرَة، فَكَانَ لَا يَصح لَهُ بدن يَوْمًا وَاحِدًا. قَالَ: وَكَانَ لَهُ رَفِيق، فَخرج إِلَى سر من رأى، فَتعلق بِالْفَتْح بن خاقَان، فحسنت حَاله. قَالَ: فَكَانَ يكْتب إِلَيّ فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ، فيمنعني من ذَلِك عوز النَّفَقَة. فَإِنِّي لمغموم، مفكر فِي الْحَال الَّتِي أَنا عَلَيْهَا، إِذْ دخل بعض نسائنا، فلامتني على طول الْهم وَالْغَم، وَقَالَت: كن الْيَوْم عِنْدِي، حَتَّى أذبح لَك

مخلفة بطة سمنت لنا، وتجتمع مَعَ جواريك، فيغنين لَك وتتفرج. فَقلت: نعم، وَجئْت إِلَى منزلهَا، وذبحت البطة، فَإِذا قد خرجت إِلَيّ، وَمَعَهَا حجر أَحْمَر، لم تدر مَا هُوَ. فَقَالَت: خرج هَذَا من قانصة البطة، فَمَا هُوَ؟ قلت: لَا أَدْرِي، وَلَكِن هبيه لي حَتَّى أريه لمن يعرفهُ؟ فَقَالَت: خُذْهُ، فَرَأَيْت شَيْئا لم أعرفهُ، إِلَّا أَنِّي بعثت بِهِ إِلَى صديق لي بِبَاب الطاق، وَسَأَلته أَن يَبِيعهُ لي. فَقَالَ: نعم، ثمَّ إِنَّه غسله بِمَاء حَار، وَبَاعه بِمِائَة وَثَلَاثِينَ دِينَارا. فَأخذت الدَّنَانِير، واشتريت مركوبا، وتجهزت إِلَى سر من رأى، فلزمت أَبَا نوح، وَبَاب الْفَتْح بن خاقَان، فنفدت نفقتي، وَجعل رفيقي ينْفق عَليّ، ويقرضني. فدعاني الْفَتْح بن خاقَان، وَقد يئست مِنْهُ، وَإِذا بَين يَدَيْهِ أَبُو نوح، فَقَالَ: هَذَا أَحْمد بن مَسْرُوق؟ قَالَ: نعم. قَالَ: كَيفَ أَنْت إِن أنفذتك فِي أَمر، واصطنعتك؟ قلت: إِنِّي كنت مَعَ الخراسانية كَاتبا أعرف جَمِيع الْأَعْمَال.

فَأَدْخلنِي إِلَى المتَوَكل، فَلَمَّا وقفت بَين يَدَيْهِ؛ قَالَ: إِنَّا ننفذك فِي أَمر هُوَ محنتك، وَبِه ارتفاعك، أَو سقوطك، فَانْظُر كَيفَ تكون؟ قَالَ: فَقبلت الأَرْض، ووعدت الْكِفَايَة بِهِ من نَفسِي. وَخرج الْفَتْح، وَمَعَهُ عبيد الله بن يحيى، فَوَقع لي عبيد الله بِأَجْر ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، مَعَ الشاكرية الَّذين يقبضون عشرَة أشهر من السّنة، والاستقبال فِي أول شهر يوضع لَهُم، وَوَقع إِلَى خَازِن بَيت المَال بِأَن يدْفع إِلَيّ ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم مَعُونَة. وَكتب كتبي بِالنّظرِ فِي مصَالح الأهواز، وَأَشْيَاء هُنَاكَ بالستر وَالْأَمَانَة، احْتِيجَ إِلَى كشفها، فسرت إِلَيْهَا، وَبَلغت فِي الْأُمُور مَا أَحْمد. فَصَارَ رسمي أَن أقلد أَعمالهَا، فَمرَّة المعونة، وَمرَّة الْخراج، وَمرَّة يجمعان لي جَمِيعًا. فَزَالَتْ تِلْكَ الْعِلَل والأمراض الَّتِي كَانَت قد حالفتني، وَلَا أعرف لذَلِك سَببا غير الْفرج. فَقَالَ الْحُسَيْن بن مُوسَى، لِأَحْمَد بن مَسْرُوق: على ذكر وجود الْحجر فِي قانصة البطة: أخْبرك أَنِّي لما سرت فِي سفرتي هَذِه، إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف باصطربند، رَأَيْت بستانا حسنا، فِيهِ باقلى وخضرة، بعقب مطرة، فاستحسنته، فعدلت إِلَيْهِ. فَقَالَ: عساه الْبُسْتَان الَّذِي فِيهِ الصَّخْرَة الَّتِي كَأَنَّهَا نابتة. قلت: هُوَ. قَالَ: هيه.

قلت: فتغدينا فِيهِ، وشربنا أقداحا، وَكنت مُسْتَندا إِلَى الصَّخْرَة، فَلَمَّا نهضنا؛ رَأَيْت فِي وسط الصَّخْرَة نقرة، قد اجْتمع فِيهَا مَاء الْمَطَر، فَهُوَ فِي غَايَة الصفاء. فَوضعت فمي لأشرب مِنْهُ، فَتحَرك فِيهِ شَيْء، فنحيت فمي عَنهُ، وتأملته، فبدت لي خرقَة، فجذبتها، فَإِذا صرة. فَقَالَ: أَحْمد بن مَسْرُوق: صرتي، وَالله، كَأَن فِيهَا ثَلَاث مائَة دِينَار. قلت: نعم، فَمن أَيْن صَارَت لَك؟ قَالَ: مَرَرْت بِهَذَا الْموضع، آخر خرجَة خرجتها إِلَى الأهواز، فملتُ إِلَى الْموضع، كَمَا ملتَ، وَكَانَت هَذِه الصرة فِي يَدي، فَوَضَعتهَا فِي الْحجر، وأنسيتها وَركبت، ثمَّ طلبتها، فَلم أَجدهَا، وَلَا علمت أَيْن وَضَعتهَا، إِلَّا السَّاعَة، فَذَكرتهَا بحديثك. قلت: فالدنانير مَعَ غلامي. قَالَ: خُذْهَا، بَارك الله لَك فِيهَا، وأبرأت ذِمَّتك مِنْهَا.

أصلح بين متخاصمين بدرهم فوهب الله له درة بمائة وعشرين ألفا

أصلح بَين متخاصمين بدرهم فوهب الله لَهُ درة بِمِائَة وَعشْرين ألفا قَالَ: وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، بِإِسْنَاد، قَالَ: حدث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عمر البرقي، قَالَ: حَدثنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد البرقي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو زيد، عَن الفضيل بن عِيَاض، قَالَ: حَدثنِي رجل: أَن رجلا خرج بغزل، فَبَاعَهُ بدرهم؛ ليَشْتَرِي بِهِ دَقِيقًا، فَمر على رجلَيْنِ، كل وَاحِد مِنْهُمَا آخذ بِرَأْس صَاحبه. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقيل: يقتتلان فِي دِرْهَم، فَأَعْطَاهُمَا ذَلِك الدِّرْهَم، وَلَيْسَ لَهُ شَيْء غَيره. فَأتى إِلَى امْرَأَته، فَأَخْبرهُمَا بِمَا جرى لَهُ، فَجمعت لَهُ أَشْيَاء من الْبَيْت، فَذهب ليبيعها، فكسدت عَلَيْهِ، فَمر على رجل وَمَعَهُ سَمَكَة قد أروحت. فَقَالَ لَهُ: إِن مَعَك شَيْئا قد كسد، وَمَعِي شَيْء قد كسد، فَهَل لَك أَن تبيعني هَذَا بِهَذَا؟ فَبَاعَهُ. وَجَاء الرجل بالسمكة إِلَى الْبَيْت، وَقَالَ لزوجته: قومِي فأصلحي أَمر هَذِه السَّمَكَة، فقد هلكنا من الْجُوع. فَقَامَتْ الْمَرْأَة تصلحها، فشقت جَوف السَّمَكَة، فَإِذا هِيَ بلؤلؤة، قد خرجت من جوفها.

فَقَالَت الْمَرْأَة: يَا سَيِّدي، قد خرج من جَوف السَّمَكَة شَيْء أَصْغَر من بيض الدَّجَاج، وَهُوَ يُقَارب بيض الْحمام. فَقَالَ: أريني، فَنظر إِلَى شَيْء مَا رأى فِي عمره مثله، فطار عقله، وحار لبه. فَقَالَ لزوجته: هَذِه أظنها لؤلؤة. فَقَالَت: أتعرف قدر اللؤلؤة؟ قَالَت: لَا، وَلَكِنِّي أعرف من يعرف ذَلِك، ثمَّ أَخذهَا، وَانْطَلق بهَا إِلَى أَصْحَاب اللُّؤْلُؤ؛ إِلَى صديق لَهُ جوهري، فَسلم عَلَيْهِ، فَرد عَلَيْهِ السَّلَام، وَجلسَ إِلَى جَانِبه يتحدث، وَأخرج تِلْكَ الْبَيْضَة. وَقَالَ: انْظُر كم قيمَة هَذِه؟ قَالَ: فَنظر زَمَانا طَويلا، ثمَّ قَالَ: لَك بهَا عَليّ أَرْبَعُونَ ألفا، فَإِن شِئْت أقبضتك المَال السَّاعَة، وَإِن طلبت الزِّيَادَة؛ فَاذْهَبْ بهَا إِلَى فلَان، فَإِنَّهُ أثمن بهَا لَك مني. فَذهب بهَا إِلَيْهِ، فَنظر إِلَيْهَا واستحسنها، وَقَالَ: لَك بهَا عَليّ ثَمَانُون ألفا، وَإِن شِئْت الزِّيَادَة؛ فَاذْهَبْ بهَا إِلَى فلَان، فَإِنِّي أرَاهُ أثمن بهَا لَك مني. فَذهب بهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَك بهَا عَليّ مائَة وَعِشْرُونَ ألفا، وَلَا أرى أحدا يزيدك فَوق ذَلِك شَيْئا. فَقَالَ: نعم، فوزن لَهُ المَال، فَحمل الرجل فِي ذَلِك الْيَوْم اثْنَتَيْ عشرَة بدرة، فِي كل بدرة عشرَة آلَاف دِرْهَم، فَذهب بهَا إِلَى منزله؛ ليضعها فِيهِ، فَإِذا فَقير وَاقِف بِالْبَابِ، يسْأَل. فَقَالَ: هَذِه قصتي الَّتِي كنت عَلَيْهَا، ادخل، فَدخل الرجل. فَقَالَ: خُذ نصف هَذَا المَال، فَأخذ الرجل الْفَقِير، سِتّ بدر، فحملها، ثمَّ تبَاعد غير بعيد، وَرجع إِلَيْهِ. وَقَالَ: مَا أَنا بمسكين، وَلَا فَقير، وَإِنَّمَا أَرْسلنِي إِلَيْك رَبك، عز وَجل،

الَّذِي أَعْطَاك بالدرهم عشْرين قيراطا، فَهَذَا الَّذِي أَعْطَاك، قِيرَاط مِنْهُ، وَذخر لَك تِسْعَة عشر قيراطا.

يحيى البرمكي يتحدث عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود

يحيى الْبَرْمَكِي يتحدث عَن عارفة فِي عُنُقه ليعقوب بن دَاوُد وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، قَالَ: رُوِيَ أَن خَالِد بن برمك، قَالَ لِابْنِهِ يحيى، فِي إضاقة نالته: قد ترى مَا نَحن فِيهِ، فَلَو لقِيت يَعْقُوب بن دَاوُد، وشكوت إِلَيْهِ مَا نَحن فِيهِ. فَأتى يَعْقُوب بن دَاوُد، فَذكر لَهُ ذَلِك، فَسكت عَنهُ، فَانْصَرف يحيى، وَهُوَ مكروب، آيس من خَيره، فَأخْبر أَبَاهُ. فَقَالَ: افتضحنا، فيا لَيْت أَنا لم نَكُنْ كشفنا لَهُ خبرنَا. قَالَ: فَركب يحيى بن خَالِد من غَد، فَلَقِيَهُ بعض إخوانه، فَقَالَ: مَا زَالَ يَعْقُوب بن دَاوُد يطلبك طلبا شَدِيدا، فَمضى إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب: أَيْن كنت؟ وَالله، إِنَّك أوردت على فلبي مَا شغله بالفكر فِي إِصْلَاحه، وَقد عنّ لي أَمر رَجَوْت بِهِ صَلَاح حالك، امْضِ بِنَا إِلَى الدِّيوَان، فَسَار مَعَه إِلَيْهِ. فَقَالَ يَعْقُوب: عَليّ بتجار السوَاد، فأحضروا. فَقَالَ: أشركوا أَبَا عَليّ مَعكُمْ بِالثُّلثِ فِيمَا تبتاعونه من غلَّة السُّلْطَان، فَفَعَلُوا.

فَقَالَ: لَعَلَّ ذَلِك يشق عَلَيْكُم؟ فَقَالُوا: أجل. فَقَالَ: أَخْرجُوهُ، بِرِبْح تجعلونه لَهُ. فأخرجوه بِرِبْح سِتِّينَ ألف دِينَار، فصلحت حَاله، وَحَال أَبِيه، وَمضى إِلَيْهِ بِالْمَالِ.

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

من يفعل الْخَيْر لَا يعْدم جوازيه وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كتاب (الوزراء) ، هَذَا الْخَبَر بِخِلَاف هَذَا، فَقَالَ: حكى يحيى بن خاقَان، قَالَ: كنت يَوْمًا عِنْد يحيى بن خَالِد، وبحضرته ابْنه الْفضل، إِذْ دخل عَلَيْهِ أَحْمد بن يزِيد، الْمَعْرُوف بـ: ابْن أبي خَالِد، فَسلم وَخرج. فَقَالَ يحيى للفضل: فِي أَمر هَذَا الرجل خبر، فَإِذا فَرغْنَا من شغلنا فأذكرني بِهِ حَتَّى أعرفك، فَلَمَّا فرغ من عمله؛ أذكرهُ. فَقَالَ: نعم، كَانَت العطلة، قد بلغت مني وَمن أبي، وتوالت المحن علينا، حَتَّى لم نهتد إِلَى مَا ننفقه. فَلبِست ثِيَابِي يَوْمًا؛ لأركب، فَقَالَ لي أَهلِي: إِن هَؤُلَاءِ الصّبيان باتوا البارحة بأسوإ حَال، وَأَنا مَا زلت أعللهم بِمَا لَا علالة فِيهِ، وأصبحت وَمَا لَهُم شَيْء، وَمَا لدابتك علف. فقرعت قلبِي، وقطعتني عَن الْحَرَكَة، ورميت بفكري، فَلم يَقع إِلَّا على منديل طبري، كَانَ بعض البزازين أهداه إِلَيّ. فَقلت: مَا فعل المنديل الطَّبَرِيّ؟ فَقَالَت: ههو. فَأَخْرَجته إِلَى الْغُلَام، وَقلت لَهُ: اخْرُج إِلَى الشَّارِع، فبع هَذَا المنديل،

فَمضى، وَعَاد من سَاعَته، فَقَالَ: خرجت إِلَى الْبَقَّال الَّذِي يعاملنا، وَعِنْده رجل، فَأَعْطَانِي بالمنديل اثْنَي عشر درهما صحاحا، وَقد بِعته بِشَرْط، فَإِن أمضيت البيع، وَإِلَّا أخرجت المنديل إِلَى سوق قنطرة البردان، واستقصيت فِيهِ، كَمَا تحب. فَأَمَرته بإمضاء البيع للْحَال الَّتِي خبرتني بهَا الْمَرْأَة، وَأَن يَشْتَرِي مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الصّبيان، وعلفا للدابة، وَركبت، لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أقصد. فَأَنا فِي الشَّارِع، وَإِذا أَنا بِأبي خَالِد، وَالِد هَذَا، وَمَعَهُ موكب عَظِيم ضخم، وَهُوَ يَوْمئِذٍ يكْتب لأبي عبيد الله، كَاتب الْمهْدي، فملت إِلَيْهِ، ورميت نَفسِي عَلَيْهِ. وَقلت لَهُ: قد تناهت العطلة بأخيك وَبِي، إِلَى مَا لَا نِهَايَة وَرَاءه، وَعلي، وَعلي، إِن لم تكن قصتي فِي يومي هَذَا، كَيْت وَكَيْت، وقصصت عَلَيْهِ الْخَبَر، وَهُوَ مستمع لذَلِك، مَاض فِي سيره، فَلَمَّا بلغ مقْصده؛ انصرفت عَنهُ، وَلم يقل لي حرفا. فَانْصَرَفت منكسف البال، مُنْكرا على نَفسِي إسرافي فِي الشكوى، وإطلاعي إِيَّاه على مَا أطلعته عَلَيْهِ. وَقلت: مَا زِدْت على أَن فضحت نَفسِي، وقللتها فِي عينه من غير نفع. ووافيت منزلي على حَال أنكرتها أَهلِي، فسألتني. فَقلت: جنيت الْيَوْم على نَفسِي جِنَايَة كنت عَنْهَا غَنِيا، وقصصت عَلَيْهَا قصتي مَعَ يزِيد. فَأَقْبَلت توبخني، وَقَالَت: مَا حملك على أَن أظهرت للرجل حالك؟ فَإِن أقل مَا فِي ذَلِك، أَن لَا يأتمنك على أَمر، فَإِن من تناهت بِهِ الْحَال إِلَى مَا ذكرت، كَانَ غير مؤتمن، فنالني من توبيخها أَضْعَاف مَا نالني أَولا. وأصبحنا فِي الْيَوْم الثَّانِي، فوجهت بِأحد ثوبيّ فَبيع، وتبلغنا بِثمنِهِ يَوْمنَا.

وأصبحنا فِي الْيَوْم الثَّالِث، وَنحن فِي غَايَة الضيقة، فطوينا يَوْمنَا وليلتنا. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع؛ ضَاقَتْ نَفسِي، وَقل صبري، وضعفت قوتي، واخترت الْمَوْت على الْحَالة الَّتِي أَنا فِيهَا. فَقَالَت لي أَهلِي: أَنا خائفة عَلَيْك من الوسواس، فَيكون مَا نحتاج لعلاجك أَضْعَاف مَا نحتاج لمئونتنا، فسهّل الْأَمر عَلَيْك، وَلَا تضجر، وَلَا تقنط من رَحْمَة الله، فَإِن الله، عز وَجل، الصَّانِع، الْمُدبر، الْحَكِيم. قَالَ: فركبت، لَا أَدْرِي أَيْن أقصد، فَلَمَّا صرت إِلَى قنطرة البردان؛ لَقِيَنِي رَسُول أبي خَالِد يطلبني دَاره. فَقَالَ لي حَاجِبه: اجْلِسْ، فأقمت، وَخرج مَعَ الزَّوَال، فدنوت مِنْهُ. فَقَالَ: يَابْنَ أخي، شَكَوْت إِلَيّ بالْأَمْس شكوى، لم يكن فِي جوابها إِلَّا الْفِعْل، وَأمر بإحضار حميد وداهر؛ تاجرين كَانَا يبيعان الطَّعَام. فَقَالَ لَهما: قد علمتما أَنِّي إِنَّمَا بعتكما البارحة ثَلَاثِينَ ألف كرّ، على أَن ابْن أخي هَذَا شريككما فِيهَا بالسعر. ثمَّ قَالَ: لَك فِي هَذِه عشرَة آلَاف كرّ بالسعر، فَإِن دفعا إِلَيْك ثَلَاثِينَ ألف دِينَار ربحك، وآثرت أَن تخرج إِلَيْهِمَا من حصتك؛ فعلت، وَإِن آثرت أَن تقيم على ابتياعك؛ فعلت. قَالَ: فتنحينا نَاحيَة، وَقَالا: إِنَّك رجل شرِيف، وَابْن شرِيف، وَلَيْسَت التِّجَارَة من شَأْنك، وَمَتى أَقمت على الابتياع؛ احتجت إِلَى كفاة وَأَعْوَان، وَلَكِن خُذ منا ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، وخلنا وَالطَّعَام. فَقلت: قد فعلت، وَقمت إِلَى أبي خَالِد، فَقلت: قد أجبتهما إِلَى أَخذ المَال، وتركهما وَالطَّعَام.

فَقَالَ: هَذَا أروح لَك، فَخذ المَال، وتبلغ بِهِ، وألزمنا، فَإنَّا لَا نقصر فِي أَمرك بِكُل مَا يمكننا. فَأخذت من الرجلَيْن ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، وَمَا كَانَ بَين ذَلِك، وَبَين بيع المنديل وَالثَّوْب، إِلَّا أَرْبَعَة أَيَّام. فسرت إِلَى أبي، وخبرته الْخَبَر، وَقلت لَهُ: جعلت فدَاك تَأمر فِي المَال بِأَمْرك؟ فَقَالَ: نعم، أحكم عَلَيْك فِيهِ، بِمثل مَا حكم أَبُو خَالِد بِهِ على التاجرين؛ أَي: أَن الثُّلُث لي. فَحملت إِلَيْهِ عشرَة آلَاف دِينَار، واشتريت بِعشْرَة آلَاف دِينَار ضَيْعَة، وَلم أزل أنْفق الْبَاقِي، إِلَى أَن أداني ذَلِك إِلَى هَذِه الْحَال، وَإِنَّمَا حدثتك بِهَذَا؛ لتعرف، يَا بني، للرجل حَقه. فَقلت ليحيى بن خاقَان: فَمَا الَّذِي كَانَ من يحيى بن خَالِد إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد؟ قَالَ: مَا زَالَ هُوَ وَولده على نِهَايَة الْبر بِهِ، حَتَّى نَالَ مَا نَالَ من الوزارة، بذلك الأساس الَّذِي أسساه. وَقُرِئَ على أبي بكر الصولي، بِالْبَصْرَةِ، سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة بِإِسْنَاد، وَأَنا حَاضر، فِي كِتَابه: كتاب (الوزراء) ، حَدثكُمْ عون بن مُحَمَّد الْكِنْدِيّ، عَن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن سهل، قَالَ: سَمِعت أَهلِي يتحدثون: أَن يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، قَالَ: نالتني خلة فِي أَيَّام الْمهْدي، فَجئْت إِلَى يزِيد الْأَحول أبي خَالِد، وَكَانَ يكْتب لأبي عبيد الله، فأبثثته حَالي، فَمَا أجابني، وَلَا أقبل عَليّ، فتأخرت نَادِما، ثمَّ جَاءَنِي رَسُوله من

الْغَد، فصرت إِلَيْهِ. فَقَالَ لي: إِنَّك شَكَوْت إِلَيّ شكوى لم يكن جوابها الْكَلَام والتوجع، وَقد بِعْت جمَاعَة من التُّجَّار ثَلَاثِينَ ألف كرّ، من غلات السوَاد، واشترطت لَك ربع الرِّبْح، فَخذ كتابي هَذَا إِلَيْهِم، فَإِن أَحْبَبْت أَن تصبر إِلَى أَن تبَاع الْغلَّة؛ توفر ربحك، وَإِن ناظرت التُّجَّار، وَخرجت من حصتك بِرِبْح عَاجل؛ فَأَقل مَا يبذلونه لَك ثَلَاثُونَ ألف دِينَار، فدعوت لَهُ. وَلَقِيت الْقَوْم، فَقَالُوا: أَنْت رجل سُلْطَان، وَلَا يتهيأ لَك مَا نَفْعل نَحن من الصَّبْر على الْغلَّة، وانتظار الأسعار، فَهَل لَك أَن تخرج مِنْهَا برح ثَلَاثِينَ ألف دِينَار مُعجلَة؟ فَقلت: نعم، فقبضتها فِي يَوْم وَاحِد، وانصرفت. وَذكر أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حدث مُحَمَّد بن أَحْمد بن الخصيب، قَالَ: حَدثنِي من سمع أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول يحدث، قَالَ: كَانَ السُّلْطَان قد جَفا خَالِد بن برمك، واطرحه، حَتَّى نالته إضاقة شَدِيدَة، وَكَاد أَن ينْكَشف. فَحدثت أَن يحيى بن خَالِد أصبح يَوْمًا، فَخرجت إِلَيْهِ امْرَأَته؛ أم الْفضل، ابْنه، فَقَالَت لَهُ: مَا أصبح الْيَوْم فِي مَنْزِلك دَقِيق، وَلَا علف للدابة، وَلَا نَفَقَة لشَيْء. فَقَالَ لَهَا: بيعوا شَيْئا من الْبَيْت. قَالَت مَا بَقِي فِي الْبَيْت مَا لَهُ قدر، وَلَا مَا يُمكن بَيْعه. فَقَالَ: قد كَانَ فلَان أهْدى إِلَيْنَا منديلا فِيهِ ثِيَاب، فبعنا الثِّيَاب، فَمَا فعل المنديل؟ قَالَت: باقٍ.

قَالَ: فبيعوه. فَبعثت بِهِ إِلَى سوق قنطرة البردان، فَبيع بنيف وَعشْرين درهما، فأنفقوها أَيَّامًا. ثمَّ خرجت إِلَيْهِ، فَقَالَت: مَا قعودك؟ مَا عندنَا نَفَقَة، وَلَا دَقِيق، وَلَا علف للدابة. فَركب يحيى، فَكَانَ أول من لقِيه أَبُو خَالِد الْأَحول، فَشَكا إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ، فَأمْسك، ثمَّ أَجَابَهُ بِجَوَاب ضَعِيف. وَانْصَرف يحيى إِلَى منزله، وَقد كَاد يتْلف غما وندما، وَلَام زَوجته، وَأقَام أَيَّامًا لَا يركب، وَزَوجته تحتال فِيمَا تنْفق. ثمَّ حركته على الرّكُوب، وَشَكتْ إِلَيْهِ انْقِطَاع الْحِيلَة، وَتعذر الْقُوت، فَركب، فَلَمَّا صَار فِي بعض الطَّرِيق؛ لقِيه أَبُو خَالِد. فَقَالَ لَهُ: صرت إِلَيّ، وَسَأَلتنِي أمرا، حَتَّى إِذا أحكمته لَك؛ تركت تنجزه. فَقَالَ: كرهت التثقيل عَلَيْك. فَقَالَ: إِنَّك شَكَوْت إِلَيّ أَمرك، فغمني، وذكرته لأبي عبيد الله، فَتقدم إِلَيّ فِيهِ بِأَمْر، ثمَّ لم تصر إِلَيّ، فتعال معي الْآن إِلَى الدِّيوَان. قَالَ يحيى: فمضيت مَعَه إِلَى الدِّيوَان، فأحضر التُّجَّار المبتاعين لغلات الأهواز، فَقَالَ لَهُم: هَذَا الرجل الَّذِي جعل لَهُ الْوَزير سَهْما مَعكُمْ فِيمَا ابتعتموه فحاسبوه على مَا بَيْنكُم وَبَينه. قَالَ يحيى: فَأخذ التُّجَّار بيَدي إِلَى نَاحيَة، فواقفوني على ربح خمسين ألف دِينَار، وَأَن أدعهم وَالْغلَّة، فَمَا بَرحت، حَتَّى راج لي المَال، وَحَمَلته إِلَى منزلي. وعرّفت أبي الْحَال، فَأخذ من المَال عشْرين ألفا، وَقَالَ: هَذِه تكفيني

لنفقتي، إِلَى أَن يفرج الله، تَعَالَى، عني، وَالْبَاقِي لَك، فَإِن عِيَالك كثير. قَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: فرعى لي الْقَوْم ذَلِك؛ يَعْنِي: البرامكة، فَلَمَّا صَار الْأَمر إِلَيْهِم؛ أشركوني فِي نعمتهم، وَكَانَ آخر مَا وليت لَهُم جند الْأُرْدُن. وانصرفت إِلَى مَدِينَة السَّلَام، وَقد سخط الرشيد على يحيى، وَمَعِي من المَال سِتَّة آلَاف دِينَار، فتوصلت إِلَى أَن دخلت إِلَيْهِ فِي الْحَبْس، فتوجعت لَهُ، وَعرضت عَلَيْهِ المَال. فَقَالَ: لست أجحف بك، احْمِلْ إِلَيْنَا مِنْهُ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، وَكتب رقْعَة، بِخَط لَا أعرفهُ، ثمَّ أتربها، ثمَّ قطعهَا نِصْفَيْنِ، فَجعل أَحدهمَا تَحت مُصَلَّاهُ، وَدفع إِلَيّ الآخر. وَقَالَ: أمرنَا قد ولّى، ودولتنا قد انْقَضتْ، وَهَذَا الْخَلِيفَة سيموت، وستقع فتْنَة يطول فِيهَا الْأَمر بَين خليفتين، يكون الظَّاهِر مِنْهُمَا صَاحب الْمشرق، وسيكون لغلام، يُقَال لَهُ: الْفضل بن سهل، مَعَه حَال، فَإِذا بلغك ذَلِك؛ فادفع إِلَيْهِ هَذَا النّصْف من الرقعة، فَإنَّك ستبلغ بهَا مَا تحب عِنْده. قَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: فَخرجت من عِنْده، وَأَنا أندم النَّاس على إخراجي من يَدي ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، إِلَى رجل قد نعى نَفسه إِلَيّ، فاحتفظت بِنصْف الرقعة. وَمَضَت الْأَيَّام، وَولي مُحَمَّد المخلوع، وَوَقعت الْفِتَن، ولزمتني عطلة، ودامت، حَتَّى رقت حَالي، وَاشْتَدَّ اختلالي. وَدخل طَاهِر مَدِينَة السَّلَام، فَإِنِّي ذَات يَوْم متفكر فِي أَمْرِي، متحير فِيمَا أعمله، سَمِعت قرع الْبَاب عَليّ. فَقلت لزوجتي: اخْرُجِي إِلَى الدهليز، وأعرفي الْخَبَر، وَلَا تتكلمي، وَلَا تفتحي، فمضت، وَجَاءَت مَذْعُورَة.

وَقَالَت: مَا أَدْرِي، على الْبَاب جمَاعَة من الشَّرْط والمسودة ونفاطات. فَخرجت، ووقفت خلف الْبَاب، وَقلت: من هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا منزل أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول؟ فَقلت: نعم. فَقَالُوا: نَحن رسل الْأَمِير طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَيْهِ. فَقلت: لَعَلَّكُمْ غلطتم، مَا يُرِيد الْأَمِير من مثله؟ فَقَالَ بَعضهم: يَا هَذَا، إِنَّا جِئْنَا فِي أَمر يسره، فَأعلمهُ إِيَّاه، وَأَنه لَا بَأْس عَلَيْهِ. قَالَ: وظنني غُلَاما فِي الدَّار، فسكنت إِلَى هَذَا القَوْل، وَرجعت إِلَى مجلسي من الدَّار، وأنفذت جَارِيَة سَوْدَاء كَانَت لي، حَتَّى تفتح الْبَاب. فَدخل قَائِد جليل، وبرك بَين يَدي، وَقَالَ: أَنْت، أعزّك الله، تَعَالَى، أَحْمد بن أبي خَالِد؟ قلت: نعم. قَالَ: الْأَمِير يَسْأَلك أَن تصير إِلَيْهِ السَّاعَة. قَالَ: فَأَرَدْت أَن أسبر الْأَمر الَّذِي دعيت إِلَيْهِ، أخير هُوَ، أم شَرّ؟ فَقلت: أَدخل، وألبس ثِيَابِي؟ قَالَ: افْعَل. قَالَ: فَدخلت، وأوصيت زَوْجَتي فِيمَا أحتاج إِلَيْهِ، وَعلمت أَنه لَا بَأْس عَليّ، ولبست مبطنتي وطيلساني وشاشيتي وخفي، ثمَّ خرجت.

فَقلت: لَيْسَ لي مركوب. قَالَ: فاركب من جنائبي، فركبت دَابَّة قدمهَا إِلَيّ، وصرت إِلَى طَاهِر، فَسلمت عَلَيْهِ، فساعة رَآنِي، قَالَ: أَنْت أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول؟ قلت: نعم. فَألْقى إِلَيّ كتابا فِي نصف قرطاس، بِخَط الْفضل بن سهل، وَكَانَ أول كتاب رَأَيْته؛ لأبي فلَان، من فلَان، فَإِذا عنوانه: لأبي الطّيب أعزه الله، تَعَالَى، من ذِي الرياستين؛ الْفضل بن سهل، وصدره: أعزّك الله، وَأطَال بَقَاءَك، أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، بِأَن تتقدم سَاعَة وُصُول كتابي هَذَا، بِطَلَب أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول الْكَاتِب، حَيْثُمَا كَانَ من أقطار الأَرْض، فتحضره مجلسك، وتصله بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، وتحمله على عشْرين دَابَّة من دَوَاب الْبَرِيد، إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، مصونا، وَلَا ترخص لَهُ فِي التَّأَخُّر، فرأيك، أعزّك الله، فِي الْعَمَل بذلك، موفقا، إِن شَاءَ الله، تَعَالَى، وكتبت فِي يَوْم كَذَا من شهر كَذَا. قَالَ: فَلَمَّا قَرَأت الْكتاب؛ اشْتَدَّ سروري، وَقلت: آخذ فِيمَا أحتاج إِلَيْهِ، وأنهض. فَقَالَ: مَا إِلَى تأخرك سَبِيل، هَذَا المَال، وَهَذِه الدَّوَابّ، وَتخرج السَّاعَة. فَقلت: أكتب إِلَى منزلي بِمَا أحتاج إِلَيْهِ، وَأخذت المَال، وحملت أَكْثَره إِلَيْهِم، وكاتبتهم بِمَا أحتاج إِلَيْهِ. وَذكرت الرقعة الَّتِي من يحيى بن خَالِد، فَأَمَرتهمْ بإنفاذها إِلَيّ، وَطلبت قماشا قَلِيلا مِمَّا لَا بُد مِنْهُ.

فَعَاد الْجَواب بوصول المَال، وأنفذوا النّصْف من الرقعة، وَمَا طلبت من القماش، وشخصت من دَار طَاهِر، سَحَرَ تِلْكَ اللَّيْلَة. فَمَا مَرَرْت بِمَدِينَة إِلَّا خدمت فِيهَا أتم خدمَة، إِلَى أَن وافيت الرّيّ، فلقيني رجل ذكر لي أَن ذَا الرياستين أنفذه لتلقي، وَالْقِيَام بمصالحي إِلَى أَن أوافي حَضرته، فَلم يزل قَائِما بِمَا أحتاج إِلَيْهِ، ويحض كل من أجتاز بِهِ على تفقدي وخدمتي إِلَى أَن وافيت بَاب الْفضل بمرو، وَمَعِي صَاحبه، وَصَاحب طَاهِر. فوقفت بِبَاب الْفضل طَويلا إِلَى أَن تفرغ وَدَعَانِي، فَدخلت، وَهُوَ فِي قبَّة أَدَم، وَعَلِيهِ سَواد، وَحَوله السِّلَاح كُله، وَبَين يَدَيْهِ جحفة فِيهَا كتب. فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ؛ قَالَ لي: أَنْت أَحْمد بن أبي خَالِد الْكَاتِب؟ فَقلت: نعم. قَالَ: انْصَرف إِلَى مَنْزِلك، وارجع إِلَيْنَا بعد ثَلَاثَة أَيَّام فِي سَواد؛ لأدخلك على أَمِير الْمُؤمنِينَ. فوليت من بَين يَدَيْهِ، وَأَنا لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أمضي، وَإِذا خَادِم قد لَحِقَنِي، وَأخذ بيَدي، وَخرج معي، حَتَّى سَار إِلَى دَار قد أعدت لي، وفيهَا كل مَا أحتاج إِلَيْهِ من فرش، وَآلَة، وَكِسْوَة، وغلمان، ودواب، وقماش، وَغير ذَلِك من الْأَطْعِمَة والأشربة، فَجعل يعرفنِي مَا تَحت يَد كل غُلَام، ثمَّ قَالَ: هَذَا كُله لَك، وَانْصَرف، فأقمت فِي كل نعْمَة وسرور، ثَلَاثَة أَيَّام. ثمَّ غَدَوْت فِي الْيَوْم الرَّابِع فِي سَواد، فألفيت ذَا الرياستين خَارِجا من دَاره، فترجلت ودنوت، فَأَعْطَانِي طرف كمه فقبلته، ثمَّ أَمرنِي بالركوب، فركبت، وسرت فِي موكبه، حَتَّى وافى دَار الْمَأْمُون، فَثنى رجله، وَنزل فِي محفة معدة لَهُ، فَجَلَسَ فِيهَا، وَحمله القواد على أَعْنَاقهم، حَتَّى أجلسوه مَعَ

الْمَأْمُون على السرير، فَمَكثت غير بعيد. فجَاء خَادِم فدعاني، فَدخلت، وَالْفضل والمأمون على السرير، وكل وَاحِد مِنْهُمَا مقبل على صَاحبه. فَقَالَ الْفضل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذَا أَحْمد بن أبي خَالِد، كَانَت كتبه ترد علينا من مَدِينَة السَّلَام بأخبار المخلوع، فِي وَقت كَذَا، وَفِي وَقت كَذَا، وَقد وَفد على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ من الْيَسَار، وَحسن الْحَال، على أَمر يقصر عَنهُ الْوَصْف، وَهُوَ يعرض نَفسه وَمَاله على أَمِير الْمُؤمنِينَ، يُرِيد أَنه مَتى خلا بِي، فَسَأَلَنِي عَن شَيْء؛ كنت قد عَرفته. قَالَ أَحْمد: فشيعت كَلَامه بِمَا حضرني. فَقَالَ الْمَأْمُون: بل؛ قد وفر الله، تَعَالَى، عَلَيْهِ مَاله، ونضيف إِلَيْهِ أَمْثَاله. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ويشرك بَينه وَبَين خدم أَمِير الْمُؤمنِينَ، فِي تقلد الْأَعْمَال. قَالَ: نعم. قَالَ: ويولى ديوَان التوقيع، وديوان الفض والخاتم. قَالَ: افْعَل. قَالَ: ويخلع عَلَيْهِ خلعة هَذِه الْأَعْمَال. قَالَ: نعم. قَالَ: وصلَة يعرف بهَا موقعه من أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: نعم. قَالَ أَحْمد: فَمَا بَرحت، حَتَّى أنْجز لي كل ذَلِك، وانصرفت. فَلَمَّا كَانَ بعد عشْرين يَوْمًا بعث إِلَيّ فِي اللَّيْل، فَعلمت أَنه لم يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت، إِلَّا ليسألني عَن الرقعة، فجعلتها فِي خَفِي، وصرت إِلَيْهِ، وَإِذا هُوَ جَالس، وَالْحسن أَخُوهُ إِلَى جَانِبه.

فَقَالَ لي: يَا أَبَا الْعَبَّاس، كَانَت بَيْنك وَبَين شَيخنَا أبي عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، حُرْمَة؟ قلت: نعم، وَأي حُرْمَة. فَقَالَ: مَا هِيَ؟ فقصصت عَلَيْهِ كَيفَ كَانَت قصَّة أبي مَعَه، ثمَّ وصلت ذَلِك بخبري، إِلَى أَن أنتهيت إِلَى حَدِيث الدَّنَانِير وَنصف الرقعة. فَقَالَ: أَيْن هِيَ؟ فأخرجتها من خَفِي، فدفعتها إِلَيْهِ، فَرفع مُصَلَّاهُ، فَإِذا النّصْف الَّذِي كَانَ يحيى بن خَالِد، رَحمَه الله، جعله تَحت مُصَلَّاهُ، فقرن بَينهمَا، والتفت إِلَى أَخِيه، وَقد دَمَعَتْ عَيناهُ. فَقَالَ: هَذَا خطّ أبي عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: ثمَّ قَالَ: أَقرَأت مَا فِيهَا؟ قلت: لَا. قَالَ: فِيهَا: أمتعني الله بك، يَا بني، طَويلا، وَأحسن الْخلَافَة عَلَيْك، قد وَجب عَليّ من حق أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول الْكَاتِب، فِي الْحَال الَّتِي أَنا عَلَيْهَا، مَا قد أثقلني، وأعجزني عَن مكافأته، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أَعْتَد بِهِ لسلفه، ونجمنا قد أفل، وأمرنا قد انْقَضى، ودولتك قد حضرت، وَجدك قد علا، فَأحب أَن تقضي عني حق هَذَا الْفَتى، إِن شَاءَ الله، تَعَالَى. قَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: فَلم أزل مَعَ الْفضل، تترقى حَالي، وأختص بِخِدْمَة الْمَأْمُون، إِلَى أَن دارت الْأَيَّام، واستكتبني الْمَأْمُون، وزادت النِّعْمَة ونمت، وَالْحَمْد لله على ذَلِك.

وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كِتَابه: كتاب (الوزراء) فِي أَخْبَار أَحْمد بن أبي خَالِد، قَالَ: كَانَ سَبَب اتِّصَاله بالمأمون: أَن الرشيد لما سخط على البرامكة، واتصل خبرهم، وَمَا هم فِيهِ من الضّيق، بِأَحْمَد بن أبي خَالِد؛ شخص نَحْو الرقة، فوافاها وَقد أَمر الرشيد بِمَنْع حاشيتهم من الدُّخُول إِلَيْهِم. فَلم يزل يحتال حَتَّى وصل إِلَى يحيى، فانتسب لَهُ، وعرفه أَنه قَصده لخدمته. فَرَحَّبَ بِهِ يحيى، وأعلمه أَنه كَانَ يحب أَن يَقْصِدهُ فِي وَقت إِمْكَان الْأُمُور، ليبلغ من مكافأته وَتَحْقِيق ظَنّه حسب رغبته. فشكره أَحْمد، وَسَأَلَهُ قبُول شَيْء حمله مَعَه، وَإِن كَانَ يَسِيرا، وضرع إِلَيْهِ. فَدفعهُ يحيى عَنهُ، وَقَالَ: نَحن فِي كِفَايَة. فألح أَحْمد عَلَيْهِ، وأعلمه أَنه لَا يَثِق بِقبُول انْقِطَاعه إِلَيْهِ إِلَّا بإجابته إِلَى مَا سَأَلَ. فَسَأَلَهُ يحيى عَن مِقْدَار ذَلِك، فَقَالَ: عشرَة آلَاف دِرْهَم. فَقَالَ: ادفعها إِلَى السجان. وَقَالَ لِأَحْمَد: إِن حَالنَا حَال لَا نرجو مَعهَا بُلُوغ مكافأتك، وَلَكِنِّي سأكتب لَك كتابا إِلَى رجل سيقوم بِأَمْر الْخَلِيفَة الَّذِي يملك خُرَاسَان، فأوصل إِلَيْهِ كتابي، فسيقوم بِقَضَاء حَقك. ثمَّ كتب لَهُ فِي قريطيس كتابا، وطواه، وَوضع عَلَيْهِ خَاتمه، فَانْصَرف أَحْمد إِلَى منزله. فَلَمَّا قلد الْفضل بن سهل أَمر الْمَأْمُون؛ قَصده أَحْمد بن أبي خَالِد، فوصل إِلَيْهِ فِي دَار الْمَأْمُون. فَلَمَّا فرغ من أَعماله؛ أوصل إِلَيْهِ الْكتاب، فَأنْكر وَجهه، وَسَأَلَهُ عَن صَاحب الْكتاب، فَقَالَ: يقرأه الْأَمِير، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، فَإِنَّهُ سيعرفه. فَلَمَّا فضه، وَنظر إِلَى الْخط؛ استبشر، ثمَّ استدنى أَحْمد بن أبي خَالِد،

وأعلمه أَنه من أعظم خلق الله منَّة عَلَيْهِ، وأوجبهم حَقًا، وَأمره بالمصير إِلَى منزله. فَصَارَ أَحْمد بن أبي خَالِد إِلَى دَار الْفضل، فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ فِيهَا؛ عانقه وَقَبله، وَقَالَ: أوجبت، وَالله، عَليّ حَقًا. وَسَأَلَهُ عَن خبر الْكتاب، فَذكره لَهُ، فوعده ببلوغ الْمحبَّة، وَأمر بإنزاله منزلا يتَّخذ لَهُ، ويفرش بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَوجه بحاجبه، وَبَعض خدمه , وَمَعَهُمْ تخوت ثِيَاب، وَخَمْسُونَ ألف دِرْهَم، وَاعْتذر إِلَيْهِ، وَأمره بالاستعداد للوصول إِلَى الْمَأْمُون، ثمَّ أوصله إِلَيْهِ، وَوَصفه لَهُ، وقرظه. وَلم يزل يقوم بِحَالهِ عِنْده، حَتَّى أَمر الْمَأْمُون بتصريف أَحْمد بن أبي خَالِد، وأجرى لَهُ الأرزاق والأنزال، وأجراه فِي الْوُصُول إِلَيْهِ مجْرى الْخَاصَّة، وقلده من أَعمال الخراسان وَمَا وَرَاء النَّهر، أعمالا جليلة، وتمكنت حَاله عِنْده. قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس: وحَدثني عَليّ بن أبي عون، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس بن الْفُرَات، قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عمر الْجِرْجَانِيّ الْكَاتِب: وَذكر من خبر أَحْمد بن أبي خَالِد وَيحيى بن خَالِد مثل الَّذِي ذكره يحيى بن خاقَان، وَزَاد فِيهِ: إِن أَحْمد بن أبي خَالِد لم يحظ من أَيَّام يحيى بن خَالِد بِشَيْء، وَإنَّهُ لزمَه عِنْد حَبسه، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة زوده كتابا إِلَى الْفضل بن سهل يعْتَذر إِلَيْهِ فِيهِ من ولَايَة مَا أولاه، ويسأله مكافأته عَنهُ، وَأَنه احتفظ بِالْكتاب مُدَّة أَيَّام الرشيد، وصدرا من أَيَّام مُحَمَّد، وَسَاءَتْ حَال أَحْمد بن أبي خَالِد، وَعظم فقره جدا، واشتدت عَلَيْهِ العطلة والخلة، فَلَمَّا أنفذ مُحَمَّد الْأمين عَليّ بن عِيسَى بن ماهان لمحاربة طَاهِر؛ عمل أَحْمد على اتِّبَاع عسكره.

قَالَ مُحَمَّد بن عمر الْجِرْجَانِيّ: فَجَاءَنِي يذكر مَا عزم عَلَيْهِ، ويصف إفراط خلته، وقصور حيلته، وسألني أَن أسأَل سَلاما الأبرش، لمودة كَانَت بَينه وَبَين أَبِيه، أَن يُعينهُ بمركوب، وبألفي دِرْهَم. فقصدت سَلاما، وَسَأَلته فِي ذَلِك، فَقَالَ: وَالله، لَو كَانَ لي بِعَدَد الذُّبَاب دَوَاب؛ مَا أَعْطيته شَعْرَة من ذَنْب وَاحِد مِنْهَا، وَلَو كَانَ عِنْدِي بِقدر رمل عالج عين وورِق؛ مَا أَعْطيته مِنْهَا حَبَّة. فَانْصَرَفت إِلَيْهِ، وَقد كَانَ أَقَامَ فِي منزلي، ينْتَظر مَا يجْرِي، فَأَخْبَرته بِمَا قَالَ، وَحلفت لَهُ أَنِّي مَا أملك إِلَّا دَابَّة وَبغلة وَأَرْبع مائَة دِرْهَم، فليأخذ مِنْهَا مَا شَاءَ. فَقَالَ: أَنْت إِلَى الدَّابَّة فِي الْحَضَر أحْوج، وَأَنا إِلَى البغلة فِي السّفر أحْوج، فأعطنيها، وَأَنت مُقيم، وَأَنا مُسَافر، وتقدر، أَنْت، أَن تحتال لنَفسك نَفَقَة، وَأَنا لَا أقدر، فَأعْطِنِي أَربع مائَة الدِّرْهَم كلهَا. فدفعتها إِلَيْهِ مَعَ البغلة، وَصَحب عَسْكَر عَليّ بن عِيسَى. فَلَمَّا حدث على عَليّ مَا حدث؛ صَار إِلَى الْفضل، فأوصل إِلَيْهِ الْكتاب، فقرأه، وسر نِهَايَة السرُور، وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام، وَأنكر عَلَيْهِ تَأَخره إِلَى ذَلِك الْوَقْت. وَقَالَ: مَا أعرف شَيْئا أَقْْضِي بِهِ حَقك، إِلَّا أَن أشركك فِي أَمْرِي، وأقلدك الْعرض على أَمِير الْمُؤمنِينَ خلَافَة لي. فقلده ذَلِك، وَكبر أمره. وَلم يزل أَحْمد بن أبي خَالِد، يضْرب على سَلام الأبرش، ويغري بِهِ الْمَأْمُون، إِلَى أَن قَالَ لَهُ: قد وهبت لَك دَمه، وَجَمِيع مَا يملكهُ. فَقبض عَلَيْهِ، وَقبض مِنْهُ مَا قِيمَته أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم، ودعا بِالسَّيْفِ والنطع، وَأمر بِضَرْب عُنُقه، بعد أَن قرعه بِمَا كَانَ مِنْهُ عِنْد مَسْأَلَة مُحَمَّد بن عمر الْجِرْجَانِيّ فِي أمره.

ثمَّ أعرض عَن قَتله، وَأمر بحبسه، وَقَالَ لِلْمَأْمُونِ: إِنِّي كرهت أَن أتجاوز مَذْهَب أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْعَفو، فاستصوب رَأْيه. وترقت أَحْوَال أَحْمد بن أبي خَالِد، إِلَى أَن تقلد وزارة الْمَأْمُون. قَالَ: مُحَمَّد بن عمر الْجِرْجَانِيّ: وَحدثت الْفِتَن بعد ذَلِك بِبَغْدَاد، وتشرد أَهلهَا عَنْهَا، فهربت إِلَى إخْوَان كَانُوا لي بِالْكُوفَةِ، فأقمت عِنْدهم، واستطبت الْبَلَد، فسكنته، وابتعت بِجَمِيعِ مَا أملكهُ ضَيْعَة هُنَاكَ، وولينا عَامل أحسن إِلَيْنَا، فشكرناه، وانعقدت بَيْننَا وَبَينه مَوَدَّة وكيدة. ثمَّ صرف بعامل آخر، فحقد علينا الْمَوَدَّة الَّتِي كَانَت بَيْننَا وَبَين المصروف، فأساء معاشرتنا، واضطرنا إِلَى قصد أَحْمد بن أبي خَالِد للتظلم، فَدخلت بَغْدَاد، فَلَمَّا رَآنِي أكرمني، واستبطأني، وَذكر تطلعه إِلَى لقائي، وَطَلَبه إيَّايَ، وغموض خبري عَلَيْهِ، وسألني عَن أموري، فشرحتها لَهُ، فَكتب بِخَطِّهِ بِصَرْف الْعَامِل، وتقليد المصروف الَّذِي كَانَ صديقي. وأعلمني بِمَا جرى عَلَيْهِ أَمر سَلام الأبرش، وَقَالَ: قد كنت جعلت لَك فِيمَا قبضت مِنْهُ الرّبع، وَهُوَ مَعْزُول لَك، فتسلمه، وَكَانَ قِيمَته ألف ألف دِرْهَم.

قصة أبي عبيد الله وزير المهدي وكيف ارتقت به الحال حتى نال الوزارة

قصَّة أبي عبيد الله وَزِير الْمهْدي وَكَيف ارتقت بِهِ الْحَال حَتَّى نَالَ الوزارة وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْخَطِيب، قَالَ: حَدثنِي من سمع أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول، يَقُول: كَانَ أبي صديقا لأبي عبيد الله وَزِير الْمهْدي، وَهُوَ إِذْ ذَاك معلم، وَأبي متخلي، فَكَانَا يتعاشران، ويألفهما أَحْمد بن أَيُّوب. قَالَ أَبُو خَالِد: وَكُنَّا نتبين فِي أبي عبيد الله شمائل الرِّئَاسَة، ونصدره إِذا اجْتَمَعنَا، وَنَرْجِع إِلَى رَأْيه فِيمَا يعرض لنا. فَقلت لَهُ لَيْلَة، وَنحن نشرب: نحسبك سترأس، وتبلغ مبلغا عَظِيما، فَإِن كَانَ ذَلِك؛ فَمَا أَنْت صانع بِنَا؟ فَقَالَ: أما أَنْت يَا أَبَا خَالِد؛ فأصيرك خليفتي على أَمْرِي، وَأما أَنْت يَابْنَ أَيُّوب؛ فَقل مَا أردْت. فَقَالَ: أُرِيد أَن توليني أَعمال مصر سبع سِنِين مُتَوَالِيَة، وَلَا تَسْأَلنِي بعد الصّرْف عَن حِسَاب. قَالَ: ذَلِك لَك. قَالَ أَبُو خَالِد: فَلم يمض لهَذَا الْأَمر إِلَّا مديدة، حَتَّى أَمْسَكت السَّمَاء، وَخرج النَّاس يستسقون، وَكَانَ عَلَيْهِم، إِذْ ذَاك، ثَعْلَبَة بن قيس، عَاملا من قبل صَالح بن عَليّ، فَمَا انْصَرف النَّاس، حَتَّى أَتَت السَّمَاء بمطر غزير. فَقَالَ ثَعْلَبَة لكَاتبه: اكْتُبْ إِلَى الْأَمِير بِمَا كَانَ من الْقَحْط، وَمَا حدث بعده

من الاسْتِسْقَاء، وَمَا تفضل الله بِهِ من الْغَيْث. فَكتب كتابا، لم يرضه ثَعْلَبَة، فَقَالَ لمن حوله: أَلا يصاب لي رجل، يُخَاطب السُّلْطَان عني، بخطاب حسن. فَقَالَ لَهُ بَعضهم: هَهُنَا رجل مؤدب، مَعَه بلاغة، وأدب كثير، وَفِيه، مَعَ ذَلِك، عقل. فَقَالَ: أحضرهُ. فأحضر أَبَا عبيد الله، وَأمره بِأَن يكْتب عَنهُ إِلَى صَالح بن عَليّ، فِي ذَلِك الْمَعْنى، فَكتب كتابا استحسنه ثَعْلَبَة، وأنفذه إِلَى صَالح بن عَليّ. فَلَمَّا قَرَأَهُ أعجبه، وَكتب إِلَى ثَعْلَبَة: أَن أحمل إِلَيّ كاتبك على الْبَرِيد، فَحَمله إِلَيْهِ، فَلَمَّا وافاه؛ امتحنه، فَوَجَدَهُ كَافِيا فِي كل مَا أَرَادَهُ، فاستكتبه. فَلَمَّا تَتَابَعَت كتبه عَن صَالح بن عَليّ إِلَى الْمَنْصُور؛ قَالَ الْمَنْصُور: كنت أرى كتب صَالح بن عَليّ ترد ملحونة، وأراها الْآن ترد بِغَيْر ذَلِك الْخط، وَهِي محكمَة سديدة حَسَنَة. فخبر بِخَبَر أبي عبيد الله، فَأحْضرهُ، فَلَمَّا فاتشه؛ وجده كَمَا أَرَادَ، فاستكتبه لِابْنِهِ الْمهْدي. قَالَ أَبُو خَالِد: وَطعن الرّبيع على أبي عبيد الله، عِنْد الْمَنْصُور، مرَارًا. فَقَالَ: وَيلك، أتلومني فِي اصطناع مُعَاوِيَة، وَقد كنت أجتهد بِأبي عبد الله؛ يَعْنِي: الْمهْدي، أَن ينْزع عَنهُ لِبَاس الْعَجم، فَلَا يفعل، فَلَمَّا صَحبه مُعَاوِيَة؛

لبس لِبَاس الْفُقَهَاء. قَالَ أَبُو خَالِد: ثمَّ أشخصني أَبُو عبيد الله إِلَيْهِ، لما كتب للمهدي، فقلدني خِلَافَته على الدِّيوَان، فَلَمَّا مَاتَ الْمَنْصُور، وَولي الْمهْدي الْخلَافَة؛ أنفذت الْكتب إِلَى أَحْمد بن أَيُّوب بِولَايَة مصر، فَلم يزل بِمصْر، واليا عَلَيْهَا، إِلَى أَن توفّي بهَا.

القاضي التنوخي يتحدث عن قصته مع أبي علي أحمد بن محمد الصولي

القَاضِي التنوخي يتحدث عَن قصَّته مَعَ أبي عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد الصولي قَالَ مؤلف الْكتاب: كنت بِالْبَصْرَةِ فِي الْمكتب سنة خمس وَثَلَاثِينَ، وَأَنا مترعرع، أفهم، وأحفظ مَا أسمع، وأضبط مَا يجْرِي. وَكَانَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي، قد مَاتَ بهَا فِي شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة، وَأوصى إِلَى أبي فِي تركته، وَذكر فِي وَصيته أَنه لَا وَارِث لَهُ. فَحَضَرَ إِلَى أبي ثَلَاثَة إخْوَة شباب فُقَرَاء، بأسوإ حَال، يُقَال لأكبرهم: أَبُو عَليّ أَحْمد، والأوسط: أَبُو الْحسن مُحَمَّد، والأصغر أَبُو الْقَاسِم، بَنو مُحَمَّد التمار. وَذكروا لأبي، أَن أمّهم تقرب إِلَى أبي بكر الصولي، وَأَنَّهُمْ يرثونه برحمها مِنْهُ، وَذكروا الرَّحِم واتصالها. فسامهم أبي، أَن يبينوا ذَلِك عِنْده بِشَهَادَة شَاهِدين من الْعُدُول؛ ليعطيهم مَا يفضل، بعد الدَّين من التَّرِكَة، عَن الثُّلُث، فاضطربوا فِي ذَلِك، وَكَانُوا يتعكسون فِي إِقَامَة الشَّهَادَة شهورا، ويلازمون بَاب أبي. وَكَانَ مكتبي فِي بَيت قد أخرجه من دَاره إِلَى سكَّة الِاثْنَيْنِ الَّتِي ينزلها، وَجعل بَينه وَبَين بَاب دَاره، دكانا ممتدا.

فَكنت ومعلمي وَالصبيان نجلس طرفِي النَّهَار على الدّكان، وَفِي انتصافه فِي الْبَيْت. فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَة يَجْلِسُونَ عِنْدِي فِي الْمكتب كثيرا، ويؤانسون معلمي، ويلاعبوني، ويتقربون إِلَيّ، ويسألوني أَن أعرض لَهُم على أبي، الرقعة بعد الرقعة، يعطوني إِيَّاهَا. فَقَالَ لي يَوْمًا، الْأَكْبَر مِنْهُم، وَهُوَ أَبُو عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد: إِن أَعْطَاك الله، تَعَالَى، الْحَيَاة، حَتَّى تتقلد الْقَضَاء، وَتصير مثل القَاضِي أَبِيك فِي الْجَلالَة وَالنعْمَة، وجئتك، أَي شَيْء تُعْطِينِي؟ فَقلت لَهُ، بالصبا، وكما جرى عَلَيْهِ لساني: خمس مائَة دِينَار. قَالَ: فَأعْطِنِي خطك بهَا، فَاسْتَحْيَيْت، وَسكت. فَقَالَ لمعلمي: قل لَهُ يكْتب لي. فَقَالَ لي: اكْتُبْ لَهُ، وأملى عَليّ الْمعلم، وَأَبُو عَليّ، رقْعَة فِي هَذَا الْمَعْنى، وَأَخذهَا أَبُو عَليّ. فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى استدت لَهُم بِالشَّهَادَةِ عِنْد أبي، على صِحَة مَا ادعوهُ من الرَّحِم، وَاسْتِحْقَاق الْمِيرَاث بهَا. وَكَانَ أبي قد بَاعَ التَّرِكَة، وَقضى الدَّين، وَفرق قدر الثُّلُث، وَترك الْبَاقِي مَالا عِنْده، فَأمر بِتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِم، وَأشْهد بِقَبْضِهِ عَلَيْهِم، وَانْصَرفُوا. فَمَا وَقعت لي عين على أحد مِنْهُم، إِلَّا فِي سنة وَخمسين وَثَلَاث مائَة، فَإِنِّي كنت أتقلد الْقَضَاء وَالْوُقُوف بسوق الأهواز، ونهر تيرى، والأنهار، والأسافل، وسوق رامهرمز، سهلها وجبلها، وأعمال ذَلِك، وَأَنا فِي دَاري بالأهواز، وأمري فِي ضيعتي مُسْتَقِيم.

فَدخل إِلَيّ بوابي، فَقَالَ: بِالْبَابِ رجل يَقُول: أَنا من قرَابَة الصولي، قدمت من بَغْدَاد بكتب إِلَيْك، وَذكره لي، فَلم أذكرهُ. وَقلت: أدخلهُ. فَدخل رجل شيخ لم أعرفهُ، فَسلم وَجلسَ، وَقَالَ: أَنا خَادِم القَاضِي مُنْذُ كَانَ من الْمكتب، أَنا قرَابَة الْوَلِيّ، فعرفته، وَلم أذكر الْخط، وَلَا الْقَضِيَّة. فَأخْرج إِلَيّ كتبا من جمَاعَة رُؤَسَاء بِبَغْدَاد، يذكرُونَ أَنه قد كَانَ مُقيما مُنْذُ سِنِين بِبَغْدَاد، وراقا بقصر وضاح بالشرقية، بِحَالَة حَسَنَة، فلحقته محن أفقرته، ويسألوني تصرفه ومنفعته، فوعدته جميلا. فَقَالَ: إِنَّمَا جعلت هَذِه الْكتب طَرِيقا، يعرفونني القَاضِي بهَا، وَمَا أعول الْآن عَلَيْهَا، إِذْ قد أحياني الله، عز وَجل، إِلَى أَن رَأَيْته قَاضِيا فِي بعض عمل أَبِيه، رَضِي الله عَنهُ، وجاهه وَنعمته، كجاهه وَنعمته، أَو قريب من ذَلِك، وَقد حل لي بذلك دين عَلَيْهِ، وَاجِب فِي ذمَّته، وَمَا أقنع إِلَّا بِهِ. فَقلت: مَا معنى هَذَا الْكَلَام؟ فَقَالَ: أينسى القَاضِي ديني؟ ثمَّ أخرج رقعتي الَّتِي كَانَ أَخذهَا مني فِي الْمكتب. فحين رَأَيْتهَا؛ ذكرت الحَدِيث، وحمدت الله كثيرا، وَقلت: دين وَاجِب حَال، وَحقّ مرعي وَكيد، وبكن تعرف صعوبة الزَّمَان، وَالله، مَا يحضرني الْيَوْم مائَة دِينَار مِنْهَا، وَلَو حضرت؛ مَا صلح أَن أشتهر بصلتك بهَا،

فَيصير لي حَدِيث يعود بِضَرَر عَليّ، وَلَكِن ارْض مني بِأخذ دينك مُتَفَرقًا. فَقَالَ: قد رضيت، وَمَا جِئْت إِلَّا لأقيم فِي فنائك، إِلَى أَن أَمُوت. وَجَاء لينهض، فَقلت: إِلَى أَيْن؟ اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فَوَقَعت لَهُ فِي الْحَال إِلَى بزاز كَانَ يعاملني، أَن يُعْطِيهِ ثيابًا بِثَلَاث مائَة دِرْهَم، وَإِلَى جهبذ الْوُقُوف، أَن يُعْطِيهِ من أَبْوَاب الْبر عشرَة دَنَانِير، واستدعيت كيس نفقتي، وأعطيته مِنْهُ مِائَتي دِرْهَم. وَقلت لَهُ: قُم، فاستأجر دَارا، وتأثث بِمَا قد حضر الْآن، واكتس، وعد إِلَيّ؛ لأصرفك فِيمَا أَرْجُو أَن أوصله إِلَيْك مِنْهُ وَمن مَالِي، الْجُمْلَة الَّتِي فِي الرقعة. فَقبل يَدي ورجلي، وَبكى، وَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي أَرَانِي هَذَا الْفضل مِنْك، وحقق فراستي فِيك، وَقَامَ. وَجَاءَنِي بعد يَوْمَيْنِ فِي ثِيَاب جدد، فَأمرت بوابي أَلا يَحْجُبهُ عَليّ، وخلطته بنفسي، وأجريت عَليّ من أَبْوَاب الْبر بِالْوُقُوفِ، بالضعف والمسكنة، دينارين فِي الشَّهْر، وقلدته الإشراف على المنفقين فِي ديوَان الْوُقُوف، وأجريت عَلَيْهِ لهَذَا ثَلَاثَة دَنَانِير أُخْرَى فِي الشَّهْر، ووليته جباية عقار الْأَيْتَام، ووليته عَلَيْهِم، وأذنت لَهُ فِي أَخذ أعشار الِارْتفَاع، وَجَعَلته مشرفا على أوصياء فِي وَصَايَا فِي أَيْديهم، إِلَى أَن يخرجوها فِي وجوهها، وَجعلت لَهُ على ذَلِك أجرا. وَركبت إِلَى عَامل الْبَلَد، فَسَأَلته لَهُ، فَأجرى عَلَيْهِ فِي كل سنة، من مَال

أَثمَان فَرَائض الصَّدقَات، سِتِّينَ دِينَارا، وَكَانَ رسم أهل ديوَان الصَّدقَات بكور الأهواز، فِي ذَلِك الْحِين، أَن يسبب لَهُم بِنصْف أَرْزَاقهم، ويرتفق الْعمَّال من ذَلِك النّصْف بِقِطْعَة مِنْهُ، ويصل إِلَيْهِم الْبَاقِي تحققا، أَو يسبب أَخذه مستأنفا؛ لضيق المَال وقلته عَن أصُول أرزاق المرتزقة، فَكنت أتقدم إِلَى من يقوم لَهُ فِي الْمُطَالبَة، أَن يلازم الْعمَّال، حَتَّى يصل إِلَيْهِ كَامِلا. وَكنت أعْطِيه، فِي كل شهر، أَو شَهْرَيْن، شَيْئا من مَالِي، وشيئا من كسوتي، وثيابا صَحِيحَة من بزازي، فوَاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، مَا صرفت عَن عَمَلي، وَكَانَت صحبته لي نَحْو ثَلَاثِينَ شهرا، إِلَّا وَقد وصل إِلَيْهِ من هَذَا الْوَجْه وَمن غَيره، أَكثر من خمس مائَة دِينَار، حَتَّى أَنه تزوج فِيهَا بوساطتي، وبجاه خدمتي، إِلَى امْرَأَة موسرة، من أهل الأهواز، وَصَارَ الرجل من المتوسطين بالأهواز، وَصَارَ ينْسب إِلَى الصولي، وَشهر نَفسه بـ: أبي عَليّ الصولي. ثمَّ صرفت عَن تِلْكَ الْولَايَة فِي سنة تسع وَخمسين وَثَلَاث مائَة، لما ولي الوزارة مُحَمَّد بن الْعَبَّاس، فقصدني وصرفني، وَقبض ضيعتي، وأشخصني إِلَى بَغْدَاد، بعد حُقُوق كَانَت لي عَلَيْهِ، وآمال لي فِيهِ. فتجرد أَبُو عَليّ هَذَا، الْمَعْرُوف بـ: الصولي، لسبي فِي الْمجَالِس، وشتمي فِي المحافل، والطعن عَليّ بالعظائم، والسعاية عَليّ فِي مكارهي. فكشف الله، تَعَالَى، تِلْكَ المحن عني، وأجراني على تفضله، بِغَيْر كثير سعي مني، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وعدت بعد ثَلَاث سِنِين وشهور إِلَى الأهواز، واليا بهَا، وللأعمال الَّتِي كنت عَلَيْهَا مَعهَا، وأضيف إِلَيّ وَاسِط وأعمالها، وَقد اسْتخْلفت عَلَيْهَا وَرجعت إِلَى دَاري، فَجَاءَنِي هَذَا الرجل معتذرا. فَقلت لَهُ: أَتُحِبُّ أَن أقبل عذرك؟

قَالَ: نعم. قلت: أَخْبرنِي مَا السَّبَب الَّذِي أحوجك إِلَى مَا عملت بِي من الْقَبِيح، بعد مَا عملته مَعَك من الْجَمِيل؟ فجمجم فِي القَوْل. فَقلت لَهُ: مَا إِلَى الرِّضَا سَبِيل. فَقَالَ: أَنا أصدقك، دخلت عَلَيْك يَوْمًا، وعَلى رَأسك قلنسوة باذان جَدِيدَة من خرقَة حَسَنَة، فاستحملتها، فسألتك هبتها لي، فرددتني، فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام؛ رَأَيْتهَا على رَأس ابْن نظيف الْمُتَكَلّم، الْمَعْرُوف بـ: شهدانه. فَسَأَلته: من أَيْن لَك هَذِه؟ فَقَالَ: وَهبهَا لي القَاضِي. فوقر ذَلِك فِي نَفسِي مِنْك، وتزايد، فَلَمَّا حدثت تِلْكَ النكبة؛ كَانَ مني بعض مَا بلغك، وَأَكْثَره كذب، وَأَنت ولي الْعَفو، وَجعل يقبل يَدي ورجلي، ويبكي. فعجبت من لؤم طبعه، وَمن كَثْرَة شَره، وقبح كفره للنعم، وَاخْتِلَاف أَحْكَام الْأَزْمِنَة وَأَهْلهَا، وَجعلت أَكثر من قَول: الْحَمد لله على تفضله، وَلم أكافه بقبيح الْبَتَّةَ. واقتصرت بِهِ على الْحَال الَّتِي كنت وليته إِيَّاه؛ لِأَن القَاضِي الَّذِي ولي الْقَضَاء بعدِي، أقره على مَا كنت وليته، فَكَانَ قد اسْتمرّ لَهُ أَخذ الدَّنَانِير من الصَّدقَات والجاري من الْوُقُوف وأبواب الْبر، وقبضت يَدي عَن نَفعه بِمَا فَوق ذَلِك.

فر هاربا من الضائقة فوافاه الفرج في النهروان

فر هَارِبا من الضائقة فوافاه الْفرج فِي النهروان وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ أَحْمد بن جَعْفَر بن عبد ربه البرقي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو سعيد الْحُسَيْن بن سعيد القطربلي. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وحَدثني صَاحب لي من ولد إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق، أَخُو مُوسَى بن إِسْحَاق الْأنْصَارِيّ الخطمي، وَهُوَ على بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، أَخُو مُوسَى بن إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْحُسَيْن بن أبي عمر القَاضِي، يحدث أَبَا الْقَاسِم عَليّ بن يَعْقُوب، كَاتب بجكم، وَكَاتب الترجمان بِهَذَا الحَدِيث، وَيَقُول: إِنَّنِي ألفت كتابا وسميته: كتاب (الْفرج بعد الشدَّة) ، وَذكرت فِيهِ هَذَا الْخَبَر، وعدة أَخْبَار تجْرِي مجْرَاه، قَالَ: وَأخذ يقرظ كِتَابه، ويشوق عَليّ بن يَعْقُوب إِلَيْهِ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو سعيد الْحُسَيْن القطربلي، قَالَ: كَانَ فِي جيراني رجل من أهل البيوتات، فَزَالَتْ عَنهُ، وَسَاءَتْ حَاله جدا، وَكَانَت لَهُ زَوْجَة وَأَرْبع بَنَات، فحبلت زَوجته، وَأَخذهَا الْمَخَاض فِي اللَّيْل. قَالَ: وَلم تكن لي حِيلَة فِي الدُّنْيَا، فَخرجت لَيْلًا، هَارِبا على وَجْهي، أَمْشِي، حَتَّى أتيت جسر النهروان، وأملت أَن ألْقى عاملها، وَكَانَ يعرفنِي،

وأسأله تصريفي فِي شَيْء، وتعجيل رزق شهر؛ لأنفذه إِلَى زَوْجَتي. فوصلت إِلَى الْموضع، وَقد ارْتَفع النَّهَار، فَقَعَدت أستريح بِالْقربِ من بقال. فَإِذا فيج، وَهُوَ السَّاعِي، قد جَاءَ، فَوضع مخلاته وَعَصَاهُ، ثمَّ قَالَ للبقال: أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا؛ من خبز وتمر وإدام، فَأعْطَاهُ، فَأكل، وَوزن لَهُ الثّمن. ثمَّ فتح مخلاته، فميز مَا فِيهَا من الْكتب، فَرَأَيْت فِيهَا كتابا إِلَيّ، وَعَلِيهِ اسْم منزلي واسمي وكنيتي، وَلَا أعرف كَاتبه. فَقلت للفيج: هَذَا الْكتاب إِلَيّ. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَقول؟ فَقلت لَهُ: قد قلت الصَّحِيح، فَإِن مضيت إِلَى بَغْدَاد؛ لم تَجِد صَاحب الْكتاب. فَقَالَ: أههنا إِنْسَان يعرفك؟ قلت: نعم، الْعَامِل. قَالَ: قُم بِنَا إِلَيْهِ.

فَجئْت، فَلَمَّا دخلت على الْعَامِل؛ قَالَ: مَا أقدمك علينا، يَا فلَان؟ فَقلت لَهُ: قبل كل شَيْء، أعزّك الله، من أَنا؟ وَأَيْنَ منزلي بِبَغْدَاد؟ فَقَالَ: أَنْت فلَان بن فلَان، ومنزلك بِمَدِينَة السَّلَام، فِي مَدِينَة المنصورة مِنْهَا، فِي سكَّة كَذَا وَكَذَا. فَقلت للفيج: عرفتَ صدقي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَحدثت الْعَامِل بحديثي، وَأخذت الْكتاب من الفيج، فَإِذا هُوَ من بعض المستورين بالدينور، يذكر أَن ابْن عَم كَانَ لي قد توفّي، بعد أَن أوصى إِلَيْهِ أَنِّي وَارثه، وسماني لَهُ، وَوصف منزلي بِبَغْدَاد. قَالَ: وَقد كتب الرجل، يذكر أَن ابْن عمي أوصى بِالثُّلثِ من مَاله فِي وُجُوه من أَبْوَاب الْقرب، وَأَن يسلم بَاقِي ثُلثَيْهِ إِلَيّ، وَأَنه بَاعَ من أثاثه ومنقوله مَا خَافَ فَسَاده من تركته، وَصرف الثُّلُث مِنْهُ فِي بعض مَا كَانَ أوصى بِهِ، وأنفذ إِلَيّ سفتجة بالثلثين من ذَلِك، مبلغها سبع مائَة دِينَارا وَكَذَا وَكَذَا دِينَارا، تحل بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا، على تَاجر فِي دَار الْقطن بالكرخ. وَقَالَ: الْوَجْه أَن تبادر إِلَى الدينور، وتبيع الْعقار والضياع، أَو أبيع الثُّلُث مِنْهَا؛ ليصرف فِي وَجهه، وتتمسك بالثلثين إِذا شِئْت. قَالَ: فورد عَليّ من السرُور مَا لَا عهد لي بِمثلِهِ، وحمدت الله، عز وَجل. فَقلت للفيج: قد وَجب حَقك، وسأحسن إِلَيْك، وشرحت لَهُ قصتي، وَأَنه لَا حَبَّة معي فضَّة فَمَا فَوْقهَا.

فجَاء إِلَى الْبَقَّال، فَقَالَ: زن لأستاذي بِكَذَا وَكَذَا خبْزًا، وبكذا وَكَذَا إدَامًا، وَمَا يُرِيد غَيرهمَا. فتغديت، وَوزن الفيج ثمن ذَلِك من عِنْده، واستأجر حِمَارَيْنِ، فأركبني أَحدهمَا، وَركب هُوَ الآخر، وَوزن الْأُجْرَة من عِنْده. وَجِئْنَا فِي بَقِيَّة يَوْمنَا إِلَى بَغْدَاد، وقصدنا دَار الْقطن، وَفِي النِّهَايَة بَقِيَّة صَالِحَة، فأوصلت السفتجة إِلَى التَّاجِر، فنظرها، وَقَالَ: صَحِيحَة، إِذا حل الْأَجَل؛ فَاحْضُرْ للقبض. فَقلت لَهُ: خُذ حَدِيثي، وَافْعل بعد ذَلِك مَا يوفقك الله، تَعَالَى، لَهُ، وقصصت عَلَيْهِ قصتي. فَقَالَ لي: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، إِنَّك صَادِق؟ فَحَلَفت. فَأخْرج كيسا كَانَ بِقُرْبِهِ، فوزن لي مِنْهُ مَال السفتجة. وصرت من وقتي إِلَى السُّوق، فاشتريت سويقا، وسكرا، وَعَسَلًا، وشيرجا، وخبزا عَظِيما، وخروفا مشويا، وحلوى، مِمَّا يصلح للنِّسَاء فِي النّفاس، ومهدا، وفرشا حسنا، وعطرا صَالحا، وشيئا من ثِيَاب. وصرت إِلَى منزلي، وَقد قرب الْعشَاء الْآخِرَة، فَوجدت كل من فِيهِ من النِّسَاء يلعنني، وَيَدْعُو عَليّ. فَقدمت الحمالين، وَدخلت وَرَاءَهُمْ، فَانْقَلَبت الدَّار بِالدُّعَاءِ لي، وَصَارَ الْغم سُرُورًا، وَوجدت زَوْجَتي قد ولدت غُلَاما. فَعرفت الصّبيان خبر السفتجة وَالْمِيرَاث والفيج، وَأعْطيت

الزَّوْجَة، والقابلة، من الدَّنَانِير شَيْئا. وأقمت الفيج عِنْدِي أَيَّامًا، حَتَّى أصلحت من أَمْرِي، وَأمر عيالي، مَا وَجب صَلَاحه، وخلفت لَهُم نَفَقَة، وَأخذت من الدَّنَانِير نَفَقَة، وَأعْطيت الفيج مِنْهَا، فأجزلت لَهُ، واكتريت حِمَارَيْنِ لي وَله، واستصحبته إِلَى الدينور. فَوجدت فِيهَا مَا تحصل لي مِمَّا خَلفه ابْن عمي نَحْو عشرَة آلَاف دِينَار، فَبعث ذَلِك كُله، وَأخذت بحصتي سفاتج إِلَى بَغْدَاد. وعدت وَقد فرج الله عني، وَقد صلح حَالي، وَأَنا أعيش فِي بَقِيَّة تِلْكَ الْحَال إِلَى الْآن.

خرج مملقا وعاد قائدا

خرج مملقا وَعَاد قائدا وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: أملق بعض الْكتاب، وتعطل وافتقر، حَتَّى لم يبْق لَهُ شَيْء، وَكَاد يسْأَل، وَخرج على وَجهه فِي الْحَالة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. ثمَّ إِنَّه ورد بعد قَلِيل من سفرته، فَدخلت عَلَيْهِ، وَقلت: مَا خبرك، يَا فلَان؟ فَقَالَ: متمثلا بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: فأبنا سَالِمين كَمَا تَرَانَا ... وَمَا خابت غنيمَة سالمينا وَمَا تدرين أَي الْأَمر خير ... أما تهوين أم مَا تكرهينا؟ فطيبت نَفسه، وَجعلت أسليه. فَأَقَامَ أَيَّامًا، وتأتت لَهُ نَفَقَة، فَخرج إِلَى خُرَاسَان، فَمَا سمعنَا لَهُ خَبرا سِنِين، فَإِذا هُوَ قد جَاءَنَا بزِي قَائِد عَظِيم؛ لِكَثْرَة الدَّوَابّ، وَالْبِغَال، وَالْجمال، والغلمان، وَالْمَال الْعَظِيم، والقماش. فَدخلت إِلَيْهِ، وهنأته، فَقَالَ: تضايقي تنفرجي، وَمَا تراني بعد هَذَا أطلب تَصرفا. فَبَاعَ تِلْكَ الْأَشْيَاء، وَترك مِنْهَا مَا يصلح لذِي الْمُرُوءَة، وَاشْترى من المَال ضَيْعَة بِعشْرين ألف دِينَار، وَلزِمَ منزله وضيعته.

عودة المرء سالما غنيمة حسنة

عودة الْمَرْء سالما غنيمَة حَسَنَة قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: أرجف لبَعض رُؤَسَاء دولة شاهدناها بالوزارة، واحتد أمره، وَبرد، وأرجف لعدو لَهُ بالوزارة. فَلَقِيت بعض أصدقاء الأول، فَسَأَلته عَن حَقِيقَة الْحَال، فَقَالَ لي: أمس لَقيته، فَسَأَلته عَن سَبَب وقُوف أمره، واحتداد أَمر عدوه، فَرد عَليّ جَوَاب آيس من الْأَمر. ثمَّ قَالَ لي: وَقد جعلت فِي نَفسِي، أَن انصراف هَذَا الْأَمر خير لي، فَإِن فِيمَا أَلِي من أُمُور المملكة كِفَايَة، ثمَّ أَنْشدني كالمستريح إِلَى ذَلِك، يَقُول: إِذا نَحن أبنا سَالِمين بأنفس ... كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها فأنفسنا خير الْغَنِيمَة إِنَّهَا ... تئوب وفيهَا مَاؤُهَا وحياؤها فَلَمَّا كَانَ بعد بضعَة عشر يَوْمًا؛ أُمِّرَ وَولي الوزارة، وَبَطل أَمر عدوه. وَكَانَ هَذَا الْخَبَر أَجْدَر بِأَن يَجْعَل فِي بَاب من بشر بفرج من نطق، أَو فأل، ولكنني جِئْت بِهِ هَهُنَا؛ لاشتباك معنى الشّعْر فِي الْخَبَرَيْنِ المتجاورين.

قضى الله للهبيري رزقا على يد الوزير ابن الزيات فاستوفاه على رغم أنفه

قضى الله للهبيري رزقا على يَد الْوَزير ابْن الزيات فاستوفاه على رغم أَنفه وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، بِإِسْنَاد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الْكَاتِب، عَن أَحْمد بن إِسْرَائِيل، قَالَ: كنت كَاتبا لمُحَمد بن عبد الْملك الزيات، فَقدم عَلَيْهِ رجل من ولد عمر بن هُبَيْرَة، يُقَال لَهُ: إِبْرَاهِيم بن عبد الله الهبيري، فلازمه يطْلب تَصرفا. وَكَانَ ابْن الزيات قَلِيل الْخَيْر، لَا يرْعَى ذماما، وَلَا يُوجب حُرْمَة، وَلَا يحب أَن يصطنع أحدا، فأضجره الهبيري من طول تردده عَلَيْهِ. فدعاني ابْن الزيات يَوْمًا، وَهُوَ رَاكب، وَقَالَ: قد تبرمت بملازمة هَذَا الرجل، فَقل لَهُ: إِنِّي لست أوليه شَيْئا، وَلَا لَهُ عِنْدِي تصرف، ومره بالانصراف عني. قَالَ: فَقلت: أَنا، وَالله، أستحي أَن ألْقى مؤملا عَنْك، بِمثل هَذَا. قَالَ: لَا بُد أَن تفعل. قلت: نعم. فَلَمَّا صرت إِلَى منزلي؛ وجهت إِلَى الهبيري، فَجَاءَنِي، فَقلت لَهُ: مَا كنت تؤمل أَن تنَال بِصُحْبَة أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات، خُذْهُ من مَالِي، وَلَا تقربه، وَهَذِه ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم. فَقَالَ مُتَعَجِّبا: من مَالك؟ قلت: نعم.

قَالَ: أَنا أُؤَمِّل أَن أكسب مَعَه أَكثر من ذَلِك. فَقلت: إِنَّه قد حَملَنِي إِلَيْك رِسَالَة، استحيت من أَدَائِهَا، فعدلت عَنْهَا إِلَى هَذَا. قَالَ: فهات مَا حملك. قَالَ: فَأَعَدْت عَلَيْهِ مَا قَالَ ابْن الزيات. فَقَالَ: قد سَمِعت مِنْك، فَهَل أَنْت مؤد عني مَا أَقُول؟ قلت: نعم. قَالَ: قل لَهُ: قد كنت آتِيك فِي صَبِيحَة كل يَوْم مرّة، وَوَاللَّه، لآتينك مُنْذُ الْآن فِي كل غدْوَة وَعَشِيَّة، فَإِن قضى الله، عز وَجل، على يدك رزقا، أَخَذته على رغمك. فَرَجَعت إِلَى ابْن الزيات، فأعلمته قَوْله. فَقَالَ: دَعه، فوَاللَّه، لَا يرى مني خيرا أبدا. قَالَ: ولازمه الرجل، غدْوَة وَعَشِيَّة، فَكَانَ إِذا رَآهُ؛ الْتفت إِلَيّ، وَقَالَ: قد جَاءَ البغيض، فَمَكثَ كَذَلِك مُدَّة. وَركب ابْن الزيات يَوْمًا إِلَى الواثق، وَهُوَ بالهاروني، بسر من رأى، وَكنت مَعَه.

فَدخل إِلَى الْخَلِيفَة، وَجَلَست فِي بعض الدّور، أنْتَظر خُرُوجه، فَخرج، وَهُوَ يكثر التَّعَجُّب. فَسَأَلته، فَقَالَ: أَنْت تعرف مذهبي، قَالَ: وَكَانَ يرى رَأْي الْمُعْتَزلَة، وَيَقُول: إِن الأرزاق تَأتي بالاكتساب. فَقلت لَهُ: وماذا تهَيَّأ عَلَيْك؟ فَقَالَ: دخلت إِلَى الْخَلِيفَة، فَقَالَ: على الْبَاب أحد نصطنعه؟ فَلم يخْطر ببالي غير الهبيري، فَأَمْسَكت. فَقَالَ: وَيلك، أُكَلِّمك فَلَا تُجِيبنِي، وأعجلني عَن الْفِكر. فَقلت: على بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، رجل من أَعدَاء دولته، وأعداء سلفه، وَمن صنائع بني أُميَّة، من ولد عمر بن هُبَيْرَة. قَالَ: فنصطنعه فيشكرنا، كَمَا اصْطنع أَبَاهُ بَنو أُميَّة فشكرهم. قلت: إِنَّه معدم. قَالَ: نغنيه، فراودته. فَقَالَ: كم تدفعني عَنهُ؟ أعْطه السَّاعَة ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. ثمَّ قَالَ: من أهل الدراريع هُوَ، أم من أهل الأقبية؟ قلت: صَاحب قبَاء. قَالَ: قلدوه السَّاعَة عملا يصلح لَهُ، وَأثبت لَهُ من وَلَده وغلمانه وَأَهله، مائَة رجل. فَلَمَّا فرغ من كَلَامه؛ قَالَ: قل للهبيري مَا عرفتك، وادفع إِلَيْهِ مَا أَمر لَهُ الْخَلِيفَة بِهِ، وسله أَلا يشكرني، فقد جهدت فِي دفع الواثق عَنهُ، فَمَا انْدفع.

قَالَ أَحْمد بن إِسْرَائِيل: فَلَمَّا خرجت إِلَى الشَّارِع، إِذا بالهبيري ينْتَظر خُرُوج ابْن الزيات، فعرفته مَا جرى، فَقَالَ: لَا بُد من شكره على كل حَال، وَجَاء ابْن الزيات فترجل لَهُ الهبيري، فشكره. فَقَالَ لَهُ: أم أقل لِأَحْمَد يَقُول لَك: لَا تشكرني. فَقَالَ: لَا بُد من ذَلِك؛ لِأَن الله، تَعَالَى، قد أجْرى رِزْقِي على يَديك. قَالَ أَحْمد بن إِسْرَائِيل: فوَاللَّه، مَا مضى الْيَوْم، حَتَّى قبض المَال، وَولي بعض كور فَارس. وَذكر هَذَا الْخَبَر مُحَمَّد بن عَبدُوس الجهشياري، فِي كِتَابه: كتاب (الوزراء) ، عَمَّن حَدثهُ بِهِ، عَن أَحْمد بن إِسْرَائِيل، فَذكر أَن الرجل، يُقَال لَهُ: أَحْمد بن عبد الله الهبيري، وَذكر قَرِيبا من هَذَا، وَذكر أَن الَّذِي خُوطِبَ فِي أمره من الْخُلَفَاء، كَانَ المتَوَكل، وَأَن الَّذِي أَمر لَهُ بِهِ، كَانَ خَمْسَة آلَاف دِرْهَم، وَأَن يضم إِلَيْهِ ثَلَاث مائَة رجل، وَأَن حَاله بعد ذَلِك علت عِنْد المتَوَكل، وَلم يقل أَنه قَلّدهُ بعض كور فَارس. وحَدثني أبي، رَحمَه الله تَعَالَى، هَذَا الحَدِيث، وَذكر أَن تردد الهيبري، وَلم يسمه، إِلَى ابْن أبي خَالِد الْأَحول، وَأَن الَّذِي حمل الرسَالَة إِلَى الهبيري، قَصده إِلَى منزله، وَحمل مَعَه ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، وَقَالَ: إِن الْوَزير يَقُول لَك: لَيْسَ لَك عِنْدِي تصرف، فَخذ هَذِه النَّفَقَة، وَانْصَرف عني إِلَى حَيْثُ شِئْت. فَغَضب الهبيري، وَقَالَ: جعلني شحاذا، وَالله لَا أَخَذتهَا. قَالَ الرَّسُول: فغاظني ذَلِك، فَقلت لَهُ: وَالله، مَا المَال إِلَّا من عِنْدِي؛ لِأَنِّي استحيت أَن أُعِيد عَلَيْك رسَالَته، فآثرت أَن أغرم مَالا فِي الْوسط، أجمل بِهِ صَاحِبي، وأؤجر فِيك، وَأَرْفَع نَفسِي عَن قَبِيح التَّوَسُّط الَّذِي ارتكبته.

فَقَالَ: أما أَنْت؛ فَأحْسن الله جزاءك، وَأما مَالك؛ فَأَنا لَا أقبله، وَلَو مصصت الثماد، وَلَكِن تُؤدِّي إِلَيّ الرسَالَة بِعَينهَا، فأديتها. فَقَالَ: تتفضل، وَتحمل عني حرفين. فَقلت: هَات. قَالَ: تَقول لَهُ، وَالله، مَا لزومي لَك فِي نَفسك، وَلَو تعطلت، مَا مَرَرْت بك، وَلَكِن الله، تَعَالَى، يَقُول: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [الْبَقَرَة: 189] ، وَأَنت بَاب رزق مثلي؛ لِأَنِّي لَا أحسن إِلَّا هَذِه الصِّنَاعَة، وَلَا بُد من أَن آتِيك طَالبا رِزْقِي من بَابه، وَلَيْسَ يَمْنعنِي ذَلِك استقبالك إيَّايَ بِالرَّدِّ، فَإِن قسم الله، تَعَالَى، لي على يَديك شَيْئا؛ أَخَذته مِنْك، وَإِلَّا فَلَا أقل من أَن أؤذيك برؤيتي، كَمَا تؤذيني بتعطيلي. وَقَالَ فِيهِ عَن ابْن أبي خَالِد: فصرت فِي الْوَقْت إِلَى الْمَأْمُون، فَقَالَ: هاتم شخصا أَوله مصرا. قَالَ: فَأَرَادَ أَن يذكر لَهُ رجلا يعتني بِهِ، يعرف بـ: الزبيرِي؛ لتولي ذَلِك الْعَمَل، فلغيظه من الهبيري، وَقرب عَهده بِهِ وَحَدِيثه، غلط، فَقَالَ: الهبيري. فَقَالَ الْخَلِيفَة: أويعيش؟ وعرفه، وَذكر لَهُ خدمَة قديمَة. وَأَرَادَ ابْن أبي خَالِد أَن يزهده فِيهِ، قَالَ: فطعنت عَلَيْهِ بِكُل شَيْء، وَهُوَ يَقُول: لَا أُرِيد غَيره، أَنا أعرفهُ بالجلادة. إِلَى أَن قلت لَهُ: أَنا غَلطت، وَإِنَّمَا أردْت أَن أَقُول فلَان الزبيرِي. قَالَ: وَإِن غَلطت، فالهبيري أقوم بِهَذَا من الزبيرِي، وَأَنا أَعْرفهُمَا، فَلَمَّا رَآنِي قد أَقمت على الدّفع عَنهُ؛ قَالَ: لَهُ مَعَك قصَّة، فاصدقني عَنْهَا، فصدقته. فَقَالَ: قد، وَالله، أجْرى رزقه على يَديك، وَأَنت راغم، أخرج فوله مصر. فَقلت: إِنَّه ضَعِيف، وَلَا حَالَة لَهُ، وَلَا مُرُوءَة، فَكيف يخرج فِي مثل هَذِه الْحَال إِلَى عمله؟

قَالَ: وَهَذَا من رزقه الَّذِي يجْرِي على يَديك وَأَنت راغم، أطلق لَهُ مائَة ألف دِرْهَم فَأخْرجهُ. فَخرجت، وامتثلت أمره راغما.

تضايقي تنفرجي

تضايقي تنفرجي وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن رجل، قَالَ: حَدَّثتنِي أم أبي، قَالَت: كَانَ زَوجي قد نَهَضَ إِلَى مصر، وَتصرف بهَا، وَعمل، ونكب، وتعطل، فَأَقَامَ هُنَاكَ. وأضقنا إضاقة شَدِيدَة، وعرضنا بيع ضَيْعَة لنا، فَلم نجد لَهَا ثمنا، وَتَأَخر كِتَابه عَنَّا، وَانْقطع خَبره، حَتَّى توهمنا أَن حَادِثا قد حدث عَلَيْهِ. وَكَانَ أَوْلَادِي أصاغر، فَجعلت أحتال وَأنْفق عَلَيْهِم، حَتَّى لم يبْق فِي الْمنزل شَيْء. وَحضر وَقت عمَارَة الضَّيْعَة، واحتجنا إِلَى بذار وَنَفَقَة، فَتعذر ذَلِك علينا، حَتَّى كَادَت تتعطل، ويفوت وَقت الزِّرَاعَة. فَأَصْبَحت يَوْمًا، وَبِي من الْغم لِاجْتِمَاع هَذِه الْأَحْوَال أَمر عَظِيم، فوجهت إِلَى بعض من كنت أَثِق بِهِ، وأتوهم أنني لَو سَأَلته إسعافنا بالكثير من مَاله لَا يخالفنا؛ لأقترض مِنْهُ شَيْئا لذَلِك، فَرد رَسُولي، وَاعْتذر. وعرفني الرَّسُول الَّذِي بعثت بِهِ إِلَيْهِ، أَنه قَالَ: إِذا بعثت إِلَيْهِم مَا طلبُوا، والضيعة لم تعمر، وَلم تحصل لَهُم غلَّة، وَزوجهَا لم يعرف لَهُ خبر، فَمن أَيْن يردون عَليّ؟ فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُول بذلك؛ كدت أَمُوت غما، وامتنعت من الطَّعَام يومي وليلتي. وأصبحت، فَمَا انتصف النَّهَار، حَتَّى ورد كتاب زَوجي بسلامته، وَذكر

السَّبَب فِي تَأْخِير كِتَابه، وَأرْسل إِلَيّ فِي كِتَابه سفتجة بِمِائَة دِينَار، وتخوت ثِيَاب، قد أنفذها مَعَ تَاجر من أهل مصر، قيمتهَا خَمْسُونَ دِينَارا، فقبضت ذَلِك، وعمرنا الضَّيْعَة، ورزعت تِلْكَ السّنة، وصلحت حَالنَا.

من مكارم سعيد بن العاص أمير الكوفة

من مَكَارِم سعيد بن الْعَاصِ أَمِير الْكُوفَة وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه: حُكيَ أَن سعيد بن الْعَاصِ، قدم الْكُوفَة عَاملا لعُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ مِمَّن يتعشى عِنْده، رجل من الْفُقَرَاء، قد ساءت حَاله. فَقَالَت امْرَأَته: وَيحك، إِنَّه قد بلغنَا عَن أميرنا كرم، فاذكر لَهُ حالك وحاجتك، لَعَلَّه أَن ينيلنا شَيْئا، فَلم يبْق للصبر فِينَا بَقِيَّة. فَقَالَ: وَيحك، لَا تخلقي وَجْهي. قَالَت: فاذكر لَهُ مَا نَحن فِيهِ على كل حَال. فَلَمَّا كَانَ بالْعَشي؛ أكل عِنْده، فَلَمَّا انْصَرف النَّاس؛ ثَبت الرجل. فَقَالَ سعيد: حَاجَتك؟ فَسكت. فَقَالَ سعيد لِغِلْمَانِهِ: تنحوا، ثمَّ قَالَ: إِنَّمَا نَحن أَنا وَأَنت، فاذكر حَاجَتك، فتعقد وتعصر، فَنفخ سعيد الْمِصْبَاح فأطفأه. ثمَّ قَالَ لَهُ: يَرْحَمك الله، لست ترى وَجْهي، فاذكر حَاجَتك.

فَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير، أصابتنا حَاجَة، فَأَحْبَبْت أَن أذكرها لَك. فَقَالَ: إِذا أَصبَحت فَالْقَ فلَانا وَكيلِي. فَلَمَّا أصبح الرجل؛ لَقِي الْوَكِيل، فَقَالَ: إِن الْأَمِير قد أَمر لَك بِشَيْء، فهات من يحملهُ مَعَك، قَالَ: مَا عِنْدِي من يحمل، فَانْصَرف إِلَى امْرَأَته، فَجعل يلومها، وَيَقُول: قَالَ لي وَكيله: هَات من يحمل مَعَك، وَمَا أَظُنهُ أَمر لي إِلَّا بقوصرة تمر، أَو قفيز بر، وَذهب مَاء وَجْهي، وَلَو كَانَت دَرَاهِم، أَو دَنَانِير، لأعطانيها فِي يَدي. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام؛ قَالَت لَهُ امْرَأَته: يَا هَذَا، قد بلغ بِنَا الْأَمر إِلَى مَا ترى، وَمهما أَعْطَاك الْأَمِير، يقوتنا أَيَّامًا، فالق وَكيله، فَلَقِيَهُ. فَقَالَ: أَيْن تكون؟ إِنِّي قد أخْبرت الْأَمِير أَنه لَيْسَ لَك من يحمل مَا أَمر بِهِ لَك مَعَك، فَأمرنِي أَن أوجه من يحمل مَعَك مَا أَمر بِهِ لَك. ثمَّ أخرج إِلَيْهِ ثَلَاثَة من السودَان، على راس كل وَاحِد مِنْهُم بدرة دَرَاهِم، ثمَّ قَالَ: امضوا مَعَه. فَلَمَّا بلغ الرجل بَاب منزله؛ فتح بدرة، فَأخْرج مِنْهَا دَرَاهِم، فَدَفعهَا إِلَى السودَان، وَقَالَ: امضوا. فَقَالُوا: أَيْن نمضي، نَحن عبيدك، مَا حمل مَمْلُوك للأمير هَدِيَّة قطّ، فَرجع إِلَى ملكه. قَالَ: فصلحت حَاله، وَاسْتظْهر على دُنْيَاهُ.

ألجأته الحاجة إلى بيع مقنعة أمه ثم ملك مصر

ألجأته الْحَاجة إِلَى بيع مقنعة أمه ثمَّ ملك مصر وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، بِإِسْنَاد ذكره، قَالَ: حَدثنِي عمي أَبُو الطّيب مُحَمَّد بن يُوسُف بن يَعْقُوب، قَالَ: حَدثنِي بعض إخْوَانِي، قَالَ: كنت أحضر طَعَام عبيد الله بن السّري بِمصْر، فَكَانَ إِذا وضع الخوان؛ وضع رغيفا، وعزل بِيَدِهِ من كل شَيْء، فَإِذا فرغ تصدق بِهِ. فَقدمت إِلَيْهِ ذَات يَوْم عنَاق سَمِينَة، فِي أول الطَّعَام، فَضرب بإصبعه فِي جنبها، فشخبت حَتَّى مَلَأت الخوان دسما، فَأمْسك يَده، وَقَالَ: الْحَمد لله، ذكرت بِهَذَا شَيْئا أحدثكُم بِهِ. كنت بِبَغْدَاد، نازلا بسوق الْهَيْثَم، فأصابتني حَاجَة شَدِيدَة، وَبقيت بِلَا

حَبَّة فَمَا فَوْقهَا، وَلَا فِي منزلي مَا أبيعه. فَإِنِّي لكذلك، وَمَا عِنْدِي طَعَام، وَلَا مَا أَشْتَرِي بِهِ قوت يومي، إِلَّا أَن عِنْدِي نبيذا قد أدْرك، وَأَنا جَالس على بَاب دَاري ضيق الصَّدْر، أفكر فِيمَا أعمله. إِذْ اجتاز بِي صديق لي، فَجَلَسَ إِلَيّ، فتحدثنا، فعرضت عَلَيْهِ الْمقَام عِنْدِي، عرض معذر، كَمَا جرى على لساني، فَأَجَابَنِي، وَقعد. فَانْقَطع بِي، وتمنيت أَنِّي خرست، فَلم أجد بدا من إِدْخَاله منزلي، فأدخلته. وَقمت إِلَى أُمِّي فعرفتها الْخَبَر، فأعطيتني مقنعتها، وَقَالَت: بعها، وقم بِأَمْرك الْيَوْم، فبعتها بِثَلَاثَة دَرَاهِم، واشتريت بهَا خبْزًا وسمكا وبقلا، وريحانا، وَجئْت بِهِ. فَبينا نَحن كَذَلِك؛ إِذْ مرت بِي سنور لبَعض الْجِيرَان، فمددت يَدي إِلَيْهَا، فَإِذا هِيَ ذَلُول، فقبضت عَلَيْهَا، وذبحتها، وسلختها، ودفعتها إِلَى أُمِّي، فَقلت: اشويها، فَفعلت، وقدمتها إِلَى صديقي، مَعَ مَا اشْتَرَيْته، فأكلنا. فَذكرت لما وَقعت يَدي على هَذِه العناق، حَالي تِلْكَ، وحالنا الْيَوْم من السعَة وَالنعْمَة، ونفاذ الْأَمر، فَالْحَمْد لله على مَا أنعم. ودعا بِمَال عَظِيم، وَأمر أَن يتَصَدَّق بِنصفِهِ بِمصْر، وَبعث نصفه إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة، يتَصَدَّق بِهِ هُنَاكَ. وَأمر بالخوان وَمَا عَلَيْهِ أَن يطعم للْمَسَاكِين، ودعا بخوان آخر.

أبى أن يعطيه دينارا ثم أعطاه ألفي دينار

أَبى أَن يُعْطِيهِ دِينَارا ثمَّ أعطَاهُ ألفي دِينَار حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِـ: ابْنِ حَمْدُونٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَنْبَارِيِّ الْكَاتِبِ، قَالَ: كَانَ لِي أَيَّامَ مُقَامِي بِأَرْجَانَ جَارٌ تَاجِرٌ، يُعْرَفُ بِـ: جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَكُنْتُ آنَسُ بِهِ، فَحَدَّثَنِي، قَالَ: كُنْتُ أَحُجُّ دَائِمًا، وَأَنْزِلُ عَلَى رَجُلٍ عَلَوِيٍّ، حُسَيْنِيٍّ، فَقِيرٍ، مَسْتُورٍ، فَأُلْطِفُهُ، وَأَتَفَقَّدُهُ. فَتَأَخَّرْتُ عَنِ الْحَجِّ سَنَةً، ثُمَّ عَاوَدْتُ، فَوَجَدْتُهُ مُثْرِيًا، فَسُرِرْتُ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ. فَقَالَ: كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ مَعِي دُرَيْهِمَاتٌ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، فَفَكَّرْتُ عَامَ أَوَّلَ فِي أَنْ أَتَزَوَّجَ، فَإِنِّي كُنْتُ عَزَبًا، كَمَا قَدْ عَلِمْتَ. ثُمَّ عَلِمْتُ أَنْ فَرْضَ الْحَجِّ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيَّ، فَرَأَيْتُ أَنْ أُقَدِّمَ أَدَاءَ الْفَرْضِ، وَأَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي أَنْ يُسَهِّلَ لِي، بَعْدَ ذَلِكَ، مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ. فَلَمَّا حَجَجْتُ؛ طُفْتُ طَوَافَ الدُّخُولِ، وَأَوْدَعْتُ رَحْلِي، وَمَا كَانَ مَعِي، فِي بَيْتٍ مِنْ خَان، وَأَقْفَلْتُ بَابَهُ، وَخَرَجْتُ إِلَى مِنًى.

فَلَمَّا عُدْتُ؛ وَجَدْتُ الْبَيْتَ مَفْتُوحًا، فَارِغًا، فَتَحَيَّرْتُ، وَنَزَلَتْ بِي شِدَّةٌ مَا مَرَّ بِي قَطُّ مِثْلَهَا. فَقُلْتُ: هَذَا أَعْظَمُ لِلثَّوَابِ، فَمَا وَجْهُ الْغَمِّ، فَاسْتَسْلَمْتُ لأَمْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. فَجَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ، لَا حِيلَةَ لِي، وَلا تَسْمَحُ نَفْسِي بِالْمَسْأَلَةِ، فَاتَّصَلَ مُقَامِي ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، مَا طَعِمْتُ فِيهَا شَيْئًا. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ؛ بَدَأَ فِيَّ الضَّعْفُ سَحَرًا، وَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي، وَذَكَرْتُ قَوْلَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: §«مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُهَا حَتَّى شَرِبْتُ مِنْهَا، وَرَجَعْتُ أُرِيدُ بَابَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامُ؛ لأَسْتَرِيحَ فِيهِ. فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ؛ إِذْ عَثَرْتُ فِي الطَّرِيقِ بِشَيْءٍ أَوْجَعَ إِصْبَعِي، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ لأَمْسِكَهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى هِمْيَانٍ أدمٍ أَحْمَرَ كَبِيرٍ، فَأَخَذْتُهُ. فَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِي؛ نَدِمْتُ، وَعَلِمْتُ أَنَّ اللُّقَطَةَ، مَا لَمْ تُعَرَّفْ، حَرَامٌ. وَقُلْتُ: إِنْ تَرَكْتُهُ الآنَ؛ كُنْتُ أَنَا الْمُضَيِّعَ لَهُ، وَقَدْ لَزمَنِي أَنْ أُعَرِّفَهُ، وَلَعَلَّ صَاحِبَهُ، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهِ، أَنْ يَهَبَ لِي شَيْئًا أَقْتَاتُهُ حَلالا. فَجِئْتُ إِلَى بَيْتِي، وَفَتَحْتُ الْهِمْيَانَ، فَإِذَا فِيهِ دَنَانِيرُ صُفْرٌ، تَزِيدُ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ. فَسَدَدْتُهُ، وَرَجَعْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْحِجْرِ، وَنَادَيْتُ: مَنْ ضَاعَ

لَهُ شَيْءٌ، فَيَأْتِينِي بِعَلامَتِهِ، وَيَأْخُذُهُ. فَانْقَضَى يَوْمِي، وَأَنَا أُنَادِي، وَمَا جَاءَنِي أَحَدٌ، وَأَنَا عَلَى حَالِي مِنَ الْجُوعِ. وَبِتُّ فِي بَيْتِي، لَيْلَتِي كَذَلِكَ، وَعُدْتُ إِلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَعَرَّفْتُهُ عِنْدَهُمَا يَوْمِي، حَتَّى كَادَ يَنْقَضِي، فَلَمْ يَأْتِنِي أَحَدٌ. فَضَعُفْتُ ضَعْفًا شَدِيدًا، وَخَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فَرَجِعْتُ مُتَحَامِلًا، ثَقِيلًا، حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى بَابِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلامُ، وَقُلْتُ قَبْلَ انْصِرَافِي: إِنِّي قَدْ ضَعُفْتُ عَنِ الصِّيَاحِ وَأَنَا مَاضٍ أَجْلِسُ عَلَى بَابِ إِبْرَاهِيمَ، فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَطْلُبُ شَيْئًا ضَاعَ مِنْهُ، فَأَرْشِدُوهُ إِلَيَّ. فَلَمَّا قَرُبَ الْمَغْرِبُ، وَأَنَا فِي الْمَوْضِعِ؛ إِذَا أَنَا بِخُرَاسَانِيٍّ يَنْشُدُ ضَالَّةً، فَصِحْتُ بِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: صِفْ لِي مَا ضَاعَ مِنْكَ، فَأَعْطَانِي صِفَةَ الْهِمْيَانِ بِعَيْنِهِ، وَذَكَرَ وَزْنَ الدَّنَانِيرِ وَعَدَدَهَا. فَقُلْتُ: إِنْ أَرْشَدْتُكَ إِلَى مَنْ يَرُدُّهُ عَلَيْكَ، تُعْطِينِي مِنْهُ مِائَةَ دِينَارٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَخَمْسِينَ دِينَارًا؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ؟ قَالَ: لَا. فَلَمْ أَزَلْ أَنْزِلُ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغْتُ إِلَى دِينَارٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ: لَا، إِنْ رَأَى مَنْ هُوَ عِنْدَهُ، أَنْ يَرُدَّهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَإِلا فَهُوَ أَبْصَرُ، وَوَلَّى لِيَنْصَرِفَ. فَوَرَدَ عَلَيَّ أَعْظَمُ وَارِدٍ، وَهَمَمْتُ بِالسُّكُوتِ، ثُمَّ خِفْتُ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،

وَأَشْفَقْتُ أَنْ يَفُوتَنِي الْخُرَاسَانِيُّ. فَصِحْتُ بِهِ: ارْجِعْ، ارْجِعْ، وَأَخْرَجْتُ الْهِمْيَانَ، فَدَفَعْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَخَذَهُ وَمَضَى، وَجَلَسْتُ، لَيْسَ لِي قُوَّةٌ عَلَى الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِي. فَمَا غَابَ عَنِّي إِلا قَلِيلا، حَتَّى عَادَ، فَقَالَ لِي: مِنْ أَيِّ الْبِلادِ أَنْتَ، وَمِنْ أَيِّ النَّاسِ؟ قَالَ: فَاغْتَظْتُ مِنْهُ غَيْظًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: مَا عَلَيْكَ، هَلْ بَقِيَ لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، مِنْ أَيِّ النَّاسِ وَالْبِلادِ أَنْتَ؟ فَعَرِّفْنِي، وَلا تَضْجَرْ. فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ: مِنْ أَيِّهِمْ أَنْتَ، وَاخْتَصِرْ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَقَالَ: مَا حَالُكَ وَمَالُكَ؟ قُلْتُ: لَا أَمْلِكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كُلِّهَا إِلا مَا تَرَاهُ، وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَالَ مِحْنَتِي وَمَا كُنْتُ طَمِعْتُ فِيهِ أَنْ يُعْطِينِيهِ مِنَ الْهِمْيَانِ، وَمَا قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ مِنَ الْجُوعِ. فَقَالَ: أُرِيدُ مَنْ يُعَرِّفُنِي صِحَّةَ نَسَبِكَ وَحَالِكَ، حَتَّى أَقُومَ بِجَمِيعِ أَمْرِكَ كُلِّهِ. فَقُلْتُ: مَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ لِلضَّعْفِ، وَلَكِنْ ائْتِ الطُّوَّافَ، وَصِحْ بِالْكُوفِيِّينَ، وَقُلْ: رَجُلٌ مِنْ بَلَدِكُمْ، عَلَوِيٌّ، بِبَابِ إِبْرَاهِيمَ، يُرِيدُ أَنْ يَجِيئَهُ مِنْكُمْ مَنْ يَنْشَطُ لِحَالٍ هُوَ فِيهَا، فَمَنْ جَاءَ مَعَكَ فَهَاتِهِ. فَغَابَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ وَمَعَهُ مِنَ الْكُوفِيِّينَ جَمَاعَةٌ اتَّفَقَ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بَاطِنَ حَالِي. فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ أَيُّهَا الشَّرِيفُ؟

فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ حَالِي وَنَسَبِي؛ لِشَيْءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَعَرِّفُوهُ مَا تَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَعَرَّفُوهُ صِحَّةَ نَسَبِي، وَوَصَفُوا لَهُ طَرِيقَتِي وَعَدَمِي. فَمَضَى، وَجَاءَ فَأَخْرَجَ الْهِمْيَانَ بِعَيْنِهِ، كَمَا سَلَّمْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: خُذْ هَذَا بِأَسْرِهِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ. فَقُلْتُ: يَا هَذَا، مَا كَفَاكَ مَا عَامَلْتَنِي بِهِ، حَتَّى تَهْزَأَ بِي، وَأَنَا فِي حَالِ الْمَوْتِ. قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، هُوَ لَكَ، وَاللَّهِ. فَقُلْتُ: فَلِمَ بَخِلْتَ عَلَيَّ بِدِينَارٍ مِنْهُ، ثُمَّ وَهَبْتَ لِي الْجَمِيعَ؟ فَقَالَ: لَيْسَ الْهِمْيَانُ لِي، وَمَا كَانَ يَجُوزُ لِي أَنْ أُعْطِيَكَ مِنْهُ شَيْئًا، قَلَّ، أَوْ كَثُرَ، وَإِنَّمَا أَعْطَانِيهِ رَجُلٌ مِنْ بَلَدِي، وَسَأَلَنِي أَنْ أَطْلُبَ فِي الْعِرَاقِ، أَوْ فِي الْحِجَازِ، رَجُلًا عَلَوِيًّا، حُسَيْنِيًّا، فَقِيرًا، مَسْتُورًا، فَإِذَا عَلِمْتُ هَذَا فِي حَالِهِ؛ أَغْنَيْتَهُ، بِأَنْ أُسَلِّمَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَالَ كُلَّهُ؛ لِيَصِيرَ أَصْلا لِنِعْمَةٍ تَنْعَقِدُ لَهُ، فَلَمْ تَجْتَمِعْ لِي هَذِهِ الصِّفَاتُ قَبْلَكَ فِي أَحَدٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ فِيكَ، بِمَا شَاهَدْتُهُ مِنْ أَمَانَتِكَ وَفَقْرِكَ وَعِفَّتِكَ وَصَبْرِكَ، وَصَحَّ عِنْدِي نَسَبُكَ؛ أَعْطَيْتُكَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اسْتِكْمَالَ الأَجْرِ؛ فَخُذْ مِنْهُ دِينَارًا، وَابْتَعْ لِي بِهِ دَرَاهِمَ، وَاشْتَرِ بِهَا مَا آكُلُهُ، وَصِرْ بِهِ إِلَيَّ السَّاعَةَ هَهُنَا. فَقَالَ: لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. قُلْتُ: قُلْ. قَالَ: أَنَا رَجُلٌ مُوسِرٌ، وَالَّذِي أَعْطَيْتُكَ لَيْسَ لِي فِيهِ شَيْءٌ، كَمَا عَرَّفْتُكَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَنْ تَقُومَ مَعِي إِلَى رَحْلِي، فَتَكُونَ فِي ضِيَافَتِي إِلَى الْكُوفَةِ، وَتَتَوَفَّرُ عَلَيْكَ دَنَانِيرُكَ. فَقُلْتُ: مَا فِيَّ حَرَكَةٌ، فَاحْتَلْ فِي حَمْلِي، كَيْفَ شِئْتَ. فَغَابَ عَنِّي سَاعَةً، وَجَاءَ بِمَرْكُوبٍ، وَأَرْكَبَنِيهِ إِلَى رَحْلِهِ، وَأَطْعَمَنِي فِي الْحَالِ

مَا كَانَ عِنْدَهُ، وَقَطَعَ لِي مِنَ الْغَدِ ثِيابًا، وَكَانَ يَخْدُمُنِي بِنَفْسِهِ، وَعَادَلَنِي فِي عَمَّارِيَّتِهِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا؛ أَعْطَانِي مِنْ عِنْدِهِ دَنَانِيرَ أُخَرَ، وَقَالَ لِي: تَزَوَّدْ بِهَا بِضَاعَةً، وَفَارَقْتُهُ، وَأَنَا أَدْعُو لَهُ، وَأَشْكُرُهُ، وَلَمْ أَمَسَّ الْهِمْيَانَ. وَأَخَذْتُ أُنْفِقُ مِنَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي أَعْطَانِيهَا الرَّجُلُ بِاقْتِصَادٍ، إِلَى أَنِ اتَّفَقَتْ لِي ضَيْعَةٌ رَخِيصَةٌ، فَابْتَعْتُهَا بِالْهِمْيَانِ، فَأَغَلَّتْ، وَأَثْمَرَتْ، وَأَنَا مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي نِعْمَةٍ جَزِيلَةٍ، وَخَيْرٍ كَثِيرٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ

سافر إلى الموصل ثم إلى نصيبين في طلب التصرف حتى إذا أيس جاءه الفرج

سَافر إِلَى الْموصل ثمَّ إِلَى نَصِيبين فِي طلب التَّصَرُّف حَتَّى إِذا أيس جَاءَهُ الْفرج وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، فِي كِتَابه، قَالَ: قَالَ بَعضهم: لحقتني نكبة فِي بعض الْأَوْقَات، تطاولت عَليّ الْأَيَّام فِي العطلة، وركبني دين فادح، وبعت آخر مَا كَانَ فِي ملكي. فَصَارَ إِلَى صديق لي، حَاله مثل حَالي فِي العطلة، فَقَالَ: هَل لَك أَن نخرج إِلَى الْموصل، فَإِن عاملها فلَان، ولي بِهِ حُرْمَة، فنتطلب مِنْهُ تَصرفا؟ فَقلت: أفعل. فاحتلت نَفَقَة، وَخَرجْنَا حَتَّى دَخَلنَا الْموصل، فَوَجَدنَا الْعَامِل يُرِيد الرحيل إِلَى ديار ربيعَة. قَالَ: فَلَقِيَهُ الرجل، وَلم يتهيأ لي لقاءه، وَخَرجْنَا إِلَى نَاحيَة، فَلَقِيته أَنا هُنَاكَ، فوعد جميلا، وسرت إِلَى نَصِيبين، وَقد نفدت نفقتي. وكشف لنا الْعَامِل هُنَاكَ، أَنه قد قلد مصر، مُضَافا إِلَى أَعماله، وَأَنه يُرِيد الْخُرُوج إِلَيْهَا.

فَقلت لصديقي: إِنَّه لم تبْق معي نَفَقَة، وَلَا فيّ فضل لِلْخُرُوجِ إِلَى مصر، فَأَعْطَانِي من نَفَقَته. وَقد كَانَ صديقي تقلد من قبل الْعَامِل عملا جَلِيلًا، وَخرج إِلَيْهِ، وأقمت أَنا بنصيبين، وَأقَام الْعَامِل بهَا؛ ليصلح أمره وَيخرج إِلَى مصر، وعملت أَنا على أَن أتحمل بِمَا أعطانيه صديقي، وأرجع إِلَى بَغْدَاد. فغلب عَليّ ضيق الصَّدْر والهم، واستدعيت المزين ليصلح شعري، فَهُوَ بَين يَدي، إِذْ دخل عَليّ غُلَام الْعَامِل، فَقَالَ: صَاحِبي يطلبك، وَقد قلبنا عَلَيْك الدُّنْيَا مُنْذُ أمس، فَلم نَعْرِف مَنْزِلك إِلَى السَّاعَة. ففرغت من شغلي مَعَ المزين، وتوضأت، وَركبت، وَكَانَ يَوْم الْجُمُعَة، فَلَمَّا صرت فِي دَار الْعَامِل؛ لَقِيَنِي غُلَامه، وَكَانَ حَاجِبه، فَقَالَ: نَحن فِي طَلَبك مُنْذُ أمس فَلم تُوجد، وَقد قَامَ الْآن عَن مَجْلِسه، وَأخذ فِي التشاغل بِأَمْر الصَّلَاة، وَلَكِن بكر فِي غَد. قَالَ: فضعف فِي نَفسِي، وَقلت: إِنَّه مَا أرادني لخير، وعملت على أَن أنحدر تِلْكَ العشية إِلَى بَغْدَاد. فَلم يدعني غلامي، وَقَالَ: أقل مَا فِي الْأَمر، أَن يكون الرجل قد تذمم من

اتباعك إِيَّاه إِلَى هَهُنَا، فيطلق لَك نَفَقَة، وَنحن مضيقون. فَعلمت أَن الصَّوَاب فِي لِقَائِه، فأقمت وبكرت من غَد، فَدخلت إِلَيْهِ، فعاتبني على انقطاعي عَنهُ. وَقَالَ: أَنا مفكر فِي أَمرك، وَقد غمني طول تعطلك، مَعَ قصدك إيَّايَ من بَغْدَاد، ومسيرك معي إِلَى هَهُنَا، ثمَّ الْتفت إِلَى كَاتب بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ: أكتب لَهُ كتاب التَّقْلِيد؛ للإشراف على الضّيَاع بديار مُضر، وَأحل النَّفَقَة على الثغور الجزرية، واستقبل برزقه، وَهُوَ مائَة وَخَمْسُونَ دِينَارا، فِي كل شهر، الْوَقْت الَّذِي جَاءَنَا فِيهِ إِلَى الْموصل. قَالَ: فشكرته، واضطربت من قلَّة الرزق. فَقَالَ: اقبل هَذَا وَلَا تخالفني، إِلَى أَن يسهل الله، جلت عَظمته، غَيره، فَقُمْت مفكرا، من أَيْن أصلح أَمْرِي، وأتحمل إِلَى الْعَمَل، وَأنْفق إِلَى أَن أصل إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَمَا خرجت من الدَّار حَتَّى ردني، فَقَالَ: بِالْبَابِ قوم يحْتَاج إِلَى إثباتهم، فاجلس وأثبتهم، وَعمل لَهُم جرائد بِأَسْمَائِهِمْ وحلاهم وأرزاقهم واستقبالاتهم، وجئني بهَا. فتشاغلت بذلك يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَة، وَجئْت بالجرائد، فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا أَعْجَبته، وَقَالَ: أرى عَمَلك، عمل فَهِم بالجيش. فَقلت: مَا عملته قطّ إِلَّا مرّة وَاحِدَة.

فَقَالَ: لم أقل هَذَا؛ لِأَنَّك تقتصر فِي نَفسِي عَن غَيره، وَلَكِن يَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ وَالْعَامِل أَن يحسنا كل شَيْء يَقع عَلَيْهِ اسْم كِتَابَة وعمالة. ثمَّ قَالَ: خُذ هَذَا الصَّك، واقبض مَا فِيهِ من الجهبذ، واجلس فِي الْمَسْجِد لداري، وَأنْفق فِي الصِّنْف الْفُلَانِيّ من أهل هَذِه الجريدة. قَالَ: فَأخذت الصَّك، وَكَانَ بألوف دَنَانِير، فَأخذت مَاله، وأنفقت فِي الْقَوْم، وَتَفَرَّقُوا وهم شاكرون، وَفضل مَال من ذَلِك، وكتبت إِلَيْهِ بِخَبَرِهِ، واستأمرته فِيمَا أعمل بِهِ. فَقَالَ: خُذْهُ من رزقك. وَأَعْطَانِي مَالا ثَانِيًا، وَقَالَ: أنفقهُ فِي الصِّنْف الآخر، إِلَى أَن أنفقت فِي جَمِيع أهل الجريدة، فَحصل لي من ذَلِك زِيَادَة على ألف دِينَار، فجعلتها فِي طريقي لنفقتي. وشخصت قبله إِلَى ديار مُضر، فَنَظَرت فِي الْعَمَل، وَسَار هُوَ مجتازا إِلَى مصر. واستأذنته فِي الْمسير إِلَيْهَا مَعَه، فَقَالَ: لَا أحب أَن أعجل لَك الصّرْف، وَنحن نمضي إِلَى أَعمال فِيهَا قوم، ولعلي أَقف من حَالهم على مَا لَا يجوز مَعَه صرفهم، فَتحصل أَنْت على الصّرْف الْمُعَجل، وَلَكِن أقِم بمكانك وعملك، وأسير أَنا، فَإِن احتجتُ إِلَى متصرفين، كنتَ أول من استدعيته. فشكرته، وأقمت فِي عَمَلي سنتَيْن، أثريت فيهمَا، وعظمت حَالي، وَلم يتَّفق استدعاؤه إيَّايَ إِلَى مصر، إِلَى أَن صرفت وانسللت من الرقة، وَدخلت بَغْدَاد موفرا، وَمَعِي مَال جليل، فابتعت بِهِ ضَيْعَة، ولزمتها، وَتركت التَّصَرُّف.

للذين أحسنوا الحسنى وزيادة

للَّذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن بعض إخوانه، أَحْسبهُ أَبَا يُوسُف يَعْقُوب بن بَيَان، أَنه قَالَ: أملق بعض الْكتاب فِي أَيَّام الرشيد حَتَّى أفْضى إِلَى بيع أنقاض دَاره، وَنقض مَا فِيهَا، فَلم يبْق فِيهَا إِلَّا بَيْتا وَاحِدًا، كَانَ يأوي إِلَيْهِ وَولده، وَانْقطع عَن النَّاس، وانقطعوا عَنهُ دهرا. وَكَانَ الرشيد يولي على أذربيجان فِي كل سنتَيْن، أَو ثَلَاثَة، رجلا من بني هَاشم. فولاها سنة من السنين رجلا مِنْهُم كَانَ متعطلا، فَطلب كَاتبا فارها يصطنعه، وشاور فِيهِ صديقا لَهُ من الْكتاب، فوصف لَهُ هَذَا الرجل المتعطل، ووعده بإحضاره، وَصَارَ إِلَيْهِ، وطرق الْبَاب عَلَيْهِ، وَدخل، فَوَجَدَهُ من الْفقر على الْحَال لَا يتهيأ لَهُ مَعهَا لِقَاء أحد. فَبعث إِلَيْهِ من منزله بخلعة من ثِيَابه، ودابة، وَغُلَامًا، وبخورا، ودراهم، فَركب مَعَه إِلَى الْهَاشِمِي، فَلَقِيَهُ. وامتحنه الْهَاشِمِي، فَوَجَدَهُ بارعا فِي صناعته، فاستكتبه، وَقرر جاريه، وَأمر لَهُ بِمَال معجل مَعُونَة لَهُ على سَفَره، وَأمره بِأَن يتقدمه إِلَى أذربيجان. فَعَاد الرجل إِلَى منزله، وَأصْلح من حَاله، وَخلف نَفَقَة لِعِيَالِهِ، وشخص. فَلَمَّا بلغ المصروف الْخَبَر؛ رَحل عَن الْبَلَد، وَأخذ غير الطَّرِيق الَّذِي بلغه أَن الْكَاتِب قد سلكها، وَخلف كَاتبه لرفع الْحساب. فَلَمَّا شَارف كَاتب الْوَالِي النَّاحِيَة؛ خرج إِلَيْهِ كَاتب الْمَعْزُول ولقيه، فَسَأَلَهُ عَن صَاحبه، فَأعلمهُ شخوصه إِلَى مَدِينَة السَّلَام، فَأنْكر ذَلِك.

فَقَالَ لَهُ كَاتب الْمَعْزُول: مل بِنَا إِلَى مَوضِع نجلس فِيهِ ونتحدث، وَترى رَأْيك، فمالا وَنزلا، وَطرح لَهما مَا جلسا عَلَيْهِ. فَقَالَ: أعزّك الله، لَا تنكر انصراف صَاحِبي، فَإِنَّهُ رجل كَبِير الْمِقْدَار، وَفِي مقَامه إِلَى أَن تصيروا إِلَى الْعَمَل مهانة تلْحقهُ، وَقد خلف قبلي خمسين وَمِائَة ألف دِرْهَم لصاحبك، ودوابا ورقيقا بِقِيمَة ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم، فاقبض ذَلِك، واكتب لنا كتابا بإزاحة علتك، وانفصال مَا بَيْننَا وَبَيْنك، وَنحن ننصب لَك من يرفع الْحساب رفع من لَا يستقصى عَلَيْهِ، وَلَا يعنت. فَقبل كَاتب الْوَالِي ذَلِك، وركبا، وَقد زَالَ الْخلاف فِيمَا بَينهمَا، وَخرج الْكَاتِب لاحقا بِصَاحِبِهِ، وخلّف من يسلم الْحساب. واتصل ظَاهر الْخَبَر بالهاشمي الْوَالِي، وَكتب إِلَيْهِ كَاتبه: إِنِّي قد بلغت من الْأَمر مبلغا مرضيا، إِذا وقفت عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَارُوا إِلَى النَّاحِيَة؛ عرف مَا جرى، فَحسن موقعه، وتبرك بالكاتب، وَغلب على قلبه، فكسب مَالا عَظِيما. فَلَمَّا مَضَت ثَلَاث سِنِين؛ صُرِفَ الْهَاشِمِي بِالرجلِ الَّذِي كَانَ واليا قبله، وَبلغ الْهَاشِمِي الْخَبَر. فَقَالَ لكَاتبه: مَا الرَّأْي؟ قَالَ: نَفْعل بِهِ مِثْلَمَا فعل بِنَا، وترحل أَنْت، وأقيم أَنا، وَمَعِي مثل مَا أَعْطَانَا، فَأعْطِيه إِيَّاه، وآخذ كِتَابه بانفصال مَا بَيْننَا وَبَينه، وَألْحق بك، فَفعل. ووافى كَاتب الصَّارِف، الَّذِي كَانَ مَعْرُوفا، فَتَلقاهُ الْكَاتِب فِي الْموضع الَّذِي لقِيه فِيهِ، لما كَانَ معزولا مصروفا، فَسلم عَلَيْهِ، وعدلا فَنزلَا، وَعرض عَلَيْهِ مَا خَلفه صَاحبه لَهُ ولصاحبه، وَسَأَلَهُ قبُول ذَلِك، وَالْكتاب بِمثل مَا كَانَ كتب إِلَى الرشيد، فَامْتنعَ من قبُول ذَلِك، وَكتب لَهُ بانفصال مَا بَينهمَا، إِلَى الرشيد، كتابا وكيدا. وَقَالَ لَهُ: أَرَاك فَاضلا فطنا، وَأرى صَاحبك عَاقِلا، وَقبُول ذَلِك لَا يكون

مِنْكُمَا مُكَافَأَة؛ بل كَأَنَّهُ بيع وَشِرَاء، وَقد فَكرت فِي أَمر، هُوَ أَنْفَع، لنا وَلكم، من هَذَا. قَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: أعقد بَين صَاحبك وصاحبي صهرا، وبيني وَبَيْنك صهرا، ونكون إخْوَة وأصدقاء. فَقَالَ: فعل الله بك وصنع، مَا فِي الدُّنْيَا أكْرم ولَايَة، وَلَا صرفا مِنْك. فعقدا بَينهمَا الصهرين، وسارا إِلَى مقصدهما، وَدخل الْكَاتِب بَغْدَاد، وَقد حصل الْهَاشِمِي صَاحبه، فَأخْبرهُ الْخَبَر، فَأَحْمَد رَأْيه، وأمضى عقده فِي الْمُصَاهَرَة. فَصَارَ الْكَاتِب من أَرْبَاب الْأَحْوَال، وَعَاد إِلَى أفضل مَا كَانَ عَلَيْهِ.

هاك يا هذا الذي لا أعرفه

هاك يَا هَذَا الَّذِي لَا أعرفهُ وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: رُوِيَ عَن شيخ من أهل الْكُوفَة، قَالَ: أملقت وَبَلغت بِي الْحَال أَن نقضت منزلي، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَليّ الْأَمر، وتجرد عيالي من الْكسْوَة؛ جاءتتي الخادمة، فَقَالَت: مَا لنا دَقِيق، وَلَا مَعنا ثمنه، فَمَا نعمل؟ فَقلت: أسرجي حماري، وَقد كَانَ بَقِي لي حمَار. فَقَالَت: مَا أكل شَعِيرًا مُنْذُ ثَلَاث، فَكيف تركبه؟ فَقلت: أسرجيه على كل حَال، فأسرجته، فركبته أدب عَلَيْهِ، هَارِبا مِمَّا أَنا فِيهِ، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الْبَصْرَة. فَلَمَّا شارفتها إِذا أَنا بموكب مقبل، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَيّ؛ دخلت فِي جُمْلَتهمْ، فَرَجَعت الْخَيل تُرِيدُ الْبَصْرَة، فسرت مَعَهم حَتَّى دَخَلتهَا، وانْتهى صَاحب الموكب إِلَى منزله، فَنزل، وَنزل النَّاس مَعَه، وَنزلت مَعَهم. ودخلنا، فَإِذا الدهليز مفروش، وَالنَّاس جُلُوس مَعَ الرجل، فَدَعَا بغداء، فَجَاءُوا بِأَحْسَن غداء، فتغديت مَعَ النَّاس، ثمَّ وضأنا، ودعا بالغالية، فغلفنا بهَا. ثمَّ قَالَ: يَا غلْمَان، هاتوا سفطا، فَجَاءُوا بسفط أَبيض مشدود، فَفتح فَإِذا فِيهِ أكياس، فِي كل ألف دِرْهَم، فَبَدَأَ يُعْطي من على يَمِينه، فأمرّها

عَلَيْهِم، ثمَّ انْتهى إِلَيّ وَأَعْطَانِي كيسا، ثمَّ ثنى وَأَعْطَانِي آخر، ثمَّ ثلث وَأَعْطَانِي آخر، وَأخذت الْجَمَاعَة. وَبَقِي فِي السفط كيس وَاحِد، فَأَخذه بِيَدِهِ، وَقَالَ: هاك يَا هَذَا الَّذِي لَا أعرفهُ. فَأخذت أَرْبَعَة أكياس، وَخرجت. فَقلت لإِنْسَان: من هَذَا؟ قَالَ: عبيد الله بن أبي بكرَة.

أول دخول الأصمعي إلى الرشيد

أول دُخُول الْأَصْمَعِي إِلَى الرشيد وَذكر أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه أَيْضا، أَن الْأَصْمَعِي قَالَ: لَزِمت بَاب الرشيد، فَكنت أقيم عَلَيْهِ طول نهاري، وأبيت بِاللَّيْلِ مَعَ الحراس أسأمرهم، وأتوقع طالع سعد، حَتَّى كدت أَمُوت ضرا وهزالا، وَأَن أصير إِلَى ملالة، ثمَّ أَتَذكر مَا فِي عَاقِبَة الصَّبْر من الْفرج، فأؤمل صَلَاح حَالي بِاتِّفَاق مَحْمُود، فأصبر. فَبينا أَنا ذَات لَيْلَة، وَقد قاسيت فِيهَا السهاد والأرق؛ إِذْ خرج بعض الْحجاب، فَقَالَ: هَل بِالْبَابِ أحد يحسن الشّعْر؟ فَقلت: الله أكبر، رب مضيق فكه التَّيْسِير، أَنا ذَلِك الرجل. فَأخذ بيَدي، وَقَالَ: ادخل، فَإِن ختم لَك بالسعادة، فلعلها أَن تكون لَيْلَة تقر عَيْنك فِيهَا بالغنى. فَقلت: بشرك الله بِخَير، وَدخلت، فواجهت الرشيد فِي البهو جَالِسا، والخدم قيام على رَأسه، وجعفر بن يحيى الْبَرْمَكِي، جَالس إِلَى جنبه. فَوقف بِي الْحَاجِب حَيْثُ يسمع تسليمي، فَسلمت، ثمَّ قَالَ: تَنَح قَلِيلا حَتَّى تسكن، إِن كنت وجدت روعة. فَقلت فِي نَفسِي: فرْصَة تفوتني آخر الدَّهْر، إِن شغلت بِعَارِض؛ فَلَا أعتاض مِنْهَا إِلَّا كمدا، حَتَّى يصفق عَليّ الضريح، فَقلت: إضاءة كرم أَمِير الْمُؤمنِينَ، وبهاءه جده، يجردان من نظر إِلَيْهِ من أذية النَّفس، يسألني، أيده الله، فَأُجِيب، أَو أبتدئ فأصيب؟ فَتَبَسَّمَ إِلَيّ جَعْفَر، وَقَالَ: مَا أحسن مَا استدعى الْإِحْسَان، وحري بِهِ أَن يكون محسنا.

ثمَّ قَالَ لي: أشاعر أَنْت، أم راوية للشعر؟ قلت: راوية. قلت: لمن؟ قلت: لكل ذِي جد وهزل، بعد أَن يكون محسنا. فَقَالَ: أنصف القارة من راماها. ثمَّ قَالَ: مَا معنى هَذِه الْكَلِمَة؟ قلت: لَهَا وَجْهَان، زعمت التبابعة، أَنه كَانَ لَهَا رُمَاة لَا تقع سهامها فِي غير الحدق، فَكَانَت تكون فِي الموكب الَّذِي يكون فِيهِ الْملك، فَخرج فَارس معلم بعذبات سمور فِي قلنسوته، فَنَادَى: أَيْن رُمَاة الحدق؟ فَقَالَت الْعَرَب: أنصف القارة من راماها. وَالْوَجْه الآخر: الْموضع الْمُرْتَفع من الأَرْض، والجبل الشاهق، فَمن ضاهاه بفعاله فقد راماه، وَمَا أَحسب هَذَا هُوَ الْمَعْنى؛ لِأَن المراماة كالمعاطاة، وكما أَن المعاطاة للنديم، هِيَ أَن يَأْخُذ كأسا، وَيُعْطِي كأسا، كَذَلِك المراماة؛ أَن يرميها وترميه. فَقَالَ: أصبت، فَهَل رويت للعجاج بن رؤبة شَيْئا؟ قلت: الْأَكْثَر. قَالَ: أَنْشدني قَوْله: أرقني طارقُ همٍّ طرقا فمضيت فِيهَا مُضِيّ الْجواد، تهدر أشداقي، فَلَمَّا بلغت مدحه لبني أُميَّة؛ ثنيت عنان اللِّسَان؛ لامتداحه الْمَنْصُور.

فَقَالَ: أعن عمد، أَو غير عمد؟ فَقلت: عَن عمد، تركت كذبه إِلَى صدقه، بِمَا وصف فِيهِ الْمَنْصُور من مجده. فَقَالَ جَعْفَر: بَارك الله عَلَيْك، مثلك يؤهل لمثل هَذَا الْموقف. ثمَّ الْتفت إِلَيّ الرشيد، فَقَالَ: أرويت لعدي بن الرّقاع شَيْئا؟ قلت: الْأَكْثَر، قَالَ: أَنْشدني قَوْله: بَانَتْ سعاد وأخلفت ميعادها فابتدأت تهدر أشداقي، فَقَالَ جَعْفَر: يَا هَذَا، أنْشد على مهل، فَلَنْ تَنْصَرِف إِلَّا غانما. فَقَالَ الرشيد: أما إِذْ قطعت عَليّ فأقسم؛ لتشركني فِي الْجَائِزَة. قَالَ: فطابت نَفسِي، فَقلت: أَفلا ألبس أردية التيه على الْعَرَب، وَأَنا أرى الْخَلِيفَة والوزير يتشاطران لي الْمَوَاهِب، فَتَبَسَّمَ، ومضيت فِيهَا. ثمَّ قَالَ: أرويت لذِي الرمة شَيْئا؟ قلت: الْأَكْثَر. قَالَ: أَنْشدني قَوْله: أَمن حذر الهجران قَلْبك يطمح فَقلت: عروس شعره. قَالَ: فأيه الختن؟ قلت: قَوْله، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مَا بَال عَيْنك مِنْهَا المَاء ينسكب

فَقَالَ: امْضِ فِيهَا، فمضيت فِيهَا، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى وَصفه جمله. فَقَالَ جَعْفَر: ضيق علينا مَا اتَّسع من مسامرة السهر، بجمل أجرب. فَقَالَ الرشيد: اسْكُتْ، فَهِيَ الَّتِي سلبتك تَاج ملكك، وأزعجتك عَن قراراك، ثمَّ جعلت جلودها سياطا، تضرب بهَا أَنْت وقومك عِنْد الْغَضَب. فَقَالَ جَعْفَر: الْحَمد لله، عوقبت من غير ذَنْب. فَقَالَ الرشيد: أَخْطَأت فِي كلامك، لَو قلت: أستعين بِاللَّه؛ قلت صَوَابا، إِنَّمَا يحمد الله، تَعَالَى، على النعم، ويستعان على الشدائد. ثمَّ قَالَ لي: إِنِّي لأجد مللا، وَهَذَا جَعْفَر، ضيف عندنَا، فسامره بَاقِي ليلتك، فَإِذا أَصبَحت؛ فَإِن وضاء الْخَادِم يلقاك بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. قَالَ: ثمَّ قربت إِلَيْهِ النَّعْل، فَجعل الْخَادِم يصلح عقب النَّعْل فِي رجله، فَقَالَ: ارْفُقْ وَيحك، أحسبك قد عقرتني. فَقَالَ: جَعْفَر: قَاتل الله الْعَجم، لَو كَانَت سندية؛ مَا احْتَاجَ أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى هَذِه الكلفة. فَقَالَ: هَذِه نَعْلي ونعل آبَائِي، مَا تدع نَفسك والتعرض لما تكره. ثمَّ قَالَ لي جَعْفَر: لَوْلَا أَن الْمجْلس مجْلِس أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَا يجوز لي فِيهِ أَن آمُر بِمثل مَا أَمر بِهِ؛ لأمرت لَك بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، وَلَكِنِّي آمُر لَك بِتِسْعَة وَعشْرين ألف دِرْهَم، فَإِذا أصبحتَ فاقبضها والزم الْبَاب. قَالَ: فَمَا صليت من غَد الصُّبْح، إِلَّا وَفِي منزلي مَا أَمر لي بِهِ، فأيسرت ولزمتهما، وَزَالَ مَا كنت فِيهِ من الضّر، وأتى الإقبال، وَالنعْمَة والسلامة، وأفلحت، وَللَّه الْحَمد.

قصة حائك الكلام

قصَّة حائك الْكَلَام وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي، فِي كِتَابه، قَالَ: بَلغنِي عَن عَمْرو بن مسْعدَة، أَنه قَالَ: كنت مَعَ الْمَأْمُون عِنْد قومه من بِلَاد الرّوم، حَتَّى إِذا نزل الرقة؛ قَالَ لي: يَا عَمْرو، أما ترى الرخجي، قد احتوى على الأهواز، وَهِي سلى الْخبز، وَجَمِيع الْأَمْوَال قبله، وَقد طمع فِيهَا، وكتبي مُتَّصِلَة فِي حملهَا، وَهُوَ يتعلل، ويتربص بِنَا الدَّوَائِر. فَقلت: أَنا أكفي أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا، وأنفذ من يضطره إِلَى حمل مَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَا يقنعني هَذَا. قلت: فيأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ بأَمْره. قَالَ: تخرج إِلَيْهِ بِنَفْسِك، حَتَّى تصفده بالحديد، وتحمله إِلَيّ، بعد أَن تقبض جَمِيع مَا فِي يَده من أَمْوَالنَا، وَتنظر فِي ذَلِك، وترتب فِيهِ عمالا. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة، فَلَمَّا كَانَ من غَد؛ دخلت. فَقَالَ: مَا فعلت فِيمَا أَمرتك بِهِ؟ قلت: أَنا على ذَاك. قَالَ: أُرِيد أَن تجيئني فِي غَد مودعا. قلت: السّمع وَالطَّاعَة، فَلَمَّا كَانَ من غَد؛ جِئْت مودعا. فَقَالَ: أُرِيد أَن تحلف لي، أَنَّك لَا تقيم بِبَغْدَاد إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، فاضطربت من ذَلِك، إِلَى أَن حظر عَليّ واستخلفني أَن لَا أقيم فِيهَا أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام، فَخرجت، وَأَنا مُضْطَرب مغموم.

وَقلت فِي نَفسِي: أَنا فِي مَوضِع الوزارة، وَقد جعلني مستحثا إِلَى عَامل، ومستخرجا، وَلَكِن أَمر الْخَلِيفَة لَا بُد من سَمَاعه، وامتثال مرسومه. وسرت حَتَّى قدمت بَغْدَاد، وَلم أقِم بهَا إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وانحدرت مِنْهَا فِي زلال، أُرِيد الْبَصْرَة، وَجعل لي فِيهِ خيش، واستكثرت من الثَّلج لشدَّة الْحر. فَلَمَّا صرت بَين جرجرايا وجبل؛ سَمِعت صائحا من الشاطئ، يَصِيح: يَا ملاح، فَرفعت سجف الزلَال، فَإِذا بشيخ كَبِير السن، حاسر الرَّأْس، حافي الْقَدَمَيْنِ، خلق الْقَمِيص. فَقلت للغلام: أجبه، فَأَجَابَهُ.

فَقَالَ: أَنا شيخ كَبِير السن، على هَذِه الصُّورَة الَّتِي ترى، وَقد أحرقتني الشَّمْس، وكادت تتلفني، وَأَنا أُرِيد جبل، فاحملوني مَعكُمْ، فَإِن الله، عز وَجل، يحسن أجر صَاحبكُم. قَالَ: فشتمه الملاح، وانتهره. فأدركتني عَلَيْهِ رقة، وَقلت للغلام: خُذْهُ مَعنا، فَقدم إِلَى الشط، وصحنا بِهِ، وحملناه. فَلَمَّا صَار مَعنا فِي الزلَال وانحدرنا؛ تقدّمت، فَدفع إِلَيْهِ قَمِيص ومنديل، وَغسل وَجهه، واستراح، فَكَأَنَّهُ كَانَ مَيتا عَاد إِلَى الدُّنْيَا. وَحضر وَقت الْغَدَاء، فتذممت وَقلت للغلام: هاته يَأْكُل مَعنا. فجَاء وَقعد على الطَّعَام، فَأكل أكل أديب نظيف، غير أَن الْجُوع قد أثر فِيهِ. فَلَمَّا رفعت الْمَائِدَة؛ أردْت أَن يقوم وَيغسل يَده نَاحيَة، كَمَا يفعل الْعَامَّة، فِي مجَالِس الْخَاصَّة، فَلم يفعل، فغسلت يَدي. وتذممت أَن آمُر بقيامه، فَقلت: قدمُوا لَهُ الطست، فَغسل يَده، وَأَرَدْت بعْدهَا أَن يقوم لأنام، فَلم يفعل. فَقلت: يَا شيخ، أيش صناعتك؟ قَالَ: حائك، أصلحك الله. فَقلت فِي نَفسِي: هَذَا الحياكة عَلمته سوء الْأَدَب، فتناومت عَلَيْهِ، ومددت رجْلي. فَقَالَ: قد سَأَلتنِي عَن صناعتي، فأجبتك، فَأَنت، أعزّك الله، مَا صناعتك؟

فأكبرت ذَلِك، وَقلت: أَنا جنيت على نَفسِي هَذِه الْجِنَايَة، وَلَا بُد من احْتِمَاله، أتراه، الأحمق، لَا يرى زلالي وغلماني ونعمتي، وَأَن مثلي لَا يُقَال لَهُ مثل هَذَا؟ ثمَّ قلت: أَنا كَاتب. فَقَالَ: كَاتب كَامِل، أم كَاتب نَاقص؟ فَإِن الْكتاب خَمْسَة، فَمن أَيهمْ أَنْت؟ فورد عَليّ من قَول الحائك مورد عَظِيم، وَسمعت كلَاما أكبرته، وَكنت مُتكئا، فَجَلَست. ثمَّ قلت لَهُ: فصّل الْخَمْسَة. قَالَ: نعم، كَاتب خراج، يَقْتَضِي أَن يكون عَالما بِالشُّرُوطِ، والطسوق، والحساب، والمساحة، والبثوق، والفتوق، والرتوق. وَكَاتب أَحْكَام، يحْتَاج أَن يكون عَالما بالحلال، وَالْحرَام، وَالِاخْتِلَاف، والاحتجاج، وَالْإِجْمَاع، وَالْأُصُول، وَالْفُرُوع. وَكَاتب مَعُونَة، يحْتَاج أَن يكون عَالما بِالْقصاصِ، وَالْحُدُود، والجراحات، والمراتبات، والسياسات. وَكَاتب جَيش، يحْتَاج أَن يكون عَالما بحلى الرِّجَال، وشيات الدَّوَابّ، ومداراة الْأَوْلِيَاء، وَشَيْء من الْعلم بِالنّسَبِ والحساب. وَكَاتب رسائل، يحْتَاج إِلَى أَن يكون عَالما بالصدور، والفصول، والإطالة، والإيجاز، وَحسن البلاغة، والخط.

قَالَ: فَقلت: أَنا كَاتب رسائل. قَالَ: فأسألك عَن بَعْضهَا. قلت: سل. قَالَ: أصلحك الله، لَو أَن رجلا من إخوانك تزوجت أمه، فَأَرَدْت أَن تكاتبه مهنئا، فَمَاذَا كنت تكْتب إِلَيْهِ؟ ففكرت فِي الْحَال، فَلم يخْطر ببالي شَيْء، فَقلت: اعفني. قَالَ: قد فعلت، وَلَكِنَّك، لست بكاتب رسائل. قلت: أَنا كَاتب خراج. قلت: لَا بَأْس، لَو أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ ولاك نَاحيَة وأمرك فِيهَا بِالْعَدْلِ والإنصاف، وتقضي حق السُّلْطَان، فتظلم إِلَيْك بَعضهم من مساحك، وأحضرتهم للنَّظَر بَينهم وَبَين رعيتك، فَحلف المساح بِاللَّه الْعَظِيم، لقد أنصفوا، وَمَا ظلمُوا، وَحلف الرّعية بِاللَّه الْعَظِيم، أَنهم قد جاروا وظلموا، وَقَالُوا لَك: قف مَعنا على مَا مسحوه، وَأنْظر من الصَّادِق من الْكَاذِب، فَخرجت لتقف عَلَيْهِ، فوقفوا على قراح شكله: قَاتل قثا، كَيفَ كنت تمسحه؟ فَقلت: كنت آخذ طوله على انعواجه، وآخذ عرضه، ثمَّ أضربه فِي مثله. قَالَ: إِن شكل قَاتل قثا، يكون رأساه محددان، وَفِي تحديده تقويس. قلت: فآخذ الْوسط فأضربه بالعمود. قَالَ: إِذا ينثني عَلَيْك العمود، فأسكتني. فَقلت: أَنا لست كَاتب خراج. قَالَ: فَإِذا مَاذَا؟ قلت: أَنا كَاتب قاضٍ. قَالَ: لَا تبال، أَفَرَأَيْت لَو أَن رجلا توفّي، وَخلف امْرَأتَيْنِ حاملتين، إِحْدَاهمَا

حرَّة وَالْأُخْرَى سَرِيَّة، وَولدت السّريَّة غُلَاما، والحرة جَارِيَة، فعمدت الْحرَّة إِلَى ولد السّريَّة فَأَخَذته، وَتركت بدله الْجَارِيَة، فاختصما فِي ذَلِك، كَيفَ الحكم بَينهمَا؟ قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: فلست كَاتب قَاض. قلت: أَنا كَاتب جَيش. قَالَ: لَا بَأْس، أَرَأَيْت، لَو أَن رجلَيْنِ جَاءَا إِلَيْك لتحليهما، وكل وَاحِد مِنْهُمَا، اسْمه وَاسم أَبِيه كاسم الآخر وَاسم أَبِيه، إِلَّا أَن أَحدهمَا مشقوق الشّفة الْعليا، وَالْآخر مشقوق الشّفة السُّفْلى كَيفَ كنت تحليهما؟ قلت: أَقُول فلَان الأعلم، وَفُلَان الأعلم. قَالَ: إِن رزقيهما مُخْتَلِفَانِ، وكل وَاحِد مِنْهُمَا يَجِيء فِي دَعْوَة الآخر. قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: فلست بكاتب جَيش. قلت: أَنا كَاتب مَعُونَة. قَالَ: لَا تبال، لَو أَن رجلَيْنِ رفعا إِلَيْك، شج أَحدهمَا شجة مُوضحَة، وشج الآخر صَاحبه شجة مأمومة، كَيفَ تفصل بَينهمَا؟ قلت: لَا أَدْرِي. قَالَ: إِذن، لست كَاتب مَعُونَة، فاطلب لنَفسك، أَيهَا الرجل، شغلا غير هَذَا. قَالَ: فقصرت إِلَى نَفسِي وغاظني، فَقلت: قد سَأَلت عَن هَذِه الْأُمُور،

وَيجوز أَن لَا يكون عنْدك جوابها، كَمَا لم يكن عِنْدِي، فَإِن كنت عَالما بِالْجَوَابِ، فَقل. فَقَالَ: نعم، أما الَّذِي تزوجت أمه؛ فتكتب إِلَيْهِ: أما بعد، فَإِن الْأُمُور، تجْرِي من عِنْد الله، بِغَيْر محبَّة عباده، وَلَا اختيارهم، بل هُوَ، تَعَالَى، يخْتَار لَهُم مَا أحب، وَقد بَلغنِي تَزْوِيج الوالدة، خار الله لَك فِي قبضهَا، فَإِن الْقَبْر أكْرم الْأزْوَاج، وأستر للعيوب، وَالسَّلَام. وَأما قراح قَاتل قثا؛ فيمسح العمود، حَتَّى إِذا صَار عددا فِي يدك، ضَربته فِي مثله، وَمثل ثلثه، فَمَا خرج فَهُوَ مساحته. وَأما الْجَارِيَة والغلام؛ فيوزن اللبنان، فَأَيّهمَا أخف، فالجارية لَهُ. وَأما المرتزقان المتوافقان فِي الاسمين؛ فَإِن كَانَ الشق فِي الشّفة الْعليا؛ كتبت فلَان الأعلم، وَإِذا كَانَ فِي الشّفة السُّفْلى؛ كتبت فلَان الْأَفْلَح. وَأما أَصْحَاب الشجتين؛ فَلصَاحِب الْمُوَضّحَة ثلث الدِّيَة، وَلِصَاحِب المأمومة نصف الدِّيَة. قَالَ: فَلَمَّا أجَاب فِي هَذِه الْمسَائِل؛ تعجبت مِنْهُ، وامتحنته فِي أَشْيَاء غَيرهَا كَثِيرَة، فَوَجَدته ماهرا فِي جَمِيعهَا، حاذقا، بليغا. فَقلت: أَلَسْت زعمت أَنَّك حائك؟ فَقَالَ: أَنا، أصلحك الله، حائك كَلَام، وَلست بحائك نساجة، ثمَّ أنشأ يَقُول: مَا مر بؤس وَلَا نعيم ... إِلَّا ولي فيهمَا نصيب نَوَائِب الدَّهْر أدبتني ... وَإِنَّمَا يوعظ الأديب قد ذقت حلوا وذقت مرا ... كَذَاك عَيْش الْفَتى ضروب

قلت: فَمَا سَبَب الَّذِي بك من سوء الْحَال؟ قَالَ: أَنا راجل كَاتب، دَامَت عطلتي، وَكَثُرت عيلتي، وتواصلت محنتي، وَقلت حيلتي، فَخرجت أطلب تَصرفا، فَقطع عَليّ الطَّرِيق، فَتركت كَمَا ترى، فمشيت على وَجْهي، فَلَمَّا لَاحَ لي الزلَال؛ استغثت بك. قلت: فَإِنِّي قد خرجت إِلَى تصرف جليل، أحتاج فِيهِ إِلَى جمَاعَة مثلك، وَقد أمرت لَك بخلعة حَسَنَة، تصلح لمثلك، وَخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، تصلح بهَا أَمرك، وتنفذ مِنْهَا إِلَى عِيَالك، وتتقوى نَفسك بباقيها، وَتصير معي إِلَى عَمَلي، فأوليك أَجله، إِن شَاءَ الله، تَعَالَى. فَقَالَ: أحسن الله جزاءك، إِذن تجدني بِحَيْثُ يَسُرك، وَلَا أقوم مقَام معذر إِن شَاءَ الله. فَأمرت بتقبيضه مَا رسمت لَهُ، فَقَبضهُ، وَانْحَدَرَ إِلَى الأهواز معي، فَجَعَلته المناظر للرخجي، والمحاسب لَهُ بحضرتي، والمستخرج لما عَلَيْهِ، فَقَامَ بذلك أحسن قيام وأوفاه. وعظمت حَاله معي، وعادت نعْمَته إِلَى أحسن مَا كَانَت عَلَيْهِ.

أنا أبوك

أَنا أَبوك قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقد بَلغنِي حَدِيث لعَمْرو بن مسْعدَة فِي زلاله، بِخِلَاف هَذَا، حَدثنِي بِهِ عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن بن الحفا العبقسي، وَهُوَ يذكر أَن أَهله أقرباء لبني مَارِيَة، الَّذين كَانُوا تناء الصراة وَأهل النعم بهَا، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: سَمِعت شُيُوخنَا بالصراة، وأهلنا، يتحدثون: أَن عَمْرو بن مسْعدَة، كَانَ مصعدا من وَاسِط إِلَى بَغْدَاد، فِي حر شَدِيد، وَهُوَ جَالس فِي زلال، فناداه رجل: يَا صَاحب الزلَال، بِنِعْمَة الله عَلَيْك إِلَّا نظرت إِلَيّ. قَالَ: فكشف سجف الزلَال، فَإِذا بشيخ ضَعِيف حاسر الرَّأْس. فَقَالَ لَهُ: قد ترى مَا أَنا عَلَيْهِ، وَلست أجد من يحملني، فابتغ الْأجر فِي، وَتقدم إِلَى ملاحيك يطرحوني بَين مجاديفهم، إِلَى أَن أصل بَلَدا يطرحوني فِيهِ. قَالَ عَمْرو بن مسْعدَة: فرحمته، وَقلت: خذوه، فَأَخَذُوهُ، فَغشيَ عَلَيْهِ، وَكَاد يَمُوت لما لحقه من الْمَشْي فِي الشَّمْس. فَلَمَّا أَفَاق؛ قلت لَهُ: يَا شيخ، مَا حالك، وَمَا قصتك؟ فَقَالَ: قصَّة طَوِيلَة.

فسكنته وطرحت عَلَيْهِ قَمِيصًا ومنديلا، وَأمرت لَهُ بِدَرَاهِم وشمشك، فشكرني. فَقلت: لَا بُد أَن تُحَدِّثنِي بحديثك. فَقَالَ: أَنا رجل كَانَت لله، عز وَجل، عَليّ نعْمَة جليلة، وَكنت صيرفيا، فابتعت جَارِيَة بِخمْس مائَة دِينَار، فعشقتها عشقا عَظِيما، وَكنت لَا أقدر أَن أفارقها سَاعَة وَاحِدَة، فَإِذا خرجت إِلَى الدّكان؛ أَخَذَنِي كالجنون والهيمان، حَتَّى أَعُود فأجلس مَعهَا يومي كُله. فدام ذَلِك حَتَّى تعطل دكاني، وتعطل كسبي، وَأَقْبَلت أنْفق من رَأس المَال، حَتَّى لم يبْق مِنْهُ قَلِيل وَلَا كثير، وَأَنا مَعَ ذَلِك لَا أُطِيق أَن أفارقها. فحبلت الْجَارِيَة، وَأَقْبَلت أنقض دَاري، وأبيع نقضهَا، حَتَّى فرغت من ذَلِك، فَلم تبْق لي حِيلَة. فضربها الطلق، فَقَالَت: يَا هَذَا، هوذا أَمُوت، فاحتل فِيمَا تبْتَاع بِهِ عسلا، ودقيقا، وشيرجا، وَلَحْمًا، وَإِلَّا مت. فَبَكَيْت، وحزنت، وَخرجت على وَجْهي، وَجئْت لأغرق نَفسِي فِي دجلة، فَذكرت حلاوة النَّفس، وَخَوف الْعقَاب فِي الْآخِرَة، فامتنعت. ثمَّ خرجت هائما على وَجْهي إِلَى النهروان، وَمَا زلت أَمْشِي من قَرْيَة إِلَى قَرْيَة، حَتَّى بلغت خُرَاسَان، فاصدفت بهَا من عرفني، وتصرفت فِي ضيَاعه، وَرَزَقَنِي الله، عز وَجل، مَالا عَظِيما، فأثريت، واتسعت حَالي، وَمَكَثت

سِنِين، لَا أعرف خبر منزلي، فَلم أَشك أَن الْجَارِيَة قد مَاتَت. وتراخت السنون حَتَّى حصل لي مَا قِيمَته عشرُون ألف دِينَار. فَقلت: قد صَارَت لي نعْمَة، فَلَو رجعت إِلَى وطني. فابتعت بِالْمَالِ كُله، مَتَاعا من خُرَاسَان، وَأَقْبَلت أُرِيد الْعرَاق، من طَرِيق فَارس والأهواز. فَلَمَّا حصل بَينهمَا؛ خرج على الْقَافِلَة لصوص، فَأخذُوا جَمِيع مَا فِيهَا، ونجوت بثيابي، وعدت فَقِيرا. وَدخلت الأهواز، فَبَقيت بهَا متحيرا، حَتَّى كشف خبري لبَعض أَهلهَا مِمَّن أعرفهُ، فَأَعْطَانِي مَا تحملت بِهِ إِلَى وَاسِط. ونفدت نفقتي، فمشيت إِلَى هَذَا الْموضع، وَقد كدت أتلف، فاستغثت بك، ولي مُنْذُ فَارَقت بَغْدَاد، ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة. فعجبت من ذَلِك، وَقلت لَهُ: اذْهَبْ، فاعرف خبر أهلك، وصر إِلَيّ، فَإِنِّي أتقدم بتصريفك فِيمَا يصلح لمثلك، فَشكر، ودعا، ودخلنا بَغْدَاد. وَمَضَت على ذَلِك مُدَّة طَوِيلَة، أنسيته فِيهَا، فَبينا أَنا يَوْمًا، قد ركبت، أُرِيد دَار الْمَأْمُون، وَإِذا بالشيخ على بَابي، رَاكِبًا بغلا فارها، بمركب محلى ثقيل، وَغُلَام أسود بَين يَدَيْهِ، وَثيَاب حَسَنَة. فَلَمَّا رَأَيْته رَحبَتْ بِهِ، وَقلت: مَا الْخَبَر؟ فَقَالَ: طَوِيل، وهأنا آتِي إِلَيْك فِي غَد، وأحدثك بالْخبر. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد؛ جَاءَنِي، فَقلت لَهُ: عرفني خبرك، فقد سررت بسلامتك، وبظاهر حالك. فَقَالَ: إِنِّي صعدت من زلالك، فقصدت دَاري، فَوجدت حائطها الَّذِي يَلِي الطَّرِيق كَمَا خلفته، غير أَن بَاب الدَّار كَانَ مجلوا نظيفا، وَعَلِيهِ دكاكين وبواب وبغال مَعَ شاكرية.

فَقلت: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، مَاتَت جاريتي، وَملك الدَّار بعض الْجِيرَان، فَبَاعَهَا من رجل من أَصْحَاب السُّلْطَان. ثمَّ تقدم تبَارك وَتَعَالَى إِلَى بقال كنت أعرفهُ فِي الْمحلة، فَوجدت فِي دكانه غُلَاما حَدثا. فَقلت لَهُ: من تكون من فلَان الْبَقَّال؟ فَقَالَ: أَنا ابْنه. فَقلت: وَمَتى مَاتَ؟ قَالَ: مُنْذُ عشْرين سنة. قلت: لمن هَذِه الدَّار؟ قَالَ لِابْنِ داية أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَهُوَ الْآن صَاحب بَيت مَاله. قلت: بِمن يعرف؟ قَالَ: بِابْن فلَان الصَّيْرَفِي، فأسماني. قلت: فَهَذِهِ الدَّار من بَاعهَا إِلَيْهِ. قَالَ: هَذِه دَار أَبِيه. قلت: وَأَبوهُ يعِيش؟ قَالَ: لَا. قلت: أتعرف من حَدِيثهمْ شَيْئا؟ قَالَ: نعم، حَدثنِي أبي، أَن وَالِد هَذَا الرجل كَانَ صيرفيا جَلِيلًا، فافتقر، وَأَن أم هَذَا الرجل ضربهَا الطلق، فَخرج أَبوهُ يطْلب لَهَا شَيْئا، ففقد، وَهلك. وَقَالَ أبي: جَاءَنِي رَسُول أم هَذَا، يطْلب لَهَا شَيْئا، وَهِي تستغيث بِي، فَقُمْت لَهَا بحوائج الْولادَة، وَدفعت لَهَا عشرَة دَرَاهِم، فَمَا أنفقتها حَتَّى قيل: قد ولد لأمير الْمُؤمنِينَ الرشيد مَوْلُود ذكر، وَقد عرض عَلَيْهِ جَمِيع الدايات، فَلم يقبل ثديهن، وَقد طلب لَهُ الْحَرَائِر، فجاءوه بِغَيْر وَاحِدَة، فَمَا أَخذ ثدي وَاحِدَة مِنْهُنَّ، وهم فِي طلب مرضع.

فأرشدت الَّذِي طلب الداية إِلَى أم هَذَا، فَحملت إِلَى دَار الرشيد، فحين وضع فَم الصَّبِي على ثديها، قبله، فأرضعته، وَكَانَ الصَّبِي الْمَأْمُون، وَصَارَت عِنْدهم فِي حَال جليلة، وَوصل إِلَيْهَا مِنْهُم خير كثير. ثمَّ خرج الْمَأْمُون إِلَى خُرَاسَان، وَخرجت هَذِه الْمَرْأَة وَابْنهَا هَذَا مَعهَا، وَلم نَعْرِف أخبارهم إِلَّا مُنْذُ قريب، لما عَاد الْمَأْمُون، وعادت حَاشِيَته، رَأينَا هَذَا قد صَار رجلا، وَلم أكن رَأَيْته قبل قطّ، وَقد كَانَ أبي مَاتَ. فَقَالُوا: هَذَا ابْن فلَان الصَّيْرَفِي، وَابْن داية الْخَلِيفَة الْمَأْمُون، فَبنى هَذِه الدَّار وسواها. فَقلت: فعندك علم من أمه أَهِي حَيَّة، أم ميتَة؟ قَالَ: هِيَ حَيَّة، تمْضِي إِلَى دَار الْخَلِيفَة أَيَّامًا، وَتَكون عِنْد ابْنهَا أَيَّامًا هُنَا. فحمدت الله، تَعَالَى، على هَذِه الْحَال، وَجئْت، حَتَّى دخلت الدَّار مَعَ النَّاس، فَرَأَيْت الصحن فِي نِهَايَة الْعِمَارَة وَالْحسن، وَفِيه مجْلِس كَبِير مفروش بفرش فاخرة، وَفِي صَدره رجل شَاب بَين يَدَيْهِ كتاب وجهابذة، وحساب يَسْتَوْفِيه عَلَيْهِم، وَفِي صفاف الدَّار وَبَعض مجالسها جهابذة، بَين أَيْديهم الْأَمْوَال والتخوت والشواهين، يقبضون ويقبضون. وبصرت بالفتى، فَرَأَيْت شبهي فِيهِ، فَعلمت أَنه ابْني، فَجَلَست فِي غمار النَّاس، إِلَى أَن لم يبْق فِي الْمجْلس غَيْرِي، فَأقبل عَليّ. فَقَالَ: يَا شيخ، هَل من حَاجَة تَقُولهَا؟ فَقلت: نعم، وَلكنه أَمر لَا يجوز أَن يسمعهُ غَيْرك.

فَأَوْمأ إِلَى غلْمَان كَانُوا قيَاما حوله، وَقَالَ: قل، أعزّك الله. قلت: أَنا أَبوك. فَلَمَّا سمع ذَلِك تغير وَجهه، ثمَّ وثب مسرعا، وَتَرَكَنِي مَكَاني. فَلم أشعر إِلَّا بخادم جَاءَنِي، فَقَالَ: قُم يَا سَيِّدي، فَقُمْت أَسِير مَعَه، حَتَّى بلغت ستارة مَنْصُوبَة، فِي دَار لَطِيفَة، وكرسي بَين يَديهَا، والفتى جَالس على كرْسِي آخر. فَقَالَ: اجْلِسْ، أَيهَا الشَّيْخ. فَجَلَست على الْكُرْسِيّ، وَدخل الْخَادِم، فَإِذا بحركة خلف الستارة. فَقلت: أَظُنك تُرِيدُ أَن تختبر صدق مَا قلت لَك من جِهَة فُلَانَة، وَذكرت اسْم جاريتي، أمه. قَالَ: فَإِذا بالستارة قد كشفت، وَالْجَارِيَة قد خرجت إِلَيّ، فَوَقَعت عَليّ تقبلني وتبكي، وَتقول: مولَايَ، وَالله. قَالَ: فَرَأَيْت الْفَتى، قد تشوش، وبهت، وتحير. فَقلت لِلْجَارِيَةِ: وَيحك، مَا خبرك؟ فَقَالَت: دع خبري، فَفِي مشاهدتك مِمَّا تفضل الله، عز وَجل، بذلك كِفَايَة، إِلَى أَن أخْبرك، فَقل مَا كَانَ من خبرك أَنْت؟ فقصصت عَلَيْهَا خبري، مُنْذُ يَوْم خروجي من عِنْدهَا، إِلَى يومي ذَاك، وقصت هِيَ عَليّ قصَّتهَا، مثل مَا قَالَ ابْن الْبَقَّال، وأعجب، وأشرح، وكل ذَلِك بمرأى من الْفَتى ومسمع، فَلَمَّا استوفى الحَدِيث؛ خرج وَتَرَكَنِي فِي مَكَاني. قَالَ: وَإِذا أَنا بخادم، قَالَ: يَا مولَايَ، يَسْأَلك ولدك أَن تخرج إِلَيْهِ. قَالَ: فَخرجت إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي من بعيد؛ قَامَ قَائِما على رجلَيْهِ، وَقَالَ: معذرة إِلَى الله، وَإِلَيْك يَا أَبَة، من تقصيري فِي حَقك، فَإِنَّهُ فجأني من أَمرك، مَا لم أَظن أَنه يكون، والآن فَهَذِهِ النِّعْمَة لَك، وَأَنا ولدك، وأمير الْمُؤمنِينَ مُجْتَهد بِي

مُنْذُ دهر، أَن أدع هَذِه الجهبذة، وأتوفر على خدمته فِي الدَّار، فَلَا أفعل؛ طلبا للتمسك بصنعتي، والآن، فَأَنا أسأله أَن يرد إِلَيْك عَمَلي، وأخدمه أَنا فِي غَيرهَا، فَقُمْ عَاجلا، وَأصْلح أَمرك. فَأخذت إِلَى الْحمام ونظفت، وجاءوني بخلعة، فألبستها، وَخرجت إِلَى حجرَة والدته، فَجَلَست فِيهَا. ثمَّ أدخلني على أَمِير الْمُؤمنِينَ، وحدثته بحديثي، وخلع عَليّ، ورد إِلَيّ الْعَمَل الَّذِي كَانَ إِلَى وَلَدي، وأجرى عَليّ من الرزق، فِي كل شهر كَذَا، وقلد ابْني أعمالا هِيَ من أجل عمله، وأضعف لَهُ أرزاقه، وَأمره بِلُزُوم حَضرته فِي أَشْيَاء اسْتَعْملهُ فِيهَا من خَاص أمره. فَجئْت لأشكرك على مَا عاملتني بِهِ من الْجَمِيل، وأعرفك بتجدد النِّعْمَة. قَالَ عَمْرو بن مسْعدَة: فَلَمَّا أسمى الْفَتى؛ علمت أَنه ابْن داية الْمَأْمُون، كَمَا قَالَ.

سقط عليه حائط ونهض سالما

سقط عَلَيْهِ حَائِط ونهض سالما حَدثنِي عمر بن عبد الْملك بن الْحسن بن يُوسُف السَّقطِي، وَكَانَ خليفتي على الْقَضَاء بحران ونواح من ديار مُضر، ثمَّ خلفني على قِطْعَة من سقِِي الْفُرَات، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْخطاب مُحَمَّد بن أَحْمد بن زَكَرِيَّا الْأنْصَارِيّ، الشَّاهِد بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: غلست يَوْمًا، أُرِيد مَسْجِد الزياديين، بشارع المربد، لوعد كَانَ عَليّ فِيهِ، وَكَانَت الرّيح قَوِيَّة، وَإِذا بَين يَدي بأذرع رجل يمشي. فَلَمَّا بلغنَا دَار ريَاح؛ قلعت الرّيح ستْرَة آجر وجص على رَأسه حَائِط، فرمت بهَا على ذَلِك الرجل، فَلم أَشك فِي هَلَاكه، وَارْتَفَعت غبرة عَظِيمَة أفزعتني، فَرَجَعت. فَلَمَّا سكنت؛ عدت أسلك الطَّرِيق، حَتَّى إِذا دست بعض الستْرَة، لم أجد الرجل، فعجبت. وتممت طريقي، حَتَّى دخلت مَسْجِد الزياديين، فَرَأَيْت أهل الْمَسْجِد مُجْتَمعين، فحدثتهم بِمَا رَأَيْت فِي طريقي، وشاكرا لله، عز وَجل، على سلامتي. فَقَالَ رجل مِنْهُم: يَا أَبَا الْخطاب، أَنا الَّذِي وَقعت عَلَيْهِ الستْرَة، وَذَلِكَ أَنِّي قصدت هَذَا الْمَسْجِد لمثل مَا وعدت لَهُ، فَلَمَّا سَقَطت الستْرَة لم أحس

بِضَرَر لَحِقَنِي، وَوجدت نَفسِي قَائِما سالما، فحمدت الله، تَعَالَى، وتحيرت، ووقفت حَتَّى انجلت الغبرة، فتأملت الصُّورَة، فَإِذا فِي الستْرَة مَوضِع بَاب كَبِير، وَقد سقط بَاقِي الستْرَة حواليّ، وَسَائِر جَسَدِي فِي مَوضِع ذَلِك الْبَاب، فَخرجت مِنْهُ إِلَى هَهُنَا.

نفاه الواثق وأعاده المتوكل

نَفَاهُ الواثق وَأَعَادَهُ المتَوَكل وَوجدت بِخَط جحظة: حَدثنِي عبيد الله بن عملا البازيار، نديم المتَوَكل، قَالَ: لما نفاني الواثق من سر من رأى إِلَى الْبَحْر؛ من أجل خدمتي لجَعْفَر؛ لحقتني إِضَافَة شَدِيدَة، وغموم مُتَّصِلَة، واستبعدت الْفرج. فَكنت أبكر فِي كل يَوْم بباشق على يَدي إِلَى الصَّحرَاء، فأرجع بالدراجة والدراجتين، فَيكون ذَلِك قوتي لإضاقتي. فَدخلت يَوْم جُمُعَة إِلَى الْجَامِع؛ لأصلي قَرِيبا من الْمِنْبَر، وَلَيْسَ معي خبر، فَإِذا الْخَطِيب يخْطب: اللَّهُمَّ أصلح عَبدك وخليفتك عبد الله جَعْفَر الإِمَام المتَوَكل على الله، أَمِير الْمُؤمنِينَ. فداخل قلبِي من السرُور حَال، لم أدر مَعَه فِي أَي مَكَان أَنا. قَالَ: وَسَقَطت مغشيا عَليّ، فَظن النَّاس أَنِّي قد صرعت، فأخرجوني، فمشيت إِلَى الْموضع الَّذِي أسْكنهُ، فَإِذا البُرُد على بَابي، يطلبونني. فركبت مَعَهم إِلَى المتَوَكل، فَكَانَ من أَمْرِي مَعَه مَا كَانَ، وَزَادَنِي على الْغنى دَرَجَات عَظِيمَة، وعدت إِلَى حَالي من الْيَسَار.

البحتري يهنئ الفتح بنجاته من الغرق

البحتري يهنئ الْفَتْح بنجاته من الْغَرق وَحدثت: أَن الْفَتْح بن خاقَان، اجتاز على بعض القناطر، وَهُوَ يتصيد، وَقد انْقَطع من عسكره، فانخسفت القنطرة من تَحْتَهُ، فغرق. فَرَآهُ أكار، وَهُوَ لَا بعرفه، فَطرح نَفسه وَرَاءه، وخلصه، وَقد كَاد أَن يتْلف، ولحقه أَصْحَابه، فَأمر للأكار بِمَال عَظِيم، وَصدق بِمثلِهِ. فَدخل إِلَيْهِ البحتري، فأنشده قصيدته الَّتِي أَولهَا: مَتى لَاحَ أَو بدا طل قفر ... جرى مستهل لَا بكي وَلَا نزر وفيهَا يَقُول: لقد كَانَ يَوْم النَّهر يَوْم عَظِيمَة ... أطلت ونعماء جرى بهما النَّهر أجزت عَلَيْهِ عابرا فتشاعبت ... أواذيه لما أَن طما فَوْقه الْبَحْر

وزالت أواخي الجسر وانهدمت بِهِ ... قَوَاعِده الْعُظْمَى وَمَا ظلم الجسر تحمل حلما مثل قدس وهمة ... كرضوى وَقدرا لَيْسَ يعدله قدر فَمَا كَانَ ذَاك الهول إِلَّا غيابة ... بدا طالعا من تَحت ظلمتها الْبَدْر فَإِن ننس نعمى الله فِيك فحظنا ... أضعنا وَإِن نشكر فقد وَجب الشُّكْر فَقَالَ لَهُ الْفَتْح: النَّاس يهنئونا بنثر، وَأَنت بنظم، وبراحة، وَأَنت بتعب، وأجزل صلته.

الباب الثامن

الْبَاب الثَّامِن فِيمَن أشفى على أَن يقتل فَكَانَ الْخَلَاص من الْقَتْل إِلَيْهِ أعجل بَدَأَ الْهَادِي خِلَافَته بتنحية الرّبيع عَن الوزارة واستيزار إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي ذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كتاب (الوزراء) : أَن إِبْرَاهِيم بن ذكْوَان الْحَرَّانِي الْأَعْوَر الْكَاتِب، صَاحب طاق الْحَرَّانِي بِبَغْدَاد، كَانَ خَاصّا بالمهدي. قَالَ: وَإِن الْمهْدي أنفذ مُوسَى ابْنه إِلَى جرجان، وأنفذ مَعَه إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي، فَخص إِبْرَاهِيم بمُوسَى، ولطف مَوْضِعه مِنْهُ. فاتصل بالمهدي عَنهُ أَشْيَاء تزيد فِيهَا عَلَيْهِ أعداؤه وكثروا، فَكتب الْمهْدي إِلَى مُوسَى فِي حمله إِلَيْهِ، فضن بِهِ، ودافع عَنهُ.

فَكتب إِلَيْهِ الْمهْدي: إِن لم تحمله؛ خلعتك من الْعَهْد، وأسقطت منزلتك. فَلم يجد مُوسَى من حمله بدا، وَحمله مَعَ بعض خدمه، مرفها، مكرما، وَقَالَ للخادم: إِذا دَنَوْت من مَحل الْمهْدي، فقيد إِبْرَاهِيم، واحمله فِي محمل، بِغَيْر وطاء وَلَا غطاء، وَألبسهُ جُبَّة صوف، وَأدْخلهُ بِهَذِهِ الصُّورَة، فامتثل الْخَادِم مَا أَمر بِهِ فِي ذَلِك. وَاتفقَ أَنه ورد إِلَى الْعَسْكَر، وَالْمهْدِي يُرِيد الرّكُوب إِلَى الصَّيْد، وَهُوَ، إِذْ ذَاك، بالروذبار، فَبَصر بالموكب، فَسَأَلَ عَنهُ، فَقيل: خَادِم لمُوسَى، وَمَعَهُ إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي. فَقَالَ: وَمَا حَاجَتي إِلَى الصَّيْد، وَهل صيد أطيب من صيد إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي؟ قَالَ: فأدنيت مِنْهُ، وَهُوَ عَليّ ظهر فرسه. فَقَالَ: إِبْرَاهِيم؟ قلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: لَا لبيْك، وَالله لأَقْتُلَنك، ثمَّ وَالله لأَقْتُلَنك، ثمَّ وَالله لأَقْتُلَنك، امْضِ، يَا خَادِم، بِهِ إِلَى المضرب. فَحملت، وَقد يئست من الْفرج، وَمن نَفسِي، فَفَزِعت إِلَى الله، تَعَالَى، بِالدُّعَاءِ والابتهال.

وَانْصَرف الْمهْدي، فَأكل اللوزينج المسموم الْمَشْهُور خَبره، فَمَاتَ من وقته، وتخلصت. وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، بعد هَذَا، أَن الْهَادِي لما بلغه موت الْمهْدي؛ نجا من جرجان إِلَى بَغْدَاد، على دَوَاب الْبَرِيد وَمَا سمع بخليفة ركل دَوَاب الْبَرِيد غَيره، فَدخل بَغْدَاد وَالربيع مولى الْمَنْصُور على الوزارة، كَمَا كَانَ يتقلدها للمهدي، فَصَرفهُ وقلد إِبْرَاهِيم بن ذكْوَان الْحَرَّانِي.

لما اعتقل إبراهيم بن المهدي حبسه المأمون عند أحمد بن أبي خالد الأحول

لما اعتقل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي حَبسه الْمَأْمُون عِنْد أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كتاب (الوزراء) : لما ظفر الْمَأْمُون بإبراهيم بن الْمهْدي؛ حَبسه عِنْد أَحْمد بن أبي خَالِد، وَلم يزل فِي أزجه. فَحكى يُوسُف بن إِبْرَاهِيم، مولى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، قَالَ: لما وَجه

الْمَأْمُون إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد؛ ليحبسه عِنْده؛ دخل إِبْرَاهِيم إِلَى أَحْمد. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: الْحَمد لله الَّذِي من عَليّ بمصيري إِلَيْك، وحصولي فِي دَارك وَتَحْت يدك، وَلم يبتلني بغيرك. قَالَ إِبْرَاهِيم: فقطب أَحْمد، وَبسر فِي وَجْهي، وَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيم، لقد حسن ظَنك بِي، إِذْ تتوهم أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أَمرنِي بِضَرْب عُنُقك، أَنِّي أَتعدى ذَلِك إِلَى غير مَا أَمرنِي بِهِ فِيك. قَالَ: فَأَرَدْت عَيْني فِي مَجْلِسه، فتبينت فِيمَن حضر من أهل خُرَاسَان إنكارا لقَوْله. فَقلت: صدقت، يَابْنَ أبي خَالِد، إِن قتلتني بِأَمْر أَمِير الْمُؤمنِينَ؛ كنت غير ملوم، وَكَذَلِكَ لَو أَمرنِي بالشق عَن قَلْبك وكبدك؛ فعلت ذَلِك، وَكنت غير ملوم. وَلم أَحْمد رَبِّي، وَإِن كَانَ حَمده وَاجِبا فِي كل حَال، لحسن ظَنِّي بك، ولكنني علمت أَن لأمير الْمُؤمنِينَ خَزَنَة سيوف، وخزنة أَقْلَام، وَأَنه مَتى أَرَادَ قتل إِنْسَان؛ دَفعه إِلَى خَزَنَة السيوف، وَمَتى أَرَادَ مناظرته؛ دَفعه إِلَى خَزَنَة الأقلام. فحمدت الله، تَعَالَى، على مَا من بِهِ عَليّ، من إحلاله إيَّايَ، مَحل من يساءل، لَا مَحل من يعاجل. قَالَ: فَرَأَيْت وُجُوه كل من حوله قد أشرقت وأسفرت، وأعجبوا بِمَا كَانَ مني. فَقَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: النَّاس يَتَكَلَّمُونَ على قدر أنفسهم وآبائهم، وكلامك على قدر الْمهْدي وَقدر نَفسك، وكلامي على قدر خلقي وَقدر يزِيد الْأَحول، وَأَنا أستقبلك مِمَّا سبق مني فأقلني، أقَال الله عثرتك، وَسَهل أَمرك، وَعجل خلاصك.

فَقلت: قد أقَال الله عثرتك. قَالَ: وَمَا مَضَت لي فِي دَاره خَمْسُونَ لَيْلَة، حَتَّى سَار إِلَيّ فِي نصف اللَّيْل، فَأَخْرجنِي، وَألقى عَليّ درعا، وَظَاهر بدراعة، وحملني على دَابَّة، وَهُوَ يرْكض إِلَى الْجَانِب الغربي، فوقفني بَين الجسر والخلد. فَوَقع فِي نَفسِي أَن إلقاءه عَليّ الدرْع، إِنَّمَا هُوَ لإيراده إيَّايَ على سَكرَان، فَأَرَادَ أَن يقيني بادرته، وَعلمت أَنه أَرَادَ أَنه إِذا ورد عَليّ أَمر، أَن أتماوت. فخلفني مَعَ أَصْحَابه، وَمضى يرْكض، ثمَّ عَاد إِلَيّ. ثمَّ قَالَ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ: يَا فَاسق، ألم يكن لَك فِي السَّابِق الْقَدِيم من فعلك كِفَايَة تحولك عَمَّا كَانَ مِنْك فِي هَذِه اللَّيْلَة، الَّتِي وثب فِيهَا عَليّ ابْن عَائِشَة وَابْن الأفريقي، وَمن يتابعهما، وأضرابهم، حَتَّى اضطروني إِلَى أَن ركبت إِلَى المطبق لمحاربتهم، حَتَّى أَظْفرنِي الله، جلّ وَعز، بهم، فقتلتهم، وَأَنا ملحقك بهم، فاحتجّ لنَفسك، إِن كَانَت لَك حجَّة، وَإِلَّا فَإنَّك لَاحق بهم. فَعلمت أَن الرسَالَة مِمَّن غلب عَلَيْهِ النَّبِيذ، وَأَنِّي أحتاج إِلَى إغضابه، حَتَّى يغلب غَضَبه السكر. فَقلت: يَا أَبَا الْعَبَّاس، دمي فِي عُنُقك، فَاتق الله. وَلَا تقتلني.

فَقَالَ لي: يَا هَذَا، مَا الَّذِي يتهيأ لي أَن أعمل، وَهل يمكنني دفع شَيْء يَأْمُرنِي بِهِ؟ فَقلت: لَا، وَإِنِّي أُرِيد أَن أحقن دمي، بِأَن تُؤدِّي عني مَا تسمعه مني، وَإِنَّمَا تقتلني، إِذا أَجَبْته بِجَوَاب، فأديت عني غَيره، تَقْديرا مِنْك، أَنه أصلح وأدعى إِلَى سلامتي، فَلَا يتلَقَّى قَوْلك بِالْقبُولِ، فأد قولي كَمَا أَقُول. فَقَالَ أَحْمد بن أبي خَالِد: عَليّ عهد الله، أَن أؤدي مَا تَقول. قَالَ: فَقلت: تَقول لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن كنت تعقل، فَأَنت تعلم أَنِّي أَعقل، فَمَا أَشك أَنه سيستعيد مِنْك هَذَا القَوْل، فأعده. وَتقول لَهُ: يَقُول لَك: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، استترت مِنْك، وَأَنت خَارج عَن الْبَلَد، وَأَنا نَافِذ الْأَمر فِيهِ، وَمَعِي عَالم من النَّاس، وأثب بك فِي مدينتك، ومدينة آبَائِك، وَأَنا أَسِير فِي سرب ابْن أبي خَالِد، مَعَ نفر محبسين، مثقلين بالحديد؟ هَذَا مَا لَا يقبله عَاقل. فَأدى أَحْمد رسَالَته إِلَى الْمَأْمُون، فَقَالَ: صدق، فاردده إِلَى مَوْضِعه. فركض أَحْمد إِلَيّ، وَهُوَ يُنَادي: سَلامَة سَلامَة، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين، وَانْصَرف إِلَى منزله. قَالَ ابْن عَبدُوس: فَأَقَامَ فِيهِ، إِلَى أَن انْصَرف الْمَأْمُون؛ لنكاح بوران، فأشخصه مَعَه إِلَى فَم الصُّلْح، وَسَأَلته بوران بنت الْحسن بن سهل، فَرضِي عَنهُ.

جيء بإبراهيم بن المهدي وهو مذنب وخرج وهو مثاب

جِيءَ بإبراهيم بن الْمهْدي وَهُوَ مذنب وَخرج وَهُوَ مثاب وحَدثني أَبُو الْعَلَاء الدَّلال الْبَصْرِيّ، بهَا، قَالَ: حَدثنِي أَبُو نصر بن أبي دؤاد، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أَبِيه، قَالَ: كنت يَوْمًا عِنْد الْمَأْمُون، وَقد جَاءُوهُ بإبراهيم بن الْمهْدي، وَفِي عُنُقه ساجور، وَفِي رجله قيدان، فَوقف بَين يَدي الْمَأْمُون. فَقَالَ لَهُ: هيه، يَا إِبْرَاهِيم، إِنِّي استشرت فِي أَمرك، فأشير عَليّ بقتلك، فَرَأَيْت ذَنْبك يقصر عَن وَاجِب حق عمومتك. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَبيت أَن تَأْخُذ حَقك إِلَّا من حَيْثُ عودك الله، تَعَالَى، وَهُوَ الْعَفو عَن قدرَة. فَقَالَ الْمَأْمُون: مَاتَ، وَالله، الحقد، عِنْد هَذَا الْعذر، يَا غُلَام، لَا يتَخَلَّف أحد من أهل المملكة عَن الرّكُوب بَين يَدَيْهِ عشر بدر، وَعشرَة تخوت ثِيَاب. قَالَ: مَا رَأَيْت إنْسَانا جِيءَ بِهِ وَهُوَ مذنب، فَخرج وَهُوَ مثاب، وَأهل المملكة بَين يَدَيْهِ، إِلَّا هُوَ.

قبض على إبراهيم بن المهدي وهو بزي امرأة

قبض على إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَهُوَ بزِي امْرَأَة وجدت فِي كتاب أبي الْفرج المَخْزُومِي الحنطبي: أَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، لما طَال استتاره من الْمَأْمُون؛ ضَاقَ صَدره، فَخرج لَيْلَة من مَوضِع كَانَ فِيهِ مستخفيا، يُرِيد موضعا آخر، فِي زِيّ امْرَأَة، وَكَانَ عَطِرا. فَعرض لَهُ حارس، فَلَمَّا شم مِنْهُ رَائِحَة الطّيب؛ ارتاب بِهِ، فَكَلمهُ، فَلم يجب، فَعلم أَنه رجل، فضبطه. فَقَالَ لَهُ: خُذ خَاتمِي، فثمنه ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم وخلني، فَأبى، وعلق بِهِ، وَحمله إِلَى صَاحب الشرطة، فَأتى بِهِ الْمَأْمُون. فَلَمَّا أَدخل دَاره، وَعرف خَبره؛ أَمر بِأَن يدْخل إِلَيْهِ، إِذا دعِي، على الْحَال الَّتِي أَخذ عَلَيْهَا. ثمَّ جلس مَجْلِسا عَاما، وَقَامَ خطيب بِحَضْرَة الْمَأْمُون، يخْطب بفضله، وَمَا رزقه الله، جلت عَظمته، من الظفر بإبراهيم.

وَأدْخل إِبْرَاهِيم بزيه، فَسلم على الْمَأْمُون، وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن ولي الثأر محكّم فِي الْقصاص، وَالْعَفو أقرب للتقوى، وَمن تناولته يَد الاغترار، بِمَا مد لَهُ من أَسبَاب الرَّجَاء، لم يَأْمَن عَادِية الدَّهْر، وَلست أَخْلو عنْدك من أَن أكون عَاقِلا، أَو جَاهِلا، فَإِن كنت جَاهِلا فقد سقط عني اللوم من الله، تَعَالَى، وَإِن كنت عَاقِلا، فَيجب أَن تعلم أَن الله، عز وَجل، قد جعلك فَوق كل ذِي عَفْو، كَمَا جعل كل ذِي ذَنْب دوني، فَإِن تؤاخذ؛ فبحقك، وَإِن تعف؛ فبفضلك، ثمَّ قَالَ: ذَنبي إِلَيْك عَظِيم ... وَأَنت أعظم مِنْهُ فَخذ بحقك أَو لَا ... فاصفح بِحِلْمِك عَنهُ إِن لم أكن فِي فعالي ... من الْكِرَام فكنه وَقَالَ: أذنبت ذَنبا عَظِيما ... وَأَنت للعفو أهل فَإِن عَفَوْت فمَنّ ... وَإِن جزيت فَعدل قَالَ: فرق لَهُ الْمَأْمُون، وَأَقْبل على أَخِيه أبي إِسْحَاق وَابْنه الْعَبَّاس والقواد،

وَقَالَ: مَا ترَوْنَ فِي أمره؟ فَقَالَ بَعضهم: يضْرب عُنُقه. وَقَالَ الْبَعْض: تقطع أَطْرَافه، وَيتْرك إِلَى أَن يَمُوت، وكل أَشَارَ بقتْله، وَإِن اخْتلفُوا فِي القتلة. فَقَالَ الْمَأْمُون لِأَحْمَد بن أبي خَالِد: مَا تَقول أَنْت، يَا أَحْمد؟ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن قَتله؛ وجدت مثلك قد قتل مثله، وَإِن عَفَوْت عَنهُ؛ لم تَجِد مثلك قد عَفا عَن مثله، فَأَي أحب إِلَيْك؛ أَن تفعل فعلا تَجِد لَك فِيهِ شَرِيكا، أَو أَن تنفرد بِالْفَضْلِ؟ فَأَطْرَقَ الْمَأْمُون طَويلا، ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ: أعد عَليّ مَا قلت، يَا أَحْمد، فَأَعَادَ. فَقَالَ الْمَأْمُون: بل ننفرد بِالْفَضْلِ، وَلَا رَأْي لنا فِي الشّركَة. فكشف إِبْرَاهِيم المقنعة عَن رَأسه، وَكبر تَكْبِيرَة عالية، وَقَالَ: عَفا، وَالله، أَمِير الْمُؤمنِينَ عني، بِصَوْت كَاد الإيوان أَن يتزعزع مِنْهُ، وَكَانَ طَويلا، آدم، جعد الشّعْر، جَهورِي الصَّوْت. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: لَا بَأْس عَلَيْك، يَا عَم، وَأمر بحبسه فِي دَار أَحْمد بن أبي خَالِد. فَلَمَّا كَانَ بعد شهر؛ أحضرهُ الْمَأْمُون، وَقَالَ لَهُ: اعتذر عَن ذَنْبك. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ذَنبي أجل من أَن أتفوه مَعَه بِعُذْر، وعفو أَمِير الْمُؤمنِينَ أعظم من أَن أنطق مَعَه بشكر، وَلَكِنِّي أَقُول:

تفديك نَفسِي أَن تضيق بِصَالح ... وَالْعَفو مِنْك بِفضل جود وَاسع إِن الَّذِي خلق المكارم حازها ... فِي صلب آدم للْإِمَام السَّابِع ملئت قُلُوب النَّاس مِنْك مهابة ... وتظل تكلؤهم بقلب خاشع فعفوت عَمَّن لم يكن عَن مثله ... عَفْو وَلم يشفع إِلَيْك بشافع ورحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وحنين وَالِدَة بقلب جازع رد الْحَيَاة إِلَيّ بعد ذهابها ... كرم المليك الْعَادِل المتواضع فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: لَا تَثْرِيب عَلَيْك، يَا عَم، قد عَفَوْت عَنْك، فاستأنف الطَّاعَة متحرزا من الظنة، يصف عيشك، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ، ورد عَلَيْهِ مَاله وضياعه، فَقَالَ إِبْرَاهِيم يشكره فِي ذَلِك: رددتَ مَالِي وَلم تبخل عَليّ بِهِ ... وَقبل ردك مَالِي قد حقنت دمي فأبتُ عَنْك وَقد خولتني نعما ... هما الحياتان من موت وَمن عدم فَلَو بذلتُ دمي أبغي رضاك بِهِ ... وَالْمَال حَتَّى أسل النَّعْل من قدمي مَا كَانَ ذَاك سوى عاريّة رجعت ... إِلَيْك لَو لم تعرها كنت لم تُلَمِ وَقَامَ علمك بِي فاحتج عنْدك لي ... مقَام شَاهد عدل غير مُتَّهم فَإِن جحدتك مَا أوليت من نعم ... إِنِّي لباللؤم أولى مِنْك بِالْكَرمِ فَقَالَ الْمَأْمُون: إِن من الْكَلَام كلَاما كالدر، وَهَذَا مِنْهُ، وَأمر لإِبْرَاهِيم بخلع وَمَال، قيل: إِنَّه ألف ألف دِرْهَم. وَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيم، إِن أَبَا إِسْحَاق وَأَبا عِيسَى أشارا عَليّ بقتلك.

فَقَالَ إِبْرَاهِيم: مَا الَّذِي قلت لَهما، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: قلت لَهما: إِن قرَابَته قريبَة، ورحمه ماسة، وَقد بدأنا بِأَمْر، وَيَنْبَغِي أَن نستتمه، فَإِن نكث فَالله مغير مَا بِهِ. قَالَ إِبْرَاهِيم: قد نصحا لَك، وَلَكِنَّك أَبيت إِلَّا مَا أَنْت أَهله، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَدفعت مَا خفت، بِمَا رَجَوْت. فَقَالَ الْمَأْمُون: قد مَاتَ حقدي بحياة عذرك، وَقد عَفَوْت عَنْك، وَأعظم من عفوي عَنْك أنني لم أجرعك مرَارَة امتنان الشافعين.

إن من أعظم المحنة أن تسبق أمية هاشما إلى مكرمة

إِن من أعظم المحنة أَن تسبق أُميَّة هاشما إِلَى مكرمَة وحَدثني أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن سُلَيْمَان الْأَخْفَش، وَمُحَمّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن يزِيد النَّحْوِيّ؛ يعنيان: أَبَا الْعَبَّاس الْمبرد، قَالَ: حَدثنَا الْفضل بن مَرْوَان، قَالَ: لما دخل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي على الْمَأْمُون وَقد ظفر بِهِ؛ كَلمه بِكَلَام كَانَ سعيد بن الْعَاصِ كلم بِهِ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فِي سخطَة سخطها عَلَيْهِ، واستعطفه بِهِ، وَكَانَ الْمَأْمُون يحفظ الْكَلَام. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: هَيْهَات يَا إِبْرَاهِيم، هَذَا كَلَام قد سَبَقَك بِهِ، فَحل بني الْعَاصِ وقارحهم سعيد بن الْعَاصِ، خَاطب بِهِ مُعَاوِيَة. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: وَأَنت إِن عَفَوْت عني؛ فقد سَبَقَك، فَحل بني حَرْب، وقارحهم إِلَى الْعَفو، وَلم تكن حَالي فِي ذَلِك، أبعد من حَال سعيد عِنْد مُعَاوِيَة، فَإنَّك أشرف مِنْهُ، وَأَنا أشرف من سعيد، وَأَنا أقرب إِلَيْك من سعيد إِلَى مُعَاوِيَة، وَإِن من أعظم المحنة أَن تسبق أُميَّة هاشما إِلَى مكرمَة. فَقَالَ لَهُ: صدقت، يَا عَم، وَقد عَفَوْت عَنْك.

لما قدم للقتل تماسك فلما عفي عنه بكى

لما قدم للْقَتْل تماسك فَلَمَّا عُفيَ عَنهُ بَكَى وجدت فِي بعض الْكتب: أَنه لما حصل إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي قَبْضَة الْمَأْمُون؛ لم يشك هُوَ وَغَيره فِي أَنه مقتول، فَأطَال حَبسه فِي مطمورة، بأسوإ حَال وأقبحها. قَالَ إِبْرَاهِيم: فأيست من نَفسِي، ووطنتها على الْقَتْل، وتعزيت عَن الْحَيَاة، حَتَّى صرت أتمني الْقَتْل؛ للراحة من الْعَذَاب، وَمَا أؤمله فِي الْآخِرَة، من حُصُول الثَّوَاب. فَبينا أَنا كَذَلِك؛ إِذْ دخل عَليّ أَحْمد بن أبي خَالِد مبادرا، فَقَالَ: اعهد، فقد أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ بِضَرْب عُنُقك. فَقلت: أَعْطِنِي دَوَاة وقرطاسا، فَكتبت وَصِيَّة، ذكرت فِيهَا كلما احتجت إِلَيْهِ، وأسندتها إِلَى الْمَأْمُون، وشكلة والدتي، وتوضأت، فتطوعت رَكْعَات، وَمضى أَحْمد. وفرغت من الصَّلَاة، وَجَلَست أتوقع الْقَتْل، فَعَاد إِلَيّ أَحْمد بعد ساعتين،

فَقَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ، يقرؤك السَّلَام، وَيَقُول لَك: أَنا أَحْمد الله، جلت عَظمته، الَّذِي وفقني لصلة رَحِمك، والصفح عَنْك، وَقد أمّنك، ورد عَلَيْك نِعْمَتك، وَجَمِيع ضياعك وأملاكك، فَانْصَرف إِلَى دَارك. قَالَ: فَبَدَأت أَدْعُو لِلْمَأْمُونِ، وَغلب الْبكاء عَليّ والانتحاب، وَهُوَ يطالبني بِالْجَوَابِ، وَأَنا غير مُتَمَكن مِنْهُ. فَقَالَ لي أَحْمد: لقد رَأَيْت مِنْك عجبا، أَخْبَرتك أَنِّي أمرت بِضَرْب عُنُقك، فَلم تجزع، وَلم تبك، ثمَّ أَخْبَرتك بتفضل أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْك، وصفحه عَنْك، فَلم تتمالك من الْبكاء. فَقلت لَهُ: أما السُّكُوت عِنْد الْخَبَر الأول؛ فلأني لم أتوسم، مُنْذُ ظفر بِي، أَن أسلم من الْقَتْل، فَلَمَّا ورد عَليّ مَا لم أَشك فِيهِ؛ لم أجزع لَهُ، وَلم أبك. وَأما بُكَائِي عِنْد الْخَبَر الثَّانِي، فوَاللَّه الْعَظِيم، شَأْنه مَا هُوَ عَن سرُور بِالْحَيَاةِ، وَلَا لرجوع النِّعْمَة، وَمَا بُكَائِي إِلَّا لما كَانَ مني فِي قطيعة رحم من عِنْده، بعد استحقاقي مِنْهُ الْقَتْل، مثل هَذَا الصفح الَّذِي لم يسمع فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام، بِأَن أحدا أَتَى بِمثلِهِ، فقد حَاز أَمِير الْمُؤمنِينَ الثَّوَاب من الله، تَعَالَى، فِي صلَة رَحمَه، وبؤت أَنا بالإثم فِي قطيعة رحمي، وَقد أظهر إحسانه إساءتي، وحلمه جهلي، وفضله نقصي، وجوابي هُوَ مَا شاهدت وَسمعت. فَرجع أَحْمد إِلَى الْمَأْمُون فَأخْبرهُ، ثمَّ عَاد إِلَيّ بِمَال وخلع، ومركوب، فَانْصَرَفت إِلَى دَاري ونعمتي.

قال المأمون لقد حبب إلي العفو حتى خفت أن لا أؤجر عليه

قَالَ الْمَأْمُون لقد حبب إِلَيّ الْعَفو حَتَّى خفت أَن لَا أؤجر عَلَيْهِ وَوجدت الْخَبَر على خلاف هَذِه الرِّوَايَة، فَأَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأمَوِي، الْمَعْرُوف بـ: الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عَليّ بن سُلَيْمَان الْأَخْفَش، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يزِيد النَّحْوِيّ، عَن الجاحظ، قَالَ: أرسل إِلَيّ ثُمَامَة، يَوْم حبس الْمَأْمُون إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، وَأمر بإحضار النَّاس على مَرَاتِبهمْ، فَحَضَرُوا، وَجِيء بإبراهيم. قَالَ أَبُو الْفرج، وَأَخْبرنِي عمي، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن عليل، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَمْرو الْأَنْبَارِي، من أنبار خُرَاسَان، قَالَ: لما ظفر الْمَأْمُون بإبراهيم الْمهْدي؛ أحب أَن يوبخه على رُءُوس الأشهاد، فَأمر بإحضار النَّاس على مَرَاتِبهمْ، وَجِيء بإبراهيم يرسف فِي قيوده، فَوقف على طرف الْبسَاط فِي طرف الإيوان، يحجل فِي قيوده. فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَرَحْمَة الله، تَعَالَى، وَبَرَكَاته. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: لَا سلم الله عَلَيْك، وَلَا كلأك، وَلَا حفظك، وَلَا رعاك. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: على رسلك، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَلَقَد أَصبَحت ولي الثأر،

وَالْقُدْرَة تذْهب الحفيظة، وَقد أصبح ذَنبي فَوق كل ذَنْب، كَمَا أصبح عفوك فَوق كل عَفْو، وَلم يبْق إِلَّا عفوك، أَو انتقامك، فَإِن تعاقب فبحقك، وَإِن تعف فبفضلك، وَأَنت للعفو أقرب. فَأَطْرَقَ الْمَأْمُون مَلِيًّا، ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ: إِن هذَيْن أشارا عَليّ بقتلك؛ يَعْنِي: أَخَاهُ المعتصم، وَابْنه الْعَبَّاس، وَكَانَا يشيران عَلَيْهِ فِي مُعظم تَدْبِير الْخلَافَة والسياسة. فَقَالَ إِبْرَاهِيم: لقد نصحا لَك، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فِيمَا أشارا عَلَيْك بِهِ، وَمَا غشاك، إِذْ كَانَ مني مَا كَانَ، وَلَكِن الله، عز وَجل، عودك فِي الْعَفو عَادَة جريت عَلَيْهَا، دافعا مَا تخَاف بِمَا ترجو، فكفاك الله كل مَكْرُوه، وَدفع عَنْك كل مَحْذُور. قَالَ: فَتَبَسَّمَ الْمَأْمُون، وَأَقْبل على ثُمَامَة، وَقَالَ: إِن من الْكَلَام مَا يفوق الدّرّ، ويغلب السحر، وَكَلَام عمي مِنْهُ، أَطْلقُوهُ، وفكوا عَن عمي حديده، وردوه إِلَيّ مكرما. فَلَمَّا رد إِلَيْهِ؛ قَالَ: يَا عَم، صر إِلَيّ المنادمة، وارجع إِلَى الْأنس، فَلَنْ ترى مني أبدا إِلَّا مَا تحب، فَلَقَد حبب إِلَيّ الْعَفو، حَتَّى خفت أَن لَا أؤجر عَلَيْهِ، أما أَنه لَو علم النَّاس مَا لنا فِي الْعَفو من اللَّذَّة؛ لتقربوا إِلَيْنَا بِالذنُوبِ، لَا تَثْرِيب الْيَوْم عَلَيْك، يَا عَم، يغْفر الله لنا وَلَك، وَلَو لم يكن فِي حق نسبك مَا يبلغ الصفح عَن إساءتك، وَلَو لم يكن فِي حق قرابتك، مَا يسْتَحق الْعَفو عَن جرمك؛ لبلغت مَا أملت بِحسن تنصلك، ولطف توصلك، ثمَّ أَمر برد ضيَاعه وأمواله إِلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد؛ بعث إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم درجا، فِيهِ هَذِه الأبيات:

يَا خير من ذملت يَمَانِية بِهِ ... بعد الرَّسُول لآيس أَو طامع وَالله يعلم مَا أَقُول فَإِنَّهَا ... جهد الألية من حنيف رَاكِع قسما وَمَا أدلي إِلَيْهِ بِحجَّة ... إِلَّا التضرع من مقرّ خاشع مَا إِن عصيتك والغواة تمد لي ... أَسبَابهَا إِلَّا بقلب طائع حَتَّى إِذا علقت حبائل شقوتي ... بردي على حفر المهالك هائع لم أدر أَن لمثل ذَنبي غافرا ... فأقمت أرقب أَي حتف صارعي رد الْحَيَاة عَليّ بعد ذهابها ... عَفْو الإِمَام الْقَادِر المتواضع أحياك من ولاك أطول مُدَّة ... وَرمى عَدوك فِي الوتين بقاطع إِن الَّذِي قسم الْفَضَائِل حازها ... فِي صلب آدم للْإِمَام السَّابِع كم من يَد لَك لَا تُحَدِّثنِي بهَا ... نَفسِي إِذا آلت إِلَيّ مطامعي أسديتها عفوا إِلَيّ هنيئة ... فَشَكَرت مصطنعا لأكرم صانع ورحمت أطفالا كأفراخ القطا ... وحنين والهة كقوس النازع وعفوت عَمَّن لم يكن عَن مثله ... عَفْو وَلم يشفع إِلَيْك بشافع إِلَّا الْعُلُوّ عَن الْعقُوبَة بعد مَا ... ظَفرت يداك بمستكين خاشع قَالَ: فَبكى الْمَأْمُون، ثمَّ قَالَ: عَليّ بِهِ، فَخلع عَلَيْهِ، وَأمر لَهُ بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، وَكَانَ ينادمه، لَا يُنكر مِنْهُ شَيْئا.

إذا رميت أصابني سهمي

إِذا رميت أصابني سهمي قَالَ أَبُو الْفرج، وروى بعض هَذَا الْخَبَر، مُحَمَّد بن الْفضل الْهَاشِمِي، فَقَالَ فِيهِ: لما فرغ الْمَأْمُون من خطابه؛ دَفعه إِلَى أَحْمد بن أبي خَالِد الْأَحول، وَقَالَ لَهُ: هُوَ صديقك، فَخذه إِلَيْك. فَقَالَ: مَا يُغني هَذَا عَنهُ، وأمير الْمُؤمنِينَ ساخط عَلَيْهِ، أما وَإِنِّي وَإِن كنت صديقا لَهُ، لَا أمتنع من قَول الْحق بِهِ. فَقَالَ لَهُ: قل، فَإنَّك غير مُتَّهم. فَقَالَ: هُوَ يُرِيد التسلق إِلَى أَن تَعْفُو عَنهُ، فَإِن قتلته؛ فقد قتلت الْمُلُوك قبلك من كَانَ أقل جرما مِنْهُ، وَإِن عَفَوْت عَنهُ؛ عَفَوْت عَمَّن لم يعف قبلك أحد عَن مثله. فَسكت الْمَأْمُون سَاعَة، ثمَّ تمثل بِهَذِهِ الأبيات: فلئن عَفَوْت لأعفون جللا ... وَلَئِن سطوت لأوهنن عظمي قومِي هموا قتلوا أميم أخي ... فَإِذا رميت يُصِيبنِي سهمي قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وروى أَبُو تَمام الطَّائِي، هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي اختياراته الَّتِي سَمَّاهَا: الحماسة، وَقدم الْبَيْت الثَّانِي على الأول. رَجَعَ الحَدِيث إِلَى أبي الْفرج، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: خُذْهُ إِلَيْك مكرما، فَانْصَرف بِهِ، ثمَّ كتب إِلَى الْمَأْمُون

قصيدته العينية، فَلَمَّا قَرَأَهَا رق لَهُ، وَأمر برده إِلَى مَنْزِلَته، ورد مَا قبض من أَمْوَاله وأملاكه.

إبراهيم بن المهدي يحتج لنفسه أمام المأمون

إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي يحْتَج لنَفسِهِ أَمَام الْمَأْمُون وحَدثني عَليّ بن هِشَام، الْمَعْرُوف بـ: ابْن أبي قِيرَاط الْكَاتِب الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْأَنْبَارِي الْكَاتِب، الْمَعْرُوف بـ: زنجي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثوابة، قَالَ: سَمِعت مُوسَى بن عبد الْملك، يحدث عَن أَحْمد بن يُوسُف الْكَاتِب، قَالَ: كنت أشْرب مَعَ الْمَأْمُون، وأنادمه، وَأَنا أتقلد لَهُ ديوَان الْمشرق وديوان الرسائل، قبل وزارتي لَهُ، وَكنت كثيرا مَا أنادمه على الِانْفِرَاد، وَرُبمَا جمع بيني وَبَين اليزيدي، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي. فَلَمَّا رَضِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي ونادمه؛ صَار لَا يكَاد يشرب مَعَ غَيره وغيري، ويقتصر على اسْتِمَاع الْغناء من وَرَاء الستارة، وَرُبمَا حضر إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي.

فَنحْن ذَات يَوْم على شرب، ومعنا إِسْحَاق، إِذْ غنى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، فَقَالَ: صونوا جيادكمُ واجلوا سلاحكمُ ... وشمروا إِنَّهَا أَيَّام من غلبا فاستعاده الْمَأْمُون مرَارًا، وَبَان لي فِي وَجهه الغيظ وَالْغَضَب، والهم، وَزَوَال الطَّرب، وَلم يفْطن إِبْرَاهِيم. وَترك الْمَأْمُون الْقدح الَّذِي كَانَ فِي يَده، ونهض، فظنناه يُرِيد الْوضُوء، ثمَّ غَابَ. فَمَا شعرنَا إِلَّا وَقد استدعانا إِلَى مجْلِس آخر، فَإِذا هُوَ جَالس على سَرِير الْخلَافَة، بقلنسوة، وَثيَاب الهيبة، وَبَين يَدَيْهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المصعبي، وَجلة القواد.

فاستدعى إِبْرَاهِيم بزيه، فَحَضَرَ بأخس صُورَة وأقبحها، وَعَلِيهِ ثِيَاب المنادمة، يَفْضَحهُ بذلك. فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ؛ قَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيم، مَا حملك على الْخُرُوج عَليّ، وَالْخطْبَة لنَفسك بالخلافة. قَالَ أَحْمد بن يُوسُف: وَقد كنت لما أَبْطَأَ الْمَأْمُون عَن مجْلِس الشّرْب؛ تعرفت الصُّورَة، فَلَمَّا استدعاني؛ جِئْت وَقد لبست ثِيَاب الْعَمَل، نزعت ثِيَاب المنادمة. فَلَمَّا سَأَلَ إِبْرَاهِيم عَن ذَلِك، فِي مثل ذَلِك الْمجْلس؛ علمت أَن الصَّوْت قد ذكره مَا كَانَ من إِبْرَاهِيم، وَلم أَشك فِي أَنه سيقتله. فَأقبل عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بِوَجْه صفيق، وقلب ثَابت، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لست أَخْلو من أَن أكون عنْدك عَاقِلا، أَو جَاهِلا، فَإِن كنت جَاهِلا، فقد سقط عني اللوم، من الله، تَعَالَى، ثمَّ مِنْك، وَإِن كنت عَاقِلا؛ فَيحسن أَن تعلم أَنِّي قد علمت أَن مُحَمَّدًا أَخَاك مَعَ أَمْوَاله وذخائره، وأموال والدته، وَكَثْرَة ضياعها وصنائعها، والأعمال الَّتِي كَانَت فِي يَده وارتفاعها، ومحبة بني هَاشم لَهُ، لم يثبت لَك، وَهُوَ الْخَلِيفَة، وَأَنت أَمِير من أمرائه، فَكيف أثبت أَنا لَك؟ وَأَنا فِي قوم أَكثر رزق الرجل مِنْهُم ثَلَاثُونَ درهما فِي الشَّهْر، وَقد غلبني على بَغْدَاد ابْن أبي خَالِد الْعيار وَأَصْحَابه، يقطعون، ويضربون، ويحبسون، ويطلقون، وَوَاللَّه، جلّ شَأْنه، وَحقّ رَسُول الله، حق جدي الْعَبَّاس، مَا دخلت فِيمَا دخلت فِيهِ، إِلَّا لأبقي هَذَا الْأَمر عَلَيْك، وعَلى أهل بَيْتك، لما رَأَيْت الْفضل بن سهل قد حمله البطر والرفض على أَن أخرج الْخلَافَة عَنْك، فَأَرَدْت ضبط الْأَمر، إِلَى أَن تقدم فتتسلمه. قَالَ: فَرَأَيْت الْمَأْمُون وَقد أَسْفر وَجهه، وَقَالَ: عَليّ بنافذ الْخَادِم، فأحضر.

فَقَالَ لَهُ: رقْعَة سلمتها إِلَيْك بمرو، قبل رحيلي عَنْهَا، وأمرتك بحفظها، هَاتِهَا. فَمضى، وَجَاء بسفط، ففتحه، وَأخرج مِنْهُ الرقعة، فَإِذا مَكْتُوب فِيهَا بِخَط الْمَأْمُون: لَئِن أَظْفرنِي الله، عز وَجل، بإبراهيم بن الْمهْدي، لأسألنه بِحَضْرَة الْأَوْلِيَاء، والخاصة من أهل بَيْتِي وأجنادي، عَن السَّبَب الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْخُرُوج عَليّ، فَإِن مَا ذكر أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بذلك حفظ الْأَمر على أهل بَيْتِي؛ لما جرى فِي أَمر عَليّ بن مُوسَى؛ لأخلين سَبيله، ولأحسنن إِلَيْهِ، وَلَئِن ذكر غير ذَلِك من الْعذر، كَائِنا مَا كَانَ؛ لَأَضرِبَن عُنُقه. قَالَ أَحْمد بن يُوسُف: وَلم يكن بِحَضْرَتِهِ كَاتب غَيْرِي، فَدَفعهَا إِلَيّ، وَقَالَ: يَا أَحْمد، ادفعها إِلَيْهِ. ثمَّ قَالَ: يَا عَم، خُذ براءتك من أَحْمد، وعد إِلَى مجلسك الَّذِي خلفتك فِيهِ. قَالَ: فَسلمت الرقعة إِلَيْهِ، وعدنا إِلَى مَجْلِسنَا وموضعنا، فَطرح إِبْرَاهِيم نَفسه مغشيا عَلَيْهِ. فَمَا شعرنَا إِلَّا والمأمون قد رَجَعَ بِثِيَاب بذلته، فقمنا وَجَلَسْنَا مَجْلِسنَا، وَقَالَ: ارْجعُوا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، وأتممنا يَوْمنَا ذَلِك مَعَه.

المأمون ينصب صاحب خبر على إبراهيم بن المهدي

الْمَأْمُون ينصب صَاحب خبر على إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي قَالَ أَبُو الْفرج، وَفِي خبر عمي، عَن الْحسن بن عليل، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْأَشْعَرِيّ، عَن أبي دَاوُد، قَالَ: إِن الْمَأْمُون، تقدم إِلَى مُحَمَّد بن دَاوُد، لما أطلق إِبْرَاهِيم، وَأمره أَن يمْنَع إِبْرَاهِيم من دَاري الْخَاصَّة والعامة، ووكل رجلا من قبله، يَثِق بِهِ؛ ليعرفه أخباره، وَمَا يتَكَلَّم بِهِ. فَكتب إِلَيْهِ المتَوَكل يَوْمًا: إِن إِبْرَاهِيم، لما بلغه مَنعه من دَاري الْخَاصَّة والعامة، تمثل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: يَا سرحة المَاء قد سدت موارده ... أما إِلَيْك طَرِيق غير مسدود لحائم حام حَتَّى لَا حيام بِهِ ... مشرد عَن طَرِيق المَاء مطرود قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَهَا الْمَأْمُون بَكَى، وَأمر بإحضاره من وقته مكرما، وإجلاسه فِي مرتبته، فَصَارَ إِلَيْهِ مُحَمَّد، فبشره، وَأمره بالركوب، فَركب. فَلَمَّا دخل على الْمَأْمُون؛ قبل الْبسَاط، وَأَنْشَأَ يَقُول: الْبر بِي مِنْك وطا الْعذر عنْدك لي ... فِيمَا أتيت فَلم تعذل وَلم تلم وَقَامَ علمك بِي فاحتج عِنْدِي لي ... مقَام شَاهد عدل غير مُتَّهم

تَعْفُو بِعدْل وتسطو إِن سطوت بِهِ ... فَلَا عدمناك من عاف ومنتقم فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، يَا عَم، آمنا مطمئنا، فلست ترى مني مَا تكره، إِلَّا أَن تحدث حَدثا، وَأَرْجُو أَن لَا يكون مِنْك ذَلِك، إِن شَاءَ الله، تَعَالَى.

ما بقاء جلدة تنازعها ملكان

مَا بَقَاء جلدَة تنازعها ملكان وجدت فِي بعض الْكتب: أَن كسْرَى أبرويز، ركب يَوْمًا فرسه الشبديز، فَتَلَكَّأَ عَلَيْهِ، فجذب عنانه، فَانْقَطع. فَاسْتَحْضر صَاحب السُّرُوج، وَقَالَ: يكون عنان مثلي ضَعِيفا يَنْقَطِع؟ اضربوا عُنُقه. فَقَالَ: أَيهَا الْملك، اسْمَع، وانصف. قَالَ: قل. قَالَ: مَا بَقَاء جلدَة يتنازعها ملكان، ملك النَّاس، وَملك الدَّوَابّ. فَقَالَ كسْرَى: زه، زه، أطْلقُوا عَنهُ، وَأَعْطوهُ اثنى عشر ألف دِرْهَم.

أنظر كيف كانت عاقبة الظالمين

أنظر كَيفَ كَانَت عَاقِبَة الظَّالِمين وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كِتَابه (الوزراء) ، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، قَالَ: أَمرنِي عمر بن عبد الْعَزِيز بِإِخْرَاج قوم من السجْن، فأخرجتهم، وَتركت يزِيد بن أبي مُسلم كَاتب الْحجَّاج، فحقد عَليّ، وَنذر دمي. فَإِنِّي بإفريقية، إِذْ قيل: قدم يزِيد بن أبي مُسلم كَاتب الْحجَّاج، صارفا لمُحَمد بن يزِيد، مولى الْأَنْصَار، من قبل يزِيد بن عبد الْملك، وَكَانَ ذَلِك بعد وَفَاة عمر بن عبد الْعَزِيز، فهربت مِنْهُ، وَعلم بمكاني، فطلبني، فظفر بِي. فَلَمَّا دخلت إِلَيْهِ؛ قَالَ: لطالما سَأَلت الله أَن يمكنني مِنْك. فَقلت: وَأَنا، وَالله، لطالما سَأَلت الله، عز وَجل، أَن يعيذني مِنْك. فَقَالَ يزِيد: مَا أَعَاذَك الله مني، وَالله لأَقْتُلَنك، وَلَو سابقني ملك الْمَوْت إِلَى قبض روحك؛ لسبقته. ثمَّ دَعَا بِالسَّيْفِ والنطع، فَأتي بهما، وَأمر بِي، فأقمت فِي النطع، وكتفت، وَشد رَأْسِي، وَقَامَ ورائي رجل بِسيف منتضى، يُرِيد أَن يضْرب عنقِي، وأقيمت الصَّلَاة. فَقَالَ: أمهلوه، حَتَّى أُصَلِّي، وَخرج إِلَى الصَّلَاة.

فَلَمَّا سجد؛ أَخَذته السيوف، فَقتل، وَدخل إِلَيّ من حل كتافي ورأسي، وخلى سبيلي، فَانْصَرَفت سالما.

أمر الرشيد بأسيرين فقطعا عضوا عضوا ثم مات

أَمر الرشيد بأسيرين فقطعا عضوا عضوا ثمَّ مَاتَ وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كِتَابه (الوزراء) ، قَالَ: لما سَار الرشيد إِلَى طوس، واشتدت علته؛ اتَّصل خَبره بالأمين، فَوجه ببكر بن الْمُعْتَمِر، وَدفع إِلَيْهِ كتبا إِلَى الْفضل بن الرّبيع، وَإِسْمَاعِيل بن صبيح، وَغَيرهمَا، يَأْمُرهُم بالقفول إِلَى بَغْدَاد، إِن حدثت الْحَادِثَة بالرشيد، وَالِاحْتِيَاط على مَا فِي الخزائن، وَحمله. وَقد كَانَ الرشيد جدد الشَّهَادَة لِلْمَأْمُونِ بِجَمِيعِ مَا فِي عسكره، من مَال،

وأثاث، وخرثي، وكراع، وَغير ذَلِك. فَلَمَّا ورد بكر بن الْمُعْتَمِر على الرشيد؛ أوصل كتبا ظَاهِرَة كَانَت مَعَه، بعيادة الرشيد. وَكَانَت الْكتب الْبَاطِنَة، قد اتَّصل خَبَرهَا بالرشيد، فأحضر بكرا، وطالبه بالكتب الْبَاطِنَة، فجحدها. قَالَ: فَذكر عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: كنت مَعَ الرشيد بطوس، لما ثقل فِي علته، وَقد ورد بكر بن الْمُعْتَمِر، والمأمون حِينَئِذٍ بمرو، وَقد ظفر الرشيد بأخي رَافع بن اللَّيْث، فأحضر فِي ذَلِك الْيَوْم، وَمَعَهُ قرَابَة لَهُ. فَخلع الرشيد على بكر، وَصَرفه إِلَى منزله، ثمَّ أَمر بإحضاره، ومطالبته بالكتب الْبَاطِنَة، فجحدها، فَأمر بحبسه. ثمَّ جلس الرشيد جُلُوسًا عَاما، فِي مضرب خَز أسود، استدارته أَربع مائَة ذِرَاع، فِي أَرْكَانه أَربع قباب، مغشاة بخز أسود، وَهُوَ جَالس فِي فازة خَز أسود، فِي وسط المضرب، والعمد كلهَا سود، وَقد جعل مَكَان الْحَدِيد فضَّة، والأوتاد

والحبال كلهَا سود، وَعَلِيهِ جُبَّة خَز سَوْدَاء، وتحتها فَرْوَة فنك، قد استشعره؛ لما هُوَ فِيهِ من شدَّة الْبرد وَالْعلَّة، وفوقها دراعة خَز أسود، مبطنة بفنك، وقلنسوة طَوِيلَة، وعمامة خَز سَوْدَاء، وَهُوَ عليل لما بِهِ، وَخلف الرشيد خَادِم يمسِكهُ؛ لِئَلَّا يمِيل بِبدنِهِ، وَالْفضل بن الرّبيع جَالس بَين يَدَيْهِ. فَقَالَ للفضل: مر بكرا بإحضار مَا مَعَه من الْكتب السّريَّة. فأنكرها، وَقَالَ: مَا كَانَ معي إِلَّا الْكتب الَّتِي أوصلتها. فَقَالَ للفضل: توعده، وأعلمه أَنه إِن لم يمتثل؛ قتلته، فَأَقَامَ بكر على الْإِنْكَار. فَقَالَ الرشيد، بِصَوْت خَفِي: قنبوه، فجيء ببكر، وَجِيء بالقنب، وقنب من فرقه إِلَى قدمه. قَالَ بكر: فأيقنت بِالْقَتْلِ، ويئست من نَفسِي، وَعلمت على الْإِقْرَار. فَأَنا على ذَلِك، وَإِذا قد أحضر هَارُون أَخا رَافع، وقرابته الَّذِي كَانَ مَعَه.

فَقَالَ الرشيد: أيتوهم رَافع أَنه يفلت مني، وَالله، لَو كَانَ مَعَه عدد نُجُوم السَّمَاء؛ لالتقطتهم وَاحِدًا بعد وَاحِد، حَتَّى أقتلهم عَن آخِرهم. فَقَالَ الرجل: اللهَ، اللهَ، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فيّ، فَإِن الله، تَعَالَى، يعلم، وَأهل خُرَاسَان، أَنِّي بَرِيء من أخي مُنْذُ عشْرين سنة، ملازم منزلي ومسجدي، فَاتق الله فيّ، وَفِي هَذَا الرجل. فَقَالَ لَهُ قرَابَته: قطع الله لسَانك، أَنا، وَالله، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أَدْعُو الله بِالشَّهَادَةِ، فَلَمَّا رزقتها على يَدي شَرّ خلقه؛ أخذتَ فِي الِاعْتِذَار. قَالَ: فاغتاظ الرشيد، وَقَالَ: عَليّ بجزارين. فَقَالَ لَهُ قرَابَة رَافع: افْعَل مَا شِئْت، فَإنَّا نرجو من الله، تَعَالَى، أَن يرزقنا الشَّهَادَة، ونقف نَحن وَأَنت، بَين يَدي الله، عز وَجل، فِي أقرب مُدَّة، فتعلم كَيفَ يكون حالك. فنحيا، وَأمر بهما، فقطعا عضوا، عضوا، فوَاللَّه، مَا فرغ مِنْهُمَا، حَتَّى توفّي الرشيد. قَالَ بكر: وَأَنا أتوقع الْقَتْل بعدهمَا، حَتَّى أَتَانِي غُلَام لأبي الْعَتَاهِيَة، قد بعث بِهِ مَوْلَاهُ، وَكتب فِي رَاحَته شَيْئا أرانيه، فَإِذا هَذِه الأبيات: هِيَ الْأَيَّام والغير ... وَأمر الله منتظر أتيئس أَن ترى فرجا ... فَأَيْنَ الله وَالْقدر؟

قَالَ: فوثقت بِاللَّه، وقويت نَفسِي، ثمَّ سَمِعت وَاعِيَة لَا أفهم مَعْنَاهَا، وَإِذا الْفضل بن الرّبيع قد أقبل إِلَيّ. فَقَالَ: خلوا أَبَا حَامِد. فَقلت: لَيْسَ هَذَا وَقت تكنيتي، فحللت، ودعا لي بخلع، فخلعت عَليّ. ثمَّ قَالَ: أعظم الله أجرك فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأخذ بيَدي، وأدخلني بَيْتا، فَإِذا الرشيد مسجى فِيهِ، فَكشفت عَن وَجهه، فَلَمَّا رَأَيْته مَيتا؛ سكنت. فَقَالَ: هيه، هَات الْكتب الْبَاطِنَة الَّتِي مَعَك. قَالَ: فأحضرت صندوقا للمطبخ قد نقبت قوائمه، وَجعلت الْكتب فِيهَا، وَجعلت الْجلد فَوْقهَا، فَأمرت بشق الْجلد، وَكسر القوائم، وسلمت الْكتب إِلَى أَصْحَابهَا، وَأخذت الْأَجْوِبَة، وانصرفت. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقد أَتَى أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي فِي كِتَابه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، لأبي الْعَتَاهِيَة، من غير أَن يذكر الْقِصَّة، وَزَاد بَين الْبَيْت الأول وَالْبَيْت الثَّانِي بَيْتا، وَهُوَ: فَلَا تجزع وَإِن عظم ... الْبلَاء ومسّك الضَّرَر وَذكر أَبُو بكر الصولي هَذَا الْخَبَر، فِي كِتَابه الْمُسَمّى بـ: كتاب (الأوراق) ، الدَّاخِل فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته، بعد مَا سمعته مِنْهُ، فَقَالَ: حَدثنِي عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، قَالَ: حَدثنِي بعض أَصْحَابنَا، عَن بكر بن الْمُعْتَمِر، وَذكر نَحْو ذَلِك، إِلَّا شعر أبي الْعَتَاهِيَة، فَإِنَّهُ مَا ذكره، وَقَالَ: إِن مضرب الرشيد أسود كُله، لَهُ شرف، كَأَنَّهُ جبل أسود، وَلم يقل أَن الرشيد فِي قبَّة خَز، قَالَ: والرشيد فِي فازة خَز سَوْدَاء، وعَلى سَرِيره دست خَز أسود، وَعَلِيهِ جُبَّة

سَوْدَاء، تحتهَا فنك، وَقد لبسهَا بِلَا قَمِيص، وَهُوَ مُسْتَند إِلَى مُسْند الدست. قَالَ: فَخرج إِلَيّ الْفضل، فحلني، وَسلم عَليّ، وَكَانَ لي صديقا. وَقَالَ لي: أَيْن كتبك على الْحَقِيقَة؟ فَقلت: مَا معي كتب. فَقَالَ: إِنَّه قد مَاتَ، وَكَأَنَّهُ رَآنِي لم أصدق ذَلِك، فَأخذ بيَدي، حَتَّى وقفني عَلَيْهِ، وَهُوَ ميت. فَقلت: مَا أعجب هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّه تحامل لَك وللرجلين، فَجَلَسَ وَهُوَ لَا يُطيق، وَقد خرق فِي السرير خرق ينجو مِنْهُ، وَتَحْت فرَاشه الْأسود جاورس، والخدم قعُود خلف السرير، يسندون أَطْرَاف جنبه، وَلَوْلَا مكانهم مَا ثَبت جَالِسا، فَلَمَّا كلم الرجلَيْن، وَرفع صَوته وحرد؛ غشي عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ ذبالة أَضَاءَت، ثمَّ طفئت.

من سقوط الخاتم من اليد إلى عودته إليها سبعون فرجا

من سُقُوط الْخَاتم من الْيَد إِلَى عودته إِلَيْهَا سَبْعُونَ فرجا حَدثنِي عَليّ بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الخطمي، قَالَ: كنت أصحب مُحَمَّد بن ينَال الترجمان، وَكَانَ بجكم بواسط، وَمضى يُريدهُ، فانحدر بِي مَعَه إِلَى وَاسِط، لما انحدر بجكم إِلَيْهَا. فاستخلف بجكم الترجمان بواسط، وَمضى يُرِيد قتال البريديين. فَلَمَّا صَار بنهر جور؛ كتب إِلَى الترجمان: إِنَّه قد صَحَّ عِنْدِي، أَن رجلا من التُّجَّار المقيمين فِي معسكرنا بواسط، يُقَال لَهُ: أَبُو أَحْمد بن غيلَان الخزاز السُّوسِي، يُكَاتب البريديين بخبرنا، وَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَقَتله. فَقَبضهُ الترجمان، وَقَيده وحبسه، وعرفه مَا ورد فِي كتاب بجكم. وَكَانَ للتاجر حُرْمَة مَعَ ابْن ينَال وكيدة، فورد عَلَيْهِ غم شَدِيد من أَن يقتل رجلا لَهُ، بِهِ عناية وَحُرْمَة. فَقَالَ لَهُ: أَنا أعرض نَفسِي لبجكم، وأؤخر قَتلك، وأكاتبه أسأله أَن يقْتَصر على أَخذ مَالك، وَيَعْفُو عَن دمك، فَلَعَلَّهُ أَن يفعل.

قَالَ: وَدخلت على الرجل فِي حَبسه، وَأخذت أطيب قلبه، وأعرفه أَن الْكتاب قد بعثته إِلَى بجكم فِي أمره. فَأخْرج خَاتمًا كَانَ فِي يَده، وَقَالَ: يَا أَبَا الْحسن، من سُقُوط هَذَا الْخَاتم من يَدي، إِلَى عودته إِلَيْهَا، سَبْعُونَ فرجا. فَمَا انْقَضى الْيَوْم، حَتَّى ورد الْخَبَر بقتل بجكم، وَأَفْرج الترجمان عَن الرجل، وتخلص سالما، وعاش بعد ذَلِك ثَلَاث سِنِين، وَأكْثر.

هاجه الحسد وقتله الطمع

هاجه الْحَسَد وَقَتله الطمع حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن سعيد بن عَليّ زَوْبَعَة النصيبي الْمُتَكَلّم، قَالَ: قَالَ جمَاعَة من أهل نَصِيبين، إِنَّه كَانَ بهَا أَخَوان، ورثا عَن أَبِيهِمَا مَالا عَظِيما جَلِيلًا، فاقتسماه، فأسرع أَحدهمَا فِي حِصَّته حَتَّى لم يبْق مَعَه شَيْء، وَاحْتَاجَ إِلَى مَا فِي أَيدي النَّاس، وثمر الآخر حِصَّته، فزادت. وَعرض لَهُ سفر فِي تِجَارَته، فَجَاءَهُ أَخُوهُ الْفَقِير، وَقَالَ: يَا أخي، إِنَّك تحْتَاج إِلَى أَن تستأجر غُلَاما فِي سفرك، وَأَنا أحتاج إِلَى أَن أخدم النَّاس، فَاجْعَلْنِي بدل غُلَام تستأجره، فَيكون ذَلِك أصون لي وَلَك. فَلم يشك الْأَخ أَن أَخَاهُ قد تأدب، وَأَن هَذَا أول إقباله، وآثر أَن يصون

أَخَاهُ، ورق عَلَيْهِ، فَأَخذه مَعَه. وَكَانَ للْأَخ الْغَنِيّ حمَار فاره يركبه، وَقد اسْتَأْجر بغالا لأحماله، فأركب أَخَاهُ أَحدهَا، وَركب هُوَ أَحدهَا، وأركب المكاري الْحمار، وَسَارُوا. فَلَمَّا اسْتمرّ بهم السّفر؛ حصلوا فِي جبل فِي الطَّرِيق، وَفِيه كَهْف فِيهِ عين مَاء، فَقَالَ الْأَخ الْفَقِير للْأَخ الْغَنِيّ: لَو نزلنَا هَهُنَا، وَأَرِحْنَا دوابنا، وسقيناها من هَذَا المَاء، وأكلنا، ثمَّ ركبنَا؛ لَكَانَ أروح لنا. فَقَالَ: افْعَل. فَنزل التَّاجِر على بَاب الْكَهْف الَّذِي فِي الْجَبَل، وَأدْخل مَتَاعه إِلَيْهِ، وَبسط السفرة، وَأخذ أَخُوهُ الْفَقِير، والمكاري الدَّوَابّ، ومضيا ليسقياها. وانتظر التَّاجِر أَخَاهُ، فاحتبس طَويلا، ثمَّ جَاءَ وَحده، وَشد الدَّوَابّ. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: يَا أخي، مَا قعادك، وَأَنا أنتظرك تَأْكُل معي؟ فَقَالَ: حَتَّى سقيت الدَّوَابّ. فَقَالَ: وَأَيْنَ المكاري؟ فَقَالَ: قد نَام فِي الْجَبَل. فَقَالَ: تعال، حَتَّى نَأْكُل. فَتَركه وَمضى، ثمَّ عَاد، وَبِيَدِهِ حِجَارَة يَرْمِي بهَا أَخُوهُ، وَيَقُول لَهُ: أستكتف، يَابْنَ الفاعلة. فَقَالَ لَهُ: وَيحك، مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: أُرِيد قَتلك، يَابْنَ الفاعلة، أخذت مَال أبي، فَجَعَلته تِجَارَة لَك، وجعلتني غلامك. قَالَ: ورفسه، وألقاه على ظَهره، ثمَّ أوثقه كتافا، وأثخنه ضربا بِالْحِجَارَةِ وشجاجا، وَصَاح الرجل، فَلم يجبهُ أحد.

وبرك أَخُوهُ الْفَقِير على صَدره، وَكَانَ فِي وَسطه سكين عَظِيمَة، فِي قرَاب لَهَا، فرام استخراجها من القراب ليذبحه بهَا، فتعسرت عَلَيْهِ، فَقَامَ عَن صدر أَخِيه، وأعلا يَده الْيُسْرَى، وفيهَا السكين فِي قرابها، وجذبها بِيَدِهِ الْيَمين، وَقد صَار القراب مَعَ حلقه، فَخرجت السكين بحمية الجذبة، فذبحته، فَوَقع يخور فِي دَمه، ونزف إِلَى أَن مَاتَ، وجفت يَده على السكين بعد مَوته، وَهِي فِيهَا. وَحصل على تِلْكَ الصُّورَة، وَأَخُوهُ الْغَنِيّ مشدود، لَا يقدر على الْحَرَكَة، والسفرة منشورة، وَالطَّعَام عَلَيْهَا، وَالدَّوَاب مشدودة. فَأَقَامَ على تِلْكَ الصُّورَة بَقِيَّة يَوْمه، وَلَيْلَته، وَقطعَة من غده. فاجتازت قافلة على المحجة، وَكَانَ بَينهَا وَبَين الْكَهْف بعد، فأحست البغال بالدواب المجتازة، فصهلت، ونهق الْحمار، وجذب الرسن، وجذبت البغال أرسانها، فأفلتت، وَغَارَتْ تطلب الدَّوَابّ. فَلَمَّا رأى أهل الْقَافِلَة دوابا غائرة؛ ظنُّوا أَنَّهَا لقوم قد أسرهم اللُّصُوص، وَكَانُوا فِي مَنْعَة، فتسارعوا إِلَى البغال. فَلَمَّا قصدوها؛ رجعت تطلب موضعهَا. وتبعها قوم من أهل الْقَافِلَة، حَتَّى انْتَهوا إِلَى التَّاجِر، وشاهدوه مكتوفا، والسفرة منشورة، وَالْأَخ مذبوحا، وَبِيَدِهِ السكين، فشاهدوا عجبا. واستنطقوا الرجل، فَأَوْمأ إِلَيْهِم أَن لَا قدرَة لَهُ على الْكَلَام، فحلوا كِتَافِهِ، وسقوه مَاء، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ إِلَى أَن أَفَاق، وَقدر على الْكَلَام، فَأخْبرهُم الْخَبَر. فطلبوا المكاري، فوجدوه غريقا فِي المَاء، قد غرقه الْأَخ الْفَقِير. فحملوا أثقال التَّاجِر على بغاله، وأركبوه على حِمَاره، وسيروه مَعَهم إِلَى الْمنزل الآخر.

البغي مرتعه وخيم

الْبَغي مرتعه وخيم وحَدثني إِبْرَاهِيم بن عَليّ النصيبي، هَذَا، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم إِبْرَاهِيم بن عَليّ الصفار، شيخ كَانَ جارا لنا بنصيبين، قَالَ: خرجت من نَصِيبين بِسيف نَفِيس، كنت ورثته من أبي، أقصد بِهِ الْعَبَّاس بن عَمْرو السّلمِيّ، أَمِير ديار ربيعَة، وَهُوَ بِرَأْس عين، لأهديه إِلَيْهِ، وأستجديه بذلك. فصحبني فِي الطَّرِيق شيخ من الْأَعْرَاب، فَسَأَلَنِي عَن أَمْرِي، فأنست بِهِ، وحدثته الحَدِيث، وَكُنَّا قربنا من رَأس عين، ودخلناها، وافترقنا. وَصَارَ يجيئني ويراعيني، وَيظْهر لي أَنه يسلم عَليّ، وَأَنه يبرني بِالْقَصْدِ، ويسألني عَن حَالي. فَأَخْبَرته أَن الْأَمِير قبل هديتي، وأجازني بِأَلف دِرْهَم وَثيَاب، وَأَنِّي أُرِيد الْخُرُوج فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم؛ خرجت عَن الْبَلَد، رَاكِبًا حمارا، فَلَمَّا أصحرت؛ إِذا بالشيخ على دويبة لَهُ ضَعِيفَة، مُتَقَلِّدًا سَيْفا. فَلَمَّا رَأَيْته استربت بِهِ، وأنكرته، وَرَأَيْت الشَّرّ فِي عَيْنَيْهِ. فَقلت: مَا تصنع هَهُنَا؟

فَقَالَ: قد قضيت حوائجي، وَأُرِيد الرُّجُوع، وصحبتك عِنْدِي آثر من صُحْبَة غَيْرك. فَقلت: على اسْم الله. وَمَا زلت متحرزا مِنْهُ، وَهُوَ يجْتَهد أَن أدنو مِنْهُ وأوانسه، فَلَا أفعل، وَكلما دنا مني؛ بَعدت عَنهُ، إِلَى أَن سرنا شَيْئا كثيرا، وَلَيْسَ مَعنا ثَالِث. فقصر عني، فحثثت الْحمار؛ لأفوته، فَمَا أحسست إِلَّا بركضه، فَالْتَفت، فَإِذا هُوَ قد جرد سَيْفه، وقصدني، فرميت بنفسي عَن الْحمار، وعدوت. فَلَمَّا خَافَ أَن أفوته؛ صَاح: يَا أَبَا الْقَاسِم، إِنَّمَا مزحت مَعَك، فقف، فَلم ألتفت إِلَيْهِ، وَزَاد فِي التحريك. وَظهر لي ناووس فطلبته، وَقد كَاد الْأَعرَابِي يلْحق بِي، فَدخلت الناووس، ووقفت وَرَاء بَابه. قَالَ: وَمن صِفَات تِلْكَ النواويس أَنَّهَا مَبْنِيَّة بِالْحِجَارَةِ، وَبَاب كل ناووس حجر وَاحِد عَظِيم، قد نقر، وحفف، وملس، فَلَا تستمكن الْيَد مِنْهُ، وَله فِي وَجهه حَلقَة، وَلَيْسَ للباب من دَاخل شَيْء تتَعَلَّق الْيَد بِهِ، وَإِنَّمَا يدْفع من خَارجه، فَيفتح، فَيدْخل إِلَيْهِ، وَإِذا خرج مِنْهُ، وجذبت الْحلقَة، انغلق الْبَاب، وَتمكن هَذَا من وَرَائه، فَلم يُمكن فَتحه من دَاخل أصلا. قَالَ: فحين دخلت الناووس؛ وقفت خلف بَابه، وَجَاء الْأَعرَابِي، فَشد الدَّابَّة فِي حَلقَة الْبَاب، وَدخل يُرِيدنِي، مخترطا سَيْفه، والناووس مظلم، فَلم يرني، وَمَشى إِلَى صدر الناووس، فَخرجت أَنا من خلف الْبَاب، وجذبته، ونفرت الدَّابَّة، فجذبته معي، حَتَّى صَار الْبَاب مردوما ومحكما

وحصّلْتُ الْحلقَة فِي رزة هُنَاكَ، وحللت الدَّابَّة، وركبتها. فجَاء الْأَعرَابِي، إِلَى بَاب الناووس، فَرَأى الْمَوْت عيَانًا، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِم، اتَّقِ الله فِي أَمْرِي، فإنني أتلف. فَقلت: تتْلف أَنْت أَهْون عَليّ من أَن أتلف أَنا. قَالَ: فَأَخْرجنِي، وَأَنا أُعْطِيك أَمَانًا، واستوثق مني بالأيمان، أَن لَا أعرض لَك بِسوء أبدا، وَاذْكُر الْحُرْمَة الَّتِي بَيْننَا. فَقلت: لم ترعها أَنْت، وأيمانك فاجرة، لَا أَثِق بهَا فِي تلف نَفسِي. فَأخذ يُكَرر الْكَلَام، فَقلت لَهُ: لَا تهذ، دع عَنْك هَذَا الْكَلَام، واقعد مَكَانك، هوذا، أَنا رَاكب دابتك، وأجنب حماري، والوعد بعد أَيَّام بَيْننَا هُنَا، فَلَا تَبْرَح عَليّ حَتَّى أجيء، وَإِذا احتجت إِلَى طَعَام، فَعَلَيْك بجيف العلوج، فَنعم الطَّعَام لَك. وَأخذت ألهو بِهِ فِي مثل هَذَا القَوْل، وَأخذ يبكي ويستغيث، وَيَقُول: قتلتني، وَالله. فَقلت: إِلَى لعنة الله، وَركبت دَابَّته، وجنبت حماري. وَوجدت على دَابَّته خرجا فِيهِ ثِيَاب يسيرَة، وَجئْت إِلَى نَصِيبين، فَبِعْت الثِّيَاب، وَكَانَت دَابَّته شهباء، فصبغتها دهماء وبعتها؛ لِئَلَّا يعرف صَاحبهَا فأطالب بِالرجلِ، وَاتفقَ أَنه اشْتَرَاهَا رجل من المجتازين، وكفيت أمره، وانكتمت الْقِصَّة. فَلَمَّا كَانَ بعد أَكثر من سنة؛ عرض لي الْخُرُوج إِلَى رَأس عين، فَخرجت فِي

تِلْكَ الطَّرِيق، فَلَمَّا لَاحَ لي الناووس؛ ذكرت الشَّيْخ. فَقلت: أعدل إِلَى الناووس، وَأنْظر مَا صَار إِلَيْهِ أمره، فَجئْت إِلَيْهِ، فَإِذا بَابه كَمَا تركته. ففتحته، وَدخلت، فَإِذا بالأعرابي قد صَار رمة، فحمدت الله، تَعَالَى، على السَّلامَة. ثمَّ حركته برجلي، وَقلت لَهُ على سَبِيل الْعَبَث: مَا خبرك، يَا فلَان؟ فَإِذا بِصَوْت شَيْء يتخشخش، ففتشته، فَإِذا هميان، فَأَخَذته، وَأخذت سَيْفه، وَخرجت، وَفتحت الْهِمْيَان، فَإِذا فِيهِ خمس مائَة دِرْهَم، وبعت السَّيْف بعد ذَلِك بجملة دَرَاهِم.

أبو المغيرة الشاعر يروي خبرا ملفقا

أَبُو الْمُغيرَة الشَّاعِر يروي خَبرا مُلَفقًا حَدثنِي أَبُو الْمُغيرَة مُحَمَّد بن يَعْقُوب بن يُوسُف الشَّاعِر الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو مُوسَى عِيسَى بن عبد الله الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنِي صديق لي، قَالَ: كنت قَاصِدا الرملة وحدي، وَمَا كنت دَخَلتهَا قطّ. فانتهيت إِلَيْهَا وَقد نَام النَّاس، وَدخل اللَّيْل، فعدلت إِلَى الْجَبانَة، وَدخلت بعض القباب الَّتِي على الْقُبُور، فطرحت درقة، كَانَت معي، واتكأت عَلَيْهَا، وعانقت سَيفي، واضطجعت أُرِيد النّوم؛ لأدخل الْبَلَد نَهَارا. قَالَ: فاستوحشت من الْموضع وأرقت، فَلَمَّا طَال أرقي؛ أحسست بحركة. فَقلت: لصوص يجتازون، وَمَتى تصديت لَهُم؛ لم آمنهم، ولعلهم أَن يَكُونُوا جمَاعَة، فانخزلت بمكاني، وَلم أتحرك. وأخرجت رَأْسِي من بعض أَبْوَاب الْقبَّة، على تخوف شَدِيد مني، فَرَأَيْت دَابَّة كالذئب تمشي، فَإِذا بِهِ قد قصد قبَّة بحيالي، وَمَا زَالَ يتلفت طَويلا،

ويدور حواليها، ثمَّ دَخلهَا. فارتبت بِهِ، وَأنْكرت أمره، وتطلعت نَفسِي إِلَى علم مَا هُوَ فِيهِ. فَدخل الْقبَّة، وَخرج غير مطيل، ثمَّ جعل يتبصر، ثمَّ دخل وَخرج بِسُرْعَة، ثمَّ دخل وعيني إِلَيْهِ، فَضرب بِيَدِهِ إِلَى قبر فِي الْقبَّة، يبعثره. فَقلت: نباش لَا شكّ فِيهِ، وتأملته يحْفر بِيَدِهِ، فَعلمت أَن فِيهَا آلَة حَدِيد يحْفر بهَا. فتركته إِلَى أَن اطْمَأَن وَأطَال، وحفر شَيْئا كثيرا، ثمَّ أخذت سَيفي ودرقتي، ومشيت على أَطْرَاف أناملي، حَتَّى دخلت الْقبَّة، فأحس بِي، فَقَامَ إِلَيّ بقامة إِنْسَان، وَأَوْمَأَ إِلَيّ ليلطمني بكفه، فَضربت يَده بِالسَّيْفِ، فأبنتها وطارت. فَقَالَ: أوه، قتلتني، لعنك الله. وَعدا من بَين يَدي، وعدوت خَلفه، وَكَانَت لَيْلَة مُقْمِرَة، حَتَّى دخل الْبَلَد، وَأَنا وَرَاءه، وَلست ألحقهُ، إِلَّا أَنه بِحَيْثُ يَقع بَصرِي عَلَيْهِ. إِلَى أَن اجتاز بِي طرقا كَثِيرَة، وَأَنا فِي خلال ذَلِك أعلم الطَّرِيق لِئَلَّا أضلّ، حَتَّى جَاءَ إِلَى بَاب، فَدفعهُ وَدخل وأغلقه، وَأَنا أسمع. فعلّمت الْبَاب، وَرجعت أقفو الْأَثر والعلامات الَّتِي علمتها فِي طريقي، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الْقبَّة الَّتِي كَانَ فِيهَا النباش. وطلبتا الْكَفّ فَوَجَدتهَا، فأخرجتها إِلَى الْقَمَر، فَبعد جهد انتزعت الْكَفّ المقطوعة من الْآلَة الْحَدِيد، وَإِذا هِيَ كف كَالْكَفِّ، وَقد أَدخل أَصَابِعه فِي الْأَصَابِع، وَإِذا هِيَ كف فِيهَا نقش حناء، وخاتمان من الذَّهَب، فَعلمت أَنَّهَا امْرَأَة.

فحين علمت أَنَّهَا امْرَأَة؛ اغتممت، وتأملت الْكَفّ، فَإِذا هِيَ أحسن كف فِي الدُّنْيَا؛ نعومة، ورطوبة، وَسمنًا، وملاحة. فمسحت الدَّم عَنْهَا، ونمت فِي الْقبَّة الَّتِي كنت فِيهَا، وَدخلت الْبَلَد من الْغَد، أطلب العلامات الَّتِي علمتها، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الْبَاب. فَسَأَلت: لمن الدَّار؟ فَقَالُوا: لقَاضِي الْبَلَد. وَاجْتمعَ عَلَيْهَا خلق كثير، وَخرج مِنْهَا شيخ بهي، فصلى الْغَدَاة بِالنَّاسِ، وَجلسَ فِي الْمِحْرَاب، فازداد عجبي من الْأَمر. فَقلت لبَعض الْحَاضِرين: بِمن يعرف هَذَا القَاضِي؟ فَقَالَ: بفلان. وأطلت الْجُلُوس والْحَدِيث فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى عرفت أَن لَهُ ابْنة عاتقا، وَزَوْجَة، فَلم أَشك فِي أَن النباشة ابْنَته. فتقدمت إِلَيْهِ، وَقلت: بيني وَبَين القَاضِي، أعزه الله، حَدِيث لَا يصلح إِلَّا على خلْوَة. فَقَامَ إِلَى دَاخل الْمَسْجِد، وخلا بِي، وَقَالَ: قل. فأخرجت الْكَفّ، وَقلت: أتعرف هَذِه؟ فتأملها طَويلا، وَقَالَ: أما الْكَفّ فَلَا، وَأما الخاتمان، فَمن خَوَاتِيم ابْنة لي عاتق، فَمَا الْخَبَر؟ فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة بأسرها، فَقَالَ: قُم معي. فَأَدْخلنِي إِلَى دَاره، وأغلق الْبَاب، واستدعى طبقًا وَطَعَامًا، فأحضر.

واستدعى امْرَأَته، فَقَالَ لَهَا الْخَادِم: اخْرُجِي. فَقَالَت: قل لَهُ: كَيفَ أخرج ومعك رجل غَرِيب، فَخرج الْخَادِم، وأعلمه بِمَا قَالَت. فَقَالَ: لَا بُد من خُرُوجهَا تَأْكُل مَعنا، فَهُنَا من لَا أحتشمه. فتأبت عَلَيْهِ، فَحلف بِالطَّلَاق لتخْرجن لَهُ، فَخرجت باكية، وَجَلَست مَعنا. فَقَالَ لَهَا: أَخْرِجِي ابْنَتك. فَقَالَت: يَا هَذَا، أوقد جننت؟ مَا الَّذِي حل بك، قد فضحتني وَأَنا امْرَأَة كَبِيرَة، فَكيف تهتك صبية عاتقا؟ فَحلف بِالطَّلَاق لتخرجنها، فَخرجت. فَقَالَ: كلي مَعنا، فَرَأَيْت صبية كالدينار، مَا نظرت مقلتاي أحسن مِنْهَا، إِلَّا أَن لَوْنهَا قد اصفر جدا، وَهِي مَرِيضَة. فَعلمت أَن ذَلِك لنزف الدَّم من يَدهَا، فَأَقْبَلت تَأْكُل بشمالها، ويمينها مخبوءة. فَقَالَ لَهَا أَبوهَا: أَخْرِجِي يدك الْيُمْنَى. فَقَالَت أمهَا: قد خرج بهَا خراج، هِيَ مشدودة، فَحلف لتخرجنها. فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: يَا رجل، اسْتُرْ على نَفسك وابنتك، فوَاللَّه، وَحلفت لَهُ بأيمان كَثِيرَة، مَا اطَّلَعت لهَذِهِ الصبية على سوء قطّ إِلَّا البارحة، فَإِنَّهَا جَاءَتْنِي بعد نصف اللَّيْل، فأيقظتني، وَقَالَت: يَا أُمِّي، الحقيني، وَإِلَّا تلفت. فَقلت: مَا لَك؟ فَقَالَت: إِنَّه قد قطعت يَدي، وهوذا أنزف الدَّم، والساعة أَمُوت، فعالجيني، وأخرجت يَدهَا مَقْطُوعَة، فلطمت. فَقَالَت: يَا أُمَّاهُ، لَا تفضحيني ونفسك بالصياح عِنْد أبي وَالْجِيرَان، وعالجيني. فَقلت: لَا أَدْرِي بِمَ أعالجك.

فَقَالَت: اغلي زيتا، وأكوي بِهِ يَدي. فَفعلت ذَلِك، وكويتها، وشددتها، وَقلت لَهَا: الْآن خبريني مَا دهاك، فامتنعت. فَقلت: وَالله، إِن لم تحدثيني؛ لأكشفن أَمرك لأَبِيك. فَقَالَت: إِنَّه وَقع فِي نَفسِي، مُنْذُ سِنِين، أَن أنبش الْقُبُور، فتقدمت إِلَى هَذِه الْجَارِيَة، فاشترت لي جلد مَاعِز بِشعرِهِ، واستعملت لي كفا من حَدِيد. فَكنت إِذا أعتم اللَّيْل، أفتح الْبَاب، وآمرها أَن تنام فِي الدهليز، وَلَا تغلق الْبَاب، وألبس الْجلد، والكف الْحَدِيد، وأمشي على أَربع، فَلَا يشك الَّذِي يراني من فَوق سطح أَو غَيره، أنني كلب. ثمَّ أخرج إِلَى الْمقْبرَة، وَقد عرفت من النَّهَار، خبر من يَمُوت من رُؤَسَاء الْبَلَد، وَأَيْنَ دفن، فأقصد قَبره، فأنبشه، وآخذ الأكفان، وأدخلها معي فِي الْجلد، وأمشي مشيتي، وأعود وَالْبَاب غير منغلق، فَأدْخل، وأغلقه، وأنزع تِلْكَ الْآلَة، فأدفعها إِلَى الْجَارِيَة، مَعَ مَا قد أخذت من الأكفان، فتخبئه فِي بَيت لَا تعلمُونَ بِهِ. وَقد اجْتمع عِنْدِي نَحْو ثَلَاث مائَة كفن، أَو مَا يُقَارب هَذَا الْمِقْدَار، لَا أَدْرِي مَا أصنع بهَا، إِلَّا أَنِّي كنت أجد لهَذَا الْخُرُوج وَالْفِعْل لَذَّة لَا سَبَب لَهَا أَكثر من إصابتي بِهَذِهِ المحنة. فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة؛ سلط عَليّ رجل أحس بِي، كَأَنَّهُ كَانَ حارسا لذَلِك الْقَبْر، فَقُمْت لأضرب وَجهه بالكف الْحَدِيد؛ ليشتغل عني، وأعدو، فداخلني

بِالسَّيْفِ؛ ليضربني، فتوقيت الضَّرْبَة بيميني، فأبان كفي. فَقلت لَهَا: أظهري أَن قد خرج فِي كفك خراج، وتعاللي، فَإِن الَّذِي بك من الصفار، يصدق قَوْلك. فَإِذا مَضَت أَيَّام؛ قلت لأَبِيك: إِذا لم تقطع يدك، خبث جَمِيع جسدك، وَتَلفت، فَيَأْذَن فِي قطعهَا، فنظهر أَنا قد قَطعْنَاهَا، ويشيع الْخَبَر، حِينَئِذٍ، بِهَذَا، ويستتر أَمرك. فعملنا على هَذَا، بعد أَن استتبتها، فتابت، وَحلفت بِاللَّه الْعَظِيم، لَا عَادَتْ تفعل شَيْئا من ذَلِك. وَكنت قد حظر لي أَن أبيع هَذِه الْجَارِيَة إِلَى سفار، يغربها عَن هَذِه الْبَلَد الَّتِي نَحن فِيهَا، وأراعي مبيت الصبية، وأبيتها إِلَى جَانِبي، ففضحتنا ونفسك. فَقَالَ القَاضِي للصبية: مَا تَقُولِينَ؟ فَقَالَت: صدقت أُمِّي، وَوَاللَّه، لَا عدت أبدا، وَأَنا تائبة إِلَى الله، تَعَالَى. فَقَالَ لَهَا أَبوهَا: هَذَا صَاحبك الَّذِي قطع يدك، فَكَادَتْ تتْلف جزعا. ثمَّ قَالَ لي: يَا فَتى، من أَيْن أَنْت؟ قلت: من الْعرَاق. قَالَ: فَفِيمَ وَردت؟ قلت: أطلب الرزق. قَالَ: قد جَاءَك حَلَالا طيبا، نَحن قوم مياسير، وَللَّه علينا نعْمَة وَستر، فَلَا تنقص النِّعْمَة، وَلَا تهتك السّتْر، أَنا أزَوجك بِابْنَتي هَذِه، وأغنيك بِمَالي عَن النَّاس، وَتَكون مَعنا فِي دَارنَا. فَقلت: نعم. فَرفع الطَّعَام، ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد، وَالنَّاس مجتمعون ينتظرونه، فَخَطب،

وزوجني، وَقَامَ، فَرجع، وأقعدني فِي الدَّار. وَوَقعت الصبية فِي نَفسِي، حَتَّى كدت أَمُوت عشقا لَهَا، فافترعتها، وأقامت معي شهورا، وَهِي نافرة مني، وَأَنا أؤانسها، وأبكي حسرة على يَدهَا، وأعتذر إِلَيْهَا، وَهِي تظهر قبُول عُذْري، وَأَن الَّذِي بهَا غما على يَدهَا، وَهِي تزداد حنقا عَليّ. إِلَى أَن نمت لَيْلَة، واستثقلت فِي نومي، فأحسست بثقل على صَدْرِي، فانتبهت جزعا، فَإِذا زَوْجَتي باركة على صَدْرِي، وركبتاها على يَدي، مستوثقة مِنْهُمَا، وَفِي يَدهَا سكين، وَقد أهوت لتذبحني، فاضطربت. ورمت الْخَلَاص، فَتعذر، وخشيت أَن تبادرني، فَسكت، وَقلت لَهَا: كلميني، واعملي مَا شِئْت. فَقَالَت لي: قل. فَقلت: مَا يَدْعُوك إِلَى هَذَا؟ قَالَت: أظننت أَنَّك قد قطعت يَدي، وهتكتني، وَتَزَوَّجنِي مثلك، وتنجو سالما؟ وَالله لَا كَانَ هَذَا. فَقلت: أما الذّبْح، فقد فاتك؛ وَلَكِنَّك تتمكنين من جراحات توقعينها بِي، وَلَا تأمنين أَن أفلت، فأذبحك، وأهرب، أَو أكشف هَذَا عَلَيْك، ثمَّ أسلمك إِلَى السُّلْطَان، فتنكشف جنايتك الأولى وَالثَّانيَِة، ويتبرأ مِنْك أَبوك وَأهْلك، وتقتلين. فَقَالَت: افْعَل مَا شِئْت، لَا بُد من ذبحك، وَقد استوحش الْآن كل منا من صَاحبه. فَنَظَرت، فَإِذا الْخَلَاص مِنْهَا بعيد، وَلَا بُد من أَن تجرح موضعا من بدني، فَيكون فِيهِ تلفي.

فَقلت: لَيْسَ إِلَّا الْعَمَل فِي حِيلَة، فَقلت لَهَا: أوغير هَذَا؟ . قَالَت: قل. قلت: أطلقك السَّاعَة، وتفرجين عني، وَأخرج غَدا عَن الْبَلَد، فَلَا أَرَاك، وَلَا تريني أبدا، وَلَا يكْشف لَك حَدِيث فِي بلدك، وَلَا تفتضحي، وتزوجين بِمن شِئْت، فقد شاع أَن يدك قطعت بخراج خبثها، وتربحين السّتْر. قَالَت: لَا أفعل، حَتَّى تحلف لي أَنَّك لَا تقيم فِي الْبَلَد، وَلَا تفضحني أبدا، وتعجل لي الطَّلَاق. فطلقتها، وَحلفت لَهَا بالأيمان الْمُغَلَّظَة أَنِّي أخرج، وَلَا أفضحها، فَقَامَتْ عَن صَدْرِي تعدو؛ خوفًا من أَن أَقبض عَلَيْهَا، حَتَّى رمت الموسى من يَدهَا، بِحَيْثُ لَا أَدْرِي أَيْن هُوَ، وعادت. وَأخذت تظهر أَن الَّذِي فعلته بِي مزاحا، وَأخذت تلاعبني، فَقلت: إِلَيْك عني، فقد حرمت عَليّ، وَلَا تحل لي ملامستك، وَفِي غَد أخرج عَنْك. فَقَالَت: الْآن علمت صدقك، وَوَاللَّه، لَئِن لم تفعل؛ لَا نجوت من يَدي، وَقَامَت فجاءتني بصرة، وَقَالَت: هَذِه مائَة دِينَار، خُذْهَا نَفَقَة لَك، واكتب رقْعَة بطلاقي، واخرج غَدا. فَأخذت الدَّنَانِير، وَخرجت من سحرة ذَلِك الْيَوْم، بعد أَن كتبت إِلَى أَبِيهَا، أنني قد طَلقتهَا ثَلَاثًا، وأنني خرجت حَيَاء مِنْهُ. وَلم ألتق مَعَهم إِلَى الْآن.

لا جزاك الله من طارق خيرا

لَا جَزَاك الله من طَارق خيرا حَدثنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد الْكَاتِب، الْمَعْرُوف وَالِده بـ: أبي اللَّيْث الهمذاني، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن بديع الْعقيلِيّ، قَالَ: رَأَيْت فَتى من بني عقيل، فِي ظَهره كُله شَرط كَشَرط الْحجام، إِلَّا أَنَّهَا أكبر، فَسَأَلته عَن سَبَب ذَلِك. فَقَالَ: إِنِّي كنت هويت ابْنة عَم لي، وخطبتها، فَقَالُوا لي: إِنَّا لَا نُزَوِّجك إِيَّاهَا، إِلَّا بعد أَن تجْعَل الشبكة صَدَاقهَا، وَهِي فرس سَابِقَة كَانَت لبَعض بني بكر بن كلاب. فتزوجتها على ذَلِك، وَخرجت أحتال فِي أَن أسل الْفرس؛ لأتمكن من الدُّخُول بابنة عمي. قَالَ: فَأتيت الْحَيّ الَّذِي فِيهِ الْفرس، بِصُورَة مجتاز، فَمَا زلت أداخلهم، وَمرَّة أجيء إِلَى الخباء الَّذِي فِيهِ الرجل صَاحب الْفرس، كَأَنِّي سَائل، إِلَى أَن عرفت مربط الْفرس من الخباء، وَرَأَيْت لَهَا مهرَة. فاحتلت حَتَّى دخلت الْبَيْت من كَسره، وحصلت خلف النضد تَحت عهن، كَانُوا نفشوه ليغزل، فَلَمَّا جن اللَّيْل؛ وافى صَاحب الْبَيْت، وَقد صنعت لَهُ الْمَرْأَة عشَاء، فَجَلَسَا يأكلان، وَقد استحكمت الظلمَة، وَلَا

مِصْبَاح لَهُم، وَكنت ساغبا، فأخرجت يَدي، وأهويت إِلَى الْقَصعَة، وأكلت مَعَهُمَا. فأحس الرجل بيَدي، فأنكرها، وَقبض عَلَيْهَا، فقبضت على يَد الْمَرْأَة بيَدي الْأُخْرَى. فَقَالَت لَهُ الْمَرْأَة: مَا لَك ويدي؟ فَظن أَنه قَابض على يَد الْمَرْأَة، فخلى يَدي، فخليت يَد الْمَرْأَة. وأكلنا، ثمَّ أنْكرت الْمَرْأَة يَدي، وقبضت عَلَيْهَا، فقبضت على يَد الرجل، فَقَالَ لَهَا: مَا لَك ويدي؟ فخلت عَن يَدي، وخليت عَن يَده. وانقضى الطَّعَام، واستلقى الرجل، ونام، فَلَمَّا استثقل، وَأَنا مراصدهم، وَالْفرس مُقَيّد، ومفتاح قيد الْفرس تَحت رَأس الْمَرْأَة. فَوَافى عبد لَهُ أسود، فنبذ حَصَاة، فانتبهت الْمَرْأَة، وَقَامَت إِلَيْهِ، وَتركت الْمِفْتَاح فِي مَكَانَهُ، وَخرجت من الخباء إِلَى ظهر الْبَيْت ورمقتها بعيني، فَإِذا العَبْد قد علاها. فَلَمَّا حصلا فِي شَأْنهمَا؛ دببت، فَأخذت الْمِفْتَاح، وَفتحت القفل، وَكَانَ معي لجام مَصْنُوع من شعر، فأوجرته الْفرس، وركبتها، وَخرجت عَلَيْهَا من الخباء. فَقَامَتْ الْمَرْأَة من تَحت الْأسود، وَدخلت الخباء، ثمَّ صاحت، وذعر الْحَيّ، فصاحوا، وأحسوا بِي، وركبوا فِي طلبي، وَأَنا أكد الْفرس، وَخَلْفِي خلق مِنْهُم. فَأَصْبَحت، وَلست أرى إِلَّا فَارِسًا وَاحِدًا بِرُمْح، فلحقني وَقد طلعت الشَّمْس، فَأخذ يطعنني، فَلَا تصل طعنته إِلَى أَكثر مِمَّا رَأَيْت من ظَهْري، لَا فرسه تلْحق بِي فتتمكن طعنته مني، وَلَا فرسي تبعدني إِلَى حَيْثُ لَا يمسني الرمْح. حَتَّى وافيت إِلَى نهر جَار، فَصحت بالفرس، فوثبته، وَصَاح الْفَارِس

بفرسه، فَلم تثب. فَلَمَّا رَأَيْت عجزها عَن العبور، نزلت عَن فرسي لأستريح، وأريحها، فصاح بِي الرجل. فَقلت: مَا لَك؟ فَقَالَ: يَا هَذَا، أَنا صَاحب الْفرس الَّتِي تَحْتك، وَهَذِه ابْنَتهَا، فَإِذا أَخَذتهَا، فَلَا تخدعن عَنْهَا، فَإِنَّهَا تَسَاوِي عشر ديات، وَعشر ديات، وَعشر ديات، وَمَا طلبت عَلَيْهَا شَيْئا قطّ إِلَّا لحقته، وَلَا طلبني أحد، وَأَنا عَلَيْهَا، إِلَّا فته، وَإِنَّمَا سميت الشبكة؛ لِأَنَّهَا لم ترد شَيْئا قطّ إِلَّا أَدْرَكته فَكَانَت كالشبكة فِي التَّعَلُّق بِهِ. فَقلت لَهُ: أما إِذْ نصحتني، فوَاللَّه لأنصحنك، وَلَا أكذبك، إِنَّه كَانَ من أَمْرِي البارحة، كَيْت وَكَيْت، حَتَّى قصصت عَلَيْهِ قصَّة امْرَأَته، وَالْعَبْد، وحيلتي فِي الْفرس. فَأَطْرَقَ سَاعَة، ثمَّ رفع رَأسه إِلَيّ، وَقَالَ: مَا لَك، لَا جَزَاك الله من طَارق خيرا، أخذت قعدتي، وَقتلت عَبدِي، وَطلقت ابْنة عمي.

من زرع الإثم حصد الدمار

من زرع الْإِثْم حصد الدمار وحَدثني عبيد الله بن مُحَمَّد بن الحفا، قَالَ: حَدثنِي رجل من أهل الْجند، قَالَ: خرجت من بعض بلدان الشَّام، وَأَنا على دَابَّة لي، وَمَعِي خرج لي، فِيهِ ثِيَاب ودراهم. فَلَمَّا سرت عدَّة فراسخ؛ لَحِقَنِي الْمسَاء، وَإِذا بدير عَظِيم، فِيهِ رَاهِب فِي صومعة. فَنزل واستقبلني، وسألني الْمبيت عِنْده، وَأَن يضيفني، فَفعلت. فَلَمَّا دخلت الدَّيْر؛ لم أجد فِيهِ غَيره، فَأخذ دَابَّتي، وَطرح لَهَا شَعِيرًا، وعزل رحلي فِي بَيت، وَجَاءَنِي بِمَاء حَار، وَكَانَ الزَّمَان شَدِيد الْبرد، وأوقد بَين يديّ نَارا، وَجَاءَنِي بِطَعَام طيب، من أَطْعِمَة الرهبان، فَأكلت، وبنبيذ فَشَرِبت. وَمَضَت قِطْعَة من اللَّيْل، فَأَرَدْت النّوم، فَقلت: أَدخل المستراح، قبل أَن أَنَام، فَسَأَلته عَنهُ، فدلني على طَرِيقه، وَكُنَّا فِي غرفَة. فَلَمَّا صرت على بَاب المستراح، إِذا بَارِية مطروحة، فَلَمَّا صَارَت رجلاي

عَلَيْهَا نزلت، فَإِذا أَنا فِي الصَّحرَاء، وَإِذا البارية قد كَانَت مطروحة على غير تسقيف. وَكَانَ الثَّلج يسْقط فِي تِلْكَ اللَّيْلَة سقوطا عَظِيما، فَصحت، وقدرت أَن الَّذِي اسْتمرّ عَليّ من غير علمه، فَمَا كلمني. فَقُمْت وَقد تجرح بدني، إِلَّا أَنِّي سَالم، فَجئْت، واستظللت بطاق بَاب الدَّيْر من الثَّلج. فَمَا وقفت حينا حَتَّى رَأَيْت فِيهِ برابخ من فَوق رَأْسِي، وَقد جَاءَتْنِي مِنْهَا حِجَارَة، لَو تمكنت من دماغي لطحنته. فَخرجت أعدو، وَصحت بِهِ، فشتمني، فَعلمت أَن ذَلِك من حيلته؛ طَمَعا فِي رحلي. فَلَمَّا خرجت؛ وَقع الثَّلج عَليّ، فَعلمت أَنِّي تَالِف إِن دَامَ ذَلِك عَليّ، فولد لي الْفِكر أَن طلبت حجرا فِيهِ ثَلَاثُونَ رطلا وَأكْثر، فَوَضَعته على عَاتِقي تَارَة، وعَلى قفاي تَارَة، وَأَقْبَلت أعدو فِي الصَّحرَاء أشواطا، حَتَّى إِذا تعبت، وحميت وَجرى عرقي؛ طرحت الْحجر، وَجَلَست أستريح خلف الدَّيْر، من حَيْثُ يَقع لي أَن الراهب لَا يراني. فَإِذا أحسست بِأَن الْبرد قد بَدَأَ يأخذني؛ تناولت الْحجر، وسعيت من الدَّيْر، وَلم أزل على هَذَا إِلَى الْغَدَاة. فَلَمَّا كَانَ قبيل طُلُوع الشَّمْس، وَأَنا خلف الدَّيْر؛ إِذْ سَمِعت حَرَكَة بَابه، فتخفيت. فَإِذا بِالرَّاهِبِ قد خرج، وَجَاء إِلَى مَوضِع سقوطي، فَلَمَّا لم يرني دَار حول الدَّيْر يطلبني، وَيَقُول، وَأَنا أسمعهُ: ترى، مَا فعل الميشوم؟ أَظن أَنه قدر أَن

بِالْقربِ مِنْهُ قَرْيَة، فَقَامَ يمشي إِلَيْهَا، كَيفَ أعمل؟ فَاتَنِي سلبه، وَأَقْبل يمشي يطْلب أثري. قَالَ: فخالفته إِلَى بَاب الدَّيْر، وحصلت دَاخله، وَقد مَشى هُوَ من ذَلِك الْمَكَان يطلبني حول الدَّيْر، فحصلت أَنا خلف بَاب الدَّيْر، وَقد كَانَ فِي وسطي سكين، فوقفت خلف الْبَاب، فَطَافَ الراهب، وَلم يبعد. فَلَمَّا لم يقف لي على خبر؛ عَاد وَدخل، فحين بَدَأَ ليرد الْبَاب، وَخفت أَن يراني؛ ثرت عَلَيْهِ، ووجأته بالسكين، فصرعته، وذبحته. وأغلقت بَاب الدَّيْر، وصعدت إِلَى الغرفة، فاصطليت بِنَار موقودة هُنَاكَ، هُنَاكَ، ودفئت، وخلعت عني تِلْكَ الثِّيَاب، وَفتحت خرجي، فَلبِست مِنْهُ ثيابًا جافة، وَأخذت كسَاء الراهب، فَنمت فِيهِ، فَمَا أَفَقْت إِلَى قريب من الْعَصْر. ثمَّ انْتَبَهت وَأَنا سَالم، غير مُنكر شَيْئا من نَفسِي، فطفت بالدير، حَتَّى وقفت على طَعَام، فَأكلت مِنْهُ، وسكنت نَفسِي. وَوَقعت مَفَاتِيح بيُوت الْحصن فِي يَدي، فَأَقْبَلت أفتح بَيْتا بَيْتا، فَإِذا بِمَال عَظِيم من عين، وورق، وَثيَاب، وآلات، ورحال قوم، وأخراجهم. وَإِذا تِلْكَ عَادَة الراهب كَانَت مَعَ كل من يجتاز بِهِ وحيدا، ويتمكن مِنْهُ، فَلم أدر كَيفَ أعمل فِي نقل المَال، وَمَا وجدته. فَلَيْسَتْ ثِيَاب الراهب، وأقمت فِي مَوْضِعه أَيَّامًا، أتراءى لمن يجتاز بالموضع من بعيد، فَلَا يَشكونَ أنني هُوَ، وَإِذا قربوا مني لم أبرز بهم وَجْهي، إِلَى أَن خَفِي خبري. ثمَّ نزعت تِلْكَ الثِّيَاب، ولبست من بعض ثِيَابِي، وَأخذت جواليق، فملأتها

مَالا، وحملتها على الدَّابَّة، ومشيت، وسقتها إِلَى أقرب قَرْيَة، واكتريت فِيهَا منزلا، وَلم أزل أنقل إِلَيْهَا كلما وجدته، حَتَّى لم أدع شَيْئا لَهُ قدر إِلَّا حصلته فِي الْقرْيَة. ثمَّ أَقمت بهَا إِلَى أَن اتّفقت لي قافلة، فَحملت على دَوَاب اشْتَرَيْتهَا، كل مَا كنت قد حصلت فِي الْمنزل. وسرت فِي جملَة النَّاس بقافلة عَظِيمَة لنَفْسي، بغنيمة هائلة، حَتَّى قدمت بلدي، وَقد حصلت لي عشرات أُلُوف دَرَاهِم ودنانير، وسلمت من الْمَوْت.

ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره

وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن العبقسي الشَّاعِر، قَالَ: كَانَ لأبي مَمْلُوك، يُسمى: مُقبلا، فأبق مِنْهُ، وَلم يعرف لَهُ خبر سِنِين كَثِيرَة، وَمَات أبي وتغربت عَن بلدي، وَوَقعت إِلَى نَصِيبين، وَأَنا حدث حِين اتَّصَلت لحيتي، وَأَنا مجتاز يَوْمًا فِي سوق نَصِيبين، وَعلي لِبَاس فاخر، وَفِي كمي منديل فِيهِ دَرَاهِم كَثِيرَة، حَتَّى رَأَيْت غلامنا مُقبلا. فحين رَآنِي انكب على يَدي يقبلهَا، وَأظْهر سُرُورًا شَدِيدا بِي، وَأَقْبل يسألني عَن أبي وأهلنا، فأعرفه موت من مَاتَ، وَخبر من بَقِي. ثمَّ قَالَ لي: يَا سَيِّدي، مَتى دخلت إِلَى هَهُنَا، وَفِي أَي شَيْء؟ فعرفته، فَأخذ يعْتَذر من هربه منا. ثمَّ قَالَ: أَنا مستوطن هَهُنَا، وَأَنت مجتاز، فَلَو أَنْعَمت عَليّ وَجئْت فِي دَعْوَتِي، فَأَنا أحضر لَك نبيذا طيبا، وغناء حسنا. فاغتررت بِهِ، بالصبا، ومضيت مَعَه، حَتَّى بلغ بِي إِلَى آخر الْبَلَد، إِلَى دور خراب، ثمَّ انْتهى إِلَى دَار عامرة، مغلقة الْبَاب، فدق، فَفتح لَهُ، فَدخل وَدخلت. فحين حصلت فِي الدهليز؛ أغلق الْبَاب بِسُرْعَة، واستوثق مِنْهُ، فأنكرت

ذَلِك، وَدخلت الدَّار، فَإِذا بِثَلَاثِينَ رجلا بِالسِّلَاحِ، وهم جُلُوس على بَارِية، فَلم أَشك فِي أَنهم لصوص، وأيقنت بِالشَّرِّ. وبادرني أحدهم، فلطمني، وَقَالَ: انْزعْ ثِيَابك، فطرحت كل مَا كَانَ عَليّ، حَتَّى بقيت بسراويل، فحلوا الدَّرَاهِم الَّتِي كَانَت فِي منديلي، وأعطوا مُقبلا شَيْئا مِنْهَا، وَقَالُوا: امْضِ، فهات لنا بِهَذَا مَا نأكله ونشربه. فَتقدم مقبل، وَسَار وَاحِدًا مِنْهُم، فَقَالَ لَهُ مجيبا: وَأي شَيْء يفوتنا من قَتله، امْضِ فَجِئْنَا بِمَا نأكله، فَإنَّا جِيَاع. فَلَمَّا سَمِعت ذَلِك كدت أَمُوت جزعا، فَقَالَ لَهُم الْغُلَام، مظْهرا للْكَلَام: مَا أمضي، أَو تقتلوه. فَقلت لَهُم: يَا قوم، مَا ذَنبي حَتَّى أقتل، قد أَخَذْتُم مَا معي، ولستم ترثوني إِذا قتلتموني، وَلَا لي حَال عير مَا أخذتموه، فاللهَ اللهَ فيّ. ثمَّ أَقبلت أستعطف مُقبلا، وَهُوَ لَا يجيبني، وَيَقُول لَهُم: إِنَّكُم إِن لم تقتلوه، حَتَّى يفلت؛ دلّ السُّلْطَان عَلَيْكُم، فتقتلون كلكُمْ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيّ أحدهم بِسيف مسلول، وسحبني من الْموضع الَّذِي كنت فِيهِ إِلَى البالوعة؛ ليذبحني. وَكَانَ بقربي غُلَام أَمْرَد، فتعلقت بِهِ، وَقلت: يَا فَتى، ارْحَمْنِي، وأجرني، فَإِن سنك قريب من سني، واستدفع الْبلَاء من الله، تَعَالَى، بخلاصي. فَوَثَبَ الْغُلَام، وَطرح نَفسه عَليّ، وَقَالَ: وَالله لَا يقتل وَأَنا حَيّ، وجرد سَيْفه. وَقَامَ أستاذه بقيامه، وَقَالَ: لَا يقتل من أجاره غلامي.

وَاخْتلفُوا، وَصَارَ مَعَ الْغُلَام جمَاعَة مِنْهُم، فانتزعوني، وجعلوني فِي زَاوِيَة من الْبَيْت الَّذِي كَانُوا فِيهِ، ووقفوا بيني وَبَين أَصْحَابهم. فَقَالَ لَهُم رئيسهم: كفوا عَن الرجل إِلَى أَن نَنْظُر فِي أمره، وَشتم مُقبلا، وَقَالَ: تمض، فهات مَا نأكله قبل كل شَيْء، فَإنَّا جِيَاع، وَلَيْسَ يفوتنا قَتله، إِن اتفقنا عَلَيْهِ. فَمضى مقبل، وجاءهم بمأكول كثير، وجلسوا يَأْكُلُون، وَترك جمَاعَة مِنْهُم الْأكل حراسة لي؛ لِئَلَّا يغتالني أحدهم إِذا تشاغلوا بِالْأَكْلِ. فَلَمَّا أكلُوا؛ انْفَرد بعض من كَانَ يتعصب لي بحراستي، وَأكل من لم يكن أكل مِنْهُم. ثمَّ أفضوا إِلَى الشَّرَاب، فَقَالَ لَهُم مقبل: الْآن قد أكلْتُم، وَترك هَذَا يُؤَدِّي إِلَى قتلكم، فدعوا الْخلاف فِي أمره، واقتلوه. فَوَثَبَ من يُرِيد قَتْلِي، وثب الْغُلَام، وَمن مَعَه؛ للدَّفْع عني، وَطَالَ الْكَلَام بَينهم، وَأَنا فِي الزاوية، وَقد اجْتمع عَليّ من يمْنَع من قَتْلِي، فصرت بَينهم وَبَين الْحَائِط، إِلَى أَن جرد بَعضهم السيوف على بعض. فَقَالَ لَهُم رئيسهم: هَذَا الَّذِي أَنْتُم فِيهِ يُؤَدِّي إِلَى تلفكم، وَقد رَأَيْت رَأيا فَلَا تخالفوه. فَقَالُوا: إِنَّا بِأَمْرك. فَقَالَ: أغمدوا السِّلَاح، واصطلحوا، وَنَشْرَب إِلَى وَقت نُرِيد أَن نخرج من هَذِه الدَّار، ثمَّ نكتفه، ونسد فَاه، وندعه فِي الدَّار، وننصرف،

فَإِنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْخُرُوج وَرَاءَنَا، وَلَا الصياح علينا. وَإِلَى أَن نصبح من غَد، نَكُون قد قَطعنَا مفازة، وَلَا يجرح بَعْضكُم بَعْضًا، وَلَا تتفرق كلمتكم. فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وجلسوا يشربون. وَجَاء الْغُلَام ليشْرب مَعَهم، فَقلت لَهُ: اللهَ اللهَ فيّ، تمّمْ مَا عملت من الْجَمِيل، وَلَا تشرب مَعَهم، واحرسني؛ لِئَلَّا يثب عَليّ وَاحِد مِنْهُم على غَفلَة، فيضربني ضَرْبَة يكون فِيهَا تلف نَفسِي، ثمَّ لَا تتمكن أَنْت من ردهَا، وَلَا يَنْفَعنِي أَن تقتل قاتلي. فرحمني، وَقَالَ: أفعل، ثمَّ قَالَ لأستاذه: أحب أَن تتْرك شربك اللَّيْلَة، فتفعل كَمَا أفعل. فجاءا جَمِيعًا فَجَلَسَا قدامي، وَأَنا فِي الزاوية، أتوقع الْمَوْت سَاعَة بساعة، إِلَى أَن مضى من اللَّيْل قِطْعَة. وَقَامَ الْقَوْم فتحزموا، ولبسوا ثِيَابهمْ، وَخَرجُوا، وَبَقِي الْغُلَام وأستاذه. فَقَالَا لي: يَا فَتى، قد علمت أننا قد خلصنا دمك، فَلَا تكافئنا بقبيح، وهوذا نخرج، وَلَا نستحسن أَن نكتفك، فاحذر أَن تصيح. فَأخذت أقبل أَيْدِيهِمَا وأرجلهما، وَأَقُول: أَنْتُمَا أحييتماني بعد الله، تَعَالَى، فَكيف أكافئكما بالقبيح؟ فَقَالَا: قُم مَعنا، فَقُمْت، ففتشنا الدَّار، حَتَّى علمنَا أَنه لم يختبئ فِيهَا أحد يُرِيد قَتْلِي. ثمَّ قَالَا لي: قد أمنت، فَإِذا خرجنَا فاستوثق من الْبَاب ونم وَرَاءه، فَلَيْسَ يكون إِلَّا خيرا، وخرجا. فاستوثقت من غلق الْبَاب، ثمَّ جزعت جزعا عَظِيما، وَلم أَشك أَنه يخرج عَليّ

من تَحت الأَرْض مِنْهُم من يقتلني، وَزَاد عَليّ الْفَزع، فَأَقْبَلت أَمْشِي فِي الدَّار، وأدعو، وأسبح، إِلَى أَن كدت أتلف إعياء. وأنست باستمرار الْوَقْت على السَّلامَة، وحملتني عَيْني، فَنمت، فَلم أحس إِلَّا بالشمس وحرارتها، على وَجْهي، من بَاب الْبَيْت. فَقُمْت، وَخرجت أَمْشِي وَأَنا عُرْيَان بسروايلي، إِلَى أَن حصلت فِي الْموضع الَّذِي كنت أسْكنهُ. وَمَا حدثت أحدا بِهَذَا الحَدِيث مُدَّة، لبَقيَّة الْفَزع الَّذِي داخلني مِنْهُم فِي قلبِي. ثمَّ بعد انْقِضَاء سنة، أَو قريب مِنْهَا، كنت يَوْمًا عِنْد صَاحب الشرطة بنصيبين؛ لصداقة كَانَت بَينه وَبَين أبي، فَمَا لبث أَن حضر من عرفه عثور الطوف على جمَاعَة من اللُّصُوص، بقرية سَمَّاهَا، من قرى نَصِيبين، وَقَبضه على سَبْعَة نفر مِنْهُم، وفوت البَاقِينَ، فَأمر بإحضارهم. فَوَقع بَصرِي مِنْهُم على ذَلِك الْغُلَام الَّذِي أجارني ذَلِك الْيَوْم، وعَلى أستاذه، ثمَّ على مقبل. فحين رَأَيْتهمْ أخذتني رعدة تبينت فِي، وَأخذ مقبل، من بَينهم، مثل مَا أَخَذَنِي. فَقَالَ لي صَاحب الشرطة: مَا لَك؟ فَقلت: إِن حَدِيثي طَوِيل، وَلَعَلَّ الله، تَعَالَى، أَرَادَ بحضوري هَذَا الْمجْلس، سَعَادَة نفر، وشقاوة نفر. فَقَالَ: هَات. فأقتصصت عَلَيْهِ قصتي مَعَ الْقَوْم إِلَى آخرهَا، فتعجب، وَقَالَ: هلا شرحتها لي فِيمَا قبل، حَتَّى كنت أطلبهم، وأنتصف لَك مِنْهُم.

فَقلت: إِن الْفَزع الَّذِي كَانَ فِي قلبِي مِنْهُم لم يبسط لساني بِهِ. فَقَالَ: من الَّذِي كَانَ مَعَك من هَؤُلَاءِ؟ فَقلت: هَذَا الْغُلَام، وأستاذه، وَوَاحِد من البَاقِينَ، فَأمر بِحل كتافهم، وتمييزهم من بَين أَصْحَابهم. ودعا بمقبل، فَقَالَ لَهُ: مَا حملك على مَا فعلت بِابْن مَوْلَاك؟ فَقَالَ: سوء الأَصْل، وخبث الْعرق. فَقَالَ: لَا جرم تقَابل بفعلك، وَأمر بِهِ فَضرب عُنُقه، وأعناق أَصْحَابه البَاقِينَ. ودعا بالغلام، وأستاذه، وصاحبهما، وَقَالَ لَهما: لقد أحسنتما فِي فعلكما ودفعكما عَن هَذَا الْفَتى، فَالله يجزيكما عَن فعلكما الْخَيْر، فتوبا إِلَى الله من فعلكما، وانصرفا فِي صُحْبَة الله مَعَ صاحبكما، وَلَا تعودا إِلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ من التلصص، فقد مننت عَلَيْكُمَا لحسن صنيعكما بِهَذَا الْفَتى، فَإِن ظَفرت بكما ثَانِيًا؛ ألحقتكما بأصحابكما. فتابا وصاحبهما، وشكروا لَهُ، ودعوا، وَانْصَرفُوا. وشكرته أَنا أَيْضا على مَا فعل، وحمدت الله على توفيقي لقَضَاء حق من أجارني، والانتقام مِمَّن ظَلَمَنِي. ثمَّ صَار ذَلِك الْغُلَام وأستاذه من أصدقائي، وَكَانَا يَخْتَلِفَانِ إِلَيّ، ويقولان: قد أَقبلنَا على حرفنا فِي السُّوق، وَتَركنَا التلصص.

الجناذية والبانوانية في الهند

الجناذية والبانوانية فِي الْهِنْد وَحكى أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عمر بن شُجَاع الْمُتَكَلّم الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: رَأَيْت بِالْهِنْدِ قوما، يُقَال لَهُم: الجناذية، يَأْكُلُون الْميتَة، يَتَقَذَّرهُمْ جَمِيع أهل الْهِنْد، وَعِنْدهم أَنهم إِن لامسوهم تنجسوا. قَالَ: فهم يَمْشُونَ وَفِي أَعْنَاقهم طبول يطبلون بهَا؛ ليسمع أصواتها النَّاس، فيتنحون عَن طريقهم، فَإِن لم يَتَنَحَّ الرجل عِنْد سَماع الطبل؛ فَلَا شَيْء على الجناذي، وَإِن لم يضْرب الجناذي الطبل، حَتَّى يلاصق جسده جَسَد غَيره؛ قَتله الَّذِي لصق جسده، فَلَا يعدى عَلَيْهِ؛ لِأَن هَذَا هُوَ شرطهم وسنتهم. قَالَ: وَلَا يشرب أحد مَاء هَؤُلَاءِ الجناذية، وَلَا يَأْكُلُون من طعامهم، وَلَا يخالطهم، فهم ينزلون فِي ظَاهر الْبَلَد، منفردين نَاحيَة، وهم أرمى النَّاس، ومعاشهم من الصَّيْد. وَهُنَاكَ قوم، يُقَال لَهُم: البانوانية، يجرونَ مجْرى المستقفين هَهُنَا، وَالسُّلْطَان يطلبهم كَمَا يطْلب اللُّصُوص والعيارين، فَإِذا عرفهم، وظفر بهم؛ قَتلهمْ.

وهم يصطادون النَّاس، وَلَا يعْرفُونَ غير ذَلِك. وَالْوَاحد مِنْهُم يتبع التُّجَّار الَّذين يطرءون إِلَيْهِم من الْمُسلمين والذمة، فَإِذا رأى الْوَاحِد مِنْهُم الْوَاحِد من التُّجَّار فِي طَرِيق خَال؛ قبض عَلَيْهِ، فَلَا يُمكن لأحد من النَّاس أَن يخلصه؛ لعلمهم أَنه إِذا اسْتَغَاثَ، أَو نطق، قَتله الْهِنْدِيّ، وَقتل نَفسه فِي الْحَال، لَا يُبَالِي بذلك؛ لاعتقادهم الْمَشْهُور فِي أَمر الْقَتْل، ويراهم النَّاس قد أخلوا الرجل، فَلَا يتعرضون لتخليصه؛ لِئَلَّا يقْتله. وَيَقُول لَهُم الرجل الْمَأْخُوذ: اللهَ اللهَ، إِن عارضتموه، فَلَا يُمكن لسلطان، وَلَا غَيره، انْتِزَاعه مِنْهُم فِي تِلْكَ الْحَال؛ لِئَلَّا يعجل بقتْله. قَالَ: فَأخْبر رجل بِالْهِنْدِ، أَن رجلا من البانوانية قبض فِي طَرِيق سَفَره، على رجل لقِيه من التُّجَّار. فَقَالَ لَهُ: اشْتَرِ نَفسك مني، فتوافقا على أَن يَشْتَرِي نَفسه مِنْهُ بِأَلف دِرْهَم. فَقَالَ لَهُ التَّاجِر: تعلم أَنِّي خرجت وَلَا شَيْء معي، وَمَالِي فِي الْبَلَد، فَتَصِير معي إِلَى دَاري فَإِنَّهَا قريبَة؛ لأؤدي لَك ذَلِك. فَأَجَابَهُ، وَقبض عَلَيْهِ بِيَدِهِ، فَلم يزل يمشي مَعَه، فاجتازا فِي طريقهما فِي سكَّة مِنْهَا، فسلكا فِيهَا. فحين حصلا فِيهَا، فكر التَّاجِر فِي حِيلَة للخلاص، وَكَانَ قد عرف مَذْهَب أهل الْهِنْد فِي الجناذية، فَلم يزل يمشي مَعَه حَتَّى رَأيا بَابا مَفْتُوحًا من دور الجناذية، فجذب يَده جذبة شَدِيدَة من البانواني، وسعى، فَدخل دَار الجناذي. فَقَالَ لَهُ: مَا لَك؟ قَالَ: أَنا مستجير بك من يَد بانواني، قد صادني فهربت مِنْهُ.

فَقَالَ: لَا بَأْس عَلَيْك، فاجلس. فصاح البانواني، يَا جناذي، اخْرُج إِلَيّ، وهم لَا يدْخلُونَ بيُوت الجناذية أصلا؛ لاستقذراهم إيَّاهُم. قَالَ: فَخرج، فَوقف، وَبَينهمَا عرض الطَّرِيق لَا يجوز أَن يدنو أحد من صَاحبه. فَقَالَ البانواني: أَعْطِنِي صَاحِبي. فَقَالَ لَهُ الجناذي: قد استجار بِي، فتهبه لي. قَالَ: لَا أفعل، هَذَا رِزْقِي، وَإِن لم تعطنيه؛ لم نَدع من الجناذية وَاحِدًا إِلَّا قَتَلْنَاهُ. فطال بَينهمَا الْكَلَام، إِلَّا أَن قَالَ لَهُ الجناذي: أسلمه إِلَيْك فِي الصَّحرَاء، فَامْضِ واسبقني إِلَى الْموضع الْفُلَانِيّ. قَالَ: فَمضى البانواني، وَدخل الجناذي إِلَى الرجل، فَقَالَ لَهُ: أخرج معي السَّاعَة، وَلَا بَأْس عَلَيْك، وَأخذ الجناذي قوسه وَخَمْسَة سِهَام، قَالَ: وسهامهم من قصب. فعلق الْمُسلم بكم الجناذي، ولصق بِهِ؛ علما مِنْهُ بِأَن البانواني لَا يدنو مِنْهُ. فَلَمَّا صَارُوا فِي الصَّحرَاء؛ قَالَ لَهُ الجناذي: تهبه لي، وأجتهد بِهِ، فَلم يفعل. قَالَ: فَإِنِّي لَا أسلمه إِلَيْك، حَتَّى لَا يبْقى معي شَيْء من السِّلَاح. قَالَ: فشأنك، ففوق نَحوه سَهْما، فحين أطلقهُ؛ تَلقاهُ البانواني بحربي كَانَ مَعَه، وَالْحَرْبِيّ آلَة من السِّلَاح عِنْدهم مَعْرُوفَة، فَاعْترضَ السهْم بِهِ، فَقَطعه نِصْفَيْنِ، وَسلم مِنْهُ. فتحير الجناذي، فَلم يزل يرميه بنشابة بعد أُخْرَى، إِلَى أَن ذهب النشاب،

وَلم يبْق مَعَه إِلَّا اثْنَتَانِ. فضعفت نفس التَّاجِر، وأيقن بِالْهَلَاكِ، وَقَالَ للجناذي: اللهَ اللهَ فِي دمي. فَقَالَ لَهُ الجناذي: لَا تخف، سأريك من رميي مَا يتحدث بِهِ، انْظُر إِلَى هَذَا الطَّائِر الَّذِي يطير فِي السَّمَاء، فَإِنِّي أرميه، فأصرعه على رَأسك، ثمَّ أرميك فَلَا أخطئك. قَالَ: فَرفع البانواني رَأسه، ينظر إِلَى الطَّائِر، فَرَمَاهُ الجناذي، فَأصَاب فُؤَاده، فَخر صَرِيعًا، وَمَات. فَقَالَ للتاجر: ارْجع الْآن آمنا. فَرجع إِلَى دَاره، فَأَقَامَ عِنْده إِلَى أَن اجتازت بهم صُحْبَة، فَمضى التَّاجِر مَعهَا، فوصل إِلَى مأمنه.

عصبت عيناه ومد عنقه ورفع السيف على رأسه ثم نجا من القتل

عصبت عَيناهُ وَمد عُنُقه وَرفع السَّيْف على رَأسه ثمَّ نجا من الْقَتْل حَدثنِي الْحسن بن مُحَمَّد الحناني، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم نصر الْمَعْرُوف بالمايني الَّذِي كَانَ يتقلد السِّكْر بِبَغْدَاد فِي أَيَّام عضد الدولة وتاج الْملَّة، رَضِي الله عَنهُ. قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ: وَأَنا أعرف هَذَا الرجل، وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآن، وَمَا اتّفق لي أَن أسأله عَن هَذَا الْخَبَر. قَالَ: كَانَ عضد الدولة، رَحمَه الله، وَهُوَ صبي بَالغ، صَار من أَصْبَهَان إِلَى فَارس، استدعاه عَمه عماد الدولة عَليّ بن بويه لينقل إِلَيْهِ ولَايَة عَهده، ويستخلفه عَلَيْهَا من بعده، فسرت مَعَه، وَأَنا مَعَه إِذْ ذَاك أحجبه. فَلَمَّا صَار بسمارم، منزل من الطَّرِيق، أَمرنِي أَن أصير إِلَى كركير وَالِي سمارم من قبل أَبِيه ركن الدولة، رَحمَه الله، وأطالبه بِأَن ينفذ إِلَى حَضرته اثْنَي عشر رجلا من الأكراد، كَانُوا محبسين فِي يَد كركير، وَكَانَ خبرهم قد بلغ عضد الدولة، فأرادهم.

فَامْتنعَ كركير من إنفاذهم، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ قطاع الطَّرِيق، قد قطعُوا وَقتلُوا، وَلَا أسلمهم إِلَّا بِأَمْر يرد عَليّ من ركن الدولة، فَجئْت إِلَيْهِ وعرفته. فمضيت، فَأَقَامَ الرجل على الِامْتِنَاع من تسليمهم، فعدت إِلَى عضد الدولة فَأَخْبَرته. فاغتاظ من ذَلِك، وَأَمرَنِي أَن أكسر الْحَبْس، وأجيئه بالأكراد، فامتثلت أمره، وأحضرتهم المضرب، وأعلمته. فَأمرنِي أَن أمضي أَنا وحاجب آخر من حجابه، سَمَّاهُ، لنقتلهم. فحملناهم إِلَى مَوضِع، وأمرنا، فَقتل مِنْهُم ثَلَاثَة. وَقدم الرَّابِع فَرَمَاهُ ذَلِك الْحَاجِب بخشت، كَانَ فِي يَده، فنبا عَنهُ، وَلم يعْمل فِيهِ، فَتقدم بشد عَيْنَيْهِ، وَشرب رقبته بِالسَّيْفِ، فشددت عَيْنَيْهِ بمنديل خاز، حضرهم فِي الْحَال. فَلَمَّا رفع السياف يَده ليحطها على المضرب؛ استرخى المنديل فَوَقع على المضرب فغطاه. فَقَالَ السياف: ارْفَعُوا المنديل. فأومأت بِطرف عَصا كَانَت فِي يَدي، على رسم الْحجاب، لأزيل المنديل، فيتمكن السياف من الضَّرْبَة، فَإِذا رَسُول عضد الدولة يسْعَى وَيَقُول: لَا تقتلُوا الْقَوْم. فتوقفنا، ومضيت إِلَى حَضرته، وعرفته صُورَة من قتل وَمن بَقِي، وَمَا اتّفق

فِي أَمر الرجل، فتعجب من أمره. وَأمر بِهِ، فأحضرته إِلَيْهِ، وكشف عَن مَوضِع الخشت حَتَّى رَآهُ، وَكَانَ فِي كتفه، فَإِذا هُوَ قد انتفخ واخضر، وَلم يدْخل فِي لَحْمه، فازداد تعجبه، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ، وَأَن يخلع عَلَيْهِ وعَلى الْجَمَاعَة، فَفعل ذَلِك بهم.

عباد المؤنث يربح الرهان ويحيي نفسا ميتة

عباد الْمُؤَنَّث يربح الرِّهَان ويحيي نفسا ميتَة حَدثنِي عُثْمَان بن مُحَمَّد السّلمِيّ، الْمَعْرُوف بـ: أبي الْقَاسِم الْأَصْفَر، غُلَام أبي الْحسن بن عبد السَّلَام الْهَاشِمِي الْبَصْرِيّ، قَالَ: كَانَ عندنَا بالمربد، رجل من خول مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، يدعى بـ: عباد، وَكَانَ مؤنثا، وَكَانَ يحمل السِّلَاح. فَاجْتمع يَوْمًا مَعَ قوم من الخول على شراب لَهُم، فتجاذبوا حَدِيث الشجَاعَة، فعابوه بِمَا فِيهِ من التَّأْنِيث، فخاطرهم فِي شَيْء يعمله، مِمَّا يفرضون عَلَيْهِ، يبين بِهِ عَن شجاعته. فَقَالُوا: تخرج السَّاعَة بِغَيْر سلَاح إِلَى صهاريج الْحجَّاج، فَتدخل مِنْهَا فِي الصهريج الْفُلَانِيّ، وتسمر فِي أرضه هَذَا الوتد، وتعود. قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ، مؤلف هَذَا الْكتاب: وَهَذِه الصهاريج على أَكثر من فَرسَخ من الْبَصْرَة، فِي الْبَريَّة، وَقد شاهدتها، وَهِي موحشة الْمَكَان، خَالِيَة، يجْتَمع فِيهَا المَاء، كَانَ الْحجَّاج قد عَملهَا مَادَّة لشرب أهل الْمَوْسِم والقوافل، وَمن يرد من الْمُسَافِرين. نرْجِع إِلَى الْخَبَر. قَالَ فَأَخْبرنِي عباد، قَالَ: خرجت، وَلَيْسَ معي إِلَّا وتد ومطرقة، حَتَّى بلغت الصهريج الَّذِي خاطرت عَلَيْهِ، وَكَانَ أعظمهم، وأوحشها.

فدخلته، وَكَانَ جافا، وَجَلَست فَضربت الوتد بالمطرقة فِي أرضه، فطن الصهريج، وَسمعت صلصلة شَدِيدَة، وَصَوت سلسلة. فَقطعت الدق، فَانْقَطع الصَّوْت، وأعدت الدق، فَعَاد الصَّوْت، وَظَهَرت حَرَكَة مَعَه، وَأَنا ثَابت الْقلب، أتأمل وَلَا أرى شَيْئا من الظلمَة. إِلَى أَن أحسست بالحركة وَالصَّوْت قد قربا مني، فتأملت، فَإِذا بشخص لطيف، لَا يشبه قدر خلقَة الْإِنْسَان، فاستوحشت. وثبتُّ نَفسِي، وَأَنا أدق، والشخص يقرب مني، حَتَّى وَثَبت، وألقيت نَفسِي عَلَيْهِ، واستوثقت مِنْهُ. فَإِذا هُوَ قرد فِي عُنُقه سلسلة، فَظَنَنْت أَنه قد أفلت من قراد، أَو من قافلة فسحبته، فلَان فِي يَدي، وَأنس بِي، فَأَخَذته على يَدي وساعدي، وَجئْت أُرِيد بَاب الصهريج. فَلَمَّا بلغته سَمِعت كلَاما، فَخَشِيت أَن يكون بعض من يطلبني فِي العصبية هُنَاكَ، فوقفت أستمع. فَإِذا كَلَام امْرَأَة مَعَ رجل، وَهِي تَقول لَهُ: يَا فلَان، وَيحك، أتقتلني؟ أتذبحني؟ أتبلغ بِي الْمَوْت؟ اتَّقِ الله فيّ. وَهُوَ يَقُول: الذَّنب كُله لَك، وَأَنت أَذِنت لَهُم فِي أَن يزوجوك، وَلَو أَبيت؛ مَا قدر أَبوك أَن يزوجك، وَإِنَّمَا فعلته مللا بِي، وَأَنا تَالِف، وَأَنت تتنعمين، وَالله لأذبحنك، أستكتفي يَا ابْنة الفاعلة الصانعة. قَالَ: فَنَظَرت، فَإِذا ظَهره إِلَى بَاب الصهريج، فَصحت عَلَيْهِ صَيْحَة عَظِيمَة،

وَضربت قَفاهُ بالقرد، فَفَزعَ القرد على نَفسه، فَقبض على عنق الرجل، وَتمكن من ظَهره. فورد على الرجل مَا حيره، وأفزعه، وَذهب بعقله، فَخر مغشيا عَلَيْهِ، وَوَقع السَّيْف من يَده، فَأَخَذته، وَرَأَيْت الْجحْفَة مطروحة، فأخذتها. وقصدت الرجل، فَثَابَ إِلَيْهِ عقله، وَرمى بالقرد عَن ظَهره، وسعى هَارِبا. فقصدت الْمَرْأَة، وحللت كتافها، وَقلت لَهَا: مَا قصتك؟ قَالَت: أَنا بنت فلَان، وَذكرت رجلا من أهل المربد، وَهَذَا ابْن عمي، وَكَانَ يعشقني، فخطبني من أبي، فَامْتنعَ من تَزْوِيجه بِي، وزوجني من رجل غَرِيب، وَدخل بِي من شهور. فَلَمَّا كَانَ أمس؛ خرجت أَنا وَجَمَاعَة من نسَاء الْجِيرَان، نَنْظُر إِلَى الصَّحرَاء، وَقت الْعَصْر. وبلغه خبرنَا، فكبسنا بالصحراء، وَمَعَهُ عدَّة رجال بِالسِّلَاحِ، فَأخذ كل رجل امْرَأَة، وَانْفَرَدَ بهَا، وحملني هَذَا إِلَى هَذَا الصهريج، ففجر بِي طول اللَّيْل، فَلَمَّا كَانَ الْآن عزم على قَتْلِي، فأغاثني الله بك، وَمَا أعرف للنسوة الْبَاقِيَات خَبرا. فَقلت: امشي، لَا بَأْس عَلَيْك. فمشت بَين يَدي إِلَى أَن دخلت الْبَصْرَة، فدققت بَاب والدها. فَقَالَ: من بِالْبَابِ؟ فكلمته، فَفتح لَهَا، فَدخلت الدَّار. وعدت إِلَى أَصْحَابِي، فحدثتهم بِالْحَدِيثِ، وأريتهم القرد، وَخَرجْنَا من الْغَد، فَرَأَوْا الوتد، وَجئْت بهم إِلَى بَاب دَار الْمَرْأَة، فأريتهم إِيَّاه، وَأخذت خطري.

إسحاق المصعبي تحركه رقاع أصحاب الأرباع ببغداد

إِسْحَاق المصعبي تحركه رقاع أَصْحَاب الأرباع بِبَغْدَاد حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد بن داسة الْبَصْرِيّ رَحمَه الله، قَالَ: حَدثنِي أَبُو يحيى بن مكرم، القَاضِي الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: كَانَ فِي جواري، رجل يعرف بِأبي عُبَيْدَة، حسن الْأَدَب، كثير الرِّوَايَة للْأَخْبَار، وَكَانَ قَدِيما ينادم إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم المصعبي، فَحَدثني: أَن إِسْحَاق استدعاه ذَات لَيْلَة، فِي نصف اللَّيْل. قَالَ: فهالني ذَلِك، وأفزعني، لما كنت أعرفهُ مِنْهُ، من زعارة الْأَخْلَاق، وَشدَّة الْإِسْرَاع إِلَى الْقَتْل، وَخفت أَن يكون قد نقم عَليّ شَيْئا فِي الْعشْرَة، أَو بلغ عني بَاطِلا، فأحفظه، فيسرع إِلَى قَتْلِي، قبل كشف حَالي. فَخرجت طَائِر الْعقل، حَتَّى أتيت دَاره، فأدخلت إِلَى بعض دور الْحرم، فَاشْتَدَّ جزعي، وَذهب عَليّ أَمْرِي. فانتهي بِي إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي حجرَة لَطِيفَة، فَسمِعت فِي دهليزها بكاء امْرَأَة ونحيبها، وَدخلت، فَإِذا هُوَ جَالس على كرْسِي، وَبِيَدِهِ سيف مسلول، وَهُوَ مطرق، فأيقنت بِالْقَتْلِ. فَسلمت، ووقفت، فَرفع رَأسه وَقَالَ: اجْلِسْ أَبَا عُبَيْدَة، فسكن روعي، وَجَلَست. فَرمى إِلَيّ رِقَاعًا كَانَت بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ: اقْرَأ هَذِه

فَقَرَأت جَمِيعهَا، فَإِذا رقاع أَصْحَاب الشَّرْط فِي الأرباع، يُخبرهُ كل وَاحِد مِنْهُم بِخَبَر يَوْمه، وَمَا جرى فِي عمله، وَفِي جَمِيعهَا ذكر كبسات وَقعت على نسَاء وجدن على فَسَاد، من بَنَات الوزراء، والأمراء، والأجلاء، الَّذين بادوا، أَو ذهبت مَرَاتِبهمْ، ويستأذنون فِي أمرهن. فَقلت: قد وقفت على هَذِه الرّقاع، فَمَا يَأْمُرنِي بِهِ الْأَمِير أعزه الله؟ فَقَالَ: وَيحك يَا أَبَا عُبَيْدَة، هَؤُلَاءِ النَّاس الَّذين ورد ذكر حَال بناتهم، كلهم كَانُوا أجل مني، أَو مثلي، وَقد أفْضى بهم الدَّهْر فِي حرمهم إِلَى مَا قد سَمِعت، وَقد وَقع لي أَن بَنَاتِي بعدِي، سيبلغن هَذَا الْمبلغ، وَقد جمعتهن، وَهن خمس، فِي هَذِه الْحُجْرَة، لأقتلهن السَّاعَة، وأستريح، ثمَّ أدركتني رقة البشرية، وَالْخَوْف من الله تَعَالَى، فَأَرَدْت أَن أشاورك فِي إِمْضَاء الرَّأْي، أَو شَيْء تُشِير بِهِ عَليّ فِيهِنَّ. فَقلت: أصلح الله الْأَمِير، إِن آبَاء هَؤُلَاءِ النِّسَاء اللواتي قَرَأت رقاع أَصْحَاب الْأَخْبَار بِمَا جرى عَلَيْهِنَّ، أخطأوا فِي تدبيرهن، لأَنهم خلفوا عَلَيْهِنَّ النعم، وَلم يحفظوهن بالأزواج، فخلون بِأَنْفُسِهِنَّ، ونعمهن، ففسدن، وَلَو كَانُوا جعلوهن فِي أَعْنَاق الْأَكفاء، مَا جرى مِنْهُنَّ هَذَا. وَالَّذِي أرى أَن تستدعي فلَانا الْقَائِد، فَلهُ خَمْسَة بَنِينَ، كلهم جميل

الْوَجْه، حسن اللّبْس والنشوة، فَتزَوج كل وَاحِدَة من بناتك، وَاحِدًا مِنْهُم، فتكفى الْعَار وَالنَّار، وَتَكون قد أخذت بِأَمْر الله عز وَجل، والحزم، ويراك الله تَعَالَى قد أردْت طَاعَته فِي حفظهن، فيحفظك فِيهِنَّ. فَقَالَ: امْضِ السَّاعَة إِلَيْهِ، فقرر مَعَه مَا يكون لنا فِيهِ الْمصلحَة، وافرغ لي مَعَه من هَذَا الْأَمر. قَالَ: فمضيت إِلَى الرجل، وقررت الْأَمر مَعَه، وَأخذت الفتيان، وأباهم، وَجئْت إِلَى دَار إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وعقدت النِّكَاح لَهُم، على بَنَات إِسْحَاق، فِي خطْبَة وَاحِدَة، وَجعل إِسْحَاق بَين يَدي كل وَاحِد مِنْهُم، خَمْسَة آلَاف دِينَار عينا، وشيئًا كثيرا من الطّيب، وَالثيَاب، وَحمل كلا مِنْهُم على فرس بمركب ذهب، وَأَعْطَانِي كل وَاحِد من الْأزْوَاج مَالا مِمَّا دفع إِلَيْهِ، وَأمر لي إِسْحَاق بِخمْس مائَة دِينَار، وخلعة، وَطيب. وأنفذ إِلَيّ أُمَّهَات الْبَنَات هَدَايَا وأموالًا جليلة، وشكرنني على تَخْلِيص بناتهن من الْقَتْل، وانقلبت تِلْكَ الْغُمَّة فَرحا. فعدت إِلَى دَاري، وَمَعِي مَا قِيمَته ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَأكْثر.

ما خاب من استشار

مَا خَابَ من اسْتَشَارَ وَحكى مُحَمَّد بن عَبدُوس الجهشياري، فِي كتاب الوزراء: أَن الْمَنْصُور لما حج، بعد تَقْلِيد الْمهْدي الْعَهْد، وتقديمه فِيهِ على عِيسَى بن مُوسَى، دفع عَمه عبد الله بن عَليّ، إِلَى عِيسَى بن مُوسَى، ليعتقله، وَأمره سرا بقتْله، وَكَانَ يُونُس بن أبي فَرْوَة يكْتب لعيسى بن مُوسَى. فعزم عِيسَى على قتل عبد الله بن عَليّ، ثمَّ تعقب الرَّأْي، فَدَعَا بِيُونُس، فخبره بالْخبر، وشاوره. فَقَالَ لَهُ يُونُس: نشدتك الله أَن لَا تفعل، فَإِنَّهُ يُرِيد أَن يقْتله بك، ويقتلك بِهِ، لِأَنَّهُ أَمرك بقتْله سرا، ويجحدك ذَلِك فِي الْعَلَانِيَة، وَلَكِن استره حَيْثُ لَا يطلع عَلَيْهِ أحد، فَإِن طلبه مِنْك عَلَانيَة، دَفعته إِلَيْهِ، وَإِيَّاك أَن ترده إِلَيْهِ سرا أبدا، بعد أَن قد ظهر حُصُوله فِي يدك عَلَانيَة، فَفعل عِيسَى ذَلِك وَانْصَرف الْمَنْصُور من حجه، وَعِنْده أَن عِيسَى قد قتل عبد الله، فَدس إِلَى عمومته، من يُشِير عَلَيْهِم بمسألته فِي أخيهم عبد الله، فجاءوه يسألونه ذَلِك، فَدَعَا بِعِيسَى بن مُوسَى، وَسَأَلَهُ عَنهُ بحضرتهم. فَدَنَا مِنْهُ عِيسَى بن مُوسَى، وَقَالَ لَهُ، فِيمَا بَينه وَبَينه: ألم تَأْمُرنِي بقتْله؟

قَالَ: معَاذ الله، مَا أَمرتك بذلك، كذبت. ثمَّ أقبل على عمومته، فَقَالَ: هَذَا قد أقرّ بقتل عبد الله، وَادّعى عَليّ أَنِّي أَمرته بذلك، وَقد كذب، فشأنكم بِهِ. قَالَ: فَوَثَبُوا عَلَيْهِ ليقتلوه، فَلَمَّا رأى صُورَة أمره، صدق أَبَا جَعْفَر، وأحضر عبد الله، فسلمه إِلَيْهِ بِمحضر من الْجَمَاعَة. فَكَانَ عِيسَى يشْكر ليونس بن أبي فَرْوَة ذَلِك، مُدَّة عمره.

منصور بن زياد يجحد نعمة يحيى البرمكي

مَنْصُور بن زِيَاد يجْحَد نعْمَة يحيى الْبَرْمَكِي وَذكر فِي هَذَا الْكتاب: دَعَا الرشيد صَالحا صَاحب الْمصلى، حِين تنكر للبرامكة، فَقَالَ لَهُ: اخْرُج إِلَى مَنْصُور بن زِيَاد، فَقل لَهُ: قد صحت عَلَيْك عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم، فاحملها إِلَيْنَا فِي هَذَا الْيَوْم، وَانْطَلق مَعَه، فَإِذا دَفعهَا إِلَيْك كَامِلَة قبل مغيب الشَّمْس، وَإِلَّا فاحمل رَأسه إِلَيّ، وَإِيَّاك ومراجعتي فِي شَيْء من أمره. قَالَ صَالح: فَخرجت إِلَى مَنْصُور بن زِيَاد، وعرفته الْخَبَر. فَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، ذهبت، وَالله، نَفسِي، ثمَّ حلف أَنه لَا يعرف مَوضِع ثَلَاث مائَة ألف دِرْهَم، فَكيف عشرَة آلَاف ألف دِرْهَم. فَقَالَ لَهُ صَالح: فَخذ فِي عَمَلك. فَقَالَ لَهُ: امْضِ بِي إِلَى منزلي، حَتَّى أوصِي، فَمضى مَعَه، فَمَا هُوَ إِلَّا أَن دخل منزله، حَتَّى ارْتَفع الصياح من مَنَازِله وَحجر نِسَائِهِ، فأوصى، وَخرج وَمَا فِيهِ دم. فَقَالَ لصالح: امْضِ بِنَا إِلَى أبي عَليّ يحيى بن خَالِد، لَعَلَّ الله أَن يأتينا بفرج من عِنْده، فَمضى مَعَه إِلَى يحيى وَهُوَ يبكي. فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك؟ فَقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، فقلق يحيى لأَمره، وأطرق مفكرًا، ثمَّ دَعَا بخازنه،

فَقَالَ لَهُ: كم عنْدك من المَال؟ قَالَ: خَمْسَة آلَاف ألف دِرْهَم. فَقَالَ لَهُ: أحضرنيها، فأحضرها. ثمَّ وَجه إِلَى الْفضل ابْنه، يَقُول لَهُ: إِنَّك أعلمتني، فدَاك أَبوك، أَن عنْدك ألفي ألف دِرْهَم، تُرِيدُ أَن تشتري بهَا ضَيْعَة، وَقد وجدت لَك ضَيْعَة يبْقى لَك ذكرهَا، وتحمد ثَمَرَتهَا، فَوجه إِلَيّ بِالْمَالِ، فَوجه بِهِ. ثمَّ قَالَ للرسول: امْضِ إِلَى جَعْفَر، وَقل لَهُ: ابْعَثْ، فدَاك أَبوك، إِلَيّ ألف ألف دِرْهَم، لحق لزمني، فَوجه بهَا. ثمَّ قَالَ لصالح: هَذِه ثَمَانِيَة آلَاف دِرْهَم، ثمَّ أطرق إطراقةً، لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده شَيْء. ثمَّ رفع رَأسه إِلَى خَادِم لَهُ، فَقَالَ: امْضِ إِلَى دَنَانِير، فَقل لَهَا: وَجْهي إِلَيّ بِالْعقدِ الَّذِي كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وهبه لَك. قَالَ: فجَاء بِهِ فَإِذا بِعقد فِي عظم الذِّرَاع، فَقَالَ لصالح: اشْتريت هَذَا لأمير الْمُؤمنِينَ بِمِائَة وَعشْرين ألف دِينَار، فوهبه لدنانير، وَقد حسبته بألفي ألف دِرْهَم، وَهَذَا تَمام حَقك، فَانْصَرف، وخل عَن صاحبنا، فَلَا سَبِيل لَك عَلَيْهِ. قَالَ صَالح: فَأخذت ذَلِك، ورددت منصورًا معي، فَلَمَّا صرت بِالْبَابِ، أنشأ مَنْصُور يَقُول متمثلًا: وَمَا بقيا عليّ تركتماني ... وَلَكِن خفتما صَرَدَ النبال فَقَالَ صَالح: مَا على وَجه الأَرْض أنبل من هَذَا الَّذِي خرجنَا من عِنْده،

وَلَا سَمِعت بِمثلِهِ فِيمَا مضى من الدَّهْر، وَلَا على وَجه الأَرْض أَخبث سريرة، وَلَا أكفر لنعمة، وَلَا أدنأ طبعا من هَذَا الَّذِي لَا يشْكر من أعطَاهُ، وَوزن عَنهُ هَذَا المَال الْعَظِيم. قَالَ: وصرت إِلَى الرشيد، وقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، وطويت عَنهُ مَا تمثل بِهِ مَنْصُور، خوفًا أَن يقْتله إِذا سمع ذَلِك. فَقَالَ الرشيد: قد علمت أَنه إِن نجا فَإِنَّمَا ينجو بِأَهْل هَذَا الْبَيْت، أطلق الرجل، واقبض المَال، واردد العقد، فَإِنِّي لم أكن أهب هبة، وَترجع إِلَى مَالِي. قَالَ صَالح: فَلم أطب نفسا إِلَّا بتعريف يحيى مَا قَالَه مَنْصُور، فَرَجَعت إِلَيْهِ وأطنبت فِي شكره، وَوصف مَا كَانَ مِنْهُ. وَقلت لَهُ: وَلَكِنَّك أَنْعَمت على غير شَاكر قَابل أكْرم فعل، بألأم قَول. قَالَ: فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ، فَجعل، وَالله، يطْلب لَهُ المعاذير، وَيَقُول: يَا أَبَا عَليّ إِن المنخوب الْقلب، رُبمَا سبقه لِسَانه، بِمَا لَيْسَ فِي ضَمِيره. وَقد كَانَ الرجل فِي حَال عَظِيمَة. فَقلت: وَالله، مَا أَدْرِي من أَي أمريك أعجب، من أَوله، أَو من آخِره، ولكنني أعلم أَن الدَّهْر لَا يخلف مثلك أبدا.

درس في المروءة والكرم

درس فِي الْمُرُوءَة وَالْكَرم قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كِتَابه (الوزراء) : حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن الْوَلِيد، قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن عِيسَى القمي، وَكَانَ ضَامِنا لأعمال الْخراج والضياع بِبَلَدِهِ، فَبَقيت عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ ألف دِينَار. وألح الْمَأْمُون فِي مُطَالبَته، حَتَّى قَالَ لعَلي بن صَالح، حَاجِبه: طَالبه بِالْمَالِ، وأنظره ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن أحضر المَال قبل انْقِضَائِهَا، وَإِلَّا فَاضْرِبْهُ بالسياط، حَتَّى يُؤَدِّيهَا أَو يتْلف. وَكَانَت بَين عَليّ بن عِيسَى وغسان بن عباد عَدَاوَة، فَانْصَرف عَليّ بن عِيسَى من دَار الْمَأْمُون آيسًا من نَفسه، لَا يقدر على شَيْء من المَال. فَقَالَ لَهُ كَاتبه: لَو عرجت على غَسَّان، وأخبرته بخبرك، لرجوت أَن

يعينك على أَمرك. فَقَالَ: على مَا بيني وَبَينه؟ قَالَ: نعم، فَإِن الرجل أريحي كريم. قَالَ: فَحَملته حَاله على قبُول ذَلِك، فَدخل إِلَى غَسَّان، فَقَامَ إِلَيْهِ، وتلقاه بجميل، ووفاه حَقه. فَقَالَ لَهُ: إِن الْحَال الَّذِي بيني وَبَيْنك، لَا يُوجب مَا أبديته من تكرمتي. فَقَالَ: ذَاك حَيْثُ تقع المنافسة عَلَيْهِ والمضايقة فِيهِ، وَالَّذِي بيني وَبَيْنك بِحَالهِ، ولدخول دَاري حُرْمَة توجب لَك عَليّ بُلُوغ مَا ترجوه، فَإِن كَانَت لَك حَاجَة فاذكرها، فَقص كَاتبه عَلَيْهِ قصَّته. فَقَالَ غَسَّان: أَرْجُو أَن يَكْفِيهِ الله تَعَالَى وَلم يزدْ على هَذَا شَيْئا. فَمضى عَليّ بن عِيسَى، آيسًا من نَفسه، كاسف البال، نَادِما على قَصده، وَقَالَ لكَاتبه لما انْصَرف: مَا أفدتني بِقصد غَسَّان إِلَّا تعجل المهانة والذل. وتشاغل فِي طَرِيقه بلقاء بعض إخوانه، وَعَاد إِلَى دَاره، فَوجدَ على بَابه بغالًا عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ ألف دِينَار، مَعَ رَسُول غَسَّان بن عباد، فأبلغه سَلَامه، وعرفه غمه بِمَا دفع إِلَيْهِ، وَسلم إِلَيْهِ المَال، وَتقدم إِلَيْهِ بِحُضُور دَار الْمَأْمُون من غَد ذَلِك الْيَوْم. فبكر عَليّ بن عِيسَى، فَوجدَ غَسَّان بن عباد قد سبقه إِلَيْهَا، فَلَمَّا وصل النَّاس إِلَى الْمَأْمُون، مثل غَسَّان بن عباد بَين الصفين، وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن لعَلي بن عِيسَى حُرْمَة وخدمة، وسالف أصل، ولأمير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ سالف إِحْسَان، وَقد لحقه من الخسران فِي ضَمَانه مَا قد تعارفه النَّاس، وَقد جرى عَلَيْهِ من جدة الْمُطَالبَة، وشدتها، والوعيد بِضَرْب السِّيَاط إِلَى أَن يتْلف، مَا حيره، وقطعه

عَن الاحتيال فِيمَا عَلَيْهِ من المَال، فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَن يجريني على حسن عَادَته فِي كرمه، ويشفعني فِي بعض مَا عَلَيْهِ، ويضعه عَنهُ، فعل. قَالَ: فَلم يزل بِهِ بِهَذَا وَنَحْوه، حَتَّى حطه النّصْف، وَاقْتصر مِنْهُ على عشْرين ألف دِينَار. قَالَ غَسَّان: إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يجدد عَلَيْهِ الضَّمَان، ويشرفه بخلع. فَأَجَابَهُ الْمَأْمُون إِلَى ذَلِك. قَالَ: فَيَأْذَن أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَن أحمل الدواة إِلَيْهِ، ليوقع بذلك، وَيبقى شرف حملهَا عَليّ وعَلى عَقبي. قَالَ: افْعَل. فَفعل، وَخرج عَليّ بن عِيسَى، والتوقيع مَعَه بذلك، وَعَلِيهِ الْخلْع. فَلَمَّا وصل إِلَى منزله، رد الْعشْرين ألف دِينَار، إِلَى غَسَّان، وشكره. فَردهَا غَسَّان، وَقَالَ: إِنِّي لم أستحطها لنَفْسي، وَإِنَّمَا أَحْبَبْت توفيرها عَلَيْك، واستحططتها لَك، وَلَيْسَ، وَالله، يعود شَيْء من المَال إِلَى ملكي أبدا. وَعرف عَليّ بن عِيسَى، مَا فعله مَعَه غَسَّان، فَلم يزل يَخْدمه إِلَى آخر الْعُمر.

القدرة تذهب الحفيظة

الْقُدْرَة تذْهب الحفيظة وجدت فِي بعض كتبي بِغَيْر إِسْنَاد. حضر الشّعبِيّ، عِنْد مُصعب بن الزبير، وَهُوَ أَمِير الْكُوفَة، وَقد أُتِي بِقوم، فَأمر بِضَرْب أَعْنَاقهم، فَأخذُوا ليقتلوا. فَقَالَ لَهُ الشّعبِيّ: أَيهَا الْأَمِير، إِن أول من اتخذ السجْن كَانَ حكيمًا، وَأَنت على الْعقُوبَة، أقدر مِنْك على نَزعهَا. فَأمر مُصعب بِحَبْس الْقَوْم، ثمَّ نظر فِي أَمرهم بعدن فَوَجَدَهُمْ برَاء، فَأَطْلَقَهُمْ.

ما صحب السلطان أخبث من عمر بن فرج الرخجي

مَا صحب السُّلْطَان أَخبث من عمر بن فرج الرخجي قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كتاب الوزراء، حُكيَ عَن أبي عبد الله أَحْمد ابْن أبي داؤد، أَنه قَالَ: مَا صحب السُّلْطَان أرجل، وَلَا أَخبث من عمر بن فرج الرخجي، غضب عَلَيْهِ المعتصم يَوْمًا وهم بقتْله، وَأمر بإحضاره، فَجَاءُوا بِهِ وَقد نزف دَمه. فَقَالَ المعتصم: السَّيْف، يَا غُلَام، فَجعلت ركبتا عمر تصطكان. فَقلت: إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يسْأَله عَن ذَنبه، فَلَعَلَّهُ أَن يخرج مِنْهُ بِعُذْر. فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن الفاعلة، أَمرتك فِي ولد أبي طَالب أَن تتعرف خبر مَنَازِلهمْ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلم فعلت ذَلِك؟ قَالَ عمر: إِنَّمَا فعلت ذَلِك لِأَنَّهُ بَلغنِي عَن وَاحِد مِنْهُم أَن أهل قُم يكاتبونه،

فَأَرَدْت أَن أعلم مَا فِي الْكتب الْوَارِدَة عَلَيْهِ. وَجعل عمر فِي خلال ذَلِك يلمس الْبسَاط الَّذِي كَانَ تَحت المعتصم، فَزَاد ذَلِك فِي غَضَبه. وَقَالَ: يَا ابْن الفاعلة، مَا شغلك مَا أَنْت فِيهِ عَن لمس الْبسَاط، كَأَنَّك غير مكترث بِمَا أريده بك؟ فَقَالَ: لَا وَالله، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِن العَبْد يعْنى من أَمر سَيّده، بِكُل شَيْء، على جَمِيع الْأَحْوَال، فَإِنِّي استخشنت هَذَا الْبسَاط، وَلَيْسَ هُوَ من بسط الْخلَافَة. فَقَالَ لَهُ: وَيلك، هَذَا الْبسَاط ذكر مُحَمَّد بن عبد الْملك أَنه قَامَ علينا بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم. فَقَالَ: يَا سَيِّدي عِنْدِي خير مِنْهُ قِيمَته سبع مائَة دِينَار. قَالَ: فَذهب عَن المعتصم، وَالله، ذَلِك الْفَوْر الَّذِي كَانَ بِهِ، وَسكن غَضَبه. قَالَ: وَجه السَّاعَة من يحضرهُ. فجَاء ببساط قد قَامَ عَلَيْهِ، فِيمَا أَظن، بِأَكْثَرَ من خَمْسَة آلَاف دِينَار، وَاسْتَحْسنهُ المعتصم، واستلانه. وَقَالَ: هَذَا، وَالله، أحسن من بساطنا، وأرخص، وَقد أخذناه مِنْك بِمَا قَامَ عَلَيْك. وَوَاللَّه مَا برح ذَلِك الْيَوْم، حَتَّى نادمه، وخلع عَلَيْهِ.

مصعب بن الزبير يعفو عن أحد أسراه ويجعله من ندمائه

مُصعب بن الزبير يعْفُو عَن أحد أسراه ويجعله من ندمائه وقرأت فِي بعض الْكتب: أَن مُصعب بن الزبير، أَخذ رجلا من أَصْحَاب الْمُخْتَار بن أبي عبيد، فَأمر يضْرب عُنُقه. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، مَا أقبح بك أَن أقوم يَوْم الْقِيَامَة إِلَى صُورَتك هَذِه الْحَسَنَة، ووجهك هَذَا الْجَمِيل الَّذِي يستضاء بِهِ، فأتعلق بك، ثمَّ أَقُول: يَا رب، سل مصعبًا فيمَ قتلني؟ فَقَالَ لَهُ مُصعب: قد عَفَوْت عَنْك. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير اجْعَل مَا وهبت لي من حَياتِي فِي خفض عَيْش، فَإِنَّهُ لَا عَيْش لفقير. فَقَالَ: ردوا عَلَيْهِ عطاءه، وَأَعْطوهُ مائَة ألف دِرْهَم.

قَالَ: أشهد الله، أَنِّي قد جعلت نصفهَا لِابْنِ قيس الرقيات. قَالَ: لم؟ قَالَ لقَوْله: إنّما مُصعب شهَاب من الله ... تجلّت عَن وَجهه الظلماء ملكه ملك رَحْمَة لَيْسَ فِيهِ ... جبروت مِنْهُ وَلَا كبرياء يتّقي الله فِي الْأُمُور وَقد أَفْلح ... من كَانَ همّه الاتّقاء فَضَحِك مُصعب، وَقَالَ: أرى فِيك للصنيعة موضعا، وَجعله من ندمائه، وَأحسن صلته.

عمارة بن حمزة في كرمه وكبريائه

عمَارَة بن حَمْزَة فِي كرمه وكبريائه وَحكي أَنه قيل للفضل بن يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، قد أفسدت جودك بكبرك، فَقَالَ: وَالله مَا لي حِيلَة فِي النُّزُوع عَنهُ، وَمَا كَانَ سَبَب حُصُوله فِي إِلَّا أنني حملت نَفسِي عَلَيْهِ، لما رَأَيْت من عمَارَة بن حَمْزَة، فتشبهت بِهِ، فَصَارَ طبعا، وَلَا أقدر على الإقلاع عَنهُ. وَذَلِكَ إِن أبي كَانَ يضمن فَارس من الْمهْدي، فَحلت عَلَيْهِ ألف ألف دِرْهَم. وَكَانَ الْمهْدي قد سَاءَ رَأْيه فِيهِ، فحرك ذَلِك مَا كَانَ فِي نَفسه، وَأمر أَبَا عون عبد الْملك بن يزِيد، أَن يَأْخُذ أبي، فيطالبه بِالْمَالِ، فَإِن غربت الشَّمْس فِي يَوْمه ذَاك، وَلم يصحح جَمِيعه، أَو بَقِي دِرْهَم مِنْهُ، أَتَاهُ بِرَأْسِهِ من غير أَن يَسْتَأْذِنهُ أَو يُرَاجِعهُ. قَالَ: فَأَخذه أَبُو عون، فاستدعاني، وَقَالَ: يَا بني، قد ترى مَا نَحن فِيهِ، فَلَا تدعوا فِي مَنَازِلكُمْ شَيْئا إِلَّا أحضرتموه.

قَالَ: فجمعنا كل مَا فِي مَنَازلنَا، من صَامت وَغَيره، فَلم يبلغ عشر المَال. فَقَالَ: يَا بني، إِن كَانَت لنا حِيلَة فِي الْحَيَاة، فَمن قبل عمَارَة بن حَمْزَة، وَإِلَّا فَأَنا مقتول العشية، فألقه، وأذكر لَهُ الصُّورَة. فمضيت إِلَى بَابه، فاستؤذن لي عَلَيْهِ. فَدخلت، وَهُوَ مُضْطَجع قد غاص فِي فرش لَهُ، مَا يكَاد يبين إِلَّا وَجهه، فوَاللَّه مَا تحرّك، وسلمت، فَأَوْمأ إِلَيّ بِالْجُلُوسِ، فَجَلَست بَعيدا مِنْهُ، فَلم يعرني الطّرف. فَانْكَسَرت نَفسِي، وَقلت: أَي خير عِنْد من هَذَا لقاؤه، وَهَذَا عنون أمره، فَأَمْسَكت لَا أَتكَلّم، مفكرًا فِي الْكَلَام، أَو الْقيام، فَقَالَ: اذكر حَاجَة إِن كنت أتيت لَهَا. فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، فوَاللَّه مَا أجابني بِحرف، أَكثر من قَوْله: امْضِ، فَإِن الله يَكْفِيك. فَقُمْت متحيرًا، أجر رجْلي، لَا أَشك فِي أَنه قد آيسني، وَقلت: إِن عدت إِلَى أبي بِهَذَا الْجَواب مَاتَ غمًا قبل ضرب الْعُنُق. فتوقفت سَاعَة، لَا أَدْرِي مَا أصنع، ثمَّ قلت: على كل حَال، أمضي إِلَيْهِ فأونسه، فَإِن كَانَت لَهُ حِيلَة أُخْرَى شرعنا فِيهَا قبل انصرام النَّهَار. فَجئْت، فَوجدت على الْبَاب بغالًا كَثِيرَة محملة. فَقلت لمن مَعهَا: من أَنْتُم؟ قَالُوا: أنفذنا عمَارَة إِلَيْكُم بِمَال على هَذِه البغال. فَدخلت، فَعرفت أبي بِمَا جرى لي، وأخذنا المَال فصححناه، وَمَا صليت الْعَصْر حَتَّى عرف الْمهْدي الصُّورَة، وَأَفْرج عَن أبي وَكَانَ ذَلِك سَبَب رِضَاهُ عَنهُ، وَصَلَاح نِيَّته لَهُ. فَلَمَّا كَانَ بعد شَهْرَيْن، ورد لنا من فَارس مَال عَظِيم كثير، فَقَالَ لي أبي:

خُذ هَذَا المَال، وامض بِهِ إِلَى عمَارَة، واشكره، ورده عَلَيْهِ. فَحملت المَال على بغال، ومضيت بِهِ إِلَى بَابه. فوقفت، حَتَّى استؤذن لي، فَدخلت، وَهُوَ على فرشه، فَمَا زادني على مَا عاملني بِهِ أَولا، وَلَا نقصني. فشكرته عَن أبي، ودعوت لَهُ، وعرفته إحضاري المَال، وَسَأَلته الْأَمر بِقَبْضِهِ. فَقَالَ لي: أَكنت قسطارًا لأَبِيك، أقْرضهُ، وأرتجع مِنْهُ؟ فَقلت: لَا، وَلَكِن أحييته، وحقنت دَمه، ومننت عَلَيْهِ، وَمَا أحب أَن يتغنمك، فَلَمَّا حصل لَهُ المَال، أنفذه. فَقَالَ: أما إِذْ رده أَبوك، فقد وهبته لَك، خُذْهُ وَانْصَرف. فَقُمْت، وَقد أَعْطَانِي مَا لم يُعْط أحد أحدا. فَجئْت إِلَى أبي فعرفته مَا جرى، فَقَالَ: لَا وَالله، يَا بني، مَا تطيب لَك بِهِ نَفسِي كُله وَلَكِن خُذ مِنْهُ مِائَتي ألف دِرْهَم، فَأَعْطَانِيهَا، وَهِي أول مَال جَاءَنِي كثيرا مجتمعًا، وَهِي أصل نعمتي. فتعلمت من عمَارَة الْجُود وَالْكبر مَعًا، فصارا لي طبعا.

الهائم الراوية يقتل أسودا مصابا بداء الكلب

الهائم الراوية يقتل أسودًا مصابًا بداء الْكَلْب وحَدثني الهائم الراوية، قَالَ: كنت أَسِير من الشَّام، أُرِيد الْعرَاق، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى قَرْيَة فِي بعض الطَّرِيق، لَقِيَنِي خراساني مَعَه مخلاة. فَقَالَ: أَيْن تُرِيدُ؟ فَقلت: بَغْدَاد. فَقَالَ: أَنا رفيقك، فاصطحبنا وسرنا إِلَى قَرْيَة خراب على شاطئ الْفُرَات فِي بَريَّة الشَّام. فَرَأَيْنَا على بَاب الْقرْيَة رجلا أسود، مُنكر الْخلقَة، عُريَانا، لَا يواريه شَيْء أَلْبَتَّة، فَعدا مجفلًا عَنَّا. فَدَخَلْنَا الْقرْيَة، وَجَلَسْنَا فِي دَار خراب على شاطئ الْفُرَات، وأخرجنا زادًا كَانَ مَعنا، وأقبلنا نَأْكُل. فَرَأَيْنَا الْحِجَارَة تجيئنا متداركة، حَتَّى خفنا أَن نهلك بهَا، وَمَا تمالكنا أَن نقوم إِلَّا بِجهْد.

وتأملنا أمرنَا، فَرَأَيْنَا الْأسود يرجمنا، فطلبناه، وطلبنا. فَلَمَّا تداخلنا، رام الْأسود أَن يقبض عَليّ، فزغت مِنْهُ، فَقبض على الْخُرَاسَانِي، وَكَانَ الْخُرَاسَانِي أيدًا، فَمَا زَالا يتعاركان سَاعَة طَوِيلَة، ثمَّ انكب الْأسود على كتف الْخُرَاسَانِي فعضه. فصاح الْخُرَاسَانِي: يَا بغدادي أدركني، فقد قتلني. فدنوت من خلف الْأسود فقبضت على خصيتيه، ولكمتها لكمات شَدِيدَة فَخر مغشيًا عَلَيْهِ، وَقَامَ الْخُرَاسَانِي، فَجَلَسَ على صَدره، وخنقه بِيَدِهِ حَتَّى تلف. وسرنا، والخراساني يَصِيح من ألم العضة، حَتَّى انتهينا إِلَى حِيَال قَرْيَة عامرة. فصحنا بملاح، فَقدم زورقه لنعبر إِلَى الْقرْيَة، فَطرح الْخُرَاسَانِي نَفسه على الشط كالتالف. فشجعته، وَقلت لَهُ: مَالك؟ وَأي شَيْء قدر عضة؟ فَقَالَ: وَيحك انْظُر إِلَيْهَا، فَنَظَرت إِلَيْهَا، فَإِذا هِيَ قد أخذت كتفه كلهَا، واسودت، واحمر بدنه كُله. فَحَملته أَنا والملاح، حَتَّى حصلناه فِي الزورق، وعبرنا، فَلَمَّا صرنا بِقرب الشط، تلف، فأخرجناه مَيتا. فَاجْتمع أهل الْقرْيَة وسألوا عَن شَأْنه، فحدثتهم الحَدِيث.

فَقَالُوا: قد فتحتم فتحا، وَقد سلمك الله أَنْت، وأراحنا من ذَلِك العَبْد هَذَا عبد آل فلَان، أَصَابَهُ دَاء الْكَلْب وتغرب فِي تِلْكَ الخرابات، وَقد قتل خلقا بالعض. قَالَ: وتبادر قوم مِنْهُم يُرِيدُونَ الْموضع للأسود، وسرت أَنا فِي طريقي، وحمدت الله تَعَالَى على سلامتي من الْأسود.

أبو جعفر بن شيرزاد

أَبُو جَعْفَر بن شيرزاد كَانَ لداره أَرْبَعَة عشر بَابا حَدثنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن شيرزاد، قَالَ: حَدثنِي خَالِي، وَابْن عَم أبي، أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن يحيى بن شيرزاد، قَالَ: لما سعي عَليّ عِنْد بجكم، حَتَّى صرفني عَن كتبته، ونكبني، وألزمني

بِمِائَتي ألف دِينَار، فأديت أَكْثَرهَا من غير أَن أبيع شَيْئا من أملاكي الظَّاهِرَة. فَلَمَّا قاربت وفاءها، استحضرني أَحْمد بن عَليّ الْكُوفِي كَاتبه وَكَانَت لَهُ مُرُوءَة، وَأخذ يخاطبني بِكَلَام طَوِيل، هُوَ تقدمة واعتذار لشَيْء يُرِيد أَن يخاطبني بِهِ. فَقلت لَهُ: يَا سَيِّدي مَا تُرِيدُ؟ وَمَا بك حَاجَة إِلَى التَّسَبُّب، فَإِنِّي بمودتك واثق. فَقَالَ: إِن هَذَا الرجل، يَعْنِي بجكم، قد رَجَعَ عَلَيْك فِي صلحك، وطمع فِيك، وطالبني أَن آخذ مِنْك مِائَتي ألف دِينَار أُخْرَى، وَوَاللَّه، مَا هَذَا عَن رَأْيِي، وَلَا لي فِيهِ مدْخل، وَلَا هُوَ من فعلي وَلَو قدرت على إِزَالَته عَنْك لفَعَلت. قَالَ: فَأخذت أَحْلف لَهُ أَنِّي لَا أهتدي إِلَيْهَا، وَلَا إِلَى عشرهَا، وَأَن النكبة قد استنفدت مَالِي، وَلم يبْق لي شَيْء، إِلَّا دَاري، وضيعتي، وَأَنا أسميهما، وَلَا أكتم شَيْئا مِنْهُمَا، وَأخرج لَهُ عَنْهُمَا، ليهب لي روحي. قَالَ: فطال الْخطاب بَيْننَا، فَلَمَّا قَامَ فِي نَفسه صدقي، فكر طَويلا. ثمَّ قَالَ: يَا سَيِّدي، هَذَا رجل أعجمي، وَعِنْده أَن وَرَاءَك أَضْعَاف هَذَا المَال، وَأَن فِيك من الْفضل مَا يصلح لقلب دولته عَلَيْهِ، وَأَنت، وَالله، مَعَه فِي طَرِيق الْقَتْل، إِلَّا أَن يَكْفِيك الله عز وَجل، وَوَاللَّه، مَا أحب أَن يجْرِي مثل هَذَا

على يَدي، وَلَا فِي أيامي، فيلزمني عاره إِلَى الْأَبَد، وأجسره على قتل كِتَابه، فدبر خلاصك. فتحيرت، ثمَّ سكنت، وَقلت لَهُ: تُعْطِينِي مِيثَاقك، وتحلف لي أَن سرك فِي محبَّة خلاصي كعلانيتك، حَتَّى أَقُول لَك مَا عِنْدِي؟ فَفعل. فَحَلَفت لَهُ أَنِّي قد صدقته، وأنني لَا أمتنع مِمَّا يجريه عَليّ من بعد هَذَا الْيَمين، وَلَو شَاءَ مني أَن أفتح دواتي، وأكتب بَين يَدَيْهِ. وَقلت لَهُ: أَنْت وقتك مقبل، ووقتي مُدبر، وَأَنت فارغ الْقلب، وَأَنا ذاهل بالمحنة، فدبر أَمْرِي الْآن كَيفَ شِئْت، فَإِنَّهُ ينفتح لَك بِهَاتَيْنِ الخلتين، مَا قد استبهم عَليّ. قَالَ: ففكر، ثمَّ قَالَ: أَنا إِن آيست هَذَا الرجل من مَالك، لم آمنهُ على دمك، وَإِن أطمعته فِي مَالك، وَلَيْسَ لَك مَا تعلله بِهِ، أدَّت بك الْمُطَالبَة إِلَى التّلف، وَلَكِن الصَّوَاب عِنْدِي أَن أطمعه فِي ضيعتك، وأصف لَهُ جلالتها فأشتريها لَهُ مِنْك، وَأَقُول لَهُ: إِن ضيَاع السوَاد الخراجية، قد أجمع شُيُوخ الْكتاب بالحضرة، قَدِيما وحديثًا، على أَن كل مَا كَانَ مِنْهُ غَلَّته دِرْهَم، فَقيمته أَرْبَعَة دَرَاهِم، وَأَبُو جَعْفَر يَقُول: إِن غلَّة الضَّيْعَة، بعد الْخراج، خَمْسَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار، وَإنَّهُ يضمنهَا بذلك، حَاصِلا، خَالِصا، بعد الْخراج والمؤن، وَيُقِيم بذلك كفلاء، فاشترها مِنْهُ بِمِائَتي ألف دِينَار كملًا، وَيحصل لعقبك ملك جليل، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُؤَدِّي بَاقِي المصادرة الأولى، وَتصير ضَامِنا للضيعة، فأدفعها إِلَيْك، وَمن سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج، وَأَنا أحتال بحيلة فِي أَن

يكون الْكتاب عِنْدِي، فَلَا أسلمه إِلَيْهِ، فَلَعَلَّ حَادِثَة تحدث، وَترجع إِلَيْك ضيعتك، وَتَكون بالعاجل قد تخلصت، وَسلم دمك أَربع سِنِين. قَالَ: فَعلمت أَنه قد نصحني، وآثر خلاصي، وأجبت. فَدخل إِلَى بجكم، وَلم يزل مَعَه فِي محادثات، إِلَى أَن تقرر الْأَمر على مَا قاولني عَلَيْهِ، وأحضر الشُّهُود، وَكتب عَليّ الْكتاب بالابتياع، وَالْكتاب بِالْإِجَارَة. وَقَالَ لي: ألوجه أَن تقيم كفلاء بِبَقِيَّة المصادرة الأولى، فقد استأذنته فِي صرفك إِلَى مَنْزِلك، وَإِذا انصرفت، فانضم، وَلَا يراك أحد، وَكن متحذرًا، وَلَا تظهر أَنَّك مستتر، فتغريه بك. قَالَ: فشكرته، وأقمت الكفلاء بِالْمَالِ، إِلَى أَيَّام مَعْلُومَة، فصرفني. فعدت إِلَى دَاري، وَكنت متحذرًا، أَجْلِس فِي كل يَوْم، فَيدْخل إِلَيّ بعض النَّاس، بِمِقْدَار مَا يعلم أَنِّي بداري، فَإِذا كَانَ نصف النَّهَار، خرجت إِلَى منَازِل إخْوَانِي، وأقمت يَوْمًا عِنْد هَذَا، وَيَوْما عِنْد الآخر، وراعيت أَخْبَار دَاري، أتوقع أَن يجيئها من يكبسها، فَأَكُون بِحَيْثُ لَا يعرف خبري، فأنجو. فطال ذَلِك، والسلامة مستمرة، وَانْحَدَرَ بجكم إِلَى وَاسِط، فأنست بِالْجُلُوسِ والاستقرار فِي دَاري. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام، ضَاقَ صَدْرِي ضيقا لَا أعرف سَببه، وَاسْتَوْحَشْت، وفكرت فِي أَمْرِي، وَقلت: إِن كبست على غَفلَة، فَمَاذَا أصنع؟ قَالَ: وَكَانَ لداري أَرْبَعَة عشر بَابا، إِلَى أَرْبَعَة عشر سكَّة، وشارعًا، وزقاقًا نَافِذا، وَمِنْهَا عدَّة أَبْوَاب لَا يعرف جِيرَانهَا أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى دَاري، وأكثرها عَلَيْهِ الْأَبْوَاب الْحَدِيد.

قَالَ: فتراءى لي، أَن أرْسلت إِلَى غلماني الْمُقَاتلَة، وَكَانُوا مُتَفَرّقين عني، قد صرفتهم لِئَلَّا يصير لي حَدِيث، فجاءوني، وَاجْتمعَ مِنْهُم، وَمن أَوْلَادهم، نَحْو ثلث مائَة غُلَام. فَقلت لَهُم: إِذا كَانَ اللَّيْلَة فاحضروا جَمِيعًا بسلاحكم، وبيتوا عِنْدِي لَيْلًا، وَأقِيمُوا نَهَارا، إِلَى أَن أدبر أَمْرِي. قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِك، وفرقتهم فِي الْحجر المقاربة للمجلس الَّذِي كنت أَجْلِس فِيهِ، وَقلت: إِن كبست، فشاغلوا عني من يطلبني، لأنجو. قَالَ: وَكنت أدبر كَيفَ أعمل فِي قلب الدولة، أَو استصلاح بجكم، فَلم يَقع لي الرَّأْي، وَلَا أجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا. وَكنت أوصيت بوابي، أَن يغلق بَابي الْمَعْلُوم للنَّاس، وَلَا يَفْتَحهُ لأحد من خلق الله، إِلَّا بأَمْري. وأجلست غُلَاما كَانَ يحجبني فِي أَيَّام الدولة، وَمَعَهُ عشرُون غُلَاما بسلاح خلف الْبَاب، وأمرته أَن لَا يفتح لأحد. فَمَا مضى لهَذَا إِلَّا يَوْمَانِ أَو ثَلَاثَة، حَتَّى جَاءَنِي حاجبي، وَقَالَ: قد دق الْبَاب. فَقلت: من الطارق؟ فَقَالَ: أَنا غُلَام مُحَمَّد بن ينَال الترجمان، وَهُوَ وَأَبُو بكر النَّقِيب بِالْبَابِ، يستأذنان على سيدنَا بِالدُّخُولِ.

فَقلت فِي نَفسِي: بلية وَالله. وَأمرت الغلمان، فَاجْتمعُوا بأسرهم، متسلحين، فِي بَيت لَهُ قبَّة كَبِيرَة، كنت جَالِسا فِي أحد أروقته، وأمرتهم أَن لَا ينبسوا بِكَلِمَة. وَقلت للحاجب: اصْعَدْ إِلَى السَّطْح، فَانْظُر مَا ترى، وَأَخْبرنِي بِهِ، فَفعل. وَعَاد، فَقَالَ: رَأَيْت الشَّارِع مملوءًا بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال، وَقد أحاطوا بِالدَّار من جنبات كَثِيرَة، وَلما رأوني أراقبهم تنحيت. فصاح بِي الترجمان، قَائِلا: كلمني، وَمَا عَلَيْك بَأْس. فأخرجت رَأْسِي، فَقَالَ: وَيحك، مَا جِئْنَا لمكروه، وَمَا جِئْنَا إِلَّا لبشارة، فَعرف سيدنَا بذلك. فَقلت: لَيْسَ هُوَ فِي الدَّار، وَلَكِن أراسله، ثمَّ أخبر الْأَمِير أيده الله، فِي غَد، برَسُول إِلَى دَاره. فَقَالَ: أَنا هَاهُنَا وَاقِف سَاعَة، إِلَى أَن يرى رَأْيه. ففكرت، وَقلت: هَذِه حِيلَة للقبض عَليّ، لَا شكّ فِي ذَلِك. ثمَّ رجعت، فَقلت: يجوز أَن يكون بجكم، قد تغير على الْكُوفِي، وَلَا يجد لخدمته غَيْرِي، واعترضني الطمع، وَكَاد أَن يفْسد رَأْيِي. ثمَّ قلت للغلمان: إِن قلت لكم اخْرُجُوا، فضعوا على أبي بكر النَّقِيب، والترجمان أَيْدِيكُم، فاخرجوا وخذوا رأسيهما، وَلَا تستأذنوا الْبَتَّةَ، فَأَجَابُوا. فَقلت: احْذَرُوا أَن تخالفوا فَأهْلك. فَقَالُوا: نعم. ثمَّ قلت للحاجب: اطلع السَّطْح، وَقل لَهُ: إِنِّي على حَال من اختلال الْفرش وَالْكِسْوَة، لَا أحب مَعَه دُخُول أحد إِلَيّ، فَإِن رضيت أَن تدخل أَنْت وَأَبُو بكر النَّقِيب فَقَط، وَإِلَّا فَأَنا أصلح أَمْرِي وأجيء إِلَى دَارك اللَّيْلَة.

قَالَ: فَعَاد الْغُلَام، وَقَالَ: كَلمته، فَقَالَ: رَضِينَا بذلك. فَقلت: يَا فلَان، اخْرُج، وَاحْذَرْ أَن يفتح الْبَاب كُله فَتدخل الْجَمَاعَة، وَأرى أَن تَقول لَهُ، أَن يتباعد عَن الْبَاب إِلَى الشَّارِع قَلِيلا، وَينزل، ويقصده هُوَ وَأَبُو بكر النَّقِيب فَقَط، وَاجعَل فِي الدهليز نفسين يمسكان الْبَاب من نقاوة الغلمان. فَقَالَ: نعم. ثمَّ قُمْت بنفسي، فأغلقت بَاب حَدِيد كَانَ بَين صحن الدَّار والدهليز، وَجعلت خَلفه جمَاعَة غلْمَان بِالسِّلَاحِ. وَقلت: قل لَهما أَن يدخلا، وَافْتَحْ من الْبَاب الَّذِي على الشَّارِع قَلِيلا فَإِن ازْدحم النَّاس، وتكاثروا، فَهِيَ حِيلَة، فَدَعْهُمْ يدْخلُونَ، وَصَحَّ: مَا هَذَا؟ فَأعْلم أَنَّهَا حِيلَة، فَأخْرج من بعض الْأَبْوَاب، أما هم فيفضون إِلَى هَذَا الْبَاب، وَهُوَ مقفل، ووراءه الغلمان. وَإِن حضرا وحيدين، فَقل لَهما: الشَّرْط أَن أقفل الْبَاب من وَرَاء ظهريكما بَيْنكُمَا وَبَين أصحابكما، ثمَّ افْتَحْ الْبَاب الَّذِي يَلِي الشَّارِع، حَتَّى يدخلَانِ، ثمَّ اقفله، وارم مفاتيحه من تَحت الْبَاب الثَّانِي إِلَيْنَا إِلَى الصحن، ودق هَذَا الْبَاب، فَإِنِّي وَاقِف وَرَاءه، لأتقدم بفتحه، فيدخلان. فَفعل الْحَاجِب ذَلِك، وَحصل أَبُو بكر النَّقِيب والترجمان فِي الدهليز وحيدين. فَلَمَّا سَمِعت صَوت قفل الْبَاب الْخَارِجِي، وَأَنا عِنْد الْبَاب الداخلي، ودق الْحَاجِب الْبَاب الثَّانِي، وَرمى بالمفتاح، عدت إِلَى مجلسي، فَجَلَست فِيهِ، ونحيت من كنت أقمته وَرَاء الْبَاب الثَّانِي بِالسِّلَاحِ، وأعدت عَلَيْهِم الْوَصِيَّة بِقَتْلِهِمَا إِن صحت: يَا غلْمَان اخْرُجُوا.

ثمَّ تقدّمت إِلَى غُلَام لي كَانَ وَاقِفًا بِلَا سلَاح، أَن يفتح الْبَاب، ويدخلهما، فَفعل ذَلِك. وألقيت نَفسِي على الْفراش كَأَنِّي عليل، ودخلا، فَلم أوفهما الْحق، وأخفيت كَلَامي، كَمَا يفعل العليل. فَقَالَا: أيش خبرك؟ فَقلت: أَنا مُنْذُ أَيَّام عليل، وارتعت بحضوركما. فَأخذ الترجمان يحلف أَنه مَا حضر إِلَّا ليردني إِلَى منزلتي، واستكتابي لبجكم، فشكرته على ذَلِك. وَقلت: أَنا تائب من التَّصَرُّف، وَلَا أصلح لَهُ. فَقَالَ: قد أَمرنِي الْأَمِير بمخاطبتك فِي الْخُرُوج إِلَيْهِ، إِلَى وَاسِط، لتقرير هَذَا الْأَمر، وَلَا يجوز أَن أكتب إِلَيْهِ بِمثل هَذَا عَنْك، وَلَكِن إِذا كنت زاهدًا فِي الْحَقِيقَة، فَاخْرُج إِلَيْهِ، وأحدث بخدمته عهدا، واستعفه، فَإِنَّهُ لَا يجبرك. فَقلت: هَل كاتبني بِشَيْء توصله إِلَيّ. فَقَالَ: لَا، وَلكنه اقْتصر على مَا كتب بِهِ إِلَيّ، لعلمه بمودتي لَك، وَلِئَلَّا يفشو الْخَبَر. فَقلت: تقفني على كِتَابه إِلَيْك. فَقَالَ: لم أحملهُ معي. فَعلمت أَنه قد كُوتِبَ بِالْقَبْضِ عَليّ، وَأَنه يتَوَصَّل بالحيلة لتحصيلي. فَقلت: أَنا عليل كَمَا ترى، وَلَا فضل فِي للسَّفر، وَلَكِن تجيب الْأَمِير أَطَالَ الله بَقَاءَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، وَأَنِّي أخرج بعد أُسْبُوع، إِذا استقللت قَلِيلا. فَقَالَ: يقبح هَذَا، وَالْوَجْه أَن تخرج. فَقلت: لَا أقدر.

فراجعني، وراجعته، إِلَى أَن قَالَ: لَا بُد من خُرُوجك. فَقلت: إِنِّي لَا أخرج. فَقَالَ: تخرج طَائِعا أَو كَارِهًا. فَجَلَست، وَظهر فِي أثر الاحتداد مَعَ الْقُدْرَة، وَقلت: إِنِّي لَا أخرج، وَلَا كَرَامَة لَك، فاجهد جهدك، وَذَهَبت لأصيح بالغلمان. وَكَانَ أَبُو بكر النَّقِيب خبيثًا، فَقَالَ: أسأَل سيدنَا بِاللَّه الْعَظِيم أَن لَا يتَكَلَّم بِحرف، ويدعني وَهَذَا الْأَمر. ثمَّ أَخذ بيد الترجمان وقاما إِلَى نَاحيَة فِي الْمجْلس بعيدَة، لَا أسمع مَا يجْرِي بَينهمَا، فأطالا السرَار، ثمَّ جَاءَا إِلَيّ. فَأخذ أَبُو بكر يعْتَذر إِلَيّ مِمَّا جرى، ويخاطبني باللين، وَيَقُول: فَبعد كم يخرج سيدنَا؟ حَتَّى نقتنع بوعده، وننصرف. فَقلت: بعد عشرَة أَيَّام. فَقَالَ: قد رَضِينَا. فَأخذ الترجمان ينزق عَليّ فِي الْكَلَام، وَأَبُو بكر يغمزه، ويرفق بِهِ. فَلَمَّا بلغا إِلَى قريب من الدهليز، رَجَعَ أَبُو بكر، وجر الترجمان، مَعَه وَقَالَ: هَذَا لَيْسَ يعرفك حق معرفتك، وَعِنْده أَنه يقدر يَسْتَوْفِي عَلَيْك الْحجَّة، فبالله إِلَّا مَا عَرفته مَا كَانَ فِي نَفسك أَن تعمله بِنَا، لَو اسْتَوْفَيْنَا عَلَيْك الْمُطَالبَة، لِئَلَّا أقع فِي مَكْرُوه مَعَه وَمَعَ الْأَمِير. فَقلت فِي نَفسِي: أَنا أُرِيد الْهَرَب السَّاعَة، فَمَا معنى مساترتي لَهما مَا أردْت أَن أَفعلهُ، وَلم لَا أظهره ليَكُون أهيب فِي نفوسهما؟ فَقلت للغلام الَّذِي كَانَ وَاقِفًا على رَأْسِي بِلَا سلَاح: امْضِ إِلَى أَصْحَابنَا،

وَقل لَهُم أَن يخرجُوا، وَلَا يعملوا مَا كنت قلت لَهُم. فَمضى الْغُلَام، وَفتح الْبَاب عَلَيْهِم، وَقَالَ: اخْرُجُوا، وَلَا تحدثُوا على الْقَوْم حَادِثَة، فَخرج الْقَوْم بِالسِّلَاحِ. فَقلت: هَؤُلَاءِ أعددتهم لدفعكما عَن نَفسِي، إِن رمتما قسري على مَا لَا أوثره. قَالَ: فَمَاتَ الترجمان فِي جلده، واصفر وتحير. فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: أَنْت تظن أَنَّك بِالْجَبَلِ، وَلَيْسَ تعلم بَين يَدي من أَنْت الْآن؟ عرفت أَن الرَّأْي كَانَ فِي يَدي، لَا فِي يدك؟ وَالله، لَو زِدْت فِي الْمَعْنى، لخرج هَؤُلَاءِ فَأخذُوا رَأسك ورأسي. فَقلت: معَاذ الله، وَلَكِن كَانُوا يمنعوكما من أذاي. ثمَّ قلت للغلمان: كونُوا مَعَهُمَا، إِلَى أَن يخرجَا، وتغلقوا الْأَبْوَاب خلفهمَا، فَفَعَلُوا. وَقمت فِي الْحَال فَلبِست خفًا وإزارًا على صُورَة النِّسَاء، واستصحبت جمَاعَة من عَجَائِز دَاري، وَخرجت مَعَهُنَّ من بَاب من تِلْكَ الْأَبْوَاب الْخفية، متحيرًا، لَا أَدْرِي أَيْن أقصد. فقصدت عدَّة مَوَاضِع، كلما قصدت موضعا، علمت أَنه لَا يحملني، فأتجاوزه، إِلَى أَن كدني الْمَشْي، وَقربت من الرصافة، فَعَن لي أَن أقصد خَالَة المقتدر، وأطرح نَفسِي عَلَيْهَا. فصرفت جَمِيع من كَانَ معي، إِلَّا وَاحِدَة، وقصدت دَار الْخَالَة، وَدخلت دهليزها.

فَقَامَ إِلَيّ الْخَادِم، وَقَالَ: من أَقُول؟ فَقَالَت الْعَجُوز: امْرَأَة لَا تحب أَن تسمي نَفسهَا، فَدخل وَإِذا بالخالة قد خرجت إِلَى الدهليز. فَقَالَت لَهَا الامرأة: يَا ستي، تأمرين الْخَادِم بالانصراف، فَأَمَرته، فَانْصَرف. فَكشفت وَجْهي، وَقلت: يَا ستي، الله، الله فِي دمي، اشتريني، فَقَالَت: يَا أَبَا جَعْفَر، مَا الْخَبَر؟ فَقلت: أدخليني، أحَدثك. فَقَالَت: كن مَكَانك، فَإِنِّي قد علمت أَنَّك مَا جئتني إِلَّا مستترًا. ثمَّ دخلت، فأبطأت، حَتَّى قلت: قد كرهت دخولي، وستخرج إِلَيّ من يصرفني، وتعتذر، وهممت بالانصراف. وَإِذا بهَا قد خرجت، ثمَّ قَالَت: أرعبتك بالانتظار، وَمَا كَانَ ذَلِك إِلَّا عَن احْتِيَاط لَك، فَادْخُلْ. فَدخلت فَإِذا دارها الأولى، على عظمها، فارغة، مَا فِيهَا أحد. فسلكت بِي، وبالمرأة الْعَجُوز، إِلَى مَوضِع من الدَّار، فَدخلت إِلَى حجرَة، فأقفلتها بِيَدِهَا، ومشت بَين أَيْدِينَا، حَتَّى انْتَهَت بِنَا إِلَى سرداب، فأنزلتنا فِيهِ، ومشينا فِيهِ طَويلا، وَهِي بَين أَيْدِينَا، حَتَّى صعدت مِنْهُ إِلَى دَرَجَة طَوِيلَة، أفضت بِنَا إِلَى دَار فِي نِهَايَة الْحسن والسرو، وفيهَا من الْفرش، والآلات، كل شَيْء حسن. وَقَالَت: إِنَّمَا احْتبست عَنْك، حَتَّى أصلحت لَك هَذِه الدَّار، وأخليت الأولى، حَتَّى لَا يراك الَّذين كَانُوا فِيهَا، فَيعرف خبرك، فعرفني قصتك. فَذَكرتهَا لَهَا، من أَولهَا إِلَى آخرهَا. فَقَالَت: اجْلِسْ هَاهُنَا مَا شِئْت، فوَاللَّه، إِنَّك تسرني بذلك، فاحفظ

نَفسك من أَن ينتشر خبرك من جهتك، فَلَيْسَ معي من جهتي من يدْخل عَلَيْك أَو يخرج مِنْك، فتهلك نَفسك، وتهلكني، فَإنَّك تعلم أَن هَذَا الرجل ظَالِم جَاهِل، لَا يعرف حق مثلي. فَقلت: مَا معي غير هَذِه الْعَجُوز، وَلست أدعها تخرج. فَقَالَت: هَذَا هُوَ الصَّوَاب. فأقمت عِنْدهَا مُدَّة، فَكَانَت تجيئني كل يَوْم، وتعرفني أَخْبَار الدُّنْيَا، وتحادثني سَاعَة، وتنصرف، وَتحمل إِلَيّ كل شَيْء فاخر، من الْمَأْكُول، والمشروب، والبخور، وَأَخْدَم بِمَا لم أخدم بِمثلِهِ فِي أَيَّام دَوْلَتِي. فَلَمَّا كَانَ فِي غَدَاة يَوْم بعد حصولي عِنْدهَا، قَالَت: يَا أَبَا جَعْفَر، أَنْت وَحدك، وَلَيْسَ يصلح أَن يخدمك كل أحد، وَقد حملت إِلَيْك هَذِه الْجَارِيَة، وأومأت إِلَى وصيفة كَانَت مَعهَا، فِي نِهَايَة الْحسن وَالْجمال، فاستخدمها، وَإِنَّهَا تَقول مقَام فراشة، وَقد أَهْدَيْتهَا لَك، وَإِن احتجت إِلَى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الرِّجَال، صلحت لذَلِك أَيْضا. فَقبلت ذَلِك، وشكرتها، ودعوت لَهَا. وتأملت الْجَارِيَة، فَإِذا هِيَ تغني أحسن غناء وأطيبه، فَكَانَ عيشي مَعهَا أطيب من عيشي أَيَّام الدولة. وَمضى على استتاري نَحْو شَهْرَيْن، لَا يخرج من عِنْدِي أحد، وَلَا يدْخل إِلَيّ غير الْجَارِيَة. فَقلت لَهَا يَوْمًا: قد تطلعت نَفسِي إِلَى معرفَة الْأَخْبَار، وإنفاذ هَذِه الْعَجُوز إِلَى من تتعرف ذَلِك مِنْهُ. فَقَالَت: افْعَل، واحتفظ جهدك. فَكتبت مَعَ الْعَجُوز كتابا إِلَى وَكيل لي أَثِق بِهِ، آمره أَن يتعرف لي الْأَخْبَار،

وَيكْتب إِلَيّ بهَا مَعَ الْعَجُوز. ورسمت لَهُ أَن ينفذ طيورًا مَعَ غُلَام أسميته لَهُ وَكنت بِهِ واثقًا من دون سَائِر غلماني، ويأمره بالْمقَام بواسط، وَالْمُكَاتبَة على الطُّيُور فِي كل يَوْم بالأخبار، وَأَن يكْتب عني إِلَى جمَاعَة بواسط، كنت أَثِق بهم، بِأَن يمدوا الْغُلَام بالأخبار. ورسمت للعجوز أَن لَا تعرف الْوَكِيل موضعي، لِئَلَّا يظْهر شَيْء من الْأَمر، وَيَقَع الْوَكِيل، وَيُطَالب بِي، فَيدل عَليّ. فَعَاد الْجَواب إِلَيّ، بِمَا عِنْده من الْأَخْبَار، وَأَنه لَا يَنْقَضِي يَوْمه، حَتَّى ينفذ الْغُلَام والطيور. فأمهلته عشرَة أَيَّام، ثمَّ رددت الْعَجُوز، فأنفذ لي على يَدهَا، كتبا وَردت على الطُّيُور، فقرأتها، وَمضى على ذَلِك مُدَّة. فَأَصْبَحت يَوْمًا وَأَنا على نِهَايَة النشاط، وَالسُّرُور، والانبساط، من غير سَبَب أعرفهُ، فَقلت للعجوز: امْضِي إِلَى فلَان، واعرفي هَل ورد عَلَيْهِ كتاب من وَاسِط؟ فمضت الْعَجُوز إِلَى الْوَكِيل، فَهِيَ عِنْده، إِذْ سقط عَلَيْهِ طَائِر بِكِتَاب، فَحله، وَسلمهُ إِلَيْهَا، من غير أَن يقف عَلَيْهِ. فجاءتني بِهِ، فَإِذا هُوَ من الْغُلَام الْمُرَتّب بواسط، بتاريخ يَوْمه، وَأَكْثَره رطب، كتب فِي الْحَال يذكر فِيهِ وُرُود الْأَخْبَار إِلَى وَاسِط، بقتل الأكراد لبجكم، وَأَن النَّاس قد اختلطوا وماجوا.

فَقبلت الأَرْض شكرا لله عز وَجل، وكتبت فِي الْحَال إِلَى الْكُوفِي رقْعَة أشكره فِيهَا على جميله، وأعرفه أَنِّي مَا طويت خبري عَنهُ إِلَى الْآن، إِلَّا إشفاقًا عَلَيْهِ من أَن يسْأَل عني، فَيكون مَتى حلف أَنه لَا يعرف خبري، صَادِقا، وَأَن أقل حُقُوق مَا عاملني بِهِ، أَن أعرفهُ مَا يجب أَن يتحرز مِنْهُ، وَذكرت لَهُ مَا ورد من الْخَبَر، وأشرت عَلَيْهِ بالاستتار. وأنفذت رقعتي إِلَيْهِ بذلك، طي رقعتي إِلَى الْوَكِيل، وأمرته أَن يمْضِي بهَا فِي الْوَقْت إِلَيْهِ. وَقلت للعجوز: إِذا مضى الْوَكِيل فارجعي أَنْت، وَلَا تقعدي فِي دَار الْوَكِيل. فَعَادَت، وعرفتني أَن الْوَكِيل توجه إِلَى الْكُوفِي. فَلَمَّا كَانَ بَين العشاءين من ذَلِك الْيَوْم رَددتهَا إِلَى الْوَكِيل، وَقلت لَهَا: اطرقي بَابه، فَإِن كَانَ فِي بَيته، على حَال سَلامَة فادخلي، وَإِن بَان لَك أَنه معتقل، أَو أَن دَاره مُوكل بهَا، فانصرفي وَلَا تدخلي. فَعَادَت إِلَيّ برقعة الْوَكِيل، وطيها رقْعَة من أبي عبد الله الْكُوفِي. وَفِي رقْعَة الْوَكِيل: إِنَّه حِين أوصل الرقعة إِلَى الْكُوفِي، بَان لَهُ فِي وَجهه الِاضْطِرَاب، وَإنَّهُ مَا صلى الْعَصْر فِي ذَلِك الْيَوْم، حَتَّى امْتَلَأَ الْبَلَد بِأَن الْكُوفِي قد استتر، وَأَن بجكم قد حدثت بِهِ حَادِثَة لَا نَدْرِي مَا هِيَ، وَقد عدت بعد الْعَصْر إِلَى دَار الْكُوفِي، فَوَجَدتهَا مغلقة، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أحد، وَإِنِّي قد أنفذت جَوَاب الْكُوفِي طي رقعتي. وقرأت رقْعَة الْكُوفِي، فَإِذا هُوَ يشكرني، وَيَقُول: قد علمت أَن مثلك يَا سَيِّدي لَا يفتعل مثل هَذَا الْخَبَر، وَلَا يضيع مروءته، وَأَن مثله يجوز أَن يكون صَحِيحا، وَقد تشاغل الَّذين مَعَ الْأَمِير بالهرب، عَن أَن يكتبوا لي بالحادث، وَكتب بِهِ من رتبته أَنْت، كَمَا ذكرت فِي رقعتك، فَأوجب الرَّأْي أَن أستظهر لنَفْسي، فَإِن كَانَ الْخَبَر صَحِيحا، وَهُوَ عِنْدِي صَحِيح، فَالرَّأْي معي، وَإِن

كَانَ بَاطِلا، فَلَا يضرني ذَلِك عِنْد صَاحِبي إِن كَانَ حَيا، لِأَنَّهُ يتصورني جَبَانًا لَا غير، فَيكون أسلم فِي العاجل. وَقد أنفذت إِلَيْك، يَا سَيِّدي، طي رقعتي هَذِه، الْكِتَابَيْنِ اللَّذين كتبتهما عَلَيْك فِي ضيعتك بالابتياع وَالْإِجَارَة، ابْتِغَاء إتْمَام مودتك، ولتعلم صدقي فِيمَا كنت توسطته، ونصحي فِيمَا عاملتك بِهِ، فَإِن كَانَ موت الرجل صَحِيحا، فقد رجعت إِلَيْك ضيعتك، وَإِن كَانَ بَاطِلا فَإِنَّهُ لَا يسألني عَنْهُمَا، وَلَا يذكرهما، وَإِن ذكرهمَا جحدت أَنِّي تسلمتهما، وقضيت حَقك بذلك، وأعدت نِعْمَتك عَلَيْك. قَالَ: وَإِذا بالكتابين فِي طي الرقعة، فمزقتهما فِي الْحَال. ولبست من عِنْد الْخَالَة، خفًا، وإزارًا، بعد أَن عرفتها الصُّورَة، وَخرجت مَعَ الْعَجُوز، وَجئْت إِلَى دَاري فدخلتها من بعض أَبْوَابهَا الْخفية. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، قوي الْخَبَر بقتل بجكم، ففتحت بَابي، وَفرج الله عني المحنة. فَلَمَّا كَانَ الْعشَاء، أَتَانِي رَسُول الْخَالَة، وَمَعَهُ الْجَارِيَة، وَقَالَ: سيدتي تقرئك السَّلَام، وَتقول لَك: لم تدع جاريتك عندنَا؟ قَالَ: وَإِذا هِيَ قد حملت مَعهَا، كل مَا كَانَت قد أخدمتنيه من فرش، وَآله، وَغير ذَلِك، من أَشْيَاء كَثِيرَة جليلة الْمِقْدَار. وَقَالَت: هَذَا جهاز الْجَارِيَة، وَأحب أَن تقبله مني. فقبلته، ورددت الرَّسُول شاكرًا، وَقد من الله عَليّ بِالْعودِ إِلَى أحسن حَال.

تعذيب العمال المطالبين بضربهم بالمقارع ووضع الحجارة على أكتافهم

تَعْذِيب الْعمَّال المطالبين بضربهم بالمقارع وَوضع الْحِجَارَة على أكتافهم وَذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كِتَابه (كتاب الوزراء) ، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن عَليّ بن بَيَان، قرَابَة ابْن بسطَام، قَالَ: قَالَ لي سُلَيْمَان بن سهل البرقي، وَكَانَ أستاذ أبي الْعَبَّاس بن بسطَام. انصرفت من بعض الْأَعْمَال، فألفيت عمر بن فرج يتقلد الدِّيوَان، وَكَانَ فِي نَفسه عَليّ شَيْء، فأخفيت نَفسِي، وسترت أَصْحَابِي. فطلبني، وأذكى الْعُيُون عَليّ، فَلم يصلوا إِلَيّ، فَأمر أَن يعْمل لي مُؤَامَرَة تشْتَمل على ثَلَاث مائَة ألف. وَكَانَت بيني وَبَين نجاح بن سَلمَة مَوَدَّة، فَأَنا فِي عَشِيَّة من العشايا، فِي استتاري، إِذْ وَردت عَليّ رقْعَة نجاح يَأْمُرنِي بالمصير إِلَيْهِ. فَلَمَّا صرت إِلَيْهِ، قَالَ لي: صر إِلَى عمر بن فرج، وَسلم عَلَيْهِ، وعرفه أَنِّي قد بعثت بك إِلَيْهِ. قَالَ: فَقلت لَهُ: يَا سَيِّدي، انْظُر مَا تَقول، فَإِنَّهُ قد نذر دمي، فَكيف أمضي إِلَيْهِ هَكَذَا؟

فَقَالَ: نعم، اعْلَم أَنه قَالَ لي الْيَوْم، إِن فلسطين قد انغلقت علينا، وفسدت، مَعَ جلالتها، وَقد أكلهَا الْعمَّال، وَإنَّهُ فِي طلب من يَكْفِيهِ أمرهَا، ويحفظ مَالهَا، وَلَيْسَ يعرف من يُرْضِي كِفَايَته. فَقلت لَهُ: إِن أردْت الْكِفَايَة، فَهَذَا سُلَيْمَان بن سهل، وَفِيه من الْكِفَايَة وَالْإِخْلَاص وَالْجد، مَا لَا يشك فِيهِ، فَلم عطلته، وأخفته؟ فَقَالَ: كَيفَ لي بِهِ؟ فَقلت: تؤمنه، وتزيل مَا عَلَيْهِ من الْمُطَالبَة، وتقلده فلسطين، فَإِنَّهُ يَكْفِيك، ويوفر عَلَيْك، ويجملك فِيمَا يتَصَرَّف لَك فِيهِ، وَأَنا أبْعث بِهِ إِلَيْك. فَقَالَ: ابْعَثْ بِهِ إِلَيّ، وَهُوَ آمن. فصر إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يعرض لَك إِلَّا بِمَا تحب. فبكرت إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي ديوانه، فَلَمَّا دخلت صحن الدَّار، رَأَيْت الْعمَّال على أكتافهم الْحِجَارَة، والمقارع تأخذهم، فهالني مَا رَأَيْت.

فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ، سلمت عَلَيْهِ، وَقلت: إِنِّي كنت خَادِم أبي الْفضل، أَعنِي فرج الرخجي، وَأحد صنائعه. فَقَالَ: لَوْلَا مَا تمت بِهِ من هَذِه الْخدمَة، لَكُنْت أحد هَؤُلَاءِ الَّذين تراهم. ثمَّ رفع مُصَلَّاهُ، وَأخرج الْكتب بولايتي فلسطين، وَسلمهَا إِلَيّ، وَأَمرَنِي بكتمان أَمْرِي عَن النَّاس، والاستعداد للمسير. فَأخذت الْكتب، وشخصت إِلَى هُنَاكَ، فأرضيته، وقضيت حق نَفسِي.

الله يجزي سعيد الخير نائلة

الله يَجْزِي سعيد الْخَيْر نائلة حَدثنِي أَبُو الْفرج، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو دلف هِشَام بن مُحَمَّد بن هَارُون بن عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ، وَمُحَمّد بن الْحسن الْكِنْدِيّ، قَالَا: حَدثنَا الْخَلِيل بن أَسد، قَالَ: أَخْبرنِي الْعمريّ، عَن الْهَيْثَم بن عدي، عَن الْحسن بن عمَارَة، عَن الحكم بن عُيَيْنَة: أَن حَارِثَة بن بدر الغداني، كَانَ قد سعى فِي الأَرْض فَسَادًا، فَنَذر أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب سَلام الله عَلَيْهِ دَمه، فَاسْتَجَارَ بأشراف النَّاس، فَلم يجره أحد. فَقيل لَهُ: عَلَيْك بِسَعِيد بن قيس الْهَمدَانِي، فَلَعَلَّهُ أَن يجيرك.

فَطلب سعيدًا، فَلم يجده، فَجَلَسَ فِي طلبه، حَتَّى جَاءَ، فَأخذ بلجام دَابَّته، وَقَالَ: أجرني، أجارك الله. قَالَ: مَالك وَيحك؟ قَالَ: قد نذر أَمِير الْمُؤمنِينَ دمي. فَقَالَ: أقِم مَكَانك، وَانْصَرف إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَوَجَدَهُ قَائِما يخْطب على الْمِنْبَر. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله، ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا؟ قَالَ: أَن يقتلُوا، أَو يصلبوا، أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف، أَو ينفوا من الأَرْض. قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِلَّا من تَابَ. قَالَ: إِلَّا من تَابَ. قَالَ: فَهَذَا حَارِثَة بن بدر قد جَاءَنَا تَائِبًا، وَقد أجرته. قَالَ: أَنْت رجل من الْمُسلمين، وَقد أجرنا من أجرته. ثمَّ قَالَ وَهُوَ على الْمِنْبَر: أَيهَا النَّاس، إِنِّي كنت قد نذرت دم حَارِثَة بن بدر، فَمن لقِيه فَلَا يعرض لَهُ. فَانْصَرف إِلَيْهِ سعيد، فَأعلمهُ، وكساه، وَحمله، وَأَجَازَهُ، فَقَالَ فِيهِ حَارِثَة شعرًا: الله يَجْزِي سعيد الْخَيْر نائلة ... أَعنِي سعيد بن قيس قرم هَمدَان أنقذني من شفا غبراء مظلمةٍ ... لَوْلَا شَفَاعَته ألبست أكفاني قَالَت تَمِيم بن مرّ لَا تخاطبه ... وَقد أَبَت ذَلِكُم قيس بن عيلان قَالَ الْحسن بن الْهَيْثَم: لم يكن يروي الْحسن بن عمَارَة، من هَذَا الشّعْر، غير هَذِه الأبيات، فَأخذت الشّعْر كُله من حَمَّاد الراوية، وَقلت لَهُ: مِمَّن أَخَذته؟

فَقَالَ: من سماك بن حَرْب، وَهُوَ: أساغ فِي الْحلق ريقًا كنت أجرضه ... وَأظْهر الله سرّي بعد كتمان إنّي تداركني عفّ شمائله ... آباؤه حِين ينمي خير قحطان وَذكر بَقِيَّة الشّعْر والْحَدِيث، وَلم يكن مِمَّا يدْخل فِي كتابي هَذَا، فَلم أسقه.

فإن نلتني حجاج فاشتف جاهدا

فَإِن نلتني حجاج فاشتف جاهدًا وَأَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: أَخْبرنِي عمي الْحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ لي الكراني، عَن الْخَلِيل بن أَسد، عَن الْعمريّ، عَن عَطاء , عَن عَاصِم بن الْحدثَان، قَالَ: كَانَ ابْن نمير الثَّقَفِيّ، يشبب بِزَيْنَب بنت يُوسُف بن الحكم، وَكَانَ الْحجَّاج أَخُوهَا يتهدده، وَيَقُول: لَوْلَا أَن يَقُول قَائِل، لَقطعت لِسَانه. فهرب إِلَى الْيمن، ثمَّ ركب بَحر عدن، وَقَالَ فِي هربه: أَتَتْنِي عَن الحجّاج وَالْبَحْر بَيْننَا ... عقارب تسري والعيون هواجع فضقت بهَا ذرعًا وأجهشت خيفة ... وَلم آمن الحجّاج وَالْأَمر قَاطع وحلّ بِي الخطبُ الَّذِي جَاءَنِي بِهِ ... سميع فَلَيْسَتْ تستقرّ الأضالع فبتّ أدير الْأَمر والرأي لَيْلَتي ... وَقد أخضلت خدّي الدُّمُوع الهوامع

فَلم أر لي خيرا من الصَّبْر إنّه ... أعفّ وَأَحْرَى إِذْ عرتني الفواجع وَمَا أمنَتْ نَفسِي الَّذِي خفت شرّه ... وَلَا طَابَ لي مَا حبّبته الْمضَاجِع إِلَى أَن بدا لي رَأس إسبيل طالعًا ... وإسبيل حصن لم تنله الْأَصَابِع فلي عَن ثَقِيف إِن هَمَمْت بنجوةٍ ... مهامه تعفى بينهنّ الهجارع وَفِي الأَرْض ذَات الْعرض عَنْك ابْن يُوسُف ... إِذا شِئْت منأى لَا أَبَا لَك وَاسع فَإِن نلتني حجّاج فاشتف جاهدًا ... فإنّ الَّذِي لَا يحفظ الله ضائع قَالَ: فَطَلَبه الْحجَّاج، فَلم يقدر عَلَيْهِ، ثمَّ طَال على النميري مقَامه هَارِبا، واشتاق إِلَى وَطنه فجَاء حَتَّى وقف على رَأس الْحجَّاج. فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: يَا نميري، أَنْت الْقَائِل: فَإِن نلتني حجّاج فاشتف جاهدًا فَقَالَ: بل أَنا أَقُول: أَخَاف من الحجّاج مَا لست خَائفًا ... من الْأسد الْعِرْبَاض لم يثنه ذعر أَخَاف يَدَيْهِ أَن تنَال مفاصلي ... بأبيض عضبٍ لَيْسَ من دونه ستر وَأَنا الَّذِي أَقُول: فها أَنا قد طوّفت شرقًا ومغربًا ... وأبت وَقد دوّخت كلّ مَكَان فَلَو كَانَت العنقاء عَنْك تطير بِي ... لختلك إِلَّا أَن تصدّ تراني قَالَ: فَتَبَسَّمَ الْحجَّاج، وأمنه، وَقَالَ: لَا تعاود إِلَى مَا تعلم، وخلى سَبيله

أسود راجل رزقه عشرون درهما بز في كرمه معن بن زائدة الشيباني

أسود راجل رزقه عشرُون درهما بز فِي كرمه معن بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ أَخْبرنِي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْقرشِي، قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن نصر المهلبي، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن نعيم الْبَلْخِي، أَبُو يُونُس، قَالَ: حَدثنِي مَرْوَان بن أبي حَفْصَة، وَكَانَ لي صديقا، قَالَ: كَانَ الْمَنْصُور قد طلب معن بن زَائِدَة الشَّيْبَانِيّ طلبا شَدِيدا، وَجعل فِيهِ مَالا. فَحَدثني معن بِالْيمن، أَنه اضْطر لشدَّة الطّلب أَن قَامَ فِي الشَّمْس، حَتَّى لوحت وَجهه، وخفف من عارضيه ولحيته، وَلبس جُبَّة صوف غَلِيظَة، وَركب جملا من جمال النقالة، وَخرج عَلَيْهِ ليمضي إِلَى الْبَادِيَة، وَقد كَانَ أبلى فِي الْحَرْب بَين يَدي ابْن هُبَيْرَة بلَاء حسنا، فغاظ الْمَنْصُور، وجد فِي طلبه.

قَالَ معن: فَلَمَّا خرجت من بَاب حَرْب، تَبِعنِي أسود، مُتَقَلِّدًا سَيْفا، حَتَّى إِذا غبت عَن الحرس، قبض على خطام الْجمل، فأناخه، وَقبض عَليّ. فَقلت: مَالك؟ فَقَالَ: أَنْت طلبة أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقلت: وَمن أَنا حَتَّى يطلبني أَمِير الْمُؤمنِينَ. قَالَ: أَنْت معن بن زَائِدَة. فَقلت: يَا هَذَا اتَّقِ الله، وَأَيْنَ أَنا من معن بن زَائِدَة. فَقَالَ: دع عَنْك هَذَا، فَأَنا وَالله أعرف بك مِنْك. فَقلت لَهُ: فَإِن كَانَت الْقِصَّة كَمَا تَقول، فَهَذَا جَوْهَر حَملته معي بأضعاف مَا بذل الْمَنْصُور لمن جَاءَ بِي، فَخذه، وَلَا تسفك دمي. فَقَالَ: هاته، فَأَخْرَجته إِلَيْهِ. فَنظر إِلَيْهِ سَاعَة، وَقَالَ: صدقت فِي قِيمَته، وَلست قابله حَتَّى أَسأَلك عَن شَيْء، فَإِن صدقتني أطلقتك. فَقلت: قل. قَالَ: إِن النَّاس قد وصفوك بالجود، فَأَخْبرنِي هَل وهبت قطّ مَالك كُله؟ قلت: لَا. قَالَ: فنصفه؟ قلت: لَا. قَالَ: فثلثه؟

قلت: لَا، حَتَّى بلغ الْعشْر. فَاسْتَحْيَيْت، فَقلت: أَظن أَنِّي قد فعلت ذَلِك. قَالَ: مَا أَرَاك فعلته، وَأَنا وَالله راجل، ورزقي مَعَ أبي جَعْفَر عشرُون درهما، وَهَذَا الْجَوْهَر قِيمَته آلَاف دَنَانِير، وَقد وهبته لَك، ووهبتك لنَفسك، ولجودك الْمَأْثُور بَين النَّاس، ولتعلم أَن فِي الدُّنْيَا أَجود مِنْك فَلَا تعجبك نَفسك، ولتحقر بعْدهَا كل شَيْء تعمله، وَلَا تتَوَقَّف عَن مكرمَة، ثمَّ رمى العقد فِي حجري، وخلى خطام الْبَعِير، وَانْصَرف. فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، قد وَالله فضحتني، ولسفك دمي أَهْون عَليّ مِمَّا فعلته، فَخذ مَا دَفعته إِلَيْك، فَإِنِّي عَنهُ غَنِي. فَضَحِك، وَقَالَ: أردْت أَن تكذبني فِي مقالي هَذَا، وَالله لَا أَخَذته، وَلَا آخذ لمعروف ثمنا أبدا، وَتَرَكَنِي وَمضى. فوَاللَّه لقد طلبته بعد أَن أمنت، وضمنت لمن جَاءَنِي بِهِ مَا شَاءَ، فَمَا عرفت لَهُ خَبرا، وَكَأن الأَرْض ابتلعته.

سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة

سَبَب رضَا الْمَنْصُور عَن معن بن زَائِدَة قَالَ: وَكَانَ سَبَب رضَا الْمَنْصُور عَن معن بن زَائِدَة، أَنه لم يزل مستترًا، حَتَّى يَوْم الهاشمية، ووثب الْقَوْم على الْمَنْصُور وكادوا يقتلونه، فَوَثَبَ معن وَهُوَ متلثم، وانتضى سَيْفه، فقاتل، وأبلى بلَاء حسنا، وذب الْقَوْم عَنهُ، والمنصور رَاكب على بغلة ولجامها بيد الرّبيع. فَقَالَ لَهُ: تَنَح، فَإِنِّي أَحَق بِلِجَامِهَا فِي هَذَا الْوَقْت. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: صدق، ادفعه إِلَيْهِ، فَأَخذه، وَلم يزل يُقَاتل، حَتَّى انكشفت تِلْكَ الْحَال. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: من أَنْت لله أَبوك؟ فَقَالَ: أَنا طلبتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، معن بن زَائِدَة. فَقَالَ: قد أمنك الله على نَفسك وَمَالك، وَمثلك يصطنع، ثمَّ أَخذه مَعَه، وخلع عَلَيْهِ، وحباه، وقربه. ثمَّ دَعَا بِهِ يَوْمًا، فَقَالَ: إِنِّي قد أهلتك لأمر، فَانْظُر كَيفَ تكون فِيهِ؟ فَقَالَ: كَمَا تحب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فولاه الْيمن، وَتوجه إِلَيْهَا، فَبسط فيهم السَّيْف، حَتَّى اسْتَووا.

قَالَ مَرْوَان: وَقدم معن بن زَائِدَة بعقب ذَلِك على الْمَنْصُور، فَقَالَ لَهُ، بعد كَلَام طَوِيل: قد بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَنْك شَيْء، لَوْلَا مَكَانك عِنْده، ورأيه فِيك، لغضب عَلَيْك. فَقَالَ: وَمَا ذَاك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فوَاللَّه مَا تعرضت لسخطك، فَقَالَ: عطاءك مَرْوَان بن حَفْصَة، لقَوْله فِيك: معن بن زَائِدَة الَّذِي زيدت بِهِ ... شرفًا إِلَى شرف بَنو شَيبَان إِن عدّ أيّام الفعال فإنّما ... يوماه يَوْم ندى وَيَوْم طعان فَقَالَ: وَالله، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مَا أَعْطيته مَا بلغك، لهَذَا الشّعْر، وَلَكِن لقَوْله: مَا زلتَ يَوْم الهاشميّة مُعْلنا ... بِالسَّيْفِ دون خَليفَة الرَّحْمَن فمنعت حوزته وَكنت وقاءه ... من وَقع كلّ مهنّد وَسنَان قَالَ: فاستحيا الْمَنْصُور، وَقَالَ: إِنَّمَا أَعْطَيْت لمثل هَذَا القَوْل؟ فَقَالَ: نعم، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَوْلَا مَخَافَة الشنعة، لأمكنته من مَفَاتِيح بيُوت الْأَمْوَال، وأبحته إِيَّاهَا. فَقَالَ الْمَنْصُور: لله دَرك من أَعْرَابِي، مَا أَهْون عَلَيْك مَا يعز على النَّاس وَأهل الحزم.

قطن بن معاوية الغلابي يستسلم للمنصور

قطن بن مُعَاوِيَة الْغلابِي يستسلم للمنصور أَخْبرنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنَا عمر بن شبة، قَالَ: أَخْبرنِي أَيُّوب بن عمر بن أبي عُثْمَان، عَن أبي سَلمَة الْغِفَارِيّ، قَالَ: حَدثنَا قطن بن مُعَاوِيَة الْكلابِي، قَالَ: كنت مِمَّن سارع إِلَى إِبْرَاهِيم، فاجتهدت مَعَه، فَلَمَّا قتل، طلبني الْمَنْصُور، فاستخفيت مِنْهُ، فَقبض على أَمْوَالِي ودوري. وَلَحِقت بالبادية، فجاورت فِي بني نضر بن مُعَاوِيَة، وَبني كلاب، من بني فَزَارَة، ثمَّ بني سليم، ثمَّ تنقلت فِي بوادي قيس، أجاورهم. حَتَّى ضقت ذرعًا بالاستخفاء، فأزمعت الْقدوم على أبي جَعْفَر، وَالِاعْتِرَاف لَهُ، فَقدمت الْبَصْرَة، وَنزلت فِي طرف مِنْهَا. ثمَّ أرْسلت إِلَى أبي عَمْرو بن الْعَلَاء، وَكَانَ لي ودا، فشاورته فِي الْأَمر الَّذِي أزمعت عَلَيْهِ، فَلم يقبل رَأْيِي. وَقَالَ: إِذا يقتلك، وَأَنت الْمعِين على نَفسك. فَلم ألتفت إِلَيْهِ، وشخصت إِلَى بَغْدَاد، وَقد بنى أَبُو جَعْفَر مدينته، ونزلها،

وَلَيْسَ من النَّاس أحد يركب فِيهَا، مَا خلا الْمهْدي. فَنزلت خَانا، ثمَّ قلت لغلماني: إِنِّي ذَاهِب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، فأمهلوا ثَلَاثًا، فَإِن جِئتُكُمْ، وَإِلَّا فانصرفوا. ومضيت حَتَّى دخلت الْمَدِينَة، فَجئْت إِلَى دَار الرّبيع، وَالنَّاس ينتظرونه، وَهُوَ حِينَئِذٍ ينزل دَاخل الْمَدِينَة، فِي الدَّار الشارعة على قصر الذَّهَب. فَلم يلبث أَن خرج يمشي، وَقَامَ إِلَيْهِ النَّاس، وَقمت مَعَهم، فَسلمت عَلَيْهِ، فَرد عَليّ السَّلَام. وَقَالَ: من أَنْت؟ قلت: قطن بن مُعَاوِيَة. فَقَالَ: انْظُر مَا تَقول؟ فَقلت: أَنا هُوَ. قَالَ: فَأقبل على مسودة كَانُوا مَعَه، وَقَالَ: احتفظوا بِهِ. قَالَ: فَلَمَّا حرست، لحقتني الندامة، وَذكرت رَأْي أبي عَمْرو. وَدخل الرّبيع، فَلم يطلّ حَتَّى خرج خصي، فَأخذ بيَدي، فَأَدْخلنِي قصر الذَّهَب، ثمَّ أَتَى بِي إِلَى بَيت، فَأَدْخلنِي إِلَيْهِ، وأغلق الْبَاب عَليّ، وَانْطَلق. فاشتدت ندامتي، وأيقنت بالبلاء، وَأَقْبَلت على نَفسِي ألومها. فَلَمَّا كَانَ وَقت الظّهْر، أَتَانِي الْخصي بِمَاء، فَتَوَضَّأت، وَصليت، وأتاني بِطَعَام، فَأَخْبَرته بِأَنِّي صَائِم.

فَلَمَّا كَانَ وَقت الْمغرب، أَتَانِي بِمَاء، فَتَوَضَّأت، وَصليت، وأرخى عَليّ اللَّيْل سدوله، فأيست من الْحَيَاة، وَسمعت أَبْوَاب الْمَدِينَة تغلق، فَامْتنعَ عني النّوم. فَلَمَّا ذهب صدر من اللَّيْل، أَتَانِي الْخصي، فَفتح عني، وَمضى بِي، فَأَدْخلنِي صحن دَار، ثمَّ أدناني من ستور مسدولة. فَخرج علينا خَادِم، وأدخلنا، فَإِذا أَبُو جَعْفَر وَحده، وَالربيع قَائِم نَاحيَة. فأكب أَبُو جَعْفَر هنيهة، مطرقًا، ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ: هيه. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَنا قطن بن مُعَاوِيَة. فَقَالَ: وَالله لقد جهدت عَلَيْك جهدي، حَتَّى من الله عَليّ بك. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد وَالله جهدت عَلَيْك جهدي، وعصيت أَمرك، وواليت عَدوك، وحرصت على أَن أسلبك ملكك، فَإِن عَفَوْت فَأهل ذَلِك أَنْت، وَإِن عَاقَبت فبأصغر ذُنُوبِي تقتلني. قَالَ: فَسكت هنيهة، ثمَّ قَالَ: أعد، فَأَعَدْت مَقَالَتي. قَالَ: فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد عَفا عَنْك. قَالَ: فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي أصير وَرَاء بابك فَلَا أصل إِلَيْك، وضياعي ودوري مَقْبُوضَة، فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يردهَا عَليّ، فعل. قَالَ: فَدَعَا بِدَوَاةٍ، ثمَّ أَمر خَادِمًا لَهُ أَن يكْتب بإملائه، إِلَى عبد الْملك بن أَيُّوب النميري، وَهُوَ يَوْمئِذٍ على الْبَصْرَة: أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد رَضِي عَن قطن بن مُعَاوِيَة، وَقد رد عَلَيْهِ ضيَاعه ودوره وَجَمِيع مَا قبض عَلَيْهِ، فَاعْلَم ذَلِك وأنفذه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ: ثمَّ ختم الْكتاب، وَدفعه إِلَيّ، فَخرجت من سَاعَتِي، لَا أَدْرِي أَيْن

أذهب، فَإِذا الحرس بِالْبَابِ، فَجَلَست إِلَى جَانب أحدهم. فَلم ألبث أَن خرج الرّبيع، فَقَالَ: أَيْن الرجل الَّذِي خرج آنِفا؟ فَقُمْت إِلَيْهِ. فَقَالَ: انْطلق أَيهَا الرجل، فقد، وَالله، سلمت، ثمَّ انْطلق بِي إِلَى منزله، فعشاني، وفرش لي. فَلَمَّا أَصبَحت، ودعته، وأتيت غلماني فأرسلتهم يكترون لي. فَوجدت صديقا لي من الدهاقين، من أهل ميسَان، قد اكترى سميرية لنَفسِهِ، فَحَمَلَنِي مَعَه. فَقدمت على عبد الْملك بن أَيُّوب بِكِتَاب أبي جَعْفَر، فأقعدني عِنْده، فَلم أقِم حَتَّى رد عَليّ جَمِيع مَا اصطفي لي. وَأَخْبرنِي بِهَذَا الْخَبَر أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْأَنْبَارِي، الْمَعْرُوف بأبن

زنجي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي سعيد، قَالَ: حَدثنَا ابْن دُرَيْد، وَذكر بِإِسْنَادِهِ مثله.

المأمون يغضب على إبراهيم الصولي ثم يرضى عنه

الْمَأْمُون يغْضب على إِبْرَاهِيم الصولي ثمَّ يرضى عَنهُ أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي، فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته عَنهُ، بَعْدَمَا سمعته من حَدِيثه، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن سعيد الصُّوفِي، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن صَالح بن النطاح، قَالَ: لما عزم الْمَأْمُون على الفتك بِالْفَضْلِ بن سهل، وَندب إِلَيْهِ عبد الْعَزِيز بن عمرَان الطَّائِي، ومؤنسًا الْبَصْرِيّ، وَخلف الْمصْرِيّ، وَعلي بن أبي سعيد السلميتي، وسراج الْخَادِم، أنهِي الْخَبَر إِلَى الْفضل، فَعَاتَبَهُ عَلَيْهِ.

فَلَمَّا قتل الْفضل، قيل لِلْمَأْمُونِ: إِنَّه عرفه من جِهَة إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الصولي، فَطَلَبه، فاستتر. وَكَانَ إِبْرَاهِيم عرف هَذَا الْخَبَر من جِهَة عبد الْعَزِيز بن عمرَان، وَكَانَ الْفضل قد استكتب إِبْرَاهِيم لعبد الْعَزِيز، فَعلمه مِنْهُ، فَأخْبر الْفضل. وَتحمل إِبْرَاهِيم بِالنَّاسِ على الْمَأْمُون، وجرد فِي أمره هِشَام الْخَطِيب، الْمَعْرُوف بالعباسي، لِأَنَّهُ كَانَ جريئًا على الْمَأْمُون، وَلِأَنَّهُ رباه، وشخص إِلَى خُرَاسَان، فِي فتْنَة إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي، فَلم يجبهُ إِلَى مَا سَأَلَ. فَلَقِيَهُ إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس، مستترًا، وَسَأَلَهُ عَمَّا عمل فِي حَاجته؟ فَقَالَ لَهُ هِشَام: قد وَعَدَني فِي أَمرك بِمَا تحب. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: أَظن الْأَمر على خلاف هَذَا. قَالَ: لم؟ قَالَ: لِأَن محلك عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ أجل من أَن يعد مثلك شَيْئا ويؤخره، وَلَكِنَّك سَمِعت فِي مَا لَا تحب، فَكرِهت أَن تغمني بِهِ، فَقلت لي هَذَا القَوْل، فَأحْسن الله، على كل الْأَحْوَال، جزاءك. فَمضى هِشَام إِلَى الْمَأْمُون، فَعرفهُ خبر إِبْرَاهِيم فَعجب من فطنته، وَعَفا عَنهُ.

الأمير سيف الدولة يصفح عن أحد أتباعه ويعيد إليه نعمته

الْأَمِير سيف الدولة يصفح عَن أحد أَتْبَاعه وَيُعِيد إِلَيْهِ نعْمَته حَدثنِي عبد الله بن أَحْمد بن مَعْرُوف، أَبُو الْقَاسِم، قَالَ: كنت بِمصْر، وَكَانَ بهَا رجل يعرف بالناضري، من تناء حلب، قد قبض سيف الدولة على ضيعته، وصادره. فهرب مِنْهُ إِلَى كافور الإخشيدي، فَأجرى عَلَيْهِ جراية سابغة فِي كل شهر. وَكَانَ يجْرِي على جَمِيع من كَانَ يَقْصِدهُ، من الجرايات الَّتِي تسمى الرَّاتِب، وَكَانَ مَالا عَظِيما قدره فِي السّنة خمس مائَة ألف دِينَار، لأرباب النعم، وأجناس النَّاس، لَيْسَ لأحد من الْجَيْش، وَلَا من الْحَاشِيَة، وَلَا من المتصرفين فِي الْأَعْمَال، شَيْء مِنْهَا. قَالَ: فَجرى يَوْمًا ذكر هَذَا الناضري بِحَضْرَة كافور، وَقيل لَهُ بِأَنَّهُ بغاء، وَكَثُرت عَلَيْهِ الْأَقَاوِيل فِي ذَلِك، فَأمر بِقطع جرايته. فَرفع إِلَيْهِ قصَّة يشكو فِيهَا انْقِطَاع مادته، وَيسْأل التوقيع بإجرائه على رسمه.

فَأمر فَوَقع على ظهرهَا: قد صَحَّ عندنَا أَنَّك رجل تصرف مَا نجريه عَلَيْك فِيمَا يكره الله عز وَجل، من فَسَاد نَفسك، وَمَا نرى أَن نعينك على ذَلِك، فَالْحق بِحَيْثُ شِئْت، فَلَا خير لَك عندنَا بعْدهَا. قَالَ: فَخرج التوقيع إِلَى الرجل، فغمه ذَلِك، وَعمل محضرًا أَدخل فِيهِ خطّ خلق كثير مِمَّن يعرفهُ، أَنه مَسْتُور، وَمَا قرف قطّ ببغاء. وَكتب رقْعَة إِلَى كافور، يحلف فِيهَا بِالطَّلَاق وَالْعتاق والأيمان الغليظة، أَنه لَيْسَ ببغاء، وَاحْتج بالمحضر، وَجعل الرقعة طي الْمحْضر. وَقَالَ فِيهَا: إِنَّه لم يكن يدْفع إِلَيْهِ مَا يدْفع لأجل حفظه فرجه أَو هتكه، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَنَّهُ مُنْقَطع، وغريب، وهارب، ومفارق نعْمَة، وَإِن الله عز وَجل أقدر على قطع أرزاق مرتكبي الْمعاصِي، وَمَا فعل ذَلِك بهم، بل رزقهم، وأمهلهم، وَأمرهمْ بِالتَّوْبَةِ، وَإنَّهُ إِن كَانَ مَا قذف بِهِ صَحِيحا، فَهُوَ تائب إِلَى الله عز وَجل مِنْهُ، وَسَأَلَهُ رد رسمه إِلَيْهِ، وَرفع الْقِصَّة إِلَى كافور. قَالَ: فَمَا أَدْرِي إِلَى أَي شَيْء انْتهى أمره، إِلَّا أَنه صَار فضيحة وتحدث النَّاس بحَديثه. وَاتفقَ خروجي من مصر، عقيب ذَلِك، إِلَى حَضْرَة سيف الدولة، فَلَقِيته بحلب، وَجَرت أَحَادِيث المصريين، وَكَانَ يتشوق أَن يسمع حَدِيث صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ، وَيُعْجِبهُ أَن يذكر لَهُ.

قَالَ: فَقلت: من عَجِيب مَا جرى بهَا آنِفا، أَنه كَانَ بهَا رجل يُقَال لَهُ الناضري، وقصصت الْقِصَّة عَلَيْهِ. فَضَحِك من ذَلِك ضحكًا عَظِيما، وَقَالَ: هَذَا المشئوم بلغ إِلَى مصر؟ فَقلت: نعم. فَقَالَ لي مُحَمَّد الأسمر النديم: اعْلَم أَن هَذَا الرجل صديقي جدا، وَقد هلك، وافتقر، وَفَارق نعْمَته، فَأحب أَن تخاطب الْأَمِير فِي أمره، عقيب مَا جرى آنِفا، لأعاونك، فَلَعَلَّ الله عز وَجل أَن يفرج عَنهُ. فَقلت: أفعل. وَأخذ سيف الدولة يسألني عَن الْأَمر، فَأَعَدْت شَرحه، وَعَاد، فَضَحِك. فَقلت: أَطَالَ الله بَقَاء مولَايَ الْأَمِير، قد سررت بِهَذَا الحَدِيث، وَيجب أَن يكون لَهُ ثَمَرَة، إِمَّا لي، وَإِمَّا للرجل الَّذِي تركته فضيحة بحلب، بِمَا أخْبرت من قصَّته، زِيَادَة على فضيحته بِمصْر. فَقَالَ: إِمَّا لَك، فَنعم، وَإِمَّا لَهُ، فَلَا يسْتَحق، فَإِنَّهُ فعل وصنع، وَجعل يُطلق القَوْل فِيهِ. قَالَ: فَقلت لَهُ: فوائدي من مَوْلَانَا مُتَّصِلَة، وَلست أحتاج مَعَ إنعامه، وترادف إحسانه، إِلَى التَّسَبُّب فِي الْفَوَائِد، وَلَكِن إِن رأى أَن يَجْعَلهَا لهَذَا المفتضح المشئوم. فَقَالَ: تنفذ إِلَيْهِ سفتجة بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: فشكرته الْجَمَاعَة، وخاطبته فِي أَن يَأْذَن لَهُ بالعودة إِلَى وَطنه، ويؤمنه. قَالَ: فَكتب أَمَانًا لَهُ مؤكدًا، وَأذن لَهُ فِي الْعود. قَالَ: فغمزني الأسمر فِي الإستزادة. فَقلت: أَطَالَ الله بَقَاء مَوْلَانَا الْأَمِير، إِن الثَّلَاثَة آلَاف دِرْهَم لَو أنفذت إِلَى

مصر، إِلَى أَن يُؤذن لَهُ فِي الْعود، مَا كفته لمن يحملهُ على نَفسه، لِأَن أَكثر أهل مصر بغاءون، وَقد ضايقوه فِي الناكة، وغلبوه باليسار، فَلَا يصل هُوَ إِلَى شَيْء إِلَّا بالغرم الثقيل. قَالَ: فأعجبه ذكر أهل مصر بذلك، فَقَالَ: كَيفَ قلت هَذَا يَا أَخ؟ فَقلت: إِن المياسير من أهل مصر، لَهُم العبيد العلوج، يأتونهم، لكل وَاحِد مِنْهُم عدَّة غلْمَان، والمتوسطون، يدعونَ العلوج، والزنوج، الْمَشْهُورين بكبر الأيور، وينفقون عَلَيْهِم أَمْوَالهم، وَلَا يصل الْفَقِير المتجمل إِلَيْهِم. وَلَقَد بَلغنِي أَيْضا، وَأَنا بِمصْر، أَن رجلا من البغائين بهَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ حكاكه، فَطلب من يَأْتِيهِ، فَلم يقدر عَلَيْهِ، فَخرج إِلَى قَرْيَة، ذكر أَنَّهَا قريبَة من مصر، فَأَقَامَ بهَا. فَكَانَ إِذا اجتاز بِهِ المجتازون، استغوى مِنْهُم من يختاره لهَذَا الْحَال، فَحَمله على نَفسه. فَكَانَ يعِيش بالمجتاز بعد المجتاز، ويتمكن من إرضائه بِمَا لَا يُمكنهُ فِي مصر. فَعَاشَ بذلك بُرْهَة، حَتَّى جَاءَ يَوْمًا بغاء آخر، فسكن مَعَه فِي الْموضع، فَكَانَ إِذا جَاءَ الْغُلَام الَّذِي يصلح لهَذَا الشَّأْن، تنافسا عَلَيْهِ، ففسد على الأول أمره. فجَاء إِلَى الثَّانِي، فَقَالَ: يَا هَذَا، قد أفسدت أَمْرِي، وأبطلت عَمَلي، وَإِنَّمَا خرجت من مصر، لأجل المنافسة فِي الناكة، وَلَيْسَ لَك أَن تقيم معي هَاهُنَا. فَقَالَ لَهُ الثَّانِي: سَوَاء العاكف فِيهِ والباد، وَمَا أَبْرَح من هَاهُنَا. فَقَالَ لَهُ الأول: بيني وَبَيْنك شَيخنَا ابْن الأعجمي الْكَاتِب، رَئِيس البغائين

بِمصْر، وجذبه إِلَى حَضرته، فتحاكما إِلَيْهِ. فَقَالَ: إِنِّي لما كنت اشْتَدَّ بِي أَمْرِي الَّذِي تعرفه، وَمَنَعَنِي فقري من اتِّخَاذ الناكة بِمصْر، عدلت إِلَى الْموضع الْفُلَانِيّ، فَعمِلت كَذَا، وقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، فجَاء هَذَا، وصنع، وقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، وَشرح لَهُ أمره، فَإِن رَأَيْت أَن تحكم بيني وَبَينه، فاحكم. فَحكم ابْن العجمي للْأولِ، وَمنع الثَّانِي من الْمقَام، وَقَالَ لَهُ: لَيْسَ لَك أَن تفْسد عَلَيْهِ عمله وناحيته، فاطلب لنَفسك موضعا آخر. فَكيف يُمكن للناضري، أيد الله مَوْلَانَا الْأَمِير، أَن يَسْتَغْنِي بِثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم أمرت لَهُ بهَا فِي بلد هَذِه عزة الناكة فِيهِ، وَكَثْرَة البغائين؟ هَذَا لَو كَانَ مُقيما، فَكيف وَقد أَنْعَمت عَلَيْهِ بِالْإِذْنِ فِي الْمسير، وَيحْتَاج إِلَى بغال يركبهَا فِي الطَّرِيق بِأُجْرَة، وَنَفَقَة، وديون عَلَيْهِ يَقْضِيهَا، ومؤن. قَالَ: فَضَحِك ضحكًا شَدِيدا من حِكَايَة البغائين، وَحكم ابْن العجمي بَينهمَا، وَكَانَ هَذَا من مشهوري كُتّاب مصر. قَالَ: فاجعلوها خَمْسَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: فَقلت أَنا والأسمر: فَيَعُود الرجل، أَطَالَ الله بَقَاء مَوْلَانَا الْأَمِير، وَقد أنفقها فِي الطَّرِيق، إِلَى سوء المنقلب؟ وَكَانَ يُعجبهُ أَن يماكس فِي الْجُود، فيجود مَعَ الْمَسْأَلَة، بِأَكْثَرَ مِمَّا يؤمل مِنْهُ، وَلَكِن مَعَ السُّؤَال، وَالدُّخُول عَلَيْهِ مدْخل المزاح فِي ذَلِك، والطيبة، واقتضاء الْغُرَمَاء بَعضهم لبَعض فِي ذَلِك، وَمَا شابهه. فَقَالَ: قد طولتم عَليّ فِي أَمر هَذَا الْفَاعِل الصَّانِع، أطْلقُوا لَهُ عَن

ضيعته بأسرها، ووقعوا لَهُ بذلك إِلَى الدِّيوَان، وَعَن مستغله، ومروا من فِي دَاره، بِالْخرُوجِ عَنْهَا، وتقدموا لَهُ بِأَن تفرش أحسن من الْفرش الَّذِي نهب لَهُ مِنْهَا لما سخط عَلَيْهِ. قَالَ: فأكبت الْجَمَاعَة، يقبلُونَ يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ، ويحلفون أَنهم مَا رَأَوْا، وَلَا سمعُوا، بِمثل هَذَا الْكَرم قطّ، وَيَقُولُونَ: هَذَا مَعَ سوء رَأْيك فِي الرجل، وَسُوء حَدِيثه، فَمَا على وَجه الأَرْض بغاء أقبل على صَاحبه بِسَعْد، مثل هَذَا. قَالَ: فَضَحِك، ونفذت الْكتب والتوقيعات بِمَا ذكره ورسمه. فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة، وَأَنا بحلب، جَاءَ الرجل، وَعَاد إِلَى نعْمَته.

ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال

رُبمَا تجزع النُّفُوس من الْأَمر لَهُ فُرْجَة كحل العقال أَخْبرنِي أَبُو بكر أَحْمد بن كَامِل القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو شبيل عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن وَاقد، قَالَ: حَدثنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء، قَالَ: خرجت هَارِبا من الْحجَّاج إِلَى مَكَّة، فَبينا أَنا أَطُوف بِالْبَيْتِ، إِذا أَعْرَابِي ينشد: يَا قَلِيل العزاء فِي الْأَحْوَال ... وَكثير الهموم والأوجال لَا تضيقنّ فِي الْأُمُور فقد ... يكْشف غماؤها بِغَيْر احتيال صبّر النَّفس عِنْد كلّ ملمّ ... إنّ فِي الصَّبْر رَاحَة الْمُحْتَال ربّما تجزع النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فرجةٌ كحلّ العقال

فَقلت: مَه؟ فَقَالَ: مَاتَ الْحجَّاج. قَالَ: فَلَا أَدْرِي بِأَيّ الْقَوْلَيْنِ كنت أسر، بقوله: فُرْجَة، بِفَتْح الْفَاء، أَو بِمَوْت الْحجَّاج. وَوجدت هَذَا الْخَبَر بِغَيْر إِسْنَاد فِي بعض الْكتب، وَفِيه: أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء سمع أَعْرَابِيًا ينشد هَذِه الأبيات: يَا قَلِيل العزاء فِي الْأَهْوَال ... وَكثير الهموم والأوجال لَا تضيقنّ فِي الْأُمُور فقد ... تكشف غماؤها بِغَيْر احتيال صبّر النَّفس عِنْد كلّ مهمّ ... إنّ فِي الصَّبْر حِيلَة الْمُحْتَال ربّما تجزع النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فُرْجَة كحلّ العقال قيل: والفرجة: من الْفرج، والفرجة: فُرْجَة الْحَائِط. وَوجدت بِخَط أبي عبد الله بن مقلة، فِي كتاب الأبيات السائرة: قَالَ

أُميَّة بن أبي الصَّلْت: ربّما تكره النُّفُوس من الشَّيْء ... لَهَا فُرْجَة كحلّ العقال وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه: روى الْمَدَائِنِي، عَن الْأَصْمَعِي، عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء، قَالَ: كنت مستخفيًا من الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ، فَسمِعت قَائِلا يَقُول: مَاتَ الْحجَّاج ربّما تجزع النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فُرْجَة كحلّ العقال وَقَالَ القَاضِي: وَوجدت أَنا فِي كتاب الْمَدَائِنِي، كتاب الْفرج بعد الشدَّة والضيقة، هَكَذَا: حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عدنان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى، عَن يُونُس بن حبيب، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: كنت هَارِبا من الْحجَّاج بن يُوسُف، فصرت إِلَى الْيمن، فَسمِعت منشدًا ينشد: ربّما تجزع النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فُرْجَة كحلّ العقال فاستطرفت قَوْله: فُرْجَة، فَأَنا كَذَلِك، إِذْ سَمِعت قَائِلا يَقُول: مَاتَ الْحجَّاج، فَلم أدر بِأَيّ الْأَمريْنِ كنت أَشد فَرحا، بِمَوْت الْحجَّاج، أَو بذلك الْبَيْت. وَأَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر بن الْحسن، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عمر

مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الزَّاهِد، الْمَعْرُوف بِغُلَام ثَعْلَب، قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى، ثَعْلَب، عَن أبي مَنْصُور ابْن أخي الْأَصْمَعِي، عَن أبي عَمْرو ابْن الْعَلَاء، قَالَ: كنت مستخفيًا من الْحجَّاج، وَذَلِكَ أَن عمي كَانَ عَاملا لَهُ، فهرب، فهم بأخذي. فَبينا أَنا على حَال خوفي مِنْهُ، إِذْ سَمِعت منشدًا ينشد: ربّما تجزع النُّفُوس من الْأَمر ... لَهَا فُرْجَة كحل العقال وَذكر الحَدِيث، وَزَاد فِيهِ: أَن ثعلبًا قَالَ: إِن أَبَا عَمْرو كَانَ يقْرَأ: إِلَّا من اغترف غرفَة، وفرجةً، بِفَتْح الْفَاء، شَاهد فِي هَذِه الْقِرَاءَة.

الوليد بن عبد الملك يعفو عن القمير التغلبي

الْوَلِيد بن عبد الْملك يعْفُو عَن القمير التغلبي وَذكر أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي، فِي كِتَابه، بِغَيْر إِسْنَاد، أَن القمير التغلبي، قَالَ فِي الْوَلِيد بن عبد الْملك أتنسى يَا وليد بلَاء قومِي ... بمسكَنَ والزبيريّون صيد أتنسانا إِذا استغنيتَ عنّا ... وتذكرنا إِذا صلّ الْحَدِيد فَطَلَبه الْوَلِيد، فهرب مِنْهُ. فَلَمَّا ضَاقَتْ بِهِ الْبِلَاد، وَاشْتَدَّ بِهِ الْخَوْف، أَتَى دمشق مستخفيًا، حَتَّى حضر عشَاء الْوَلِيد، فَدخل مَعَ النَّاس. فَلَمَّا أكل النَّاس بعض الْأكل، عرف القمير رجل إِلَى جَانِبه، فَأخْبر الْوَلِيد. فَدَعَا بالقمير، وَقَالَ لَهُ: يَا عَدو الله، الْحَمد لله الَّذِي أمكنني مِنْك بِلَا عقد وَلَا ذمَّة، أَنْشدني مَا قلت. فَتَلَكَّأَ، ثمَّ أنْشدهُ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: مَا ظَنك بِي؟ فَقَالَ: إِنِّي قلت فِي نَفسِي، إِن أمهلت حَتَّى أَطَأ بساطه، وآكل طَعَامه، فقد أمنت، وَإِن عوجلت قبل ذَلِك فقد هَلَكت، وَقد أمهلت حَتَّى وطِئت بساطك، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وأكلت طَعَامك، فقد أمنت.

فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: فقد أمنت، فَانْصَرف راشدًا. فَلَمَّا ولى، تمثل الْوَلِيد قَائِلا: شمس الْعَدَاوَة حَتَّى يستقاد لَهُم ... وَأعظم النَّاس أحلامًا إِذا قدرُوا

مزنة امرأة مروان الجعدي تلجأ إلى الخيزران جارية المهدي

مزنة امْرَأَة مَرْوَان الجعديّ تلجأ إِلَى الخيزران جَارِيَة الْمهْدي حَدثنِي طَلْحَة بن مُحَمَّد بن جَعْفَر، الْمُقْرِئ، الشَّاهِد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله الحرمي بن أبي الْعَلَاء، كَاتب القَاضِي أبي عمر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحسن بن مُحَمَّد بن طَالب الديناري، قَالَ: حَدثنِي الْفضل بن الْعَبَّاس بن يَعْقُوب بن سعيد بن الْوَلِيد بن سِنَان بن نَافِع، مولى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: مَا أتيت زَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن عَليّ الْهَاشِمِي، قطّ، فَانْصَرَفت من عِنْدهَا إِلَّا بِشَيْء وَإِن قل. وَكَانَ لَهَا وصيفة يُقَال لَهَا: كتاب، فعلقتها. فَقلت لأبي: أَنا، وَالله، مَشْغُول الْقلب بِكِتَاب، جَارِيَة زَيْنَب. فَقَالَ لي: يَا بني اطلبها مِنْهَا، فَإِنَّهَا لَا تمنعك إِيَّاهَا. فَقلت: قد كنت أحب أَن تكون حَاضرا لتعينني عَلَيْهَا.

فَقَالَ: لَيْسَ بك إِلَيّ، وَلَا إِلَى غَيْرِي من حَاجَة. فَغَدَوْت إِلَيْهَا، فَلَمَّا انْقَضى السَّلَام، قلت: جعلني الله فدَاك، فَكرت فِي حَاجَة، فَسَأَلت أبي أَن يحضر كَلَامي إياك فِيهَا، لأستعين بِهِ، فأسلمني، فَقَالَت: يَا بني، إِن حَاجَة لَا تقضى لَك حَتَّى تحضر أَبَاك فِيهَا، لحَاجَة عَظِيمَة الْقدر. ثمَّ قَالَت: مَا هِيَ؟ فَقلت: كتاب، وصيفتك، أحب أَن تهبيها لي. فَقَالَت: أَنْت صبي أَحمَق، اقعد، حَتَّى أحَدثك حَدِيثا، أحسن من كل كتاب على وَجه الأَرْض، وَأَنت من كتاب على وعد. فَقلت: هَاتِي، جعلني الله فدَاك. فَقَالَت: كنت، من أول أمس، عِنْد الخيزران، ومجلسي ومجلسها، إِذا اجْتَمَعنَا، فِي عتبَة بَاب الرواق، وبالقرب منا فِي صدر الْمَكَان، برذعة، ووسادتان، ومسانيد، عَلَيْهَا سبنية، لأمير الْمُؤمنِينَ. وَهُوَ كثير الدُّخُول إِلَيْهَا وَالْجُلُوس عِنْدهَا، فَإِذا جَاءَ جلس فِي ذَلِك الْموضع، وَإِذا انْصَرف، طرحت عَلَيْهِ السبنية إِلَى وَقت رُجُوعه، فَإنَّا لجُلُوس، إِذْ دخلت عَلَيْهَا إِحْدَى جواريها، فَقَالَت: يَا ستي، بِالْبَابِ امْرَأَة مَا رَأَيْت أحسن مِنْهَا وَجها، وَلَا أَسْوَأ حَالا، عَلَيْهَا قَمِيص مَا يستر بعضه موضعا من بدنهَا، إِلَّا انْكَشَفَ مِنْهَا مَوضِع آخر غَيره، تستأذن عَلَيْك.

فالتفتت إِلَيّ، وَقَالَت: مَا تَرين؟ فَقلت: تسألين عَن اسْمهَا، وحالها، ثمَّ تأذنين لَهَا على علم، فَقَالَت الْجَارِيَة: قد وَالله جهدت بهَا كل الْجهد، أَن تفعل، فَمَا فعلت، وأرادت الِانْصِرَاف، فمنعتها. فَقلت للخيزران: وَمَا عَلَيْك أَن تَأْذَنِي لَهَا، فَأَنت مِنْهَا بَين ثَوَاب ومكرمة، فَأَذنت لَهَا. فَدخلت امْرَأَة على أَكثر مِمَّا وصفت الْجَارِيَة، وَهِي مستخفية، حَتَّى صَارَت إِلَى عضادة الْبَاب، مِمَّا يليني، وَكنت متكئة. فَقَالَت: السَّلَام عَلَيْكُم، فَرددْنَا عَلَيْهَا السَّلَام. ثمَّ قَالَت للخيزران: أَنا مزنة امْرَأَة مَرْوَان بن مُحَمَّد. قَالَت: فَلَمَّا وَقع اسْمهَا فِي أُذُنِي، استويت جالسة، ثمَّ قلت: مزنة؟ قَالَت: نعم. قلت: لَا حياك الله، وَلَا قربك، الْحَمد لله الَّذِي أَزَال نِعْمَتك، وأدال عزك، وصيرك نكالًا وعبرة، أتذكرين يَا عدوة الله، حِين أَتَاك عَجَائِز أهل بَيْتِي يسألنك أَن تكلمي صَاحبك فِي إِنْزَال إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد من خشبته، فلقيتيهن ذَلِك اللِّقَاء، وأخرجتيهن ذَلِك الْإِخْرَاج، الْحَمد لله الَّذِي أَزَال نِعْمَتك.

فَضَحكت، وَالله، الْمَرْأَة، حَتَّى كَادَت تقهقه، وبدا لَهَا ثغر، مَا رَأَيْت أحسن مِنْهُ قطّ. وَقَالَت: أَي بنت عَم، أَي شَيْء أعْجبك من حسن صنع الله بِي على ذَلِك الْفِعْل، حَتَّى أردْت أَن تتأسي بِي، وَالله، لقد فعلت بنساء أهل بَيْتك، مَا فعلت، فأسلمني الله إِلَيْك جائعة، ذليلة، عُرْيَانَة، فَكَانَ هَذَا مِقْدَار شكرك لله تَعَالَى على مَا أولاك فِي، ثمَّ قَالَت: السَّلَام عَلَيْكُم. ثمَّ ولت خَارِجَة تمشي خلاف المشية الَّتِي دخلت بهَا. فَقلت للخيزران: إِنَّهَا مخبأة من الله عز وَجل، وهدية مِنْهُ إِلَيْنَا، وَوَاللَّه، يَا خيزران، لَا يتَوَلَّى إخْرَاجهَا مِمَّا هِيَ فِيهِ أحد غَيْرِي. ثمَّ نهضت على أَثَرهَا، فَلَمَّا أحست بِي أسرعت، وأسرعت خلفهَا، حَتَّى وافيتها عِنْد السّتْر، ولحقتني الخيزران، فتعلقت بهَا. وَقلت: يَا أُخْت، المعذرة إِلَى الله، عز وَجل، وَإِلَيْك، فَإِنِّي ذكرت، بمكانك، مَا نالنا من الْمُصِيبَة بصاحبنا، فَكَانَ مني مَا وددت أَنِّي غفلت عَنهُ، وَلم أملك نَفسِي. وَأَرَدْت معانقتها، فَوضعت يَدهَا فِي صَدْرِي، وَقَالَت: لَا تفعلي، يَا أُخْت، فَإِنِّي على حَال، أصونك من الدنو مِنْهَا. فرددناها، وَقلت للجواري: ادخلن مَعهَا الْحمام. وَقلت للمواشط: اذهبن مَعهَا، حَتَّى تصلحن حفافها، وَمَا تحْتَاج إِلَى

إِصْلَاحه من وَجههَا. فمضت، ومضين مَعهَا، ودعونا بكرسي، وَجَلَسْنَا أَنا والخيزران عَلَيْهِ، فِي صحن الدَّار، نَنْتَظِر خُرُوجهَا. فَخرجت إِلَيْنَا إِحْدَى المواشط وَهِي تضحك. فَقلت لَهَا: مَا يضحكك؟ فَقَالَت: يَا ستي، إِنَّا لنرى من هَذِه الْمَرْأَة عجبا. فَقلت: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَت: نَحن مَعهَا فِي انتهار، وزجر، وخصومة، مَا تفعلين أَنْت، وَلَا ستنا، مثله إِذا خدمناكما. فَقلت للخيزران: حَتَّى تعلمين، وَالله، يَا أُخْتِي أَنَّهَا حرَّة رئيسة، والحرة لَا تحتشم من الْأَحْرَار. وَخرجت إِلَيْنَا جَارِيَة أعلمتنا أَنَّهَا قد خرجت من الْحمام، فوجهت إِلَيْهَا الخيزران أَصْنَاف الْخلْع، فتخيرت مِنْهَا مَا لبسته، وبعثنا إِلَيْهَا بِطيب كثير، فتطيبت، ثمَّ خرجت إِلَيْنَا. فقمنا جَمِيعًا، فعانقناها، فَقَالَت: الْآن، نعم. ثمَّ جِئْنَا إِلَى الْموضع الَّذِي يجلس فِيهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي، فأقعدناها فِيهِ. ثمَّ قَالَت الخيزران: إِن غداءنا قد تَأَخّر، فَهَل لَك فِي الطَّعَام؟ فَقَالَت: وَالله مَا فيكُن من هِيَ أحْوج إِلَيْهِ مني. فدعونا بِالطَّعَامِ، فَجعلت تَأْكُل، وتضع بَين أَيْدِينَا، حَتَّى كَأَنَّهَا فِي منزلهَا. فَلَمَّا فَرغْنَا من الْأكل، قَالَت لَهَا الخيزران: من لَك مِمَّن تعنين بِهِ؟ قَالَت؛ مَا لي وَرَاء هَذَا الْحَائِط أحد من خلق الله تَعَالَى.

فَقَالَت لَهَا الخيزران: فَهَل لَك فِي الْمقَام عندنَا، عَليّ أَن نخلي لَك مَقْصُورَة من المقاصير، ويحول إِلَيْهَا جَمِيع مَا تحتاجين إِلَيْهِ، ويستمتع بَعْضنَا بِبَعْض؟ فَقَالَت: مَا درت إِلَّا على أقل من هَذَا الْحَال، وَإِذ قد تفضل الله، عز وَجل، عَليّ بكما، وبهذه النِّعْمَة، فَلَا أقل من الشُّكْر لأمير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي، لكل نعْمَة، ولكما، فافعلي مَا بدالك، وَمَا أَحْبَبْت. فَقَامَتْ الخيزران، وَقمت مَعهَا، وأقمناها مَعنا، ودخلنا نطوف بالمقاصير، فَاخْتَارَتْ، وَالله، أوسعها، وأحسنها. فملأتها الخيزران، بالجواري، والوصائف، والخدم، والفرش، والآلات، ثمَّ قَالَت: ننصرف عَنْك، وَعَلَيْك بمنزلك، حَتَّى تصلحيه، فخلفناها فِي الْمَقْصُورَة، وانصرفنا إِلَى موضعنا. فَقَالَت الخيزران: إِن هَذِه امْرَأَة رئيسة، وَقد عضها الْفقر، وَلَيْسَ يمْلَأ عينهَا إِلَّا المَال، ثمَّ بعثت إِلَيْهَا بِخَمْسَة آلَاف دِينَار، وَمِائَة ألف دِرْهَم. وَأرْسلت إِلَيْهَا: تكون هَذِه فِي خزانتك، ووظيفتك، ووظيفة حشمك، قَائِمَة فِي كل يَوْم، مَعَ وظيفتنا. ثمَّ لم نَلْبَث أَن دخل علينا الْمهْدي، فَقلت لَهُ: يَا سَيِّدي، لَك، وَالله، عِنْدِي حَدِيث طريف. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَحَدَّثته بالْخبر. فَلَمَّا قلت لَهُ مَا كَانَ مني، من الْوُثُوب عَلَيْهَا، وإسماعها، اقشعر، واصفر. ثمَّ قَالَ: يَا زَيْنَب، هَذَا مِقْدَار شكرك لِرَبِّك عز وَجل، وَقد أمكنك من عَدوك، وأظفرك بِهِ، على هَذَا الْحَال الَّذِي تَصِفِينَ؟ وَالله، لَوْلَا مَكَانك مني، لحلفت أَن لَا أُكَلِّمك أبدا، أَيْن الْمَرْأَة؟ قَالَت: فوفيته خَبَرهَا، فَالْتَفت إِلَى الخيزران، يصوب فعلهَا، وجزاها خيرا.

ثمَّ قَالَ لخادم بَين يَدَيْهِ: احْمِلْ إِلَيْهَا عشرَة آلَاف دِينَار، ومائتي ألف دِرْهَم، وَبَلغهَا سلامي، وأعلمها أَنه لَوْلَا خوفي من احتشامها لسرت إِلَيْهَا مُسلما عَلَيْهَا، ومخبرًا لَهَا بسروري بهَا، فَقل لَهَا: أَنا أَخُوك، وَجَمِيع مَا ينفذ فِيهِ أَمْرِي، فأمرك فِيهِ نَافِذ مَقْبُول. قَالَت زَيْنَب: فَإِذا هِيَ قد وَردت إِلَيْنَا مَعَ الْخَادِم، وعَلى رَأسهَا دواج ملحم، حَتَّى جَلَست. فلقيها الْمهْدي أحسن لِقَاء، فأقعدها عِنْده سَاعَة، تحادثه، ثمَّ انصرفت إِلَى مقصورتها. فَهَذَا الحَدِيث يَا بني، خير لَك من كتاب. قَالَ: فَأَمْسَكت. فَقَالَت لي: قد اغتممت؟ فَقلت لَهَا: مَا أغتم، مَا أبقاك الله عز وَجل لي. فَقَالَت: اللَّيْلَة توافيك كتاب. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل، أنفذت بهَا إِلَيّ، وَمَعَهَا مَا يُسَاوِي أَضْعَاف ثمنهَا من كل صنف من الْحلِيّ، وَالرَّقِيق، وَغير ذَلِك. وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، هَذَا الْخَبَر، فَقَالَ: روى أَبُو مُوسَى مُحَمَّد بن الْفضل عَن أَبِيه، قَالَ: كنت ألفت زَيْنَب بنت سُلَيْمَان بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، أكتب عَنْهَا

أَخْبَار أَهلهَا، وَكَانَت لَهَا وصيفة يُقَال لَهَا: كتاب. فَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ، على خلاف فِي الْأَلْفَاظ يسير، وَالْمعْنَى وَاحِد، لَيْسَ فِيهِ زِيَادَة، إِلَّا فِي ذكر المَال، فَإِنَّهُ ذكر أَن الَّذِي حَملته الخيزران خمس مائَة ألف دِرْهَم، وَأَن الَّذِي حمله الْمهْدي، ألف ألف دِرْهَم. وَأَنه لما أَتَاهَا رَسُول الْمهْدي، جَاءَت، فَقَالَت: مَا عَليّ من أَمِير الْمُؤمنِينَ حشمة، وَمَا أَنا إِلَّا من خدمه. وَأَن زَيْنَب قَالَت فِي أول الْخَبَر: أتذكرين يَا عدوة الله حِين جَاءَك عَجَائِز أَهلِي يسألنك مَسْأَلَة صَاحبك بِالْإِذْنِ لنا فِي دفن صاحبنا إِبْرَاهِيم الإِمَام، فَوَثَبت عَلَيْهِنَّ. وَوجدت فِي كتاب آخر، هَذَا الْخَبَر، بِمثل هَذَا الْمَعْنى، على خلاف فِي الْأَلْفَاظ، مِنْهَا مَا وجدته فِي كتاب القَاضِي أبي جَعْفَر بن البهلول التنوخي الْأَنْبَارِي، حَكَاهُ عَن الْفضل بن الْعَبَّاس بِمثل هَذَا الْمَعْنى، بِغَيْر إِسْنَاد مُتَّصِل.

فر من إسحاق المصعبي فوجد كنزا

فر من إِسْحَاق المصعبي فَوجدَ كنزًا وَذكر أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن أبي الْحُسَيْن عبد الله بن مُحَمَّد الباقطائي، قَالَ: كُنَّا نتعلم، وَنحن أَحْدَاث، فِي ديوَان إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الطاهري، ومعنا فَتى من الْكتاب، لَهُ خلق جميل، يعرف بِأبي غَالب. فزور جمَاعَة من الْكتاب تزويرًا بِمَال أَخَذُوهُ، فَوقف إِسْحَاق على الْخَبَر، فطلبهم، فظفر ببعضهم، فَقطع أَيْديهم، وهرب الْبَاقُونَ. وَكَانَ فِيمَن هرب، الْفَتى الَّذِي كنت ألزم مَجْلِسه، فَغَاب سِنِين كَثِيرَة، حَتَّى مَاتَ إِسْحَاق. فَبينا أَنا ذَات يَوْم فِي بعض شوارع بَغْدَاد، فَإِذا بِهِ. فَقلت: أَبُو غَالب؟ فَقَالَ: نعم، وَإِذا تَحْتَهُ دَابَّة فاره، بسرج محلى، وَثيَاب حَسَنَة. فَقلت: عرفني حالك؟ قَالَ: فِي الْمنزل. فسرت مَعَه، فاحتبسني ذَلِك الْيَوْم عِنْده، وَرَأَيْت لَهُ مُرُوءَة حَسَنَة، فَسَأَلته عَن خَبره. فَقَالَ: لما طلبنا إِسْحَاق، استترت، فَلَمَّا بَلغنِي مَا عَامل بِهِ من كَانَ معي فِي الْجِنَايَة، ضَاقَتْ عَليّ بَغْدَاد، فَخرجت على وَجْهي، خوفًا من عُقُوبَة إِسْحَاق، إِن ظفر بِي. وَلم أزل مستخفيًا، إِلَى أَن أتيت ديار مصر، أطلب التَّصَرُّف، فَتعذر عَليّ، وتفرق من كَانَ معي، إِلَّا غُلَام وَاحِد.

فرقت حَالي جدا، حَتَّى بِعْت مَا فِي الْبَيْت عَن آخِره، على قلته. فَأَصْبَحت يَوْمًا، فَقَالَ لي غلامي: أَي شَيْء نعمل الْيَوْم؟ مَا مَعنا حَاجَة. فَقلت: خُذ مبطنتي بعها، وأشتر لنا مَا نحتاج إِلَيْهِ. فَخرج الْغُلَام، وَبقيت فِي الدَّار وحدي، أفكر فِيمَا دفعت إِلَيْهِ من الغربة والوحدة، والعطلة، والضيقة، والشدة، وَتعذر الْمَعيشَة وَالتَّصَرُّف، وَكَيف أصنع، وَمِمَّنْ أقترض، فكاد عَقْلِي أَن يَزُول. فَبينا أَنا كَذَلِك، وَإِذا بجرذ قد خرج من كوَّة فِي الْبَيْت، وَفِي فَمه دِينَار، فَوَضعه ثمَّ عَاد، فَمَا زَالَ كَذَلِك، حَتَّى أخرج ثَمَانِينَ دِينَارا، فصفها، ثمَّ جعل يتقلب عَلَيْهَا، ويتمرغ، ويلعب. ثمَّ أَخذ دِينَارا وَدخل إِلَى الكوة، فَخَشِيت إِن تركته أَن يردهَا جَمِيعهَا إِلَى الْموضع الَّذِي أخرجهَا مِنْهُ، فَقُمْت، وَأخذت الدَّنَانِير، وشددتها. وَجَاء الْغُلَام، وَمَعَهُ مَا قد ابتاعه، فتغدينا، وَقلت لَهُ: خُذ هَذَا الدِّينَار، فابتع لنا فأسًا. فَقَالَ: مَا نصْنَع بِهِ؟ فَحَدَّثته الحَدِيث، وأريته الدَّنَانِير، وَقلت لَهُ: قد عزمت على أَن أقلع الكوة. فَفعل مَا أَمرته بِهِ، وأفضى بِنَا الْحفر إِلَى برنية فِيهَا سَبْعَة آلَاف دِينَار. فأخذتها وأصلحت الْموضع كَمَا كَانَ، وَخرجت إِلَى بَغْدَاد، بعد أَن أخذت بِالْمَالِ سفاتج، وَتركت بعضه معي.

وأنفذت الْغُلَام بالسفاتج إِلَى بَغْدَاد، وأقمت، حَتَّى ورد عَليّ كتاب الْغُلَام بِصِحَّة السفاتج، وَتَحْصِيل المَال فِي بَيْتِي، وَكَانَ إِسْحَاق قد مَاتَ. فانحدرت إِلَى بَغْدَاد، وابتعت بِالْمَالِ كُله ضَيْعَة، ولزمتها، فأثمرت، ونمت، وَتركت التَّصَرُّف.

أبو أمية الفرائضي يخلص رجلا من القتل

أَبُو أُميَّة الْفَرَائِضِي يخلص رجلا من الْقَتْل وَحكى أَبُو أُميَّة الْفَرَائِضِي، قَالَ: كنت فِي الْوَفْد الَّذِي وَفد على أبي جَعْفَر من أهل الْبَصْرَة، فَلَمَّا مثلنَا بَين يَدَيْهِ، دَعَا بِرَجُل، فَكَلمهُ، ثمَّ أَمر بِضَرْب عُنُقه، فجذب ليقْتل. فَقلت فِي نَفسِي: يقتل رجل من الْمُسلمين، وَأَنا حَاضر فَلَا أَتكَلّم؟ فَقُمْت، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَأَيْت أَن تَأمر بالكف عَن قتل هَذَا، حَتَّى أخْبرك بِشَيْء سَمِعت الْحسن يَقُوله. فَأمر بالكف عَنهُ، وَقَالَ: قل. قلت: سَمِعت الْحسن يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة، جمع الله الْأَوَّلين والآخرين، فِي صَعِيد وَاحِد، ينفذهم الْبَصَر، وَيسْمعهُمْ الْمُنَادِي، ثمَّ يقوم مُنَاد من قبل الله تَعَالَى، فَيَقُول: أَلا من كَانَ لَهُ على الله حق فَليقمْ، فَلَا يقوم إِلَّا من عَفا ". فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: الله الشَّاهِد عَلَيْك، أَنَّك سَمِعت الْحسن يَقُول ذَلِك؟ قلت: نعم، سمعته يَقُوله، فَعَفَا عَن الرجل، وَأطْلقهُ، فَانْصَرف الرجل وَهُوَ يحمد الله على السَّلامَة.

المهدي يحتج على شريك برؤيا رآها في المنام

الْمهْدي يحْتَج على شريك برؤيا رَآهَا فِي الْمَنَام وَحكى الْحسن بن قَحْطَبَةَ، قَالَ: استؤذن لِشَرِيك بن عبد الله القَاضِي، على الْمهْدي، وَأَنا حَاضر، فَقَالَ: عَليّ بِالسَّيْفِ، فأحضر. قَالَ الْحسن: فاستقبلتني رعدة لم أملكهَا، وَدخل شريك، فَسلم، فانتضى الْمهْدي السَّيْف، وَقَالَ: لَا سلم الله عَلَيْك يَا فَاسق. فَقَالَ شريك: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن لِلْفَاسِقِ عَلَامَات يعرف بهَا، شرب الْخُمُور، وَسَمَاع المعازف، وارتكاب الْمَحْظُورَات، فعلى أَي ذَلِك وجدتني؟ قَالَ: قتلني الله إِن لم أَقْتلك. قَالَ: وَلم ذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَدمِي حرَام عَلَيْك؟ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَام، كَأَنِّي مقبل عَلَيْك أُكَلِّمك، وَأَنت تكلمني من قفاك، فَأرْسلت إِلَى الْمعبر، فَسَأَلته عَنْهَا، فَقَالَ: هَذَا رجل يطَأ بساطك، وَهُوَ يسر خِلافك. فَقَالَ شريك: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رُؤْيَاك لَيست رُؤْيا يُوسُف بن يَعْقُوب عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَإِن دِمَاء الْمُسلمين لَا تسفك بالأحلام.

فَنَكس الْمهْدي رَأسه، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ: أَن أخرج، فَانْصَرف. قَالَ الْحسن: فَقُمْت فلحقته، فَقَالَ: أما رَأَيْت صَاحبك، وَمَا أَرَادَ أَن يصنع؟ فَقلت: اسْكُتْ، لله أَبوك، مَا ظَنَنْت أَنِّي أعيش حَتَّى أرى مثلك.

إن من البيان لسحرا

إِن من الْبَيَان لسحرًا وَحكى الْحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ أَحْمد بن أبي داؤد: مَا رَأَيْت رجلا قطّ نزل بِهِ الْمَوْت، وعاينه، فَمَا أدهشه، وَلَا أذهله، وَلَا أشغله عَمَّا كَانَ أَرَادَهُ، وَأحب أَن يَفْعَله، حَتَّى بلغه، وخلصه الله تَعَالَى من الْقَتْل، إِلَّا تَمِيم بن جميل الْخَارِجِي، فَإِنَّهُ كَانَ تغلب على شاطئ الْفُرَات، فَأخذ، وَأتي بِهِ إِلَى المعتصم بِاللَّه. فرأيته بَين يَدَيْهِ، وَقد بسط لَهُ النطع وَالسيف، فَجعل تَمِيم ينظر إِلَيْهِمَا، وَجعل المعتصم يصعد النّظر فِيهِ، ويصوبه. وَكَانَ تَمِيم رجلا جميلًا، وسيمًا، جسيمًا، فَأَرَادَ المعتصم أَن يستنطقه، لينْظر أَيْن جنانه وَلسَانه، من منظره ومخبره. فَقَالَ لَهُ المعتصم: يَا تَمِيم، تكلم، إِن كَانَ لَك حجَّة أَو عذر فأبده. فَقَالَ: أما إِذْ أذن أَمِير الْمُؤمنِينَ بالْكلَام، فَأَقُول: الْحَمد لله الَّذِي أحسن كل شَيْء خلقه، وَقد خلق الْإِنْسَان من طين، ثمَّ جعل نَسْله من سلالة من مَاء مهين، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، جبر الله بك صدع الدَّين، وَلم شعث الْمُسلمين، وأخمد بك شهَاب الْبَاطِل، وأوضح نهج الْحق، إِن الذُّنُوب تخرس الْأَلْسِنَة، وتعمي الأفئدة، وأيم الله، لقد عظمت الجريرة، وانقطعت الْحجَّة، وَكبر الجرم،

وساء الظَّن، وَلم يبْق إِلَّا عفوك، أَو انتقامك، وَأَرْجُو أَن يكون أقربهما مني وأسرعهما إِلَيّ، أولاهما بإمامتك، وأشبههما بخلافتك، وَأَنت إِلَى الْعَفو أقرب، وَهُوَ بك أشبه وأليق، ثمَّ تمثل بِهَذِهِ الأبيات: أرى الْمَوْت بَين السَّيْف والنطع كامنًا ... يلاحظني من حَيْثُمَا أتلفّت وأكبر ظنّي أنّك الْيَوْم قاتلي ... وأيّ امْرِئ مِمَّا قضى الله يفلت وَمن ذَا الَّذِي يُدْلِي بعذرٍ وَحجَّة ... وَسيف المنايا بَين عَيْنَيْهِ مصلت يعزّ على الْأَوْس بن تغلب موقفٌ ... يهزّ عليّ السَّيْف فِيهِ وأسكت وَمَا جزعي من أَن أَمُوت وإنّني ... لأعْلم أنّ الْمَوْت شَيْء موقّت ولكنّ خَلْفي صبية قد تَركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتّت كأنّي أَرَاهُم حِين أنعى إِلَيْهِم ... وَقد خمشوا حرّ الْوُجُوه وصوّتوا فَإِن عِشْت عاشوا سَالِمين بغبطة ... أذود الْأَذَى عَنْهُم وَإِن متّ موّتوا فكم قَائِل لَا يبعد الله دَاره ... وَآخر جذلان يسرّ ويشمت قَالَ: فَتَبَسَّمَ المعتصم، ثمَّ قَالَ: أَقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن من الْبَيَان لسحرًا» . ثمَّ قَالَ: يَا تَمِيم كَاد وَالله أَن يسْبق السَّيْف العذل، اذْهَبْ، فقد غفرت لَك الهفوة، وتركتك للصبية، ووهبتك لله ولصبيتك. ثمَّ أَمر بفك قيوده، وخلع عَلَيْهِ، وَعقد لَهُ على ولَايَة على شاطئ الْفُرَات، وَأَعْطَاهُ خمسين ألف دِينَار.

سقى معن بن زائدة أسراه ماء فأطلقهم لأنهم أصبحوا أضيافه

سقى معن بن زَائِدَة أسراه مَاء فَأَطْلَقَهُمْ لأَنهم أَصْبحُوا أضيافه وَحكي أَن معن بن زَائِدَة، جِيءَ إِلَيْهِ بِثَلَاث مائَة أَسِير، فَأمر بِضَرْب أَعْنَاقهم، وأحضر السياف، والنطع. فَقدم وَاحِد مِنْهُم، فَقتل، ثمَّ قدم غُلَام مِنْهُم، وَكَانَ لَهُ فهم وبلاغة. فَقَالَ: يَا معن، لَا تقتل أسراك وهم عطاش. فَقَالَ: اسقوهم مَاء، فَشَرِبُوا. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، أتقتل أضيافك؟ فَقَالَ: خلوا عَنْهُم، فأطلقوا كلهم.

فتى بغدادي قدم للقتل وسئل ما يشتهي فطلب رأسا حارا ورقاقا

فَتى بغدادي قدم للْقَتْل وَسُئِلَ مَا يَشْتَهِي فَطلب رَأْسا حارًّا ورقاقًا وَحكى مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: حضرت الْعرض فِي مجْلِس الْجَانِب الشَّرْقِي بِبَغْدَاد، أَيَّام نازوك، فَأخْرج خَليفَة نازوك على الْمجْلس جمَاعَة، فَقتل بَعضهم. ثمَّ أخرج غُلَاما حدث السن، مليح المنظر، فرأيته لما وقف بَين يَدي خَليفَة نازوك، تَبَسم. فَقلت: يَا هَذَا، أحسبك رابط الجأش، لِأَنِّي أَرَاك تضحك فِي مقَام يُوجب الْبكاء، فَهَل فِي نَفسك شَيْء تشتهيه؟ فَقَالَ: نعم، أُرِيد رَأْسا حارًّا ورقاقًا. فَسَأَلت صَاحب الْمجْلس أَن يُؤَخر قَتله إِلَى أَن أطْعمهُ ذَلِك، وَلم أزل ألطف

بِهِ، إِلَى أَن أجَاب، وَهُوَ يضْحك مني، وَيَقُول: أَي شَيْء ينفع هَذَا، وَهُوَ يقتل؟ قَالَ: وأنفذت من أحضر الْجَمِيع بِسُرْعَة، واستدعيت الْفَتى، فَجَلَسَ يَأْكُل غير مكترث بِالْحَال، والسياف قَائِم، وَالْقَوْم يقدمُونَ، فَتضْرب أَعْنَاقهم. فَقلت: يَا فَتى، أَرَاك تَأْكُل بِسُكُون، وَقلة فكر. فَأخذ قشة من الأَرْض، فَرمى بهَا، رَافعا يَده، وَقَالَ وَهُوَ يضْحك: يَا هَذَا، إِلَى أَن تسْقط هَذِه إِلَى الأَرْض مائَة فرج. قَالَ: فوَاللَّه، مَا استتم كَلَامه، حَتَّى وَقعت صَيْحَة عَظِيمَة، وَقيل: قد قتل نازوك. وأغارت الْعَامَّة على الْموضع، فَوَثَبُوا بِصَاحِب الْمجْلس، وكسروا بَاب الْحَبْس، وَخرج جَمِيع من كَانَ فِيهِ. فاشتغلت أَنا عَن الْفَتى، وَجَمِيع الْأَشْيَاء، بنفسي، حَتَّى ركبت دَابَّتي مهرولًا، وصرت إِلَى الجسر، أُرِيد منزلي. فوَاللَّه، مَا توسطت الطَّرِيق، حَتَّى أحسست بِإِنْسَان قد قبض على إصبعي بِرِفْق، وَقَالَ: يَا هَذَا، ظننا بِاللَّه، عز وَجل، أجمل من ظَنك، فَكيف رَأَيْت لطيف صنعه. فَالْتَفت، فَإِذا الْفَتى بِعَيْنِه، فهنأته بالسلامة، فَأخذ يشكرني على مَا فعلته، وَحَال النَّاس والزحام بَيْننَا، وَكَانَ آخر عهدي بِهِ.

أشرف يحيى البرمكي على القتل فخلصه إبراهيم الحراني وزير الهادي

أشرف يحيى الْبَرْمَكِي على الْقَتْل فخلصه إِبْرَاهِيم الْحَرَّانِي وَزِير الْهَادِي وَحكي: أَن مُوسَى الْهَادِي كَانَ قد طَالب أَخَاهُ هَارُون أَن يخلع نَفسه من الْعَهْد، ليصيره لِابْنِهِ من بعده، وَيخرج هَارُون من الْأَمر، فَلم يجب إِلَى ذَلِك. وأحضر يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، ولطف بِهِ، وداراه، ووعده ومناه، وَسَأَلَهُ أَن يُشِير على هَارُون بِالْخلْعِ، فَلم يجب يحيى إِلَى ذَلِك، ودافعه مُدَّة. فتهدده وتوعده، وَجَرت بَينهمَا فِي ذَلِك خطوب طَوِيلَة، وأشفى يحيى مَعَه على الْهَلَاك، وَهُوَ مُقيم على مدافعته عَن صَاحبه. إِلَى أَن اعتل الْهَادِي، علته الَّتِي مَاتَ مِنْهَا، واشتدت بِهِ، فَدَعَا يحيى، وَقَالَ لَهُ: لَيْسَ يَنْفَعنِي مَعَك شَيْء، وَقد أفسدت أخي عَليّ، وقويت نَفسه، حَتَّى امْتنع مِمَّا أريده، وَوَاللَّه لأَقْتُلَنك، ثمَّ دَعَا بِالسَّيْفِ والنطع، وأبرك يحيى، ليضْرب عُنُقه. فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن ذكْوَان الْحَرَّانِي: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: إِن ليحيى

عِنْدِي يدا، أُرِيد أَن أكافئه عَلَيْهَا، فَأحب أَن تهبه لي اللَّيْلَة، وَأَنت فِي غَد تفعل بِهِ مَا تحب. فَقَالَ لَهُ: مَا فَائِدَة لَيْلَة؟ فَقَالَ: إِمَّا أَن يَقُود صَاحبه إِلَى إرادتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَو يعْهَد فِي أَمر نَفسه وَولده، فَأَجَابَهُ. قَالَ يحيى: فأُقمت من النطع، وَقد أيقنت بِالْمَوْتِ، وأيقنت أَنه لم يبْق من أَجلي إِلَّا بَقِيَّة اللَّيْلَة، فَمَا اكتحلت عَيْنَايَ بغمض إِلَى السحر. ثمَّ سَمِعت صَوت القفل يفتح عَليّ، فَلم أَشك أَن الْهَادِي قد استدعاني للْقَتْل، لما انْصَرف كَاتبه. وَانْقَضَت اللَّيْلَة، وَإِذا بخادم قد دخل إِلَيّ، وَقَالَ: أجب السيدة. فَقلت: مَا لي وللسيدة؟ فَقَالَ: قُم، فَقُمْت، وَجئْت إِلَى الخيزران. فَقَالَت: إِن مُوسَى قد مَاتَ، وَنحن نسَاء، فَادْخُلْ، فَأصْلح شَأْنه، وأنفذ إِلَى هَارُون، فجِئ بِهِ. فأدخلت، فَإِذا بِهِ مَيتا، فحمدت الله تَعَالَى على لطيف صنعه، وتفريج مَا كنت فِيهِ، وبادرت إِلَى هَارُون، فَوَجَدته نَائِما، فأيقظته. فَلَمَّا رَآنِي، عجب، وَقَالَ: وَيحك مَا الْخَبَر؟ قلت: قُم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى دَار الْخلَافَة. فَقَالَ: أَو قد مَاتَ مُوسَى؟ قلت: نعم. فَقَالَ: الْحَمد لله، هاتوا ثِيَابِي، فَإلَى أَن لبسهَا، جَاءَنِي من عرفني أَنه

ولد لَهُ ولد من مراجل، وَلم يكن عرف الْخَبَر، فَسَماهُ عبد الله، وَهُوَ الْمَأْمُون وَركب، وَأَنا مَعَه، إِلَى دَار الْخلَافَة. وَمن الْعجب أَن تِلْكَ اللَّيْلَة، مَاتَ فِيهَا خَليفَة، وَجلسَ خَليفَة، وَولد خَليفَة.

رمي من أعلى القلعة أولا وثانيا فنجا وسلم

رمي من أَعلَى القلعة أَولا وَثَانِيا فنجا وَسلم وَحكى الشريف أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عمر الْعلوِي الزيدي، قَالَ: لما حصلت مَحْبُوسًا بقلعة خست بنواحي نيسابور، من فَارس، حِين حَبَسَنِي عضد الدولة بهَا، كَانَ صَاحب القلعة الَّذِي أسلمت إِلَيْهِ يؤنسني بِالْحَدِيثِ. فَحَدثني يَوْمًا: أَن هَذِه القلعة كَانَت فِي يَد رجل كَانَ رَاعيا بِهَذِهِ الْبِلَاد، ثمَّ صَار قائدًا، واحتوى عَلَيْهَا، فَصَارَت لَهُ معقلًا، وانضم إِلَيْهِ اللُّصُوص، فَصَارَ يُغير بهم على النواحي، فَيخْرجُونَ، ويقطعون الطَّرِيق، وينهبون الْقرى، ويفسدون، ويعودون إِلَى القلعة، فَلَا تمكن فيهم حِيلَة، إِلَى أَن قصدهم أَبُو الْفضل ابْن العميد، وحاصرهم مُدَّة، وافتتحها، وَسلمهَا إِلَى عضد الدولة. قَالَ: فَكَانَ فِي محاصرة أبي الْفضل لَهُم، رُبمَا نزلُوا وحاربوه، فظفر مِنْهُم

فِي وقْعَة كَانَت بَينه وَبينهمْ بِنَحْوِ خمسين رجلا، فَأَرَادَ قَتلهمْ قتلةً يرهب بهَا من فِي القلعة. قَالَ: وَهِي على جبل عَظِيم، حياله بِالْقربِ مِنْهُ جبل آخر أعظم مِنْهُ، وَعَلِيهِ نزل أَبُو الْفضل. فَأمر بالأسارى، فَرمي بهم من رَأس الْجَبَل الَّذِي عَلَيْهِ القلعة، فيصل الْوَاحِد مِنْهُم إِلَى الْقَرار قطعا، قد قطعته الأضراس الْخَارِجَة فِي الْجَبَل وَالْحِجَارَة. فَفعل ذَلِك بجميعهم، حَتَّى بَقِي غُلَام حِين بقل وَجهه، فَلَمَّا طرح وصل إِلَى الأَرْض سالما، فَمَا لحقه مَكْرُوه، وَقد تقطع حَبل كِتَافِهِ، فَقَامَ الْغُلَام يمشي فِي قَيده طَالبا الْخَلَاص. فَكبر الديلم، وَأهل عَسْكَر أبي الْفضل تعظامًا للصورة، وَكبر أهل القلعة. فاغتاظ أَبُو الْفضل، وَأمر برد الْغُلَام، فَنزل من جَاءَ بِهِ، فَأمر أَن يكتف ويرمى ثَانِيَة. فَسَأَلَهُ من حضر أَن يعْفُو عَن الْغُلَام، فَلم يفعل، وألحوا عَلَيْهِ، فَحلف أَنه لَا بُد أَن يطرحه ثَانِيَة، فأمسكوا. وَطرح الْغُلَام، فَلَمَّا بلغ الْقَرار قَامَ يمشي سالما، وارتفع من التَّكْبِير والتهليل أَضْعَاف مَا ارْتَفع أَولا. فَقَالَ الْحَاضِرُونَ: هَل بعد هَذَا شَيْء؟ وسألوه الْعَفو عَنهُ، وَبكى بَعضهم. فاستحى أَبُو الْفضل وَعجب، وَقَالَ: ردُّوهُ آمنا، فَردُّوهُ. فَأمر بقيوده ففكت، وبثياب فطرحت عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أصدقني عَن سريرتك مَعَ الله، عز وَجل، الَّتِي نجاك بهَا هَذِه النجَاة.

فَقَالَ: مَا أعلم لي حَالا توجب هَذَا، إِلَّا أَنِّي كنت غُلَاما أمردًا، مَعَ أستاذي فلَان، الَّذِي هُوَ أحد من قتل السَّاعَة، وَكَانَ يَأْتِي مني الْفَاحِشَة، ويخرجني مَعَه، فنقطع الطَّرِيق، ونخيف السَّبِيل، ونقتل الْأَنْفس، وننهب الْأَمْوَال، ونهتك الْحرم، ونفجر بِهن، ونأخذ كل مَا نجد، لَا أعرف غير هَذَا. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْفضل: كنت تَصُوم وَتصلي؟ قَالَ: مَا كنت أعرف الصَّلَاة، وَلَا صمت قطّ، وَلَا فِينَا من يَصُوم. فَقَالَ لَهُ: وَيلك، فَمَا هَذَا الْأَمر الَّذِي نجاك الله بِهِ، فَهَل كنت تَتَصَدَّق؟ قَالَ: وَمن كَانَ يجئنا حَتَّى نتصدق عَلَيْهِ؟ قَالَ: ففكر، وَاذْكُر شَيْئا، إِن كنت فعلته لله عز وَجل، وَإِن قل. ففكر الْغُلَام سَاعَة، ثمَّ قَالَ: نعم، سلم إِلَيّ أستاذي مُنْذُ سِنِين، رجلا كَانَ أسره فِي بعض الطرقات، بعد أَن أَخذ جَمِيع مَا مَعَه، وَصعد بِهِ إِلَى القلعة. وَقَالَ لَهُ اشْتَرِ نَفسك بِمَال تستدعيه من بلادك وَأهْلك، وَإِلَّا قتلتك. فَقَالَ الرجل: مَا أملك من الدُّنْيَا كلهَا غير مَا أَخَذته مني. فَعَذَّبَهُ أَيَّامًا وَهُوَ لَا يذعن بِشَيْء. ثمَّ جد بِهِ يَوْمًا فِي الْعَذَاب جدا شَدِيدا، فَحلف الرجل بِاللَّه تَعَالَى، وبالطلاق، وبأيمان غَلِيظَة، أَنه لَا يملك من الدُّنْيَا إِلَّا مَا أَخذه مِنْهُ، وَأَنه لَيْسَ لَهُ فِي بَلَده إِلَّا نَفَقَة جعلهَا لِعِيَالِهِ، قدرهَا نَفَقَة شهر، إِلَى أَن يعود إِلَيْهِم، وَأَن الصَّدَقَة الْآن تحل لَهُ وَلَهُم، واستسلم الرجل للْمَوْت. فَلَمَّا وَقع فِي نفس أستاذي أَنه صَادِق، قَالَ: انْزِلْ بِهِ، وامض إِلَى الْموقع الْفُلَانِيّ، فاذبحه، وجئني بِرَأْسِهِ. فَأخذت الرجل، وحدرته من القلعة، فَلَمَّا رَآنِي أعسفه، قَالَ لي: إِلَى أَيْن تمْضِي بِي؟ وَأي شَيْء تُرِيدُ مني؟ فعرفته مَا أَمرنِي بِهِ أستاذي، فَجعل يبكي، ويلطم، ويتضرع، ويسألني أَن لَا أفعل، ويناشدني الله عز وَجل، وَذكر لي

أَن لَهُ بَنَات أطفالًا، لَا كَاد لَهُم وَلَا كاسب سواهُ، وخوفني بِاللَّه عز وَجل، وسألني أَن أطلقهُ. فأوقع الله تَعَالَى رَحْمَة لَهُ فِي قلبِي، فَقلت لَهُ: إِن لم أرجع إِلَيْهِ برأسك قتلني، ولحقك فقتلك. فَقَالَ: يَا هَذَا أطلقني أَنْت، وَلَا تعد إِلَى صَاحبك إِلَّا بعد سَاعَة، وأعدو أَنا فَلَا يلحقني، وَإِن لَحِقَنِي، كنت أَنْت قد برأت من دمي، وَصَاحِبك لَا يقتلك مَعَ محبته لَك، فَتكون قد أجرت فِي. فازدادت رَحْمَتي لَهُ، فَقلت لَهُ: خُذ حجرا، فَأَضْرب بِهِ رَأْسِي، حَتَّى يسيل دمي، وأجلس هَا هُنَا، حَتَّى أعلم أَنَّك قد صرت على فراسخ، ثمَّ أَعُود أَنا إِلَى القلعة. فَقَالَ: لَا أستحسن أَن أكافئك على خلاصي بِأَن أشجك. فَقلت: لَا طَرِيق إِلَى خلاصك، وخلاص نَفسِي، إِلَّا هَكَذَا. فَفعل، وَتَرَكَنِي، وطار عدوا، وَجَلَست فِي موضعي، حَتَّى وَقع لي أَنه صَار على فراسخ كَثِيرَة، وَجئْت إِلَى أستاذي غريقًا بدمائي. فَقَالَ: مَا بالك، وَأَيْنَ الرَّأْس؟ فَقلت: سلمت إِلَيّ شَيْطَانا، لَا رجلا، مَا هُوَ إِلَّا أَن حصل معي فِي الصَّحرَاء حَتَّى صارعني، فطرحني إِلَى الأَرْض، وشدخني بِالْحِجَارَةِ، كَمَا ترى، وطار يعدو، فَغشيَ عَليّ، فَمَكثت فِي موضعي إِلَى الْآن، فَلَمَّا رقأ دمي، وَرجعت قوتي، جئْتُك. فَأنْزل خلقا وَرَاءه، فعادوا من غَد، وفتشوا عَلَيْهِ، فَمَا وقفُوا لَهُ على أثر، فَإِن يكن الله تَعَالَى، قد خلصني لشَيْء فعلته، فَلهَذَا.

قَالَ: فَجعله أَبُو الْفضل رَاجِلا على بَابه برزق لَهُ قدر، واصطنعه. قَالَ لي الشريف: وحَدثني بِهَذَا الْخَبَر جمَاعَة مِمَّن كَانُوا فِي القلعة، وَغَيرهم مِمَّن شاهدوا الْقِصَّة، وَمِنْهُم من أخبر عَمَّن شَاهدهَا، وَوجدت الْخَبَر بعده شَائِعا بِفَارِس.

سقط من علو ألف ذراع ونهض سالما

سقط من علو ألف ذِرَاع ونهض سالما وَقَرِيب من هَذَا مَا حَدثنِي بِهِ الشريف أَبُو الْحسن، أيده الله، قَالَ: كَانَ رجل بِالْكُوفَةِ، سَمَّاهُ، وأنسيت أَنا اسْمه، مَشْهُور بهَا، يَجِيء إِلَى إِصْبَع خفان، وَهُوَ بِنَاء قديم مَشْهُور بنواحي الْكُوفَة، كالقائم، يُقَال إِنَّه كَانَ مرقبًا للأكاسرة على الْعَرَب، وَهُوَ مجوف، وَفِي دَاخله دَرَجَة، فيصعدها إِلَى أَن يسمو فِيهِ على تسعين ذِرَاعا، ثمَّ لَا يبْقى مَوضِع صعُود لأحد، وَهُنَاكَ سطيح حراس المنارة، وَيقف الْإِنْسَان فِيهِ، وَله منافذ يرى مِنْهَا الْبر، وَتَكون المنافذ إِلَى أَسْفَل صدر الْقَائِم فِيهِ، وعَلى بَاقِي الْبناء قبَّة كالبيضة، لَا يصل إِلَيْهَا من يكون هُنَاكَ، كَمَا تكون رُءُوس المنائر.

وَكَانَ هَذَا الرجل يخرج نَفسه من بعض المنافذ، ويقلب فَيصير فَوق الْبَيْضَة بحذق ولطف قد تعودهما، وَكَانَ قد جعل قَدِيما فَوق الْبَيْضَة حجر مدور كالرحى، لَهُ سفود حَدِيد، لَا يعرف الْغَرَض من تصييره هُنَاكَ لطول الزَّمَان، فيقلب الرجل نَفسه من النافذة، فيقعد فَوق تِلْكَ الرَّحَى، وَكَانَ الْقَائِم مَبْنِيا على حرف النجف، وَطوله إِلَى بطن النجف أَكثر من ألف ذِرَاع أَو نَحوه، فَيصير الرجل عَالِيا علوا عَظِيما، ويعجب النَّاس من ذَلِك، وَيَأْخُذهُ عَلَيْهِ مِنْهُم الْبر. وَإِن رجلا أَتَاهُ وَهُوَ متنبذ، فَأعْطَاهُ شَيْئا ليصعد للقائم، فَفعل ذَلِك جَارِيا على عَادَته، فلغلبة النَّبِيذ عَلَيْهِ لم يتحرز التَّحَرُّز التَّام لما أخرج نَفسه من أحد المنافذ لينقلب على الرَّحَى، فاضطرب جِسْمه وعلق بالرحى، وَجَاء ليركبه، فانقلع الرَّحَى مَعَه، وهويا جَمِيعًا من ذَلِك الْعُلُوّ المفرط إِلَى بطن النجف، ولثقل الْحجر، وَأَن الرجل لم يكن تَحْتَهُ، مَا سبق الْحجر إِلَى الأَرْض، فتقطع قطعا، وَدخلت الرّيح فِي ثِيَاب الرجل، وَرَآهُ النَّاس فصاحوا، وَكَبرُوا عجبا، وَالرِّيح تحمل الرجل على مهل، حَتَّى طرحته فِي قَرَار النجف، فَقَامَ يمشي، مَا أَصَابَهُ شَيْء أَلْبَتَّة، حَتَّى صعد من مَوضِع سهل أمكنه الصعُود مِنْهُ إِلَى إِصْبَع خفان. وحَدثني أَن هَذَا شَائِع ذائع بِالْكُوفَةِ، لم يكن فِي عمره، وَلَكِن أخبر بِهِ جمَاعَة كَبِيرَة من شُيُوخ الْكُوفَة.

بين المهدي ويعقوب بن داود

بَين الْمهْدي وَيَعْقُوب بن دَاوُد وَقُرِئَ على أبي بكر الصولي، وَأَنا حَاضر أسمع، حَدثكُمْ الْحسن الْعَنْبَري، قَالَ: أَمر الْمهْدي بِيَعْقُوب بن دَاوُد الْكَاتِب، بعد أَن نكبه، أَن يُؤْتى بِهِ إِلَيْهِ، فجَاء، وَقد انتضى لَهُ السَّيْف. فَقَالَ: يَا يَعْقُوب. قَالَ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، تَلْبِيَة مكروب لموجدتك، شَرق بِغَضَبِك. فَقَالَ: ألم أرفع قدرك وَأَنت خامل، وأسير ذكرك وَأَنت غافل، وألبسك من نعم الله ونعمي، مَا لم أجد عنْدك طَاقَة لحمله، وَلَا قيَاما بشكره، فَكيف رَأَيْت الله أظهر عَلَيْك، ورد كيدك إِلَيْك؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن كنت قلت هَذَا بِعلم ويقين، فَأَنا معترف، وَإِن كَانَ بسعاية الساعين، فَأَنت بِمَا فِي أَكْثَرهَا عَالم، وَأَنا عَائِذ بكرمك، وعميم شرفك. فَقَالَ: لَوْلَا مَا سبق لَك من رعايتي لاستحقاقك، لألبستك من الْمَوْت قَمِيصًا، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى المطبق. فَذَهَبُوا بِهِ وَهُوَ يَقُول: الِاخْتِلَاط رحم، وَالْوَفَاء كرم، وَمَا على الْعَفو يذم، وَأَنت بالمحاسن جدير، وَأَنا بِالْعَفو خليق. فَلم يزل مَحْبُوسًا، حَتَّى أطلقهُ الرشيد.

قَالَ الصولي: وَلما أوقع الْمهْدي بِيَعْقُوب بن دَاوُد، أحضر إِسْحَاق بن الْفضل بن عبد الرَّحْمَن الربعِي الْهَاشِمِي. فَقَالَ لَهُ: أتزعم أَنكُمْ الكبراء من ولد عبد الْمطلب، لِأَن الْحَارِث أَبَاكُم أكبر وَلَده، وَلذَلِك صرت أَحَق بالخلافة مني؟ فَقَالَ إِسْحَاق: على من قَالَ هَذَا، أَو نَوَاه، لعنة الله، وَإِذا صَحَّ عَليّ هَذَا، فاقتلني. فَقَالَ: يَعْقُوب بن دَاوُد، قَالَ لي هَذَا عَنْك. فَقلت فِي نَفسِي: يَعْقُوب قد قتل، وَلم أَشك فِي ذَلِك، فقد أمنت من أَن يبهتني. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن واجهني يَعْقُوب بِهَذَا فقد اعْترفت بِهِ. فأحضر يَعْقُوب مُقَيّدا، فَقَالَ لَهُ: أما أَخْبَرتنِي عَن إِسْحَاق بِكَذَا؟ قَالَ إِسْحَاق: فأحسست، وَالله، بِالْمَوْتِ، إِلَى أَن قَالَ يَعْقُوب: وَالله، مَا قلت لَك هَذَا قطّ. قَالَ: بلَى وَالله. قَالَ: لَا وَالله، فاغتاظ الْمهْدي. فَقَالَ لَهُ يَعْقُوب: إِن أذكرتك القَوْل فِي هَذَا، تزيل التُّهْمَة عني؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أَتَذكر يَوْم شاورتني فِي أَمر مصر، فأشرت عَلَيْك بِإسْحَاق. فَقلت: ذَاك يزْعم أَنه أولى بالخلافة مني، وَقد كَانَ مبارك التركي حَاضرا ذَلِك، فَاسْأَلْهُ، فَذكر الْمهْدي ذَلِك. ثمَّ أقبل الْمهْدي يوبخ يَعْقُوب على أَفعاله، وَيَعْقُوب يقوم بِالْحجَّةِ. إِلَى أَن قَالَ لَهُ يَعْقُوب: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَتَذكر حَيْثُ أَعْطَيْتنِي عهد الله وميثاقه، وَذمَّة رَسُوله، وَذمَّة آبَائِك، أَن لَا تقتلني، وَلَا تحبسني، وَلَا تضربني

أبدا، وَلَو قتلت مُوسَى وَهَارُون. قَالَ: فَوَثَبَ الْمهْدي من مَجْلِسه، ورد يَعْقُوب إِلَى حَبسه، وَخرجت أَنا.

جزاء الخيانة

جَزَاء الْخِيَانَة وَحكى أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق التنوخي: أَن رجلا أَمْسَى فِي بعض محَال الْجَانِب الغربي من مَدِينَة السَّلَام، وَمَعَهُ دَرَاهِم لَهَا قدر. فخاف على نَفسه من الطَّائِف، أَو من بلية تقع عَلَيْهِ، فَصَارَ إِلَى رجل من أهل الْموضع، وَسَأَلَهُ أَن يبيته عِنْده، فَأدْخلهُ. فَلَمَّا تَيَقّن أَن مَعَه مَالا، حدث نَفسه بقتْله، وَأخذ المَال. وَكَانَ لَهُ ابْن شَاب، فنومه بحذاء الرجل، فِي بَيت وَاحِد، وَلم يعلم ابْنه مَا فِي نَفسه، وَخرج من عِنْدهمَا، وَقد عرف مكانهما، وطفئ السراج. فَقدر أَن الابْن انْتقل من مَوْضِعه إِلَى مَوضِع الضَّيْف، وانتقل الضَّيْف إِلَى مَوضِع الابْن، وَجَاء أَبوهُ يطْلب الضَّيْف، فصادف الابْن فِيهِ، وَهُوَ لَا يشك أَنه الضَّيْف، فخنقه، فاضطرب، وَمَات. وانتبه الضَّيْف باضطرابه، وَعرف مَا أُرِيد بِهِ، فَخرج هَارِبا، وَصَاح فِي الطَّرِيق، ووقف الْجِيرَان على خَبره، وأغاثوه، وَخَرجُوا إِلَيْهِ. وَأخذ الرجل، فقرر، فَأقر بقتل وَلَده، فحبس، وَأخذ المَال من دَاره، فَرد على الضَّيْف، وَسلم.

الخائن لا يؤتمن

الخائن لَا يؤتمن قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقد جرى فِي عصرنا مثل هَذَا، فَحَدثني مُبشر الرُّومِي، قَالَ: لما خرج معز الدولة فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، وَانْهَزَمَ نَاصِر الدولة من بَين يَدَيْهِ، أنفذني مولَايَ، لأَكُون بِحَضْرَتِهِ، وحضرة أبي جَعْفَر الصَّيْمَرِيّ كَاتبه، وأوصل كتبه إِلَيْهِمَا. فَسمِعت حَاشِيَة الصَّيْمَرِيّ، يتحدثون: أَنه جَاءَ إِلَيْهِ ركابي من ركابيته، وَقَالَ لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، إِن قتلت لَك نَاصِر الدولة، أَي شَيْء تُعْطِينِي؟ قَالَ لَهُ: ألف دِينَار. قَالَ: فَأذن لي أَن أمضي وأحتال فِي اغتياله، فَأذن لَهُ. فَمضى إِلَى أَن دخل عسكره، وَعرف مَوضِع مبيته من خيمته، فرصد الْغَفْلَة حَتَّى دَخلهَا لَيْلًا، وناصر الدولة نَائِم، وبالقرب من مرقده شمعة مشتعلة، وَفِي الْخَيْمَة غُلَام نَائِم. فَعرف مَوضِع رَأسه من المرقد، ثمَّ أطفأ الشمعة، واستل سكينًا طَويلا مَاضِيا كَانَ فِي وَسطه، وَأَقْبل يمشي فِي الْخَيْمَة، ويتوقى أَن يعثر بالغلام، وَهُوَ يُرِيد مَوضِع نَاصِر الدولة. فَإلَى أَن وصل إِلَيْهِ انْقَلب نَاصِر الدولة من الْجَانِب الَّذِي كَانَ نَائِما عَلَيْهِ، إِلَى الْجَانِب الآخر، وزحف فِي الْفراش، فَصَارَ رَأسه على الْجَانِب الآخر من

المخاد والفراش، وَبَينه وَبَين الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ مَسَافَة يسيرَة. وَبلغ الركابي إِلَى الْفراش، وَهُوَ لَا يظنّ إِلَّا أَنه فِيهِ وَأَنه فِي مَكَانَهُ. فوجأ الْموضع بالسكين بِجَمِيعِ قوته، وَعِنْده أَنه قد أثبتها فِي صدر نَاصِر الدولة، وَتركهَا فِي موضعهَا، وَخرج من تَحت أطناب الْخَيْمَة. وَصَارَ فِي الْوَقْت إِلَى عَسْكَر معز الدولة، فوصل إِلَيْهِ، فَأخْبرهُ أَنه قتل نَاصِر الدولة، وطالب بالجعالة، فاستشرحه كَيفَ صنع، فشرحه. فَقَالَ لَهُ: اصبر حَتَّى يرد جواسيسي بِصِحَّة الْخَبَر. فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْمَيْنِ ورد الجواسيس بأخبار عَسْكَر نَاصِر الدولة، وَمَا يدل على سَلَامَته وَأَن إنْسَانا أَرَادَ أَن يغتاله، فَكَانَ كَيْت وَكَيْت، وَذكر لَهُ خبر السكين. فأحضر معز الدولة الركابي، وَسلمهُ إِلَى أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن أَحْمد الصَّيْمَرِيّ، الْهِلَالِي، فِيمَا سَمِعت إِذْ ذَاك، وَقَالَ لَهُ: اكْفِنِي أَمر هَذَا الركابي، فَإِن من تجاسر على الْمُلُوك لم يجز أَن آمنهُ على نَفسِي. فغرقه الصميري سرا.

أراد ابن المعتز قتل يحيى بن علي المنجم فلم يمهله القدر

أَرَادَ ابْن المعتز قتل يحيى بن عَليّ المنجم فَلم يمهله الْقدر قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: كَانَ يحيى بن عَليّ المنجم قد نَاقض أَبَا الْعَبَّاس عبد الله بن المعتز، فِي أشعار جرت بَينهمَا، فِي تَفْضِيل مَا بَين الْعَرَب والعجم، والطالبيين والعباسيين، واشتدت الْحَال بَينهمَا، إِلَى أَن بادأه يحيى بالعداء والهجاء، وَذَلِكَ طَوِيل مَشْهُور، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره. فَلَمَّا بُويِعَ ابْن المعتز، وأطاعه الْجَيْش، وَجلسَ للنَّظَر فِي الْأُمُور، وَأَشَارَ أهل يحيى عَلَيْهِ بالهرب، وهم هُوَ بِهِ خوفًا من الْقَتْل، أَتَتْهُ رسل ابْن المعتز يطلبونه لِلْبيعَةِ، فَدخل إِلَيْهِ وَهُوَ آيس من الْحَيَاة، فَبَايعهُ، وثار الشَّرّ فِي وَجهه حَتَّى خَافَ أَن يبادره، ثمَّ انْصَرف لاشتغال ابْن المعتز عَنهُ بإحكام الْبيعَة، وَعمل يحيى على التواري وَإِسْلَام النِّعْمَة. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، انْتقض أَمر ابْن المعتز، وكفي يحيى أمره. وَحكى الصولي فِي كِتَابه كتاب الوزراء قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن إِسْمَاعِيل الجليس، قَالَ: دخل يحيى بن عَليّ المنجم، إِلَى عبد الله بن المعتز،

مُتَقَلِّدًا سَيْفا، وَمَعَهُ ابناه، فَسلم عَلَيْهِ بالخلافة. فَقَالَ لَهُ، قَلِيلا قَلِيلا، وَمن حوله يسمع: لَا سلم الله عَلَيْك، يَا كلب، أَلَسْت الهاجي سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والفاخر بعجمك على أَهله؟ وَالله، لأطعمن الطير لحمك. قَالَ: وَخفت أَن يعجل فيأمر بِهِ، فَجعلت أومئ إِلَى الِانْتِظَار بِهِ، فَسلم، وَلَا أَحسب ذَلِك إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ يعد لَهُ مَا الْقَتْل مَعَه رَاحَة. ثمَّ قَالَ: كلاب غذتهم نعمتنا، وأشادت بذكرهم خدمتنا، سعوا بِالْبَاطِلِ علينا، وجحدوا إحساننا، وهجوا نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى إِذا أظلهم الْعَذَاب، وأسلمتهم الحراب، تحَصَّنُوا بالرفض، ومدحوا أهلنا، وأخص النَّاس بِنَا، لتنصرهم علينا طَائِفَة منا، وليتألفوا قلوبًا نفرت عَنْهُم وَلم يعلم الْجَاهِل الْكَافِر، أننا وَبني عمنَا من آل أبي طَالب، لَو افترقنا فِي كل شَيْء تَجْتَمِع النَّاس عَلَيْهِ، مَا افترقنا فِي أَن الثالب لسيدنا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَافِر، والفاخر عَلَيْهِ فَاجر، وَأَنا جَمِيعًا نرى قَتله، ونستحل دَمه. فَمَا زلنا نسكن مِنْهُ ونحتال للْعُذْر عَنهُ وَجها، وَهُوَ لَا يقبل، ويعنفنا، وَيَقُول: لَيْسَ بِمُسلم من خَالف قولي هَذَا. وأنشدني يحيى بن عَليّ، لنَفسِهِ، بعد أَن قتل ابْن المعتز: نفخت فِي غير فَحم ... يَا قَاطعا كلّ رحم لمّا تألّيت بغيًا ... أَن تطعم الطير لحمي حميت مِنْك فَصَارَ ... الْمُبَاح مَا كنت تَحْمِي فَاذْهَبْ إِلَى النَّار فازحم ... سكّانها أيّ زحم

قَالَ الصولي: وَلما ولي أَبُو الْحسن بن الْفُرَات الوزارة الأولى، دخل عَلَيْهِ يحيى بن عَليّ فأنشده قصيدة، يهنيه بهَا، وَذكرهَا الصولي، فَمِنْهَا مِمَّا يدْخل فِي هَذَا الْمَعْنى، قَوْله: وَلَيْسَ وزارة الْخُلَفَاء نهبًا ... وَلَيْسَ خلَافَة الرَّحْمَن عاره تجلّت غبرة كنّا أصبْنَا ... بهَا والمسلمون على إباره فأعقبنا الزَّمَان رضى بسخطٍ ... وأبدلنا الْحَلَاوَة بالمراره

الحجاج بن خيثمة ينصح الحسن بن سهل

الْحجَّاج بن خَيْثَمَة ينصح الْحسن بن سهل حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الْوراق الْمَعْرُوف بالصيرفي، ابْن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَثْرَم الْمُقْرِئ الْبَغْدَادِيّ بِالْبَصْرَةِ فِي الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين وَثَلَاث مائَة بِكِتَاب المبيضة لأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبيد الله بن عمار، فِي خبر أبي السَّرَايَا الْخَارِج بالطالبيين بعد مقتل الْأمين، وَشرح غَلَبَة الطالبيين وَأَصْحَاب أبي السَّرَايَا على الْكُوفَة، وَالْبَصْرَة، وَأكْثر السوَاد، والحرمين، واليمن، والأهواز، وَغير ذَلِك، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان النَّوْفَلِي، قَالَ: لما انْصَرف الطالبيون عَن الْبَصْرَة، تفَرقُوا، فتوارى بَعضهم بِبَغْدَاد وَبَعْضهمْ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ فِيمَن توارى زيد بن مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد، فَطَلَبه الْحسن طلبا شَدِيدا حَتَّى دلّ على مَوْضِعه، فَأرْسل إِلَيْهِ من هجم عَلَيْهِ فَأتى بِهِ، ثمَّ جلس مَجْلِسا عَاما من أَجله، ودعا بِهِ، فأنبه، ووبخه، وَقَالَ: قتلت النَّاس، وسفكت دِمَاء الْمُسلمين، وَفعلت، وَفعلت. ثمَّ أقبل على من حَضَره من النَّاس والهاشميين وَغَيرهم، وَقَالَ: مَا ترَوْنَ فِيهِ؟ فأمسكوا جَمِيعًا.

وانبرى لَهُ قثم بن جَعْفَر بن سُلَيْمَان، فَقَالَ: أرى أَيهَا الْأَمِير أَن تضرب عُنُقه، وَدَمه فِي عنقِي. فَأمر بِهِ الْحسن، فَشد رَأسه بالحبل، وانتضي لَهُ السَّيْف، وَلم يبْق إِلَّا أَن يُومِئ بِالضَّرْبِ، فَيضْرب. إِذْ صَاح الْحجَّاج بن خَيْثَمَة، وَهِي أمه، وَقد حضر الْمجْلس ذَلِك الْيَوْم، قَالَ: وَهُوَ رجل من أهل الْبَصْرَة لَهُ قدر، وَأمه أُخْت عبيد الله بن سَالم مولى بلقين، وَكَانَ الرشيد جعل إِلَيْهِ أَمر الصواري والبارجات، وَكَانَت لَهُ فِي نَفسه هيأة وَحَال وسرو، فَاحْتمل أَن يُولى هَذَا، وَكَانَت حَاله، بعد، حَالا حَسَنَة، وَقدره غير وضيع. فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، إِن رَأَيْت أَن لَا تعجل، وَأَن تَدعُونِي إِلَيْك، فَإِن لَك عِنْدِي نصيحة. فَفعل الْحسن، وَأمْسك الَّذِي بِيَدِهِ السَّيْف، واستدناه. فَلَمَّا دنا، قَالَ: أَيهَا الْأَمِير، أَتَاك بِمَا تُرِيدُ فعله أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَكَانَ قد عهد إِلَيْك، إِذا ظَفرت بِهَذَا الرجل أَن تقتله، واستأمرت بِهِ بعد ظفرك بِهِ، فأمرك بذلك؟ قَالَ: لَا ذَا وَلَا ذَا. قَالَ: أتقتل ابْن عَم أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن غير أمره، وَلَا استطلاع رَأْيه فِيهِ؟ قَالَ: ثمَّ حَدثهُ بِحَدِيث عبد الله بن الْأَفْطَس، وَأَن الرشيد حَبسه عِنْد جَعْفَر بن يحيى، فأقدم عَلَيْهِ، فَقتله من غير أمره، وَبعث بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، مَعَ هَدَايَا النيروز، وَأَن الرشيد لما أَمر مَسْرُورا الْكَبِير بقتل جَعْفَر، قَالَ لَهُ: إِذا سَأَلَك

عَن ذَنبه الَّذِي أَقتلهُ من أَجله، فَقل لَهُ: إِنَّمَا أَقْتلك بِابْن عمي ابْن الْأَفْطَس الَّذِي قتلته من غير أَمْرِي. ثمَّ قَالَ الْحجَّاج لِلْحسنِ: أفتأمن أَيهَا الْأَمِير حَادِثَة تحدث بَيْنك وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ فيحتج عَلَيْك بِمثل مَا احْتج بِهِ الرشيد على جَعْفَر؟ فجزاه خيرا، وَأمر أَن يرفع عَن زيد السَّيْف، وَأَن يرد إِلَى محبسه فَلم يزل مَحْبُوسًا حَتَّى ظهر أَمر إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي، فجد أهل بَغْدَاد بالْحسنِ بن سهل فأخرجوه مِنْهَا. قَالَ: وَكَانَ حَبسه عِنْد الطّيب بن يحيى، وَكَانَ صَاحب حرسه، قَالَ: وَحبس مَعَه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْجَعْفَرِي، أَخا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد صَاحب الْبَصْرَة، فضيق عَلَيْهِمَا محبسهما حَتَّى جَعلهمَا فِي سفينة، وأطبق عَلَيْهَا ألواحًا، وَجعل لَهَا فتحا يدْخل مِنْهُ الطَّعَام وَالشرَاب، وَعِنْدَهُمَا دن مَقْطُوع الرَّأْس يحدثان فِيهِ، فَإِذا كَاد يمتلئ، أخرج فَرمي مَا فِيهِ، ثمَّ رد. فَلم يزل ذَلِك حَالهمَا، حَتَّى بَايع الْمَأْمُون لعَلي بن مُوسَى الرِّضَا، فَكتب إِلَى الْحسن فِي إطلاقهما، فَفعل الْحسن ذَلِك.

يحيى البرمكي يغري الرشيد بجعفر بن الأشعث

يحيى الْبَرْمَكِي يغري الرشيد بِجَعْفَر بن الْأَشْعَث وَحدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن الْأَثْرَم، فِي هَذَا الْكتاب، فِي خبر مُوسَى بن جَعْفَر بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس بن عمار، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن النَّوْفَلِي، وَهُوَ عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الْملك بن الْحَارِث بن نَوْفَل، قَالَ: حَدثنِي أبي، أَن بَدْء سعي يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، على مُوسَى بن جَعْفَر، كَانَ سَببه وضع الرشيد ابْنه مُحَمَّدًا فِي حجر جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث، فسَاء ذَلِك يحيى، وَقَالَ: إِذا مَاتَ الرشيد، وأفضى الْأَمر إِلَى وَلَده مُحَمَّد انْقَضتْ دَوْلَتِي، ودولة وَلَدي، وتحول الْأَمر إِلَى جَعْفَر وَولده، وَقد كَانَ عرف مَذْهَب جَعْفَر فِي التَّشَيُّع، فأظهر لَهُ إِنَّه على مذْهبه، فَلَمَّا أنس بِهِ جَعْفَر، أفْضى إِلَيْهِ بِجَمِيعِ أمره، وَذكر لَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي مُوسَى بن جَعْفَر. وَكَانَ الرشيد يرْعَى لَهُ مَوْضِعه، وَمَوْضِع أَبِيه من الْخُلَفَاء، فَكَانَ يقدم فِي

أمره وَيُؤَخر، وَيحيى لَا يألو أَن يحطب عَلَيْهِ، إِلَى أَن دخل يَوْمًا على الرشيد، وَجرى بَينهمَا حَدِيث، فمت جَعْفَر بخدمته وخدمة أَبِيه، فَأمر لَهُ بِعشْرين ألف دِينَار، فَأمْسك يحيى أَيَّامًا، ثمَّ قَالَ للرشيد: قد كنت أخْبرك عَن جَعْفَر ومذهبه، فأكذب عَنهُ، وَهَا هُنَا أَمر فِيهِ الْفَصْل، إِنَّه لَا يصير إِلَيْهِ مَال إِلَّا أخرج خمسه فَوجه بِهِ إِلَى مُوسَى بن جَعْفَر، وَلست أَشك أَنه فعل ذَلِك فِي الْعشْرين ألف دِينَار الَّتِي أمرت لَهُ بهَا. فَأرْسل الرشيد إِلَى جَعْفَر لَيْلًا يستدعيه، وَقد كَانَ جَعْفَر عرف سِعَايَة يحيى عَلَيْهِ، مساسًا للعداوة، فَلَمَّا طرق جعفرًا رَسُول الرشيد لم يشك أَنه سمع من يحيى فِيهِ، فَأَفَاضَ عَلَيْهِ مَاء، ودعا بمسك وكافور، وتحنط بهما، وَلبس بردة، وَأَقْبل إِلَى الرشيد، فَلَمَّا دنا مِنْهُ ليخاطبه، شم مِنْهُ رَائِحَة الكافور، وَرَأى الْبردَة، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَعْفَر؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قد علمت أَنه يسْعَى عَليّ عنْدك، فَلَمَّا جَاءَنِي رَسُولك فِي هَذِه السَّاعَة، علمت أَنَّك أرْسلت إِلَيّ لتقتلني. قَالَ: كلا، وَلَكِن أخْبرت أَنَّك تبْعَث إِلَى مُوسَى بن جَعْفَر من كل مَا يصير إِلَيْك بخمسه، وَأَنَّك قد فعلت ذَلِك فِي الْعشْرين ألف دِينَار، وأحببت أَن أعلم ذَلِك.

فَقَالَ جَعْفَر: الله أكبر، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، مر بعض خدمك يذهب فيأتيك بهَا بخاتمها. فَقَالَ الرشيد لبَعض الخدم: خُذ خَاتم جَعْفَر وَانْطَلق حَتَّى تَأتي بِهَذَا المَال، وأسمى لَهُ جَارِيَته الَّتِي مَاله عِنْدهَا، فَدفعت إِلَيْهِ الْبَدْر بخواتمها، فَأتى بهَا إِلَى الرشيد. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذَا أول مَا تعرف بِهِ كذب من سعى بِي إِلَيْك. فَقَالَ: صدقت، انْصَرف آمنا، فَإِنِّي لَا أقبل فِيك، بعد هَذَا قَول أحد.

هب مجرم قوم لوافدهم

هَب مجرم قوم لوافدهم حَدثنَا عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: بَلغنِي عَن الْعُرْيَان بن الْهَيْثَم، عَن أَبِيه. أَن عبيد الله بن زِيَاد، وَجهه إِلَى يزِيد بن مُعَاوِيَة، رَسُولا فِي حَاجته فَدخل، فَإِذا خارجي بَين يَدي يزِيد يخاطبه. فَقَالَ لَهُ الْخَارِجِي فِي بعض مَا خاطبه: يَا شقي. فَقَالَ: وَالله لأَقْتُلَنك، فَرَآهُ يُحَرك شَفَتَيْه. فَقَالَ: مَاذَا الَّذِي تَقول؟ قَالَ: أَقُول: عَسى فرج يَأْتِي بِهِ الله إنّه ... لَهُ كلّ يَوْم فِي خليقته أَمر إِذا اشتدّ عسر فارج يسرا فإنّه ... قضى الله أنّ الْعسر يتبعهُ الْيُسْر فَقَالَ: أَخْرجَاهُ، فاضربا عُنُقه. وَدخل الْهَيْثَم بن الْأسود، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأخْبر بِالْأَمر. فَقَالَ: كفا عَنهُ قَلِيلا، حَتَّى أَدخل، فَدخل.

فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَب مجرم قوم لوافدهم. فَقَالَ: هُوَ لَك. فَأخذ الْهَيْثَم بِيَدِهِ، فَأخْرجهُ، والخارجي يَقُول: الْحَمد لله، تَعَالَى على الله، فأكذبه، وغالب الله، فغلبه.

ضراوة الحجاج على القتل

ضراوة الْحجَّاج على الْقَتْل قتل الْحجَّاج عَامَّة يَوْمه الأسرى من أَصْحَاب ابْن الْأَشْعَث وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، قَالَ: حَدثنَا رجل كَانَ من أُسَارَى الْحجَّاج، من أَصْحَاب ابْن الْأَشْعَث يَوْم الزاوية، قَالَ: جعل الْحجَّاج، يقتل عَامَّة الأسرى، وَبقيت منا جمَاعَة قَليلَة، وَأتي بِرَجُل ليضْرب عُنُقه، فَقَالَ: يَا حجاج، وَالله لَئِن كُنَّا أسأنا فِي الْفِعْل، فَمَا أَحْسَنت فِي الْعقُوبَة، وَإِن كُنَّا لؤمنا فِي الْجِنَايَة، فَمَا كرمت فِي الْعَفو. فَقَالَ: ردُّوهُ، فَرد. فَقَالَ: أَخْبرنِي كَيفَ قلت؟ فَأَعَادَ الْكَلَام. فَقَالَ الْحجَّاج: صدقت، وَالله، أُفٍّ لهَذِهِ الْجِيَف، أما كَانَ فِيهَا أحد ينبهنا كَمَا نبهنا هَذَا؟ أطْلقُوا عَنهُ، وَعَن بَاقِي الأسرى. فأطلقوا. قتل جَمِيع أسراه إِلَّا وَاحِدًا وَذكر الْمَدَائِنِي فِي كِتَابه، قَالَ: أُتِي الْحجَّاج بِقوم مِمَّن خَرجُوا عَلَيْهِ، فَأمر بهم فَقتلُوا، وأقيمت الصَّلَاة، وَقد بَقِي مِنْهُم رجل وَاحِد. فَقَالَ الْحجَّاج لعنبسة: انْصَرف بِهَذَا مَعَك، واغد بِهِ عَليّ.

قَالَ عَنْبَسَة: فَخرجت بِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الطَّرِيق، قَالَ لي: هَل فِيك خير يَا فَتى؟ قلت: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: إِنِّي، وَالله الْعَظِيم، مَا خرجت على الْمُسلمين قطّ وَلَا استحللت قِتَالهمْ، وَعِنْدِي ودائع وأموال، فتخلى عني، حَتَّى آتِي أَهلِي فأرد على كل ذِي حق حَقه، وَأَجْعَل لَك عهد الله عز وَجل، أَنِّي أرجع إِلَيْك من غَد. فتعجبت مِنْهُ، وتضاحكت بِهِ. فمضينا سَاعَة، فَأَعَادَ القَوْل عَليّ، فَقلت لَهُ: إذهب، فَذهب. فَلَمَّا توارى عني شخصه، أسقط فِي يَدي، فَأتيت أَهلِي وَأَخْبَرتهمْ الْخَبَر، فَقَالُوا: لقد اجترأت على الْحجَّاج. وَبت بأطول لَيْلَة، فَلَمَّا طلع الْفجْر، إِذا أَنا بِهِ قد جَاءَ. فَقلت: أرجعت؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ الله، جعلت الله عز وَجل، لَك كَفِيلا، ثمَّ لَا أرجع؟ قَالَ: فَانْطَلَقت بِهِ إِلَى الْحجَّاج. فَقَالَ: أَيْن أسيرك؟ فَقلت: بِالْبَابِ، أصلح الله الْأَمِير، وَقد كَانَت لي وَله قصَّة. قَالَ: مَا هِيَ؟ فَأَخْبَرته الْخَبَر، وأدخلته عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: أَتُحِبُّ أَن أهبه لَك؟ قلت: نعم. قَالَ: هُوَ لَك. فَأَخْرَجته معي، وَقلت لَهُ: خُذ أَي طَرِيق شِئْت، فَرفع طرفه إِلَى السَّمَاء، وَقَالَ: الْحَمد لله، وَانْصَرف، وَمَا كلمني بِكَلِمَة. فَقلت فِي نَفسِي: هَذَا مَجْنُون.

احتج لقتله بأتفه حجة فخلصه الله منه بأهون سبيل

فَلَمَّا كَانَ من غَد، أَتَانِي، فَقَالَ: يَا هَذَا، جَزَاك الله خيرا، وَالله مَا جهلت مَا صنعت، وَلَكِنِّي كرهت أَن أشرك فِي حمد الله تَعَالَى أحدا. احْتج لقَتله بأتفه حجَّة فخلصه الله مِنْهُ بِأَهْوَن سَبِيل أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد السَّرخسِيّ الْمُؤَدب، قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب، عَن أبي نصر ابْن أُخْت الْأَصْمَعِي، عَن خَاله الْأَصْمَعِي، قَالَ: جلس الْحجَّاج يَوْمًا يَأْكُل، وَمَعَهُ على الْمَائِدَة مُحَمَّد بن عُمَيْر بن عُطَارِد ابْن حَاجِب بن زُرَارَة التَّمِيمِي، وحجار بن أبجر الْعجلِيّ، فَأقبل فِي وسط الطَّعَام على مُحَمَّد بن عُمَيْر، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، يَدْعُوك قُتَيْبَة بن مُسلم إِلَى نصرتي يَوْم رستقباذ، فَتَقول: هَذَا أَمر لَا نَاقَة لي فِيهِ وَلَا جمل!! يَا حرسي

خُذ بِيَدِهِ، فَاضْرب عُنُقه. فجذب سَيْفه، وَأخذ بيد مُحَمَّد بن عُمَيْر فأقامه. وحانت من الْحجَّاج التفاتة، فَنظر إِلَى حجار بن أبجر يتبسم، فدخلته العصبية، وَكَانَ مَكَان حجار من ربيعَة، كمكان مُحَمَّد بن عُمَيْر من مُضر. فَقَالَ الْحجَّاج: يَا حرسي، شم سَيْفك. وَجِيء بفرنية، فَقَالَ للخباز: إجعلها مِمَّا يَلِي مُحَمَّدًا، فَإِن اللَّبن يُعجبهُ.

أمر الخليفة بضرب عنقه ثم لم يلبث أن عفا عنه

أَمر الْخَلِيفَة بِضَرْب عُنُقه ثمَّ لم يلبث أَن عَفا عَنهُ قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كتاب الوزراء: حَدثنِي الباقطائي، قَالَ: انْصَرف إِلَيْنَا يَوْمًا أَحْمد بن إِسْرَائِيل، وَهُوَ فِي نِهَايَة القلق والاغتمام وَكَأَنَّهُ ميت. فَسَأَلته عَن خَبره، فَذكر أَن رجلا يعرف بالقاسم بن شعْبَان الحائك صَار إِلَى بَاب المستعين بِبَغْدَاد، وَعَلِيهِ جُبَّة صوف، وعمامة صوف، وخفان أَحْمَرَانِ، وَفِي يَده عكاز معقد، فصاح: معتز يَا مَنْصُور، وَأَن من على بَاب الْعَامَّة تعلقوا بِهِ، وَأدْخل الدَّار، فَسئلَ عَن خَبره، فَادّعى عَليّ أَنِّي أَمرته بِهَذَا، وَأَن يَدْعُو النَّاس إِلَيْهِ، فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِضَرْب عنقِي، فاستوهبت مِنْهُ، وَعرف أَمر الْحَائِط، فَعرف أَنه علم، وَحمل عَليّ بِمَا قَالَه، فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ بِإِخْرَاجِهِ إِلَى أنطاكية. ثمَّ عَاد مَعنا، واستقام أمره.

حسن ظنه بالله أنجاه من القتل وأطلقه من السجن

حسن ظَنّه بِاللَّه أَنْجَاهُ من الْقَتْل وَأطْلقهُ من السجْن وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: حبس رجل قد وَجب عَلَيْهِ حد، فَلَمَّا رفع خَبره، أَمر بِضَرْب عُنُقه. قَالَ الْمخبر: فَدخلت إِلَى الْحَبْس إِلَى رجل بيني وَبَينه صُحْبَة، لأعرف خَبره، فَرَأَيْت الَّذِي أَمر بِضَرْب عُنُقه يلْعَب بالنرد. فَقلت للَّذي دخلت عَلَيْهِ، وَأَنا لَا أعلم أَن قد أَمر بِضَرْب عنق ذَلِك الرجل: مَا أفرغ قلب هَذَا، يلْعَب بالنرد وَهُوَ مَحْبُوس. فَقَالَ: إِن أطرف من هَذَا أَنه قد أَمر بِضَرْب عُنُقه، وَقد عرف بذلك، فَهُوَ ذَا ترى حَاله. قَالَ: فازددت تَعَجبا، وفطن الرجل لما نَحن فِيهِ، فَأخذ بِيَدِهِ فصًا من فصوص النَّرْد فرفعه، وَقَالَ: إِلَى أَن يسْقط هَذَا إِلَى الأَرْض، مائَة ألف فرج، وَرمى بالفص من يَده. قَالَ: فَخرجت، وَأَنا متعجب مِنْهُ، مفكر فِي قَوْله. فَمَا أمسينا ذَلِك الْيَوْم، حَتَّى شغب الْجند، وَفتحت السجون، وَخرج من كَانَ فِيهَا، وَالرجل فيهم، وَسلمهُ الله تَعَالَى من الْقَتْل.

الباب التاسع

الْبَاب التَّاسِع من شَارف الْمَوْت بحيوان مهلك رَآهُ فَكف الله ذَلِك بِلُطْفِهِ ونجاه آلى على نَفسه أَن لَا يَأْكُل لحم فيل أبدا حَدثنِي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن مُحَمَّد الشَّاهِد الْمَعْرُوف بِابْن الطَّبَرِيّ، قَالَ: حَدثنَا جَعْفَر بن مُحَمَّد الْخُلْدِيِّ الصُّوفِي، قَالَ حَدثنَا إِبْرَاهِيم الْخَواص الصُّوفِي، رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ: ركبت الْبَحْر مَعَ جمَاعَة من الصُّوفِيَّة، فَكسر بِنَا الْمركب، فنجا منا قوم على لوح من خشب الْمركب. فوقفنا على سَاحل لَا نَدْرِي فِي أَي مَكَان هُوَ، فَأَقَمْنَا فِيهِ أَيَّامًا لَا نجد مَا نقتاته،

فأحسسنا بِالْمَوْتِ، وأيقنا بتلفنا من الْجُوع لَا محَالة. فَقَالَ بَعْضنَا لبَعض: تَعَالَوْا نجْعَل لله تَعَالَى على أَنْفُسنَا أَن نَدع لَهُ شَيْئا، فَلَعَلَّهُ أَن يَرْحَمنَا فيخلصنا من هَذِه الشدَّة. فَقَالَ بَعْضنَا: أَصوم الدَّهْر كُله. وَقَالَ الآخر: أُصَلِّي كل يَوْم كَذَا وَكَذَا رَكْعَة. وَقَالَ بَعْضنَا: أدع لذات الدُّنْيَا، إِلَى أَن قَالَ كل وَاحِد مِنْهُم شَيْئا، وَأَنا سَاكِت. فَقَالُوا: قل أَنْت الآخر شَيْئا. فَلم يجر على لساني إِلَّا أَن قلت: أَنا لَا آكل لحم فيل أبدا. فَقَالُوا: مَا هَذَا القَوْل فِي مثل هَذَا الْحَال؟ فَقلت: وَالله، لم أتعمد هَذَا، وَلَكِنِّي مُنْذُ بدأتم فعاهدتم الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنا أعرض على نَفسِي أَشْيَاء كَثِيرَة فَلَا تطاوعني بِتَرْكِهَا، وَلَا خطر ببالي شَيْء أَدَعهُ لله تَعَالَى، وَلَا مر على قلبِي غير الَّذِي لفظت بِهِ، وَمَا أجري هَذَا على لساني إِلَّا لأمر. فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، قَالَ أَحَدنَا: لم لَا نطوف هَذِه الأَرْض مُتَفَرّقين فنطلب قوتًا، فَمن وجد شَيْئا أنذر بِهِ البَاقِينَ، والموعد هَذِه الشَّجَرَة. قَالَ: فتفرقنا فِي الطّواف، فَوَقع بَعْضنَا على ولد فيل صَغِير، فلوح بَعْضنَا لبَعض فَاجْتَمَعْنَا، فَأَخذه أَصْحَابنَا، واحتالوا فِيهِ حَتَّى شووه وقعدوا يَأْكُلُون. فَقَالُوا لي: تقدم وكل مَعنا. فَقلت: أَنْتُم تعلمُونَ أَنِّي مُنْذُ سَاعَة تركته لله عز وَجل، وَمَا كنت لأرجع فِيهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك قد جرى على لساني من ذكري لَهُ، هُوَ سَبَب موتِي من بَيْنكُم، لِأَنِّي مَا أكلت شَيْئا مُنْذُ أَيَّام، وَلَا أطمع فِي شَيْء آخر، وَلَا يراني الله عز وَجل أنقض عَهده، وَلَو مت جوعا، فاعتزلتهم وَأكل أَصْحَابِي. وَأَقْبل اللَّيْل، فأويت إِلَى أصل شَجَرَة كنت أَبيت عِنْدهَا، وتفرق أَصْحَابِي للنوم.

فَلم يكن إِلَّا لَحْظَة، وَإِذا بفيل عَظِيم قد أقبل وَهُوَ ينعر، والصحراء تتدكدك بنعيره وَشدَّة سَعْيه، وَهُوَ يطلبنا. فَقَالَ بَعْضنَا لبَعض: قد حضر الْأَجَل، فتشهدوا، فأخذنا فِي الاسْتِغْفَار وَالتَّسْبِيح، وَطرح الْقَوْم نُفُوسهم على وُجُوههم. فَجعل الْفِيل يقْصد وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهُم، فيتشممه من أول جسده إِلَى آخِره، فَإِذا لم يبْق مِنْهُ موضعا إِلَّا شمه، شال إِحْدَى قوائمه فوضعها عَلَيْهِ ففسخه. فَإِذا علم أَنه قد تلف، قصد إِلَى آخر فَفعل بِهِ مثل فعله بِالْأولِ. إِلَى أَن لم يبْق غَيْرِي، وَأَنا جَالس منتصب أشاهد مَا جرى وَأَسْتَغْفِر الله عز وَجل وأسبح. فقصدني الْفِيل، فحين قرب مني، رميت بنفسي على ظَهْري فَفعل بِي من الشم كَمَا فعل بِأَصْحَابِي، ثمَّ عَاد فشمني دفعتين أَو ثَلَاثًا، وَلم يكن فعل ذَلِك بِأحد مِنْهُم غَيْرِي، وروحي فِي خلال ذَلِك تكَاد تخرج فَزعًا. ثمَّ لف خرطومه عَليّ، وشالني فِي الْهَوَاء، فظننته يُرِيد قَتْلِي، فجهرت بالاستغفار. ثمَّ لفني بخرطومه فجعلني فَوق ظَهره، فانتصبت جَالِسا، وَاجْتَهَدت فِي حفظ نَفسِي بموضعي. وَانْطَلق الْفِيل، يُهَرْوِل تَارَة، وَيسْعَى تَارَة، وَأَنا تَارَة أَحْمد الله تَعَالَى على تَأْخِير الْأَجَل وأطمع فِي الْحَيَاة، وَتارَة أتوقع أَن يثور بِي فَيَقْتُلنِي، فأعاود الاسْتِغْفَار، وَأَنا أقاسي فِي خلال ذَلِك من الْأَلَم والجزع لشدَّة سرعَة سعي الْفِيل أمرا عَظِيما. فَلم أزل على ذَلِك، إِلَى أَن طلع الْفجْر وانتشر ضوءه، فَإِذا بِهِ قد لف خرطومه عَليّ. فَقلت: قد دنا الْأَجَل وَحضر الْمَوْت، وَأَكْثَرت من الاسْتِغْفَار. فَإِذا بِهِ قد أنزلني عَن ظَهره بِرِفْق، وَتَرَكَنِي على الأَرْض، وَرجع إِلَى الطَّرِيق

الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، وَأَنا لَا أصدق. فَلَمَّا غَابَ عني، حَتَّى لَا أسمع لَهُ حسا، خَرَرْت سَاجِدا لله تَعَالَى، فَمَا رفعت رَأْسِي حَتَّى أحسست بالشمس. فَإِذا أَنا على محجة عَظِيمَة، فمشيت نَحْو فرسخين، فانتهيت إِلَى بلد كَبِير، فدخلته. فَعجب أَهله مني، وسألوني عَن قصتي، فَأَخْبَرتهمْ بهَا، فزعموا أَن الْفِيل قد سَار بِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مسيرَة أَيَّام، واستطرفوا سلامتي. فأقمت عِنْدهم حَتَّى صلحت من تِلْكَ الشدَّة الَّتِي قاسيتها، وتندى بدني، ثمَّ سرت عَنْهُم مَعَ التُّجَّار، فركبت فِي مركب، وَرَزَقَنِي الله السَّلامَة، إِلَى أَن عدت إِلَى بلدي.

لقمة بلقمة

لقْمَة بلقمة حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن بكر الْخُزَاعِيّ البسطامي، صَاحب ابْن دُرَيْد، وَكَانَ زوج ابْنَته الغرانقة، وَكَانَ شَيخا من أهل الْأَدَب والْحَدِيث، قد استوطن الأهواز سِنِين، وَكَانَ ملازمًا لأبي رَحمَه الله، يتفقده ويبره، قَالَ: كَانَ لامْرَأَة ابْن، فَغَاب عَنْهَا غيبَة طَوِيلَة، وأيست مِنْهُ. فَجَلَست يَوْمًا تَأْكُل، فحين كسرت اللُّقْمَة وأهوت بهَا إِلَى فِيهَا وقف بِالْبَابِ سَائل يستطعم، فامتنعت من أكل اللُّقْمَة، وحملتها مَعَ تَمام الرَّغِيف فتصدقت بهَا، وَبقيت جائعة يَوْمهَا وليلتها. فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام يسيرَة حَتَّى قدم ابْنهَا، فَأَخْبرهَا بشدائد عَظِيمَة مرت بِهِ. وَقَالَ: أعظم مَا جرى عَليّ أَنِّي كنت مُنْذُ أَيَّام أسلك فِي أجمة فِي الْموضع الْفُلَانِيّ، إِذْ خرج عَليّ أَسد، فَقبض عَليّ من على ظهر حمَار كنت رَاكِبه، وغار الْحمار، ونشبت مخالب الْأسد فِي مرقعة كَانَت عَليّ، وَثيَاب تحتهَا وجبة، فَمَا وصل إِلَى بدني كَبِير شَيْء من مخالبه، إِلَّا أَنِّي تحيرت ودهشت وَذهب أَكثر عَقْلِي، وَهُوَ يحملني حَتَّى أدخلني أجمة كَانَت هُنَاكَ، وبرك عَليّ يفترسني. فَرَأَيْت رجلا عَظِيم الْخلق، أَبيض الْوَجْه وَالثيَاب، قد جَاءَ حَتَّى قبض على الْأسد من غير سلَاح، وشاله وخبط بِهِ الأَرْض.

وَقَالَ: قُم يَا كلب، لقْمَة بلقمة، فَقَامَ الْأسد يُهَرْوِل، وثاب إِلَيّ عَقْلِي. فطلبت الرجل، فَلم أَجِدهُ، وَجَلَست بمكاني سَاعَات، إِلَى أَن رجعت إِلَيّ قوتي، ثمَّ نظرت إِلَى نَفسِي، فَلم أجد بهَا بَأْسا، فمشيت حَتَّى لحقت بالقافلة الَّتِي كنت فِيهَا، فتعجبوا لما رأوني، فحدثتهم حَدِيثي، وَلم أدر مَا معنى قَول الرجل: لقْمَة بلقمة. فَنَظَرت الْمَرْأَة، فَإِذا هُوَ وَقت أخرجت اللُّقْمَة من فِيهَا، فتصدقت بهَا.

كفى بالأجل حارسا

كفى بالأجل حارسًا وجدت فِي دفتر عَتيق، أعطانيه أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف الْأَزْرَق رَحمَه الله، وَأَخْبرنِي أَنه بِخَط عَمه أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن البهلول الْأَنْبَارِي رَحمَه الله، أَحَادِيث من النَّوَادِر عَن ابْن زنبور، مِمَّا صَار إِلَيْنَا، وَلم أسمعهُ مِنْهُ، وَكَانَ فِيهَا حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، قَالَ: حَدثنَا الْحَارِث بن مرّة، قَالَ: حَدثنَا يزِيد الرقاشِي، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْخضر، وَكَانَ أحد أُمَنَاء القَاضِي بِبَغْدَاد، ويخلف الْقُضَاة الْغَيْب بِحَضْرَة قَاضِي الْقُضَاة وَغَيرهم، قَالَ: حَدثنِي صديق لي أَثِق بِهِ، قَالَ: خرجت إِلَى الحائر فِي أَيَّام الحنبلية، أَنا وَجَمَاعَة متخفين، فَلَمَّا صرنا فِي أجمة بنقيا، قَالَ لي رَفِيق فيهم: يَا فلَان، إِن نَفسِي تُحَدِّثنِي أَن السَّبع يخرج، فيفترسني من دون الْجَمَاعَة، فَإِن كَانَ ذَلِك فَخذ حماري وَمَا عَلَيْهِ فأده إِلَى عيالي. فَقلت: هَذَا استشعار رَدِيء، يجب أَن تتعوذ بِاللَّه مِنْهُ، وتضرب عَن الْفِكر فِيهِ. فَمَا مضى على هَذَا إِلَّا شَيْء يسير حَتَّى خرج الْأسد، فحين رَآهُ الرجل سقط عَن حِمَاره، فَأَخذه وَدخل بِهِ الأجمة.

وسقت أَنا الْحمار، وأسرعت مَعَ الْقَافِلَة، وَبَلغت الحائر، وزرنا، ورجعنا إِلَى بَغْدَاد. فاسترحت فِي بَيْتِي أَيَّامًا، ثمَّ أخذت الْحمار وَجئْت بِهِ إِلَى منزله، لأسلمه إِلَى عِيَاله، فدققت الْبَاب، فَخرج إِلَيّ الرجل بِعَيْنِه. فحين رَأَيْته طَار عَقْلِي وَشَكَكْت فِيهِ، فعانقني، وَبكى وبكيت. فَقلت: حَدثنِي حَدِيثك. فَقَالَ: إِن السَّبع سَاعَة أَخَذَنِي جرني إِلَى الأجمة، ثمَّ سَمِعت صَوت شَيْء، وَرَأَيْت الْأسد قد خلاني وَمضى، ففتحت عَيْني، فَإِذا الَّذِي سَمِعت صَوت خِنْزِير، وَإِذا السَّبع لما رَآهُ عنّ لَهُ أَن يتركني، وَمضى فصاده وبرك عَلَيْهِ يفترسه وَأَنا أشاهده، إِلَى أَن فرغ مِنْهُ، ثمَّ خرج من الأجمة وَغَابَ عني. فسكنت، وتأملت حالتي، فَوجدت مخاليبه قد وصلت إِلَى فَخذي وصُولا قَلِيلا، وقوتي قد عَادَتْ. فَقلت: لأي شَيْء جلوسي هَاهُنَا؟ فَقُمْت أَمْشِي فِي الأجمة، أطلب الطَّرِيق، فَإِذا بجيف نَاس، وبقر، وغنم، وَعِظَام باليات، وآثار من قد فرسهم الْأسد. فَمَا زلت أتخطاهم، حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى رجل قد أكل الْأسد بعض جسده، وَبَقِي أَكْثَره، وَهُوَ طري، وَفِي وَسطه هميان قد تخرق بعضه وَظَهَرت مِنْهُ دَنَانِير. فتقدمت، فجمعتها، وَقطعت الْهِمْيَان، وَأخذت جَمِيع مَا فِيهِ، وتتبعتها، حَتَّى لم يبْق مِنْهَا شَيْء. وقويت نَفسِي، وأسرعت فِي الْمَشْي، وَطلبت الجادة فَوَقَعت عَلَيْهَا، واستأجرت حمارا، وعدت إِلَى بَغْدَاد، وَلم أمض إِلَى الزِّيَارَة، لِأَنِّي خشيت أَن تسبقوني، فتذكروا خبري لأهلي، فَيصير عِنْدهم مأتم، فسبقتكم، وَأَنا أعالج

فَخذي، وَإِذا من الله عَليّ بالعافية عدت إِلَى الزِّيَارَة. وَقد حَدثنِي بِهَذَا الحَدِيث، غير وَاحِد من أهل بَغْدَاد، بقريب من هَذِه الْعبارَة. وَبَلغنِي عَن أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن مقلة، أَنه كَانَ قَالَ: كنت بالموصل مَعَ المتقي لله وَأَنا وزيره إِذْ ذَاك فَأَتَانِي سَلامَة، أَخُو نجح الطولوني، بفيج مَعَه كتب، فَقَالَ: اسْمَع مَا يَقُول هَذَا، فَإِنَّهُ طريف. فدعوته، وَقلت: قل. فَقَالَ: خرجت من بَغْدَاد أريدكم، وَمَعِي رَفِيق لي، فيج من أهل بلد،

فَأَعْطَانِي لما صرنا بَين تكريت وَالسّن دَرَاهِم كَانَت مَعَه، وَقَالَ لي: إِن نَفسه تحدثه أَن الْأسد يخرج فيفترسه. وَذكر قَرِيبا من هَذَا الحَدِيث.

ألجأته الضرورات إلى ركوب الأسد

ألجأته الضرورات إِلَى ركُوب الْأسد حَدثنِي أَبُو جَعْفَر أصبغ بن أَحْمد، وَكَانَ يحجب أَبَا مُحَمَّد المهلبي رَحمَه الله، قبل وزارته، فَلَمَّا ولي الوزارة كَانَ يصرفهُ فِي الاستحثاث على الْعمَّال، وَفِي الْأَعْمَال الَّتِي يتَصَرَّف فِيهَا الْعمَّال الصغار، قَالَ: كنت بشيراز مَعَ أبي الْحسن عَليّ بن خلف بن طناب، وَهُوَ يتَوَلَّى عمالتها يَوْمئِذٍ. فجَاء مستحث من الْوَزير، يُطَالِبهُ بِحمْل الْأَمْوَال، وَكَانَ أحد الْعمَّال الأكابر، وَقد كُوتِبَ بإكرامه. فَأحْضرهُ أول يَوْم طَعَامه وَشَرَابه، فَامْتنعَ من مؤاكلته، وَذكر أَن لَهُ عذرا. فَقَالَ: لَا بُد أَن تَأْكُل.

فَأكل بأطراف أَصَابِعه، وَلم يخرج يَده من كمه. فَلَمَّا كَانَ فِي غَد، قَالَ عَليّ بن خلف لحاشيته: ليدعه كل يَوْم وَاحِد مِنْكُم، فَكَانُوا يَدعُونَهُ، وَيدعونَ بَعضهم بَعْضًا، فَكَانَت صورته فِي الْأكل وَاحِدَة. فَقَالُوا: لَعَلَّ بِهِ برصًا أَو جذامًا. إِلَى أَن بلغت النّوبَة إِلَيّ، فدعوته، ودعوت الْحَاشِيَة، وَجَلَسْنَا نَأْكُل، وَهُوَ يَأْكُل مَعنا على هَذِه الصُّورَة، فَسَأَلته إِخْرَاج يَده والانبساط فِي الْأكل، فَامْتنعَ عَن إِخْرَاج يَده. فَقلت لَهُ: يلحقك تنغيص بِالْأَكْلِ هَكَذَا، فأخرجها على أَي شَيْء كَانَ بهَا، فَإنَّا نرضى بِهِ. قَالَ: فكشفها، فَإِذا فِيهَا وَفِي ذراعه أَكثر من خمسين ضَرْبَة، بَعْضهَا مندمل، وَبَعضهَا فِيهِ بَقِيَّة، وَعَلَيْهَا أدوية، وَهِي على أقبح منظر. فَأكل مَعنا غير محتشم، وَقدم الشَّرَاب فشربنا، فَلَمَّا أَخذ مِنْهُ الشَّرَاب، سألناه عَن سَبَب تِلْكَ الضربات. فَقَالَ: هُوَ أَمر طريف أَخَاف أَن لَا أصدق فِيهِ. فَقلت: لَا بُد أَن تتفضل بذلك. فَقَالَ: كنت عَام أول قَائِما بِحَضْرَة الْوَزير، فَسلم إِلَيّ كتابا إِلَى عَامل دمشق، ومنشورًا، وَأَمرَنِي بالشخوص إِلَيْهِ، وإرهاقه بالمطالبة بِحمْل الْأَمْوَال، ورسم لي أَن أخرج على طَرِيق السماوة لأتعجل، وَكتب إِلَى عَامل هيت بإنفاذي مَعَ خفارة. فَلَمَّا حصلت بهيت، استدعى الْعَامِل جمَاعَة من عدَّة من أَحيَاء الْعَرَب،

وسلمني إِلَيْهِم، وَأَعْطَاهُمْ مَالا على ذَلِك، وَأشْهد عَلَيْهِم بتسلمي، واحتاط فِي أَمْرِي. وَكَانَت هُنَاكَ قافلة تُرِيدُ الْخُرُوج مُنْذُ مُدَّة، وتتوقى الْبَريَّة، فأنسوا بِي، وسألوني أَن آخذ مِنْهُم لنَفْسي مَالا، وللخفراء الْأَعْرَاب مَالا، وأدخلهم فِي الخفارة، ويسيرون معي، فَفعلت ذَلِك، فصرنا قافلة عَظِيمَة. وَكَانَ معي من غلماني مِمَّن يحمل السِّلَاح نَحْو عشْرين غُلَاما، وَفِي حمالي الْقَافِلَة والتجار جمَاعَة يحملون السِّلَاح أَيْضا. فرحلنا عَن هيت، وسرنا فِي الْبَريَّة ثَلَاثَة أَيَّام بليالها، فَبينا نَحن نسير إِذْ لاحت لنا خيل. فَقلت للأعراب: مَا هَذِه الْخَيل؟ فَمضى مِنْهُم قوم إِلَيْهِم ثمَّ عَادوا كالمنهزمين. فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ قوم من بني فلَان بَيْننَا وَبينهمْ شَرّ وقتال، وَنحن طلبتهم، وَلَا ثبات لنا مَعَهم، وَلَا يمكننا خفارتكم مَعَهم، وركضوا منصرفين، وَبَقينَا متحيرين، فَلم أَشك أَنهم كَانُوا من أهلهم، وَأَنَّهُمْ فعلوا ذَلِك بمواطأة علينا. فَجمعت الْقَافِلَة، وشجعت أَهلهَا وغلماني، وضممت بَعْضهَا إِلَى بعض، وأمرتهم بِحمْل السِّلَاح، وَلأمة الْحَرْب، فصرنا حول الْقَافِلَة من خَارِجهَا متساندين إِلَيْهَا كالدائرة. وَقلت لمن معي: لَو كَانَ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ أَمْوَالنَا وَيدعونَ جمالنا لننجو عَلَيْهَا كَانَ هَذَا أسهل، وَلَكِن الْجمال وَالدَّوَاب أول مَا تُؤْخَذ، ونتلف نَحن فِي الْبَريَّة ضَيْعَة وعطشًا، فاعملوا على أَن نُقَاتِل، فَإِن هزمناهم سلمنَا، وَإِن قتلنَا كَانَ أسهل من الْمَوْت بالعطش. فَقَالُوا: نَفْعل. وغشينا الْقَوْم، فقاتلناهم من انتصاف النَّهَار إِلَى أَن حجز اللَّيْل بَيْننَا، وَلم يقدروا علينا، وقتلنا عدَّة خيل، وجرحنا مِنْهُم جمَاعَة، وَمَا ظفروا منا بِعَوْرَة، وَبَاتُوا بِالْقربِ منا حنقين علينا.

وتفرق النَّاس للْأَكْل وَالصَّلَاة، وَاجْتَهَدت بهم أَن يجتمعوا، ويبيتوا تَحت السِّلَاح، فخالفوني، وَكَانُوا قد كلوا وتعبوا، ونام أَكْثَرهم. فغشيتنا الْخَيل، فَلم يكن عندنَا امْتنَاع، فوضعوا فِينَا السيوف، وَكنت أَنا الْمَطْلُوب خَاصَّة، لما شاهدوه من تدبيري الْقَوْم برأيي، وَعَلمُوا أَنِّي رَئِيس الْقَافِلَة، فقطعوني بِالسُّيُوفِ، ولحقتني هَذِه الْجِرَاحَات كلهَا، وَفِي بدني أضعافها. قَالَ: وَقد كشف لنا عَن أَكثر جسده، فَإِذا بِهِ أَمر عَظِيم هالنا، وَلم نره فِي بشر قطّ. قَالَ: وَكَانَ فِي أَجلي تَأْخِير، فرميت نَفسِي بَين الْقَتْلَى، لَا أَشك فِي تلفي، وَسَاقُوا الْجمال والأمتعة وَالْأسَارَى. فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، أَفَقْت، فَوجدت فِي نَفسِي قُوَّة، والعطش قد اشْتَدَّ بِي، فَلم أزل أتحامل، حَتَّى قُمْت أطلب فِي الْقَافِلَة سطيحة قد أفلتت، أشْرب مِنْهَا، فَلم أجد شَيْئا. وَرَأَيْت الْقَتْلَى والمجروحين الَّذين هم فِي آخر رَمق، وَسمعت من أنينهم مَا أَضْعَف نَفسِي، وأيقنت بالتلف. وَقلت: غَايَة مَا أعيش إِلَى أَن تطلع الشَّمْس. فتحاملت أطلب شَجَرَة أَو محملًا قد أفلت، لأجعله ظلًا لي من الشَّمْس إِذا طلعت. فَإِذا أَنا قد عثرت بِشَيْء لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فِي الظلمَة، فَإِذا أَنا منبطح عَلَيْهِ بطولي وَطوله. فثار من تحتي، وعانقته، وَقدرته رجلا من الْأَعْرَاب، فَإِذا هُوَ أَسد. فحين علمت ذَلِك طَار عَقْلِي، وَقلت: إِن استرخيت افترمني، فعانقت

رقبته بيَدي، ونمت على ظَهره، وألصقت بَطْني بظهره، وَجعلت رجْلي تَحت مخصاه وَكَانَت دمائي تجْرِي، فحين داخلني ذَلِك الْفَزع الْعَظِيم رقأ الدَّم، وعلق شعر الْأسد بأفواه أَكثر الْجِرَاحَات، فَصَارَ سدادًا لَهَا، وعونًا على انْقِطَاع الدَّم، لِأَنِّي حصلت كالملتصق عَلَيْهِ. وَورد على الْأسد مني، أطرف مِمَّا ورد عَليّ مِنْهُ وَأعظم، وَأَقْبل يجْرِي تحتي كَمَا تجْرِي الْفرس تَحت الرَّاكِب الْقوي، وَأَنا أحس بروحي تخرج، وأعضائي تتقصف من شدَّة جريه، وَلم أَشك أَنه يقْصد أجمة بِالْقربِ فيلقيني إِلَى لبوته فتفترسني. فَجعلت أضبط نَفسِي مَعَ ذَلِك وأؤمل الْفرج، وأدافع الْمَوْت عَاجلا، وَكلما هم أَن يربض ركضت خصاه برجلي فيطير، وَأَنا أعجب من نَفسِي ومطيتي، وأدعو الله عز وَجل، وَأَرْجُو الْحَيَاة مرّة، وَمرَّة آيس من نَفسِي. إِلَى أَن ضَرَبَنِي نسيم السحر، فَقَوِيت نَفسِي، وَأَقْبل الْفجْر يضيء، فتذكرت طُلُوع الشَّمْس فَجَزِعت، ودعوت الله تَعَالَى، وتضرعت إِلَيْهِ. فَمَا كَانَ بأسرع من أَن سَمِعت صَوتا ضَعِيفا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، ثمَّ قوي، فشبهته بِصَوْت ناعورة، والأسد يجْرِي، وَقَوي الصَّوْت، فَلم أَشك فِي أَنه ناعورة. ثمَّ صعد الْأسد إِلَى تل، فَرَأَيْت مِنْهُ بَيَاض مَاء الْفُرَات وَهُوَ جَار، وناعورة تَدور، والأسد يمشي على شاطئ الْفُرَات بِرِفْق، إِلَى أَن وجد مشرعة، فَنزل مِنْهَا إِلَى المَاء، وَأَقْبل يسبح ليبعد.

فَقلت لنَفْسي: مَا قعودي، لَئِن لم أتخلص هُنَا، لَا تخلصت أبدا. فَمَا زلت أرْفق بِهِ، حَتَّى تخلصت، وَسَقَطت عَنهُ، وسبحت منحدرًا، وَأَقْبل هُوَ يشق المَاء عرضا. فَمَا سبحت إِلَّا قَلِيلا، حَتَّى وَقعت عَيْني على جَزِيرَة، فقصدتها، وحصلت فِيهَا، وَقد بطلت قوتي، وَذهب عَقْلِي، فطرحت نَفسِي عَلَيْهَا كالتالف. فَلم أحس إِلَّا بَحر الشَّمْس قد أنبهني، فَرَجَعت أطلب شَجَرَة رَأَيْتهَا فِي الجزيرة، لأستظل بهَا من الشَّمْس، فَرَأَيْت الْأسد مقعيًا على شاطئ الْفُرَات حِيَال الجزيرة، فَقل فزعي مِنْهُ. وأقمت مستظلًا بِالشَّجَرَةِ، أشْرب من ذَلِك المَاء، إِلَى الْعَصْر، فَإِذا أَنا بزورق منحدر، فَصحت بهم، فوقفوا فِي وسط المَاء. فَقلت: يَا قوم، احْمِلُونِي مَعكُمْ، وارحموني. فَقَالُوا: أَنْت دسيس اللُّصُوص. فأريتهم جراحاتي، وَحلفت لَهُم أَنه مَا فِي الجزيرة بعلمي أحد سواي، وأومأت لَهُم إِلَى الْأسد، وَقلت لَهُم: قصتي طريفة، وَإِن تجاوزتموني كُنْتُم أَنْتُم قد قتلتموني، فَالله، الله، فِي أَمْرِي، فوقفوا، فَأتوا، فحملوني. فَلَمَّا حصلت فِي الزورق، ذهب عَقْلِي، فَمَا أَفَقْت إِلَّا فِي الْيَوْم الثَّانِي، فَإِذا عَليّ ثِيَاب نظاف، وَقد غسلت جراحاتي، وَجعل فِيهَا الزَّيْت والأدوية، وَأَنا بِصُورَة الْأَحْيَاء. فَسَأَلَنِي أهل الزورق عَن حَالي، فحدثتهم. وبلغنا إِلَى هيت، فأنفذت إِلَى الْعَامِل من عرفه خبري، فَجَاءَنِي من حَملَنِي إِلَيْهِ. وَقَالَ: مَا ظَنَنْت أَنَّك أفلت، فَالْحَمْد لله على السَّلامَة. وَقَالَ لي: كَيفَ هَذَا الَّذِي جرى لَك؟ فَحَدَّثته الحَدِيث من أَوله إِلَى آخِره، فتعجب عجبا شَدِيدا، وَقَالَ: بَين الْموضع الَّذِي قطع علكيم الطَّرِيق، وَبَين الْموضع الَّذِي حملك أهل الزورق مِنْهُ

مَسَافَة أَرْبَعِينَ فرسخًا على غير محجة. فأقمت عِنْده أَيَّامًا، ثمَّ أَعْطَانِي نَفَقَة، وثيابًا، وزورقًا، فَجئْت إِلَى بَغْدَاد، فَمَكثت أعالج جراحاتي عشرَة أشهر حَتَّى صرت هَكَذَا. ثمَّ خرجت وَقد افْتَقَرت، وأنفقت جَمِيع مَا كَانَ فِي بَيْتِي، فَلَمَّا قُمْت بَين يَدي الْوَزير، رق لي، وَأطلق لي مَالا، وأخرجني إِلَيْكُم.

القرد وامرأة القراد

القرد وَامْرَأَة القراد حَدثنِي عَليّ بن نظيف الْمُتَكَلّم، الْمَعْرُوف بشهدانجة، وَسَعِيد بن عبد الله السَّمرقَنْدِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ، عَمَّن حَدثهمَا: إِنَّه بَات فِي سطح خَان، فِي بعض الْأَسْفَار، وَمَعَهُمْ قراد، وَمَعَهُ قرد، وَامْرَأَته، فباتا فِي خَان. قَالَ: فَلَمَّا نَام النَّاس، رَأَيْت القرد قد قلع المسمار الَّذِي فِي السلسلة، وَمَشى نَحْو الْمَرْأَة، فَلم أعلم مَا يُرِيد. فَقُمْت، فرآني القرد، فَرجع إِلَى مَكَانَهُ، فَجَلَست، فَفعل ذَلِك دفعات، وفعلته. فَلَمَّا طَال عَلَيْهِ الْأَمر، جَاءَ إِلَى خرج القراد، ففتحه، وَأخرج مِنْهُ صرة دَرَاهِم، خمنت أَن فِيهَا أَكثر من مائَة دِرْهَم، فَرمى بهَا إِلَيّ. فعجبت من أمره، وَقلت: أمسك، لأنظر مَا يفعل، فَأَمْسَكت. فجَاء إِلَى الْمَرْأَة، فمكنته من نَفسهَا، فوطأها. فاغتممت بتمكيني إِيَّاه من ذَلِك، وحفظت الصرة. فَلَمَّا كَانَ من غَد، صَاح القراد، يطْلب مَا ذهب مِنْهُ. وَقَالَ لصَاحب الخان: قردي يعرف من أَخذ الصرة، فاضبط بَاب الخان، وأقعد أَنا وَأَنت والقرد، وَيخرج النَّاس، فَمن علق بِهِ القرد فَهُوَ خصمي، فَفعل ذَلِك. وَأَقْبل النَّاس يخرجُون والقرد سَاكِت لَا يتَكَلَّم، وَخرجت فَمَا عرض لي، فوقفت

خَارج الخان أنظر مَا يجْرِي، فَلَمَّا لم يبْق إِلَّا يَهُودِيّ، فَخرج، فعلق بِهِ القرد. فَقَالَ القراد: هَذَا خصمي، وجذبه ليحمله إِلَى صَاحب الشرطة، فَلم أستحل السُّكُوت. فَقلت: يَا قوم لَيْسَ الْيَهُودِيّ صَاحبكُم، والصرة معي، ولي قصَّة عَجِيبَة فِي أَخذهَا، وأخرجتها، وقصصت عَلَيْهِم الْقِصَّة. فحملنا إِلَى صَاحب الشرطة، وَحَضَرت الرّفْقَة، فعرفوا صَاحب الشرطة محلي، ومنزلتي، ويساري، وَأَقْبل القراد يحيد عَن قرده. فَمَا بَرحت حَتَّى أَمر صَاحب الشرطة بقتل القرد، وَطلبت الْ#مَرْأَة، فهربت، وَسلم الْيَهُودِيّ.

تمكن منه السبع ثم تخلص منه بأهون سبيل

تمكن مِنْهُ السَّبع ثمَّ تخلص مِنْهُ بِأَهْوَن سَبِيل حَدثنِي الْحسن بن صافي، مولى مُحَمَّد بن المتَوَكل القَاضِي، قَالَ: حَدثنِي غُلَام لي أَثِق بِهِ، قَالَ: أصعدت من وَاسِط، مَاشِيا، أُرِيد بَغْدَاد، فَلَمَّا صرت بَين دير العاقول والسيب، وَأَنا وحدي، فِي يَوْم صَائِف لَهُ ريح شَدِيدَة، رَأَيْت بالبعد مني غيضة عَظِيمَة، قد خرج مِنْهَا سبع. فحين رَآنِي وحدي أقبل يُهَرْوِل نحوي، فَذهب عَليّ أَمْرِي وأيقنت بِالْهَلَاكِ، وخدر بدني كُله، وَربا لساني فِي فمي، وتحيرت. إِلَّا أَنِّي أخذت منديلًا، فَجَعَلته فِي رَأس قَصَبَة كَانَت معي، وظننت أَنِّي أفزعه بذلك. فَأَنا فِي تِلْكَ الْحَالة من الْإِيَاس، وَقد بَقِي بيني وَبَينه مِقْدَار مائَة ذِرَاع، إِذْ قلعت الرّيح أصل حشيش يُقَال لَهُ: بارق عينه، وَصَارَ يلتف بالشوك حَتَّى بَقِي كالكارة الْعَظِيمَة، وَالرِّيح تدحرجه نَحْو السَّبع، وَقد تمكنت مِنْهُ، وَصَارَ لَهَا هفيف شَدِيد. فحين رأى السَّبع ذَلِك وَسمع الصَّوْت رَجَعَ منصرفًا وَقد فزع فَزعًا شَدِيدا.

وَبَقِي يحول وَجهه فِي كل عشر خطوَات أَو أَكثر، فَإِذا رأى ذَلِك الأَصْل فِي أَثَره يتدحرج زَاد فِي الجري. وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن بعد عني بعدا كثيرا، وَدخل الغيضة. وعادت إِلَيّ نَفسِي ومضيت فِي طريقي، وسلمت.

قتل فيلا بالقبض على خرطومه

قتل فيلًا بِالْقَبْضِ على خرطومه حَدثنِي القَاضِي أَبُو بكر أَحْمد بن سيار، قَالَ: حَدثنِي شيخ من أهل التيز ومكران رَأَيْته بعمان، ووجدتهم يذكرُونَ ثقته، ومعرفته بالبحر، وَأَنه دخل الْهِنْد والصين، قَالَ: كنت بِبَعْض بِلَاد الْهِنْد، وَقد خرج على ملكهَا خارجي، فأنفذ إِلَيْهِ الجيوش، فَطلب الْأمان فَأَمنهُ. فَسَار ليدْخل إِلَى بلد الْملك، فَلَمَّا قرب، أخرج الْملك جَيْشًا لتلقيه، وَخرجت الْعَامَّة تنظر دُخُوله، فَخرجت مَعَهم. فَلَمَّا بَعدنَا فِي الصَّحرَاء، وقف النَّاس ينتظرون طُلُوع الرجل، وَهُوَ راجل، فِي عدَّة من رِجَاله، وَعَلِيهِ ثوب حَرِير ومئزر، وَفِي وَسطه مدية معوجة الرَّأْس، وَهِي من سلَاح الْهِنْد، وَتسَمى عِنْدهم: حزى. فتلقوه بالإكرام وَمَشوا مَعَه، حَتَّى انْتهى إِلَى فيلة عَظِيمَة قد أخرجت للزِّينَة وَعَلَيْهَا الفيالون، وفيهَا فيل عَظِيم يختصه الْملك لنَفسِهِ، ويركبه فِي بعض الْأَوْقَات. فَقَالَ لَهُ الفيال، لما قرب مِنْهُ: تَنَح عَن طَرِيق فيل الْملك، فَسكت عَنهُ، فَأَعَادَ الفيال عَلَيْهِ القَوْل، فَسكت. فَقَالَ: يَا هَذَا، احذر على نَفسك، وتنح عَن طَرِيق فيل الْملك.

فَقَالَ لَهُ الْخَارِجِي: قل لفيل الْملك يتَنَحَّى عَن طريقي. فَغَضب الفيال، وأغرى الْفِيل بِكَلَام كَلمه بِهِ، فَغَضب الْفِيل، وَعمد إِلَى الْخَارِجِي فلف خرطومه عَلَيْهِ، فَقبض الْخَارِجِي بِيَدِهِ على الخرطوم. وشاله الْفِيل إشالة عَظِيمَة وَالنَّاس يرَوْنَ، وَأَنا فيهم، وخبط بِهِ الأَرْض، فَإِذا بِهِ قد انتصب قَائِما على قَدَمَيْهِ فَوق الأَرْض وَلم ينح يَده عَن الخرطوم. فَزَاد غضب الْفِيل، فأشاله أعظم من تِلْكَ وَعدا ثمَّ رمى بِهِ الأَرْض، فَإِذا هُوَ قد حصل عَلَيْهَا مستويًا على قَدَمَيْهِ منتصبًا قَابِضا على الخرطوم. وَسقط الْفِيل كالجبل الْعَظِيم مَيتا، لِأَن قَبضه على الخرطوم تِلْكَ الْمدَّة مَنعه من التنفس فَقتله. قَالَ: فَوكل بِهِ، وَحمل إِلَى الْملك، وَحدث بالصورة، فَأمر بقتْله. فَاجْتمع القحاب، وَهن النِّسَاء الفواجر، يفعلن ذَلِك بِالْهِنْدِ ظَاهرا عِنْد البد، تقربًا إِلَى الله بذلك عِنْدهم. قَالَ: وَهن الْعُدُول هُنَاكَ، يشهدن فِي الْحُقُوق، ويقمن الشَّهَادَة، فَيقطع بهَا حاكمهم فِي سَائِر الْأُمُور، وَعِنْدهم إنَّهُنَّ لما كن يبذلن أَنْفسهنَّ عِنْد البد بِغَيْر أجر، صرن فِي حكم الزهاد والعباد. فَقَالَ القحاب للْملك: يجب أَن تستبقي مثل هَذَا الرجل فَلَا يقتل، فَإِن فِيهِ جمالًا للْملك، وَيُقَال: إِن للْملك خَادِمًا قتل الْفِيل الْعَظِيم بقوته وحيلته، من غير سلَاح. فَعَفَا عَنهُ الْملك، وخلع عَلَيْهِ، واستخدمه.

قتلوا شبلا فاجتمع عليهم بضعة عشر سبعا

قتلوا شبلا فَاجْتمع عَلَيْهِم بضعَة عشر سبعا وَحدث سعيد بن يُوسُف بن عبد الله السَّمرقَنْدِي الْحَنَفِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن جَعْفَر الْوَكِيل على أَبْوَاب الْقُضَاة بالأهواز، قَالَا: حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن سهل الشَّاهِد الوَاسِطِيّ القَاضِي، قَالَ: أَخْبرنِي وكيلان كَانَا فِي ضيعتي بنواحي الجامدة، ونهر جَعْفَر، قَالَا: خرجنَا مَعَ صناع عندنَا، إِلَى أجمة نقطع قصبًا، فَرَأَيْنَا شبلًا كالسنور، فَقتله أحد قطاع الْقصب. فَقَالَ الْبَاقُونَ: قتلنَا، السَّاعَة يَجِيء السَّبع واللبوة، فَإِذا لم يرياه طلبانا، وَنحن نبيت فِي الصَّحرَاء بَين الْقصب، فيفرسانا. قَالَ: فَمَا كَانَ بأسرع من أَن سمعنَا صَوت السَّبع، فطرنا على وُجُوهنَا، واجتمعنا فِي دَار خراب خَارج الأجمة، وعلونا سطحها، وَكَانَ فِيهَا غرفَة عَلَيْهَا بَاب كُنَّا نأوي إِلَيْهَا لَيْلًا. فَلَمَّا رأى السَّبع وَلَده قَتِيلا قصدنا فَصَارَ فِي صحن الدَّار الخراب، وَكَانَ بَين يَدي الغرفة صحنين، فَأخذ السَّبع يطفر ليصير مَعنا، فَمَا قدر على ذَلِك. فولى، وَعلا أكمة فِي الصَّحرَاء، وَصَاح، فَجَاءَتْهُ اللبوة، فطفرت تُرِيدنَا، فَمَا قدرت.

فاجتمعا، فصاحا، فجاءهما عدَّة من السبَاع، وطفروا، فَمَا قدرُوا علينا، فَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى اجْتمع بضعَة عشر سبعا، وَكلما جَاءَ وَاحِد حاول أَن يطفر إِلَيْنَا فَلَا يبلغنَا، وَنحن كالموتى خوفًا أَن يصل إِلَيْنَا وَاحِد مِنْهُم. فينما نَحن كَذَلِك إِذْ اجْتمعت السبَاع كلهَا كالحلقة، وَجعلت أفواهها فِي الأَرْض، وصاحت صَيْحَة وَاحِدَة، فَرَأَيْنَا حُفْرَة قد احتفرت فِي التُّرَاب من أنفاسها. فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى جَاءَ سبع أسود هزيل، منجرد الشّعْر، لطيف. فَلَقِيته السبَاع كلهَا، وبصبصت بَين يَدَيْهِ، وَحَوله، وَجَاء يقدمهَا وَهِي خَلفه حَتَّى رآنا فِي الغرفة، وَرَأى الْموضع، ثمَّ جمع نَفسه، فَإِذا هُوَ فِي الصحن، بَين يَدي الغرفة. وَكُنَّا قد أغلقنا الْبَاب، فَاجْتَمَعْنَا كلنا خَلفه لندافعه عَن الدُّخُول. فَلم يزل يدْفع الْبَاب بمؤخره حَتَّى كسر بعض ألواحه وَأدْخل عَجزه إِلَيْنَا. فَعمد أَحَدنَا إِلَى ذَنبه فَقَطعه بمنجل كَانَ مَعنا. فصاح صَيْحَة مُنكرَة وهرب، وَرمى بِنَفسِهِ إِلَى الأَرْض، فَلم يزل يخمش السبَاع وينهشها ويقطعها بمخالبه، حَتَّى قتل مِنْهَا غير وَاحِد. وتهاربت السبَاع الْبَاقِيَة من بَين يَدَيْهِ، وهام فِي الصَّحرَاء يتبع أَثَرهَا، ونزلنا نَحن لما لم يبْق مِنْهَا شَيْء، فلحقنا بالقرية، وخبرناهم خبرنَا. فَقَالَ لنا شيخ مِنْهُم: هَذَا السَّبع مثل الجرذ الْعَتِيق، إِذا قطع ذَنبه أكل الفار.

افترس السبع صاحب الدين وسلم الغريم

افترس السَّبع صَاحب الدَّين وَسلم الْغَرِيم وَحدث قَاضِي الْقُضَاة أَبُو السَّائِب عتبَة بن عبيد الله الهمذاني، قَالَ: كَانَ رجل من أهل أذربيجان لَهُ على رجل دين، فهرب مِنْهُ وطالت غيبته. فلقي صَاحب الدَّين الْمَدِين، بعد مُدَّة فِي الصَّحرَاء مُنْفَردا، فَقبض عَلَيْهِ وطالبه. فَحلف لَهُ بِاللَّه تَعَالَى أَنه مُعسر، وَسَأَلَهُ الِانْتِظَار، وَقَالَ لَهُ: لَو أَنِّي أيسر النَّاس مَا تمكنت هُنَا من من دفع شَيْء إِلَيْك. فَأبى عَلَيْهِ، وَأخرج قيدا كَانَ مَعَه ليقيده حَتَّى لَا يهرب. فتضرع إِلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَن لَا يفعل، وَبكى، فَلم يَنْفَعهُ ذَلِك. فقيده بالقيد، وَمَشى إِلَى قَرْيَة بِقرب الْموضع الَّذِي التقيا فِيهِ، فجاءاها مسَاء وَقد أغلق أَهلهَا بَاب سورها، واجتهدا فِي فَتحه لَهما، فَأبى أهل الْقرْيَة ذَلِك عَلَيْهِمَا. فباتا فِي مَسْجِد خراب على بَاب الْقرْيَة، وَأدْخل صَاحب الدَّين رجله فِي حَلقَة من حلقتي الْقَيْد، لينتبه إِذا أَرَادَ الْهَرَب. فجَاء السَّبع، وهما نائمان، فَقبض على صَاحب الدَّين فافترسه، وجره فانجر

الْغَرِيم مَعَه، لمَكَان الْحلقَة فِي إِحْدَى رجلَيْهِ. فَلم يزل ذَلِك حَاله إِلَى أَن فرغ السَّبع من أكل صَاحب الدَّين، وشبع، وَانْصَرف، وَترك الْمَدِين وَقد تجرح بدنه، وَبقيت ركبة الْغَرِيم فِي الْقَيْد. فحملها الرجل مَعَ قَيده إِلَى أهل الْقرْيَة، وَأخْبرهمْ الْخَبَر، فحلوا قَيده وَسَار لحَال سَبيله.

الأفعى التي أخربت الضيعة

الأفعى الَّتِي أخربت الضَّيْعَة وحَدثني أَبُو جَعْفَر مَسْعُود بن عبد الله الضَّبِّيّ، شيخ من التناء الْبَصرِيين، كَانَ قد انْتقل عَنْهَا إِلَى قَرْيَة لَهُ، وضيعة، بِقرب نهر الدَّيْر، فاستوطنها، قَالَ: كَانَ فِي هَذَا الْبُسْتَان، وَأَشَارَ إِلَى بُسْتَان بِجَانِب دَاره كَثِيرَة الْأَشْجَار، أَفْعَى تسمى الجراب، لِأَنَّهَا كَانَت بِقدر الجراب الْكَبِير، طولا، وسعة، وانتفاخًا. فكثرت جناياتها، حَتَّى أخربت عَليّ الضَّيْعَة، فانتقلت عَنْهَا إِلَى الْجَانِب الآخر من النَّهر، وَبَطلَت ضيعتي، وَصَارَ هَذَا الْبُسْتَان كالأجمة، لَا يقدر أحد على دُخُوله. وَطلبت حَوَّاء من الْبَصْرَة ليصيده، وبذلت على ذَلِك مَالا جزيلًا. فجَاء الحواء فتبخر بدخنة مَعَه، فظهرت الأفعى، فحين رَآهَا هاله أمرهَا، وقصدته الأفعى فنهشته، فَتلف فِي الْحَال. فَصَارَ لي حَدِيث بذلك، وشاع الْخَبَر، فَامْتنعَ الحواءون من الْمَجِيء، وتغربت أَنا عَن الضَّيْعَة والقرية، وَبَطلَت معيشتي مِنْهُمَا. فَكنت يَوْمًا جَالِسا فِي الْجَانِب الآخر من النَّهر، إِذْ جَاءَنِي رجل فَسلم عَليّ. وَقَالَ: بَلغنِي خبر أَفْعَى عنْدك، قد قتل فلَانا الحواء، وأخرب عَلَيْك ضيعتك، فجئتك لتدلني عَلَيْهِ حَتَّى آخذه.

فَقلت: مَا أحب تعريضك لهَذَا، وَقد صَار لي بِتَلف ذَلِك الحواء حَدِيث. فَقَالَ: إِن ذَلِك الحواء كَانَ أخي، وَأَنا أُرِيد أَن آخذ بثأره، وأريح النَّاس من هَذَا الملعون، أَو اللحاق بأخي. قلت: فَتشهد على نَفسك أهل الْأَنْهَار الْمُجَاورَة، أَن هَذَا باختيارك، لَا بِمَسْأَلَة مني، فَفعل، وأريته الْبُسْتَان. فَقَالَ: أُرِيد شَيْئا آكله، فجئناه بِطَعَام فَأكل، ثمَّ أخرج دهنًا كَانَ مَعَه، فطلى بِهِ جَمِيع بدنه. وَقَالَ لغلام كَانَ مَعَه: انْظُر هَل بَقِي مَوضِع من غير مَا أطليه؟ فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: لَا. فَجَلَست أَنا فَوق السَّطْح الَّذِي فِي دَاري، أنظر مَا يفعل، فَأخْرج دخنة فبخر بهَا، فَمَا كَانَ بأسرع من أَن ظهر الأفعى كَأَنَّهُ دن أسود. فحين قرب من الحواء هرب، فَتَبِعَهُ الحواء، فَلحقه وَقبض عَلَيْهِ. فَالْتَفت الأفعى فعض يَده، فَتَركه الحواء فَأَفلَت، وَذهب عَلَيْهِ أمره، فجئناه وحملناه، فَمَاتَ فِي اللَّيْل. وانقلبت النَّاحِيَة بِحَدِيث الأفعى. وَمضى على هَذَا مُدَّة، فجَاء رجل يشبه الرجلَيْن، وسألني عَمَّا سَأَلَني عَنهُ الأخوان، فَأَخْبَرته بالْخبر. فَقَالَ: الرّجلَانِ أخواي، وَلَا بُد لي من الْأَخْذ بثأرهما، أَو اللحاق بهما. قَالَ: فأشهدت عَلَيْهِ، وأريته الْموضع، وصعدت بِهِ السَّطْح، فَأكل وَشرب أقداحًا كَثِيرَة، وَأخرج دهنًا كَانَ مَعَه، وطلى بِهِ دفعات كَثِيرَة كل بدنه، وكل مرّة يسْأَل غُلَامه. فَيَقُول: هَل بَقِي مَوضِع لَا دهن فِيهِ؟ فَيَقُول لَهُ الْغُلَام: لَا.

فَيَقُول للغلام: أعد الطلاء عَليّ، فيعيده الْغُلَام. حَتَّى لم يبْق فِي جسده مَوضِع إِلَّا وَقد طلاه، وَأعَاد الطلاء ثَلَاث مَرَّات، وَصَارَ الدّهن ينقط من بدنه. وبخر بدخنة، فَخرج الأفعى، فَطَلَبه الحواء وَأخذ يحاربه، وتمكنت يَد الحواء من قَفاهُ، فانثنى عَلَيْهِ فعض إبهامه. وبادر الحواء فخرم فَاه، وَجعله فِي سلة، وَأخرج سكينًا مَعَه فَقطع إِبْهَام نَفسه، وأغلى زيتًا وكواها بِهِ، وخر كالتالف. فحملناه إِلَى الْقرْيَة، فَإِذا بصبي من غلماني قد جَاءَ وَمَعَهُ ليمونة، وَكَانَ الليمون إِذْ ذَاك قَلِيلا بِالْبَصْرَةِ جدا، وَعِنْدِي مِنْهُ شَجَرَة وَاحِدَة. فحين رأى الحواء الليمون، قَالَ: هَذَا يَا سَيِّدي عنْدكُمْ مَوْجُود؟ قلت: نعم. قَالَ: أَغِثْنِي بِكُل مَا تقدر عَلَيْهِ مِنْهُ، فَإنَّا نعرفه فِي بلدنا يقوم مقَام الدرياق. فَقلت: أَيْن بلدك؟ قَالَ: عمان. فَأَتَيْته بِكُل مَا كَانَ عِنْدِي مِنْهُ، فَأقبل يعضه ويسرع فِي أكله، وَعمد إِلَى بعضه فاستخرج مَاءَهُ، وَأَقْبل يتحسى مِنْهُ، ويطلي بِهِ الْموضع، وَأصْبح من غَد وَهُوَ صَالح. فَسَأَلته عَن خَبره، فَقَالَ: مَا خلصني بعد الله عز وَجل، إِلَّا مَاء الليمون، وأظن أَن أخوي لَو اتّفق لَهما تنَاوله مَا تلفا. قلت: فَذَلِك الدّهن الَّذِي انطليت مِنْهُ، مَا هُوَ؟ قَالَ: الطلق، الَّذِي إِذا طرح مَعَه النَّار على الْجِسْم حِين لَا يكون فِيهِ خلل، مَا ضرت النَّار الْجِسْم، وَأما تلف إخْوَانِي، فَلِأَن بعض أبدانهم خلا من الطلاء، أَو جف عَنهُ.

فَقلت: وَكَيف تمكن الأفعى مِنْك؟ قَالَ: لطول الْوَقْت، وَإِلَى أَن قيدته، جف بعض الدّهن، فَتمكن مني، وَلَوْلَا الليمون لتلفت. فَقَالَ: فتعلمت مِنْهُ اسْتِخْرَاج مَاء الليمون، وَكنت أول من استخرجه بِالْبَصْرَةِ، وَنبهَ النَّاس على مَنَافِعه، وجربته فِي الطبيخ فَوَجَدته طيبا، وتداوله النَّاس. قَالَ: ثمَّ أخرج الأفعى، وَقطع رَأسه، وذنبه، وأغلاه فِي طنجير، واستخرج دهنه فِي قَوَارِير، وَانْصَرف.

مفلوج لسعته عقرب جرارة فعوفي

مفلوج لسعته عقرب جرارة فَعُوفِيَ حَدثنِي عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن مهْدي، الْمَعْرُوف بِأبي أَحْمد بن أبي سَلمَة، الشَّاهِد، الْفَقِيه، الْمُتَكَلّم العسكري، فِي سنة خمس وَخمسين وَثَلَاث مائَة بعسكر مكرم: إِنَّه شَاهد رجلا مفلوجًا، حمل من أَصْبَهَان، إِلَى عَسْكَر مكرم ليعالج، فَطرح على بَاب خَان فِي جواره، فِي الْجَانِب الشَّرْقِي مِنْهَا، وَقد هجر، وَفرغ، لِكَثْرَة العقارب الجرارات فِيهِ. وَطلب لَهُ مَوضِع آخر يسكنهُ، فَلم يُوجد إِلَّا فِي هَذَا الخان، فأنزله غلمانه

فِيهِ، وهم لَا يعلمُونَ حَاله، وَأَنه أخلي لِكَثْرَة الجرارات فِيهِ. وَصعد أَصْحَاب الرجل إِلَى السَّطْح لَيْلًا، وتركوه، لما وصف لَهُم أَن المفلوج لَا يجوز أَن يبيت فِي السَّطْح. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد وجدوه جَالِسا، وَكَانَ طريحًا ملقًى لَا يُمكنهُ أَن يَنْقَلِب من جنب إِلَى جنب، ووجدوا لِسَانه فصيحًا وَكَانَ متكسرًا بِالْعِلَّةِ، حَتَّى إِن الرجل مَشى فِي يَوْمه ذَلِك. فأحضر بعض أهل الطِّبّ وَسَأَلَهُ عَن خَبره، ففتشه، فَوجدَ أثر لسع الجرارة فِي إِبْهَام رجله الْيُسْرَى. فَقَالَ لَهُ: انْتقل السَّاعَة من هَذَا الخان، فَإِنَّهُ مَشْهُور بِكَثْرَة الجرارات، وَقد لسعتك وَاحِدَة مِنْهُنَّ فأبرأتك، وعشت بِشَيْء مَا عَاشَ أحد بِهِ قطّ، وَقَامَت حَرَارَتهَا بِبرد الفالج فأزالته، وَلم تتجاوزه فتقتلك، وسيعقب ذَلِك حِدة شَدِيدَة وحرارة، فاصبر لَهَا حَتَّى أعالجك باليسير من الرُّطُوبَة فَلَا ترجع إِلَيْك برودة الفالج، وانتقل لِئَلَّا تلسعك أُخْرَى فتتلف. وانتقل الرجل، وتعاهده الطَّبِيب، فَحم المفلوج من غَد، وتلطف فِي علاجه حَتَّى برأَ.

قضى ليلة في الجب بجوار أفعى

قضى لَيْلَة فِي الْجب بجوار أَفْعَى وحَدثني عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي، قَالَ: كنت أتصرف مَعَ الْمُخْتَار بن الْغَيْث بن حمدَان أحد قواد بني عقيل، فَسَار وَأَنا فِي جملَته، مَعَ تكين الشيرزادي، لما تغلب على الْموصل، يطْلب نَاصِر الدولة، وَسَار الْعَسْكَر سيرًا عجلًا، فتقطع النَّاس. وَكَانَت تحتي حجرَة، فصرت فِي أخريات النَّاس، ثمَّ انْقَطَعت عَن الْعَسْكَر حَتَّى صرت وحدي. ثمَّ أوردت الدَّابَّة مَاء كَانَ فِي الطَّرِيق، فَحم، وَلم يُمكنهُ أَن يسير خطْوَة وَاحِدَة. فَخفت أَن يدركني من يسلبني نعمتي ويأسرني، فَنزلت عَن الدَّابَّة أَمْشِي، وَفِي عنقِي سيف بحمائل، والمقرعة فِي يَدي. فسرت عدَّة فراسخ، حَتَّى صعدت جبل سنجار، وَكنت أحتاج أَن أَمْشِي فِيهِ نَحْو الفرسخ، ثمَّ أنزل إِلَى سنجار،

فجنني اللَّيْل، واستنفذ الْمَشْي جلدي، وَاسْتَوْحَشْت، وَخفت الوحوش فِي الْجَبَل، فطلبت موضعا أسكن فِيهِ لَيْلَتي، فَلم أجد. وَرَأَيْت جِبَابًا كَثِيرَة منقورة فِي أَرض الْجَبَل، فطلبت أقربها قعرًا، ورميت فِيهِ حجرا، فَظَنَنْت أَن قَعْره قامة أَو نَحْوهَا، فرميت بنفسي فِيهِ. وَكَانَ الْبرد شَدِيدا، فَنمت لَيْلَتي وَأَنا لَا أَعقل من التَّعَب والجوع. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، انْتَبَهت، وَعِنْدِي أَن الْجب محفور كالآبار، وَأَنِّي أَضَع رجْلي فِي جوانبه، فأتسلق وأطلع، فتأملته، فَإِذا هُوَ محفور كالتنور، رَأسه ضيق، وأسفله وَاسع شَدِيد السعَة، وجوانبه منقوشة، فَقُمْت فِي الْجب فَإِذا هُوَ أَعلَى من قامتي. فتحيرت فِي أَمْرِي، فَلم أدر كَيفَ أعمل، وَكَيف السَّبِيل إِلَى الصعُود. وطلعت الشَّمْس، وأضاء الْجب، فَإِذا فِيهِ أَفْعَى مدور كالطبق وَقد سدر من الْبرد، فَلَيْسَ ينتشر، وَلم يَتَحَرَّك من مَكَانَهُ، فتجنبت مَكَانَهُ. وهممت أَن أجرد السَّيْف وأقطع الأفعى، ثمَّ قلت: أتعجل شرا لَا أَدْرِي عاقبته، وَلَا مَنْفَعَة لي فِي قَتله، لِأَنِّي سأتلف فِي هَذِه الْبِئْر، وَهِي قَبْرِي، فَمَا معنى قتل الأفعى؟ أَدَعهُ، فَلَعَلَّهُ أَن يَبْتَدِئ بالنهش، فأتعجل التّلف، وَلَا أرى نَفسِي تخرج بِالْجُوعِ والعطش. فأقمت يومي كُله على ذَلِك، والأفعى لم تتحرك وَأَنا أبْكِي وأنوح على نَفسِي، وَقد يئست من الْحَيَاة. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، أَصبَحت، وَقد ضعفت، فَحَمَلَنِي حب الْحَيَاة على الْفِكر فِي الْخَلَاص، فَقُمْت، وجمعت من حِجَارَة رقيقَة كَانَت فِي الْجب شَيْئا كثيرا،

وعبيتها فِي وسط الْجب، وعلوتها لتنال يَدي طرف الْجب وأحمل نَفسِي إِلَى رَأسه. فحين جعلت رجْلي على الْحِجَارَة، تدكدكت وانهارت، لرقتها وملاستها. فَلم أزل أُعِيد تعبيتها وركوبها، وتنزلق من تَحت رجْلي، وَأَنا متشاغل بذلك يومي كُله، وَجَاء اللَّيْل فَلم يمكنني أَن أقوم من الْجُوع والضعف، وانكسرت نَفسِي، ثمَّ حَملَنِي النّوم. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد فَكرت فِي حِيلَة أُخْرَى، وَوَقع لي أَن شددت المقرعة بعلائقها فِي حمائل السَّيْف، ودليت المقرعة إِلَى دَاخل الْجب، ورميت السَّيْف إِلَى رَأس الْجب، وَأَمْسَكت المقرعة بِإِحْدَى يَدي، فَحصل جفن السَّيْف فَوق الْجب مُعْتَرضًا لرأسه، وحمائله فِي المقرعة، وَهِي مدلاة إِلَيّ. ثمَّ أَمْسَكت السَّيْف، وسللته، وَلم أزل أقلع من أَرض الْجب مَا يُمكن قلعه ونحته من تُرَاب قَلِيل، ثمَّ عبيت ذَلِك بالرضراض وَالْحِجَارَة الرقَاق وَجعلت بَين كل سافين مِنْهَا تُرَابا، ثمَّ رددت السَّيْف إِلَى جفْنه، وعلوت الرضراض، وتعلقت على السَّيْف الْمُعْتَرض، وطفرت، فَصَارَ السَّيْف مُعْتَرضًا تَحت صَدْرِي، وَظَهَرت يداي من الْجب، فحصلت جوانبه تَحت إبطي، وأشلت نَفسِي، فَإِذا أَنا قد خرجت من الْجب، بعد أَن اعوج السَّيْف، وَكَاد يندق وَيدخل فِي بَطْني لثقلي عَلَيْهِ. فَوَقَعت خَارج الْجب، مغشيًا عَليّ من هول مَا نالني، وَوجدت أسناني قد

اصطكت، وقوتي قد بطلت عَن الْمَشْي، فَمَا زلت أحبو وأطلب المحجة حَتَّى وقفت عَلَيْهَا. ورآني قوم مجتازون، فَأخذُوا بيَدي، وَقَوي قلبِي فمشيت حَتَّى دخلت سنجار آخر النَّهَار، وَقد بلغت روحي إِلَى حد التّلف. فَدخلت مَسْجِدا، فطرحت نَفسِي فِيهِ وَأَنا لَا أَشك فِي الْمَوْت، وَحَضَرت صَلَاة الْمغرب، وَاجْتمعَ أهل الْمَسْجِد فِيهِ، وسألوني عَن خبري، فَلم يكن فِي فضل للْكَلَام. فحملوني إِلَى بَيت أحدهم، وَلم يزَالُوا يصبون فِي حلقي المَاء، ثمَّ المرق والثريد، إِلَى أَن فتحت عَيْني بعد الْعَتَمَة، فتكلمت، وَبت لَيْلَتي وَأَنا بِحَال عَظِيمَة من الْأَلَم. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد دخلت الْحمام، وأقمت عِنْدهم أَيَّامًا حَتَّى قويت. ثمَّ أخرجت نَفَقَة كَانَت معي، فاستأجرت مِنْهَا مركوبًا، وَلَحِقت بصاحبي، وَسلم الله عز وَجل.

سقط طفل من القنطرة فالتقطه العقاب ثم نجا سالما

سقط طِفْل من القنطرة فالتقطه الْعقَاب ثمَّ نجا سالما وَحكى أَبُو مُحَمَّد يحيى بن فَهد الْأَزْدِيّ رَحمَه الله، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي ديسم بن إِبْرَاهِيم بن شاذلويه، المتغلب، كَانَ، بِأَذربِيجَان، لما ورد حَضْرَة سيف الدولة يستنجده على الْمَرْزُبَان بن مُحَمَّد بن مُسَافر السلار لما هَزَمه عَنْهَا، قَالَ: رَأَيْت بِنَاحِيَة أذربيجان نَهرا يُقَال لَهُ: الرس، شَدِيد جرية المَاء جدا، وَفِي أرضه حِجَارَة كَثِيرَة، بَعْضهَا ظَاهر على المَاء، وَبَعضهَا يغطيه المَاء، وَلَيْسَ للسفن فِيهِ مَسْلَك، وَله أجراف هائلة لَا مشاريع فِيهَا، وَعَلِيهِ قنطرة يجتاز عَلَيْهَا السابلة.

قَالَ: وَكنت مجتازًا عَلَيْهَا بعسكري، فَلَمَّا صرت فِي وسط القنطرة، رَأَيْت امْرَأَة تمشي وَقد حملت ولدا طفْلا فِي القماط، فزحمها بغل فطرحت نَفسهَا على القنطرة، وَسقط الطِّفْل من يَدهَا إِلَى النَّهر، فوصل إِلَى المَاء بعد سَاعَة، لبعد مَا بَين القنطرة وصفحة المَاء، ثمَّ غاص، وَارْتَفَعت الضجة فِي الْعَسْكَر، ثمَّ رَأينَا الصَّبِي قد طفا على وَجه المَاء، وَسلم من تِلْكَ الْحِجَارَة. وَكَانَ الْموضع كثير العقبان، وَلها أوكار فِي أجراف ذَلِك النَّهر، وَمِنْه يصاد فراخها. فحين ظهر الطِّفْل فِي قماطه، صَادف ذَلِك عقَابا طائرًا، فَرَآهُ، فَظَنهُ طعمة، فانقض عَلَيْهِ، وَشَبك مخالبه فِي القماط، وطار بِهِ، وَخرج إِلَى الصَّحرَاء. فطمعت فِي تَخْلِيص الطِّفْل، فَأمرت جمَاعَة أَن يركضوا وَرَاء الْعقَاب، فركضوا، وتتبعت نَفسِي مُشَاهدَة الْحَال، فركضت. وَإِذا الْعقَاب قد نزل إِلَى الأَرْض، وابتدأ يمزق قماط الصَّبِي ليفترسه، فحين رَأَوْهُ، صاحوا بأجمعهم، وقصدوه، فأدهشوه عَن استلاب الصَّبِي، فطار وَتَركه على الأَرْض. فلحقنا الصَّبِي، وَإِذا هُوَ سَالم، مَا وصل إِلَيْهِ جرح، وَهُوَ يبكي. فكببناه، حَتَّى خرج المَاء من جَوْفه، وحملناه إِلَى أمه حَيا، سالما.

قصة ابن التمساح

قصَّة ابْن التمساح وَحكى أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر الْكَاتِب الْمَعْرُوف بالحاتمي، قَالَ: رَأَيْت بِمصْر رجلا يعرف بِابْن التمساح، فَسَأَلت جمَاعَة من أهل مصر، من الْعَامَّة، عَن ذَلِك. فَقَالُوا: هَذَا وطئ التمساح أمه، فولدته. فَكَذبت ذَلِك، وبحثت عَن الْخَبَر، فَأَخْبرنِي جمَاعَة من عقلاء مصر، أَن التمساح بهَا يَأْخُذ النَّاس من المَاء فيفترسهم. وَرُبمَا أَخذهم وَهُوَ شبعان، فَيحمل الْمَأْخُوذ بِيَدِهِ على صَدره، حَتَّى يَجِيء بِهِ إِلَى أجراف أَسْفَل مصر بمسافة، وَهِي جبال حِجَارَة فِيهَا مغارات إِلَى النّيل، لَا يصل إِلَيْهَا الْمَاشِي وَلَا سالك المَاء لبعدها عَن الْجِهَتَيْنِ. فيتسلق التمساح إِلَى بعض المغارات، فيودع بهَا الْإِنْسَان الَّذِي أَخذه، حَيا أَو مَيتا بِحَسب الِاتِّفَاق ويمضي. فَإِذا جَاع وَلم يظفر بِشَيْء، عَاد إِلَى الْموضع فيفترس الْإِنْسَان الَّذِي خبأه هُنَاكَ. قَالَ: فَكَانَ قد قبض على امْرَأَة فِي بعض الْأَوْقَات، فَجَعلهَا فِي المغارة، فَذكرت الْمَرْأَة: أَنَّهَا حينما اسْتَقَرَّتْ فِي المغارة، وَانْصَرف التمساح، رَأَتْ هُنَاكَ رجلا حَيا، وآثار جمَاعَة قد افترسهم التمساح. وَأَنَّهَا سَأَلت الرجل عَن أمره، فَذكر أَن التمساح تَركه هُنَاكَ مُنْذُ يَوْمَيْنِ. قَالَت: وَأخذ الرجل يؤانسني بِالْحَدِيثِ، إِلَى أَن طالبني بنفسي. فَقلت: يَا هَذَا اتَّقِ الله. فَقَالَ: التمساح قد مضى، وَمن سَاعَة إِلَى سَاعَة فرج، وَلَعَلَّ أَن تجتاز بِنَا

سفينة قبل عودته فنطرح أَنْفُسنَا إِلَيْهَا. فوعظته، فَلم يلْتَفت إِلَى كَلَامي، واغتصبني نَفسِي، فواقعني. وَمَا نزل حَتَّى جَاءَ التمساح، فَأَخذه من فَوقِي، وَمضى، فَبَقيت كالميتة فَزعًا. فَأَنا كَذَلِك، إِذْ سَمِعت وَقع حوافر الْخَيل، وَصَوت أَقْدَام كثيرين، فأخرجت رَأْسِي من الْغَار، وَصحت واستغثت، فَاطلع أحدهم. وَقَالَ: مَا أَنْت؟ فَقلت: حَدِيثي طريف، أرموا لي حبلًا أتخلص بِهِ إِلَيْكُم. فرموا لي حبلًا، فشددت نَفسِي، واستظهرت جهدي، وأطراف الْحَبل فِي أَيْديهم. فَقلت: اجذبوني. فجذبوني، فصرت مَعَهم على ظهر المغارة، بعد أَن توهنت، وتسلخت يَدي. فسألوني عَن خبري، فَأَخْبَرتهمْ، فأركبوني شَيْئا، وأدخلوني الْبَلَد، فَلَمَّا كَانَ وَقت عَادَة حيضي، تَأَخَّرت عني، ثمَّ ظهر الْحمل، فَولدت ابْني هَذَا بعد تِسْعَة أشهر. وكرهت أَن أخبر كل أحد بِهَذَا الحَدِيث، فنسبت ذَلِك إِلَى التمساح، وأستتر أَمْرِي بذلك.

أبو القاسم العلوي يواجه الأسد

أَبُو الْقَاسِم الْعلوِي يواجه الْأسد وحَدثني أَبُو الْقَاسِم بن الأعلم الْعلوِي الْكُوفِي، الفيلسوف، قَالَ: خرجت من بَغْدَاد، أُرِيد الْكُوفَة، فَلَمَّا صرت فِيمَا بَينهَا وَبَين حمام أعين قَرْيَة قريبَة من الْكُوفَة أفضيت إِلَى أجمة هُنَاكَ. وَكنت قد تقدّمت الرّفْقَة، وَأَنا رَاكب حمارا، وورائي بمسافة قريبَة غُلَام لي مَمْلُوك رَاكب بغلًا، فسرنا حَتَّى أبعدنا عَن الرّفْقَة. فَلَمَّا دخلت الأجمة، رَأَيْت مسناة دقيقة فِي وسط الأجمة، وَعَلَيْهَا المسلك، يُوصل إِلَيْهَا من هبوط. فرمت النُّزُول إِلَيْهَا، فَوقف الْحمار تحتي، فضربته ضربا شَدِيدا، فَلم أَجِدهُ يبرح. فَالْتَفت إِلَى كفله، لأتأمل قوائمه، فَرَأَيْت أسدًا قَائِما، وَبَينه وَبَين قَوَائِم الْحمار نَحْو ذِرَاع أَو أقل، وَإِذا الْحمار قد شم رَائِحَته، فأصابته رعدة شَدِيدَة، ورسخت قوائمه فِي الأَرْض، وَلم يَتَحَرَّك.

فَلم أَشك فِي التّلف، وَأَن الْأسد سيمد يَده، فيجذبني من على الْحمار، فغمضت عَيْني لِئَلَّا أرى كَيفَ أحصل فِي مخالبه، وَأَقْبَلت أَتَشهد، وأقرأ، وَأَنا مَعَ ذَلِك أجد عَقْلِي ثَابتا، ومتصورًا لهيأة الْأسد، وَلم يفدني التغميض شَيْئا. ثمَّ ذكرت فِي الْحَال حِكَايَة كنت أسمعها، أَن الْأسد لَا يفترس الْإِنْسَان وَهُوَ مواجه لَهُ، فاستدرت وَفتحت عَيْني فِي عَيْنَيْهِ، وَأَقْبَلت أَتَشهد خفِيا، والأسد فاتح فَاه، وَأَنا أتأمل أَسْنَانه، وَتصل إِلَى أنفي من فَمه رَوَائِح مُنْتِنَة. فَإِنِّي لكذلك إِذْ لَحِقَنِي الصَّبِي الْمَمْلُوك على البغلة، وَمَعَهُ رجل رَاكب دَابَّة، ووراءهما قوم مشَاة. فحين رأى الْمَمْلُوك تِلْكَ الْحَالة، جزع جزعًا شَدِيدا، وَصَاح بِأَعْلَى صَوته: يَا معاشر الْمُسلمين أدركونا، فقد افترس الْأسد مولَايَ الْعلوِي. فحين سمع الْأسد الصياح من وَرَائه انزعج، والتفت، فَرَأى الصَّبِي قَرِيبا إِلَيْهِ، فتناوله من أَعلَى السرج، وعار الْبَغْل وَحصل الصَّبِي فِي فَم الْأسد، كالفأرة فِي فَم السنور، وَأَنا كالميت إِلَّا أَنِّي أحصل مَا أرى من ذَلِك. وَأَقْبل الْأسد يحمل على رَاكب الدَّابَّة، والمشاة، وَالصَّبِيّ فِي فَمه، فَهَرَبُوا مِنْهُ، وَدخل الأجمة. فَقلت فِي نَفسِي: قد فداني الله عز وَجل بمملوكي، وخلص نَفسِي بِيَسِير من مَالِي، فَمَا وُقُوفِي؟ فرميت بنفسي عَن الْحمار، وفررت أعدو على المسناة، فتلقاني قوم قد جَاءُوا من الْكُوفَة، وَرَأَوا حيرتي، وفزعي، فسألوني عَن أَمْرِي، فَأَخْبَرتهمْ. فتقدموا يطْلبُونَ الْأسد، وقويت نَفسِي، فزدت فِي الْعَدو، إِلَى أَن خرجت من الأجمة، ولحقني الرّفْقَة الَّتِي كنت فِيهَا، وَقد عقلوا البغلة الَّتِي كَانَت تَحت مملوكي، وَسَاقُوا الْحمار، فركبته، وَدخلت الْكُوفَة.

وَكَانَ هَذَا الْخَبَر يَوْم الثُّلَاثَاء غرَّة شهر الْمحرم سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، فَصمت يومي، واعتقدت أَن أَصوم كل ثلاثاء، أبدا، وَأَنا أصومه إِلَى الْآن. وَجَاءَنِي أَبُو عَليّ عمر بن يحيى الْعلوِي، مهنئًا بالسلامة، وبقدومي، وَكَانَ خبري شاع. وَقَالَ لي فِي جملَة كَلَامه: كَيفَ خفت الْأسد؟ أَو مَا علمت أَن لحومنا معاشر بني فَاطِمَة مُحرمَة على السبَاع؟ فَقلت لَهُ: مثل سيدنَا، أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، لَا يَقُول مثل هَذَا، وَمَا الَّذِي كَانَ يؤمنني أَن يكون هَذَا الحَدِيث بَاطِلا فأتلف، وَكَيف كَانَت نَفسِي، مَعَ طبع البشرية، تطمئِن فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، إِلَى هَذَا الحَدِيث؟ قَالَ: كَيفَ يكون هَذَا الحَدِيث بَاطِلا، مَعَ مَا روينَاهُ من خبر زَيْنَب الكذابة مَعَ عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِمَا السَّلَام؟ قَالَ: فَقلت لَهُ: بلَى، قد رويت ذَلِك، وَلَكِن لم يخْطر فِي فكري من هَذَا شَيْء فِي تِلْكَ الْحَال. قَالَ مؤلف الْكتاب: فَقلت أَنا لأبي الْقَاسِم بن الأعلم، وَمَا خبر زَيْنَب الكذابة؟ فَإِنِّي لم أسمعهُ. قَالَ: هَذَا خبر مَشْهُور عِنْد الشِّيعَة، بِإِسْنَاد لَهُم لَا أحفظه، وَذَلِكَ: أَن امْرَأَة يُقَال لَهَا زَيْنَب ادَّعَت أَنَّهَا علوِيَّة، فجيء بهَا إِلَى عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَدفع نَسَبهَا. فخاطبته بِكَلَام دفعت فِيهِ نسبه، ونسبته إِلَى مثل مَا نَسَبهَا إِلَيْهِ من الادعاء، وَكَانَ ذَلِك بِحَضْرَة السُّلْطَان. فَقَالَ الرِّضَا: أخرج أَنا وَهَذِه الْمَرْأَة إِلَى بركَة السبَاع، فَإِنِّي رويت عَن آبَائِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن لُحُوم ولد فَاطِمَة صلوَات الله عَلَيْهَا مُحرمَة على السبَاع، فَمن أَكلته السبَاع فَهُوَ دعِي.

فَقَالَت الْمَرْأَة: لَا أرْضى بِهَذَا، وَدفعت الْخَبَر، فأجبرها السُّلْطَان على ذَلِك. فَقَالَت: فلينزل قبلي. فَنزل الرِّضَا بِمحضر من خلق عَظِيم، فَلَمَّا رَأَتْهُ السبَاع، أقعت على أذنابها، فَدَنَا مِنْهَا، وَلم يزل يمسح رَأس كل وَاحِد مِنْهَا ويمر بِيَدِهِ إِلَى ذَنبه، والسبع يبصبص لَهُ، حَتَّى أَتَى على آخرهَا، ثمَّ ولى، فَصَعدَ من الْبركَة. وكرهت الْمَرْأَة النُّزُول، وأبته، فأجبرت على ذَلِك، فحين نزلت وثب عَلَيْهَا السبَاع، فافترسوها ومزقوها، فَعرفت بِزَيْنَب الكذابة.

أعان الفيلة على قتل ثعبان فكافئوه بما أغناه

أعَان الفيلة على قتل ثعبان فكافئوه بِمَا أغناه وَحدث عبد الله بن مُحَمَّد بن خرسان السيرافي، الْمُقِيم، كَانَ، بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: حَدثنِي أبي، عَن جدي، قَالَ ذكر جمَاعَة من شُيُوخ الْبَحْرين الَّذين ترددوا إِلَى بِلَاد الْهِنْد، أَنهم سمعُوا هُنَاكَ حِكَايَة مستفيضة، أَن رجلا كَانَ معاشه صيد الفيلة قَالَ: استخفيت مرّة فِي شَجَرَة كَبِيرَة عالية كَثِيرَة الْوَرق فِي غيضة كَانَت تجتاز بهَا الفيلة، من شرائع المَاء الَّتِي تردها إِلَى مراتعها. فاجتاز بِي قطيع مِنْهَا، وَكَانَت عادتي أَن أدع القطعان تجوز حَتَّى تبلغ آخر فيل مِنْهَا، فأرميه بِسَهْم مَسْمُوم فِي بعض مقاتله، فتجفل الفيلة، فَإِذا مَاتَ الْفِيل الْمَجْرُوح، نزلت فاقتلعت أنيابه وسلخت جلده، وَأخذت ذَلِك فَبِعْته فِي الْبِلَاد. فَلَمَّا اجتاز بِي هَذَا القطيع، رميت آخر فيل كَانَ فِيهِ، فَخر، فاضطربت الفيلة، وأسرعت عَنهُ. فَإِذا أعظمها قد عَاد فَوقف عَلَيْهِ، وَتَأمل السهْم وَالْجرْح، وَرجعت مَعَه الفيلة، ووقفت بوقوفه، فَمَا زَالَ قَائِما والفيل الْمَجْرُوح يضطرب إِلَى أَن مَاتَ. فَضَجَّ ذَلِك الْفِيل ضَجِيجًا عَظِيما، وضجت الفيلة مَعَه وانتشرت فِي الغيضة، ففتشتها شَجَرَة شَجَرَة، فأيقنت بِالْهَلَاكِ. وانْتهى الْفِيل الْأَعْظَم إِلَى الشَّجَرَة الَّتِي أَنا فِيهَا، فَلَمَّا رَآنِي أحتك بِالشَّجَرَةِ،

فَإِذا هِيَ قد انْكَسَرت، على عظمها وضخامتها، وَسَقَطت أَنا والشجرة إِلَى الأَرْض، فَلم أَشك فِي أَن الْفِيل يدومني. وَإِذا بِهِ قد جَاءَ حَتَّى وقف يتأملني، وأحجمت الفيلة عني. فَلَمَّا رأى الْفِيل الْعَظِيم قوسي وسهامي، لف خرطومه عَليّ بِرِفْق، وشالني من غير أَذَى، حَتَّى وضعني على ظَهره، وَرجع يُرِيد الطَّرِيق الَّتِي كَانَ أقبل مِنْهَا، وهرول، وهرولت الفيلة خَلفه، حَتَّى بلغ المَاء، والفيلة مَعَه. فَإِذا قد خرج عَلَيْهَا ثعبان عَظِيم ينْفخ، فتأخرت الفيلة، وأشال الْفِيل الْأَعْظَم خرطومه، فلفه عَليّ، وأنزلني، وَتَرَكَنِي على الأَرْض، وَأخذ يُومِئ بخرطومه إِلَى الثعبان بِرِفْق وتملق. فسددت سَهْما إِلَى الثعبان، ورميته، فَأَصَبْته، وتابعت رميه، فَانْصَرف مثخنًا. فَتقدم إِلَيْهِ الْفِيل فداسه، ثمَّ عَاد إِلَيّ، فأخذني بخرطومه، وَجَعَلَنِي على ظَهره وَأَقْبل يُهَرْوِل، والفيلة خَلفه. فجَاء بِي إِلَى غيضة لم أكن أعرفهَا، أعظم من الَّتِي أَخَذَنِي مِنْهَا، وَأبْعد بعدة فراسخ، وفيهَا فيلة ميتَة، لَا يحصيها إِلَّا الله تَعَالَى، وأكثرها قد بلي جسده وَبقيت عِظَامه.

فَمَا زَالَ يتتبع الأنياب ويجمعها، ويومئ إِلَى فيل فيل، حَتَّى لم يدع هُنَاكَ نابًا إِلَّا جمعه، وأوقر تِلْكَ الفيلة، ثمَّ أركبني على ظَهره، وَأخذ بِي فِي طَرِيق الْعِمَارَة، واتبعته الفيلة. فَلَمَّا شَارف الْقرى وقف، وَأَوْمَأَ إِلَى الفيلة فطرحت أحمالها، حَتَّى لم يبْق مِنْهَا شَيْء، ثمَّ أنزلني بخرطومه بِرِفْق، وَتَرَكَنِي عِنْد الأنياب، وَقد صَارَت تَلا عَظِيما هائلًا. فَجَلَست عِنْدهَا مُتَعَجِّبا من سلامتي، وَرجع الْفِيل يُرِيد الصَّحرَاء، وَرجعت الفيلة بِرُجُوعِهِ، وَأَنا لَا أصدق بسلامتي، وَلَا بِمَا شاهدت من عظم فطنة الْفِيل. فَلَمَّا غَابَتْ الفيلة عني، مشيت، إِلَى أقرب الْقرى إِلَيّ، واستأجرت خلقا كثيرا، حَتَّى خَرجُوا معي، وحملوا تِلْكَ الأنياب، فِي أَيَّام، إِلَى الْقرْيَة. وَمَا زلت أبيعها فِي تِلْكَ المدن، حَتَّى حصل لي مَال عَظِيم، كَانَ سَبَب يساري وغناي عَن صيد الفيلة.

حلف بالطلاق أن لا يبيت بمناذر فكان ذلك سببا لإنقاذ شخص من براثن الأسد

حلف بِالطَّلَاق أَن لَا يبيت بمناذر فَكَانَ ذَلِك سَببا لإنقاذ شخص من براثن الْأسد وَحكى سعد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْأَزْدِيّ، الشَّاعِر، الْمَعْرُوف بالوحيد، قَالَ: حَدثنِي مَرْوَان بن شُعَيْب الْعَدوي، من عدي ربيعَة، قَالَ: وَهُوَ بنهر تل هوارا، وَكَانَ من أَهلهَا، قَالَ: كنت فِي حداثتي شَدِيد الْقُوَّة والأيد، وَكَانَت بنيته لما حَدثنِي، تدل على ذَلِك مِنْهُ، وَكنت عِنْد زَوْجَة لي من عبد الْقَيْس فِي مناذر، وَهِي قريبَة من تل هوارا، على أَرْبَعَة فراسخ، وَعِنْدِي قوم من أهل هواره، وَنحن نشرب. فتفاخرنا إِلَى أَن انتهينا إِلَى تَجْرِيد السيوف، فحجز بَيْننَا مَشَايِخ الْقرْيَة، وَبدر لساني، فَحَلَفت بِالطَّلَاق أَن لَا أَبيت بمناذر.

فَخرجت مِنْهَا أُرِيد منزلي بتل هوارا، وَمَعِي سَيفي وجحفتي، وَكَانَ ذَلِك فِي اللَّيْل. فسرت فِي الطَّرِيق وحدي، وَبَلغت أجمة لَا بُد من سلوكها، فَلَمَّا سرت فِيهَا قَلِيلا، سَمِعت صياحًا شَدِيدا من ورائي، فجردت سَيفي، وَرجعت أطلب الصَّوْت. فَوجدت الْأسد قد افترس رجلا، وَهُوَ الَّذِي صَاح، ورأيته فِي فَم الْأسد عرضا بثيابه. فَصحت بالأسد، فَرمى بِالرجلِ، وَرجع إِلَيّ، فقاتلته سَاعَة، ثمَّ وثب عَليّ وثبة شَدِيدَة، فلطئت بِالْأَرْضِ، وجمعت نَفسِي فِي جحفتي، فلشدة وثبته جاوزني، فَصَارَ ورائي، فأسرعت الْوُثُوب نَحوه، وبعجته بِالسَّيْفِ فِي فَمه، وَكَانَ سَيْفا مَاضِيا، فَدخل فِي فَمه وَخرج من لبته، فَخر صَرِيعًا يضطرب، فتداركته بضربات كَثِيرَة حَتَّى تلف. وعدت إِلَى الرجل، فَوَجَدته يتنفس وَلَا يعقل، فَحَملته إِلَى الجادة، وَكَانَت لَيْلَة مُقْمِرَة. وتأملت الرجل، فَإِذا هُوَ تَاجر من تل هوارا، أعرفهُ، فَلم تطب نَفسِي بِتَرْكِهِ أصلا، فَجَعَلته عِنْد الجادة، وعدت فَأخذت رَأس السَّبع، وَحَمَلته وَالرجل،

وحصلتهما فِي صبيغة كَانَت عَليّ. والصبيغة إِزَار أَحْمَر يتشح بِهِ عرب تِلْكَ النَّاحِيَة. وَكَانَ الْأسد فِي خلال قتالي إِيَّاه قد ضرب فَخذي بكفه، فأحسست بِهِ فِي الْحَال كغرزة الإبرة، لما كنت فِيهِ من الهول. فَلَمَّا حصلت أَمْشِي حَامِلا رَأس الْأسد وَالرجل، أحسست بالألم، وَرَأَيْت الدَّم يجْرِي، وقوتي تضعف، فَصَبَرت نَفسِي حَتَّى بلغت تل هوارا وَقد أَصبَحت. فَأنْكر أهل الْقرْيَة حَالي، وَحَال الْجرْح، فسألوني عَن خبري، فألقيت الصبيغة الَّتِي فِيهَا الرجل وَالرَّأْس، فاستهلوا الْحَال لما حدثتهم بهَا. وفتشوا الرجل، فوجدوا فِي بدنه خدوشًا يسيرَة، فَأَخَذُوهُ، ورمت أَن أَمْشِي إِلَى بَيْتِي، فَلم أقدر، حَتَّى حملت، وَمَكَثت فِي بَيْتِي زَمَانا، وَكنت أعالج نَفسِي من تِلْكَ الْجراح مُدَّة. وعولج الرجل فبرأ قبلي بأيام، وَهُوَ حَيّ إِلَى الْآن، يسميني مولَايَ، ومعتقي، وجراحي أَنا، لصعوبتها تنْتَقض عَليّ فِي أغلب الْأَوْقَات. قَالَ سعد بن مُحَمَّد: وَأرَانِي الْجرْح، فَكَانَ عَظِيم الْفَتْح، قَالَ: فَلم أعلم سَببا لسكرنا وعربدتنا، إِلَّا أَنه سَبَب النجَاة لذَلِك الرجل.

حيلة ابن عرس في قتل الأفعى

حِيلَة ابْن عرس فِي قتل الأفعى وَحكى سعد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، قَالَ: حَدثنِي رجل يعرف بِعَبْد الْعَزِيز بن الْحسن الْأَزْدِيّ من تجار القصباء بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: كنت يَوْمًا فِي القصباء، وَقد أخرج من النَّهر قصب رطب، فَعمل كالقباب، على الْعَادة فِيمَا يُرَاد تجفيفه من الْقصب، وَكَانَ يَوْمًا صائفًا. وكدني الْحر، فَدخلت إِحْدَى تِلْكَ القباب الْقصب، وَهِي تكون بَارِدَة جدا، وَعَادَة التُّجَّار أَن يستكنوا بهَا، فَنمت فِي الْقبَّة، فلبردها استثقلت فِي النّوم. فانتبهت بعد الْعَصْر، وَقد انْصَرف النَّاس من القصباء، وَهِي فِي مَوضِع بِالْبَصْرَةِ، فِي أَعْلَاهَا، مَعْرُوف، بِهِ صحراء وبساتين. فاستوحشت للوحدة، وعملت على الْقيام، فَإِذا بأفعى فِي غلظ السَّاق أَو الساعد، طَوِيل، متدور على بَاب الْقبَّة كالطبق. فَلم أجد سَبِيلا إِلَى الْخُرُوج، ويئست من نَفسِي، وتحيرت، وَجَزِعت جزعًا شَدِيدا، وَأخذت فِي التَّشَهُّد، وَالتَّسْبِيح، والفزع إِلَى الله تَعَالَى. فَإِنِّي لكذلك، إِذْ جَاءَ ابْن عرس من بعيد، فَلَمَّا رأى الأفعى، وقف يتأمله ثمَّ رَجَعَ من حَيْثُ جَاءَ، وَغَابَ قَلِيلا، ثمَّ جَاءَ وَمَعَهُ ابْن عرس آخر، فوقفا جَمِيعًا، الْوَاحِد عَن يَمِين الْقبَّة، وَالْآخر عَن يسارها، وَصَارَ الْوَاحِد عِنْد رَأس الأفعى، وَالْآخر عِنْد ذنبها، والأفعى غافل عَنْهُمَا، ثمَّ وثبا فِي حَال وَاحِدَة، وَإِذا رَأسه وذنبه فِي فَم كل وَاحِد مِنْهُمَا. فاضطرب، فَلم يفلت مِنْهُمَا، وجراه حَتَّى بعدا عَن عَيْني، فَخرجت من الْقبَّة سالما.

ألقى نفسه على نبات البردي فوقع على أسد

ألْقى نَفسه على نَبَات البردي فَوَقع على أَسد وَحدث سعد بن مُحَمَّد، الوحيد أَيْضا، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عَليّ الْأنْصَارِيّ الْمُقْرِئ بالرملة، وَكَانَ فَارِسًا فاتكًا شجاعًا جلدا، قَالَ: خرجت فِي قافلة من الرملة، صَاحبهَا ابْن الْحداد، وَأَنا على مهر لي، وَعلي سلاحي. فَبَلغنَا فِي لَيْلَة مظْلمَة إِلَى وَادي غارا، وَهُوَ وَاد عميق جدا، عمقه نَحْو فَرسَخ، فِي بَطْنه مَاء يجْرِي، وَعَلِيهِ شجر كثير، وَهُوَ مَشْهُور بالسباع، وَالطَّرِيق على جنبة من جنباته فِي مضيق. فازدحمت الْقَافِلَة، فَسقط جمل عَلَيْهِ حمل بز، فَرَأَيْت صَاحبه يلطم ويبكي، وَكَانَ مُوسِرًا. فَدَعَاهُ ابْن الْحداد، وَقَالَ لَهُ: أَنْت رجل مُوسر، فَمَا هَذَا الْجزع؟ فَقَالَ لَهُ: فِي الْحمل الْبَز الَّذِي سقط، عشرَة آلَاف دِينَار عينا. فحط ابْن الْحداد الْقَافِلَة، ونادى: من ينزل الْوَادي، ويتخلص لنا الْحمل أَو المَال الَّذِي فِيهِ، وَله ألف دِينَار، فَلم يَجْسُر أحد على ذَلِك. فَلَمَّا كرر النداء جِئْته، وَقلت: تعجل لي الدَّنَانِير. فَقَالَ: لَا، وَلَكِن أكتب لَك بهَا السَّاعَة كتابا، وَأشْهد من فِي الْقَافِلَة،

فَإِذا صَار الْجمل وَحمله مَعَ مَا فِيهِ من المَال عِنْدِي، فَالْمَال لَك. فكتبنا كتابا بذلك، وأشهدنا عَلَيْهِ، وأعطيتهم دَابَّتي ورحلي، ثمَّ أخذت سَيْفا، وجحفةً، وشمعةً مشتعلة، ورمت النُّزُول إِلَى الْوَادي. فَرَأَيْت منزلا غرني، فاستعجلت سلوكه، فَنزلت سَاعَة، حَتَّى صرت على جَانب من الْوَادي مشجر، فَإِذا فِيهِ أثر الرُّعَاة وَالْغنم، ثمَّ لم أجد طَرِيقا إِلَى أَسْفَل، وَكَانَ سبيلي أَن أرجع، وأرتاد النُّزُول من جِهَة أُخْرَى. فَحَمَلَنِي ضيق الْوَقْت، والحرص على الدَّنَانِير، أَن جعلت أتوغل، وَأَنْتَقِلَ من شَجَرَة إِلَى شَجَرَة، وَمن حجر إِلَى حجر، حَتَّى حصلت فِي جنب الْوَادي على صَخْرَة ملساء بارزة كالرف، لَيْسَ لَهَا إِلَى أَسْفَل طَرِيق أَلْبَتَّة. فاطلعت بالشمعة، فَإِذا بيني وَبَين الْقَرار عشرُون ذِرَاعا، وَفِي أَسْفَل الْوَادي بردي كثيف يجْرِي بَينه المَاء، وَله خرير شَدِيد. فأجمعت على أَن ألقِي نَفسِي، فأطفأت الشمعة، وشددتها بحمائل السَّيْف مَعَ الْجحْفَة، وألقيت ذَلِك فِي مَوضِع عَلمته عَن يَمِيني، ثمَّ جمعت نَفسِي فَوَثَبت فِي وسط البردي. فَوَقَعت على شَيْء ثار من تحتي ونفضني، وَصَاح صَيْحَة عَظِيمَة مَلأ بهَا الْوَادي، وَإِذا هُوَ أَسد، فشق البردي وسعى هَارِبا، فَوقف بإزائي من جَانب الْوَادي الآخر. فطلبت سَيفي وجحفتي حَتَّى أخذتهما، ووقفت أنْتَظر أَن يمْضِي الأدس فأطلب الْجمل، فَأقبل يُرِيدنِي. فمشيت بَين يَدَيْهِ فِي البردي، وَهُوَ فِي أثري يَخُوض المَاء، ويشق البردي، وَأَنا أخاتله من مَوضِع إِلَى مَوضِع.

وطلع الْقَمَر، فَأَبْصَرت بِنَاء خفِيا، فقصدته، فَإِذا هُوَ بَيت رحى يديرها المَاء، فَدخلت فِيهِ. ثمَّ فَكرت، فَقلت: هُنَا مألف الْأسد، والساعة يجيئني، فَجئْت إِلَى شَجَرَة كَبِيرَة، فقطعتها بِالسَّيْفِ من نصف سَاقهَا، وجررتها من ورائي، وجذبت سَاقهَا، وَدخلت إِلَى بَيت الرَّحَى، فَامْتَلَأَ الْبَاب بهَا، وفضلت عَنهُ بِشَيْء كثير، وَجَلَست، وسَاق الشَّجَرَة فِي يَدي. فَمَا كَانَ إِلَّا مِقْدَار جلوسي، حَتَّى أحسست بالأسد يزحم الشَّجَرَة يُرِيد الدُّخُول إِلَيّ. قَالَ: فاستندت إِلَى الْحَائِط، وَأَمْسَكت سَاق الشَّجَرَة أدافعه بهَا، حَتَّى ملني ومللته، ثمَّ ربض بِإِزَاءِ الْبَاب إِلَى أَن أَسْفر الصُّبْح، فَلَمَّا كَادَت أَن تطلع الشَّمْس مضى. فأقمت إِلَى أَن انبسطت الشَّمْس، حَتَّى أمنته، ثمَّ خرجت، فَمَا زلت أطلب أثر الْجمل حَتَّى انْتَهَيْت إِلَيْهِ، فَإِذا هُوَ قد تقطع من أثر السقطة، والعدلان مطروحان، وَكَانُوا أمروني بفتقهما، واستخراج المَال، وَحمله، إِن لم أقدر على تَخْلِيص الْجمل وَحمل العدلين، فَفعلت ذَلِك. وحملت المَال على ظَهْري، وَطلبت المصعد، وَقد علا الضُّحَى، فَصَعدت فِيهِ. فَلَمَّا حصلت بِرَأْس الْوَادي، إِذا ببادية مجتازين، فقصدوني، فمانعتهم بِالسَّيْفِ عَن نَفسِي، فَلم أطقهم، وضربوني بِالسُّيُوفِ. فَقلت لشيخ رَأَيْته كالرئيس لَهُم: لي الذمام على مَا معي حَتَّى أصدقك، وأنفعك نفعا كثيرا. فَقَالَ: أصدقني، وَلَك الذمام.

فَحَدَّثته بِالْحَدِيثِ، فَأخذُوا المَال، وَسَارُوا بِي مَعَهم، حَتَّى وقفُوا على العدلين، فاحتملوهما. وَضرب الشَّيْخ بِيَدِهِ فِي المَال، فَحَثَا مِنْهُ ثَلَاث حثيات فَقلت: هَذَا لَا يَنْفَعنِي إِن لم تبلغني مأمني. فَأَنَاخَ جملا فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَسَار بِي سيرًا حثيثًا، حَتَّى أَرَانِي الْقَافِلَة على بعد، ثمَّ أنزلني، وَقَالَ: الْحق برفقتك، فَمَا عَلَيْك من أحد بَأْس. فمشيت حَتَّى لحقت الْقَافِلَة، وَقد خبأت تِلْكَ الدَّنَانِير فِي سراويلي، فعرفتهم أَن المَال أَخَذته الْبَادِيَة، وكتمت مَا أعطوني، وأريتهم آثَار الضَّرْب، فصدقوني، وَلم يفتشوني. فركبت دَابَّتي وسرت مَعَهم، فَدَخَلْنَا طبرية، فشكوا إِلَى أميرها أبي عُثْمَان بن عقيل، فَأسْرى إِلَى الْأَعْرَاب، فارتجع مِنْهُم أَكثر المَال، ورده إِلَى صَاحبه. وَكنت أَنا، لما دَخَلنَا طبرية، فَارَقْتهمْ، وَدخلت إِلَى دمشق، ثمَّ لحقوني بهَا. وَبَلغنِي مَا رد عَلَيْهِم، فَقلت لصَاحب المَال: قد بذلت مهجتي، وأفلت من الْأسد، وَالْمَوْت، مرَارًا، وَمن الْأَعْرَاب، حَتَّى وصل إِلَيْك بعض مَالك، فَلَا أقل من أَن توصل إِلَيّ بعض مَا وَعَدتنِي، فَأَعْطَانِي مِائَتي دِينَار. فأضفتها إِلَى مَا أعطانيه الْأَعْرَاب، فَإِذا الْجَمِيع سِتّمائَة دِينَار، مَعَ السَّلامَة من تِلْكَ الشدائد والأهوال.

كيف نجا من الأسد والثعبان

كَيفَ نجا من الْأسد والثعبان وَحكي أَن رجلا وَفد على هِشَام بن عبد الْملك، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لقد رَأَيْت فِي طريقي عجبا. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنا أَسِير بَين جبلي طي، إِذْ نظرت فَإِذا عَن يَمِيني أَسد كالبغل، وَعَن يساري ثعبان كالجراب، وهما مقبلان عَليّ. قاصدان نحوي. فَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء، وَقلت: يَا دَافع الْمَكْرُوه قد تراهما ... فنجّني يَا ربّ من أذاهما وَمن أَذَى من كادني سواهُمَا ... لَا تجعلن شلوي من قراهما قَالَ: فقربا مني، حَتَّى وصلا إِلَيّ، فتشمماني، حَتَّى لم أَشك فِي الْمَوْت، ثمَّ صَدرا عني، ونجوت.

قضى ليلة مع الأسد في حجرة مغلقة الباب

قضى لَيْلَة مَعَ الْأسد فِي حجرَة مغلقة الْبَاب بَلغنِي عَن قَاضِي الْقُضَاة الْمَعْرُوف بِأبي السَّائِب، وَلم أسمع ذَلِك مِنْهُ، قَالَ: وافيت من همذان أُرِيد الْعرَاق، وَأَنا فَقير، وزرت قبر الْحُسَيْن رَضِي الله عَنهُ. فَلَمَّا انصرفت أُرِيد قصر ابْن هُبَيْرَة، قيل لي: إِن الأَرْض مسبعَة، وأشير عَليّ أَن ألحق بقرية فِيهَا حصن سميت لي، فآوى إِلَيْهَا قبل الْمسَاء. وَكنت مَاشِيا، فأسرعت فِي الْمَشْي، إِلَى أَن وافيت الْقرْيَة، فَوجدت بَاب الْحصن مغلقًا. فدققت الْبَاب، فَلم يفتح لي، وتوسلت للقائمين بحراسته، بِمن انصرفت من زيارته. فَقَالُوا: قد أَتَانَا مُنْذُ أَيَّام من ذكر مثل مَا ذكرت، فأدخلناه، وآويناه، فَدلَّ علينا اللُّصُوص، وَفتح لَهُم بَاب الْحصن لَيْلًا، وأدخلهم، فسلبونا، وَلَكِن الْحق بذلك الْمَسْجِد، وَكن فِيهِ، لِئَلَّا تمسي فيأتيك السَّبع. فصرت إِلَى الْمَسْجِد، فَدخلت بَيْتا كَانَ فِيهِ، وَجَلَست. فَلم يكن بأسرع من أَن جَاءَ رجل على حمَار، منصرفًا من الحائر، فَدخل الْمَسْجِد، وَشد حِمَاره فِي غلق الْبَاب، وَدخل إِلَيّ. وَكَانَ مَعَه كراز فِيهِ مَاء، وَخرج، فَأخْرج مِنْهُ سِرَاجًا فأصلحه، ثمَّ أخرج قداحة، فقدح، وأوقد، وَأخرج خبزه، وأخرجت خبزي، واجتمعنا على الْأكل. فَمَا شعرنَا إِلَّا والسبع قد حصل فِي الْمَسْجِد فَلَمَّا رَآهُ الْحمار، دخل إِلَى الْبَيْت الَّذِي كُنَّا فِيهِ، فَدخل السَّبع وَرَاءه، فَخرج الْحمار وجذب بَاب الْبَيْت بالرسن،

فأغلقه علينا وعَلى السَّبع، وصرنا محبوسين فِيهِ، فحصلنا فِي أَخبث مُحَصل. وقدرنا أَن السَّبع لَيْسَ يعرض لنا، بِسَبَب السراج، وَأَنه إِذا طفئ، أكلنَا، أَو أَخذنَا. وَمَا طَال الْأَمر أَن فني مَا كَانَ فِي السراج من الدّهن، وطفئ، وحصلنا فِي الظلمَة، والسبع مَعنا، فَمَا كَانَ عندنَا من حَاله شَيْء إِلَّا إِذا تنفس، فَإنَّا كُنَّا نسْمع نَفسه. وراث الْحمار من فزعه، فَمَلَأ الْمَسْجِد رَوْثًا، وَمضى اللَّيْل وَنحن على حَالنَا، وَقد كدنا نتلف فَزعًا. ثمَّ سمعنَا صَوت الْأَذَان من دَاخل الْحصن، وبدا ضوء الصُّبْح، فرأيناه من شقوق الْبَاب. وَجَاء الْمُؤَذّن من الْحصن، فَدخل الْمَسْجِد، فَلَمَّا رأى رَوْث الْحمار، لعن وَشتم، وَحل رسن الْحمار من الغلق، فَمر يطير، من الْفَزع، فِي الصَّحرَاء، لعلمه بِمَا قد أفلت مِنْهُ. وَفتح الْمُؤَذّن بَاب الْبَيْت ينظر من فِيهِ، فَوَثَبَ السَّبع إِلَيْهِ، فدقه، وَحمله إِلَى الأجمة، وقمنا نَحن، وانصرفنا سَالِمين.

أخذه الأسد في المكان الذي أخذ فيه أباه

أَخذه الْأسد فِي الْمَكَان الَّذِي أَخذ فِيهِ أَبَاهُ بَلغنِي عَن أبي عَليّ مُحَمَّد بن عَليّ بن مقلة الْكَاتِب، قَالَ: كنت عِنْد أبي عَليّ الْعلوِي بِالْكُوفَةِ، إِذْ دخل عَلَيْهِ غُلَام لَهُ، فَقَالَ: يَا مولَايَ، أَخذ الْأسد فلَانا وكيلك. فانزعج، وَقَالَ: أَيْن أَخذه؟ فَقَالَ: فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا، وَأدْخلهُ الأجمة الْفُلَانِيَّة. فَقَالَ أَبُو عَليّ: لَا إِلَه إِلَّا الله، فِي هَذَا الْيَوْم بِعَيْنِه، أَخذ الْأسد أَبَاهُ، وَأدْخلهُ هَذِه الأجمة بِعَينهَا، مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سنة، واغتم، فسليناه، فَعَاد إِلَى شَأْنه فِي المحادثة. فَأَنا قَاعد عِنْده أحدثه، إِذْ دخل عَلَيْهِ غلمانه مبادرين، فَقَالُوا: قد وافى فلَان، يعنون ذَلِك الْوَكِيل، فَأذن لَهُ، فَدخل. فَرَحَّبَ بِهِ أَبُو عَليّ، وَسَأَلَهُ عَن خَبره، فَقَالَ: نعم، أَخَذَنِي الْأسد، كَمَا شاهدوني، وَكنت رَاكِبًا، فَحَمَلَنِي بِفِيهِ، كَمَا تحمل السنور بعض أَوْلَادهَا، إِلَّا أَنه مَا كلمني، وأدخلني الأجمة، وَقد زَالَ عَقْلِي. وَلم أعلم من أَمْرِي شَيْئا، إِلَّا أنني أَفَقْت فَلم أره، وَوجدت أعضائي سَالِمَة، وَوجدت حَولي من الجماجم وَالْعِظَام أمرا عَظِيما، فَلم يزل عَقْلِي وقوتي يثوبان إِلَيّ إِلَى أَن قُمْت، ومشيت.

فَعَثَرَتْ بِشَيْء تأملته، فَإِذا هُوَ هميان، فَأَخَذته، وشددت بِهِ وسطي، ومشيت إِلَى أَن بَعدت عَن الْموضع، فوصلت إِلَى شَبيه بوهدة، فَجَلَست فِيهَا، وغطيت نَفسِي بِمَا أمكنني من الْقصب بَقِيَّة لَيْلَتي. فَلَمَّا طلعت الشَّمْس أحسست بِكَلَام المجتازين، وحوافر بغالهم، فَخرجت وعرفتهم قصتي، وَركبت بغل أحدهم. فَلَمَّا بَعدت عَن الأجمة، وَأمنت على نَفسِي، فتحت الْهِمْيَان، فَإِذا فِيهِ رقْعَة بِخَط أبي، بِأَصْل مَا كَانَ فِي الْهِمْيَان من الدَّنَانِير، وَبِمَا أنفقهُ، فَإِذا هُوَ هميان أبي الَّذِي كَانَ فِي وَسطه لما افترسه السَّبع. فحسبت المصروف، ووزنت الْبَاقِي، فَإِذا هِيَ بِإِزَاءِ مَا بَقِي من الأَصْل، مَا نقصت شَيْئا. قَالَ: وَأخرج الْهِمْيَان، وفتحه، وَأخرج الرقعة، فَقَالَ أَبُو عَليّ: نعم، هَذَا خطّ أَبِيك. وَعَجِبت الْجَمَاعَة من ذَلِك.

نجا من الأسد وافترس مملوكه

نجا من الْأسد وافترس مَمْلُوكه وَبَلغنِي عَن رجل من أهل الأنبار، قَالَ: خرجت إِلَى ضَيْعَة لي فِي ظَاهر الأنبار، رَاكِبًا دَابَّة لي، وَمَعِي مَمْلُوك لي أسود فِي نِهَايَة الشجَاعَة. فَلَمَّا صرنا فِي بعض الطَّرِيق، بِالْقربِ من الْموضع الَّذِي أَنا طَالبه، إِذْ نشأت سَحَابَة، فأمطرت، وَكَانَ الْمسَاء قد أدركنا، فملنا إِلَى قباب كَانَت فِي الطَّرِيق للسابلة، فلجأنا إِلَيْهَا، فقوي الْمَطَر حَتَّى منعنَا من الْحَرَكَة، فَأَشَارَ الْغُلَام عَليّ بالمبيت. فَقلت لَهُ: نَخَاف اللُّصُوص وَيلك. فَقَالَ لي: تخَاف وَأَنا مَعَك؟ قلت: فالسبع؟ قَالَ: نصير الدَّابَّة دَاخل الْقبَّة، وَأَنت تَلِيهَا، وَأَنا عِنْد الْبَاب، وَأَشد وسطي بالحبل الَّذِي مَعنا، وَأَشد طرفه برجلك، حَتَّى لَا يأخذني النّوم، فَإِن جَاءَ الْأسد، أَخَذَنِي دُونك. وَمَا زَالَ يحسن لي ذَلِك الرَّأْي حَتَّى أطعته، وملنا إِلَى إِحْدَى القباب، ودخلناها، وَفعل مَا قَالَ. فوَاللَّه مَا مَضَت قِطْعَة من اللَّيْل، حَتَّى جَاءَ الْأسد، فَأخذ الْأسود فدقه، واحتمله، وجر رجْلي المشدودة مَعَه فِي الْحَبل.

فَلم يزل يجرني على الشوك وَالْحِجَارَة، إِلَى أَن صَار بِي إِلَى أجمته، وَأَنا لَا أَعقل شَيْئا من أَمْرِي، وَلَا أحس بِأَكْثَرَ مَا يجْرِي، وَلَا تَمْيِيز لي يُؤَدِّي بِي إِلَى الِاجْتِهَاد فِي حل الْحَبل من رجْلي. ثمَّ رمى بالأسود، وربض عَلَيْهِ، وَمَا زَالَ يَأْكُل مِنْهُ، حَتَّى شبع، وَترك مَا فضل مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي من حس الْحَيَاة غير النّظر فَقَط، ثمَّ مضى، فَنَامَ بِالْقربِ من مَكَاننَا. وَبقيت زَمَانا على تِلْكَ الْحَال، ثمَّ سكن روعي، وَرجعت إِلَيّ نَفسِي، لطول مكث الْأسد فِي نَومه، فحللت رجْلي من الْحَبل، وَقمت أدب، فَعَثَرَتْ بِشَيْء لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَأَخَذته، فَإِذا هميان ثقيل، فشددته على وسطي، وَخرجت من الأجمة، وَقد قَارب الصُّبْح أَن يسفر. وصرت إِلَى الْقبَّة الَّتِي فِيهَا دَابَّتي، فَإِذا هِيَ واقفة بِحَالِهَا، فأخرجتها، وركبتها، وانصرفت إِلَى منزلي، وَفتحت الْهِمْيَان، فَوجدت فِيهِ جملَة دَنَانِير. فحمدت الله تَعَالَى على السَّلامَة وَبَقِي الرعب فِي قلبِي، والتألم فِي بدني، مُدَّة.

الباب العاشر

الْبَاب الْعَاشِر فِيمَن اشْتَدَّ بلاؤه بِمَرَض ناله فعافاه الله سُبْحَانَهُ بأيسر سَبَب وأقاله دُعَاء يشفي من الوجع 4: 192 54 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، مِنْ حِفْظِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرِ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَنَّ مَالِكًا، أَخْبَرَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعًا بِي، قَدْ كَادَ يُبْطِلُنِي، فَقَالَ لِي: يَا

عُثْمَانُ، §ضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، مِنْ شَرِّ هَذَا الْوَجَعِ، وَمِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ، سَبْعَ مَرَّاتٍ "، قَالَ: فَقُلْتُهَا، فَشَفَانِي اللَّهُ

وجأ نفسه بسكين فعوفي من مرضه

وَجَأَ نَفْسَهُ بِسِكِّينٍ فَعُوفِيَ مِنْ مَرَضِهِ حَدثنَا أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد الْوراق، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان الطوسي، قَالَ: حَدثنَا الزبير بن بكار، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الضَّحَّاك، عَن أَبِيه، وَمُحَمّد بن سَلام، عَن أبي جعدة، قَالَ: برص أَبُو عزة الجُمَحِي الشَّاعِر، فَكَانَت قُرَيْش لَا تؤاكله، وَلَا تجالسه، فَقَالَ: الْمَوْت خير من هَذِه الْحَيَاة. فَأخذ حَدِيدَة، وَدخل بعض شعاب مَكَّة، فطعن بهَا فِي معده. والمعد: مَوضِع عَقبي الرَّاكِب من الدَّابَّة.

قَالَ أَبُو جعدة: فمرت الحديدة بَين الْجلد والصفاق، فَسَالَ مِنْهُ مَاء أصفر، وَبرئ لوقته، فَقَالَ: ألّلهمّ ربّ وائلٍ ونهد ... والمهمهات وَالْجِبَال الجرد قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَالَّذِي فِي كتاب الطوسي: لَا هم، وَهُوَ الصَّوَاب عِنْدِي. وربّ من يرْعَى بَيَاض نجد ... أَصبَحت عبدا لَك وَابْن عبد أبرأتني من وضحٍ فِي جلدي ... من بعد مَا طعنت فِي معدّي

يا قديم الإحسان لك الحمد

يَا قديم الْإِحْسَان لَك الْحَمد حَدثنَا أَبُو الْحسن أَحْمد بن يُوسُف بن يَعْقُوب بن البهلول التنوخي، قَالَ: كَانَ ينزل بِبَاب الشَّام من الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد رجل مَشْهُور بالزهد وَالْعِبَادَة، يُقَال لَهُ: لَبِيب العابد، لَا يعرف إِلَّا بِهَذَا. وَكَانَ النَّاس ينتابونه، وَكَانَ صديقا لأبي، فَحَدثني لَبِيب، قَالَ: كنت مَمْلُوكا روميًا لبَعض الْجند، فرباني، وَعَلمنِي الْعَمَل بِالسِّلَاحِ، حَتَّى صرت رجلا، وَمَات مولَايَ بعد أَن أعتقني. فتوصلت إِلَى أَن حصلت رزقه لي، وَتَزَوَّجت بامرأته، وَقد علم الله أنني لم أرد بذلك إِلَّا صيانتها، فأقمت مَعهَا مُدَّة. ثمَّ اتّفق أَنِّي رَأَيْت يَوْمًا حَيَّة دَاخِلَة فِي جحرها، فَأَمْسَكت ذنبها، فانثنت عَليّ، فنهشت يَدي، فشلت. وَمضى على ذَلِك زمَان طَوِيل، فشلت يَدي الْأُخْرَى، لغير سَبَب أعرفهُ، ثمَّ جَفتْ رجلاي، ثمَّ عميت، ثمَّ خرست. وَكنت على ذَلِك الْحَال، ملقى، سنة كَامِلَة، لم تبْق لي جارحة صَحِيحَة، إِلَّا سَمْعِي، أسمع بِهِ مَا أكره، وَأَنا طريح على ظَهْري، لَا أقدر على الْكَلَام، وَلَا على الْحَرَكَة، وَكنت أسْقى وَأَنا رَيَّان، وأترك وَأَنا عطشان، وأهمل وَأَنا جَائِع، وَأطْعم وَأَنا شبعان. فَلَمَّا كَانَ بعد سنة، دخلت امْرَأَة إِلَى زَوْجَتي، فَقَالَت: كَيفَ أَبُو عَليّ، لَبِيب؟

فَقَالَت لَهَا زَوْجَتي: لَا حَيّ فيرجى، وَلَا ميت فيسلى. فأقلقني ذَلِك، وآلمني ألمًا شَدِيدا، وبكيت، ورغبت إِلَى الله عز وَجل فِي سري بِالدُّعَاءِ. وَكنت فِي جَمِيع تِلْكَ الْعِلَل لَا أجد ألمًا فِي جسمي، فَلَمَّا كَانَ فِي بَقِيَّة ذَلِك الْيَوْم، ضرب عَليّ جسمي ضربانًا عَظِيما كَاد يتلفني، وَلم أزل على ذَلِك الْحَال، إِلَى أَن دخل اللَّيْل وانتصف، فسكن الْأَلَم قَلِيلا، فَنمت. فَمَا أحسست إِلَّا وَقد انْتَبَهت وَقت السحر، وَإِحْدَى يَدي على صَدْرِي، وَقد كَانَت طول هَذِه السّنة مطروحة على الْفراش لَا تنشال أَو تشال. ثمَّ وَقع فِي قلبِي أَن أتعاطى تحريكها، فحركتها، فتحركت، فَفَرِحت بذلك فَرحا شَدِيدا، وَقَوي طمعي فِي تفضل الله عز وَجل عَليّ بالعافية. فحركت الْأُخْرَى فتحركت، فقبضت إِحْدَى رجْلي فانقبضت، فرددتها فَرَجَعت، فَفعلت مثل ذَلِك مرَارًا. ثمَّ رمت الانقلاب من غير أَن يقلبني أحد، كَمَا كَانَ يفعل بِي أَولا، فَانْقَلَبت بنفسي، وَجَلَست. ورمت الْقيام فأمكنني، فَقُمْت وَنزلت عَن السرير الَّذِي كنت مطروحًا عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي بَيت من الدَّار. فمشيت ألتمس الْحَائِط فِي الظلمَة، لِأَنَّهُ لم يكن هُنَاكَ سراج، إِلَى أَن وَقعت على الْبَاب، وَأَنا لَا أطمع فِي بَصرِي. فَخرجت من الْبَيْت إِلَى صحن الدَّار، فَرَأَيْت السَّمَاء وَالْكَوَاكِب تزهر، فكدت أَمُوت فَرحا. وَانْطَلق لساني بِأَن قلت: يَا قديم الْإِحْسَان، لَك الْحَمد. ثمَّ صحت بِزَوْجَتِي، فَقَالَت: أَبُو عَليّ؟ فَقلت: السَّاعَة صرت أَبُو عَليّ؟ أسرجي، فأسرجت.

فَقلت: جيئيني بمقراض، فَجَاءَت بِهِ، فقصصت شاربًا لي كَانَ بزِي الْجند. فَقَالَت زَوْجَتي: مَا تصنع؟ السَّاعَة يعيبك رفقاؤك. فَقلت: بعد هَذَا لَا أخدم أحدا غير رَبِّي. فَانْقَطَعت إِلَى الله عز وَجل، وَخرجت من الدَّار، وَطلقت الزَّوْجَة، ولزمت عبَادَة رَبِّي. وَقَالَ أَبُو الْحسن: وَخبر هَذَا الرجل مَعْرُوف مَشْهُور، وَكَانَت هَذِه الْكَلِمَة: يَا قديم الْإِحْسَان لَك الْحَمد، صَارَت عَادَته، يَقُولهَا فِي حَشْو كَلَامه. وَكَانَ يُقَال: إِنَّه مجاب الدعْوَة، فَقلت لَهُ يَوْمًا: إِن النَّاس يَقُولُونَ إِنَّك رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامك، فَمسح يَده عَلَيْك، فبرئت. فَقَالَ: مَا كَانَ لعافيتي سَبَب غير مَا عرفتك.

أبرأ أبو بكر الرازي غلاما ينفث الدم بإطعامه الطحلب

أَبْرَأ أَبُو بكر الرَّازِيّ غُلَاما ينفث الدَّم بإطعامه الطحلب حَدثنِي أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ الْخلال الْبَصْرِيّ، أحد أَبنَاء الْقُضَاة، قَالَ: حَدثنِي بعض أهل الطِّبّ الثِّقَات: أَن غُلَاما من بَغْدَاد قدم الرّيّ وَهُوَ ينفث الدَّم، وَكَانَ لحقه ذَلِك فِي طَرِيقه. فاستدعى أَبَا بكر الرَّازِيّ الطَّبِيب الْمَشْهُور بالحذق، صَاحب الْكتب المصنفة، فوصف لَهُ مَا يجد. فَأخذ الرَّازِيّ مجسه، وَرَأى قارورته، واستوصف حَاله، مُنْذُ ابْتِدَاء ذَلِك بِهِ، فَلم يقم لَهُ دَلِيل على سل وَلَا قرحَة، وَلم يعرف الْعلَّة، فاستنظر الرجل ليفكر فِي الْأَمر. فَقَامَتْ على العليل قِيَامَته , وَقَالَ: هَذَا إِيَاس لي من الْحَيَاة، لحذق الطَّبِيب، وجهله بِالْعِلَّةِ، فازداد مَا بِهِ. وَولد الْفِكر للرازي أَن عَاد إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن الْمِيَاه الَّتِي شربهَا فِي طَرِيقه، فَأخْبرهُ أَنه شرب من مستنقعات وصهاريج. فَقَامَ فِي نفس الرَّازِيّ، لحدة الخاطر وجودة الذكاء، أَن علقَة كَانَت فِي المَاء وَقد حصلت فِي معدته، وَأَن ذَلِك النفث من فعلهَا.

فَقَالَ لَهُ: إِذا كَانَ غَدا جئْتُك بعلاجك، وَلَا أنصرف من عنْدك حَتَّى تَبرأ بِإِذن الله تَعَالَى، وَلَكِن بِشَرْط أَن تَأمر غلمانك يطيعونني فِيمَا آمُرهُم بِهِ. قَالَ: نعم. وَانْصَرف الرَّازِيّ، وَجمع ملْء مركنين كبيرين من طحلب، وأحضرهما من غَد مَعَه، وَأرَاهُ إيَّاهُمَا. وَقَالَ لَهُ: ابلع جَمِيع مَا فِي هذَيْن المركنين، فَبَلع الرجل شَيْئا يَسِيرا، ثمَّ وقف. فَقَالَ لَهُ: ابلع. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيع. فَقَالَ للغلمان: خذوه، فنيموه، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِك، وفتحوا فَاه، وَأَقْبل الرَّازِيّ يُدِير الطحلب فِي حلقه، ويكبسه كبسًا شَدِيدا ويطالبه ببلعه، شَاءَ أَو أَبى، ويتهدده بِالضَّرْبِ، إِلَى أَن بلع كَارِهًا أحد المركنين، وَهُوَ يستغيث فَلَا يَنْفَعهُ مَعَ الرَّازِيّ شَيْء. إِلَى أَن قَالَ لَهُ العليل: السَّاعَة أقذف مَا فِي بَطْني، فَزَاد الرَّازِيّ فِيمَا يكبسه فِي حلقه. فذرعه الْقَيْء، فقذف، فَتَأمل الرَّازِيّ قذفه، فَإِذا فِيهِ علقَة، وَإِذا بهَا لما وصل إِلَيْهَا الطحلب، دبت إِلَيْهِ بالطبع، وَتركت موضعهَا، فَلَمَّا قذف العليل، خرجت مَعَ الطحلب، ونهض العليل معافى.

أصيب بوجع في المعدة وشفاه لحم جرو سمين

أُصِيب بوجع فِي الْمعدة وشفاه لحم جرو سمين وَحكى الْحسن بن مُحَمَّد السطوي، غُلَام كَانَ يخْدم أبي رَحمَه الله، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحسن الصيدلاني البناتاذري، خَليفَة القَاضِي أبي الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد التنوخي على الْقَضَاء ببناتاذر، قَالَ: كَانَ عندنَا بسوق الْأَرْبَعَاء، من بناتاذر، غُلَام حدث من أَوْلَاد التناء، لحقه وجع فِي معدته شَدِيد، بِلَا سَبَب يعرفهُ، وَكَانَت تضرب عَلَيْهِ فِي أَكثر الْأَوْقَات ضربانًا عَظِيما، حَتَّى كَاد يتْلف، وَقل أكله، وَنحل جِسْمه. فَحمل إِلَى الأهواز، فعولج بِكُل شَيْء، فَمَا نجع فِيهِ دَوَاء، فَرد إِلَى بَيته وَقد يئس مِنْهُ. فاستدعى وَالِده طَبِيبا حاذقًا، وَأرَاهُ وَلَده، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: اقعد واشرح لي حالك، مُنْذُ حَال الصِّحَّة، فشرحها. وطاوله فِي الحَدِيث، إِلَى أَن قَالَ لَهُ العليل: إِنِّي دخلت بستانًا لنا، وَكَانَ

فِي بَيت الْبَقر مِنْهُ، رمان كثير، قد جمع للْبيع، فَأكلت مِنْهُ رمانات عدَّة. فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: كَيفَ كنت تَأْكُل؟ قَالَ: كنت أعض رَأس الرمانة بفمي، وأرمي بِهِ، وأكسرها، وآكلها، قطعا قطعا. فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: فِي غَد أعالجك، وتبرأ بِإِذن الله تَعَالَى، وَخرج. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، جَاءَهُ بِقدر إسفيذباج، قد طبخها بِلَحْم جرو سمين، وَقَالَ للعليل: كل هَذَا. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذا أكلت عرفتك. قَالَ: فَأكل العليل. فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: امتل من الطَّعَام، فَفعل، ثمَّ أطْعمهُ بطيخًا كثيرا، ثمَّ تَركه سَاعَة، وسقاه فقاعًا قد خلط بِمَاء حَار وشبث. ثمَّ قَالَ: أَتَدْرِي أَي شَيْء أكلت؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: أكلت لحم كلب، فحين سمع الْغُلَام ذَلِك، انْدفع فقذف جَمِيع مَا فِي بَطْنه. فَأمر الطَّبِيب بِعَيْنيهِ وَرَأسه فأُمسكا، وَأَقْبل يتَأَمَّل الْقَذْف، إِلَى أَن طرح

الْغُلَام شَيْئا أسود، كالنواة الْكَبِيرَة، يَتَحَرَّك. فَأَخذه الطَّبِيب، وَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأسك، فقد بَرِئت، وَفرج الله تَعَالَى عَنْك. فَرفع الْغُلَام رَأسه، وَانْقطع الْقَذْف، وسقاه الطَّبِيب شَيْئا يقطع الغثيان، وصب على رَأسه مَاء ورد، وَسكن نَفسه، ثمَّ أَخذ ذَلِك الشَّيْء الَّذِي يشبه النواة، فَأرَاهُ إِيَّاه، فَإِذا هُوَ قراد. وَقَالَ لَهُ: إِنِّي قد زكنت أَن الْموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ الرُّمَّان، كَانَ فِيهِ قردان من الْبَقر، وَأَنه قد دخلت وَاحِدَة مِنْهُنَّ فِي رَأس إِحْدَى الرمانات الَّتِي اقتلعت رءوسها بفيك، فَنزل القراد إِلَى حلقك، وعلق بمعدتك يمتصها. وَعلمت أَن القراد يهش إِلَى لحم الْكَلْب، فأطعمتك إِيَّاه، وَقلت: إِن صَحَّ ظَنِّي، فسيتعلق القراد بِلَحْم الْكَلْب، تعلقًا يخرج مَعَه إِن قذفت، فتبرأ، وَإِن لم يكن مَا ظَنَنْت صَحِيحا، فَمَا يَضرك من أكل لحم الْكَلْب. فَلَمَّا أحب الله تَعَالَى من عافيتك صَحَّ حدسي، فَلَا تعاود بعد هَذَا إِدْخَال شَيْء فِي فِيك لَا ترى مَا فِيهِ. وبريء الْغُلَام، وَصَحَّ جِسْمه.

ذكاء طبيب أهوازي

ذكاء طَبِيب أهوازي وَحدثنَا الْحسن غلامنا، عَن ابْن الصيدلاني هَذَا، قَالَ: كَانَ لي أكار حدث، فانتفخ ذكره انتفاخًا عَظِيما واحمر، وَضرب عَلَيْهِ ضربانًا شَدِيدا، فَلم يكن ينَام اللَّيْل، وَلَا يهدأ النَّهَار، وعولج فَلم يكن إِلَى برئه سَبِيل. قَالَ: فجَاء مطبب من الأهواز، يُرِيد الْبَصْرَة، فَسَأَلته أَن ينظر إِلَيْهِ. فَقَالَ لي: قل لَهُ يصدقني عَن خَبره فِي أَيَّام صِحَّته، وَإِلَى الْآن، قَالَ: فحدثه. فَقَالَ لَهُ: مَا صدقتني، وَمَا لي إِلَى علاجك سَبِيل، إِلَّا أَن تصدقني. فَقَالَ لي الْغُلَام: إِن صدقتك يَا أستاذ، فَأَنا آمن من جهتك على نَفسِي؟ قلت: نعم. فَقَالَ: أَنا غُلَام حدث، وعزب، فوطئت حمارا لي فِي الصَّحرَاء ذكرا. فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: الْآن علمت أَنَّك قد صدقت، والساعة تَبرأ. ثمَّ أَمر بِهِ فأُمسك إمساكًا شَدِيدا، وَأخذ ذكره بِيَدِهِ، فجسه جسًا شَدِيدا، والغلام سَاكِت. إِلَى أَن جس مِنْهُ موضعا، فصاح الْغُلَام، فَأخذ الطَّبِيب خيط إبريسم، فَشد الْموضع شدًا شَدِيدا، وَلم يزل يمرخ إحليل الْغُلَام بِيَدِهِ، ويسلته، إِلَى أَن

ندت مِنْهُ حَبَّة شعير من نقب ذكر الْغُلَام، وَقد كَبرت وجرحت الْموضع، فَسَالَ مِنْهُ شَيْء يسير كَمَاء اللَّحْم. فَأعْطَاهُ مرهمًا، وَقَالَ لَهُ: اسْتعْمل هَذَا أَيَّامًا فَإنَّك تَبرأ، وَتب إِلَى الله تَعَالَى من هَذَا الْفِعْل. فَاسْتعْمل الْغُلَام ذَلِك المرهم، فبرئ.

شج رأسه فمرض ثم شج بعدها فصلح

شج رَأسه فَمَرض ثمَّ شج بعْدهَا فصلح وحَدثني أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبيد الله الدقاق، الْمَعْرُوف بِابْن العسكري، شيخ مجرب ثِقَة، كَانَ ينزل فِي درب الشاكرية من نهر الْمُعَلَّى، فِي الْجَانِب الشَّرْقِي من بَغْدَاد، فِي المذاكرة، قَالَ: كَانَ أبي إِذا جلس يفتش فِي دفاتره، وَأَنا صبي، أجيء فآخذ مِنْهَا الشَّيْء بعد الشَّيْء، أستحسنه، فألعب بِهِ. وَكنت أرى فِي دفاتره دفترًا فِيهِ خطوط حمر، فأستحسنه وأطلبه فيمنعني مِنْهُ، حَتَّى بلغت مبلغ الرِّجَال. فَجَلَسَ يَوْمًا يفتش كتبه، فَرَأَيْت الدفتر، فأغفلت أبي وأخذته، ففتحته أقرؤه، فَإِذا هُوَ مولدِي، وَقد عمله بعض المنجمين. فَوجدت فِيهِ، أنني إِذا بلغت أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة، كَانَ عَليّ فِيهَا قطع. فَالْتَفت أبي فَرَأى الدفتر معي، فصاح وَأَخذه مني، وَنظر إِلَى أَي مَوضِع

بلغت، فتوقف وَأخذ يضعف ذَلِك فِي نَفسِي لِئَلَّا أغتم. وَمَضَت السنون، فَلَمَّا بلغت السّنة الَّتِي ذكرهَا المنجم، ركبت مهْرا لي، وَخرجت من دَار الضَّرْب، وَأبي فِيهَا، وَكَانَ إِلَيْهِ الْعيار، فبلغت إِلَى ساباط بدرب سِيمَا، بدرب الديزج. فنفر الْمهْر من كلب كَانَ فِي الطَّرِيق رابضًا، فَضرب رَأْسِي حَائِطا كَانَ فِي الساباط، فَوَقَعت عَن الْمهْر مغشيًا عَليّ. ثمَّ حملت إِلَى دَار الضَّرْب، وأحضر طَبِيب، وَقد انتفخ مَوضِع الضَّرْبَة من رَأْسِي إنتفاخًا عَظِيما، فَأَشَارَ بفصدي، ففصدت فَلم يخرج لي دم. فَحملت إِلَى بيتنا، وَلم أَشك فِي أَنِّي ميت لشدَّة مَا لَحِقَنِي، فاعتللت، وضعفت نَفسِي خوفًا مِمَّا ذكرته من حكم المنجم. فَكنت يَوْمًا جَالِسا مُسْتَندا إِلَى سَرِير، وَقد أَيِست من الْحَيَاة، إِذْ حَملتنِي عَيْنَايَ، فخفق رَأْسِي، فَضرب درابزين السرير، فشج الْموضع المنتفخ، فَخرج مِنْهُ أَرْطَال دم، فخف مَا بِي فِي الْحَال، فصلحت، وبرئت، وعشت إِلَى الْآن. وَكَانَ لَهُ يَوْم حَدثنِي بِهَذَا الحَدِيث أَرْبعا وَثَمَانِينَ سنة وشهور، على مَا أَخْبرنِي.

القطيعي الطبيب وذكاؤه ومكارم أخلاقه

الْقطيعِي الطَّبِيب وذكاؤه وَمَكَارِم أخلاقه وحَدثني أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد الصلحي الْكَاتِب، قَالَ: رَأَيْت بِمصْر طَبِيبا مَشْهُورا يعرف بالقطيعي، وَكَانَ يُقَال: إِنَّه يكْسب فِي كل يَوْم ألف دِرْهَم، من جرايات يجريها عَلَيْهِ قوم من رُؤَسَاء الْعَسْكَر، وَمن السُّلْطَان، وَمَا يَأْخُذهُ من الْعَامَّة. قَالَ: وَكَانَ لَهُ دَار قد جعلهَا شبه البيمارستان، من جملَة دَاره، يأوي إِلَيْهَا ضعفاء الأعلة، يعالجهم، وَيقوم بأودهم وأدويتهم، وأغذيتهم، وَخدمَتهمْ، وَينْفق أَكثر كَسبه فِي ذَلِك. قَالَ أَبُو الْحسن: فأسكت بعض فتيَان الرؤساء بِمصْر، وأسماه لي فَذهب عني اسْمه، وَكنت هُنَاكَ، فَحمل إِلَيْهِ أهل الطِّبّ، وَفِيهِمْ الْقطيعِي، فَأَجْمعُوا على مَوته، إِلَّا الْقطيعِي، وَعمل أَهله على غسله وَدَفنه. فَقَالَ الْقطيعِي: دَعونِي أعَالجهُ، فَإِن برِئ، وَإِلَّا فَلَيْسَ يلْحقهُ أَكثر من الْمَوْت الَّذِي أجمع هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ. فَخَلَّاهُ أَهله مَعَه، فَقَالَ؛ هاتم غُلَاما جلدا ومقارع، فَأتي بذلك.

فَأمر بِهِ فَمد، وَضرب عشر مقارع من أَشد الضَّرْب، ثمَّ جس مجسه، وضربه عشرا أُخْرَى شَدِيدَة أَيْضا، ثمَّ جس مجسه، وضربه عشرا أُخْرَى. ثمَّ جس مجسه، وَقَالَ للطب: أَيكُون للْمَيت نبض يضْرب؟ فَقَالُوا: لَا. قَالَ: فجسوا نبض هَذَا. فجسوه، فَإِذا بِهِ يَتَحَرَّك، فَضرب عشر مقارع أُخْرَى، فصاح. فَقطع الضَّرْب عَنهُ، فَجَلَسَ العليل يجس بدنه، ويتأوه، وَقد ثَابت إِلَيْهِ قوته. فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: مَا تَجِد؟ قَالَ: أَنا جَائِع. قَالَ: أطعموه السَّاعَة، فجاءوه بِمَا أكله، وقمنا وَقد رجعت قوته، وَبرئ. فَقَالَ لَهُ الطِّبّ: من أَيْن لَك هَذَا؟ قَالَ: كنت مُسَافِرًا فِي قافلة فيهم أَعْرَاب يخفروننا، فَسقط مِنْهُم فَارس عَن فرسه، فأسكت، فَعمد شيخ مِنْهُم إِلَيْهِ، فَضَربهُ ضربا عَظِيما، فَمَا رفع عَنهُ الضَّرْب حَتَّى أَفَاق، فَعلمت أَن ذَلِك الضَّرْب جلب عَلَيْهِ حرارة أزالت سكتته. فقست عَلَيْهِ أَمر هَذَا العليل.

مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد

مَرِيض بالاستسقاء تشفيه أَكلَة جَراد حَدثنِي بعض المتطببين بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مَنْصُور بن مَارِيَة، كَاتب أبي مقَاتل صَالح بن مرداس الْكلابِي، أَمِير حلب، وَكَانَ أَبُو مَنْصُور من رُؤَسَاء أهل الصراة الَّذين يضْربُونَ الْمثل بنعمتهم وترفههم، وَكَانَ ثِقَة أديبًا، وَقد شاهدته أَنا، وَلم أسمع مِنْهُ هَذِه الْحِكَايَة، قَالَ: أَخْبرنِي أحد شُيُوخنَا، قَالَ: كَانَ بعض أهلنا قد استسقى، فأيس من حَيَاته، وَحمل إِلَى بَغْدَاد، فشوور أهل الطِّبّ فِيهِ، فوصفوا لَهُ أدوية كثارًا، فعرفوا أَنه قد تنَاولهَا بأسرها،

فَلم تنجع، فأيسوا مِنْهُ، وَقَالُوا: لَا حِيلَة لنا فِي برئه. فَلَمَّا سمع العليل ذَلِك، قَالَ لمن مَعَه: دَعونِي الْآن أتزود من الدُّنْيَا، وآكل مَا أشتهي، وَلَا تقتلوني قبل أَجلي بالحمية. فَقَالُوا: كل مَا تُرِيدُ. فَكَانَ يجلس على دكان بِبَاب الدَّار، وَمهما رأى مَا يجتاز بِهِ على الطَّرِيق، شراه، وَأكله. فَمر بِهِ رجل يَبِيع جَرَادًا مطبوخًا، فَاشْترى مِنْهُ عشرَة أَرْطَال، وأكلها بأسرها. فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، انحل طبعه، وتواتر قِيَامه، حَتَّى قَامَ فِي ثَلَاثَة أَيَّام أَكثر من ثلث مائَة مجْلِس، وَضعف، وَكَاد يتْلف. ثمَّ انْقَطع الْقيام، وَقد زَالَ كل مَا فِي جَوْفه، وعادت بَطْنه إِلَى حَالهَا فِي الصِّحَّة، وثابت إِلَيْهِ قوته، وَبرئ. فَخرج برجليه فِي الْيَوْم الْخَامِس، يتَصَرَّف فِي حَوَائِجه، فَرَآهُ أحد الطِّبّ، فَعجب من أمره، وَسَأَلَهُ عَن الْخَبَر، فَعرفهُ. فَقَالَ: لَيْسَ من شَأْن الْجَرَاد أَن يفعل هَذَا، وَلَا بُد أَن يكون فِي الْجَرَاد الَّذِي فعل هَذَا خاصية، فَأحب أَن تدلني على الَّذِي باعك الْجَرَاد، فَلم يزَالُوا فِي طلبه حَتَّى وجدوه. فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: من أَيْن لَك هَذَا الْجَرَاد؟ فَقَالَ: أَنا أصيده، وَأجْمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وأطبخه، وأبيعه. فَقَالَ: من أَيْن تصيده؟ فَذكر قَرْيَة بِالْقربِ من بَغْدَاد.

فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب: أُعْطِيك دِينَارا، وَتَدَع شغلك، وتجيء معي إِلَى الْموضع. قَالَ: نعم، فَخَرَجَا وَعَاد الطَّبِيب من غَد، فَذكر أَنه رأى الْجَرَاد يرْعَى فِي صحراء أَكثر نباتها حشيشة يُقَال لَهَا: مازريون، وَهِي دَوَاء الاسْتِسْقَاء. وَإِذا دفع إِلَى العليل مِنْهَا وزن دِرْهَم، أسهله إسهالًا يزِيل الاسْتِسْقَاء، وَلَكِن لَا يُؤمن أَن لَا ينظبط، وَلَا يقف، فيقتله الذرب، والعلاج بهَا خطر جدا، وَهِي مَذْكُورَة فِي الْكتب الطبية، وَلكنهَا لفرط خطرها لَا يصفها الْأَطِبَّاء، فَلَمَّا وَقع الْجَرَاد على هَذِه الحشيشة، وانطبخت فِي معدته، ثمَّ طبخ الْجَرَاد، ضعف فعلهَا بطبخين اجْتمعَا عَلَيْهَا، وَقضى أَن تنَاولهَا هَذَا بالِاتِّفَاقِ، وَقد تعدلت بِمِقْدَار مَا يدْفع طبعه دفعا لَا يَنْقَطِع، فبرأ.

مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى

مَرِيض بالاستسقاء يبرأ بعد أَن طعم لحم أَفْعَى وَحدثنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن طرطى الوَاسِطِيّ، قَالَ: سَمِعت أَبَا عَليّ عمر بن يحيى الْعلوِي الْكُوفِي، قَالَ: كنت فِي بعض حججي فِي طَرِيق مَكَّة، فَاسْتَسْقَى رجل كَانَ مَعنا من أهل الْكُوفَة، وَثقل فِي علته. وسل الْأَعْرَاب قطارًا من الْقَافِلَة كَانَ هَذَا العليل على جمل مِنْهُ، ففقد، وجزعنا عَلَيْهِ، وعَلى القطار، وَكُنَّا رَاجِعين إِلَى الْكُوفَة. فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة، جَاءَ العليل إِلَى دَاري معافى، فَسَأَلته عَن قصَّته وَسبب عافيته. فَقَالَ: إِن الْأَعْرَاب لما سلوا القطار، ساقوه إِلَى محلهم، وَكَانَ على فراسخ يسيرَة من المحجة، فأنزلوني، وَرَأَوا صُورَتي، فطرحوني فِي أَوَاخِر بُيُوتهم. وتقاسموا مَا كَانَ فِي القطار، فَكنت أزحف وأتصدق من الْبيُوت مَا آكله، وتمنيت الْمَوْت، وَكنت أَدْعُو الله تَعَالَى بِهِ أَو بالعافية. فرأيتهم يَوْمًا وَقد عَادوا من ركوبهم، وأخرجوا أفاعي قد اصطادوها، فَقطعُوا رءوسها وأذنابها، واشتووها، وأكلوها. فَقلت: هَؤُلَاءِ يَأْكُلُون هَذِه فَلَا تَضُرهُمْ بِالْعَادَةِ الَّتِي قد مرنوا عَلَيْهَا، ولعلي

إِذا أكلت مِنْهَا شَيْئا أَن أتلف فَأَسْتَرِيح مِمَّا أَنا فِيهِ. فَقلت لبَعْضهِم: أَطْعمنِي من هَذِه الْحَيَّات، فَرمى إِلَيّ وَاحِدَة مِنْهَا مشوية، فِيهَا أَرْطَال، فَأَكَلتهَا بأسرها، وأمعنت، طلبا للْمَوْت، فأخذني نوم عَظِيم، فانتبهت وَقد عرقت عرقًا عَظِيما، فاندفعت طبيعتي، فَقُمْت فِي بَقِيَّة يومي وليلتي أَكثر من مائَة مجْلِس، إِلَى أَن سَقَطت طريحًا وجوفي يجْرِي. فَقلت: هَذَا طَرِيق الْمَوْت، فَأَقْبَلت أَتَشهد، وأدعو الله تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة. فَلَمَّا أَضَاء الصُّبْح، تَأَمَّلت بَطْني، فَإِذا هِيَ قد ضمرت جدا، وَزَالَ عَنْهَا مَا كَانَ بهَا، فَقلت: أَي شَيْء يَنْفَعنِي هَذَا، وَأَنا ميت؟ فَلَمَّا أضحى النَّهَار، انْقَطع الْقيام، وَوَجَبَت صَلَاة الظّهْر، فَلم أحس بِقِيَام، وجعت، فَجئْت لأزحف على الْعَادة، فَوجدت بدني خَفِيفا، وقوتي صَالِحَة، فتحاملت ومشيت، وَطلبت مِنْهُم مَأْكُولا فأطعموني، وقويت، وَبت فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة معافى لَا أنكر شَيْئا من أَمْرِي. فأقمت أَيَّامًا، إِلَى أَن وثقت من نَفسِي بِأَنِّي إِن مشيت نجوت، فَأخذت الطَّرِيق مَعَ بَعضهم، إِلَى أَن صرت على المحجة، ثمَّ سلكتها، منزلا، منزلا، إِلَى الْكُوفَة مشيًا.

القاضي أبو الحسين بن أبي عمر يحزن لموت يزيد المائي

القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن بن أبي عمر يحزن لمَوْت يزِيد المائي حَدثنِي أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمَرْزُبَان الشِّيرَازِيّ الْكَاتِب: قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر الجعابي الْحَافِظ، قَالَ: دخلت يَوْمًا على القَاضِي أبي الْحُسَيْن بن أبي عمر، وَهُوَ مغموم، فَقلت: لَا يغم الله قَاضِي الْقُضَاة، مَا هَذَا الْحزن الَّذِي أرَاهُ بِهِ؟ قَالَ: مَاتَ يزِيد المائي. فَقلت: يبقي الله قَاضِي الْقُضَاة، وَمن يزِيد المائي، حَتَّى إِذا مَاتَ اغتم عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاة، هَذَا الْغم كُله؟ فَقَالَ: وَيحك، مثلك يَقُول هَذَا فِي رجل كَانَ أوحد زَمَانه فِي صناعته، وَقد مَاتَ وَمَا ترك أحدا يُقَارِبه فِي حذقه، وَهل فَخر الْبلدَانِ إِلَّا بِكَثْرَة رُؤَسَاء الصَّنَائِع، وحذاق أهل الْعُلُوم فِيهَا؟ فَإِذا مضى رجل لَا مثيل لَهُ فِي صناعَة لَا

بُد للنَّاس مِنْهَا، فَهَل يدل هَذَا إِلَّا على نُقْصَان الْعَالم وانحطاط الْبلدَانِ. ثمَّ أقبل يعدد فضائله، والأشياء الطريفة الَّتِي عالج بهَا، والعلل الصعبة الَّتِي زَالَت بتدبيره، فَذكر من ذَلِك أَشْيَاء كَثِيرَة، مِنْهَا: قَالَ: أَخْبرنِي مُنْذُ مُدَّة رجل من جلة أهل الْبَلَد، أَنه كَانَ حدث بابنة لَهُ عِلّة طريفة، فكتمت أمرهَا، ثمَّ أطلع عَلَيْهَا أَبوهَا، فكتمها هُوَ مديدة، ثمَّ انْتهى أَمر الْبِنْت إِلَى حد الْمَوْت. قَالَ: وَكَانَت الْعلَّة، أَن فرج الصبية كَانَ يضْرب عَلَيْهَا ضربانًا عَظِيما لَا تنام مَعَه اللَّيْل وَلَا النَّهَار، وتصرخ أعظم صُرَاخ، وَيجْرِي فِي خلال ذَلِك مِنْهُ دم يسير كَمَاء اللَّحْم، وَلَيْسَ هُنَاكَ جرح يظْهر، وَلَا ورم. قَالَ: فَلَمَّا خفت المأثم، أحضرت يزِيد، فشاورته. فَقَالَ: أتأذن لي فِي الْكَلَام، وتبسط عُذْري فِيهِ. فَقلت لَهُ: نعم. قَالَ: لَا يمكنني أَن أصف لَك شَيْئا، دون أَن أشاهد الْموضع بعيني، وأفتشه بيَدي، وأسائل الْمَرْأَة عَن أَسبَاب لَعَلَّهَا كَانَت الجالبة لِلْعِلَّةِ. قَالَ: فلعظم الصُّورَة، وبلوغها حد التّلف، أمكنته من ذَلِك. فَأطَال المسائلة، وحدثها بِمَا لَيْسَ من جنس الْعلَّة، بعد أَن جس الْموضع من ظَاهره، وَعرف بقْعَة الْأَلَم، حَتَّى كدت أَن أثب بِهِ، ثمَّ صبرت، وَرجعت إِلَى مَا أعرفهُ عَن سيرته، فَصَبَرت على مضض. إِلَى أَن قَالَ: تَأمر من يمْسِكهَا، فَفعلت. فَأدْخل يَده فِي الْموضع دُخُولا شَدِيدا، فصاحت الْجَارِيَة، وأغمي عَلَيْهَا، وانبعث الدَّم، وَأخرج يَده وفيهَا حَيَوَان أقل من الخنفساء، فَرمى بِهِ. فَجَلَست الْجَارِيَة فِي الْحَال، وَقَالَت: يَا أَبَة، استرني، فقد عوفيت. فَأخذ يزِيد الْحَيَوَان بِيَدِهِ، وَخرج من الْموضع، فلحقته، فأجلسته.

وَقلت: أَخْبرنِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ: إِن تِلْكَ المسائلة الَّتِي لم أَشك من أَنَّك أنكرتها، إِنَّمَا كَانَت لأطلب دَلِيلا أستدل بِهِ على سَبَب الْعلَّة. إِلَى أَن قَالَت لي الصبية: إِنَّهَا فِي يَوْم من الْأَيَّام، جَلَست فِي بَيت دولاب الْبَقر، فِي بُسْتَان لكم، ثمَّ حدثت الْعلَّة بهَا، من غير سَبَب تعرفه، فِي غَد ذَلِك الْيَوْم. فتخيلت أَنه قد دب فِي فرجهَا من القراد الَّذِي يكون على الْبَقر، وَفِي بيُوت الْبَقر قراد، قد تمكن من أول دَاخل الْفرج، فَكلما امتص الدَّم من مَوْضِعه ولد الضربان، وَأَنه إِذا شبع، خف الضربان، لانْقِطَاع مصه، ونقط من الْجرْح الَّذِي يمتص مِنْهُ إِلَى خَارج الْفرج. فَقلت: أُدخل يَدي، وأفتش. فأدخلت يَدي، فَوجدت القراد كَمَا حدست، فَأَخْرَجته، وَهَذَا هُوَ الْحَيَوَان، وَقد تَغَيَّرت صورته لِكَثْرَة مَا امتص من الدَّم، مَعَ طول الْأَيَّام. قَالَ: فتأملنا الْحَيَوَان، فَإِذا هُوَ قراد، وبرئت الْمَرْأَة. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَلم يذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه هَذَا الْخَبَر، وَلَعَلَّه اعْتقد أَنه مِمَّا لَا يجب إِدْخَاله فِيهِ.

زمنة مقعدة يشفيها الحنظل

زمنة مقعدة يشفيها الحنظل حَدثنِي المؤمل بن يحيى بن هَارُون، شيخ نَصْرَانِيّ يكنى بِأبي نصر، كَانَ ينزل بِبَاب الشَّام، رَأَيْته فِي سنة خمسين وثلثمائة، قَالَ: حَدثنِي قُرَّة بن السراج الْعقيلِيّ، وَكَانَ ينزل، إِذا جَاءَ من الْبَادِيَة، بشارع دَار الرَّقِيق بِالْقربِ من درب سُلَيْمَان، قَالَ: كَانَ عندنَا بالبادية، جَارِيَة بَالغ، زمنة، مقعدة سِنِين، وَمن عادتنا أَن نَأْخُذ الحنظل فنقور رءوسه، ونملأه بِاللَّبنِ الحليب، ونرد على كل وَاحِدَة رَأسهَا، وندفنها فِي الرماد الْحَار، حَتَّى تغلي، فَإِذا غلت، حسا كل وَاحِد منا من الحنظلة مَا فِي رَأسهَا من اللَّبن، فتسهله، وَتصْلح بدنه. قَالَ: وَقد كُنَّا أَخذنَا فِي سنة من السنين، ثَلَاث حناظل، لثَلَاثَة أنفس، يشربونها، وَجَعَلنَا اللَّبن فِيهَا على الصّفة الْمَارَّة، فرأتها الْجَارِيَة الزمنة. فلتبرمها من الْحَيَاة، وضجرها من الزمانة، خالفتنا إِلَى الحناظل الثَّلَاث، فحستها كلهَا، وَعلمنَا بذلك بعد أَن رَأينَا من قِيَامهَا مَا جزعنا مِنْهُ، وأيسنا من حَيَاتهَا، وخشينا أَن تعدينا، فأبعدناها عَن الْبيُوت. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل، انْقَطع قِيَامهَا، فمشت برجلها إِلَى أَن عَادَتْ إِلَى الْبيُوت لَا قلبة بهَا، وَعَاشَتْ بعد ذَلِك سِنِين، وَتَزَوَّجت، وَولدت.

اشترى الرشيد لطبيبه ضياعا غلتها ألف ألف درهم

اشْترى الرشيد لطبيبه ضيَاعًا غَلَّتهَا ألف ألف دِرْهَم وَحدث جِبْرِيل بن بختيشوع، قَالَ: كنت مَعَ الرشيد، بالرقة، وَمَعَهُ الْمَأْمُون وَمُحَمّد، وَكَانَ الرشيد رجلا كثير الْأكل وَالشرب، فَأكل فِي بعض الْأَيَّام أَشْيَاء خلط فِيهَا، وَدخل المستراح، فَغشيَ عَلَيْهِ فِيهِ. فَأخْرج وَقد قوي عَلَيْهِ الغشي، حَتَّى لم يشك غلمانه فِي مَوته، وَحضر ابناه، وشاع عِنْد الْخَاصَّة والعامة خَبره. وَأرْسل إِلَيّ، فَجئْت، فجسست عرقه، فَوجدت نبضًا خَفِيفا، وَأخذت عرقًا فِي رجله فَكَانَ كَذَلِك، وَقد كَانَ قبل ذَلِك بأيام يشكو امتلاءً وحركة الدَّم. فَقلت لَهُم: إِنَّه لم يمت، وَالصَّوَاب أَن يحجم السَّاعَة. فَقَالَ كوثر الْخَادِم، لما يعرف من أَمر الْخلَافَة وإفضائها إِلَى صَاحبه مُحَمَّد: يَا ابْن الفاعلة، تَقول أحجموا رجلا مَيتا؟ لَا يقبل قَوْلك وَلَا كَرَامَة. فَقَالَ الْمَأْمُون: الْأَمر قد وَقع، وَلَيْسَ يضر أَن نحجمه. وأحضر الْحجام، فتقدمت، وَقلت لَهُ: ضع محاجمك، فَفعل، فَلَمَّا مصها رَأَيْت الْموضع قد احمر، فطابت نَفسِي بذلك، وَعلمت أَنه حَيّ. فَقلت للحجام: اشرط، فَشرط، فَخرج الدَّم، فسجدت شكرا لله تَعَالَى، وَجعل كلما خرج الدَّم، تحرّك رَأسه، وأسفر لَونه، إِلَى أَن تكلم.

فَقَالَ: أَيْن أَنا؟ فطيبت نَفسه، وغديناه بصدر دراج، وسقيناه نبيذًا، وَمَا زلت أسعطه بالطيب فِي أَنفه، حَتَّى تراجعت إِلَيْهِ قوته، وَأدْخل الْخَاصَّة والقواد إِلَيْهِ، فَسَلمُوا عَلَيْهِ من بعد، لما كَانَ قد شاع من خَبره، ثمَّ تكاملت قوته، ووهب الله لَهُ الْعَافِيَة. فَلَمَّا برأَ من علته، دَعَا صَاحب حرسه، وحاجبه، وَصَاحب شرطته، فَسَأَلَ صَاحب الحرس عَن غَلَّته فِي كل سنة، فَعرفهُ أَنَّهَا ألف ألف دِرْهَم، وَسَأَلَ صَاحب شرطته عَن غَلَّته، فَعرفهُ أَنَّهَا خمس مائَة ألف دِرْهَم. ثمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيل: كم غلتك؟ فَقلت: خَمْسُونَ ألف دِرْهَم. فَقَالَ: مَا أنصفناك، حَيْثُ غلات هَؤُلَاءِ وهم يحرسوني، ويحجبوني عَن النَّاس، على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَتَكون غلتك مَا ذكرت، وَأمر بإقطاعي مَا قِيمَته ألف ألف دِرْهَم. فَقلت: يَا سَيِّدي مَا لي حَاجَة إِلَى الإقطاع، وَلَكِن تهب لي مَا أَشْتَرِي بِهِ ضيَاعًا غَلَّتهَا ألف ألف دِرْهَم، فَفعل، وَتقدم بمعاونتي على ابتياعها. فابتعت بهباته، وجعالاته، ضيَاعًا غَلَّتهَا ألف ألف دِرْهَم، فَجَمِيع مَا أمتلكه ضيَاع لَا إقطاع فِيهَا.

لسعته عقرب فعوفي

لسعته عقرب فَعُوفِيَ وحَدثني أَبُو جَعْفَر طَلْحَة بن عبيد الله بن قناش الطَّائِي، الْجَوْهَرِي، الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: كَانَ فِي درب مهرويه، بالجانب الشَّرْقِي بِبَغْدَاد، قَدِيما، رجل من كبراء الحجرية، وَكَانَ متشببًا بِغُلَام من غلمانه، رباه صَغِيرا. فاعتل الْغُلَام عِلّة من بلسام، وَهُوَ الَّذِي تسميه الْعَامَّة: البرسام، فَبلغ إِلَى دَرَجَة قبيحة، وَزَالَ عقله. فَتَفَرَّقُوا عَنهُ يَوْمًا، وَهُوَ فِي مَوضِع فِيهِ خيش، ووكلوا صَبيا بمراعاته، فَسَمِعُوا صياح الْفَتى الْمُوكل بِهِ، فبادروا إِلَيْهِ. فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى مَا قد أَصَابَهُ. فَإِذا عقرب قد نزل من الْمسند على رَأس العليل، فلسعته فِي عدَّة مَوَاضِع، فَإِذا بِهِ قد فتح عَيْنَيْهِ وَهُوَ لَا يشكو ألمًا. فَسَأَلُوهُ عَن حَاله، فَطلب مَا يَأْكُل، فأطعموه، وبرأ. فلاموا طبيبه، فَقَالَ: علام تَلُومُونَنِي، لَو أَمرتكُم أَن تلسعوه بعقرب، أَكُنْتُم تَفْعَلُونَ؟

ابرأته مضيرة لعقت فيها أفعى

ابرأته مضيرة لعقت فِيهَا أَفْعَى حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ، الْمَعْرُوف بِابْن حمدون، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ الرَّازِيّ الْفَقِيه رَحمَه الله، قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر بن قَارون الرَّازِيّ، وَكَانَ تلميذًا لأبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب، قَالَ أَبُو بكر بن حمدون: وَقد رَأَيْت هَذَا الرجل بِالريِّ، وَكَانَ يحسن علومًا كَثِيرَة، مِنْهَا الحَدِيث، وَيَرْوِيه، ويكتبه النَّاس عَنهُ، ويوثقونه، وَلم أسمع هَذَا مِنْهُ، قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله: وَلم يتهيأ لي مَعَ كَثْرَة ملاقاتي أَبَا بكر الرَّازِيّ الْفَقِيه رَحمَه الله، أَن أسمع هَذَا الْخَبَر مِنْهُ، قَالَ ابْن قَارون: حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب، بعد رُجُوعه من عِنْد أَمِير خُرَاسَان، لما استدعاه ليعالجه من عِلّة صعبة، قَالَ: اجتزت فِي طريقي إِلَى نيسابور، ببسطام، وَهِي النّصْف من طَرِيق نيسابور إِلَى الرّيّ. قَالَ: فاستقبلني رئيسها، فأنزلني دَاره، وخدمني أتم خدمَة وسألني أَن أَقف على ابْن لَهُ بِهِ استسقاء. فَأَدْخلنِي إِلَى دَار قد أفردها لَهُ، فشاهدت العليل، وَلم أطمع فِي برئه، فَسَأَلَنِي

أَبوهُ عَن السِّرّ فِي حَاله، فصدقته، وآيسته من حَيَاة ابْنه. وَقلت لَهُ: مكنه من شهواته، فَإِنَّهُ لَا يعِيش. ثمَّ خرجت إِلَى خُرَاسَان، فأقمت بهَا سنة كَامِلَة، وعدت، فاستقبلني الرجل أَبُو الصَّبِي فَلم أَشك فِي وَفَاته، وَتركت مساءلته عَن ابْنه، فَإِنِّي كنت نعيته إِلَيْهِ، وخشيت من تثقيلي عَلَيْهِ، فأنزلني دَاره، وَلم أجد عِنْده مَا يدل على ذَلِك، وكرهت مسائلته عَن ابْنه لِئَلَّا أجدد عَلَيْهِ حزنا. فَقَالَ لي بعد أَيَّام: تعرف هَذَا الْفَتى؟ وَأَوْمَأَ إِلَى شَاب حسن الْوَجْه والسحنة، صَحِيح الْبدن، كثير الدَّم وَالْقُوَّة، قَائِم مَعَ الغلمان يخدمنا. فَقلت: لَا. فَقَالَ: هَذَا ابْني الَّذِي آيستني مِنْهُ عِنْد مضيك إِلَى خُرَاسَان. فتحيرت، وَقلت لَهُ: عرفني سَبَب برئه. فَقَالَ: إِنَّه كَانَ بعد قيامك من عِنْدِي، فطن أَنَّك آيستني مِنْهُ. فَقَالَ لي: لست أَشك أَن هَذَا الرجل، وَهُوَ أوحد زَمَانه فِي الطِّبّ، قد آيسك مني، وَالَّذِي أَسأَلك، أَن تمنع هَؤُلَاءِ، يَعْنِي: غلماني الَّذين كنت قد أخدمته إيَّاهُم، فَإِنَّهُم أترابي، وَإِذا رَأَيْتهمْ معافين، وَقد علمت أَنِّي ميت، تجدّد على قلبِي الْهم وَالْمَرَض، حَتَّى يعجل لي الْمَوْت، فأرحني من هَذَا بِأَن لَا أَرَاهُم، وأفرد لخدمتي دايتي. فَفعلت مَا سَأَلَ، وَكَانَ يحمل إِلَى الداية فِي كل يَوْم مَا تَأْكُله، وَكَانَت الداية تَأتيه بِمَا يطْلب من غير حمية. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام يسيرَة، حمل إِلَى الداية مضيرةً لتأكل مِنْهَا، فتركتها بِحَيْثُ يَقع عَلَيْهَا نظر ابْني، وَمَضَت فِي شغل لَهَا.

فَذكرت بعد أَن عَادَتْ، أَن ابْني قد نهاها عَن أكل مَا فِي الغضارة، ووجدتها قد ذهب كثير مِمَّا كَانَ فِيهَا، وَبَقِي بعضه متغير اللَّوْن. قَالَت: فَقلت لَهُ: مَا السَّبَب؟ فَقَالَ: رَأَيْت أَفْعَى عَظِيمَة قد خرجت من مَوضِع ودبت إِلَيْهَا وأكلت مِنْهَا ثمَّ قذفت فِيهَا، فَصَارَ لَوْنهَا كَمَا تَرين، فَقلت: أَنا ميت، وهوذا يلحقني ألم شَدِيد، وَمَتى أظفر بِمثل هَذَا؟ وَجئْت، فَأكلت من الغضارة مَا اسْتَطَعْت، لأموت عَاجلا وأستريح، فَلَمَّا لم أستطع زِيَادَة أكل رجعت حَتَّى جِئْت إِلَى فِرَاشِي، وَجئْت أَنْت. قَالَت: وَرَأَيْت أَنا المضيرة على يَده وفمه فَصحت. فَقَالَ: لَا تعلمي أبي شَيْئا، وادفني الغضارة بِمَا فِيهَا، لِئَلَّا يأكلها إِنْسَان فَيَمُوت، أَو حَيَوَان فيلسع إنْسَانا فيقتله، فَفعلت مَا قَالَ، وَخرجت إِلَيْك. قَالَ: فَلَمَّا عَرفتنِي ذَلِك، ذهب عَليّ أَمْرِي، وَدخلت إِلَى ابْني، فَوَجَدته نَائِما. فَقلت: لَا توقظيه، حَتَّى نَنْظُر مَا يكون من أمره. فَأَتَيْته آخر النَّهَار، وَقد عرق عرقًا شَدِيدا، وَهُوَ يطْلب المستحم، فأنهضناه إِلَيْهِ، فَانْدفع بَطْنه، فَقَامَ من ليلته، وَمن غده، أَكثر من مائَة مجْلِس، فازداد يأسنا مِنْهُ، وَقل الْقيام، إِلَّا أَنه اسْتمرّ أَيَّامًا، ثمَّ انْقَطع الْقيام، وَقد صَار بَطْنه مثل بطُون الأصحاء، فَطلب فراريج، فَأكل، إِلَى أَن صَار كَمَا ترى. فعجبت من ذَلِك، وَذكرت أَن الْحُكَمَاء الْأَوَائِل قَالَت: إِن المستسقي إِذا أكل من لحم حَيَّة عتيقة مزمنة لَهَا مئون سِنِين، برأَ، وَلَو قلت لَك: إِن هَذَا

علاجه، لظَنَنْت أَنِّي أدافعك، وَمن أَيْن يعلم كم عمر الْحَيَّة إِذا وجدت، فَسكت عَنْهَا.

الباب الحادي عشر

الْبَاب الْحَادِي عشر من امتحن من اللُّصُوص بسرق أَو قطع فعوض من الارتجاع وَالْخلف بأجمل صنع قَاطع طَرِيق يرد على الْقَافِلَة مَا أَخذ مِنْهَا حَدثنِي عَليّ بن شيراز بن سهل القَاضِي بعسكر مكرم رَحمَه الله، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد الخصيبي ابْن بنت ابْن الْمُدبر، بِبَغْدَاد، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ، قَالَ: حَدثنِي الْحسن بن دعبل بن عَليّ الشَّاعِر الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: لما قلت: مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة قصدت بهَا أَبَا الْحسن عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا، وَهُوَ بخراسان، ولي عهد الْمَأْمُون، فوصلت إِلَيْهِ، وأنشدته إِيَّاهَا، فاستحسنها، وَقَالَ: لَا تنشدها أحدا حَتَّى آمُرك. واتصل خبري بالمأمون، فأحضرني، وسألني عَن خبري، ثمَّ قَالَ لي: يَا دعبل، أَنْشدني: مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة. فَقلت: لَا أعرفهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: يَا غُلَام، أحضر أَبَا الْحسن عَليّ بن مُوسَى، فَلم يكن بأسرع من أَن حضر.

فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْحسن، سَأَلت دعبلًا عَن: مدارس آيَات , فَذكر أَنه لَا يعرفهَا. فَالْتَفت إِلَيّ أَبُو الْحسن، وَقَالَ: أنْشدهُ يَا دعبل. فأنشدت القصيدة، وَلم يُنكر الْمَأْمُون ذَلِك، إِلَى أَن بلغت إِلَى بَيت فِيهَا، وَهُوَ: وَآل رَسُول الله هلبٌ رقابهم ... وَآل زِيَاد غلّظ القصرات فَقَالَ: وَالله لأهلبنها. ثمَّ تممتها إِلَى آخرهَا، فاستحسنها، وَأمر لي بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، وَأمر لي عَليّ بن مُوسَى بقريب مِنْهَا. فَقلت: يَا سَيِّدي، أُرِيد أَن تهب لي ثوبا يَلِي بدنك، أتبرك بِهِ، وأجعله كفنًا. فوهب لي قَمِيصًا قد ابتذله، ومنشفة، وَأَظنهُ قَالَ: وَسَرَاويل. قَالَ: ووصلني ذُو الرئاستين، وحملني على برذون أصفر، وَكنت أسايره فِي يَوْم مطير، وَعَلِيهِ ممطر خَز، فَأمر لي بِهِ، ودعا بِغَيْرِهِ فلبسه، وَقَالَ: إِنِّي آثرتك بِهِ، لِأَنَّهُ خير الممطرين، قَالَ: فَأعْطيت بِهِ ثَمَانِينَ دِينَارا، فَلم تطب نَفسِي بِبيعِهِ. وقضيت حَاجَتي، وكررت رَاجعا إِلَى الْعرَاق. فَلَمَّا صرت بِبَعْض الطَّرِيق، خرج علينا أكراد يعْرفُونَ بالماريخان، فسلبوني، وسلبوا الْقَافِلَة، وَكَانَ ذَلِك فِي يَوْم مطير. فاعتزلت فِي قَمِيص خلق قد بَقِي عَليّ، وَأَنا متأسف، من جَمِيع مَا كَانَ عَليّ، على الْقَمِيص والمنشفة اللَّذين وهبهما لي عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا، إِذْ مر بِي وَاحِد من

الأكراد، وَتَحْته البرذون الْأَصْفَر الَّذِي حَملَنِي عَلَيْهِ ذُو الرياستين، وَعَلِيهِ الممطر الْخَزّ، ثمَّ وقف بِالْقربِ مني، وابتدأ ينشد: مدارس آيَات. . . . . . . . . . ، ويبكي. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك، عجبت من لص كردِي يتشيع، ثمَّ طمعت فِي الْقَمِيص والمنشفة. فَقلت: يَا سَيِّدي لمن هَذِه القصيدة؟ فَقَالَ: مَا أَنْت وَذَاكَ، وَيلك. فَقلت لَهُ: فِيهِ سَبَب أخْبرك بِهِ. فَقَالَ: هِيَ أشهر من أَن يجهل صَاحبهَا. قلت: فَمن هُوَ؟ قَالَ: دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ، شَاعِر آل مُحَمَّد، جزاه الله خيرا. فَقلت لَهُ: يَا سَيِّدي، أَنا، وَالله، دعبل، وَهَذِه قصيدتي. فَقَالَ: وَيلك، مَا تَقول؟ فَقلت: الْأَمر أشهر من ذَلِك، فسل أهل الْقَافِلَة، تخبر بِصِحَّة مَا أَخْبَرتك بِهِ. فَقَالَ: لَا جرم، وَالله، لَا يذهب لأحد من أهل الْقَافِلَة خلالة فَمَا فَوْقهَا. ثمَّ نَادَى فِي النَّاس: من أَخذ شَيْئا فليرده على صَاحبه، فَرد على النَّاس أمتعتهم، وَعلي جَمِيع مَا كَانَ معي، مَا فقد أحد عقَالًا.

ثمَّ رحلنا إِلَى مأمننا سَالِمين. قَالَ رَاوِي هَذَا الْخَبَر عَن دعبل: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث عَليّ بن بهزاد الْكرْدِي فَقَالَ لي: ذَاك، وَالله، أبي الَّذِي فعل هَذَا.

قاطع طريق يتفلسف

قَاطع طَرِيق يتفلسف وحَدثني عبد الله بن عمر بن الْحَارِث الوَاسِطِيّ السراج، الْمَعْرُوف بِأبي أَحْمد الْحَارِثِيّ، قَالَ: كنت مُسَافِرًا فِي بعض الْجبَال، فَخرج علينا ابْن سباب الْكرْدِي، فَقطع علينا، وَكَانَ بزِي الْأُمَرَاء، لَا بزِي القطاع. فقربت مِنْهُ لأنظر إِلَيْهِ وأسمع كَلَامه، فَوَجَدته يدل على فهم وأدب، فداخلته فَإِذا بِرَجُل فَاضل، يروي الشّعْر، وَيفهم النَّحْو، فطمعت فِيهِ، وعملت فِي الْحَال أبياتًا مدحته بهَا. فَقَالَ لي: لست أعلم إِن كَانَ هَذَا من شعرك، وَلَكِن اعْمَلْ لي على قافية هَذَا الْبَيْت ووزنه شعرًا السَّاعَة، لأعْلم أَنَّك قلته، وأنشدني بَيْتا. قَالَ: فَعمِلت فِي الْحَال إجَازَة لَهُ ثَلَاثَة أَبْيَات. فَقَالَ لي: أَي شَيْء أَخذ مِنْك؟ لأرده إِلَيْك. قَالَ: فَذكرت لَهُ مَا أَخذ مني، وأضفت إِلَيْهِ قماش رَفِيقَيْنِ كَانَا لي. فَرد جَمِيع ذَلِك، ثمَّ أَخذ من أكياس التُّجَّار الَّتِي نهبها، كيسًا فِيهِ ألف دِرْهَم، فوهبه لي. قَالَ: فجزيته خيرا، ورددته عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: لم لَا تَأْخُذهُ؟ فوريت عَن ذَلِك.

فَقَالَ: أحب أَن تصدقني. فَقلت: وَأَنا آمن؟ فَقَالَ: أَنْت آمن. فَقلت: لِأَنَّك لَا تملكه، وَهُوَ من أَمْوَال النَّاس الَّذين أَخَذتهَا مِنْهُم السَّاعَة ظلما، فَكيف يحل لي أَن آخذه؟ فَقَالَ لي: أما قَرَأت مَا ذكره الجاحظ فِي كتاب اللُّصُوص، عَن بَعضهم، قَالَ: إِن هَؤُلَاءِ التُّجَّار خانوا أماناتهم، وَمنعُوا زَكَاة أَمْوَالهم، فَصَارَت أَمْوَالهم مستهلكة بهَا، واللصوص فُقَرَاء إِلَيْهَا، فَإِذا أخذُوا أَمْوَالهم، وَإِن كَرهُوا أَخذهَا، كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهُم، لِأَن عين المَال مستهلكة بِالزَّكَاةِ، وَهَؤُلَاء يسْتَحقُّونَ أَخذ الزَّكَاة، بالفقر، شَاءَ أَرْبَاب الْأَمْوَال أم كَرهُوا. قلت: بلَى، قد ذكر الجاحظ هَذَا، وَلَكِن من أَيْن يعلم إِن هَؤُلَاءِ مِمَّن استهلكت أَمْوَالهم الزَّكَاة؟ فَقَالَ: لَا عَلَيْك، أَنا أحضر هَؤُلَاءِ التُّجَّار السَّاعَة، وأريك بِالدَّلِيلِ الصَّحِيح أَن أَمْوَالهم لنا حَلَال. ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: هاتوا التُّجَّار، فَجَاءُوا. فَقَالَ لأَحَدهم: مُنْذُ كم أَنْت تتجر فِي هَذَا المَال الَّذِي قَطعنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سنة. قَالَ: فَكيف كنت تخرج زَكَاته؟ فتلجلج، وَتكلم بِكَلَام من لَا يعرف الزَّكَاة على حَقِيقَتهَا فضلا عَن أَن يُخرجهَا. ثمَّ دَعَا آخر، فَقَالَ لَهُ: إِذا كَانَ مَعَك ثلث مائَة دِرْهَم، وَعشرَة دَنَانِير، وحالت عَلَيْك السّنة، فكم تخرج مِنْهَا لِلزَّكَاةِ؟ فَمَا أحسن أَن يُجيب. ثمَّ قَالَ لآخر: إِذا كَانَ مَعَك مَتَاع للتِّجَارَة، وَلَك دين على نفسين، أَحدهمَا مَلِيء، وَالْآخر مُعسر، ومعك دَرَاهِم، وَقد حَال الْحول على الْجَمِيع، كَيفَ تخرج زَكَاة ذَلِك؟

قَالَ: فَمَا فهم السُّؤَال، فضلا عَن أَن يتعاطى الْجَواب. فصرفهم، ثمَّ قَالَ لي: بَان لَك صدق حِكَايَة أبي عُثْمَان الجاحظ؟ وَأَن هَؤُلَاءِ التُّجَّار مَا زكوا قطّ؟ خُذ الْآن الْكيس. قَالَ: فَأَخَذته، وسَاق الْقَافِلَة لينصرف بهَا. فَقلت: إِن رَأَيْت أَيهَا الْأَمِير أَن تنفذ مَعنا من يبلغنَا المأمن، كَانَ لَك الْفضل. فَفعل ذَلِك.

القاضي التنوخي والد المؤلف والكرخي قاطع الطريق

القَاضِي التنوخي وَالِد الْمُؤلف والكرخي قَاطع الطَّرِيق وحَدثني أبي رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لما كنت مُقيما بالكرخ، أتقلد الْقَضَاء بهَا، وبالمرج وأعمالها، كَانَ بوابي رجل من أهل الكرخ، لَهُ ابْن، هُوَ ابْن عشر سِنِين أَو نَحْوهَا، وَكَانَ يدْخل دَاري بِلَا إِذن، ويمرح مَعَ غلماني، وَأهب لَهُ فِي الْأَوْقَات دَرَاهِم وثيابًا، وأحمله، وأرقصه، كَمَا يفعل النَّاس بأولاد غلمانهم. ثمَّ صرفت عَن الكرخ، ورحلت، وَلم أعرف للرجل وَلَا لوَلَده خَبرا. وَمَضَت السنون، فأنفذني أَبُو عبد الله البريدي من وَاسِط، برسالة إِلَى أبي

بكر بن رائق، فَلَقِيته بحدود العاقول، وانحدرت أُرِيد واسطًا. وَقد كَانَ قيل لي قبل إصعادي، أَن فِي الطَّرِيق لصًّا يعرف بالكرخي، مستفحل الْأَمر. وَكنت خرجت من وَاسِط، بطالع اخترته، على مُوجب تَحْويل مولدِي لتِلْك السّنة، وَقد استظهرت عِنْد نَفسِي، وكفاني الله تَعَالَى، فِي إصعادي، أَمر اللص، فَلم أر لَهُ أثرا. فَلَمَّا انحدرت إِلَى وَاسِط، وَكُنَّا فِي بعض الطَّرِيق، خرج علينا اللُّصُوص فِي سفن عدَّة، بقسي، ونشاب، وَسلَاح شَاك، وهم نَحْو مائَة نفس، كالعسكر الْعَظِيم. وَكَانَ معي غلْمَان يرْمونَ، فَحَلَفت أَن من رمى مِنْهُم بِسَهْم، ضَربته إِذا صرت فِي الْبَلَد مائَة مقرعة، وَذَلِكَ أَنِّي خفت أَن يقصدنا اللُّصُوص، ثمَّ لَا يرضون إِلَّا بقتلي. قَالَ: وبادرت فَأخذت ذَلِك السِّلَاح الَّذِي كَانَ مَعَهم، فرميت جَمِيعه فِي المَاء، واستسلمت لِلْأَمْرِ طلبا للسلامة.

وَجَلَست أفكر فِي الطالع الَّذِي خرجت بِهِ، فَإِذا لَيْسَ مَا يُوجب، عِنْدهم، الْقطع عَليّ، وَالنَّاس قد أديروا إِلَى الشاطئ، وَأَنا فِي جُمْلَتهمْ، حَيْثُ تفرغ سفنهم، وينقل مَا فِيهَا إِلَى الشط، وهم يخبطون بِالسُّيُوفِ، وَكنت فِي وسط الكار، وَمَا انْتهى الْأَمر إِلَيّ. فَجعلت أعجب من حُصُول الْقطع، وَأَن الطالع لَا يُوجِبهُ، وَلست أتهم علمي مَعَ هَذَا. فَأَنا كَذَلِك، وَإِذا بسفينة فِيهَا رئيسهم قد طرح على زبزبي كَمَا يطْرَح على سفن التُّجَّار، ليشرف على مَا يُؤْخَذ مِنْهَا. فحين رَآنِي، منع أَصْحَابه من انتهاب شَيْء من زبزبي، وَصعد إِلَيّ وَحده، فتأملني طَويلا، ثمَّ انكب وَقبل يَدي، وَكَانَ متلثمًا، فَلم أعرفهُ. قَالَ: فارتعت، وَقلت: يَا هَذَا مَا لَك؟ فسفر، وَقَالَ: أما تعرفنِي يَا سَيِّدي؟ فتأملته، وَأَنا جزع، فَلم أعرفهُ. فَقلت: لَا وَالله. فَقَالَ: بلَى، أَنا عَبدك، ابْن فلَان الْكَرْخِي حاجبك، وَأَنا الصَّبِي الَّذِي ربيتني فِي دَارك، وَكنت تحملنِي على عُنُقك، وتطعمني بِيَدِك.

فتأملته، فَإِذا الْخلقَة خلقته، إِلَّا أَن اللِّحْيَة غيرته فِي عَيْني، فسكن خاطري، وَقلت: يَا هَذَا، كَيفَ بلغت إِلَى هَذَا الْحَال؟ قَالَ: يَا سَيِّدي، نشأت، فَلم أتعلم غير معالجة السِّلَاح، وَجئْت إِلَى بَغْدَاد أطلب الدِّيوَان، فَمَا قبلني أحد، فانضاف إِلَيّ هَؤُلَاءِ الرِّجَال، وَطلبت قطع الطَّرِيق وَلَو كَانَ السُّلْطَان أنصفني، ونزلني بِحَيْثُ أستحق من الشجَاعَة، وانتفع بخدمتي، مَا كنت أفعل هَذَا بنفسي. قَالَ: فَأَقْبَلت عَلَيْهِ أعظه، وأخوفه الله، ثمَّ خشيت أَن يشق ذَلِك عَلَيْهِ، فَيفْسد رعايته لي، فأقصرت. ثمَّ قَالَ: يَا سَيِّدي، لَا يكون بعض هَؤُلَاءِ قد أَخذ مِنْك شَيْئا؟ قلت: مَا ذهب منا إِلَّا سلَاح رميته أَنا إِلَى المَاء، وشرحت لَهُ الصُّورَة. فَضَحِك، وَقَالَ: قد وَالله أصَاب القَاضِي، فَمن فِي الكار مِمَّن تعنى بِهِ حَتَّى أطلقهُ؟ قلت: كلهم عِنْدِي بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَلَو أفرجت عَن الْجَمِيع كَانَ أحسن بك. فَقَالَ: وَالله، لَوْلَا أَن أَصْحَابِي قد تفَرقُوا بِمَا أخذُوا، لفَعَلت، وَلَكنهُمْ لَا يطيعوني فِي رده، وَلَكِنِّي لَا أدع مَا بَقِي من السفن فِي الكار أَن يُؤْخَذ مِنْهَا شَيْء، فجزيته خيرا. فَصَعدَ إِلَى الشط، وأصعد جَمِيع أَصْحَابه، وَمنع أَن يُؤْخَذ شَيْء من بَاقِي السفن، فَمَا تعرض لَهَا أحد، ورد على قوم ضعفاء أَشْيَاء كَثِيرَة كَانَت أخذت مِنْهُم، وَأطلق الكار. وَسَار معي فِي أَصْحَابه، إِلَى أَن صَار بيني وَبَين المأمن شَيْء يسير ثمَّ وَدعنِي، وَانْصَرف فِي أَصْحَابه.

ابن حمدي اللص البغدادي وفتوته وظرفه

ابْن حمدي اللص الْبَغْدَادِيّ وفتوته وظرفه وحَدثني عبد الله بن عمر الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدثنِي بعض التُّجَّار البغداديين، قَالَ: خرجت بسلع لي، ومتاع من بَغْدَاد أُرِيد واسطًا، وَكَانَ البريدي بهَا، وَالدُّنْيَا مفتتنة جدا. فَقطع عَليّ، وعَلى الكار الَّذِي كنت فِيهِ، لص كَانَ فِي الطَّرِيق، يُقَال لَهُ: ابْن حمدي، يقطع قَرِيبا من بَغْدَاد، فأفقرني، وَكَانَ مُعظم مَا أملكهُ معي، فسهل عَليّ الْمَوْت، وطرحت نَفسِي لَهُ. وَكنت أسمع بِبَغْدَاد، أَن ابْن حمدي هَذَا، فِيهِ فتوة، وظرف، وَأَنه إِذا قطع، لم يعرض لأرباب البضائع الْيَسِيرَة، الَّتِي تكون دون الْألف دِرْهَم، وَإِذا أَخذ مِمَّن حَاله ضَعِيفَة شَيْئا، قاسمه عَلَيْهِ، وَترك شطر مَاله فِي يَدَيْهِ، وَأَنه لَا يفتش امْرَأَة،

وَلَا يسلبها، وحكايات كَثِيرَة مثل ذَلِك. فأطمعني ذَلِك فِي أَن يرق لي، فَصَعدت إِلَى الْموضع الَّذِي هُوَ جَالس فِيهِ، وخاطبته فِي أَمْرِي، وبكيت، ورققته، ووعظته، وَحلفت لَهُ أَن جَمِيع مَا أملكهُ قد أَخذه، وَأَنِّي أحتاج إِلَى أَن أَتصدق من بعده. فَقَالَ لي: يَا هَذَا، الله بَيْننَا وَبَين هَذَا السُّلْطَان الَّذِي أحوجنا إِلَى هَذَا، فَإِنَّهُ قد أسقط أرزاقنا، وأحوجنا إِلَى هَذَا الْفِعْل، ولسنا فِيمَا نفعله نرتكب أمرا أعظم مِمَّا يرتكبه السُّلْطَان. وَأَنت تعلم أَن ابْن شيرزاد بِبَغْدَاد يصادر النَّاس ويفقرهم، حَتَّى أَنه يَأْخُذ الْمُوسر المكثر، فَلَا يخرج من حَبسه، إِلَّا وَهُوَ لَا يَهْتَدِي إِلَى شَيْء غير الصَّدَقَة، وَكَذَلِكَ يفعل البريدي بواسط وَالْبَصْرَة، والديلم بالأهواز. وَقد علمت أَنهم يَأْخُذُونَ أصُول الضّيَاع، والدور، وَالْعَقار، ويتجاوزون ذَلِك إِلَى الْحرم وَالْأَوْلَاد، فَاحْسبْ أننا نَحن مثل هَؤُلَاءِ، وَأَن وَاحِدًا مِنْهُم صادرك. فَقلت: أعزّك الله، ظلم الظلمَة، لَا يكون حجَّة، والقبيح لَا يكون سنة، وَإِذا وقفت أَنا وَأَنت، بَين يَدي الله عز وَجل، أترضى أَن يكون هَذَا جوابك لَهُ؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، وَلم أَشك فِي أَنه يقتلني، ثمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ: كم أَخذ مِنْك؟ فصدقته. فَقَالَ: أحضروه، فأحضر، فَكَانَ كَمَا ذكرت، فَأَعْطَانِي نصفه. فَقلت لَهُ: الْآن، قد وَجب حَقي عَلَيْك، وَصَارَ لي بإحسانك إِلَيّ حُرْمَة. فَقَالَ: أجل. فَقلت: إِن الطَّرِيق فَاسد، وَمَا هُوَ إِلَّا أَن أتجاوزك حَتَّى يُؤْخَذ هَذَا مني أَيْضا، فأنفذ معي من يوصلني إِلَى المأمن.

قَالَ: فَفعل ذَلِك، وسلمت بِمَا أفلت معي، فَجعل الله فِيهِ الْبركَة، وأخلف.

قطع عليه الطريق فتخلص بخاتم عقيق

قطع عَلَيْهِ الطَّرِيق فتخلص بِخَاتم عقيق حَدثنِي الْحسن بن صافي، مولى ابْن المتَوَكل القَاضِي، وَكَانَ أَبوهُ يعرف بِغُلَام ابْن مقلة قَالَ: لما حصل المتقي لله بالرقة، وَمَعَهُ أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ، ابْن مقلة، وزيره، كاتبني بِأَن أخرج إِلَيْهِ، فَخرجت، وَمَعِي جمَاعَة من أَسبَابه، وَأَسْبَاب الْخَلِيفَة إِلَى هيت. وَضم إِلَيْنَا ابْن فتيَان خفراء، يؤدونا إِلَى الرقة، ورحلت من هيت، ومعنا الخفراء والغلمان، وَمن انحدر مَعنا من هيت، فصرنا نَحوا من مِائَتي مقَاتل. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الرَّابِع من مسيرنا، وَنحن فِي الْبر الأقفر، وَقد نزلنَا نستريح، إِذا بسواد عَظِيم من بعيد، لَا نعلم مَا هُوَ، فَلم نزل نرقبه إِلَى أَن بَان لنا، وَإِذا هُوَ نَحوا من مائَة مَطِيَّة، على كل مَطِيَّة رجلَانِ. فجمعنا أَصْحَابنَا ورجالنا، وَقرب الْقَوْم منا وأناخوا جمَالهمْ وعقلوها، وَأخذُوا جحفهم، وسلوا سيوفهم، وتقدمهم رَئِيس لَهُم، فَقَالَ لنا: يَا معشر الْمُسَافِرين، لَا يسلن أحد مِنْكُم سَيْفا، وَلَا يَرْمِي بِسَهْم، فَمن فعل ذَلِك فَهُوَ مقتول. ففشل كل من كَانَ مَعنا، وَقَاتل قوم منا قتالًا ضَعِيفا، وخالطنا الْأَعْرَاب، وَأخذُوا جمَاعَة منا، وأخذونا، وَجَمِيع مَا كَانَ مَعنا، فأقتسموه، وتركونا مطرحين فِي الشَّمْس.

فَإِذا بِي قد عريت، وَبَقِي عَليّ خلق لَا أتوارى مِنْهُ بِشَيْء، وَلَيْسَ معي مَاء أشربه، وَلَا ظهر أركبه، وَلَيْسَ بيني وَبَين الْمَوْت إِلَّا سَاعَات يسيرَة، فَقَامَتْ عَليّ الْقِيَامَة، وَاشْتَدَّ جزعي، وَلم يكن لي حِيلَة، فأيست من الْحَيَاة. فَأَنا كَذَلِك، إِذْ وجدت شستجة، كَانَ لي فِيهَا خَاتم عقيق، كَبِير الفص، كثير المَاء، فَأَخَذته، وَوَقع لي فِي الْحَال وَجه الْحِيلَة، فَجَعَلته فِي قطن، وخبأته معي وقصدت رَئِيس الْقَوْم، وَهُوَ الَّذِي تولى أَخذ مَالِي، وَعرف موضعي وقدري. فَقلت لَهُ: قد رَأَيْت عَظِيم مَا أَخَذته مني، وَأَنا خَادِم الْخَلِيفَة أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، وَقد خرجت لأمر كَبِير من خدمته، وَقد فزت بِمَا أَخَذته مني، فَمَا قَوْلك فِي أَمر آخر أعظم مِمَّا أَخَذته، أعاملك بِهِ، وأسديه إِلَيْك حَلَالا لَا يجْرِي مجْرى الغصوب، على أَن تؤمنني على نَفسِي، وَترد عَليّ من ثِيَابِي مَا يسترني، وَترد عَليّ من دوابي دَابَّة، وتسقيني مَاء، وتسيرني حَتَّى أحصل فِي مأمني؟ فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قلت: تُعْطِينِي أمانك، وعهودك، ومذامك، على الْوَفَاء، فَفعل. فانفردت بِهِ، وَجعلت يَدي مُقَابلَة للشمس، وأريته الْخَاتم، وأقمت فصه فِي شُعَاع الشَّمْس، فكاد يخطف بَصَره، وَرَأى مَا لم ير مثله. وَقَالَ: استره، وَقل لي خَبره. فَقلت: هَذَا خَاتم الْخلَافَة، وفصه هَذَا ياقوت أَحْمَر، وَهُوَ الَّذِي يتداوله الْخُلَفَاء مُنْذُ الْعَهْد الطَّوِيل، وَيعرف بِالْجَبَلِ، وَلَا يقوم أَمر الْخُلَفَاء إِلَّا بِهِ، وَقد كَانَ مخبوءًا بِبَغْدَاد، فَأمرنِي الْخَلِيفَة أَن أحملهُ إِلَيْهِ فِي جملَة مَا حَملته، وَحَيْثُ حصل

هَذَا الْخَاتم من بِلَاد الله، تشبث الْخُلَفَاء إِلَى أَخذه بِكُل ثمن، وَإِن حصل عنْدك حَتَّى تمْتَنع من بَيْعه إِلَّا بِمِائَة ألف دِينَار، وَلم يقدروا عَلَيْك، لأعطوك إِيَّاهَا، والرأي أَن تَأْخُذهُ، وتنفذه إِلَى نَاحيَة الشَّام، وتخفي حُصُول الْخَاتم فِي يدك، فَإِنِّي إِذا حضرت بِحَضْرَة الْخَلِيفَة، وعرفته خَبره، جاءتك رسله بالرغائب، حَتَّى يرتجع مِنْك بِأَيّ ثمن احتكمت. فَقَالَ: إِذا خُذ من ثِيَابك مَا تُرِيدُ. فَأخذت من ثِيَابِي مَا احتجت إِلَيْهِ، وَأخذ الْخَاتم فخبأه فِي جيبه، وأركبني رَاحِلَة موطأة، وَأَعْطَانِي إداوتين كبيرتين مَاء، وَسَار معي، وَالنَّاس قد هَلَكُوا من الْعَطش. وَلم يزل يسير معي، إِلَى أَن بلغنَا إِلَى حصن فِي الْبَريَّة، يعرف بالزيتونة، من بِنَاء هِشَام بن عبد الْملك، وَفِيه رجل من بني أُميَّة، يكنى بِأبي مَرْوَان، مَعَه فِي الْحصن نَحوا من مِائَتي رجل. فَلَمَّا حصلت عِنْده، انْصَرف الْأَعرَابِي، وَعرفت أَبَا مَرْوَان خبري فِي الْقطع وَمن أَنا، فأعظم أَمْرِي، وأكرمني، وأنفذ معي من أَصْحَابه من بَلغنِي الرقة سالما

سرق ماله بالبصرة واستعاده بواسط

سرق مَاله بِالْبَصْرَةِ واستعاده بواسط حَدثنِي مُحَمَّد بن عمر بن شُجَاع الْمُتَكَلّم، ويلقب بجنيد، قَالَ: حَدثنِي رجل من الدقاقين، فِي دَار الزبير بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: أورد عَليّ رجل غَرِيب، سفتجة بِأَجل، فَكَانَ يتَرَدَّد عَليّ، إِلَى أَن حل ميعاد السفتجة. ثمَّ قَالَ لي: دعها عنْدك حَتَّى آخذها مُتَفَرِّقَة، فَكَانَ يَجِيء فِي كل يَوْم فَيَأْخُذ بِقدر نَفَقَته إِلَى أَن نفدت، وَصَارَ بَيْننَا معرفَة، وَألف الْجُلُوس عِنْدِي، وَكَانَ يراني أخرج من كيسي من صندوق لي، فَأعْطِيه مِنْهُ. فَقَالَ لي يَوْمًا: إِن قفل الرجل، صَاحبه فِي سَفَره، وأمينه فِي حَضَره، وخليفته على حفظ مَاله، وَالَّذِي يَنْفِي الظنة عَن أَهله وَعِيَاله، فَإِن لم يكن وثيقًا تطرقت الْحِيَل عَلَيْهِ، وَأرى قفلك هَذَا وثيقًا، فَقل لي مِمَّن ابتعته، لأبتاع مثله. فَقلت: من فلَان بن فلَان الأقفالي، فِي جوَار بَاب الصفارين.

قَالَ: فَمَا شَعرت يَوْمًا، وَقد جِئْت إِلَى دكاني، فطلبت صندوقي لأخرج مِنْهُ شَيْئا من الدَّرَاهِم، فَحَمله الْغُلَام إِلَيّ، ففتحته، فَإِذا لَيْسَ فِيهِ شَيْء من الدَّرَاهِم. فَقلت لغلامي، وَكَانَ غير مُتَّهم عِنْدِي: هَل أنْكرت من الدرابات شَيْئا؟ قَالَ: لَا، فَقلت: فتش، هَل ترى فِي الدّكان نقبًا؟ قَالَ: لَا. فَقلت: فَمن السّقف حِيلَة؟ قَالَ: لَا. قلت: فَاعْلَم أَن الدَّرَاهِم قد ذهبت. فقلق الْغُلَام، فسكنت، وَقمت لَا أَدْرِي مَا أصنع، وَتَأَخر الرجل عني، فَلَمَّا غَابَ اتهمته، وَذكرت مَسْأَلته عَن القفل. فَقلت للغلام، أَخْبرنِي كَيفَ تفتح دكاني وتغلقه؟ قَالَ: رسمي أَن ادرب درابتين درابتين، والدرابات فِي الْمَسْجِد، فأحملها فِي دفعات، اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، فأشرجها، ثمَّ أقفل، وَكَذَلِكَ عِنْدَمَا أفتحها. فَقلت: البارحة، وَالْيَوْم، فعلت ذَلِك؟ قَالَ: نعم. فَقلت: فَإِذا مضيت لِترد الدرابات، أَو تحضرها، على من تدع الدّكان؟ قَالَ: خَالِيا. قلت: فَمن هُنَا دهيت.

ومضيت إِلَى الصَّانِع الَّذِي ابتعت مِنْهُ القفل، فَقلت: جَاءَك إِنْسَان مُنْذُ أَيَّام، وَاشْترى مِنْك مثل هَذَا القفل؟ قَالَ: نعم، رجل من صفته كَيْت وَكَيْت، فَأَعْطَانِي صفة صَاحِبي. فَعلمت أَنه احتال على الْغُلَام وَقت الْمسَاء، لما انصرفت أَنا، وَمضى الْغُلَام يحمل الدرابات، فَدخل هُوَ إِلَى الدّكان، فَاخْتَبَأَ فِيهِ، وَمَعَهُ مِفْتَاح القفل الَّذِي اشْتَرَاهُ، وَالَّذِي يَقع على قفلي، وَأَنه أَخذ الدَّرَاهِم، وَجلسَ طول ليلته خلف الدرابات. فَلَمَّا جَاءَ الْغُلَام، وَفتح درابتين، وَحملهَا ليرفعها، خرج، وَأَنه مَا فعل ذَلِك، إِلَّا وَقد خرج إِلَى بَغْدَاد. فَسلمت دكاني إِلَى الْغُلَام، وَقلت لَهُ: من سَأَلَ عني فَعرفهُ أَنِّي خرجت إِلَى ضيعتي. قَالَ: فَخرجت، وَمَعِي قفلي ومفتاحه، وَقلت: أبتدئ بِطَلَب الرجل بواسط. فَلَمَّا صعدت من السميرية، طلبت خَانا فِي الكتبيين بواسط، لأنزله، فأرشدت إِلَيْهِ، فَصَعدت، فَإِذا بقفل مثل قفلي سَوَاء على بَيت. فَقلت لقيم الخان: هَذَا الْبَيْت من ينزله؟ فَقَالَ: رجل قدم من الْبَصْرَة أمس. فَقلت: أَي شَيْء صفته؟ فوصف لي صفة صَاحِبي، فَلم أَشك أَنه هُوَ، وَأَن الدَّرَاهِم فِي بَيته. فاكتريت بَيْتا إِلَى جَانِبه، ورصدت الْبَيْت، حَتَّى انْصَرف قيم الخان، وَقمت ففتحت القفل بمفتاحي، فحين دخلت الْبَيْت، وجدت كيسي بِعَيْنِه، فَأَخَذته،

وَخرجت وأقفلت الْبَاب، وَنزلت فِي الْوَقْت إِلَى السَّفِينَة الَّتِي جِئْت فِيهَا، وأرغبت الملاح، وانحدرت إِلَى الْبَصْرَة. فَمَا أَقمت بواسط إِلَّا ساعتين من نَهَار، وَرجعت إِلَى منزلي بِمَالي بِعَيْنِه.

وضع السيف على عنقه ثم نجا سالما

وضع السَّيْف على عُنُقه ثمَّ نجا سالما وحَدثني عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي، قَالَ: حَدثنِي أكار بنهر سابس، قَالَ: خرجت من نهر سابس، إِلَى مَوضِع فِي طرف الْبَريَّة، يُقَال لَهُ: كرخ راذويه، أُرِيد أَعمال سقِِي الْفُرَات. فبلغني أَن رجلا يقطع الطَّرِيق وَحده، وحذرت مِنْهُ. فَلَمَّا خرجت من الْقرْيَة، رَأَيْت رجلا تدل فراسته على شدته ونجدته، وَفِي يَده زقاية، فجسرني على الطَّرِيق. قَالَ: فترافقنا، حَتَّى انتهينا إِلَى سِقَايَة فِي الْبَريَّة، فَخرج علينا اللص متحزمًا، متسلحًا، فصاح بِنَا. فَطرح رفيقي كارة كَانَت على ظَهره، وَأخذ زقايته، وبادر إِلَى اللص. فَلَمَّا دَاخله اللص ليضربه، ضرب بعصاه يَد اللص، فعطل اللص الضَّرْبَة، وَضرب الزقاية فقطعها، ثمَّ ضرب بِسَيْفِهِ رجل الرجل فأقعده، ثمَّ وشحه بِالسَّيْفِ

حَتَّى قَتله، وَحمل عَليّ ليقتلني. فَقلت لَهُ: مَا حاربتك، وَلَا امْتنعت عَلَيْك من أخذك ثِيَابِي، فلأي شَيْء تقتلني؟ فَقَالَ: استكتف فاستكتفت، فكتفني بتكتي ثمَّ حمل الثِّيَاب وَانْصَرف. فَبَقيت متحيرًا، مشفيًا على التّلف، بالعطش، وَالشَّمْس، والوحوش، فَمَا زلت أتمطى فِي التكة حَتَّى قطعتها، وَقمت أَمْشِي إِلَى أَن جنني اللَّيْل. فَرَأَيْت فِي الصَّحرَاء، على بعد، ضوء نَار خفِيا، فقدرته فِي قَرْيَة، فقصدته، فَإِذا هُوَ يخرج من قبَّة فِي الصَّحرَاء، فقربت مِنْهَا، واطلعت، فَإِذا اللص جَالس فِي الْقبَّة، يشرب نبيذًا، وَمَعَهُ امْرَأَة. فَلَمَّا بصر بِي صَاح، وَتَنَاول سَيْفه وَخرج إِلَيّ، فَمَا زلت أناشده الله، وأحلف لَهُ أنني مَا علمت أَنه هُوَ، وَلَا قصدته عمدا، وَإِنَّمَا رَأَيْت النَّار فقصدتها، فَلم يعبأ بِقَوْلِي. وحلفته الْمَرْأَة أَن لَا يقتلني بحضرتها، فجذبني إِلَى نهر جَاف قريب من الْقبَّة، وطرحني تَحْتَهُ، وجرد سَيْفه ليقتلني. فَسمع صَوت الْأسد قَرِيبا مِنْهُ، فارتعدت يَده، وَسكت، وَأخذ يسكتني، فأنست بالسبع وزدت فِي الصياح. فَمَا شَعرت إِلَّا والسبع قد تنَاوله من على صَدْرِي وهرول فِي الصَّحرَاء.

فَقُمْت، وَأخذت السَّيْف، وَجئْت إِلَى الْقبَّة، فَلم تشك الْمَرْأَة أنني هُوَ، فَقَالَت: قتلته؟ فَقلت: الله عز وَجل قَتله، لَا أَنا، وقصصت عَلَيْهَا الْقِصَّة، وسألتها عَن شَأْنهَا. فَقَالَت: أَنا امْرَأَة من أهل الْقرْيَة الْفُلَانِيَّة، أسرني هَذَا الرجل، وخبأني فِي هَذَا الْموضع، وَهُوَ يتَرَدَّد إِلَيّ فِي كل لَيْلَة. فأرهبتها، فدلتني على دفائن لَهُ فِي الصَّحرَاء، فأخذتها، وحملت الْمَرْأَة، وَبَلغت الْقرْيَة، وسلمتها إِلَى أَهلهَا. وفزت بِمَال عَظِيم أغناني عَن مقصدي، وعدت إِلَى بلدي.

كيف استعاد التاجر البصري ماله

كَيفَ استعاد التَّاجِر الْبَصْرِيّ مَاله وحَدثني أَيْضا، قَالَ: حَدثنِي ابْن الدنانيري التمار الوَاسِطِيّ، قَالَ: حَدثنِي غُلَام لي قَالَ: كنت ناقدًا بالأبلة، لرجل تَاجر، فاقتضيت لَهُ فِي الْبَصْرَة نَحْو خمس مائَة دِينَار عينا وورقًا، ولففتها فِي فوطة، وأشفيت على الْمصير إِلَى الأبلة. فَمَا زلت أطلب ملاحًا، حَتَّى رَأَيْت ملاحًا مجتازًا فِي خيطية خَفِيفَة فارغة، فَسَأَلته أَن يحملني، فسهل عَليّ الْأُجْرَة، وَقَالَ: أَنا رَاجع إِلَى منزلي بالأبلة، فَانْزِل معي، فَنزلت، وَجعلت الفوطة بَين يَدي. وسرنا إِلَى أَن تجاوزنا مسماران، فَإِذا رجل ضَرِير على الشط، يقْرَأ أحسن قِرَاءَة تكون.

فَلَمَّا رَآهُ الملاح كبر، فصاح هُوَ بالملاح: احملني، فقد جنني اللَّيْل، وأخاف على نَفسِي، فشتمه الملاح. فَقلت لَهُ: احمله، فَدخل إِلَى الشط فَحَمله، فَلَمَّا حصل مَعنا رَجَعَ إِلَى قِرَاءَته، فخلب عَقْلِي بطيبها. فَلَمَّا قربنا من الأبلة، قطع الْقِرَاءَة، وَقَامَ ليخرج فِي بعض المشارع فِي الأبلة، فَلم أر الفوطة، فَقُمْت وَاقِفًا، واضطربت، وَصحت. فاستغاث الملاح، وَقَالَ: السَّاعَة تقلب الخيطية، وخاطبني خطاب من لَا يعلم حَالي. فَقلت لَهُ: يَا هَذَا، كَانَت بَين يَدي فوطة فِيهَا خمس مائَة دِينَار. فَلَمَّا سمع الملاح ذَلِك، بَكَى، وَلَطم، وتعرى من ثِيَابه، وَقَالَ: أَدخل الشط ففتش، وَلَا لي مَوضِع أخبئ فِيهِ شَيْئا فتتهمني بسرقته، ولي أَطْفَال، وَأَنا ضَعِيف، فَالله، الله فِي أَمْرِي، وَفعل الضَّرِير مثل ذَلِك. وفتشت الخيطية فَلم أجد شَيْئا، فرحمتهما، وَقلت: هَذِه محنة لَا أَدْرِي كَيفَ التَّخَلُّص مِنْهَا، وَخَرجْنَا، فَعمِلت على الْهَرَب، وَأخذ كل وَاحِد منا طَرِيق، وَبت فِي بَيْتِي، وَلم أمض إِلَى صَاحِبي، وَأَنا بليلة عَظِيمَة. فَلَمَّا أَصبَحت، عملت على الْهَرَب إِلَى الْبَصْرَة، لأستخفي فِيهَا أَيَّامًا، ثمَّ أخرج إِلَى بلد شاسع. فانحدرت، فَخرجت فِي مشرعة بِالْبَصْرَةِ، وَأَنا أَمْشِي وأتعثر وأبكي قلقًا على فِرَاق أَهلِي وَوَلَدي، وَذَهَاب معيشتي وجاهي، إِذْ أعترضني رجل. فَقَالَ: يَا هَذَا، مَا بك؟ فَقلت: أَنا فِي شغل عَنْك، فاستحلفني، فَأَخْبَرته.

فَقَالَ: امْضِ إِلَى السجْن ببني نمير، واشتر مَعَك خبْزًا كثيرا، وشواءً جيدا، وحلوى، وسل السجان أَن يوصلك إِلَى رجل مَحْبُوس، يُقَال لَهُ: أَبُو بكر النقاش، وَقل لَهُ: أَنا زَائِره، فَإنَّك لَا تمنع، وَإِن منعت، فَهَب للسجان شَيْئا يَسِيرا فَإِنَّهُ يدْخلك إِلَيْهِ، فَإِذا رَأَيْته فَسلم عَلَيْهِ وَلَا تخاطبه حَتَّى تجْعَل بَين يَدَيْهِ مَا مَعَك، فَإِن أكل وَغسل يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ يَسْأَلك عَن حَاجَتك، فَأخْبرهُ خبرك، فَإِنَّهُ سيدلك على من أَخذ مَالك، ويرتجعه لَك. فَفعلت ذَلِك، ووصلت إِلَى الرجل، فَإِذا هُوَ شيخ مثقل بالحديد. فَسلمت عَلَيْهِ، وطرحت مَا معي بَين يَدَيْهِ، فَدَعَا رُفَقَاء كَانُوا مَعَه فَأَقْبَلُوا يَأْكُلُون مَعَه، فَلَمَّا استوفى وَغسل يَدَيْهِ. قَالَ: من أَنْت، وَمَا جَاءَ بك؟ فشرحت لَهُ قصتي. فَقَالَ: امْضِ السَّاعَة لوقتك، وَلَا تتأخر، إِلَى بني هِلَال، فاقصد الدَّرْب الْفُلَانِيّ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى آخِره، فَإنَّك تشاهد بَابا شعثًا، فافتحه وادخل بِلَا اسْتِئْذَان، فستجد دهليزًا طَويلا يُؤَدِّي إِلَى بَابَيْنِ، فَادْخُلْ الْأَيْمن مِنْهُمَا، فسيدخلك إِلَى دَار فِيهَا بَيت فِيهِ أوتاد وبواري، وعَلى كل وتد إِزَار ومئزر، فانزع ثِيَابك، وعلقها على الوتد، واتزر بالمئزر واتشح بالإزار، واجلس، فسيجيء قوم يَفْعَلُونَ كَمَا فعلت، إِلَى أَن يتكاملوا، ثمَّ يُؤْتونَ بِطَعَام فَكل مَعَهم، وتعمد أَن تفعل كَمَا يَفْعَلُونَ فِي كل شَيْء. فَإِذا أَتَوا بالنبيذ فَاشْرَبْ مَعَهم أقداحًا يسيرَة، ثمَّ خُذ قدحًا كَبِيرا، فاملأه،

وقم، وَقل: هَذَا ساري لخالي أبي بكر النقاش، فسيضحكون ويفرحون، وَيَقُولُونَ: هُوَ خَالك؟ فَقل: نعم، فسيقومون وَيَشْرَبُونَ لي، فَإِذا تَكَامل شربهم لي، وجلسوا، فَقل لَهُم: خَالِي يقْرَأ عَلَيْكُم السَّلَام، وَيَقُول لكم: بحياتي يَا فتيَان، ردوا على ابْن أُخْتِي المئزر الَّذِي أخذتموه أمس من السَّفِينَة بنهر الأبلة، فَإِنَّهُم يردونه عَلَيْك. فَخرجت من عِنْده، فَفعلت مَا قَالَ لي، وَجَرت الصُّورَة، على مَا ذكر، سَوَاء بِسَوَاء، وَردت الفوطة عَليّ بِعَينهَا، وَمَا حل شدها. فَلَمَّا حصلت لي، قلت لَهُم: يَا فتيَان، هَذَا الَّذِي فعلتموه هُوَ قَضَاء لحق خَالِي، وَأَنا لي حَاجَة تخصني. فَقَالُوا: مقضية. فَقلت: عرفوني كَيفَ أخذتهم الفوطة؟ فامتنعوا، فأقسمت عَلَيْهِم بحياة أبي بكر النقاش. فَقَالَ لي وَاحِد مِنْهُم: تعرفنِي؟ فتأملته، فَإِذا هُوَ الضَّرِير الَّذِي كَانَ يقْرَأ. وَإِنَّمَا كَانَ يتعامى حِيلَة ومكرًا. وَأَوْمَأَ إِلَى آخر، وَقَالَ: أتعرف هَذَا؟ فتأملته، فَإِذا هُوَ الملاح بِعَيْنِه. فَقلت: أخبراني كَيفَ فعلكما؟ فَقَالَ الملاح: أَنا أدور فِي المشارع فِي أول أَوْقَات الْمسَاء، وَقد سبقت المتعامي فأجلسته حَيْثُ رَأَيْت، فَإِذا رَأَيْت من مَعَه شَيْء لَهُ قدر، ناديته وأرخصت عَلَيْهِ الْأُجْرَة وَحَمَلته، فَإِذا بلغ إِلَى الْقَارئ، وَصَاح بِي، شتمته، حَتَّى لَا يشك الرَّاكِب فِي بَرَاءَة الساحة، فَإِن حمله الرَّاكِب فَذَاك، وَإِن لم يحملهُ رققته حَتَّى يحملهُ، فَإِذا حمله، وَجلسَ هَذَا يقْرَأ قِرَاءَته الطّيبَة، ذهل الرجل كَمَا ذهلت أَنْت، فَإِذا بلغنَا إِلَى مَوضِع نَكُون قد خلينا فِيهِ رجلا متوقعًا لنا، يسبح حَتَّى يلاصق

السَّفِينَة، وعَلى رَأسه قوصرة، فَلَا يفْطن الرَّاكِب، فيستلب هَذَا الرجل المتعامى، بخفة، الشَّيْء الَّذِي قد عينا عَلَيْهِ، فيلقيه إِلَى الرجل الَّذِي عَلَيْهِ القوصرة، فيأخذها ويسبح إِلَى الشط، فَإِذا أَرَادَ الرَّاكِب النُّزُول، وافتقد مَا مَعَه، عَملنَا كَمَا رَأَيْت، فَلَا يتهمنا، ونتفرق، فَإِذا كَانَ الْغَد، اجْتَمَعنَا واقتسمنا مَا أخذناه، وَالْيَوْم كَانَ يَوْم الْقِسْمَة، فَلَمَّا جِئْت برسالة خَالك أستاذنا، سلمنَا إِلَيْك الفوطة، قَالَ: فأخذتها، وانصرفت

صادف درء السيل درءا يصدعه

صَادف دَرْء السَّيْل درءًا يصدعه حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي، قَالَ: حَدثنِي بعض إخْوَانِي: أَنه كَانَ بِبَغْدَاد رجل يطْلب التلصص فِي حداثته، ثمَّ تَابَ وَصَارَ بزازًا. قَالَ: فَانْصَرف لَيْلَة من دكانه، وَقد أغلقه، فجَاء لص متزي بزِي صَاحب الدّكان، فِي كمه شمعة صَغِيرَة، ومفتاح، فصاح بالحارس، وَأَعْطَاهُ الشمعة فِي الظلمَة، وَقَالَ: أشعلها وجئني بهَا، فَإِن لي فِي هَذِه اللَّيْلَة فِي دكاني شغلًا. فَحَضَرَ الحارس وأشعل الشمعة، وَركب اللص المفاتيح على الأقفال فَفَتحهَا، وَدخل الدّكان. فجَاء الحارس بالشمعة مشعلة، فَأَخذهَا مِنْهُ وَهُوَ لَا يتَبَيَّن وَجهه، وَجعلهَا بَين يَدَيْهِ، وَفتح سفط الْحساب، وَأخرج مَا فِيهِ، وَجعل ينظر فِي الدفاتر، ويوري بِيَدِهِ أَنه يحْسب، والحارس يطالعه فِي تردده، وَلَا يشك فِي أَنه صَاحب الدّكان. إِلَى أَن قَارب السحر، فاستدعى اللص الحارس، وَكَلمه من بعيد، وَقَالَ لَهُ: أطلب لي حمالًا. فجَاء بحمال، فَحمل عَلَيْهِ من مَتَاع الدّكان أَربع رزم مثمنة، وأقفل الدّكان، وَانْصَرف وَمَعَهُ الْحمال، وَأعْطى الحارس دِرْهَمَيْنِ، فَلَمَّا أصبح النَّاس، جَاءَ صَاحب الدّكان ليفتحه، فَقَامَ إِلَيْهِ الحارس يَدْعُو لَهُ، وَيَقُول: فعل الله بك وصنع كَمَا أَعْطَيْتنِي البارحة الدرهمين. فَأنْكر الرجل مَا سَمعه، وَلم يرد جَوَابا، وَفتح دكانه، فَوجدَ سيلان الشمعة،

وحسابه مطروحًا، وفقد الرزم الْأَرْبَع، فاستدعى الحارس، وَقَالَ لَهُ: من كَانَ الَّذِي حمل معي الرزم البارحة من دكاني؟ فَقَالَ لَهُ الحارس: أليست استدعيت مني حمالًا، فجئتك بِهِ، فحملها مَعَك؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِنِّي كنت ناعسًا متنبذًا، وَأُرِيد الْحمال، فجئني بِهِ، فَمضى الحارس فَجَاءَهُ بالحمال، فأغلق الرجل الدّكان، وَأخذ الْحمال مَعَه، وَمَشى، وَقَالَ: إِلَى أَيْن حملت الرزم البارحة، فَإِنِّي كنت متنبذًا. قَالَ: إِلَى المشرعة الْفُلَانِيَّة، واستدعيت فلَانا الملاح، فركبت مَعَه. فَصَعدَ الرجل المشرعة، فَسَأَلَ عَن الملاح فَدلَّ عَلَيْهِ وَركب مَعَه. وَقَالَ: أَيْن أوصلت الْيَوْم أخي الَّذِي كَانَ مَعَه الْأَرْبَع رزم؟ قَالَ: إِلَى المشرعة الْفُلَانِيَّة. قَالَ: أطرحني إِلَيْهَا، فطرحه. قَالَ: وَمن حملهَا مَعَه؟ قَالَ: فلَان الْحمال. فَدَعَا بِهِ، ولطفه، وَقَالَ: أَيْن حملت الرزم الْأَرْبَع البارحة؟ واستدله بِرِفْق وَأَعْطَاهُ شَيْئا، فجَاء بِهِ إِلَى بَاب غرفَة، فِي مَوضِع بعيد عَن الْبَلَد، قريب من الصَّحرَاء، فَوجدَ الْبَاب مقفلًا. واستوقف الْحمال إِلَى أَن فش القفل وَفتح الْبَاب، وَدخل، فَوجدَ الْأَرْبَع رزم بِحَالِهَا، وَإِذا فِي الْبَيْت بركان مُعَلّق على حَبل، فلق الرزم فِيهِ، ودعا الْحمال فحملها.

فحين خرج من الغرفة، استقبله اللص، وَفهم الْأَمر، فَاتبعهُ إِلَى الشط، فجَاء إِلَى المشرعة، ودعا الملاح ليعبر. فَدَعَا الْحمال من يحط عَنهُ، فجَاء اللص، فحط عَنهُ، كَأَنَّهُ مجتاز مُتَطَوّع، فَأدْخل الرزم إِلَى السَّفِينَة مَعَ صَاحبهَا، ثمَّ جعل البركان على كتفه، وَقَالَ للتاجر: يَا أخي أستودعك الله، فقد استرجعت رزمك، فدع كسائي. فَضَحِك مِنْهُ وَقَالَ: انْزِلْ وَلَا خوف عَلَيْك. فَنزل مَعَه، فاستتابه، ووهب لَهُ شَيْئا، وَصَرفه.

قصة الأخوين عاد وشداد

قصَّة الْأَخَوَيْنِ عَاد وَشَدَّاد وَحكى عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن العبقسي الشَّاعِر، قَالَ: حَدثنِي شَاعِر كَانَ يعرف بِغُلَام أبي الْغَوْث، قَالَ: كنت من أهل قَرْيَة من نواحي الشَّام، أسكنها أَنا وأسلافي، فَكُنَّا نطحن أقواتنا فِي رحى مَاء على فراسخ من الْبَلَد، يخرج إِلَيْهَا أهل الْبَلَد وَأهل الْقرى الْمُجَاورَة بغلاتهم، فتكثر، فَلَا يتَمَكَّن من الطَّحْن إِلَّا الْأَقْوَى فالأقوى. فمضيت مرّة وَمَعِي غلَّة، وحملت معي خبْزًا وَلَحْمًا مطبوخًا يَكْفِينِي لأيام، وَكَانَ الزَّمَان شاتيًا، لأقيم على الرَّحَى، حَتَّى يخف النَّاس فأطحن فِيهَا، على عادتي تِلْكَ. فَلَمَّا صرت عِنْد الرَّحَى، حططت أعدالي، وَجَلَست فِي مَوضِع نزه، وفرشت سفرتي لآكل. واجتاز بِي رجل عَظِيم الْخلقَة، فدعوته ليَأْكُل، فَجَلَسَ فَأكل كلما كَانَ فِي سفرتي، حَتَّى لم يدع فِيهَا شَيْئا، وَلَا أُوقِيَّة وَاحِدَة. فعجبت من ذَلِك عجبا شَدِيدا بَان لَهُ فِي، فَأمْسك، وغسلنا أَيْدِينَا. فَقَالَ لي: على أَي شَيْء مقامك هُنَا؟ فَقلت: لأطحن هَذِه الْغلَّة. فَقَالَ لي: فَلم لَا تطحنها الْيَوْم، فَأَخْبَرته بِسَبَب تعذر ذَلِك عَليّ. قَالَ: فثار كَالْجمَلِ، حَتَّى شقّ النَّاس وهم مزدحمون على الرَّحَى، وَهِي

تَدور، فَجعل رجله عَلَيْهَا فوقفت وَلم تدر. فَعجب النَّاس، وَقَالَ: من فِيكُم يتَقَدَّم؟ فجَاء رجل أيد شَدِيد، فَأخذ بِيَدِهِ، وَرمى بِهِ كالكرة، وَجعله تَحت رجله الْأُخْرَى، فَمَا قدر أَن يَتَحَرَّك. وَقَالَ: قدمُوا غلتي إِلَى الطَّحْن وَإِلَّا كسرت الرَّحَى، وَكسرت عِظَام هَذَا. فَقَالُوا: يَا هَذَا هَات الْغلَّة، فَجئْت بهَا، فَطحنت، وفرغت مِنْهَا، وجعلتها فِي الأعدال. وَقَالَ لي: قُم. قلت: إِلَى أَيْن؟ قَالَ: إِلَى مَنْزِلك. قلت: لَا أسلك الطَّرِيق وحدي، فَإِنَّهُ مخوف، وَلَكِن أَصْبِر حَتَّى يفرغ أهل قريتي، وأرجع مَعَهم. فَقَالَ: قُم وَأَنا مَعَك، ولسنا نَخَاف، بِإِذن الله عز وَجل، شَيْئا. فَقلت فِي نَفسِي: من كَانَت تِلْكَ الْقُوَّة قوته يجب أَن آنس بِهِ، فَقُمْت، وحملت الْغلَّة على الْحمير، وسرنا إِلَى أَن جِئْنَا إِلَى قريتي، وَلم نلق فِي طريقنا بَأْسا. فَلَمَّا دخلت إِلَى بَيْتِي، خرج وَالِدي وإخوتي، وعجبوا من سرعَة ورودي بالغلة، وَرَأَوا الرجل، فسألوني عَن الْقِصَّة، فَأَخْبَرتهمْ. وَسَأَلنَا الرجل أَن يُقيم فِي ضيافتنا، فَفعل، فذبحنا لَهُ بقرة، وأصلحنا لَهُ سكباجًا، وَقدم إِلَيْهِ، فَأكل الْجَمِيع بِنَحْوِ الْمِائَة رَطْل خبْزًا. فَقَالَ لَهُ أبي: يَا هَذَا، مَا رَأَيْت مثلك قطّ، فَأَي شَيْء أَنْت؟ وَمن أَيْن معاشك؟ قَالَ: أَنا رجل من النَّاحِيَة الْفُلَانِيَّة، وَأُسَمِّي شَدَّاد، وَكَانَ لي أَخ أَشد بدنًا وَقَلْبًا مني، وأسمه عَاد، وَكُنَّا نبذرق القوافل من قريتنا إِلَى مَوَاضِع كَثِيرَة، وَلَا نستعين

بِأحد، وَتخرج علينا الرِّجَال الْكَثِيرَة، فألقاهم أَنا وَأخي فَقَط فنهزمهم، فاشتهر أمرنَا، حَتَّى كَانَ إِذا قيل قافلة عَاد وَشَدَّاد، لم يعرض لَهَا أحد، فَمَكثْنَا كَذَلِك سِنِين كَثِيرَة. فخرجنا مرّة أَنا وَأخي، نسير قافلة قد خفرناها، فَلَمَّا صرنا بالفلاة، رَأينَا سوادًا مُقبلا نحونا، فأستطرفنا أَن يقدم علينا أحد، ثمَّ بَان لنا شخص رجل أسود، على نَاقَة حَمْرَاء، ثمَّ خالطنا. وَقَالَ: هَذِه قافلة عَاد وَشَدَّاد؟ قُلْنَا: نعم. فترجل ودعانا للبراز، فانتضينا سُيُوفنَا وانقضضنا عَلَيْهِ، فَضرب سَاق أخي بِالسَّيْفِ ضَرْبَة أقعدته، وَعدا عَليّ، فَقبض على كَتِفي، فَمَا أطقت الْحَرَكَة. فكتفني، ثمَّ كتف أخي، وطرحنا على النَّاقة كالزاملتين، ثمَّ ركبهَا وَسَار بعد أَن أَخذ من الْقَافِلَة مَا كَانَ فِيهَا من عين، وورق، وحلي، وشيئًا من الزَّاد، وأوقر الرَّاحِلَة بذلك. وَسَار بِنَا على غير محجة، فِي طَرِيق لَا نعرفه، بَقِيَّة يَوْمنَا وليلتنا وَبَعض الثَّانِي، حَتَّى أَتَى جبلا لَا نعرفه، فأوغل فِيهِ، وَبلغ إِلَى وَجه مِنْهُ فدخله، فَانْتهى إِلَى مغارات، فَأَنَاخَ الرَّاحِلَة، ثمَّ رمى بِنَا عَنْهَا، وَتَركنَا فِي الكتاف. وَجَاء إِلَى مغارة على بَابهَا صَخْرَة عَظِيمَة لَا يقلعها إِلَّا الْجَمَاعَة، فنحاها عَن الْبَاب واستخرج مِنْهَا جَارِيَة حسناء، فَسَأَلَهَا عَن خَبَرهَا، وجلسا يأكلان مِمَّا جَاءَ بِهِ من الزَّاد، ثمَّ شربا، فَقَالَ لَهَا: قومِي، فَقَامَتْ، وَدخلت الْغَار. ثمَّ جَاءَ إِلَى أخي، فذبحه وَأَنا أرَاهُ، وسلخه، وَأكله وَحده، حَتَّى لم يدع مِنْهُ إِلَّا عِظَامه.

ثمَّ استدعى الْجَارِيَة، فَخرجت، وَجعلا يشربان، فَلَمَّا توَسط شربه، جرني، فَلم أَشك أَنه يُرِيد ذبحي، فَإِذا هُوَ قد طرحني فِي غَار من تِلْكَ المغارات، وَحل كتافي، وأطبق الْبَاب بصخرة عَظِيمَة، فأيست من الْحَيَاة، وَعلمت أَنه قد أدخرني لغد. فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل، لم أحس إِلَّا بِامْرَأَة تكلمني، فَقلت لَهَا: مَا بالك؟ فَقَالَت: إِن هَذَا العَبْد قد سكر ونام، وَهُوَ يذبحك فِي غَد كَمَا ذبح صَاحبك، فَإِن كَانَت لَك قُوَّة فاجهد فِي دفع الصَّخْرَة واخرج فاقتله، وأنج بِي وبنفسك. فَقلت: وَمن أَنْت؟ قَالَت: أَنا امْرَأَة من الْبَلَد الْفُلَانِيّ، ذَات نعْمَة، خرجت أُرِيد أَهلا لي فِي الْبَلَد الْفُلَانِيّ، فَخرج علينا هَذَا الْعَدو لله، فَأهْلك الْقَافِلَة الَّتِي كنت فِيهَا، ورآني فأخذني غصبا، وَأَنا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا شهرا، على هَذِه الصُّورَة، يرتكب مني الْحَرَام، وأشاهد ذبحه للنَّاس وَأكله لَهُم، وَلَا يُوصف لَهُ إِنْسَان بِشدَّة بدن إِلَّا قَصده، حَتَّى يَقْهَرهُ، ثمَّ يَجِيء بِهِ فيأكله، ويعتقد أَن شدته تنْتَقل إِلَيْهِ، وَإِذا خرج حَبَسَنِي فِي الْغَار، وَخلف عِنْدِي مَأْكُولا وَمَاء لأيام، وَلَو اتّفق أَنه يحتبس عني، فضل يَوْم، مت جوعا وعطشًا. فَقلت: إِنَّنِي مَا أُطِيق قلع الصَّخْرَة. قَالَت: وَيلك، فجرب نَفسك. قَالَ: فَجئْت إِلَى الصَّخْرَة فاعتمدت عَلَيْهَا بقوتي، فتحركت، فَإِذا قد وَقع تَحت الصَّخْرَة حَصَاة صَغِيرَة، وَقد صَارَت الصَّخْرَة مركبة تركيبًا صَحِيحا، وَذَلِكَ لما أَرَادَهُ الله تَعَالَى من خلاصي. فَقلت: أَبْشِرِي، وَلم أزل أجتهد، حَتَّى زحزحت الصَّخْرَة شَيْئا أمكنني الْخُرُوج مِنْهُ، فَخرجت.

فَأخذت سيف الْأسود، واعتمدت بكلتي يَدي فَضربت سَاقيه، فَإِذا قد أبنت أَحدهمَا وَكسرت الْأُخْرَى، فانتبه، ورام الْوُثُوب فَلم يقدر، فضربته الْأُخْرَى على حَبل عَاتِقه فَسقط، وضربته أُخْرَى فأبنت رَأسه. وعمدت إِلَى المغارات فَأخذت كلما وجدت فِيهَا من عين، وورق، وجوهر، وثوب فاخر خَفِيف الْحمل، وَأخذت زادًا لأيام، وَركبت رَاحِلَته، وأردفت الْمَرْأَة، وَلم أزل أسلك فِي طرق لَا أعرفهَا، حَتَّى وَقعت على محجة، فسلكتها، فأفضت بِي إِلَى بعض الْقرى، فَسلمت الرَّاحِلَة إِلَى الْمَرْأَة، وأعطيتها نَفَقَة تكفيها إِلَى بَلَدهَا، وسيرتها مَعَ خفراء، وعدت إِلَى بلدي بِتِلْكَ الْفَوَائِد الجليلة. وعاهدت الله تَعَالَى، أَن لَا أتعرض للطريق، وَلَا للخفارة أبدا. وَأَنا الْآن آكل من ضيَاع اشْتَرَيْتهَا من ذَلِك المَال، وأقوم بعمارتها، وأعيش من غَلَّتهَا، إِلَى الْآن

قارع سبعين من قطاع الطريق وانتصف منهم

قارع سبعين من قطاع الطَّرِيق وانتصف مِنْهُم وَحكى سعد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْأَزْدِيّ، الشَّاعِر الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالوحيد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ الْكرْدِي، رجل رَأَيْته بعسكر عمرَان بن شاهين قَصده من عِنْد حسنويه بن الْحُسَيْن الْكرْدِي، فَقبله، وأجرى عَلَيْهِ، وَكَانَ شجاعًا نجدًا، فَحَدثني، قَالَ: خرجنَا مرّة بالجبال، فِي أَيَّام موسم الْحَج، عددنا سَبْعُونَ رجلا، من فَارس وراجل، فاعترضنا الْحَاج الخراسانية، وكمنا لَهُم. وَكَانَ لنا عين فِي الْقَافِلَة، فَعَاد وعرفنا أَن فِي الْقَافِلَة رجلا من أهل شاش وفرغانة مَعَه أثنى عشر حملا بزًا، وَجَارِيَة فِي قبَّة عَلَيْهَا حلي ثقيل، فَجعلنَا أَعيننَا عَلَيْهِ، حَتَّى وثبنا عَلَيْهِ، وَهُوَ وجاريته فِي عمارية.

قَالَ: فقطعنا قطاره وكتفناه، وَأَدْخَلْنَاهُ وَمَا مَعَه بَين الْجبَال، ووقعنا على مَا مَعَه، وفرحنا بِالْغَنِيمَةِ. وَكَانَ للرجل برذون أصفر يُسَاوِي مِائَتي دِرْهَم، فَلَمَّا رآنا نُرِيد القفول، قَالَ: يَا فتيَان، هنأكم الله بِمَا أَخَذْتُم، وَلَكِنِّي رجل حَاج، بعيد الدَّار، فَلَا تتعرضوا لسخط الله بمنعي من الْحَج، وَأما المَال فَيذْهب وَيَجِيء، وتعلمون، أَنه لَا نجاة لي إِلَّا على هَذَا البرذون، فاتركوه لي، فَلَيْسَ يبين ثمنه فِي الْغَنِيمَة الَّتِي أخذتموها، فتشاورنا على ذَلِك. فَقَالَ شيخ فِينَا مجرب: لَا تردوه عَلَيْهِ، واتركوه مكتوفًا هُنَا، فَإِن كَانَ فِي أَجله تَأْخِير، فسيقيض الله لَهُ من يحل كِتَافِهِ، وَكنت فِيمَن عزم على هَذَا. وَقَالَ بَعْضنَا: مَا مِقْدَار دَابَّة بِمِائَتي دِرْهَم حَتَّى نمنعها رجلا حَاجا، فَلَا حَاجَة لنا فِيهَا، وَجعلُوا يرققون قُلُوب البَاقِينَ حَتَّى سمحنا بذلك، فأطلقناه، وَلم نَدع عَلَيْهِ إِلَّا ثوبا يستر عَوْرَته. فَقَالَ: يَا فتيَان، قد مننتم عَليّ، وأحسنتم إِلَيّ، ورددتم دَابَّتي، وأخشى إِذا أَنا سرت أَن يَأْخُذهَا غَيْركُمْ، فأعطوني قَوس ونشابي، أذب بهَا عَن نَفسِي وَعَن فرسي. فَقُلْنَا: إِنَّا لَا نرد سِلَاحا على أحد. فَقَالَ بَعْضنَا: وَمَا مِقْدَار قَوس قِيمَته دِرْهَمَانِ، وَمَا نخشى من مثل هَذَا؟ فأعطيناه قوسه ونشابه، وَقُلْنَا لَهُ: انْصَرف، فشكرنا، ودعا لنا، وَمضى حَتَّى غَابَ عَن أَعيننَا. فَمَا كدنا نسير، وَالْجَارِيَة تبْكي، وَتقول: أَنا حرَّة، وَلَا يحل لكم أَن تأخذوني. فَنحْن فِي هَذَا، وَإِذا بِالرجلِ قد كرّ رَاجعا، وَقَالَ: يَا فتيَان، أَنا لكم نَاصح، فَإِنَّكُم قد أَحْسَنْتُم إِلَيّ، وَلَا بُد لي من مكافأتكم على إحسانكم، بنصيحتي لكم. فَقُلْنَا: وَمَا نصيحتك؟

فَقَالَ: دعوا مَا فِي أيدكم، وَانْصَرفُوا سَالِمين بِأَنْفُسِكُمْ، وَلكم الْفضل، فَإِنَّكُم مننتم على رجل وَاحِد، وَأَنا أَمن على سبعين رجلا، وَإِذا هُوَ قد انقلبت عَيناهُ فِي وَجهه، وَخرج الزّبد من أشداقه، وَصَارَ كَالْجمَلِ الهائج. فهزأنا بِهِ، وضحكنا عَلَيْهِ، وَلم نلتفت إِلَى كَلَامه، فَأَعَادَ علينا النَّصِيحَة، وَقَالَ: يَا قوم قد مننت عَلَيْكُم، فَلَا تجْعَلُوا لي إِلَى أرواحكم سَبِيلا. فَزَاد غيظنا عَلَيْهِ، فقصدناه، وحملنا عَلَيْهِ، فانحاز منا، وَرمى بِخمْس نشابات، كَانَت بِيَدِهِ، فَقتل بهَا منا خَمْسَة، وَاحِدًا، وَاحِدًا. وَقَالَ: إِن جماعتكم تَمُوت على هَذَا، إِن لم تخلوا عَمَّا فِي أَيْدِيكُم. فَلم نزل ندافعه، وَيقتل منا، حَتَّى قتل ثَلَاثِينَ رجلا، وَبَقِي مَعَه نشاب فِي جعبته. فَقُلْنَا: أما ترَوْنَ وَيحكم أَنه لم يخط لَهُ سهم وَاحِد؟ وأحجمت الْجَمَاعَة عَنهُ، وأفرجنا عَن الْجمال والقبة، فَصَارَ القطار فِي حوزته. فتنكس وَنحن نرَاهُ، ففتق عدلا بِسيف أخرجه من رَحْله، وَأخرج مِنْهُ جعبة نشاب، وأراناها، فَلَمَّا رَأينَا مَا صَار إِلَيْهِ من النشاب يئسنا مِنْهُ وولينا عَنهُ. فَقَالَ: يَا فتيَان، سألتكم هَذَا فَلم تُجِيبُونِي إِلَيْهِ فَمن نزل عَن دَابَّته فَهُوَ آمن، وَمن أحب أَن يكون فَارِسًا، فَهُوَ بِشَأْنِهِ أبْصر. فشددنا عَلَيْهِ، فَقتل منا جمَاعَة، فاضطررنا إِلَى أَن ترجلنا، فحاز دوابنا وَحده، وساقها قَلِيلا. ثمَّ رَجَعَ، وَقَالَ: أطالبكم بحكمكم، من رمى سلاحه فَهُوَ آمن، وَمن تمسك بِهِ فَهُوَ أبْصر، فرمينا سِلَاحنَا. فَقَالَ: امضوا سَالِمين آمِنين، فَأخذ جَمِيع السِّلَاح وَالدَّوَاب، وَإِنَّا لندعوها

بأسمائها، فتشذ عَنهُ، فيرميها فيصرعها، حَتَّى قتل مِنْهَا جمَاعَة، وفاتتنا الْغَنِيمَة، وَالسِّلَاح. وَكَانَ ذَلِك سَبَب تَوْبَتِي، أَنَفَة لما لحقنا مِنْهُ، وَأَنا على ذَلِك الْحَال إِلَى الْيَوْم.

الباب الثاني عشر

الْبَاب الثَّانِي عشر فِيمَن أَلْجَأَهُ الْخَوْف إِلَى هرب واستتار فأبدل بأمن ومستجد نعم ومسار يحيى بن طَالب الْحَنَفِيّ يبارح وَطنه مدينا وَيعود إِلَيْهِ مُوسِرًا أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى الصولي، فِيمَا أجَاز لي رِوَايَته عَنهُ، بَعْدَمَا سمعته مِنْهُ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الْغلابِي، قَالَ: غَنِي الرشيد يَوْمًا بِهَذَا الشّعْر: أَلا هَل إِلَى شمّ الخزامى ونظرةٍ ... إِلَى قرقرى قبل الْمَمَات سَبِيل فيا أَثلَاث القاع من بطن توضحٍ ... حنيني إِلَى أظلالكنّ طَوِيل أُرِيد نهوضًا نحوكم فيصدّني ... إِذا رمته دينٌ عليّ ثقيل قَالَ مؤلف الْكتاب: وَوجدت الشّعْر فِي غير هَذِه الرِّوَايَة:

وَيَا أَثلَاث القاع قد ملّ صحبتي ... صَحَابِيّ فَهَل فِي ظلّكنّ مقيل أحدّث نَفسِي عَنْك أَن لست رَاجعا ... إِلَيْك فحزني فِي الْفُؤَاد دخيل رَجَعَ للْحَدِيث. فَاسْتحْسن الرشيد الشّعْر، وَسَأَلَ عَن قَائِله، فَعرف أَنه ليحيى بن طَالب الْحَنَفِيّ اليمامي. فَقَالَ: حَيّ هُوَ أم ميت؟ فَقَالَ بعض الْحَاضِرين: هُوَ حَيّ كميت. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: هرب من الْيَمَامَة، لدين عَلَيْهِ ثقيل، فَصَارَ إِلَى الرّيّ. فَأمر الرشيد أَن يكْتب إِلَى عَامله بِالريِّ، يعرفهُ ذَلِك، وَأَن يدْفع إِلَيْهِ عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَأَن يحمل إِلَى الْيَمَامَة على دَوَاب الْبَرِيد، وَكتب إِلَى عَامله بِالْيَمَامَةِ بِقَضَاء دينه. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، قَالَ الرشيد لمن حَضَره: إِن الْكتب وَردت بامتثال مَا أمرت بِهِ. وَعَاد يحيى إِلَى وَطنه مُوسِرًا، وَقد قضي دينه عَنهُ، من غير سعي مِنْهُ فِي ذَلِك.

العتابي يؤدب الأمين والمأمون

العتابي يُؤَدب الْأمين والمأمون ذكر مُحَمَّد بن عَبدُوس فِي كِتَابه (كتاب الوزراء) ، قَالَ: حَدثنِي عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد، يَعْنِي الخصيبي، قَالَ: حَدثنِي يَمُوت بن المزرع، قَالَ: كَانَ العتابي، يَقُول بالاعتزال، فاتصل ذَلِك بالرشيد، وَكثر عَلَيْهِ فِي أمره، فَأمر فِيهِ بِأَمْر غليظ، فهرب إِلَى الْيمن، وَكَانَ مُقيما فِيهَا على خوف وتوق. فاحتال يحيى بن خَالِد، إِلَى أَن أسمع الرشيد شَيْئا من خطبه ورسائله، فاستحسنها الرشيد، وَسَأَلَ عَن الْكَلَام لمن هُوَ؟ فَقَالَ يحيى: هُوَ كَلَام العتابي، وَإِن رَأَيْت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَن يحضر حَتَّى يسمع الْأمين والمأمون، وَيَضَع لَهما خطبًا، لَكَانَ فِي ذَلِك صلاحًا لَهما.

فَأَمنهُ الرشيد، وَأمر بإحضاره. وَلما اتَّصل خبر ذَلِك بالعتابي، قَالَ يمدح يحيى بن خَالِد: مَا زلت فِي سَكَرَات الْمَوْت مطّرحًا ... قد غَابَ عنّي وَجه الأَرْض من خبلي فَلم تزل دائبًا تسْعَى لتنقذني ... حَتَّى أختلست حَياتِي من يَد الْأَجَل

لماذا قتل أبو سلمة الخلال

لماذا قتل أَبُو سَلمَة الْخلال وَذكر فِي بعض كتب الدولة: أَن أَبَا سَلمَة الْخلال، لما قوي الدعاة، وشارفوا الْعرَاق، وَقد ملكوا خُرَاسَان وَمَا بَينهَا وَبَين الْعرَاق، استدعى بني الْعَبَّاس، فصيرهم فِي منزله بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ لَهُ سرداب، فَجعل فِيهِ جَمِيع من كَانَ حَيا فِي ذَلِك الْوَقْت من ولد عبد الله ابْن الْعَبَّاس، وَفِيهِمْ السفاح، والمنصور، وَعِيسَى بن مُوسَى، وَهُوَ يُرَاعِي الْأَخْبَار. وَكَانَ الدعاة يؤمرون بِقَصْدِهِ إِذا ظَهَرُوا وغلبوا على الْكُوفَة، ليعرفهم الإِمَام، فيسلمون الْأَمر إِلَيْهِ. فَلَمَّا أوقع قَحْطَبَةَ بِابْن هُبَيْرَة الْوَقْعَة الْعَظِيمَة على الْفُرَات، وغرق قَحْطَبَةَ، وَانْهَزَمَ ابْن هُبَيْرَة، وَلحق بواسط، وتحصن بهَا، وَدخل ابْنا قَحْطَبَةَ الْكُوفَة

بالعسكر كُله، قَالُوا لأبي سَلمَة: أخرج إِلَيْنَا الإِمَام، فدافعهم، وَقَالَ: لم يحضر الْوَقْت الَّذِي يجوز فِيهِ ظُهُور الإِمَام، وأخفى الْخَبَر عَن بني الْعَبَّاس، وَعمل على نقل الْأَمر عَنْهُم، إِلَى ولد فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهُم، وَكَاتب جمَاعَة مِنْهُم، فتأخروا عَنهُ. وساء ظن بني الْعَبَّاس بِهِ، فاحتالوا حَتَّى أخرجُوا مولى لَهُم أسود كَانَ مَعَهم فِي السرداب، وَقَالُوا لَهُ: اعرف لنا الْأَخْبَار، فَعَاد إِلَيْهِم، وعرفهم أَن قَحْطَبَةَ غرق، وَأَن ابْن هُبَيْرَة انهزم، وَأَن ابْني قَحْطَبَةَ قد دخلا الْكُوفَة بالعسكر مُنْذُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالُوا: اخْرُج وَتعرض لِابْني قَحْطَبَةَ، وأعلمهما بمكاننا، ومرهما بِأَن يكبسا الدَّار علينا ويخرجانا. فَخرج الْمولى، وَكَانَ حميد بن قَحْطَبَةَ عَارِفًا بِهِ، فتعرض لَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أعظم رُؤْيَته، وَقَالَ: وَيلك مَا فعل سادتنا، وَأَيْنَ هم؟ فخبره بخبرهم، وَأدّى إِلَيْهِ رسالتهم. فَركب فِي قِطْعَة من الْجَيْش، وَأَبُو سَلمَة غافل، فجَاء حَتَّى ولج الدَّار، وَأرَاهُ الْأسود السرداب، فَدخل وَمَعَهُ نفر من الْجَيْش، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته. فَقَالُوا: وَعَلَيْكُم السَّلَام. فَقَالَ: أَيّكُم ابْن الحارثية؟ وَكَانَت أم أبي الْعَبَّاس عبد الله بن مُحَمَّد بن

عَليّ بن عبد الله، وَكَانَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، الَّذِي يُقَال لَهُ الإِمَام، لما بَث الدعاة، قَالَ لَهُم: إِن حدث بعدِي حدث، فالإمام ابْن الحارثية الَّذِي مَعَه الْعَلامَة، وَهِي: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [الْقَصَص: 5-6] . قَالَ: فَلَمَّا قَالَ ابْن قَحْطَبَةَ: أَيّكُم ابْن الحارثية؟ ابتدره أَبُو الْعَبَّاس، وَأَبُو جَعْفَر، كِلَاهُمَا يَقُول: أَنا ابْن الحارثية. فَقَالَ ابْن قَحْطَبَةَ: فأيكما مَعَه الْعَلامَة؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: فَعلمت أَنِّي قد أخرجت من الْأَمر، لِأَنَّهُ لم يكن معي عَلامَة. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} [الْقَصَص: 5] وتلا الْآيَة. فَقَالَ لَهُ حميد بن قَحْطَبَةَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، مد يدك أُبَايِعك، فَبَايعهُ. ثمَّ انتضى سَيْفه، وَقَالَ: بَايعُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَبَايعهُ أخوته، وبنوا عَمه، وعمومته، وَالْجَمَاعَة الَّذين كَانُوا مَعَه فِي السرداب. وَأخرجه إِلَى الْمِنْبَر بِالْكُوفَةِ، وَأَجْلسهُ عَلَيْهِ، فحصر أَبُو الْعَبَّاس عَن الْكَلَام، فَتكلم عَنهُ عَمه دَاوُد بن عَليّ، فَقَامَ دونه على الْمِنْبَر بمرقاة، وَجَاء أَبُو سَلمَة،

وَقد استوحش وَخَافَ. فَقَالَ حميد: يَا أَبَا سَلمَة، زعمت أَن الإِمَام لم يقدم بعد؟ فَقَالَ أَبُو سَلمَة: إِنَّمَا أردْت أَن أدافع بخروجهم إِلَى أَن يهْلك مَرْوَان، فَإِن كَانَت لَهُ كرة لم يَكُونُوا قد عرفُوا فيهلكوا، وَإِن هلك مَرْوَان أظهرت أَمرهم على ثِقَة. فأظهر أَبُو الْعَبَّاس قبُول هَذَا الْعذر مِنْهُ، وَأَقْعَدَهُ إِلَى جَانِبه، ثمَّ دبر عَلَيْهِ بعد مُدَّة حَتَّى قَتله. وَقد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر على غير هَذَا السِّيَاق، فَقَالُوا: قدم أَبُو الْعَبَّاس السفاح وَأَهله على أبي سَلمَة سرا، فَستر أَمرهم، وعزم على أَن يَجْعَلهَا شُورَى بَين ولد عَليّ وَالْعَبَّاس، حَتَّى يختاروا مِنْهُم من أَرَادوا. ثمَّ خَافَ أَن لَا يتَّفق على الْأَمر، فعزم على أَن يعدل بِالْأَمر إِلَى ولد الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُم، وهم ثَلَاثَة: جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَعبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ، وَعمر بن عَليّ بن الْحُسَيْن. وَوجه بكتب إِلَيْهِم مَعَ رجل من مواليهم من سَاكِني الْكُوفَة. فَبَدَأَ بِجَعْفَر بن مُحَمَّد، فَلَقِيَهُ لَيْلًا، فَأعلمهُ أَنه رَسُول أبي سَلمَة، وَأَن مَعَه كتابا إِلَيْهِ. فَقَالَ: مَا أَنا وَأَبُو سَلمَة، وَهُوَ شيعَة لغيري؟ فَقَالَ لَهُ الرَّسُول: تقْرَأ الْكتاب، وتجيب عَنهُ بِمَا رَأَيْت. فَقَالَ جَعْفَر لِخَادِمِهِ، قرب مني السراج، فقربه، فَوضع عَلَيْهِ كتاب أبي سَلمَة، فأحرقه. فَقَالَ: أَلا تجيب عَنهُ؟

فَقَالَ: الْجَواب مَا رَأَيْت. ثمَّ أَتَى عبد الله بن الْحسن، فَقبل كِتَابه، وَركب إِلَى جَعْفَر. فَقَالَ جَعْفَر: مرْحَبًا بك أَبَا مُحَمَّد، لَو أعلمتني لجئتك. فَقَالَ: إِنَّه أَمر يجل عَن الْوَصْف. فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هَذَا كتاب أبي سَلمَة يدعوني فِيهِ إِلَى الْأَمر، ويراني أَحَق النَّاس بِهِ، وَقد جَاءَ بِهِ شِيعَتِنَا من خُرَاسَان. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: وَمَتى صَارُوا شيعتك؟ أَنْت وجهت أَبَا مُسلم إِلَى خُرَاسَان، وأمرته بِلبْس السوَاد؟ أتعرف أحدا مِنْهُم باسمه وَنسبه؟ قَالَ: لَا. قَالَ: كَيفَ يكونُونَ شيعتك، وَأَنت لَا تعرف أحدا مِنْهُم، وَلَا يعرفونك؟ فَقَالَ عبد الله: هَذَا الْكَلَام كَانَ مِنْك لشَيْء. فَقَالَ جَعْفَر: قد علم الله تَعَالَى أَنِّي أوجب النصح على نَفسِي لكل مُسلم، فَكيف أدخره عَنْك، فَلَا تمنين نَفسك الأباطيل، فَإِن هَذِه الدولة ستتم لهَؤُلَاء الْقَوْم، وَمَا هِيَ لأحد من ولد أبي طَالب، وَقد جَاءَنِي مثل مَا جَاءَك. فَانْصَرف غير رَاض بِمَا قَالَه لَهُ. وَأما عمر بن عَليّ بن الْحُسَيْن، فَرد عَلَيْهِ الْكتاب، وَقَالَ: لَا أعرف من كتبه. قَالَ: وَأَبْطَأ أَبُو سَلمَة على أبي الْعَبَّاس وَمن مَعَه، فَخرج أَصْحَابه يطوفون بِالْكُوفَةِ، فلقي حميد بن قَحْطَبَةَ، وَمُحَمّد بن صول أحد مواليهم، فعرفاه،

لِأَنَّهُ كَانَ يحمل إِلَيْهِم كتب مُحَمَّد بن عَليّ وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، فَسَأَلَاهُ عَن الْخَبَر، فأعلمهما أَن الْقَوْم قد قدمُوا، وَأَنَّهُمْ فِي سرداب يعرف ببني أود، فصارا إِلَى الْموضع، فسلما عَلَيْهِم. وَقَالا: أيكما عبد الله؟ فَقَالَ الْمَنْصُور وَأَبُو الْعَبَّاس: كِلَانَا عبد الله. فَقَالَ: أيكما ابْن الحارثية؟ فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أَنا. فَقَالَا: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته، ودنوا فَبَايعُوهُ. وأحضروه إِلَى الْمَسْجِد الْجَامِع، فَصَعدَ على الْمِنْبَر، فحصر، وَتكلم عَنهُ عَمه دَاوُد بن عَليّ، وَقَامَ دونه بمرقاة.

أمير البصرة العباسي يحمي أمويا

أَمِير الْبَصْرَة العباسي يحمي أمويًا أخبرنَا أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: حَدثنَا عمر بن شبة، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: أَخْبرنِي، طَارق بن الْمُبَارك عَن أَبِيه، قَالَ: جَاءَنِي رَسُول عَمْرو بن مُعَاوِيَة بن عَمْرو بن عتبَة، فَقَالَ لي: يَقُول لَك عَمْرو: قد جَاءَت هَذِه الدولة وَأَنا حَدِيث السن، كثير الْعِيَال، منتشر الْأَمْوَال، فَمَا أكون فِي قَبيلَة إِلَّا وَشهر أَمْرِي، وَقد عزمت على أَن أفدي حرمي بنفسي، وَأَنا صائر إِلَى بَاب الْأَمِير سُلَيْمَان بن عَليّ، فصر إِلَيّ. فوافيته، فَإِذا عَلَيْهِ طيلسان مطبق أَبيض، وَسَرَاويل وشي مشدود.

فَقلت: سُبْحَانَ الله، مَا تصنع الْحَادِثَة بِأَهْلِهَا، أَيهَا الْإِنْسَان تلقى هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين تُرِيدُ لقاءهم وَعَلَيْك مثل هَذَا؟ قَالَ: وَالله، مَا ذهب عَليّ ذَلِك، وَلَكِن لَيْسَ عِنْدِي ثوب، إِلَّا وَهُوَ أشهر من هَذَا. فأعطيته طيلساني، وَأخذت طيلسانه، ولويت سراويله إِلَى ركبته، فَدخل، ثمَّ خرج مَسْرُورا. فَقلت: حَدثنِي بِمَا جرى بَيْنك وَبَين الْأَمِير. قَالَ: دخلت إِلَيْهِ، وَلم يرني قطّ، فَقلت: أَيهَا الْأَمِير، لفظتني الْبِلَاد إِلَيْك، ودلني فضلك عَلَيْك، فإمَّا قبلتني غانمًا، وَإِمَّا رددتني سالما. فَقَالَ: من أَنْت؟ فانتسبت إِلَيْهِ. فَقَالَ: مرْحَبًا، أقعد فَتكلم، غانمًا مَسْرُورا، ثمَّ اقبل عَليّ، وَقَالَ: مَا حَاجَتك يَابْنَ أخي؟ فَقلت: إِن الْحرم اللواتي أَنْت أقرب النَّاس إلَيْهِنَّ، قد خفن بخوفنا، وَمن خَافَ خيف عَلَيْهِ. فوَاللَّه مَا أجابني إِلَّا بدموعه تسيل على خديه، وَقَالَ: يَابْنَ أخي، يحقن الله دمك، ويحفظك فِي حَرمك، ويوفر عَلَيْك مَالك، وَالله، لَو أمكنني ذَلِك فِي جَمِيع أهلك لفَعَلت، وَلَكِن كن متواريًا كظاهر، وآمنًا كخائف، ولتأتني رقاعك. قَالَ: وَكَانَ، وَالله، يكْتب إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يكْتب الرجل إِلَى ابْن عَمه.

قَالَ: فَلَمَّا فرغ من كَلَامه، رددت عَلَيْهِ طيلسانه، فَقَالَ: مهلا، إِن ثيابنا إِذا خرجت عَنَّا، لم تعد إِلَيْنَا. وَوجدت هَذَا الْخَبَر، بِإِسْنَاد لَيْسَ هُوَ لي، بِرِوَايَة عَن الْعُتْبِي، قَالَ: حَدثنَا طَارق بن الْمُبَارك الذِّرَاع الْبَصْرِيّ، وَلم يتجاوزه، قَالَ: قدم جدك عَمْرو بن مُعَاوِيَة الْبَصْرَة، حِين نكب بَنو أُميَّة، قَالَ: فَجعل لَا ينزل بحي، إِلَّا أجهزوه واشتهر. فَقَالَ لي: أذهب بِنَا أَضَع يَدي فِي يَد هَذَا الرجل، يَعْنِي سُلَيْمَان بن عَليّ، وَذكر نَحوه. وَقَالَ فِي آخِره: فَلَمَّا صَار عَمْرو إِلَى منزله، دفعت إِلَيْهِ ثَوْبه، وَطلبت ثوبي، فردهما عَليّ جَمِيعًا، وَقَالَ: إِنَّا لم نَأْخُذ ثَوْبك لنحبسه، وَلم نعطك ثوبنا لترده.

عبد الملك بن مروان يؤمن ابن قيس الرقيات ويحرمه العطاء

عبد الْملك بن مَرْوَان يُؤمن ابْن قيس الرقيات ويحرمه الْعَطاء أَخْبرنِي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، إجَازَة فِي كِتَابه: الأغاني الْكَبِير، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْعَبَّاس اليزيدي، وَأَبُو عبد الله الحرمي بن أبي الْعَلَاء وَغَيرهمَا، قَالُوا: حَدثنَا الزبير بن بكار، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن الْبَصِير الْبَرْبَرِي، مولى قيس بن عبد الله بن الزبير، عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ عبيد الله بن قيس الرقيات: خرجت مَعَ مُصعب بن الزبير، حِين بلغه خُرُوج عبد الْملك بن مَرْوَان، فَلَمَّا نزل مُصعب مسكن، وَتبين الْغدر مِمَّن مَعَه، دَعَاني، ودعا بِمَال، فَمَلَأ المناطق مِنْهُ، وألبسنيها. وَقَالَ: امْضِ حَيْثُ شِئْت، فَإِنِّي مقتول. فَقلت: لَا وَالله، لَا أروح حَتَّى آتِي سَبِيلك، فأقمت مَعَه حَتَّى قتل. ومضيت إِلَى الْكُوفَة، فَأول بَيت دَخلته إِذا فِيهِ امْرَأَة مَعهَا بنتان كَأَنَّهُمَا

ظبيتان، فرقيت فِي دَرَجَة لَهَا إِلَى مستشرف، فَقَعَدت فِيهِ. قَالَ: فأصعدت لي مَا أحتاج إِلَيْهِ من الطَّعَام، وَالشرَاب، والفرش، وَالْمَاء، وَالْوُضُوء. فأقمت كَذَلِك عِنْدهَا أَكثر من حولن تقوم بِكُل مَا يصلحني، وتغدو عَليّ فِي كل صباح، فتسألني عَن حوائجي، فَمَا سَأَلتنِي من أَنا، وَلَا أَنا سَأَلتهَا من هِيَ؟ وَأَنا فِي أثْنَاء ذَلِك أسمع الصياح فِي، والجعل. فَلَمَّا طَال بِي الْمقَام، وفقدت الصياح والجعل، وغرضت بمكاني، جَاءَت إِلَيّ فِي الصَّباح تَسْأَلنِي الْحَاجة، فأعلمتها أَنِّي قد غرضت بموضعي، وأحببت الشخوص إِلَى أَهلِي. فَقَالَت لي: يَأْتِيك مَا تحْتَاج إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ: فَلَمَّا أمسيت، وَضرب اللَّيْل برواقه، رقت إِلَيّ، وَقَالَت: إِن شِئْت فَنزلت، وَقد أعدت راحلتين، عَلَيْهِمَا جَمِيع مَا أحتاج إِلَيْهِ، ومعهما عبد، وأعطت العَبْد نَفَقَة الطَّرِيق، وَقَالَت: العَبْد والراحلتان لَك. فركبت، وَركب معي العَبْد، حَتَّى أتيت مَكَّة، فدققت بَاب منزلي، فَقَالُوا: من أَنْت يَا هَذَا؟ فَقلت: عبيد الله بن قيس الرقيات، فولولوا، وَبكوا، وَقَالُوا: لم يرْتَفع طَلَبك إِلَّا فِي هَذَا الْوَقْت. فتوقفت عِنْدهم حَتَّى أسحرت، ونهضت، فَقدمت الْمَدِينَة، وَمَعِي العَبْد، فَجئْت إِلَى عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُم، وَهُوَ يعشي

أَصْحَابه، فَجَلَست مَعَهم، وَجعلت أتعاجم، وَأَقُول: بناريناواي طيار. فَلَمَّا خرج أَصْحَابه، كشفت لَهُ عَن وَجْهي، فَقَالَ: ابْن قيس؟ فَقلت: عائذًا بك. فَقَالَ: وَيحك، مَا أجدهم فِي طَلَبك، وأحرصهم على الظفر بك، وَلَكِنِّي أكتب إِلَى أم الْبَنِينَ بنت عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان، وَهِي زَوْجَة الْوَلِيد بن عبد الْملك، وَعبد الْملك أرق شَيْء عَلَيْهَا. فَكتب إِلَيْهَا يسْأَلهَا التشفع إِلَى عَمها عبد الْملك. فَلَمَّا وَصلهَا الْكتاب، دخلت على عَمها، فَسَأَلَهَا: هَل من حَاجَة؟ قَالَت: نعم، لي حَاجَة. فَقَالَ: قد قضيت كل حَاجَة لَك، إِلَّا ابْن قيس الرقيات. فَقَالَت: لَا تستثنين عَليّ. فَنفخ بِيَدِهِ، فَأصَاب حر وَجههَا، فَوضعت يَدهَا على خدها. فَقَالَ لَهَا: ارفعي يدك، فقد قضيت كل حَاجَة لَك وَإِن كَانَت ابْن قيس الرقيات. فَقَالَت: حَاجَتي أَن تؤمنه، فقد كتب إِلَيّ يسألني أَن أَسأَلك ذَلِك. قَالَ: هُوَ آمن، فمريه يحضر الْمجْلس العشية. فَحَضَرَ، وَحضر النَّاس، حِين بَلغهُمْ، مجْلِس عبد الْملك. قَالَ: فَأخر الْإِذْن لِابْنِ قيس، وَأذن للنَّاس، فَدَخَلُوا، وَأخذُوا مجَالِسهمْ، ثمَّ أذن لَهُ. فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ، قَالَ عبد الْملك: يَا أهل الشَّام أتعرفون من هَذَا؟ قَالُوا: لَا.

قَالَ: هَذَا ابْن قيس الرقيات، الَّذِي يَقُول: كَيفَ نومي على الْفراش ولمّا ... تَشْمَل الشَّام غارةٌ شعواء تذهل الشَّيْخ عَن بنيه وتبدي ... عَن خدام العقيلة الْعَذْرَاء فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، اسقنا دم هَذَا الْمُنَافِق. قَالَ: الْآن، وَقد أمنته، وَصَارَ فِي منزلي وعَلى بساطي؟ قد أخرت الْإِذْن لَهُ لتقتلوه، فَلم تَفعلُوا. فاستأذنه ابْن قيس، أَن ينشده مديحه، فَأذن لَهُ، فأنشده قصيدته الَّتِي يَقُول فِيهَا: عَاد لَهُ من كَثِيرَة الطَّرب ... فعينه بالدموع تنسكب كوفيّة نازح محلّتها ... لَا أُمَم دارها وَلَا صَعب والله مَا إِن صبَّتْ إليّ وَلَا ... يعرف بيني وَبَينهَا نسب إِلَّا الَّذِي أورثت كَثِيرَة فِي الْقلب ... وللحبّ { [ٌ عجب حَتَّى قَالَ فِيهَا: إنّ الأغرّ الَّذِي أَبوهُ أَبُو ... الْعَاصِ عَلَيْهِ الْوَقار والحجب يعتدل التَّاج فَوق مفرقه ... على جبين كأنّه الذَّهَب فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: يَابْنَ قيس، تمدحني بالتاج، كَأَنِّي من الْعَجم، وَتقول فِي مُصعب ابْن الزبير: إنّما مصعبٌ شهابٌ من الله ... تجلّت عَن وَجهه الظلماء ملكه ملك رأفةٍ لَيْسَ فِيهِ ... جبروت مِنْهُ وَلَا كبرياء

أما الْأمان فقد سبق لَك، وَلَكِن، وَالله، لَا تَأْخُذ مَعَ الْمُسلمين عَطاء أبدا. وَأَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، عَن حَمَّاد بن إِسْحَاق، عَن أَبِيه: أَن عبيد الله بن قيس الرقيات، مَنعه عبد الْملك بن مَرْوَان عطاءه من بَيت المَال، وَطَلَبه ليَقْتُلهُ، فَاسْتَجَارَ بِعَبْد الله بن جَعْفَر، وقصده، فالتقاه نَائِما. وَكَانَ ابْن قيس صديقا لسائب خاثر، فَطلب الْإِذْن على ابْن جَعْفَر، فَتعذر، فجَاء بسائب خاثر ليستأذن لَهُ. قَالَ سائب خاثر: فَجئْت من قبل رجْلي عبد الله بن جَعْفَر، ونبحت نباح الجرو الصَّغِير، فانتبه وَلم يفتح عَيْنَيْهِ، ورفسني بِرجلِهِ. قَالَ: فَدرت إِلَى عِنْد رَأسه، ونبحت نباح الْكَلْب الْهَرم، فانتبه وَفتح عَيْنَيْهِ. فَقَالَ: مَالك، وَيلك؟ فَقلت: عبيد الله بن قيس الرقيات بِالْبَابِ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَأَذنت لَهُ، وَدخل، فَرَحَّبَ بِهِ عبد الله وقربه، فَعرفهُ ابْن قيس خَبره. فَدَعَا بظبية فِيهَا دَنَانِير، وَقَالَ لي: عد لَهُ مَا فِيهَا. فَجعلت أعد لَهُ، وأطرب، وَأحسن صوتي بجهدي، حَتَّى عددت لَهُ ثَلَاث مائَة دِينَار، وَسكت. فَقَالَ عبد الله: لماذا سكت، وَيلك؟ مَا هَذَا وَقت قطع الصَّوْت الْحسن.

فَجعلت أعد مَا فِي الظبية، وفيهَا ثَمَان مائَة دِينَار، فَدَفعهَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا قبضهَا الْتفت إِلَى ابْن جَعْفَر، وَقَالَ لَهُ: تسْأَل أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمْرِي؟ قَالَ: نعم، إِذا دخلت عَلَيْهِ، ثمَّ إِنَّه دَعَا لَهُ بِطَعَام، فَأكل أكلا فَاحِشا، وَركب ابْن جَعْفَر، فَدخل مَعَه إِلَى عبد الْملك، فَلَمَّا قدم الطَّعَام جعل يسيء الْأكل. فَقَالَ عبد الْملك، لِابْنِ جَعْفَر: من هَذَا؟ قَالَ هَذَا رجل لَا يجوز أَن يكون كَاذِبًا إِن اُسْتُبْقِيَ، وَإِن قتل كَانَ أكذب النَّاس. قَالَ: كَيفَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَقُول: مَا نقموا من بني أميّة إِلَّا ... أنّهم يحلمون إِن غضبوا فَإِن قتلته بِغَضَبِك عَلَيْهِ أكذبكم فِيمَا مدحكم بِهِ. قَالَ: فَهُوَ آمن، وَلَكِن لَا أعْطِيه عَطاء من بَيت المَال. قَالَ: أحب أَن تهب لي عطاءه، كَمَا وهبت لي دَمه. قَالَ: قد فعلت، وَأمر لَهُ بذلك.

هشام بن عبد الملك وحماد الراوية

هِشَام بن عبد الْملك وَحَمَّاد الراوية عَن حَمَّاد الراوية، قَالَ: كَانَ انقطاعي إِلَى يزِيد بن عبد الْملك، جعل هِشَام يجفوني دون سَائِر أَهله من بني أُميَّة، فِي أَيَّام يزِيد. فَلَمَّا مَاتَ يزِيد، وأفضت الْخلَافَة إِلَى هِشَام خفته، وَمَكَثت فِي بَيْتِي سنة، لَا أخرج إِلَّا إِلَى من أَثِق بِهِ من إخْوَانِي سرا. فَلَمَّا لم أسمع أحدا يذكرنِي، أمنت، فَخرجت فَصليت الْجُمُعَة عِنْد بَاب الْفِيل، فَإِذا بشرطيين قد وَقفا عَليّ. وَقَالا: يَا حَمَّاد أجب الْأَمِير يُوسُف بن عمر. فَقلت فِي نَفسِي: من هَذَا كنت أحذر، ثمَّ قلت للشرطيين: هَل لَكمَا أَن تدعاني آتِي بَيْتِي، فأودع أَهلِي، وداع من لَا يرجع إِلَيْهِم أبدا، ثمَّ أصير مَعَكُمَا؟ فَقَالَا: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل. فاستسلمت فِي أَيْدِيهِمَا، وصرت إِلَى الْأَمِير وَهُوَ فِي الإيوان الْأَحْمَر، فَسلمت عَلَيْهِ، فَرد عَليّ السَّلَام، وَرمى إِلَيّ كتابا فِيهِ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم،

من عبد الله هِشَام أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى يُوسُف بن عمر، أما بعد، فَإِذا قَرَأت كتابي هَذَا، فَابْعَثْ إِلَى حَمَّاد الراوية من يَأْتِيك بِهِ من غير أَن يروع وَلَا يتعتع، وادفع إِلَيْهِ خمس مائَة دِينَار، وجملًا مهريًا، يسير عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة إِلَى دمشق، فَأخذت الْخمس مائَة دِينَار، وَإِذا جمل مرحول، فَجعلت رجْلي فِي الغرز، وسرت اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة، حَتَّى دانيت دمشق. وَنزلت على بَاب هِشَام، واستأذنت عَلَيْهِ، فَأذن لي، فَدخلت عَلَيْهِ فِي دَار قوراء، مفروشة بالرخام، وَبَين كل رخامتين قضيب ذهب، وحيطانه كَذَلِك، وَهِشَام جَالس على طنفسة حَمْرَاء، وَعَلِيهِ ثِيَاب خَز حمر، وَقد تضمخ بالمسك والعنبر، وَبَين يَدَيْهِ مسك مفتوت فِي أواني ذهب، يقلبه بِيَدِهِ، فتفوح رَائِحَته. فَسلمت عَلَيْهِ، فَرد عَليّ، واستدناني، فدنوت مِنْهُ، حَتَّى قبلت رجله. وَإِذا جاريتان لم أر مثلهمَا، فِي أذن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حلقتان فيهمَا لؤلؤتان تتوقدان. قَالَ: أَتَدْرِي فيمَ بعثت إِلَيْك؟ قلت: لَا. قَالَ: بعثت إِلَيْك بِسَبَب بَيت خطر فِي بالي، لم أدر من قَائِله. قلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: ودعوا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينةٌ فِي يَمِينهَا إبريق

فَقلت: هَذَا يَقُوله عدي بن زيد الْعَبَّادِيّ، فِي قصيدة لَهُ. قَالَ: أنشدنيها، فَأَنْشَدته: بكّر العاذلون فِي وضح الصُّبْح ... يَقُولُونَ لي أما تستفيق ويلومون فِيك يَا ابْنة عبد الله ... وَالْقلب عنْدكُمْ موثوق لست أَدْرِي إِذْ أَكْثرُوا العذل فِيهَا ... أعدوّ يلومني أم صديق ودعوا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينةٌ فِي يَمِينهَا إبريق قدّمته على عقار كعين ... الديك صفّى خلالها الراووق قَالَ: فطرب، ثمَّ قَالَ: أَحْسَنت يَا حَمَّاد، وَالله، يَا جَارِيَة: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بِثلث عَقْلِي. وَقَالَ: أعد. فأعدته، فاستخفه الطَّرب حَتَّى نزل عَن فرَاشه، ثمَّ قَالَ لِلْجَارِيَةِ الْأُخْرَى: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بِثلث عَقْلِي. فَقلت: إِن سقيت الثَّالِثَة افتضحت. ثمَّ قَالَ: سل حوائجك. قلت: كائنة مَا كَانَت؟

قَالَ: نعم. قلت: إِحْدَى الجاريتين. قَالَ: هما لَك بِمَا عَلَيْهِمَا ومالهما. ثمَّ قَالَ للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سَقَطت مِنْهَا وَلم أَعقل حَتَّى أَصبَحت، فَإِذا بالجاريتين عِنْد رَأْسِي، وَإِذا عشرَة من الخدم مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم بدرة. وَقَالَ لي أحدهم: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام، وَيَقُول لَك: خُذ هَذَا فَانْتَفع بِهِ فِي سفرك. فأخذتها، والجاريتين، وانصرفت.

أكل على مائدته فأمضى له الأمان

أكل على مائدته فَأمْضى لَهُ الْأمان عَن عبد الله بن عمرَان أبي فَرْوَة، قَالَ: كَانَ عبد الله بن الْحجَّاج الثَّعْلَبِيّ من أَشْرَاف قيس، وَكَانَ مَعَ ابْن الزبير، فَلَمَّا قتل، دخل عبد الله بِصفة أَعْرَابِي على عبد الْملك بن مَرْوَان لَيْلًا وَهُوَ يتعشى مَعَ النَّاس، فَجَلَسَ وَأكل مَعَهم، ثمَّ وثب فَقَالَ: منع الْقَرار فَجئْت نَحْوك هَارِبا ... جيشٌ يجرّ ومقنبٌ يتلمّع فَقَالَ: أَي الأخابيث أَنْت؟ فَقَالَ: ارْحَمْ أصيبية هديت كأنّهم ... حجلٌ تدرّج بالسريّة جوّع فَقَالَ: أجاع الله بطونهم، فَأَنت أجعتهم، فَقَالَ:

مالٌ لَهُم مِمَّا يضنّ جمعته ... يَوْم القليب فحيز عَنْهُم أجمع فَقَالَ: كسب سوء خَبِيث، فَقَالَ: وَلَقَد وطِئت بني سعيد وَطْأَة ... وَابْن الزبير فعرشه متضعضع وَأرى الَّذين رجوا تراث محمّد ... أفلت نجومهم ونجمك يسطع فَقَالَ: الْحَمد لله على ذَلِك، فَقَالَ: أدنو لترحمني وَتقبل تَوْبَتِي ... وأراك تدفعني فَأَيْنَ المدفع فَقَالَ: إِلَى النَّار، فَقَالَ: ضَاقَتْ ثِيَاب الملبسين فأولني ... عرفا وألبسني فثوبك أوسع قَالَ: فَرمى إِلَيْهِ بمطرف خَز كَانَ عَلَيْهِ. فَقَالَ عبد الله: أمنت وَالله. فَقَالَ لَهُ عبد الْملك: كن من شِئْت إِلَّا عبد الله بن الْحجَّاج. فَقَالَ: أَنا، وَالله، هُوَ، وَقد أمنتني، أكلت طَعَامك، ولبست ثِيَابك، فَأَي خوف عَليّ. فَقَالَ: مَا هداك إِلَّا جدك، وأمضى لَهُ الْأمان.

الفضل بن الربيع يتحدث عما لاقى أيام استتاره من المأمون

الْفضل بن الرّبيع يتحدث عَمَّا لَاقَى أَيَّام استتاره من الْمَأْمُون حَدثنِي عَليّ بن هِشَام أبي قِيرَاط الْكَاتِب، بواسط، فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاث مائَة، من لَفظه، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ بن مقلة، قبل وزارته الأولى، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بن سعيد الديناري، عَن أبي أَيُّوب سُلَيْمَان بن وهب عَن أبي طالوت كَاتب ابْن طَاهِر، قَالَ: سَمِعت الْفضل بن الرّبيع، يَقُول: لما استترت من الْمَأْمُون، أخفيت نَفسِي حَتَّى عَن عيالي وَوَلَدي، وَكنت أنتقل وحدي. فَلَمَّا اقْترب الْمَأْمُون من بَغْدَاد، ازْدَادَ حذري، وخوفي على نَفسِي، فتشددت فِي الِاحْتِيَاط والتواري، وأفضيت إِلَى منزل بزاز كنت أعرفهُ فِي درب بِبَاب الطاق، وشدد الْمَأْمُون فِي طلبي فَلم يعرف لي خَبرا. فتذكرني يَوْمًا، فاغتاظ على إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وجد بِهِ فِي طلبي، فَأَغْلَظ لَهُ، فَخرج إِسْحَاق من حَضرته، وجد بأصحاب الشَّرْط، وأوقع ببعضهم المكاره، ونادى فِي الْجَانِبَيْنِ، من جَاءَ بِهِ فَلهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم وإقطاع غَلَّته

ثَلَاثَة آلَاف دِينَار فِي السّنة، وَإِن من وجد بعد النداء ضرب خمس مائَة سَوط وهدمت دَاره وَأخذ مَاله وَحبس طول الدَّهْر، فَنُوديَ بذلك عشيًا. فَمَا شَعرت، إِلَّا وَصَاحب الدَّار قد دخل عَليّ وَأَخْبرنِي الْخَبَر، وَقَالَ: وَالله، مَا أقدر بعد هَذَا على سترك، وَلَا آمن من زَوْجَتي، وجاريتي، وَغُلَامِي، وَأَن تشره نُفُوسهم إِلَى المَال، فيدلون عَلَيْك، وَأهْلك بهلاكك، وَإِن صفح الْخَلِيفَة عَنْك، لم آمن من أَن تتهمني بِأَنِّي دللت عَلَيْك، فَيكون ذَلِك أقبح وأشنع، وَلَيْسَ الرَّأْي لي وَلَك إِلَّا أَن تخرج عني. فورد عَليّ ذَلِك أعظم مورد، وَقلت: إِذا جَاءَ اللَّيْل خرجت عَنْك. قَالَ: وَمن يُطيق الصَّبْر على هَذَا الضَّرَر إِلَى اللَّيْل، فَإنَّك إِن وجدت عِنْدِي قبل اللَّيْل أهلكتني وأهلكت نَفسك، وَهَذَا وَقت حَار، وَقد طَال عهد النَّاس بك، فَقُمْ وتنكر واخرج. فَقلت: كَيفَ أتنكر؟ فَقَالَ: تَأْخُذ أَكثر لحيتك، وتغطي رَأسك وَبَعض وَجهك، وتلبس قَمِيصًا ضيقا، وَتخرج. فَقلت: أفعل. فجَاء بمقراض فَأخذت أَكثر لحيتي، وتنكرت، وَخرجت من عِنْده فِي أول أَوْقَات الْعَصْر، وَأَنا ميت خوفًا. فمشيت فِي الشَّارِع، حَتَّى بلغت الجسر، فَوَجَدته قد رش، وَهُوَ خَال من النَّاس، متزلق.

فَلَمَّا توسطته، إِذا أَنا بِفَارِس من الْجند الَّذين كَانُوا فِي دَاري فِي أَيَّام وزارتي، قد قرب مني، فعرفني، وَقَالَ: طلبة أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَعدل إِلَيّ ليقْبض عَليّ. فلحلاوة النَّفس دَفعته ودابته، فزلق، وَوَقع فِي بعض السفن الَّتِي فِي الجسر، وتعادى النَّاس لخلاصه، وظنوا أَنه زلق بِنَفسِهِ. وتشاغل عني بهم، وزدت أَنا فِي الْمَشْي، وَلم أعد لِئَلَّا يُنكر حَالي من يراني، إِلَى أَن عبرت الجسر وَدخلت درب سُلَيْمَان. فَوجدت امْرَأَة على بَاب دَار مَفْتُوح، فَقلت لَهَا: يَا امْرَأَة، أَنا خَائِف من الْقَتْل، فأجيريني واحقني دمي. فَقَالَت: ادخل، وأومأت إِلَى غرفَة، فصعدتها. فَلَمَّا كَانَ بعد سَاعَة، إِذا بِالْبَابِ يدق، ففتحته، وَإِذا زَوجهَا قد دخل، فتأملته، فَإِذا هُوَ صَاحِبي على الجسر، وَهُوَ مشدود الرَّأْس يتأوه من شجة لحقته، وثيابه مغموسة بِالدَّمِ. وَسَأَلته الْمَرْأَة عَن خَبره، فَأَخْبرهَا بالقصة، وَقَالَ لَهَا: قد زمنت دَابَّتي وأنفذتها لتباع فِي سوق اللَّحْم، وَقد فَاتَنِي الْغنى، وَجعل يَشْتمنِي، وَهُوَ لَا يعلم بوجودي مَعَه فِي الدَّار، وَأَقْبَلت الْمَرْأَة تترفق بِهِ إِلَى أَن هدأ. فَلَمَّا صليت الْمغرب، وَأَقْبل الظلام، صعدت الْمَرْأَة إِلَيّ، وَقَالَت: أَظُنك صَاحب الْقِصَّة مَعَ هَذَا الرجل. فَقلت: نعم.

فَقَالَت: قد سَمِعت مَا عِنْده، فَاتق الله فِي نَفسك واخرج، فدعوت لَهَا. فَنزلت، ففتحت الْبَاب فتحا رَفِيقًا، وَقَالَت: اخْرُج، وَكَانَت الدرجَة فِي الدهليز، فأفضيت إِلَى الْبَاب، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى آخر الدَّرْب وجدت الحراس قد أغلقوه، فتحيرت. ثمَّ رَأَيْت رجلا يفتح بَابا بمفتاح رومي، فَقلت: هَذَا رومي، وَهُوَ مِمَّن يقبل مثلي. فدنوت مِنْهُ وَقلت: استرني، سترك الله. فَقَالَ: ادخل، فَدخلت، فرأيته رجلا فَقِيرا وحيدًا، فأقمت لَيْلَتي عِنْده، وَبكر من غَد، وَعَاد نصف النَّهَار وَمَعَهُ حمالان يحمل أَحدهمَا حَصِيرا ومخدة، وجرار، وكيزان، وغضائر جددًا، وَقدرا جَدِيدا، وَيحمل الآخر خبْزًا وَفَاكِهَة، وَلَحْمًا، وثلجًا، فَدخل، وَترك ذَلِك كُله عِنْدِي، وأغلق الْبَاب. فَنزلت، وعذلته، وَقلت لَهُ: لم كلفت نَفسك هَذَا؟ فَقَالَ: أَنا رجل مزين، وأخاف أَن تستقذرني، وَقد أفردت لَك هَذَا، فاطبخ أَنْت وأطعمني فِي غضارة أجيء بهَا من عِنْدِي، فشكرته على ذَلِك، وأقمت عِنْده ثَلَاثَة أَيَّام. فَلَمَّا كَانَ آخر الْيَوْم الثَّالِث، ضَاقَ صَدْرِي، فَقلت لَهُ: يَا أخي الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام، وَقد أَحْسَنت وأجملت، وَأُرِيد الْخُرُوج. فَقَالَ: لَا تفعل، فَإِنِّي وحيد، وَلست مِمَّن يطْرق، وخبرك لَا يخرج من عِنْدِي أبدا، فأقم إِلَى أَن يفرج الله عَنْك، فلست أتثاقل بك. فأبيت للحين، وَخرجت على وَجْهي أُرِيد منزل عَجُوز بِبَاب التِّبْن من

موالينا، فدققت الْبَاب عَلَيْهَا، فَخرجت، فَلَمَّا رأتني بَكت، وحمدت الله على رؤيتي، وأدخلتني الدَّار. فَلَمَّا كَانَ فِي السحر، وَأَنا نَائِم، بكرت الْعَجُوز فغمزت عَليّ بعض أَصْحَاب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فَمَا شَعرت إِلَّا بِإسْحَاق نَفسه، فِي خيله وَرجله، قد أحَاط بِالدَّار، ثمَّ كبسها واستخرجني مِنْهَا، حَتَّى أوقفني بَين يَدي الْمَأْمُون حافيًا حاسرًا. فَلَمَّا رَآنِي سجد طَويلا ثمَّ رفع رَأسه، وَقَالَ: يَا فضل، أَتَدْرِي لم سجدت؟ فَقلت: نعم، شكرا لله تَعَالَى الَّذِي أظفرك بعدو دولتك، المغري بَيْنك وَبَين أَخِيك. قَالَ: مَا أردْت هَذَا، وَلَكِنِّي سجدت شكرا لله على مَا ألهمنيه من الْعَفو عَنْك، فَحَدثني بخبرك؟ فشرحته لَهُ من أَوله إِلَى آخِره. فَأمر بإحضار الْعَجُوز مولاتنا، وَكَانَت فِي الدَّار تنْتَظر الْجَائِزَة، فَقَالَ لَهَا: مَا حملك على مَا فعلت، مَعَ إنعامه وإنعام أَهله عَلَيْك؟ قَالَت: رَغْبَة فِي المَال. قَالَ: هَل لَك زوج أَو ولد أَو أَخ؟ قَالَت: لَا، فَأمر بضربها مائَة سَوط، وتخليدها فِي السجْن. ثمَّ قَالَ لإسحاق: أحضر السَّاعَة الجندي، وَامْرَأَته، والمزين، فَحَضَرُوا فِي مجْلِس وَاحِد، فاستثبتني فيهم، فعرفته أَنهم الْقَوْم بأعيانهم. فَسَأَلَ الجندي عَن السَّبَب الَّذِي حمله على فعله، فَقَالَ: الرَّغْبَة فِي المَال،

وَوَاللَّه، إِنَّه الَّذِي أثبتني فِي الْجَيْش، وَلَكِنِّي رغبت فِي المَال العاجل. فَقَالَ: أَنْت بِأَن تكون حجامًا أولى بِأَن تكون من أوليائنا، وَأمر بِأَن يسلم للمزينين فِي الدَّار، ويوكل بِهِ من يعسفه حَتَّى يتَعَلَّم الْحجامَة. وَأمر باستخدام زَوجته قهرمانة فِي دور حرمه، وَقَالَ: هَذِه الْمَرْأَة عَاقِلَة أديبة. وَأمر بِتَسْلِيم دَار الجندي وقماشه إِلَى المزين، وَأَن يَجْعَل رزقه لَهُ، وَيجْعَل جنديًا مَكَان ذَلِك الجندي، وأطلقني إِلَى دَاري. فَرَجَعت إِلَيْهَا آخر النَّهَار، آمنا، مطمئنًا. وَوجدت الْخَبَر بِخِلَاف هَذَا فِي كتاب الوزراء لِابْنِ عَبدُوس، فَإِنَّهُ ذكر: أَن الْفضل ابْن الرّبيع استتر، فطال استتاره، واستعجمت عَلَيْهِ الْأَخْبَار، فَغير زيه، وَخرج فِي السحر، وَكَانَ استتر بِنَاحِيَة الحربية من الْجَانِب الغربية. فَمشى وَهُوَ لَا يدْرِي أَيْن يقْصد، لحيرته، وَبعد عَهده بالطرق، فأداه الْمَشْي إِلَى الجسر، وَقد أَسْفر الصُّبْح، فأيقن بالعطب، وَقصد منزلا لرجل كَانَت بَينه وَبَينه مَوَدَّة، بسويقة نصر. فَلَمَّا صَار بِبَعْض المشارع، سمع النداء عَلَيْهِ، ببذل عشرَة آلَاف دِرْهَم، فتخفى حَتَّى جاوزه الركْبَان والمنادي، وَمَشى. فَرَآهُ رجل، فانتبه لَهُ، وَقَالَ: يَا فضل، وَكَانَ فِي أحد جَانِبي الطَّرِيق الَّذِي الْفضل فِيهِ، فأمه إِلَى الْجَانِب الَّذِي كَانَ فِيهِ، ليقْبض عَلَيْهِ، فَاعْتَرَضتهُ

حمير وجمال عَلَيْهَا جص. وَنظر الْفضل يَمِينا وَشمَالًا، فَلم يجد مذهبا، وبصر بدرب، فدخله، فَوَجَدَهُ لَا ينفذ، وَوجد فِي صَدره بَابا مَفْتُوحًا، فهجم على الْمنزل، وَفِيه امْرَأَة، فاستغاث بهَا، فَأَجَارَتْهُ، وبادرت إِلَى الْبَاب فأغلقته، وناشدها الله أَن تستره إِلَى اللَّيْل، فَأَمَرته بالصعود إِلَى غرفَة لَهَا، فَلم يسْتَقرّ بِهِ الْقعُود حَتَّى دق الْبَاب، فَلَمَّا فتح الْبَاب، دخل الرجل الَّذِي رَآهُ، وعزم على الْقَبْض عَلَيْهِ، وَإِذا الْمنزل لَهُ. فَقَالَ لزوجته: فَاتَنِي السَّاعَة عشرَة آلَاف دِرْهَم. قَالَت لَهُ: وَكَيف ذَلِك؟ قَالَ لَهَا: مر بِي الْفضل، فمددت يَدي لأقبض عَلَيْهِ، فابتلعته الأَرْض. فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: الْحَمد لله، عز وَجل، الَّذِي كَفاك أمره وَأبقى دينك عَلَيْك، وَلم تكن سَببا لسفك دَمه، أَو مَكْرُوه يلْحقهُ. فَلَمَّا خرج، صعدت إِلَيْهِ، فَقَالَت: قد سَمِعت، وَمَا هَذَا الْمَكَان لَك بِموضع، فَخرج إِلَى بعض منَازِل معامليه، فَلَمَّا صَار إِلَيْهِ، نبه الْعَامِل عَلَيْهِ، وأسلمه إِلَى طالبيه، فَحمل إِلَى الْمَأْمُون، فَلَمَّا رَآهُ، وَسَأَلَهُ عَن خَبره، شرح لَهُ قصَّته، فَأمر للْمَرْأَة بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، وَقَالَ للرسول: قل لَهَا، يَقُول لَك الْفضل: هَذَا جَزَاء لَك على مَا فعلته من الْجَمِيل، فَردَّتهَا، وأبت قبُولهَا، وَقَالَت: لست آخذ على شَيْء فعلته لله عز وَجل، جَزَاء، إِلَّا مِنْهُ.

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم

وَمَا قتل الْأَحْرَار كالعفو عَنْهُم حَدثنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عمر بن شُجَاع، الْمُتَكَلّم الْبَغْدَادِيّ، الملقب بجنيد، قَالَ: حَدثنَا الْفضل بن ماهان السيرافي، وَكَانَ مَشْهُورا بسلوك أقاصي بِلَاد الْبَحْر، قَالَ؛ قَالَ لي رجل من بعض بياسرة الْهِنْد، والبيسر هُوَ الْمَوْلُود على مِلَّة الْإِسْلَام هُنَاكَ، قَالَ: كَانَ فِي أحد بِلَاد الْهِنْد ملك حسن السِّيرَة، وَكَانَ لَا يَأْخُذ وَلَا يُعْطي مُوَاجهَة، وَإِنَّمَا كَانَ يقلب يَده إِلَى وَرَاء ظَهره. فَيَأْخُذ وَيُعْطِي بهَا، إعظامًا للْملك، وَهِي سنة لَهُم هُنَاكَ ولأولادهم. وَإنَّهُ توفّي، فَوَثَبَ رجل من غير أهل المملكة، فاحتوى على ملكه، وهرب ابْن لَهُ كَانَ يصلح للْملك خوفًا على نَفسه من المتغلب. ورسوم مُلُوك الْهِنْد، أَن الْملك إِذا قَامَ عَن مَجْلِسه، لأي حَاجَة عرضت لَهُ، كَانَت عَلَيْهِ صدرة، قد جمع فِيهَا كل نَفِيس وفاخر من اليواقيت والجواهر، مَضْرُوب فِي الإبريسم فِي الصدرة، وَيكون فِيهَا من الْجَوَاهِر مَا إِن لَو أَرَادَ أَن يُقيم بهَا ملكا أَقَامَهُ. قَالَ: وَيَقُولُونَ: لَيْسَ بِملك من إِذا قَامَ عَن مَجْلِسه وَلَيْسَت مَعَه، حَتَّى إِذا حدثت عَلَيْهِ حَادِثَة وهرب بهَا أمكنه إِقَامَة ملك مِنْهَا. فَلَمَّا حدثت على الْملك تِلْكَ الْحَادِثَة، أَخذ ابْنه صدرته وهرب بهَا. فَحكى عَن نَفسه: أَنه مَشى ثَلَاثَة أَيَّام، قَالَ: وَلم أطْعم طَعَاما، وَلم تكن معي فضَّة وَلَا ذهب، فأبتاع بِهِ مَأْكُولا، وَلم أقدر على إِظْهَار مَا معي، وأنفت أَن أستطعم.

قَالَ: فَجَلَست على قَارِعَة الطَّرِيق، فَإِذا رجل هندي، مقبل وعَلى كتفه كارة، فحطها وَجلسَ حذائي. فَقلت: أَيْن تُرِيدُ؟ قَالَ: الرستاق الْفُلَانِيّ. قلت: وَأَنا الآخر كَذَلِك. قَالَ؛ فنصطحب؟ قلت: نعم. فصحبته طَمَعا فِي أَن يعرض عَليّ شَيْئا من مأكوله، فَلم يفعل، وَلم تطب نَفسِي أَن أبدأه بالسؤال. فَلَمَّا فرغ قَامَ يمشي، فمشيت مَعَه، وَبت مَعَه، طَمَعا فِي أَن تحمله المؤانسة على الْعرض عَليّ، فَعمل بِاللَّيْلِ كَمَا عمل بِالنَّهَارِ. قَالَ: وأصبحنا فِي غَد، فمشينا، فعاملني بِمثل ذَلِك أَرْبَعَة أَيَّام، فَصَارَ لي سَبْعَة أَيَّام لم أذق فِيهَا شَيْئا. فَأَصْبَحت فِي الثَّامِن ضَعِيفا مهووسًا لَا قدرَة لي على الْمَشْي، فعدلت عَن الطَّرِيق، وَفَارَقت الرجل، فَرَأَيْت قوما يبنون، وقيمًا عَلَيْهِم، فَقلت للقيم: استعملني مثل هَؤُلَاءِ بِأُجْرَة تعطينيها عشيًا. فَقَالَ: نعم، ناولهم الطين. فَقلت: عجل لي أُجْرَة يَوْم، فَفعل، فابتعت بهَا مَا أَكلته. وَقمت أناولهم الطين، فَكنت، لعادة الْملك، أقلب يَدي إِلَى ظَهْري وأعطيهم الطين، فَكَمَا أذكر أَن ذَلِك خطأ يُنَبه عَليّ ويسفك دمي، أبادر بتلافي ذَلِك،

فأرد يَدي بِسُرْعَة من قبل أَن يفطنوا بِي. قَالَ: فلمحتني امْرَأَة قَائِمَة، فَأخْبرت سيدتها بخبري، وَكَانَت صَاحِبَة الْبناء، وَقَالَت: لَا بُد أَن يكون هَذَا من أَوْلَاد الْمُلُوك. قَالَ: فَلَمَّا انْقَضى النَّهَار، وَانْصَرف الصناع، فَأَرَدْت الِانْصِرَاف مَعَهم. تقدّمت إِلَى الْقيم أَن يحبسني عَن الْمُضِيّ مَعَ الصناع، فاحتبسني. فجاءتني بالدهن وَالْعُرُوق لأغتسل بهما، وَهَذَا مُقَدّمَة إكرامهم، وَسنة لعظمائهم، فتغسلت بذلك، وجاءوني بالأرز وَالسمن وَالسكر، فطعمت، وَعرضت الْمَرْأَة عَليّ نَفسهَا بِالتَّزْوِيجِ، فأجبت، وعقدت العقد، وَدخلت بهَا من لَيْلَتي، وأقمت مَعهَا أَربع سِنِين، تُعْطِينِي من مَالهَا، وتنفق عَليّ، وَكَانَت لَهَا نعْمَة. فَأَنا ذَات يَوْم جَالس على بَاب دارها، وَإِذا بِرَجُل من بلدي، فاستدعيته، فجَاء، فَقلت لَهُ: من أَيْن أَنْت؟ فَقَالَ: من بلد كَذَا وَكَذَا، فَذكر بلدي. فَقلت: مَا جِئْت تصنع هَاهُنَا؟ قَالَ: كَانَ فِينَا ملك، حسن السِّيرَة، فَمَاتَ، فَوَثَبَ على ملكه رجل لَيْسَ من أهل المملكة، وَكَانَ للْملك الأول ابْن يصلح للْملك، فخاف على نَفسه فهرب، وَإِن الْملك المتغيب أَسَاءَ عشرَة الرّعية، فوثبنا عَلَيْهِ فقتلناه، وانتشرنا فِي الْبِلَاد نطلب ابْن الْملك المتوفي، لنجلسه مَكَان أَبِيه، فَمَا عرفنَا لَهُ خَبرا. فَقلت: أتعرفني؟ قَالَ: لَا. قلت: أَنا طلبتكم. قَالَ: وأعطيته العلامات، فَعلم صِحَة مَا قلته لَهُ، فَكفر لي.

فَقلت: أكتم أمرنَا إِلَى أَن ندخل النَّاحِيَة. قَالَ: أفعل. فَدخلت إِلَى الْمَرْأَة، فأعلمتها بالْخبر، وحدثتها بأَمْري كُله، وأعطيتها الصدرة. وَقلت: هَذِه قيمتهَا كَذَا وَكَذَا، وَمن حَالهَا كَذَا وَكَذَا، وَأَنا مَاض مَعَ الرجل، فَإِن كَانَ مَا ذكره صَحِيحا، فَإِن الْعَلامَة أَن يجيئك رَسُولي فيذكر الصدرة، فانهضي إِلَيّ، وَإِن كَانَت مكيدة كَانَت الصدرة لَك. قَالَ: وَمضى مَعَ الرجل، فَكَانَ الْأَمر صَحِيحا، فأنفذ إِلَى زَوجته من حملهَا إِلَيْهِ، فَجَاءَت. فحين اجْتمع شَمله، واستقام أمره، أَمر البنائين فبنوا لَهُ دَار ضِيَافَة عَظِيمَة، وَأمر أَن لَا يجوز فِي عمله مجتاز إِلَّا حمل إِلَيْهَا، فيضاف فِيهَا ثَلَاثَة أَيَّام، ويزود لثَلَاثَة أَيَّام أخر، فَكَانَ يفعل ذَلِك، وَهُوَ يُرَاعِي الرجل الَّذِي صَحبه فِي سَفَره، وَيقدر أَن يَقع فِي يَده. فَلَمَّا كَانَ بعد حول، استعرض النَّاس، وَكَانَ يستعرضهم فِي كل يَوْم، فَلَا يرى الرجل، فيصرفهم، فَلَمَّا كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم، رأى الرجل بَينهم. فحين وَقعت عينه عَلَيْهِ، أعطَاهُ ورقة تنبول، وَهَذِه عَلامَة غَايَة الْإِكْرَام،

وَنِهَايَة رُتْبَة الإعظام، إِذا فعله الْملك بِإِنْسَان من رَعيته. فحين فعل ذَلِك بِالرجلِ، كفر لَهُ، وَقبل الأَرْض، فَأمر الْملك بتغيير حَاله، وإحسان ضيافته. ثمَّ استدعاه، فَقَالَ لَهُ: أتعرفني؟ فَقَالَ: كَيفَ لَا أعرف الْملك، وَهُوَ من عظم شَأْنه، وعلو سُلْطَانه، بِحَيْثُ هُوَ. قَالَ: لم أرد هَذَا، أتعرفني قبل هَذَا الْحَال؟ قَالَ: لَا. فَذكره الْملك بالقصة، وَمنعه إِيَّاه من الطَّعَام فِي السّفر. قَالَ: فبهت الرجل. فَقَالَ الْملك: ردُّوهُ إِلَى الدَّار، وزيدوا فِي إكرامه، وَحضر الطَّعَام فأطعم. فَلَمَّا أَرَادَ النّوم، قَالَ الْملك لزوجته: اذهبي إِلَى هَذَا الرجل فاغمزيه. قَالَ: فَجَاءَت الْمَرْأَة، فَلم تزل تغمزه إِلَى أَن نَام، فَجَاءَت إِلَى الْملك،

وَقَالَت: إِنَّه قد نَام. قَالَ: لَيْسَ هَذَا نوم، حركوه، فحركوه، فَإِذا هُوَ ميت. قَالَ: فَقَالَت لَهُ الْمَرْأَة: أَي شَيْء هَذَا؟ قَالَ: فساق لَهَا حَدِيثه مَعَه، وَقَالَ: وَقع فِي يَدي، فتناهيت فِي إكرامه، والهند لَهُم أكباد عَظِيمَة، وأفهام طريفة، فأدخلت عَلَيْهِ حسرة عَظِيمَة إِذْ لم يحسن إِلَيّ، فَقتلته، وَقد كنت أتوقع مَوته قبل هَذَا بِمَا توهمه واستشعره من الْعلَّة فِي نَفسه، لفرط الْحَسْرَة.

الباب الثالث عشر

الْبَاب الثَّالِث عشر فِيمَن نالته شدَّة فِي هَوَاهُ فكشفها الله عَنهُ وَملكه من يهواه رأى الْقطع خيرا من فضيحة عاتق حَدثنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن بكر البسطامي، غُلَام ابْن دُرَيْد وصهره، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن دُرَيْد، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن عُثْمَان العلى عَن أبي خَالِد عَن الْهَيْثَم بن عدي، قَالَ: كَانَ لعَمْرو بن دويرة السحيمي أَخ قد كلف بابنة عَم لَهُ كلفًا شَدِيدا، وَكَانَ أَبوهَا يكره ذَلِك ويأباه. فَشَكَاهُ إِلَى خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، أَمِير الْعرَاق، أَنه يسيء جواره، فحبسه، ثمَّ سُئِلَ خَالِد فِي أَمر الْفَتى، فَأَطْلقهُ، فَبَقيَ الْفَتى كلفًا بابنة عَمه، وَهُوَ ناء عَنْهَا مُدَّة. ثمَّ زَاد مَا فِي نَفسه، فَحَمله الْحبّ على أَن تسور الْجِدَار عَلَيْهَا، وَحصل مَعهَا.

فأحس بِهِ أَبوهَا، فَقبض عَلَيْهِ، وأتى بِهِ خَالِد بن عبد الله، وَادّعى عَلَيْهِ اللصوصية، وَأَتَاهُ بِجَمَاعَة شهدُوا على أَنهم وجدوه فِي بَيته لَيْلًا، قد دخل للتلصص. فَسَأَلَ خَالِد الْفَتى، فاعترف أَنه دخل ليَسْرِق، وَمَا سرق شَيْئا، يدْفع بذلك الفضيحة عَن ابْنة عَمه، فَأَرَادَ خَالِد أَن يقطعهُ. فَرفع عَمْرو أَخُوهُ إِلَى خَالِد رقْعَة فِيهَا: أخالد قد والله أوطيت عشوة ... وَمَا العاشق الْمَظْلُوم فِينَا بسارق أقرّ بِمَا لم يَأْته غير أنّه ... رأى الْقطع خيرا من فضيحة عاتق وَمثل الَّذِي فِي قلبه حلّ قَلبهَا ... فمنّ لتجلو الهمّ عَن قلب عاشق وَلَوْلَا الَّذِي قد خفت من قطع كفّه ... لألفيت فِي أمريهما غير نَاطِق إِذا مدّت الغايات للسبق فِي العلى ... فَأَنت ابْن عبد الله أوّل سَابق قَالَ: فَأرْسل خَالِد مولى لَهُ يسْأَل عَن الْخَبَر، ويفحص جلية الْأَمر، فَأَتَاهُ بِصَحِيح مَا قَالَه عَمْرو فِي شعره. فأحضر أَبَا الْجَارِيَة، وَأمره بتزويجها من الْفَتى، فَامْتنعَ، وَقَالَ: لَيْسَ هُوَ كُفْء لَهَا.

فَقَالَ لَهُ خَالِد: وَالله، إِنَّه لكفء لَهَا، إِذْ بذل يَده عَنْهَا، وَإِن لم تزَوجه طَائِعا لأزوجنه وَأَنت كَارِه. فَزَوجهُ الْعم، وسَاق خَالِد الْمهْر من عِنْده، فَكَانَ يُسمى العاشق، إِلَى أَن مَاتَ. وجدت فِي كتاب العمرين، لمُحَمد بن دَاوُد الْجراح الْكَاتِب، وَهُوَ رِسَالَة كتب بهَا إِلَى أبي أَحْمد يحيى بن عَليّ بن المنجم، فِيمَن يُسمى من الشُّعَرَاء: عمرا، فَقَالَ: عَمْرو بن دويرة البَجلِيّ، سحيمي، كُوفِي، أَخْبرنِي أَحْمد بن أبي عَلْقَمَة، عَن دعيل بن عَليّ، وَذكر أَبُو طَالب بن سوَادَة، عَن مُحَمَّد بن الْحسن الْجَعْفَرِي، عَن الْحسن بن يزِيد الْقرشِي، عَن أبي بكر الْوَالِبِي، قَالَ: كَانَ لعَمْرو بن دويرة، أَخ قد كلف بابنة عَم لَهُ. . وَذكر نَحوه، إِلَّا أَنه أَتَى فِي الشّعْر بِزِيَادَة بَيت، وَهُوَ بعد الْبَيْت الَّذِي أَوله: أقرّ بِمَا لم يَأْته : وَمثل الَّذِي فِي قلبه حلّ قَلبهَا ... فَكُن أَنْت تجلو الْهم عَن قلب وامق وأخبرنيه مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن الْقرشِي، قَالَ: أَخْبرنِي الحرمي بن أبي الْعَلَاء، عَن الزبير بن بكار، فَذكره مَعَ الْبَيْت الزِّيَادَة.

من مكارم المقتدر

من مَكَارِم المقتدر حَدثنِي أَبُو الْعَلَاء صاعد بن ثَابت بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن خداهي النَّصْرَانِي الْكَاتِب، الَّذِي كَانَ خَليفَة الوزراء، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن بن مَيْمُون الْأَفْطَس، الَّذِي كَانَ وَزِير المتقي، وَلما

دخل أَبُو عبد الله البريدي بَغْدَاد، مُتَقَلِّدًا الوزارة الثَّانِيَة للمتقي، قبض عَلَيْهِ وأحدره لِلْبَصْرَةِ. فَلَمَّا وردهَا البريدي مُنْهَزِمًا، أطلقهُ، وَأحسن إِلَيْهِ، وَأَمرَنِي بإنزاله بِالْقربِ مني، وإيناسه بملازمتي، وأفتقاده بالدعوات، فَفعلت، فَكُنَّا متلازمين لَا نكاد نفترق. وَوَجَدته أحلى النَّاس حَدِيثا، وَأَحْسَنهمْ أدبًا، وأعمهم فضلا، وَلم أر قطّ أَشد تغزلًا، وَلَا تهالكًا فِي الْعِشْق مِنْهُ. فَحَدثني يَوْمًا، قَالَ: عشقت مغنية فِي القيان عشقًا شَدِيدا، فراسلت مولاتها فِي بيعهَا، فاستامت فِيهَا ثَلَاثَة آلَاف دِينَار. وَكنت أعرف من نَفسِي الْملَل، فَخَشِيت أَن أشتريها فأملها، فدافعت بذلك، وَمَضَت أَيَّام، وَكَانَت هِيَ تَأتي إِلَى عِنْدِي، وَكَانَ يمْضِي لي مَعهَا أطيب عَيْش. فَانْصَرَفت من عِنْدِي يَوْمًا، وَكَانَ المقتدر بِاللَّه أَمر أَن تشترى لَهُ مغنيات، وَأَنا لَا أعلم، وَكَانَت الْجَارِيَة حَسَنَة الْوَجْه جَيِّدَة الْغناء، فَحملت إِلَى المقتدر فِي جملَة جوَار، فَأمر بشرائهن كُلهنَّ، فاشتريت فِي جملتهن. وأنفذت من غَد أستدعيها من سيدتها، فَأخْبرت بالْخبر، فَقَامَتْ عَليّ الْقِيَامَة، وَدخل إِلَى قلبِي من الْأَلَم، والاحتراق، والقلق، أَمر مَا دخل مثله قطّ فِي قلبِي، فضلا عَن عشق. وَزَاد الْأَمر عَليّ، حَتَّى انْتهى بِي إِلَى حد الوسواس، فامتنعت عَن النّظر فِي أَمر دَاري، وتشاغلت بالبكاء، وَلم يكن لي سَبِيل إِلَى العزاء.

وَكنت أكتب، حِينَئِذٍ، لأم المتقي لله، وَهُوَ حدث، فتأخرت عَنْهُم أَيَّامًا، وأخللت بأمرهما، وَأَنا متوفر تِلْكَ الْأَيَّام على الطّواف فِي الصَّحَارِي، لَا آكل، وَلَا أشْرب، وَلَا أتشاغل بِأَكْثَرَ من الْبكاء والهيمان. فَأنْكر المتقي وَأمه تأخري، فاستدعاني المتقي، وخاطبني فِي شَيْء من أمره، فوجدني لَا أَعقل وَلَا أحصل مَا يَقُوله، وَلَا أفهمهُ. فَسَأَلَنِي عَن سَبَب اختلالي، فصدقته، وبكيت بَين يَدَيْهِ، وَسَأَلته أَن يسْأَل أَبَاهُ بيع الْجَارِيَة عَليّ، أَو هبتها لي. فَقَالَ: مَا أجسر على هَذَا. قَالَ: وَزَاد عَليّ الْأَمر، وَبَطلَت. وَبلغ أم المتقي الْخَبَر، فراسلتها أسألها مِثْلَمَا سَأَلت أبنها، فرثت لي، وحملت نَفسهَا على أَن خاطبت السيدة أم المقتدر فِي أَمْرِي. فَقَالَت لَهَا أم المقتدر: مَا الْعجب من الرجل، فَإِن الَّذِي فِي قلبه من الْعِشْق قد أعماه عَن الرَّأْي بل الْعجب مِنْك، كَيفَ وَقع لَك أَنه يجوز أَن يَقُول أحد للخليفة: انْزِلْ عَن جاريتك لرجل يعشقها. فراسلتني أم المتقي بِمَا جرى، فَزَاد مَا بِي من القلق. وَكنت لَا ألْقى أحدا من الرؤساء فِي الدولة، كالوزير، وحاشية الْخَلِيفَة، إِلَّا وأقصدهم، وأبكي بَين أَيْديهم، وأحدثهم حَدِيثي، وأسألهم مَسْأَلَة الْخَلِيفَة فِي تَسْلِيم الْجَارِيَة إِلَيّ، إِمَّا بِبيع، أَو هبة. فَمنهمْ من يُنكر عَليّ ويوبخني، وَمِنْهُم من يرثي لي ويعذرني، وَمِنْهُم من يُشِير عَليّ بالإمساك، وَمِنْهُم من يَقُول: إِذا علم الْخَلِيفَة هَذَا، وَأَنَّك تتعرض لحرمه، كَانَ فِي هَذَا إِتْلَاف نَفسك، وَأَنا ملازم أَبْوَابهم، وَتركت خدمَة صَاحِبي. إِلَى أَن طَال عَليّ الْأَمر وعَلى المتقي وَأمه، لعدم ملازمتي الْبَاب وَوضعت

من محلي، وَبَطل أَمر دَاري وضيعتي، وَأُمُور صَاحِبي. إِلَى أَن طَال هَذَا على المتقي وَأمه، فطلبا كَاتبا يصرفاني بِهِ. وَبَلغنِي الْخَبَر، وَقد كنت أَيِست من الْجَارِيَة، فعذلت نَفسِي، وَقلت: لَيْسَ بعد هَذَا الصّرْف إِلَّا الْفقر والنكبة، وَذَهَاب الْخَيْر وَالنَّفس، وَلَو كنت اشْتريت هَذِه الْجَارِيَة، لَكُنْت الْآن قد مللتها، فَلم أفقر نَفسِي، وَلم أقطع تصرفي؟ وَأَقْبَلت أعظ نَفسِي، وأسليها لَيْلَتي كلهَا، إِلَى أَن طاوعتني على الصَّبْر. وباكرت دَار المتقي، وبدأت فِي النّظر فِي أُمُوره، وَرَأَوا مني خلاف مَا تقدم، فسروا بذلك، وَقَالُوا: أَنْت أحب إِلَيْنَا من الْغَرِيب نستأنفه، فضمنت لَهُم الْمُلَازمَة وتمشية الْأُمُور. فأقمت على ذَلِك مُدَّة، ثمَّ اشْتقت إِلَى الشّرْب، وَقد كنت فقدته وهجرته مُنْذُ فقدت الْجَارِيَة إِلَى ذَلِك الْيَوْم. فَقلت للغلام: قُم، امْضِ، وَأصْلح لنا مَجْلِسا للشُّرْب، وادع أَصْحَابنَا أَعنِي أصدقائي الَّذين يعاشرونني، للرواح إِلَيّ، وَلَا تدع غناء، فَلَمَّا انْقَضى شغلي عدت إِلَى دَاري، وَاجْتمعَ أصدقائي، فصوبوا رَأْيِي، وَجَلَسْنَا نشرب، ونتحدث، وَنَلْعَب بالشطرنج. فَقَالُوا: لَو دَعَوْت لنا مغنيًا. فَقلت: أَخَاف أَن أذكر بِهِ أَمْرِي مَعَ الْجَارِيَة. فجلسوا عِنْدِي إِلَى أَن صليت الْعشَاء الْآخِرَة، وَانْصَرفُوا، وَجَلَست وحدي أشْرب الْقدح بعد الْقدح إِلَى أَن مَضَت قِطْعَة من اللَّيْل، وَإِذا أَنا ببابي يدق دقًا عنيفًا.

فَقَالَ بوابي: من هَذَا؟ قَالُوا: خدم من دَار الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقُمْت، وَلم أَشك أَن حَدِيثي قد اتَّصل بِهِ فَأنكرهُ، وَقَالَ: مثل هَذَا لَا يصلح أَن يكون كَاتبا لحُرْمَة، وَلَا مُدبرا أَمر غُلَام حدث، وَقد أَمر بِالْقَبْضِ عَليّ. فَقُمْت أَمْشِي لأخرج من بَاب آخر كَانَ لي، وأستتر، فَإِذا الخدم قد دخلُوا، وَمَعَهُمْ بغلة عَلَيْهَا عمارية، وشموع، وَإِذا قد أنزلوا من العمارية جاريتين، إِحْدَاهمَا عشيقتي، فبهت. فَقَالَ لي أحد الخدم، وَهُوَ كالرئيس عَلَيْهِم: مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يُقْرِئك السَّلَام، وَيَقُول: عرفت خبرك مَعَ الْجَارِيَة فِي هَذِه السَّاعَة، فرحمتك، وَقد وهبتها لَك مَعَ جَمِيع مَالهَا، وَتركهَا الْخَادِم وَمضى. وَدخلت مَعهَا عدَّة أحمال عَلَيْهَا الأثقال من صنوف الثِّيَاب، والفرش، والآلات، والقماش، وعدة جوَار، وَتركُوا ذَلِك عِنْدِي، وَانْصَرفُوا. فَأخذت بيد معشوقتي، وأدخلتها الْمجْلس، فَلَمَّا رَأَتْ الشَّرَاب والمجلس معبأ، قَالَت: سلوت عني، وشربت بعدِي. فَحَلَفت لَهَا أَنِّي مَا شربت نبيذًا مُنْذُ فارقتها إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْم، وحدثتها حَدِيثي بِطُولِهِ. وَقلت لَهَا: مَا السَّبَب فِي مجيئك؟ وَمَا جرى؟ فَقَالَ: اعْلَم أَن الْخَلِيفَة لم يرني، مُنْذُ اعترضني وَأمر بشرائي، إِلَّا اللَّيْلَة، وَكَانَ قد اتَّصل مزح السيدة معي، فَإِنَّهَا كَانَت استدعتني مُنْذُ مُدَّة، وَسَأَلتنِي عَن خبري مَعَك، فَأَخْبَرتهَا. ثمَّ قَالَت: هَل تحبينه؟

فَقلت: نعم، حبا شَدِيدا. فتعجبت من ذَلِك، وَقَالَت: ثقلنا عَلَيْك وعَلى محبوبك، وَلَكِن يكون الْخَيْر إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ووعدتني الْجَمِيل التَّام، والوعد الْحسن. فَلَمَّا كَانَ هَذِه اللَّيْلَة، قعد الْخَلِيفَة يشرب مَعَ الْجَوَارِي والسيدة حَاضِرَة، فاستدعيت، وغنيت. فَقَالَ لي الْخَلِيفَة: إِن كنت تحسنين الصَّوْت الْفُلَانِيّ، فغنيه، وَكَانَ صَوْتك عَليّ، فغنيته، وتمثلت لي صُورَتك، وَذكرت شربي مَعَك، فَلم أملك دموعي، حَتَّى جرت. فَقَالَ المقتدر: مَا هَذَا؟ فتحيرت، وَجَزِعت، وَنظرت إِلَى السيدة، فَضَحكت، وَضحك الْجَوَارِي. فَقَالَ المقتدر: مَا الْقِصَّة؟ فدافعته السيدة. فَقَالَ: بحياتي أصدقيني. فَقَالَت: على أَن لَا تؤذي الْجَارِيَة، وَلَا غَيرهَا. فَقَالَ: نعم، وحياتك. فَحَدَّثته الحَدِيث، فَلَمَّا اسْتَوْفَاهُ، قَالَ لي: يَا جَارِيَة، الْأَمر هَكَذَا؟ إِنَّمَا بَكَيْت من عشق ابْن مَيْمُون؟ فَسكت. فَقَالَ: إِن صدقتني وَهبتك لَهُ. فَقلت: نعم. فَأقبل على أمه، فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَثِير إِن وهبتها لخادم لنا. فَقَالَت: قد، وَالله، أردْت أَن أَسأَلك هَذَا، وَلَكِن إِن تفضلت بِهِ ابْتِدَاء مِنْك، كَانَ أحسن. فَقَالَ لبَعض الخدم: خُذ هَذِه الْجَارِيَة، وَجَمِيع مَا كَانَ سلم إِلَيْهَا فِي حُجْرَتهَا من جوَار، وقماش، واحمله إِلَى دَار ابْن مَيْمُون، كَاتب ابْني إِبْرَاهِيم،

وَأقرهُ سلامي، وعرفه أَنِّي قد وهبت ذَلِك كُله لَهُ. فَلَمَّا قُمْت، تصايحوا: قد جَاءَ فرجك، وَبَلغت مناك، فَقُمْت إِلَى حُجْرَتي، وجمعت مَا ترى، وَحَمَلته إِلَيْك. قَالَ: فَشَكَرت الله عز وَجل على ذَلِك، وَجَلَست مَعهَا، وَمَا شيل مَا فِي مجلسي، حَتَّى اجْتَمَعنَا، وَجَلَست مَعهَا فِيهِ، وغنت. وبكرت من غَد نشيطًا، مَسْرُورا، أشكر السيدة، وَأم المتقي، وأدعو لَهما، وأقامت الْجَارِيَة عِنْدِي، إِلَى أَن مَاتَت.

فارق جاريته ثم أجتمع شملهما

فَارق جَارِيَته ثمَّ أجتمع شملهما حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن الصروي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: كَانَ بِبَغْدَاد رجل من أَوْلَاد النعم، ورث من أَبِيه مَالا جَلِيلًا، وَكَانَ يتعشق جَارِيَة، وَأنْفق عَلَيْهَا شَيْئا كثيرا، ثمَّ اشْتَرَاهَا، وَكَانَت تحبه ويحبها، فَلم يزل ينْفق مَاله عَلَيْهَا إِلَى أَن أفلس. فَقَالَت لَهُ الْجَارِيَة: يَا هَذَا، قد بَقينَا كَمَا ترى، فَلَو طلبت معاشًا نقتات مِنْهُ. قَالَ: فَلم يجد لَهُ صناعَة غير الْغناء، إِذْ كَانَ الْفَتى من محبته لِلْجَارِيَةِ، وإحضاره المغاني إِلَيْهَا، ليزيدوها فِي صنعتها، قد تعلم الضَّرْب والغناء، وَخرج صَالحا فِي طبقَة الْغناء والحذق فِيهِ. فَشَاور بعض معارفه، فَقَالَ: مَا أعرف لَك معاشًا أصلح من أَن تغني للنَّاس، وَتحمل جاريتك إِلَيْهِم فتأخذ على هَذَا الْكثير، ويطيب عيشك. فَأَنف من ذَلِك، وَعَاد إِلَيْهَا، فَأَخْبرهَا بِمَا أُشير عَلَيْهِ بِهِ، وأعلمها أَن الْمَوْت أشهى عِنْده من هَذَا، فَصَبَرت مَعَه على الشدَّة مُدَّة. ثمَّ قَالَت: قد رَأَيْت لَك رَأيا. فَقَالَ: قولي. قَالَت: تبيعني، فَإِنَّهُ يحصل لَك من ثمني مَا تعيش بِهِ عَيْشًا صَالحا، وتخلص من هَذِه الشدَّة، وأحصل أَنا فِي نعْمَة، فَإِن مثلي لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا ذُو نعْمَة. فحملها إِلَى سوق النخاسين، فَكَانَ أول من اعترضها فَتى هاشمي من أهل الْبَصْرَة، ظريف، قد ورد بَغْدَاد للعب والتمتع، فاشتراها بِأَلف

وَخمْس مائَة دِينَار عينا. قَالَ الرجل: فحين لفظت بِالْبيعِ، وقبضت الثّمن، نَدِمت، واندفعت فِي بكاء عَظِيم، وحصلت الْجَارِيَة فِي أقبح من صُورَتي، وجهدت فِي الْإِقَالَة، فَلم يكن إِلَى ذَلِك سَبِيل. فَأخذت الدَّنَانِير فِي الْكيس، وَأَنا لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن أذهب، لِأَن بَيْتِي موحش مِنْهَا، وَورد عَليّ من اللَّطْم والبكاء مَا هوسني. فَدخلت مَسْجِدا، وَجَلَست فِيهِ أبْكِي، وأفكر فِيمَا أعمل، فحملتني عَيْني، فَتركت الْكيس تَحت رَأْسِي كالمخدة، ونمت. فَمَا شَعرت إِلَّا بِإِنْسَان قد جذبه من تَحت رَأْسِي فانتبهت فَزعًا، فَإِذا بِإِنْسَان قد أَخذ الْكيس، وَمر يعدو، فَقُمْت لعدو وَرَاءه، فَإِذا رجْلي مشدودة بخيط فِي وتد مَضْرُوب فِي آخر الْمَسْجِد، فَإلَى أَن تخلصت من ذَلِك، غَابَ الرجل عَن عَيْني. فَبَكَيْت، ولطمت، ونالني أَمر أَشد من الأول، وَقلت: قد فَارَقت من أحب، وبعته، لأستغني بِثمنِهِ عَن الصَّدَقَة، فقد صرت الْآن فَقِيرا، مفارقًا لمن أحب. فَجئْت إِلَى دجلة، ولففت وَجْهي برداء كَانَ على راسي، وَلم أكن أحسن أسبح، ورميت بنفسي فِي المَاء لأغرق. فَظن الْحَاضِرُونَ أَن ذَلِك لغلط وَقع عَليّ، فَطرح قوم نُفُوسهم خَلْفي، فأخذوني، وسألوني عَن أَمْرِي، فَأَخْبَرتهمْ، وَبقيت مِنْهُم بَين رَاحِم ومستجهل. إِلَى أَن خلا بِي شيخ مِنْهُم، فَأخذ يعظني، وَيَقُول: يَا هَذَا، ذهب مَالك، فَكَانَ مَاذَا حَتَّى تتْلف نَفسك، أَو مَا علمت أَن فَاعل هَذَا فِي نَار جَهَنَّم، وَلست أول من افْتقر بعد غنى، فَلَا تفعل وثق بِاللَّه تَعَالَى. ثمَّ قَالَ لي: أَيْن مَنْزِلك؟

فَقلت: فِي الْموضع الْفُلَانِيّ. فَقَالَ: قُم معي إِلَيْهِ، وَمَا فارقني حَتَّى حَملَنِي إِلَى منزلي، وَمَا زَالَ يؤنسني، ويعظني، إِلَى أَن بَان لَهُ السّكُون فِي، فشكرته. وَانْصَرف، فكدت أَن أقتل نَفسِي لوحشة منزلي عَليّ، ثمَّ ذكرت النَّار وَالْآخِرَة، فَخرجت من بَيْتِي هَارِبا، إِلَى بعض أصدقائي القدماء فِي حَال سعادتي، فَأَخْبَرته خبري، فَبكى رقة لي، وَأَعْطَانِي خمسين درهما. وَقَالَ: اقبل رَأْيِي، واخرج السَّاعَة من بَغْدَاد، وَاجعَل هَذِه نَفَقَة لَك إِلَى حَيْثُ وجدت قَلْبك يساعدك إِلَى قَصده، وَأَنت من أَوْلَاد الْكتاب، وخطك جيد، وأدبك صَالح، فاقصد بعض الْعمَّال، وأطرح نَفسك عَلَيْهِ، فَأَقل مَا فِي الْأَمر أَن تصير محررًا بَين يَدَيْهِ، وتعيش مَعَه، وَلَعَلَّ الله أَن يصنع لَك صنعا. فَعمِلت على هَذَا، وَجئْت إِلَى الكتبيين، وَقد قوي فِي نَفسِي أَن أقصد وَاسِط، وَكَانَ لي فِيهَا أقَارِب، فأجعلهم ذَرِيعَة لي إِلَى التَّصَرُّف مَعَ بعض عمالها. فحين جِئْت إِلَى الكتبيين، إِذا بزلال مقدم، وخزانة كَبِيرَة، وقماش كثير ينْقل إِلَى الزلَال، وَإِلَى الخزانة. فَسَأَلت: من يحملني إِلَى وَاسِط؟ فَقَالَ أحد ملاحي الزلَال: نَحن نحملك بِدِرْهَمَيْنِ إِلَى وَاسِط، وَلَكِن هَذَا

الزلَال لرجل هاشمي من أهل الْبَصْرَة، وَلَا يمكنا من حملك مَعَه على هَذِه الصُّورَة، وَلَكِن تلبس ثِيَاب الملاحين، وتجلس مَعنا كَأَنَّك وَاحِد منا. فحين رَأَيْت الزلَال، وَسمعت أَنه لرجل هاشمي، من أهل الْبَصْرَة، طمعت أَن يكون مُشْتَرِي جاريتي، فأتفرج بسماعها إِلَى وَاسِط. فَدفعت الدرهمين إِلَى الملاح، وعدت فاشتريت لي جُبَّة من جباب الملاحين فلبستها، وبعت تِلْكَ الثِّيَاب الَّتِي كَانَت عَليّ، وأضفتها إِلَى مَا معي من النَّفَقَة، واشتريت خبْزًا وإدامًا، وَجَلَست فِي الزلَال. فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى رَأَيْت جاريتي بِعَينهَا، وَمَعَهَا جاريتان تخدمانها، فحين رَأَيْتهَا سهل عَليّ مَا كَانَ بِي، وَمَا أَنا عَلَيْهِ. وَقلت: أسمع غناءها، وأراها، من هَاهُنَا إِلَى الْبَصْرَة، واعتمدت على أَن أجعَل قصدي إِلَى الْبَصْرَة، وطمعت فِي أَن أداخل مَوْلَاهَا، فأصير أحد ندمائه. وَقلت: وَلَا تخليني هِيَ من الْموَاد، فَإِنِّي واثق بهَا. وَلم يكن بأسرع من أَن جَاءَ الْفَتى الَّذِي اشْتَرَاهَا رَاكِبًا، وَمَعَهُ عدَّة ركبان، فنزلوا فِي الزلَال وانحدروا. فَلَمَّا صَارُوا بكلواذى، أخرج الطَّعَام، فَأكل هُوَ وَالْجَارِيَة، وَأكل الْبَاقُونَ على سطح الزلَال، وأطعموا الملاحين. ثمَّ أقبل على الْجَارِيَة، فَقَالَ لَهَا: إِلَى كم هَذِه المدافعة عَن الْغناء، وَهَذَا الْحزن والبكاء، مَا أَنْت أول من فَارق مَوْلَاهُ، فَعلمت مَا عِنْدهَا من أَمْرِي. ثمَّ ضربت ستارة فِي جَانب الزلَال، واستدعى الَّذين فِي سطحه، وَجلسَ مَعَهم خَارج الستارة، فَسَأَلت عَنْهُم، فَإِذا هم إخْوَته، وأخرجوا الصواني، ففرقوها عَلَيْهِم، وأحضروا النَّبِيذ. وَمَا زَالُوا يترفقون بالجارية، إِلَى أَن استدعت الْعود، فأصلحته، وجست

أوتاره، ثمَّ اندفعت تغني، من الثقيل الأول بِإِطْلَاق الْوتر فِي مجْرى الْوُسْطَى بَان الخليط بِمن عرفت فأدلجوا ... عمدا لقتلك ثمَّ لم يتحرّجوا وغدت كأنّ على ترائب نحرها ... جمر الغضا فِي ساجة يتأجّج قَالَ: ثمَّ غلبها الْبكاء، وَقطعت الْغناء، وتنغص على الْفتية سرورهم. وَوَقعت أَنا مغشيًا عَليّ، فَظن الْقَوْم أَنِّي قد صرعت، فَأذن بَعضهم فِي أُذُنِي، وصب عَليّ المَاء، فَأَفَقْت بعد سَاعَة. وَمَا زَالُوا يداورونها، ويرفقون بهَا، ويسألونها الْغناء، إِلَى أَن أصلحت الْعود، واندفعت تغني فِي الثقيل التاني: فوقفت أنسب بالذين تحملّوا ... وكأنّ قلبِي بالشفار يقطّع فَدخلت دَارهم أسائل عَنْهُم ... وَالدَّار خَالِيَة الْمنَازل بلقع

ثمَّ شهقت فَكَادَتْ تتْلف، وارتفع لَهَا بكاء عَظِيم، وصعقت أَنا، فتبرم بِي الملاحون، وَقَالُوا: كَيفَ حملنَا هَذَا الْمَجْنُون مَعنا. فَقَالَ بَعضهم: إِذا بَلغْتُمْ بعض الْقرى فأخرجوه وأريحونا مِنْهُ. فَجَاءَنِي أَمر عَظِيم، أعظم من كل شَيْء دفعت إِلَيْهِ، وَوضعت فِي نَفسِي التصبر، وَالْحِيلَة فِي أَن أعلمها بمكاني من الزلَال، لتمنع من إخراجي. وبلغنا إِلَى قرب الْمَدَائِن، فَقَالَ صَاحب الزلَال: اصعدوا بِنَا إِلَى الشط، فطرحوا إِلَى الشط، وَخرج الْجَمَاعَة، وَقد كَانَ الْمسَاء قد قرب، وَصعد أَكثر الملاحين يَتَغَوَّطُونَ، فَخَلا الزلَال، وَكَانَ الْجَوَارِي فِيمَن صعد إِلَى مستراح ضرب لَهُنَّ. فمضيت سَارِقا نَفسِي حَتَّى صرت خلف الستارة، فغيرت طَريقَة الْعود عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ، إِلَى طَريقَة أُخْرَى، وَرجعت إِلَى موضعي من الزلَال. وَفرغ الْقَوْم من حاجاتهم فِي الشط، ودافعوا وَالْقَمَر منبسط. فَقَالُوا لَهَا: بِاللَّه يَا ستي غنينا شَيْئا، وَلَا تنغصي علينا عيشنا. فَأخذت الْعود فجسته، فشهقت شهقة كَادَت تتْلف، وَقَالَت: وَالله، قد أصلح هَذَا الْعود مولَايَ، على طَريقَة من الضَّرْب كَانَ بهَا معجبًا، وَكَانَ يضْربهَا معي، وَوَاللَّه إِنَّه مَعنا فِي الزلَال. فَقَالَ لَهَا صَاحبهَا: وَالله، لَو كَانَ مَعنا مَا امتنعنا من عشرته، فَلَعَلَّهُ أَن يخف بعض مَا بك، فننتفع بغنائك. فَقَالَت: مَا أَدْرِي مَا تَقولُونَ، هُوَ، وَالله، مَعنا.

فَقَالَ الرجل للملاحين: وَيحكم، حملتم مَعنا إنْسَانا غَرِيبا؟ فَقَالُوا: لَا. فَأَشْفَقت أَن يَنْقَطِع السُّؤَال، فَصحت: نعم، هوذا أَنا. فَقَالَت: كَلَام مولَايَ، وَالله، وَجَاء بِي الغلمان إِلَى الرجل. فَلَمَّا رَآنِي عرفني، وَقَالَ: وَيحك، مَا هَذَا الَّذِي أَصَابَك؟ وَمَا أداك إِلَى هَذِه الْحَال؟ فصدقته عَن أَمْرِي، وبكيت، وَعلا نحيب الْجَارِيَة من خلف الستارة، وبكا هُوَ وَإِخْوَته بكاء شَدِيدا، رقة لنا. ثمَّ قَالَ: يَا هَذَا، وَالله، مَا وطِئت هَذِه الْجَارِيَة، وَلَا سَمِعت مِنْهَا غناء قبل هَذَا الْيَوْم، وَأَنا رجل موسع عَليّ وَالْحَمْد لله، وقدمت إِلَى بَغْدَاد لسَمَاع الْغناء، وَطلب أرزاقي من الْخَلِيفَة، وَقد بلغت من الْأَمريْنِ مَا أردْت. فَلَمَّا عولت على الرُّجُوع إِلَى وطني، أَحْبَبْت أَن أستصحب معي مغنية من بَغْدَاد، فاشتريت هَذِه الْجَارِيَة، لأضمها إِلَى عدَّة مغنيات عِنْدِي بِالْبَصْرَةِ. وَإِذ كنتما على هَذِه الْحَالة، فَأَنا، وَالله، أغتنم المكرمة وَالثَّوَاب فيكما، وَأشْهد الله تَعَالَى على أَنِّي إِذا صرت إِلَى الْبَصْرَة أعْتقهَا وأزوجك إِيَّاهَا، وَأجْرِي عَلَيْكُمَا مَا يكفيكما، على شريطة إِن أجبتني إِلَيْهَا. قلت: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أَن تحضرها عِنْدِي مَتى أردنَا الْغناء، تغني بحضورك وتنصرف بانصرافك إِلَى دَار أفرغها لَكمَا، وقماش أعطيكما إِيَّاه. قلت: يَا سَيِّدي، وَكَيف أمنع من هُوَ الْمُعْطِي، وأبخل على من يرد حَياتِي عَليّ، بِهَذَا الْمِقْدَار، وَأخذت أقبل يَده، فَمَنَعَنِي. ثمَّ أَدخل رَأسه إِلَى الْجَارِيَة، وَقَالَ: يرضيك هَذَا؟ فَأخذت تَدْعُو لَهُ، وتشكره. فاستدعى غُلَاما لَهُ، وَقَالَ لَهُ: خُذ بيد هَذَا الرجل، وَغير ثِيَابه، وبخره،

وَقدم لَهُ مَا يَأْكُلهُ، وَجِئْنَا بِهِ، فأخذني الْغُلَام، وَفعل بِي ذَلِك، وعدت، فَتركت بَين يَدي صينية. فاندفعت الْجَارِيَة تغني بنشاط، واستدعت النَّبِيذ، وشربت، وشربنا، وَأخذت أقترح عَلَيْهَا الْأَصْوَات الْجِيَاد، فتضاعف سرُور الرجل بهَا. وَمَا زلنا على ذَلِك أَيَّامًا، حَتَّى وصلنا نهر معقل، وَنحن سكارى، فَشد الزلَال فِي الشط. وأخذتني بولة المَاء فِي اللَّيْل، فَصَعدت على ضفة نهر معقل لأبول، فَحَمَلَنِي السكر على النّوم. وَدفع الزلَال وَأَنا لَا أعلم، وَأَصْبحُوا فَلم يجدوني، ودخلوا الْبَصْرَة، وَلم أنتبه أَنا إِلَّا بحمي الشَّمْس، فَجئْت إِلَى الشط، فَلم أر لَهُم عينا وَلَا أثرا. وَكنت قد أجللت الرجل أَن أسأله بِمن يعرف؟ وَأَيْنَ دَاره من الْبَصْرَة؟ واحتشمت غلمانه أَن أسألهم، فَبَقيت على شاطئ نهر معقل، كأول يَوْم بدأت بِي المحنة، وَكَأن مَا كنت فِيهِ مَنَام. فاجتازت بِي سمارية، فَقَعَدت فِيهَا، وَدخلت إِلَى الْبَصْرَة، وَمَا كنت دَخَلتهَا قطّ، فَنزلت خَانا، وَبقيت متحيرًا، لَا أَدْرِي مَا أعمل، وَلم يتَوَجَّه لي معاش. إِلَى أَن اجتاز بِي إِنْسَان أعرفهُ، فتبعته لأكشف لَهُ حَالي، ثمَّ أنفت من ذَلِك، وَدخل الرجل إِلَى منزله، فعرفته، وَجئْت إِلَى بقال كَانَ على بَاب الخان الَّذِي نزلته، فأعطيته دانقًا، وَأخذت مِنْهُ ورقة، وَجَلَست أكتب رقْعَة إِلَى الرجل.

فَاسْتحْسن الْبَقَّال خطي، وَرَأى رثاثة زيي، فَسَأَلَنِي عَن أَمْرِي، فَأَخْبَرته أَنِّي رجل ممتحن فَقير، قد تعذر عَليّ التَّصَرُّف، وَمَا بَقِي معي شَيْء، وَلم أشرح لَهُ أَكثر من هَذَا. فَقَالَ لي: تعْمل معي كل يَوْم بِنصْف دِرْهَم، وطعامك وكسوتك عَليّ، وتضبط حِسَاب دكاني؟ فَقلت: نعم. فَقَالَ: اصْعَدْ. فخرقت الرقعة، وصعدت، فَجَلَست مَعَه، أدبر أمره، وضبطت دخله وخرجه، وَكَانَ غلمانه يسرقونه، فأديت لَهُ الْأَمَانَة. فَلَمَّا كَانَ بعد شهر، رأى الرجل دخله زَائِدا، وخرجه نَاقِصا، فحمدني. وَبقيت مَعَه كَذَلِك شهرا آخر، ثمَّ جعل رِزْقِي فِي كل يَوْم درهما. وَلم يزل حَالي مَعَه يقوى، إِلَى أَن حَال الْحول، وَقد بَان لَهُ الصّلاح فِي أمره، فدعاني إِلَى أَن أَتزوّج بابنته، ويشاركني، فَفعلت. وَدخلت بِزَوْجَتِي، ولزمت الدّكان، وحالي يقوى، إِلَّا أنني فِي خلال ذَلِك، منكسر النَّفس، ميت النشاط، ظَاهر الْحزن. وَكَانَ الْبَقَّال رُبمَا شرب، فيجرني إِلَى مساعدته، فأمتنع، وَأظْهر لَهُ أَن ذَلِك بِسَبَب حزني على موتى لي. واستمرت بِي الْحَال على هَذَا سنتَيْن وَأكْثر. فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام، رَأَيْت النَّاس يجتازون بفاكهة، وَلحم، ونبيذ، اجتيازًا مُتَّصِلا، فَسَأَلت عَن ذَلِك؟

فَقيل لي: الْيَوْم الشعانين، يخرج فِيهِ أهل الظّرْف واللعب، بِالطَّعَامِ وَالشرَاب، والقيان إِلَى الأبلة، فيرون النَّصَارَى، وَيَشْرَبُونَ، ويفرحون. فدعتني نَفسِي إِلَى التفرج، وَقلت: لعَلي أصل إِلَى أَصْحَابِي، أَو أَقف لَهُم على خبر، فَإِن هَذَا من مظانهم. فَقلت لحمي: أُرِيد أَن أنظر إِلَى هَذَا المنظر. فَقَالَ: شَأْنك وَمَا تُرِيدُ، فَأصْلح لي طَعَاما، وَشَرَابًا، وَسلم إِلَيّ غُلَاما وسفينةً. فَخرجت وَركبت السَّفِينَة، وبدأت بِالْأَكْلِ، ثمَّ قدمت آنِية الشَّرَاب، وَجَلَست أشْرب حَتَّى وصلت البلة، وأبصرت النَّاس وَقد ابتدءوا يَنْصَرِفُونَ. فَإِذا بالزلال بِعَيْنِه، فِي أوساط النَّاس، سائرًا فِي نهر الأبلة، فتأملته، فَإِذا أَصْحَابِي على سطحه، وَمَعَهُمْ عدَّة مغنيات. فحين رَأَيْتهمْ لم أتمالك فَرحا، فطرحت إِلَيْهِم، فحين رأوني عرفوني، فكبروا، وأخذوني إِلَيْهِم، وسلموا عَليّ. وَقَالُوا: وَيحك، أَنْت حَيّ؟ وعانقوني، وفرحوا بِي، وسألوني عَن قصتي، فَأَخْبَرتهمْ بهَا، من أَولهَا إِلَى آخرهَا، على أتم شرح. فَقَالُوا: إِنَّا لما فقدناك فِي الْحَال، وَقع لنا أَنَّك بالسكر وَقعت فِي المَاء فغرقت، وَلم نشك فِي ذَلِك، فخرقت الْجَارِيَة ثِيَابهَا، وَكسرت الْعود، وجزت شعرهَا، وبكت، ولطمت، فَمَا منعناها من شَيْء من هَذَا.

ووردنا الْبَصْرَة، فَقُلْنَا لَهَا: مَا تحبين أَن نعمل مَعَك؟ فقد كُنَّا وعدنا مَوْلَاك وَعدا، تَمْنَعنَا الْمُرُوءَة من استخدامك بعده فِي حَال أَو سَماع. فَقَالَت: يَا مولَايَ لَا تمنعني من الْقُوت الْيَسِير، وَلبس الثِّيَاب السوَاد، وَأَن أصنع قبرًا فِي بَيت من الدَّار، وأجلس عِنْده، وَأَتُوب من الْغناء، فمكناها من ذَلِك، فَهِيَ جالسة عِنْده إِلَى الْآن. وأخذوني مَعَهم، فحين دخلت، ورأيتها بِتِلْكَ الصُّورَة، ورأتني، شهقت شهقةً عَظِيمَة، فَمَا شَككت فِي تلفهَا، وأعتنقتها، فَمَا افترقنا سَاعَة طَوِيلَة. ثمَّ قَالَ لي مَوْلَاهَا: خُذْهَا. فَقلت: بل تعتقها وَتَزَوَّجنِي بهَا، كَمَا وَعَدتنِي. فَفعل ذَلِك، وَدفع لنا ثيابًا كَثِيرَة، وفرشًا، وقماشًا، وَحمل إِلَيّ خمس مائَة دِينَار. وَقَالَ: هَذَا قدر مَا أردْت أَن أجريه عَلَيْكُم فِي كل شهر من أول شهر دخولي إِلَى الْبَصْرَة، وَقد اجْتمع فِي طول هَذِه الْمدَّة، والجراية فِي كل شهر غير هَذَا، وَشَيْء آخر لكسوتك، وَكِسْوَة الْجَارِيَة، وَالشّرط فِي المنادمة وَسَمَاع الْجَارِيَة من وَرَاء الستارة بَاقٍ، وَقد وهبت لَك الدَّار الْفُلَانِيَّة، وَهَذِه مفاتيحها. فَأخذت المفاتيح، وأتيت إِلَى الدَّار، فَوَجَدتهَا مفروشة بأنواع الْفرش، وَإِذا بذلك الْفرش والقماش الَّذِي أَعْطيته فِيهَا، وَالْجَارِيَة. فسررت بذلك سُرُورًا عَظِيما، وَجئْت إِلَى الْبَقَّال، فَحَدَّثته حَدِيثي، وَطلقت ابْنَته، ووفيتها صَدَاقهَا. وأقمت مَعَ الْجَارِيَة سِنِين، وصرت رب ضَيْعَة ونعمة، وَصَارَ حَالي إِلَى

قريب مِمَّا كنت عَلَيْهِ أَولا. وَأَنا أعيش كَذَلِك مَعَ جاريتي، إِلَى الْآن.

أمير البصرة يجمع بين متحابين

أَمِير الْبَصْرَة يجمع بَين متحابين روى أَبُو روق الهزاني، عَن الرياشي: أَن بعض أهل النعم بِالْبَصْرَةِ، اشْترى جَارِيَة، وَأحسن تأديبها وَتَعْلِيمهَا، وأحبها حبا شَدِيدا، وَأنْفق عَلَيْهَا حَتَّى أملق، ومسّهما الضّر الشَّديد، والفقر المبيد. فَقَالَ لَهَا يَوْمًا: قد تَرين مَا صرنا إِلَيْهِ من الْفقر، وَوَاللَّه، لموتي وَأَنت معي، أَهْون عَليّ مِمَّا أذكرهُ لَك، ويسوءني أَن أَرَاك على غير الْحَالة الَّتِي تسرني فِيك، وَنِهَايَة الْأَمر بِنَا، أَن تحل بأحدنا منيته، فَيقْتل الآخر نَفسه عَلَيْهِ، فَإِن رَأَيْت أَن أبيعك لمن يحسن إِلَيْك، فَيغسل عَنْك مَا أَنْت فِيهِ، وأتفرج أَنا بِمَا لَعَلَّه يصير إِلَيّ من الشَّيْء من ثمنك، ولعلك تحصلين عِنْد من تتوصلين إِلَى نفعي مَعَه. فَقَالَت: وَالله لموتي وَأَنا على تِلْكَ الْحَالة، أَهْون عَليّ من انتقالي إِلَى غَيْرك، وَلَكِن أفعل مَا بدا لَك. وَقَالَت لَهُ الْجَارِيَة: إِنِّي لأرثي لَك يَا مولَايَ، مِمَّا أرى بك من سوء الْحَال، فَلَو بعتني فانتفعت بثمني، فَلَعَلَّ الله أَن يصنع لَك صنعا جميلًا، وأقع أَنا بِحَيْثُ يحسن حَالي، فَيكون ذَلِك أصلح لكل وَاحِد منا. فَخرج، وعرضها للْبيع، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أحد أصدقائه، مِمَّن لَهُ رَأْي، أَن

يحملهَا إِلَى عمر بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيّ، وَكَانَ أَمِير الْبَصْرَة يَوْمئِذٍ، فَأَعْجَبتهُ. فَقَالَ لمولاها: كم شراؤها عَلَيْك؟ قَالَ: بِأَلف دِينَار، وَقد أنفقت عَلَيْهَا أَكثر من مائَة ألف دِرْهَم. قَالَ: أما مَا أنفقت عَلَيْهَا، فَغير محتسب لَك، لِأَنَّك أنفقته فِي لذاتك، وَأما ثمنهَا، فقد أمرنَا لَك بِمِائَة ألف دِرْهَم، وَعشرَة سفاط ثِيَاب، وَعشرَة رُءُوس من الْخَيل، وَعشرَة من الرَّقِيق، أرضيت؟ قلت: نعم، رضيت، فَأمر بِالْمَالِ فأحضر. فَلَمَّا قبض الْمولى الثّمن، وَأَرَادَ الِانْصِرَاف، استعبر كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى صَاحبه باكيًا، وأنشأت الْجَارِيَة تَقول: هَنِيئًا لَك المَال الَّذِي قد حويته ... وَلم يبْق فِي كفّي إِلَّا التفكّر أَقُول لنَفْسي وَهِي فِي كرباتها ... أقلّي فقد بَان الحبيب أَو أكثري إِذا لم يكن لِلْأَمْرِ عِنْدِي حِيلَة ... وَلم تجدي شَيْئا سوى الصَّبْر فاصبري قَالَ: فَاشْتَدَّ بكاء الْمولى، وَعلا نحيبه، ثمَّ أنشأ يَقُول: فلولا قعُود الدَّهْر بِي عَنْك لم يكن ... يفرّقنا شَيْء سوى الْمَوْت فاعذري أروح بهمّ فِي الْفُؤَاد مبرّح ... أُنَاجِي بِهِ قلبًا طَوِيل التفكّر

عَلَيْك سَلام لَا زِيَارَة بَيْننَا ... وَلَا وصل إِلَّا أَن يَشَاء ابْن معمر فَقَالَ لَهُ ابْن معمر: قد شِئْت يَا هَذَا، خُذ جاريتك، بَارك الله لَك فِيهَا وَفِيمَا صَار إِلَيْك من المَال، وانصرفا راشدين، فوَاللَّه، لَا كنت سَببا فِي فرقة محبين. فَأَخذهَا وَأخذ المَال وَالْخَيْل وَالرَّقِيق وَالثيَاب، وأثرى وَحسنت حَاله. وَأَخْبرنِي الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، خَليفَة أبي رَحمَه الله على الْقَضَاء بهَا، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سعيد، أَن الزبير حَدثهمْ، قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي بكر المؤملي، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن أبي عُبَيْدَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر، قَالَ: كَانَت لفتى من الْعَرَب جَارِيَة جميلَة، وَكَانَ بهَا معجبًا، يجد بهَا وجدا شَدِيدا، فَلم يزل ينْفق عَلَيْهَا حَتَّى أملق وَاحْتَاجَ، وَجعل يسْأَل إخوانه، فَقَالَت الْجَارِيَة. . . وَذكر بَقِيَّة الْخَبَر على قريب مِمَّا رَوَاهُ الرياشي، والألحان فِي الشّعْر على مَا رَوَاهُ الزبير. وَوجدت هَذَا الْخَبَر مَذْكُورا بقريب من هَذِه الْأَلْفَاظ، فِي كتاب أَخْبَار المتيمين للمدائني، وَقد زَاد فِيهِ، أَن الْجَارِيَة كَانَت قينة، وَلم يذكر الشّعْر الأول.

من مكارم جعفر بن يحيى البرمكي

من مَكَارِم جَعْفَر بن يحيى الْبَرْمَكِي وحَدثني أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بالأصبهاني، إملاء من حفظه، قَالَ: حَدثنِي الْحُسَيْن بن يحيى المرداسي، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: لما دخل الرشيد الْبَصْرَة حاجًّا، كنت مَعَه، فَقَالَ لي جَعْفَر بن يحيى: يَا أَبَا مُحَمَّد، قد وصفت لي جَارِيَة مغنية حسناء محسنة، تبَاع، وَذكر أَن مَوْلَاهَا مُمْتَنع من عرضهَا إِلَّا فِي دَاره، وَقد عزمت على أَن أركب مستخفيًا، فأعترضها، أفتساعدني؟ فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. فَلَمَّا كَانَ فِي نصف النَّهَار حضر النخاس، فَأعْلم بِحُضُورِهِ، فَخرج جَعْفَر بعمامة وطيلسان ونعل عَرَبِيَّة، وَأَمرَنِي فَلبِست مثل ذَلِك، وركبنا حِمَارَيْنِ قد أسرجا بسروج التُّجَّار، وَركب النخاس مَعنا، وطلبنا الطَّرِيق. فَلم يزل النخاس يسير بَين أَيْدِينَا، حَتَّى أَتَيْنَا بَابا شاهقًا يدل على نعْمَة قديمَة، فقرع النخاس الْبَاب، وَإِذا بشاب حسن الْوَجْه، عَلَيْهِ أثر ضرّ باد، وقميص غليظ خشن، فَفتح لنا الْبَاب، وَقَالَ لنا: انزلوا يَا سادة، فَدَخَلْنَا. فَأخْرج لنا الرجل قِطْعَة حَصِير خلق، ففرشها لنا، فَجَلَسْنَا عَلَيْهَا.

فَقَالَ لَهُ النخاس: أخرج الْجَارِيَة، فقد حضر المُشْتَرِي. فَدخل الْبَيْت، وَإِذا الْجَارِيَة قد خرجت فِي الْقَمِيص الغليظ الَّذِي كَانَ على الْفَتى بِعَيْنِه، وَهِي فِيهِ، مَعَ خشونته، كَأَنَّهَا فِي الْحلِيّ وَالْحلَل، لحسن وَجههَا، وَفِي يَدهَا عود. فَأمرهَا جَعْفَر بِالْغنَاءِ، فَجَلَست، وَضربت ضربا حسنا، واندفعت تغني: إِن يمس حبلك بعد طول تواصلٍ ... خلقا وَيُصْبِح بَيتكُمْ مَهْجُورًا فَلَقَد أَرَانِي والجديد إِلَى بلَى ... دهرًا بوصلك رَاضِيا مَسْرُورا جذلًا بِمَا لي عنْدكُمْ لَا أَبْتَغِي ... بَدَلا بوصلك خلة وعشيرا كنت المنى وأعزّ من وطئ الْحَصَى ... عِنْدِي وَكنت بِذَاكَ مِنْك جَدِيرًا ثمَّ غلبها الْبكاء حَتَّى منعهَا من الْغناء، وَسَمعنَا من الْبَيْت نحيب الْفَتى، وَقَامَت الْجَارِيَة تتعثر فِي أذيالها، حَتَّى دخلت الْبَيْت، وَارْتَفَعت لَهما ضجة بالبكاء والشهيق، حَتَّى ظننا أَنَّهُمَا قد مَاتَا، وهممنا بالانصراف. فَإِذا بالفتى قد خرج وَعَلِيهِ ذَلِك الْقَمِيص بِعَيْنِه، فَقَالَ: أَيهَا الْقَوْم، أعذروني فِيمَا أَفعلهُ وأقوله. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: قل. فَقَالَ: أشهد الله تَعَالَى، وأشهدكم، أَن هَذِه الْجَارِيَة حرَّة لوجه الله تَعَالَى، وأسألكم أَن تزوجوني بهَا. قَالَ: فتحير جَعْفَر أسفا على الْجَارِيَة، ثمَّ قَالَ لَهَا: أتحبين أَن أزَوجك. من مَوْلَاك؟ قَالَت: نعم.

فقرر الصَدَاق، وخطب، وَزوجهَا بِهِ، ثمَّ أقبل على الْفَتى، وَقَالَ لَهُ: مَا حملك على هَذَا؟ فَقَالَ: حَدِيثي طَوِيل، إِن نشطت لَهُ حدثتك بِهِ. فَقَالَ: لَا أقل من أَن نَسْمَعهُ، فَلَعَلَّنَا أَن نبسط عذرك. فَقَالَ: أَنا فلَان ابْن فلَان، وَكَانَ أبي من وُجُوه أهل هَذَا الْبَلَد، ومياسيره، وَهَذَا عَارِف بذلك، وَأَوْمَأَ إِلَى النخاس. وأسلمني أبي إِلَى الْكتاب، وَكَانَت لأمي صبية قريب سني من سنّهَا، وَهِي جاريتي هَذِه، وَكَانَت معي فِي الْمكتب، تتعلم مَا أتعلم، وتنصرف معي. فبلغت، ثمَّ بطلت من الْكتاب، وتعلمت الْغناء، فَكنت لمحبتي لَهَا أتعلمه مَعهَا، وَتعلق قلبِي بهَا، وأحببتها حبًّا شَدِيدا. وَبَلغت أَنا أَيْضا، فخطبني وُجُوه أهل الْبَصْرَة لبناتهن، فخيرني أبي، فأظهرت لَهُ الزّهْد فِي التَّزْوِيج، ونشأت متوفرًا على الْأَدَب، متقلبًا فِي نعم أبي، غير متعرض لما يتَعَرَّض لَهُ الْأَحْدَاث، لتَعلق قلبِي بالصبية، ورغبة أهل الْبَلَد تزداد فِي، وَعِنْدهم أَن عفتي لصلاح، وَمَا كَانَت إِلَّا لتَعلق قلبِي بالجارية، وَأَن شهوتي لَا تتعداها لأحد. وَبلغ حذقها فِي الْغناء إِلَى مَا قد سمعتموه، فعزمت أُمِّي على بيعهَا، وَهِي لَا تعلم مَا فِي نَفسِي مِنْهَا، فأحسست بِالْمَوْتِ، واضطررت إِلَى أَن حدثت أُمِّي عَن الصُّورَة، فَحدثت أبي، فَاجْتمع رأيهما على أَن وهبا لي الْجَارِيَة، وجهزاها

كَمَا يُجهز أهل البيوتات بناتهن، وجليت عَليّ، وَعمل لنا عرس حسن، ونعمت مَعهَا دهرًا طَويلا. ثمَّ مَاتَ أبي، وَخلف لي مَالا كثيرا، فَلم أحسن أَن أرب نعْمَته، وأسأت التَّدْبِير فِيهَا، وأسرعت فِي الْأكل وَالشرب والقيان، وَأَنا مَعَ ذَلِك أجذر فِي الْيَوْم الْوَاحِد بِخَمْسِينَ دِينَارا أَو أَكثر. فَأوجب ذَلِك أَن تلفت النِّعْمَة، وأفضت الْحَال إِلَى نقض الدَّار وَبيع مَا فِيهَا، حَتَّى صرت إِلَى مَا ترى، وَأَنا على هَذَا مُنْذُ سِنِين. فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْوَقْت، وَبَلغنِي دُخُول الْخَلِيفَة، ووزيره، وَأهل مَمْلَكَته، الْبَصْرَة، قلت لَهَا: يَا ستي، اعلمي أَن شبابك قد بلي، وَأَن عمرك فِي الشَّقَاء يَنْقَضِي، وَبِاللَّهِ، إِن نَفسِي تالفة من فراقك، وَلَكِنِّي أُؤْثِر تلفهَا مَعَ وصولك إِلَى نعْمَة ورفاهية، فدعيني أعرضك، لَعَلَّ أَن يشتريك بعض هَؤُلَاءِ الأكابر، فتحصلي مَعَه فِي رغد عَيْش، فَإِن مت بعْدك فَذَاك الَّذِي أوثر، وَيكون كل وَاحِد منا قد تخلص من الشَّقَاء، وَإِن حكم الله تَعَالَى عَليّ بِالْبَقَاءِ، صبرت على قَضَائِهِ. فَبَكَتْ من ذَلِك، وقلقت، ثمَّ قَالَت: افْعَل مَا تحب. فَخرجت إِلَى هَذَا النخاس، فأطلعته على أَمْرِي، وَقد كَانَ يسمع غناءها أَيَّام نعمتي، وَعرف حَالهَا وحالي، وأعلمته أَنِّي لَا أعرضها إِلَّا عِنْدِي، فَإِنَّهَا، وَالله، مَا طرقت رجلهَا خَارج بَاب الدَّار قطّ، وقصدت بذلك أَن يَرَاهَا المُشْتَرِي، وَلَا تدخل بيُوت النَّاس، وَلَا إِلَى السُّوق، وَإِنَّهَا لم يكن لَهَا مَا تلبسه إِلَّا قَمِيصِي هَذَا، وَهُوَ مُشْتَرك بَيْننَا، ألبسهُ أَنا إِذا خرجت لأبتاع الْقُوت، وتتشح هِيَ بإزارها، وَإِذا جِئْت إِلَى الْبَيْت، ألبستها إِيَّاه، وأتشح أَنا بالإزار.

فَلَمَّا حصل من يعترضها، وَخرجت فغنتكم، لَحِقَنِي من القلق والبكاء لفراقها أَمر عَظِيم، فَدخلت إِلَيّ، وَقَالَت: يَا هَذَا، مَا أعجب أَمرك، أَنْت مللتني، وَأَرَدْت بيعي وفراقي، وتبكي هَذَا الْبكاء؟ فَقلت لَهَا: يَا هَذِه، إِن فِرَاق نَفسِي أسهل عَليّ من فراقك، وَإِنَّمَا أردْت أَن تتخلصي من هَذَا الشَّقَاء. فَقَالَت: وَالله، لَو ملكتُ مِنْك مَا ملكتَ مني، مَا بِعْتُك أبدا، وأموت جوعا وعريًا، فَيكون الْمَوْت هُوَ الَّذِي يفرق بَيْننَا. فَقلت: أَتُرِيدِينَ أَن تعلمي صدق قولي؟ قَالَت: نعم. قلت: هَل لَك أَن أخرج السَّاعَة إِلَى المُشْتَرِي فأعتقك بَين يَدَيْهِ وأتزوجك، ثمَّ أَصْبِر مَعَك على مَا نَحن فِيهِ إِلَى أَن يَأْذَن الله تَعَالَى بفرج أَو موت؟ فَقَالَت: إِن كَانَ قَوْلك صَادِقا، فافعل مَا بدا لَك من هَذَا، فَمَا أُرِيد غَيره. فَخرجت إِلَيْكُم فَكَانَ مني مَا قد علمْتُم، فاعذروني. فَقَالَ جَعْفَر الْوَزير: أَنْت مَعْذُور، ونهض، ونهضت مَعَه، والنخاس مَعنا. فَلَمَّا قدم حِمَاره ليركب، دَنَوْت مِنْهُ، وَقلت: يَا سُبْحَانَ الله، مثلك فِي جودك، يرى مثل هَذِه المكرمة، فَلَا ينتهز الفرصة فِيهَا؟ وَالله، لقد تقطع قلبِي عَلَيْهِمَا. فَقَالَ: وَيحك، وقلبي، وَالله، كَذَلِك، وَلَكِن غيظي من فَوت الْجَارِيَة إيَّايَ يَمْنعنِي من التكرم عَلَيْهِ. فَقلت: وَأَيْنَ الرَّغْبَة فِي الثَّوَاب؟ فَقَالَ: صدقت وَالله.

ثمَّ الْتفت إِلَى النخاس، فَقَالَ: كم كَانَ الْخَادِم سلم إِلَيْك عِنْد ركوبنا، لتشتري بِهِ الْجَارِيَة؟ فَقَالَ: ثَلَاثَة آلَاف دِينَار. فَقَالَ: أَيْن هِيَ؟ فَقَالَ: مَعَ غلامي. فَقَالَ لي وللنخاس: خذاها وادفعاها إِلَى الْفَتى، وقولا لَهُ: يكتسي ويركب ويجيئني، لأحسن إِلَيْهِ وأستخدمه. فرجعنا إِلَى الْفَتى، فَإِذا هُوَ يبكي، فَقلت لَهُ: قد عجل الله فرجك، اعْلَم أَن الَّذِي خرج من عنْدك هُوَ الْوَزير جَعْفَر بن يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي، وَقد أَمر لَك بِهَذَا، وَهُوَ يَقُول لَك كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَصعِقَ، حَتَّى قلت قد تلف، ثمَّ أَفَاق، فَأقبل يَدْعُو لجَعْفَر، ويشكرني. وَكنت قد ركبت فلحقت بالوزير، وأعلمته، فَحَمدَ الله عز وَجل على مَا وهبه لَهُ، وَعَاد إِلَى دَاره وَأَنا مَعَه. فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء، جِئْنَا إِلَى الرشيد، فَأقبل يسْأَل جَعْفَر خَبره فِي يَوْمه، وَهُوَ يُخبرهُ، إِلَى أَن قصّ عَلَيْهِ حَدِيث الْفَتى وَالْجَارِيَة. فَقَالَ لَهُ الرشيد: فَمَا عملت مَعَه؟ فَأخْبرهُ. فاستصوب رَأْيه، وَقَالَ: وقّع لَهُ برزق سلطاني فِي رسم أَرْبَاب النعم، فِي كل شهر كَذَا وَكَذَا، واعمل بِهِ بعد ذَلِك مَا شِئْت. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، جَاءَنَا الْفَتى رَاكِبًا بِثِيَاب حَسَنَة، وهيأة جميلَة، فَإِذا

بِهِ من أحلى النَّاس كلَاما، وأتمهم أدبًا. فَحَملته إِلَى جَعْفَر، وأوصلته إِلَى مَجْلِسه، فَأمر بتسهيل وُصُوله إِلَيْهِ، وخلطه بحاشيته، وَوَقع لَهُ عَن الْخَلِيفَة بِمَا رسم لَهُ، وَعَن نَفسه بِشَيْء آخر. وشاع حَدِيثه فِي الْبَصْرَة، وَفِي أهل الْعَسْكَر، فَلم يبْق فيهم متغزل، وَلَا متظرف، إِلَّا أهْدى لَهُ شَيْئا جَلِيلًا، فَمَا خرجنَا من الْبَصْرَة إِلَّا وَهُوَ رب نعْمَة صَالِحَة. وَوجدت هَذَا الْخَبَر، على خلاف هَذَا، مَا ذكره أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن الْحسن بن جُمْهُور الْعمي الْبَصْرِيّ الْكَاتِب، فِي كتاب (السمار والندامى) : أَن الرشيد لما حج وَمَعَهُ إِبْرَاهِيم الْموصِلِي،. . . فَأخْبرنَا بالْخبر على قريب مَا روينَاهُ وَذَكَرْنَاهُ، وَأَن الْجَارِيَة بدأت وغنت بِصَوْت من صناعَة إِبْرَاهِيم، وَهُوَ: نمّت عليّ الزفرة الصاعدة ... وملّني الْعَائِد والعائدة يَا ربّ كم فرّجت من كربَة ... عنّي فهذي المرّة الْوَاحِدَة وَأَن الَّذِي حضر لتقليب الْجَارِيَة، الرشيد وجعفر بن يحيى متنكرين، ومعهما إِبْرَاهِيم الْموصِلِي والنخاس، وَأَنَّهُمْ انصرفوا، وَقَطعُوا الثّمن بِمِائَة ألف دِرْهَم،

ثمَّ عَادوا وَالْمَال مَعَهم، فَأمروا بِإِعَادَة التقليب، فَخرجت الْجَارِيَة، فغنت بِصَوْت، الْغناء فِيهِ لإِبْرَاهِيم، وَهُوَ: وَمن عَادَة الدُّنْيَا بأنّ صروفها ... إِذا سرّ مِنْهَا جَانب سَاءَ جَانب وَمَا أعرف الأيّام إِلَّا ذميمة ... وَلَا الدَّهْر إِلَّا وَهُوَ للثأر طَالب ثمَّ ذكر بَقِيَّة الحَدِيث على قريب من هَذَا، وَفِي الْخَبَر الأول زيادات، لَيست فِي خبر ابْن جُمْهُور.

من مكارم يحيى بن خالد البرمكي

من مَكَارِم يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَبَلغنِي خبر لجَعْفَر بن يحيى، مَعَ جَارِيَة، يُقَارب هَذَا الْخَبَر، أَخْبرنِي بِهِ أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، خَليفَة أبي رَضِي الله عَنهُ، على الْقَضَاء بهَا، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن الصَّلْت الْحمانِي، قَالَ: حَدثنَا مُفْلِح وسنبر النخاسان، قَالَا: أرسل إِلَيْنَا جَعْفَر بن يحيى الْبَرْمَكِي، يطْلب جَارِيَة قوالة، ذَات أدب وظرف، على صفة ذكرهَا وَحدهَا، فَمَا زلنا نحرص على طلبَهَا، ونتواصف من يعرف عَنْهَا مثل ذَلِك. وَإِلَى جانبنا شيخ من أهل الْكُوفَة يسمع كلامنا، فَأقبل علينا، وَقَالَ: عِنْدِي بغية الْوَزير، فانهضوا إِن شِئْتُم لتنظروا إِلَيْهَا. قَالَ: فنهضنا مَعَه، حَتَّى إِذا وصلنا إِلَى دَاره، وجدناها ظَاهِرَة الاختلال، وَوجدنَا فِيهَا مسحًا خلقا، وَثَلَاث قصبات عَلَيْهَا مسرجة، فارتبنا بقوله لنا،

لما ظهر من سوء حَاله. ثمَّ أخرج إِلَيْنَا جَارِيَة كَأَنَّهَا، وَالله، فلقَة قمر، تتثنى كالقضيب، فاستقرأناها، فَقَرَأت آيَات من الْقُرْآن، حركت منا مَا كَانَ سَاكِنا، وأتبعتها بقصيدة مليحة، شوقتنا، وأطربتنا. فَقُلْنَا لَهَا: أصانعة؟ وأشرنا إِلَى يَدهَا. فَقَالَت: نعم، تعلمت الْعَمَل بِالْعودِ وَأَنا صَغِيرَة. فَقُلْنَا: فغنينا بِهِ. فَقَالَت: سُبْحَانَ الله، هَل يصلح أَن أستجيب لذَلِك إِلَّا لمولى مَالك إِن دَعَاني إِلَيْهِ أَجَبْته. قَالَ: وَرَاح الرَّسُول إِلَى جَعْفَر، فَأخْبرهُ بِمَا شَاهده. فَلم يَتَمَالَك جَعْفَر، لما سمع بِصفة الْجَارِيَة، حَتَّى استنهض الرَّسُول إِلَى مجْلِس الشَّيْخ، وَهُوَ يتبعهُ، حَتَّى عاينه، وَسَأَلَهُ إخْرَاجهَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهَا جَعْفَر أعجب بهَا قبل أَن يستنطقها، ثمَّ إِنَّه استنطقها، فَأخذت بِمَجَامِع قلبه. فَقَالَ لمولاها: قل مَا شِئْت؟ فَقَالَ الشَّيْخ: لست أحدث أمرا حَتَّى أستأذنها، وَلَوْلَا الضّر الَّذِي نَحن فِيهِ لما عرضتها، لَكِن حَالي كَمَا يُشَاهِدهُ الْوَزير من فقر، وضر، وَدين كثير قد فدحني، وَمن أَجله فَارَقت وطني، وَعرضت على البيع ثَمَرَة فُؤَادِي. فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: مَا مقدارها فِي نَفسك إِن أردْت بيعهَا؟

فَقَالَ: ثَلَاثُونَ ألف دِينَار. فَقَالَ جَعْفَر: فَهَل لَك أَن تأمرها بِأَن تغنينا؟ فَأقبل الشَّيْخ عَلَيْهَا فاستدناها، وأمرها أَن تغني، فَأخذت الْعود، وأصلحته، ثمَّ استعبرت، وغنت بِصَوْت، الْغناء من صَنْعَة إِبْرَاهِيم: وَمن عَادَة الأيّام أنّ صروفها ... إِذا سرّ مِنْهَا جَانب سَاءَ جَانب وَمَا أعرف الأيّام إِلَّا ذميمةً ... وَلَا الدَّهْر إِلَّا وَهُوَ بالثأر طَالب قَالَ: ثمَّ أَنَّهَا أَلْقَت الْعود من يَدهَا، وصرخت، وصرخ الشَّيْخ، وَجعلا ينتحبان. ثمَّ إِن الشَّيْخ أقبل على جَعْفَر وَمن مَعَه، وَقَالَ: أشهدكم أَنِّي قد أعتقتها، وَجعلت عتقهَا صَدَاقهَا، وَالله، لَا ملكهَا أحد أبدا. فَغَضب جَعْفَر، وَأَقْبل من حضر على الشَّيْخ يؤنبونه ويستجهلونه، وَيَقُولُونَ لَهُ: ضيعت هَذَا المَال الْجَلِيل، وعجلت، وجهلت. فَقَالَ الشَّيْخ: النَّفس أولى أَن يبْقى عَلَيْهَا من المَال، والرازق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعَاد جَعْفَر إِلَى أَبِيه فَأخْبرهُ بِمَا كَانَ من الرجل وَالْجَارِيَة. فَقَالَ لَهُ أَبوهُ: فَمَا صنعت بهما؟ قَالَ: تركتهما وانصرفت. فَقَالَ لَهُ: وَيحك، مَا أنصفت يَا وَلَدي، أَو مَا أنفت على نَفسك أَن تفرق بَين متحابين مثلهمَا، مقترين، فقيرين، أَو تَنْصَرِف عَنْهُمَا، وَلَا تجبر حَالهمَا؟ أرضيت أَن يكون الْكُوفِي أسمح مِنْك. ودعا بِغُلَام، فَحمل مَعَه إِلَى الشَّيْخ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار على بغال.

فَلَمَّا وصل المَال إِلَى الشَّيْخ قبله وَأَخذه، وَحمد الله عز وَجل، ودعا لجَعْفَر ولوالده، وَعَاد بِالْمَالِ وَالْجَارِيَة إِلَى منزله بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ فَرح مسرور، وَقد فرج الله عَنهُ.

أين نوال ابن جعفر من نوال ابن معمر

أَيْن نوال ابْن جَعْفَر من نوال ابْن معمر وَوجدت فِي بعض كتبي: أَن عمر بن شبة، قَالَ: حَدثنِي أَبُو غَسَّان، قَالَ: أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: اشْترى عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب رَضِي الله عَنْهُمَا جَارِيَة من مولدات أهل مَكَّة، كَانَ يتعشقها غُلَام من أَهلهَا، وَقدم فِي أمرهَا إِلَى الْمَدِينَة، فَنزل قَرِيبا من منزل عبد الله بن جَعْفَر، ثمَّ جعل يلطف عبد الله بطرائف مَكَّة، حَتَّى عرفت الْجَارِيَة أَنه ورد. وَجعلت الْجَارِيَة تراسله، فأدخلته لَيْلَة فِي إصطبل دَوَاب عبد الله بن جَعْفَر، فعثر عَلَيْهِ السائس، فَأعْلم عبد الله بن جَعْفَر، وَأَتَاهُ بِهِ. فَقَالَ لَهُ: مَالك، قبحك الله، أبعد تحرمك بِنَا تصنع مثل هَذَا؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّك ابتعت الْجَارِيَة، وَكنت لَهَا محبًا، وَكَانَت تَجِد بِي مثل ذَلِك. قَالَ: فَدَعَا بالجارية، وسألها، فَجَاءَت بِمثل قصَّة الْفَتى. فَقَالَ لَهُ: خُذْهَا، فَهِيَ لَك. فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك بقريب، عشق عبد السَّلَام بن أبي سُلَيْمَان، مولى مُسلم، جَارِيَة لآل طَلْحَة، يُقَال لَهَا: رواح، وَرَجا أَن يَفْعَلُوا بِهِ مِثْلَمَا فعل ابْن جَعْفَر بالفتى الْمَكِّيّ، فَلم يفعل الطلحيون ذَلِك، فَسَأَلَ فِي ثمنهَا، حَتَّى اجْتمع لَهُ، فاشتراها مِنْهُم. فَقَالَ عبد السَّلَام فِي ذَلِك:

وَأَيْنَ فَلَا تعدل نوال ابْن جَعْفَر ... وَأَيْنَ لعمري من نوال ابْن معمر يطير لَدَى الجنّات هَذَا لفضله ... ويرفضّ هَذَا فِي الْجَحِيم المسعّر

ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى رجل من المتفقهة

ابْن أبي حَامِد صَاحب بَيت المَال يحسن إِلَى رجل من المتفقهة وَقد كَانَ فِيمَا يُقَارب عصرنا مثل هَذَا، وَهُوَ مَا حَدثنِي بِهِ أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ الْحَافِظ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن أَحْمد الْجِرْجَانِيّ الْفَقِيه، قَالَ: كُنَّا ندرس على أبي إِسْحَاق الْمروزِي الشَّافِعِي، وَكَانَ يدرس عَلَيْهِ مَعنا فَتى من أهل خُرَاسَان، لَهُ وَالِد هُنَاكَ، وَكَانَ يُوَجه إِلَيْهِ فِي كل سنة، مَعَ الْحَاج، قدر نَفَقَة السّنة. فَاشْترى جَارِيَة، فَوَقَعت فِي نَفسه، وألفها، وألفته، وَكَانَت مَعَه سِنِين. وَكَانَ رسمه أَن يستدين فِي كل سنة، دينا، بِقدر مَا يعجز من نَفَقَته، فَإِذا جَاءَ مَا أنفذه أَبوهُ إِلَيْهِ، قضى دينه، وَأنْفق الْبَاقِي مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى الِاسْتِدَانَة. فَلَمَّا كَانَ سنة من السنين، جَاءَ الْحَاج، وَلَيْسَ مَعَهم نَفَقَة من أَبِيه. فَسَأَلَهُمْ عَن سَبَب ذَلِك، فَقَالُوا لَهُ: إِن أَبَاك أعتل عِلّة عَظِيمَة صعبة، واشتغل بِنَفسِهِ، فَلم يتَمَكَّن من إِنْفَاذ شَيْء إِلَيْك.

قَالَ: فقلق الْفَتى قلقًا شَدِيدا، وَجعل غرماؤه يطالبونه كالعادة، فِي قَضَاء الدَّين وَقت الْمَوْسِم، فاضطر، وَأخرج الْجَارِيَة إِلَى النخاسين، فعرضها. وَكَانَ الْفَتى ينزل بِالْقربِ من منزلي، وَكُنَّا نصطحب إِلَى منزل الْفَقِيه، وَلَا نكاد نتفارق. فَبَاعَ الْجَارِيَة بِأَلف دِرْهَم وَكسر، وعزم على أَن يفرق مِنْهَا على غُرَمَائه قدر مَالهم، ويتمون بِالْبَاقِي. وَكَانَ قلقًا، موجعًا، متحيرًا، عِنْد رجوعنا من النخاسين. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل إِذا ببابي يدق، فَقُمْت ففتحته، فَإِذا بالفتى. فَقلت: مَالك؟ فَقَالَ: قد امْتنع عَليّ النّوم، وَقد غلبتني وَحْشَة الْجَارِيَة، والشوق إِلَيْهَا. وَوَجَدته من القلق على أَمر عَظِيم، حَتَّى أنْكرت عقله، فَقلت: مَا تشَاء؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَقد سهل عَليّ أَن ترجع الْجَارِيَة إِلَى ملكي، وأبكر غَدا فَأقر لغرمائي بمالهم، وأحبس فِي حبس القَاضِي، إِلَى أَن يفرج الله تَعَالَى عني، ويجيئني من خُرَاسَان مَا أَقْْضِي بِهِ ديني فِي الْعَام الْمقبل، وَتَكون الْجَارِيَة فِي ملكي. فَقلت لَهُ: أَنا أكفيك ذَلِك فِي غَد إِن شَاءَ الله، وأعمل فِي رُجُوع الْجَارِيَة إِلَيْك، إِذا كنت قد وطنت نَفسك على هَذَا. قَالَ: فبكرنا إِلَى السُّوق، فسألنا عَمَّن اشْترى الْجَارِيَة. فَقَالُوا: امْرَأَة من دَار أبي بكر بن أبي حَامِد، صَاحب بَيت المَال.

فَجِئْنَا إِلَى مجْلِس الْفَقِيه، فشرحت لأبي إِسْحَاق الْمروزِي بعض حَدِيث الْفَتى، وَسَأَلته أَن يكْتب رقْعَة إِلَى أبي بكر بن أبي حَامِد، يسْأَله فِيهَا فسخ البيع، وَالْإِقَالَة، وَأخذ الثّمن، ورد الْجَارِيَة، فَكتب رقْعَة مُؤَكدَة فِي ذَلِك. فَقُمْت، وَأخذت بيد الْخُرَاسَانِي صديقي، وَجِئْنَا إِلَى أبي بكر بن أبي حَامِد، فَإِذا هُوَ فِي مجْلِس حافل، فأمهلنا حَتَّى خف، ثمَّ دَنَوْت أَنا والفتى، فعرفني، وسألني عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي، فَقلت: هَذِه رقعته خَاصَّة فِي حَاجَة لَهُ. فَلَمَّا قَرَأَهَا، قَالَ لي: أَنْت صَاحب الْجَارِيَة؟ قلت: لَا، وَلكنه صديقي هَذَا، وأومأت إِلَى الْخُرَاسَانِي، وقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، وَسبب بيع الْجَارِيَة. فَقَالَ: وَالله، مَا أعلم أَنِّي ابتعت جَارِيَة فِي هَذِه الْأَيَّام، وَلَا ابتيعت لي. فَقلت: إِن امْرَأَة جَاءَت وابتاعتها، وَذكرت أَنَّهَا من دَارك. قَالَ: يجوز. ثمَّ قَالَ: يَا فلَان، فَجَاءَهُ خَادِم، فَقَالَ لَهُ: امْضِ إِلَى دور الْحرم، فاسأل عَن جَارِيَة اشْتريت أمس، فَلم يزل يدْخل وَيخرج من دَار إِلَى دَار، حَتَّى وَقع عَلَيْهَا، فَرجع إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أعثرت عَلَيْهَا؟ فَقَالَ: نعم، فَقَالَ: أحضرها، فأحضرها. فَقَالَ لَهَا: من مَوْلَاك؟ فأومأت إِلَى الْخُرَاسَانِي. فَقَالَ لَهَا: أفتحبين أَن أردك عَلَيْهِ؟ فَقَالَت: وَالله، لَيْسَ مثلك يَا مولَايَ من يخْتَار عَلَيْهِ، وَلَكِن لمولاي عَليّ حق التربية. فَقَالَ: هِيَ كيسة عَاقِلَة، خُذْهَا.

قَالَ: فَأخْرج الْخُرَاسَانِي الْكيس من كمه، وَتَركه بِحَضْرَتِهِ. فَقَالَ للخادم: امْضِ إِلَى الْحرم، وَقل لَهُنَّ: مَا كنتن وعدتن بِهِ هَذِه الْجَارِيَة من إِحْسَان، فعجلنه السَّاعَة. قَالَ: فجَاء الْخَادِم بأَشْيَاء لَهَا قدر وَقِيمَة، فَدَفعهَا إِلَيْهَا. ثمَّ قَالَ للخراساني: خُذ كيسك فَاقْض مِنْهُ دينك، ووسع بباقيه على نَفسك وعَلى جاريتك، والزم الْعلم، فقد أجريت عَلَيْك فِي كل شهر قفيز دَقِيق، ودينارين، تستعين بهَا على أَمرك. قَالَ: فوَاللَّه مَا انْقَطَعت عَن الْفَتى، حَتَّى مَاتَ أَبُو بكر بن أبي حَامِد.

ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى صيرفي

ابْن أبي حَامِد صَاحب بَيت المَال يحسن إِلَى صيرفي قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وجدت هَذَا الْخَبَر مستفيضًا بِبَغْدَاد، وأخبرت بِهِ على جِهَات مُخْتَلفَة، وَهَذَا أبينها، وأصحها إِسْنَادًا، إِلَّا أنني أذكر بعض الطّرق الْأُخْرَى الَّتِي بلغتني: حَدثنِي أَحْمد بن عبد الله، قَالَ: حَدثنِي شيخ من دَار الْقطن بِبَغْدَاد، قَالَ: كَانَ لأبي بكر بن أبي حَامِد مكرمَة طريفة، وَهِي أَن رجلا يعرف بِعَبْد الْوَاحِد بن فلَان الصَّيْرَفِي، بَاعَ جَارِيَته، وَكَانَ يهواها، على أبي بكر بن أبي حَامِد، يَعْنِي صَاحب بَيت المَال، بِثَلَاث مائَة دِينَار. فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل، استوحش لَهَا وَحْشَة شَدِيدَة، ولحقه من الهيمان، والقلق، وَالْجُنُون، والأسف على فراقها، مَا مَنعه من النّوم، ولحقه من الْبكاء والسهر، مَا كَادَت تخرج نَفسه مَعَه. فَلَمَّا أصبح خرج إِلَى دكانه يتشاغل بِالنّظرِ فِي أمره، فَلم يكن لَهُ إِلَى ذَلِك سَبِيل. وَزَاد عَلَيْهِ القلق والشوق، فَأخذ ثمن الْجَارِيَة، وَجَاء إِلَى أبي بكر بن أبي حَامِد، فَدخل عَلَيْهِ، ومجلسه حافل، فَسلم، وَجلسَ فِي أخريات النَّاس، إِلَى أَن تقوضوا.

فَلَمَّا لم يبْق غَيره، أنكر ابْن أبي حَامِد حَاله، فَقَالَ لَهُ: إِن كَانَت لَك حَاجَة فاذكرها. فَسكت، وَجَرت دُمُوعه، وشهق. فرفق بِهِ ابْن أبي حَامِد، وَقَالَ لَهُ: قل، عافاك الله، وَلَا تستح. فَقَالَ لَهُ: بِعْت أمس، جَارِيَة كَانَت لي، وَكنت أحبها، واشتريت لَك، أَطَالَ الله بَقَاءَك، وَقد أحسست بِالْمَوْتِ أسفا على فراقها. وَأخرج الثّمن فَوَضعه بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ لَهُ: أَنا أَسأَلك أَن ترد عَليّ حَياتِي، بِأخذ هَذِه الدَّنَانِير، وإقالتي من البيع. قَالَ: فَتَبَسَّمَ ابْن أبي حَامِد، وَقَالَ لَهُ: لما كَانَت بِهَذَا الْمحل من قَلْبك لم بعتها؟ فَقَالَ: أَنا رجل صيرفي، وَكَانَ رَأس مَالِي ألف دِينَار، فَلَمَّا اشْتَرَيْتهَا، تشاغلت بهَا عَن لُزُوم الدّكان، فَبَطل كسبي، وَكنت أنْفق عَلَيْهَا من رَأس المَال نَفَقَة لَا يحتملها حَالي، فَلَمَّا مَضَت مُدَّة، خشيت الْفقر، وَنظرت، فَإِذا أَنا لم يبْق معي من رَأس المَال إِلَّا الثُّلُث أَو أقل، وَصَارَت تطالبني من النَّفَقَة، بِمَا لَو أطعتها فِيهِ، ذهبت هَذِه الْبَقِيَّة، وحصلت على الْفقر. فَلَمَّا منعتها، ساءت أخلاقها ونغصت عيشي، فَقلت أبيعها، وأدير ثمنهَا فِيمَا أختل من حَالي، وتستقيم عيشتي، وأستريح من أذاها، وأتصبر على فراقها، وَلم أعلم أَنه يلحقني هَذَا الْأَمر الْعَظِيم، وَقد آثرت الْآن الْفقر، وَأَن تحصل الْجَارِيَة عِنْدِي، أَو أَن أَمُوت، فَهُوَ أسهل عَليّ مِمَّا أَنا فِيهِ. فَقَالَ ابْن أبي حَامِد: يَا فلَان، فجَاء خَادِم أسود. فَقَالَ لَهُ: أخرج الْجَارِيَة الَّتِي اشْتريت لنا بالْأَمْس. قَالَ: فأخرجت جاريتي.

فَقَالَ: يَا بني، إِن مثلي لَا يطَأ قبل الِاسْتِبْرَاء، وَوَاللَّه، مَا وَقعت عَيْني على الْجَارِيَة، مُنْذُ اشْتريت، إِلَّا السَّاعَة، وَقد وهبتها لَك فَخذهَا، وَخذ دنانيرك، بَارك الله لَك فيهمَا. ثمَّ قَالَ للخادم: هَات ألف دِرْهَم، فجَاء بهَا. فَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: قد كنت عولت على أَن أكسوك، فجَاء من أَمر مَوْلَاك مَا رَأَيْت وَلم أر من الْمُرُوءَة مَنعه مِنْك، فَخذي هَذِه الدَّرَاهِم، واتسعي بهَا فِي نَفَقَتك، وَلَا تحملي مَوْلَاك مَا لَا يُطيق، فتحصلين عِنْد من لَا يعرف قدرك كمعرفته، وَلَك عَليّ ألف دِرْهَم فِي كل سنة، يَجِيء مَوْلَاك فيأخذها لَك، إِذا شكرك، وَرَضي طريقتك. قَالَ: فَقَامَ الرجل، وَقبل يَدَيْهِ، وَجعل يبكي، وَيَدْعُو لَهُ. وَلم يزل المَال واصلًا إِلَيْهِ فِي كل سنة، حَتَّى مَاتَ ابْن أبي حَامِد.

الحسن بن سهل يحسن إلى الفسطاطي التاجر

الْحسن بن سهل يحسن إِلَى الفسطاطي التَّاجِر وَيُشبه هَذَا الحَدِيث، مَا وجدته فِي كتاب أعطانيه أَبُو الْحُسَيْن عبد الْعَزِيز بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن حَاجِب النُّعْمَان، وَهُوَ يَوْمئِذٍ كَاتب الْوَزير المهلبي على ديوَان السوَاد، وَذكر إِنَّه نسخه من كتاب أعطَاهُ إِيَّاه أَبُو الْحُسَيْن الخصيبي، وَكَانَ فِيهِ إصلاحات بِخَط ابْن مابنداذ. اشْترى الْحسن بن سهل، من الفسطاطي التَّاجِر، جَارِيَة بِأَلف دِينَار، فَحملت إِلَى منزل الْحسن، وَكتب للفسطاطي بِثمنِهَا. فَأخذ الْكتاب إِلَى من أَحَالهُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ، وَانْصَرف إِلَى منزله، فَوَجَدَهُ مفروشًا نظيفًا، وَفِيه ريحَان قد عبي تعبية حَسَنَة، ونبيذ قد صفي. فَقَالَ: مَا هَذَا؟

فَقيل لَهُ: جاريتك الَّتِي بعتها السَّاعَة، قد أعدت لَك هَذَا لتنصرف إِلَيْهَا، فبعتها قبل انصرافك. قَالَ: فَقَامَ الفسطاطي، فَرجع إِلَى الْحسن. وأحضر الْحسن الْجَارِيَة، فَرَأى زيًا حسنا، ونظافةً، وتزينت بزينة لم تَرَ من مثلهَا، مَعَ مَا رأى فِيهَا من الْحسن وَالْجمال، والبهاء والكمال، فَهُوَ يجيل الْفِكر وَالنَّظَر فِيهَا، إِذْ رَجَعَ الفسطاطي إِلَيْهِ، وَهُوَ كَالْمَجْنُونِ المخبول، وَقَالَ: أَقلنِي بيع الْجَارِيَة، أقالك الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. فَقَالَ: مَا إِلَى هَذَا سَبِيل، وَمَا دخلت قطّ دَارنَا جَارِيَة، فَخرجت مِنْهَا. قَالَ: أَيهَا الْأَمِير، إِنَّه الْمَوْت الْأَحْمَر. قَالَ: وَمَا ذَاك؟ فَقص عَلَيْهِ قصَّته، وحبه لَهَا، وتلهفه عَلَيْهَا، وَأَنه لم يقدر على فراقها وَأَن النَّدَم قد لحقه، والشوق قد تمكن من فُؤَاده، وَأَنه إِن دَامَ ذَلِك عَلَيْهِ، كَانَ فِيهِ تلف نَفسه، وَبكى، وَلم يزل يتَضَرَّع لَهُ. فرق لَهُ الْحسن، وأحضر الْجَارِيَة من سَاعَته، وَقَالَ لَهَا: هَل لَك فِي مَوْلَاك رَغْبَة؟ فَقَالَت: أَيهَا الْأَمِير، فِي مثله يرغب، فَرد الْجَارِيَة عَلَيْهِ. وَقَالَ لَهُ: خُذ هَذِه الْألف دِينَار، لَك هبة، لَا يرجع إِلَى ملكي مِنْهَا دِينَار وَاحِد. فَأخذ الفسطاطي الْجَارِيَة وَالدَّنَانِير، وَقَالَ: الْجَارِيَة حرَّة لوجه الله تَعَالَى، وَهَذِه الْألف دِينَار صَدَاقهَا، ثمَّ كتب كتابها. وَعَاد إِلَى منزله، وَجلسَ مَعَ جَارِيَته على مَا أعدته لَهُ.

الأشتر وجيداء

الأشتر وجيداء أَخْبرنِي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: حَدثنِي جَعْفَر بن قدامَة، قَالَ: حَدثنِي أَبُو العيناء، قَالَ: كنت أجالس مُحَمَّد بن صَالح بن عبد الله بن مُوسَى بن عبد الله بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب سَلام الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وَكَانَ قد حمل إِلَى المتَوَكل أَسِيرًا، فحبسه مُدَّة، ثمَّ أطلقهُ المتَوَكل، وَكَانَ أَعْرَابِيًا فصيحًا، فَحَدثني يَوْمًا قَالَ: حَدثنِي نمير بن مخلف الْهِلَالِي، وَكَانَ حسن الْوَجْه جدا، قَالَ: كَانَ منا فَتى يُقَال لَهُ بشر بن عبد الله، وَيعرف بالأشتر، وَكَانَ يهوى جَارِيَة من قومه، يُقَال لَهَا: جيداء، وَكَانَت ذَات زوج. وشاع خَبره فِي حبها، فَمنع مِنْهَا، وضيق عَلَيْهِ، حَتَّى لم يقدر أَن يلم بهَا. فَجَاءَنِي ذَات يَوْم، وَقَالَ: يَا أخي، قد بلغ مني الوجد، وضاق عَليّ سَبِيل الصَّبْر، فَهَل تساعدني على زيارتها؟ قلت: نعم فركبت، وسرنا، حَتَّى نزلنَا قَرِيبا من حيها، فكمن فِي مَوضِع. فَقَالَ لي: اذْهَبْ إِلَى الْقَوْم فَكُن ضيفًا لَهُم، وَلَا تذكر شَيْئا من أمرنَا،

حَتَّى ترى راعية لجيداء صفتهَا كَذَا وَكَذَا، فأعلمها خبري، وواعدها بوعد. فمضيت وَفعلت مَا أَمرنِي بِهِ، وَلَقِيت الراعية فخاطبتها، فمضت إِلَى جيداء، وعادت إِلَيّ، فَقَالَت: قل لَهُ: موعدك اللَّيْلَة عِنْد الشجيرات. فَلَمَّا كَانَ الْوَقْت الَّذِي وعدتنا فِيهِ، إِذا بجيداء قد أَقبلت، فَوَثَبَ الأشتر إِلَيْهَا، فَقبل بَين عينيها. فَقُمْت موليا عَنْهُمَا، فَقَالَا: نقسم عَلَيْك إِلَّا مَا رجعت، فوَاللَّه، مَا بَيْننَا مَا نستره عَنْك، فَرَجَعت، وَجَلَسْنَا نتحدث. فَقَالَ لَهَا: يَا جيداء، أما فِيك حِيلَة لنتعلل اللَّيْلَة؟ فَقَالَت: لَا وَالله، إِلَّا أَن نعود إِلَى مَا تعرف من الْبلَاء والشدة. فَقَالَ: مَا من ذَلِك بُد، وَلَو وَقعت السَّمَاء على الأَرْض. فَقَالَت: هَل فِي صَاحبك هَذَا من خير؟ فَقلت: إِي وَالله. فخلعت ثِيَابهَا، ودفعتها إِلَيّ، وَقَالَت: البسها، وَأَعْطِنِي ثِيَابك، فَفعلت. فَقَالَت: اذْهَبْ إِلَى بَيْتِي، فَإِن زَوجي سيأتيك بعد الْعَتَمَة، وَيطْلب مِنْك الْقدح ليحلب فِيهِ الْإِبِل، فَلَا تَدْفَعهُ إِلَيْهِ من يدك، فَهَذَا فعلي بِهِ، ودعه بَين يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ سيذهب ويحلب، ثمَّ يَأْتِيك بِهِ ملآن لَبَنًا، وَيَقُول: هاك غبوقك، فَلَا تَأْخُذهُ مِنْهُ، حَتَّى تطيل نكدك عَلَيْهِ، ثمَّ خُذْهُ، أَو دَعه حَتَّى يَضَعهُ هُوَ، ثمَّ لست ترَاهُ حَتَّى تصبح. قَالَ: فَذَهَبت، وَفعلت مَا أَمرتنِي بِهِ، وَجَاءَنِي بالقدح، فَلم آخذه مِنْهُ،

وأطلت عَلَيْهِ النكد، ثمَّ أهويت لآخذه، وأهوى ليضعه، فاختلفت أَيْدِينَا، فانكفأ الْقدح. فَقَالَ: إِن هَذَا لطماح مفرط، وَضرب بِيَدِهِ إِلَى سَوْطه، ثمَّ تناولني بِهِ، وَضرب ظَهْري، فَجَاءَت أمه، وَأُخْته، فانتزعوني من يَده، بعد أَن زَالَ عَقْلِي، وهممت أَن أجأه بالسكين. فَلَمَّا خَرجُوا من عِنْدِي، لم ألبث إِلَّا يَسِيرا، حَتَّى دخلت أم جيداء، تؤنبني، وتكلمني، فلزمت الصمت والبكاء. فَقَالَت: يَا بنية، اتقِي الله، وأطيعي بعلك، وَأما الأشتر فَلَا سَبِيل لَك إِلَيْهِ، وَهَا أَنا أبْعث إِلَيْك بأختك لتؤنسك، وَمَضَت. ثمَّ بعثت إِلَيّ بالجارية، فَجعلت تكلمني، وَتَدْعُو على من ضَرَبَنِي، وَأَنا سَاكِت، ثمَّ اضطجعت إِلَى جَانِبي. فشددت يَدي على فمها، وَقلت: يَا جَارِيَة، إِن أختك مَعَ الأشتر، وَقد قطع ظَهْري بِسَبَبِهَا، وَأَنت أولى بسترها مني، وَإِن تَكَلَّمت بِكَلِمَة فضحتها، وَأَنا لست أُبَالِي. فاهتزت مثل الْقَضِيب فَزعًا، فطمنتها، وطيبت قَلبهَا، فَضَحكت، وَبَات معي مِنْهَا أظرف النَّاس، وَلم نزل نتحدث حَتَّى برق الصُّبْح، فَخرجت، وَجئْت إِلَى صَاحِبي. فَقَالَت جيداء: مَا الْخَبَر؟ فَقلت: سَلِي أختك عَن الْخَبَر، فلعمري إِنَّهَا عَالِمَة بِهِ، وَدفعت إِلَيْهَا ثِيَابهَا،

وأريتها ظَهْري، فَجَزِعت، وبكت، وَمَضَت مسرعة، وَجعل الأشتر يبكي، وَأَنا أحدثه بقصتي، وارتحلنا.

أقسم أن يغسل يده أربعين مرة إذا أكل زيرباجة

أقسم أَن يغسل يَده أَرْبَعِينَ مرّة إِذا أكل زيرباجة حَدثنِي أَبُو الْفرج أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن النَّرْسِي من أهل بَاب الشَّام بِبَغْدَاد، وَقد كَانَ خلف أَبَا الْحسن عَليّ بن أبي طَالب بن البهلول التنوخي على الْقَضَاء بهيت، وَمَا عَلمته إِلَّا ثِقَة، قَالَ: سَمِعت فلَان التَّاجِر، يحدث أبي، وأسمى التَّاجِر، وأنسيته أَنا، قَالَ: حضرت عِنْد صديق لي من البزازين، وَكَانَ مَشْهُورا، فِي دَعْوَة، فَقدم فِي جملَة طَعَامه، زيرباجة، وَلم يأكلها، فامتنعنا من أكلهَا. فَقَالَ: أحب أَن تَأْكُلُوا مِنْهَا، وتعفوني من أكلهَا، فَلم ندعه حَتَّى أكل. فَلَمَّا غسلنا أَيْدِينَا، انْفَرد يغسل يَده، ووقف غُلَام يعد عَلَيْهِ الْغسْل، حَتَّى قَالَ لَهُ: قد غسلت يدك أَرْبَعِينَ مرّة، فَقطع الْغسْل.

فَقُلْنَا لَهُ: مَا سَبَب هَذَا؟ فَامْتنعَ، فألححنا عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَاتَ أبي وسني نَحوا من عشْرين سنة، وَخلف عَليّ حَالا صَغِيرَة، وأوصاني قبل مَوته بِقَضَاء دُيُون عَلَيْهِ، وملازمة السُّوق، وَأَن أكون أول دَاخل إِلَيْهِ، وَآخر خَارج مِنْهُ، وَأَن أحفظ مَالِي. فَلَمَّا مَاتَ، قضيت دينه، وحفظت مَا خَلفه لي، ولزمت الدّكان، فَرَأَيْت فِي ذَلِك مَنَافِع كَثِيرَة. فَبينا أَنا جَالس يَوْمًا وَلم يتكامل السُّوق، وَإِذا بِامْرَأَة راكبة على حمَار، وعَلى كفله منديل دبيقي، وخادم يمسك بالعنان، فَنزلت عِنْدِي. فأكرمتها، وَوَثَبْت إِلَيْهَا، وسألتها عَن حَاجَتهَا، فَذكرت ثيابًا. فَسمِعت، وَالله، نَغمَة، مَا سَمِعت قطّ أحسن مِنْهَا، وَرَأَيْت وَجها لم أر مثله، فَذهب عني عَقْلِي، وعشقتها فِي الْحَال. فَقلت لَهَا: تصبرين حَتَّى يتكامل السُّوق، وآخذ لَك مَا تريدين، فَفعلت، وَأخذت تحادثني، وَأَنا فِي الْمَوْت عشقًا لَهَا. وَخرج النَّاس، فَأخذت لَهَا مَا أَرَادَت، فجمعته، وَركبت وَلم تخاطبني فِي ثمنه بِحرف وَاحِد، وَكَانَ مَا قِيمَته خَمْسَة آلَاف دِرْهَم. فَلَمَّا غَابَتْ عني أَفَقْت، وأحسست بالفقر، فَقلت: محتالة، خدعتني بِحسن وَجههَا، ورأتني حَدثا، فاستغرتني، وَلم أكن سَأَلتهَا عَن منزلهَا، وَلَا طالبتها بِالثّمن، لدهشتي بهَا. فكتمت خبري لِئَلَّا أفتضح، وأتعجل الْمَكْرُوه، وعولت على غلق دكاني،

وَبيع كل مَا فِيهَا، وأوفي النَّاس ثمن مَتَاعهمْ، وأجلس فِي بَيْتِي مُقْتَصرا على غلَّة يسيرَة من عقار كَانَ خَلفه لي أبي. فَلَمَّا كَانَ بعد أُسْبُوع، إِذا بهَا قد باكرتني، وَنزلت عِنْدِي، فحين رَأَيْتهَا أنسيت مَا كنت فِيهِ وَقمت لَهَا. فَقَالَت: يَا فَتى، تأخرنا عَنْك، وَمَا شككنا أَنا قد روعناك، وظننت أَنا قد احتلنا عَلَيْك. فَقلت: قد رفع الله قدرك عَن هَذَا. فاستدعت الْمِيزَان، فوفتني دَنَانِير قدر مَا قلت لَهَا عَن ثمن الْمَتَاع، وأخرجت تذكرة بمتاع آخر. فأجلستها أحادثها، وأتمتع بِالنّظرِ إِلَيْهَا إِلَى أَن تَكَامل السُّوق، وَقمت، وَدفعت إِلَى كل إِنْسَان مَا كَانَ لَهُ، وَطلبت مِنْهُم مَا أَرَادَت، فأعطوني، فجئتها بِهِ، فَأَخَذته وانصرفت، وَلم تخاطبني فِي ثمنه بِحرف. فَلَمَّا غَابَتْ عني نَدِمت، وَقلت: المحنة هَذِه، أعطتني خَمْسَة آلَاف دِرْهَم، وَأخذت مني مَتَاعا بِأَلف دِينَار، والآن إِن لم أقع لَهَا على خبر، فَلَيْسَ إِلَّا الْفقر، وَبيع مَتَاع الدّكان، وَمَا قد ورثته من عقار. وتطاولت غيبتها عني أَكثر من شهر وَأخذ التُّجَّار يشددون عَليّ فِي الْمُطَالبَة، فعرضت عقاري، وأشرفت على الهلكة. فَأَنا فِي ذَلِك، وَإِذا بهَا قد نزلت عِنْدِي، فحين رَأَيْتهَا زَالَ عني الْفِكر فِي المَال، ونسيت مَا كنت فِيهِ، وَأَقْبَلت عَليّ تحادثني، وَقَالَت: هَات الطيار، فوزنت لي بِقِيمَة الْمَتَاع دَنَانِير.

فَأخذت أطاولها فِي الْكَلَام، فبسطتني، فكدت أَمُوت فَرحا وسرورًا، إِلَى أَن قَالَت: هَل لَك زَوْجَة؟ فَقلت: لَا وَالله يَا سيدتي، وَمَا أعرف امْرَأَة قطّ، وبكيت. فَقَالَت: مَا لَك؟ قلت: خير، وهِبْتُهَا ثُمَّ قُمْتُ وَأَخَذْتُ بِيَدِ الْخَادِمِ الَّذِي كَانَ مَعَهَا، وَأَخْرَجْتُ لَهُ دَنَانِيرَ كَثِيرَةً، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَتَوَسَّطَ الأَمْرَ بَيْنِي وَبَيْنَ سِتَّهُ. فَضَحِك، وَقَالَ: إِنَّهَا هِيَ، وَالله، أعشق مِنْك لَهَا، وَمَا بهَا حَاجَة إِلَى مَا اشترته مِنْك، وَإِنَّمَا تجيئك محبَّة لمطاولتك، فخاطبها بِمَا تُرِيدُ، فَإِنَّهَا تقبله، وتستغني عني. فعدت، وَكنت قلت لَهَا: إِنِّي أمضي لأنقد الدَّنَانِير، فَلَمَّا عدت، قَالَت: نقدت الدَّنَانِير؟ وضحكت، وَقد كَانَت رأتني مَعَ الْخَادِم. فَقلت لَهَا: يَا ستي، الله، الله، فِي دمي، وخاطبتها بِمَا فِي نَفسِي مِنْهَا، فأعجبها ذَلِك، وَقبلت الْخطاب أحسن الْقبُول. وَقَالَت: الْخَادِم يجيئك برسالتي بِمَا تعْمل عَلَيْهِ، وَقَامَت وَلم تَأْخُذ مني شَيْئا، فوفيت النَّاس أَمْوَالهم، وحصلت ربحا وَاسِعًا، واغتممت خوفًا من انْقِطَاع السَّبَب بيني وَبَينهَا، وَلم أنم لَيْلَتي قلقًا وخوفًا. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام جَاءَنِي الْخَادِم، فأكرمته، ووهبت لَهُ دَنَانِير لَهَا صُورَة، وَسَأَلته عَنْهَا. فَقَالَ: هِيَ، وَالله، عليلة من شوقها إِلَيْك. فَقلت: فاشرح لي أمرهَا؟

فَقَالَ: هَذِه صبية ربتها السيدة أم أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتدر بِاللَّه، وَهِي من أخص جواريها عِنْدهَا، وأحضاهن، وأحبهن إِلَيْهَا. وَإِنَّهَا اشتهت رُؤْيَة النَّاس، وَالدُّخُول وَالْخُرُوج، فتوصلت حَتَّى صَارَت القهرمانة، وَصَارَت تخرج فِي الْحَوَائِج، فترى النَّاس. وَقد، وَالله، حدثت السيدة بحديثك، وسألتها أَن تزَوجهَا مِنْك، فَقَالَت: لَا أفعل، أَو أرى الرجل، فَإِن كَانَ يستحقك، وَإِلَّا لَا أدعك واختيارك. وتحتاج إِلَى أَن تتحيل فِي إدخالك إِلَى الدَّار بحيلة، إِن تمت وصلت إِلَى تَزْوِيجهَا، وَإِن انكشفت ضربت عُنُقك، فَمَا تَقول؟ فَقلت: أَصْبِر على هَذَا. فَقَالَ: إِذا كَانَ اللَّيْلَة، فأعبر إِلَى المخرم، وادخل الْمَسْجِد الَّذِي بنته السيدة على شاطئ دجلة، وعَلى حَائِطه الْأَخير مِمَّا يَلِي دجلة، اسْمهَا مَكْتُوب بالآجر الْمَقْطُوع، فَبت فِيهِ. قَالَ أَبُو الْفرج بن النَّرْسِي: وَهُوَ الْمَسْجِد الَّذِي قد سد بَابه الْآن سبكتكين، الْحَاجِب الْكَبِير، مولى معز الدولة، الْمَعْرُوف بجاشنكير، وأضافه إِلَى ميدان

دَاره، وَجعله مصلى لِغِلْمَانِهِ. قَالَ الرجل: فَلَمَّا كَانَ قبل الْمغرب مضيت إِلَى المخرم، فَصليت فِي الْمَسْجِد العشاءين، وَبت فِيهِ. فَلَمَّا كَانَ وَقت السحر، إِذا بطيار لطيف قد قدم، وخدم قد نزلُوا وَمَعَهُمْ صناديق فارغة، فجعلوها فِي الْمَسْجِد، وَانْصَرفُوا، وَبَقِي وَاحِد مِنْهُم، فتأملته، فَإِذا هُوَ الْوَاسِطَة بيني وَبَينهَا. ثمَّ صعدت الْجَارِيَة واستدعتني، فَقُمْت، وعانقتها، وَقبلت يَدهَا، وقبلتني قبلات كَثِيرَة، وضمتني، وبكيت، وبكت. وتحدثنا سَاعَة، ثمَّ أجلستني فِي وَاحِد من الصناديق، وَكَانَ كَبِيرا، وأقفلته. وَأَقْبل الخدم يتراجعون بِثِيَاب، وَمَاء ورد، وعطر، وَأَشْيَاء قد أحضروها من مَوَاضِع، وَهِي تفرق فِي بَاقِي الصناديق، وتقفل، ثمَّ حملت الصناديق فِي الطيار، وَانْحَدَرَ. فلحقني من النَّدَم أَمر عَظِيم، وَقلت: قتلت نَفسِي لشَهْوَة لَعَلَّهَا لَا تتمّ، وَلَو تمت مَا ساوت قتل نَفسِي، وَأَقْبَلت أبْكِي، وأدعو الله عز وَجل، وَأَتُوب، وأنذر النذور، إِلَى أَن حملت الصناديق بِمَا فِيهَا، ليجاز بهَا فِي دَار الْخَلِيفَة، وَحمل صندوقي خادمان أَحدهمَا الْوَاسِطَة بيني وَبَينهَا. وَهِي كلما اجتازت بطَائفَة من الخدم الموكلين بِأَبْوَاب الْحرم، قَالُوا: نُرِيد نفتش الصناديق، فتصيح على بَعضهم، وتشتم بَعضهم، وتداري بَعضهم. إِلَى أَن انْتَهَت إِلَى خَادِم ظننته رَئِيس الْقَوْم، فخاطبته بخضوع وذلة، فَقَالَ لَهَا: لَا بُد من فتح الصناديق وَبَدَأَ بصندوقي فأنزله.

فحين أحسست بذلك ذهب عَقْلِي، وَغَابَ عَليّ أَمْرِي، وبلت فِي الصندوق فرقا، فَجرى بولِي حَتَّى خرج من خلله. فَقَالَت: يَا أستاذ، أهلكتني، وأهلكت التُّجَّار، وأفسدت علينا مَتَاعا بِعشْرَة آلَاف دِينَار فِي الصندوق مَا بَين ثِيَاب مصبغات، وقارورة فِيهَا أَرْبَعَة أمنان من مَاء زَمْزَم، قد انقلبت وَجَرت على الثِّيَاب، والساعة تستحيل ألوانها. فَقَالَ: خذي صندوقك، أَنْت وَهُوَ، إِلَى لعنة الله، ومري. فَحمل الخادمان صندوقي، وأسرعا بِهِ، وتلاحقت الصناديق. فَمَا بَعدنَا سَاعَة حَتَّى سَمعتهَا تَقول: ويلاه، الْخَلِيفَة، فَعِنْدَ ذَلِك مت، وَجَاءَنِي مَا لم أحتسبه. فَقَالَ لَهَا الْخَلِيفَة: والك، يَا فُلَانَة، أَي شَيْء فِي صناديقك؟

فَقَالَت: ثِيَاب للسيدة. فَقَالَ: افتحيها حَتَّى أَرَاهَا. فَقَالَت: يَا مولَايَ، السَّاعَة تفتحها ستنا بَين يَديك. فَقَالَ: مري، هوذا أجي. فَقَالَت للخدم: أَسْرعُوا، وَدخلت حجرَة، ففتحت صندوقي، وَقَالَت: اصْعَدْ تِلْكَ الدرجَة، فَفعلت، وَأخذت بعض مَا فِي تِلْكَ الصناديق، فَجَعَلته فِي صندوقي، وأقفلته. وَجَاء المقتدر، فَحملت الصناديق إِلَى بَين يَدَيْهِ، ثمَّ عَادَتْ إِلَيّ، فطيبت نَفسِي، وقدمت لي طَعَاما وَشَرَابًا، وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وأقفلت الْحُجْرَة، وَمَضَت. فَلَمَّا كَانَ من غَد جَاءَتْنِي، فَصَعدت إِلَيّ، وَقَالَت: السَّاعَة تَجِيء السيدة لتراك، فَانْظُر كَيفَ تكون؟ فَمَا كَانَ بأسرع من أَن جَاءَت السيدة، فَجَلَست على كرْسِي، وَفرقت جواريها، وَلم يبْق مَعهَا غير وَاحِدَة مِنْهُنَّ، ثمَّ أنزلتني الْجَارِيَة. فحين رَأَيْت السيدة قبلت الأَرْض، وَقمت فدعوت لَهَا. فَقَالَت لجاريتها: نعم مَا اخْتَرْت لنَفسك هُوَ، وَالله، كيس، عَاقل، ونهضت. فَقَامَتْ مَعهَا صَاحِبَتي وتبعتها، وَأَتَتْ إِلَيّ بعد سَاعَة، وَقَالَت:

أبشر فقد، وَالله، وَعَدتنِي أَن تزَوجنِي بك، وَمَا بَين أَيْدِينَا عقبَة إِلَّا الْخُرُوج. فَقلت: يسلم الله تَعَالَى. فَلَمَّا كَانَ من غَد حَملتنِي فِي الصندوق، وَخرجت كَمَا دخلت، وَكَانَ الْحِرْص على التفتيش أقل، وَتركت فِي الْمَسْجِد الَّذِي حملت مِنْهُ فِي الصندوق، وَقمت بعد سَاعَة، ومضيت إِلَى منزلي، وتصدقت، ووفيت بنذري. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، جَاءَنِي الْخَادِم برقعتها، بخطها الَّذِي أعرفهُ، وكيس فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار عينا، وَهِي تَقول فِي رقعتها: أَمرتنِي السيدة بإنفاذ هَذَا الْكيس من مَالهَا إِلَيْك، وَقَالَت: اشْتَرِ ثيابًا، ومركوبًا، وَغُلَامًا يسْعَى بَين يَديك، وَأصْلح بِهِ ظاهرك، وتجمل بِكُل مَا تقدر عَلَيْهِ، وتعال يَوْم الموكب إِلَى بَاب الْعَامَّة، وقف حَتَّى تطلب، وَتدْخل على الْخَلِيفَة، وتتزوج بِحَضْرَتِهِ. فأجبت على الرقعة، وَأخذت الدَّنَانِير، واشتريت مِنْهَا مَا قَالُوهُ، واحتفظت بِالْبَاقِي. وَركبت بغلتي يَوْم الموكب إِلَى بَاب الْعَامَّة، ووقفت، وَجَاءَنِي من استدعاني، فَأَدْخلنِي على المقتدر، وَهُوَ على السرير، والقضاة، والهاشميون، والحشم، قيام، فداخلتني هَيْبَة عَظِيمَة، فَخَطب بعض الْقُضَاة، وزوجني، وَخرجت. فَلَمَّا صرت فِي بعض الممرات، عدل بِي إِلَى دَار عَظِيمَة، مفروشة بأنواع الْفرش الفاخر، والآلات، والخدم، فأجلست، وَتركت وحدي، وَانْصَرف من أجلسني.

فَجَلَست يومي لَا أرى من أعرف، وخدم يدْخلُونَ وَيخرجُونَ، وَطَعَام عَظِيم ينْقل، وهم يَقُولُونَ: اللَّيْلَة تزف فُلَانَة، اسْم زَوْجَتي، إِلَى زَوجهَا، هَاهُنَا. فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْل أثر الْجُوع فِي، وأقفلت الْأَبْوَاب، وأيست من الْجَارِيَة، فَبَقيت أَطُوف فِي الدَّار، إِلَى أَن وَقعت على المطبخ، فَإِذا قوم طباخون جُلُوس، فاستطعمت مِنْهُم، فَلم يعرفوني، وظنوا أَنِّي بعض الوكلاء، فقدموا إِلَيّ زيرباجة، فَأكلت مِنْهَا، وغسلت يَدي بأشنان كَانَ فِي المطبخ، وَأَنا مستعجل لِئَلَّا يفْطن بِي، وظننت أَنِّي قد نقيت من رِيحهَا، وعدت إِلَى مَكَاني. فَلَمَّا انتصف اللَّيْل إِذا بطبول، وزمور، والأبواب تفتح، وصاحبتي قد أهديت إِلَيّ، وَجَاءُوا بهَا فجلوها عَليّ، وَأَنا أقدر أَن ذَلِك فِي النّوم، وَلَا أصدق فَرحا بِهِ، وَقد كَادَت مرارتي تَنْشَق فَرحا وسرورًا، ثمَّ خلوت بهَا، وَانْصَرف النَّاس. فحين تقدّمت إِلَيْهَا وقبلتها، رفستني فرمت بِي عَن المنصة، وَقَالَت: أنْكرت أَن تفلح يَا عَامي، أَو تصلح يَا سفلَة، وَقَامَت لتخرج. فتعلقت بهَا، وَقبلت يَديهَا ورجليها، وَقلت: عرفيني ذَنبي، واعملي بعده مَا شِئْت.

فَقَالَت: وَيلك، تَأْكُل، وَلَا تغسل يدك؟ وَأَنت تُرِيدُ أَن تختلي بمثلي؟ فَقلت: اسمعي قصتي، واعملي مَا شِئْت بعد ذَلِك. فَقَالَت: قل. فقصصت عَلَيْهَا الْقِصَّة، فَلَمَّا بلغت أَكْثَرهَا، قلت: وَعلي، وَعلي، وَحلفت بأيمان مُغَلّظَة، لَا أكلت بعد هَذَا زيرباجة، إِلَّا غسلت يَدي أَرْبَعِينَ مرّة. فَأَشْفَقت، وتبسمت، وصاحت: يَا جواري، فجَاء مِقْدَار عشر جواري ووصائف، فَقَالَت: هاتم شَيْئا للْأَكْل. فَقدمت إِلَيْنَا مائدة حَسَنَة، وألوان فاخرة، من مَوَائِد الْخُلَفَاء، فأكلنا جَمِيعًا، واستدعت شرابًا، فشربنا، أَنا وَهِي، وغنى لنا بعض أُولَئِكَ الوصائف. وقمنا إِلَى الْفراش، فَدخلت بهَا، وَإِذا هِيَ بكر، فافتضضتها، وَبت بليلة من ليَالِي الْجنَّة، وَلم نفترق أسبوعًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، إِلَى أَن انْقَضتْ وَلِيمَة الْأُسْبُوع. فَلَمَّا كَانَ من غَد، قَالَت لي: إِن دَار الْخَلِيفَة لَا تحْتَمل الْمقَام فِيهَا أَكثر من هَذَا، وَمَا تمّ لأحد أَن يدْخل فِيهَا بعروس غَيْرك، وَذَلِكَ لعناية السيدة بِي، وَقد أعطتني خمسين ألف دِينَار، من عين وورق، وجوهر، وقماش، ولي بِخَارِج الْقصر أَمْوَال وذخائر أضعافها، وَكلهَا لَك، فَاخْرُج، وَخذ مَعَك مَالا، واشتر لنا دَارا حَسَنَة، عَظِيمَة الاتساع، يكون فِيهَا بُسْتَان حسن، وَتَكون كَثِيرَة الْحجر،

وَلَا تضيق على نَفسك، كَمَا تضيق نفوس التُّجَّار، فَإِنِّي مَا تعودت أسكن إِلَّا فِي الْقُصُور، وَاحْذَرْ من أَن تبْتَاع شَيْئا ضيقا، فَلَا أسْكنهُ، وَإِذا ابتعت الدَّار، فعرفني، لأنقل إِلَيْك مَالِي، وجواري، وَأَنْتَقِلَ إِلَيْك. فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة. فَسلمت إِلَيّ عشرَة آلَاف دِينَار، فأخذتها، وأتيت إِلَى دَاري، واعترضت الدّور، حَتَّى ابتعت مَا وَافق اخْتِيَارهَا، فَكتبت إِلَيْهَا بالْخبر، فنقلت إِلَيّ تِلْكَ النِّعْمَة بأسرها، وَمَعَهَا مَا لم أَظن قطّ أَنِّي أرَاهُ، فضلا عَن أَنِّي أملكهُ، وأقامت عِنْدِي كَذَا وَكَذَا سنة، أعيش مَعهَا عَيْش الْخُلَفَاء، وأتجر فِي خلال ذَلِك، لِأَن نَفسِي لم تسمح لي بترك تِلْكَ الصَّنْعَة، وَإِبْطَال الْمَعيشَة، فتزايد مَالِي وجاهي، وَولدت لي هَؤُلَاءِ الشَّبَاب، وَأَوْمَأَ إِلَى أَوْلَاده، وَمَاتَتْ رَحمهَا الله، وَبَقِي عَليّ مضرَّة الزيرباجة، إِذا أكلتها، غسلت يَدي أَرْبَعِينَ مرّة.

إسحاق الموصلي يتطفل ويقترح

إِسْحَاق الْموصِلِي يتطفل ويقترح حَدثنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني رَحمَه الله تَعَالَى، إملاء من حفظه، وكتبته عَنهُ فِي أصُول سماعاتي مِنْهُ، وَلم يحضرني كتابي، فأنقله مِنْهُ، فأثبته من حفظي، وتوخيت أَلْفَاظه بجهدي، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن مزِيد بن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: غَدَوْت يَوْمًا، وَأَنا ضجر من مُلَازمَة دَار الْخلَافَة، والخدمة فِيهَا، فركبت بكرَة، وعزمت على أَن أَطُوف الصَّحرَاء، وأتفرج بهَا. فَقلت لغلماني: إِن جَاءَ رَسُول الْخَلِيفَة، فعرفوه أَنِّي بكرت فِي مُهِمّ لي، وأنكم لَا تعرفُون أَيْن تَوَجَّهت. ومضيت، وطفت مَا بدا لي، ثمَّ عدت وَقد حمي النَّهَار، فوقفت فِي شَارِع المخرم، فِي الظل، عِنْد جنَاح رحب فِي الطَّرِيق، لأستريح. فَلم ألبث أَن جَاءَ خَادِم يَقُود حمارا فارهًا، عَلَيْهِ جَارِيَة راكبة، تحتهَا منديل دبيقي، وَعَلَيْهَا من اللبَاس الفاخر مَا لَا غَايَة وَرَاءه، وَرَأَيْت لَهَا قوامًا حسنا، وطرفًا فاتنًا، وشمائل ظريفة، فحدست أَنَّهَا مغنية. فَدخلت الدَّار الَّتِي كنت وَاقِفًا عَلَيْهَا، وعلقها قلبِي فِي الْوَقْت علوقًا شَدِيدا، لم أستطع مَعَه البراح. فَلم ألبث إِلَّا يَسِيرا، حَتَّى أقبل رجلَانِ شابان جميلان، لَهما هيأة تدل على قدرهما، راكبان، فَاسْتَأْذَنا، فَأذن لَهما، فَحَمَلَنِي حب الْجَارِيَة على أَن نزلت

مَعَهُمَا، وَدخلت بدخولهما، فظنا أَن صَاحب الدَّار دَعَاني، وَظن صَاحب الدَّار أَنِّي مَعَهُمَا. فَجَلَسْنَا، فَأتي بِالطَّعَامِ فأكلنا، وبالشراب فَوضع، وَخرجت الْجَارِيَة، وَفِي يَدهَا عود، فرأيتها حسناء، وَتمكن مَا فِي قلبِي مِنْهَا، وغنت غناء صَالحا، وشربنا. وَقمت قومة للبول، فَسَأَلَ صَاحب الْمنزل من الفتيين عني، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا لَا يعرفاني، فَقَالَ: هَذَا طفيلي، وَلكنه ظريف، فأجملوا عشرته. وَجئْت، فَجَلَست، وغنت الْجَارِيَة فِي لحن لي: ذكرتك إِذْ مرّت بِنَا أمّ شادن ... أَمَام المطايا تستريب وتطمح من المولعات الرمل أدماء حرّة ... شُعَاع الضُّحَى فِي متنها يتوضّح فأدته أَدَاء صَالحا، ثمَّ غنت أصواتًا فِيهَا من صنعتي: الطلول الدوارس ... فارقتها الأوانس أوحشت بعد أَهلهَا ... فَهِيَ قفر بسابس فَكَانَ أَثَرهَا فِيهِ أصلح من الأول، ثمَّ غنت أصواتًا من الْقَدِيم والمحدث، وغنت فِي أضعافها من صنعتي، فِي شعري: قل لمن صدّ عاتبا ... ونأى عَنْك جانبا

قد بلغت الَّذِي أردْت ... وَإِن كنت لاعبا واعترفنا بِمَا أدّعيت ... وَإِن كنت كَاذِبًا فَكَانَ أصلح مَا غنته، فاستعدته مِنْهَا لأصححه لَهَا، فَأقبل عَليّ رجل مِنْهُم، فَقَالَ: مَا رَأَيْت طفيليًا أصفق مِنْك وَجها، لم ترض بالتطفيل حَتَّى اقترحت، وَهَذَا تَصْدِيق للمثل: طفيلي ويقترح، فأطرقت، وَلم أجبه، وَجعل صَاحبه يكفه عني، فَلَا يكف. ثمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاة، وتأخرت، فَأخذت الْعود وشددت طبقته، وأصلحته إصلاحًا محكمًا، وعدت إِلَى موضعي، فَصليت، وعادوا، وَأخذ الرجل فِي عربدته عَليّ، وَأَنا صَامت. وَأخذت الْجَارِيَة الْعود، وجسته، فأنكرت حَاله، وَقَالَت: من مس عودي؟ فَقَالُوا: مَا مَسّه أحد. قَالَت: بلَى، وَالله، قد مَسّه حاذق مُتَقَدم، وَشد طبقته، وَأَصْلحهُ إصْلَاح مُتَمَكن من صَنعته. فَقلت لَهَا: أَنا أصلحته. قَالَت: بِاللَّه عَلَيْك، خُذْهُ، فَاضْرب بِهِ. فَأَخَذته، وَضربت بِهِ مبدأ عجيبًا، فِيهِ نقرات محركة، فَمَا بَقِي فِي الْمجْلس أحد إِلَّا وثب فَجَلَسَ بَين يَدي. وَقَالُوا: بِاللَّه عَلَيْك يَا سيدنَا، أتغني؟ قلت: نعم، وأعرفكم نَفسِي أَيْضا، أَنا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، وَإِنِّي، وَالله، لأتيه على الْخَلِيفَة، وَأَنْتُم تشتموني الْيَوْم، لِأَنِّي تملحت مَعكُمْ بِسَبَب

هَذِه الْجَارِيَة، وَوَاللَّه، لَا نطقت بِحرف، وَلَا جَلَست مَعكُمْ، أَو تخْرجُوا هَذَا المعاند. ونهضت لأخرج، فتعلقوا بِي، فَلم أرجع، فلحقتني الْجَارِيَة، فتعلقت بِي، فلنت، وَقلت: لَا أَجْلِس، حَتَّى تخْرجُوا هَذَا البغيض. فَقَالَ لَهُ صَاحبه: من هَذَا كنت أَخَاف عَلَيْك، فَأخذ يعْتَذر. فَقلت: أَجْلِس، وَلَكِنِّي، وَالله، لَا أنطق بِحرف وَهُوَ حَاضر، فَأخذُوا بِيَدِهِ، فأخرجوه. فَبَدَأت أُغني الْأَصْوَات الَّتِي غنتها الْجَارِيَة من صنعتي، فطرب صَاحب الْبَيْت طَربا شَدِيدا، وَقَالَ: هَل لَك فِي أَمر أعرضه عَلَيْك؟ فَقلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تقيم عِنْدِي شهرا، وَالْجَارِيَة لَك بِمَا لَهَا من كسْوَة. فَقلت: أفعل. فأقمت عِنْده ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لَا يعرف أحد أَيْن أَنا، والمأمون يطلبني فِي كل مَوضِع، فَلَا يعرف لي خَبرا. فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك، سلم إِلَيّ الْجَارِيَة وَالْخَادِم، وَجئْت بهَا إِلَى منزلي، وَكَانَ أهل منزلي فِي أقبح صُورَة لتأخري عَنْهُم. وَركبت إِلَى الْمَأْمُون من وقتي، فَلَمَّا رَآنِي، قَالَ لي: يَا إِسْحَاق، وَيحك، أَيْن كنت؟ فَأَخْبَرته بخبري. فَقَالَ: عَليّ بِالرجلِ السَّاعَة، فدللتهم على بَيته، فأحضر، فَسَأَلَهُ الْمَأْمُون عَن الْقِصَّة، فَأخْبرهُ بهَا. فَقَالَ: أَنْت ذُو مُرُوءَة، وسبيلك أَن تعان عَلَيْهَا، فَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم.

وَقَالَ: لَا تعاشر ذَلِك المعربد السّفل. فَقَالَ: معَاذ الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَأمر لي بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، وَقَالَ لي: أحضر الْجَارِيَة، فأحضرته إِيَّاهَا، فغنته. فَقَالَ لي: قد جعلت لَهَا نوبَة كل يَوْم ثلاثاء، تغنيني من وَرَاء الستارة، مَعَ الْجَوَارِي، وَأمر لَهَا بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم. فربحت، وَالله، بِتِلْكَ الرّكْبَة، وأربحت.

أنت طالق إن لم تكوني أحسن من القمر

أَنْت طَالِق إِن لم تَكُونِي أحسن من الْقَمَر وَوجدت فِي بعض الْكتب: أَن عِيسَى بن مُوسَى، كَانَ يحب زَوجته حبا شَدِيدا، فَقَالَ لَهَا يَوْمًا: أَنْت طَالِق، إِن لم تَكُونِي أحسن من الْقَمَر. فَنَهَضت، واحتجبت عَنهُ، وَقَالَت: قد طلقتني، فَبَاتَ بليلة عَظِيمَة. فَلَمَّا أصبح غَدا إِلَى الْمَنْصُور، وَأخْبرهُ الْخَبَر، وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن تمّ طَلاقهَا، تلفت نَفسِي غمًا، وَكَانَ الْمَوْت أحب إِلَيّ من الْحَيَاة. وَظهر للمنصور مِنْهُ جزع شَدِيد، فأحضر الْفُقَهَاء، واستفتاهم، فَقَالَ جَمِيع من حضر، قد طلقت، إِلَّا رجلا من أَصْحَاب أبي حنيفَة، فَإِنَّهُ سكت. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: مَا لَك لَا تَتَكَلَّم؟ فَقَالَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم،] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ {1} وَطُورِ سِينِينَ {2} وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [سُورَة التِّين: 1-4] فَلَا شَيْء أحسن من الْإِنْسَان. فَقَالَ الْمَنْصُور لعيسى بن مُوسَى: قد فرج الله تَعَالَى عَنْك، وَالْأَمر كَمَا قَالَ، فأقم على زَوجتك. وراسلها أَن أطيعي زَوجك، فَمَا طلقت.

ما ثمانية وأربعة واثنان

مَا ثَمَانِيَة وَأَرْبَعَة وَاثْنَانِ أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن بشار الْأَنْبَارِي، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن عبيد، عَن الْهَيْثَم بن عدي، عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: قدم علينا عمر بن هُبَيْرَة الْكُوفَة، فَأرْسل إِلَى عشرَة، أَنا أحدهم، من وُجُوه أهل الْكُوفَة، فسمرنا عِنْده. ثمَّ قَالَ: يحدثني كل رجل مِنْكُم أُحدوثةً، وابدأ أَنْت يَا أَبَا عَمْرو. فَقلت: أصلح الله الْأَمِير، أحديث الْحق، أم حَدِيث الْبَاطِل؟ فَقَالَ: بل حَدِيث الْحق. فَقلت: إِن أمرء الْقَيْس بن حجر الْكِنْدِيّ، آلي ألية، أَن لَا يتَزَوَّج بِامْرَأَة حَتَّى يسْأَلهَا عَن ثَمَانِيَة، وَأَرْبَعَة، واثنين، فَجعل يخْطب النِّسَاء، فَإِذا سَأَلَهُنَّ عَنْهَا، قُلْنَ: أَرْبَعَة عشر.

فَبينا هُوَ يسير فِي اللَّيْل، وَإِذا هُوَ بِرَجُل يحمل ابْنة لَهُ صَغِيرَة، كَأَنَّهَا الْقَمَر لتمه، فَأَعْجَبتهُ. فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَة، مَا ثَمَانِيَة، وَأَرْبَعَة، وَاثْنَانِ؟ فَقَالَت: أما الثَّمَانِية: فأطباء الكلبة، وَأما الْأَرْبَعَة: فأخلاف النَّاقة، وَأما الِاثْنَان: فثديا الْمَرْأَة. فَخَطَبَهَا من أَبِيهَا، فَزَوجهُ مِنْهَا، واشترطت هِيَ عَلَيْهِ، أَن تسأله لَيْلَة يَأْتِيهَا، عَن ثَلَاث خِصَال، فَجعل لَهَا ذَلِك، على نَفسه، وعَلى أَن يَسُوق لَهَا مائَة من الْإِبِل، وَعشرَة أعبد، وَعشر وصائف، وَثَلَاثَة أَفْرَاس، فَفعل ذَلِك. ثمَّ إِنَّه بعث عبدا لَهُ إِلَى الْمَرْأَة، وَأهْدى إِلَيْهَا نحيًا من سمن، ونحيًا من عسل، وحلةً من قصب. فَنزل العَبْد بِبَعْض الْمِيَاه، فنشر الْحلَّة، ولبسها، فتعلقت بشجرة فانشقت، وَفتح النحيين، وَأطْعم أهل المَاء مِنْهُمَا. ثمَّ قدم على حَيّ الْمَرْأَة وهم خلوف، فَسَأَلَهَا عَن أَبِيهَا، وَأمّهَا، وأخيها، وَدفع إِلَيْهَا هديتها. فَقَالَت: أعلم مَوْلَاك، أَن أبي ذهب يقرب بَعيدا، وَيبعد قَرِيبا، وَأَن أُمِّي ذهبت تشق النَّفس نفسين، وَأَن أخي يُرَاعِي الشَّمْس، وَأَن سماءكم

انشقت، وَأَن وعائيكما نضبا. فَقدم الْغُلَام على مَوْلَاهُ، وَأخْبرهُ بِمَا قَالَت. فَقَالَ: أما قَوْلهَا: ذهب أبي يقرب بَعيدا، وَيبعد قَرِيبا، فَإِن أَبَاهَا ذهب يحالف قوما على قومه. وَأما قَوْلهَا: ذهبت أُمِّي تشق النَّفس نفسين، فَإِن أمهَا ذهبت تقبل امْرَأَة. وَأما قَوْلهَا: إِن أخي يُرَاعِي الشَّمْس، فَإِن أخاها فِي سرح لَهُ يرعاها، فَهُوَ ينْتَظر وجوب الشَّمْس ليروح. وَأما قَوْلهَا: إِن سماءكم انشقت، فَإِن الْحلَّة الَّتِي بعثت بهَا مَعَك انشقت. وَأما قَوْلهَا: إِن وعائيكما نضبا، فَإِن النحيين الَّذين بعثت بهما نقصا، فأصدقني. فَقَالَ: يَا مولَايَ، إِنِّي نزلت بِمَاء من مياه الْعَرَب، فسألوني عَن نسبي، فَأَخْبَرتهمْ أَنِّي ابْن عمك، ونشرت الْحلَّة فلبستها، وتجملت بهَا، فعلقت بشجرة، فانشقت، وَفتحت النحيين، فأطعمت مِنْهُمَا أهل المَاء. فَقَالَ: أولى لَك. ثمَّ سَاق مائَة من الْإِبِل، وَخرج نَحْوهَا، وَمَعَهُ الْغُلَام، فَنزلَا منزلا. فَقَامَ الْغُلَام ليسقي، فعجز، فأعانه امْرُؤ الْقَيْس، فَرمى بِهِ الْغُلَام فِي الْبِئْر، وَانْصَرف حَتَّى أَتَى الْمَرْأَة بِالْإِبِلِ، فَأخْبرهُم أَنه زَوجهَا. فَقيل لَهَا: قد جَاءَ زَوجك. فَقَالَت: وَالله، لَا أَدْرِي أهوَ زَوجي أم لَا، وَلَكِن انحروا لَهُ جزورًا،

وأطعموه من درتها وذنبها، فَفَعَلُوا، فَأكل مَا أطعموه. فَقَالَت: اسقوه لَبَنًا حازرًا وَهُوَ الحامض، فَشرب. فَقَالَت: أفرشوا لَهُ عِنْد الفرث وَالدَّم، ففرشوا لَهُ، فَنَامَ. فَلَمَّا أَصبَحت، أرْسلت إِلَيْهِ: إِنِّي أُرِيد أَن أَسأَلك. فَقَالَ: سَلِي عَمَّا بدا لَك. فَقَالَت: مِم تختلج شفتاك؟ فَقَالَ: لتقبيلي فَاك. فَقَالَت: مِم يختلج كشحاك؟ قَالَ: لالتزامي إياك. فَقَالَت: مِم يختلج فخذاك؟ فَقَالَ: لتوركي إياك. فَقَالَت: عَلَيْكُم بِالْعَبدِ، فشدوا أَيْدِيكُم بِهِ، فَفَعَلُوا. قَالَ: وَمر قوم، فَاسْتَخْرَجُوا امرء الْقَيْس من الْبِئْر، فَرجع إِلَى حيه، وَاسْتَاقَ مائَة من الْإِبِل، وَأَقْبل إِلَى امْرَأَته. فَقيل لَهَا: قد جَاءَ زَوجك. فَقَالَت: وَالله، مَا أَدْرِي أهوَ زَوجي أم لَا، وَلَكِن أنحروا لَهُ جزورًا، وأطعموه من كرشها وذنبها، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا أَتَوْهُ بذلك، قَالَ: أَيْن الكبد والسنام والملحة، وأبى أَن يَأْكُل.

فَقَالَت: أسقوه لَبَنًا حازرًا، فَأبى أَن يشرب، وَقَالَ: أَيْن الضَّرْب والزبد؟ فَقَالَت: افرشوا لَهُ عِنْد الفرث وَالدَّم، فَأبى أَن ينَام، وَقَالَ: افرشوا لي فَوق التلعة الْحَمْرَاء، واضربوا لي عَلَيْهَا خباء. ثمَّ أرْسلت إِلَيْهِ تَقول: هَات شرطي عَلَيْك فِي الْمسَائِل الثَّلَاث، فَأرْسل إِلَيْهَا سَلِي عَمَّا شِئْت. فَقَالَت: مِم تختلج شفتاك؟ قَالَ: لشربي المشعشعات. قَالَت: مِم يختلج كشحاك؟ قَالَ: للبسي الحبرات. قَالَت: فمم يختلج فخذاك؟ قَالَ: لركوبي السابقات. فَقَالَت: هَذَا هُوَ زَوجي، فَعَلَيْكُم بِهِ، واقتلوا العَبْد، فَقَتَلُوهُ، وَأَقْبل امْرُؤ الْقَيْس على الْجَارِيَة. فَقَالَ ابْن هُبَيْرَة: لَا خير فِي سَائِر الحَدِيث اللَّيْلَة، بعد حَدِيثك يَا أَبَا عَمْرو، وَلنْ يأتينا أحد بِأَعْجَب مِنْهُ، فقمنا، وانصرفنا، وَأمر لي بجائزة.

أخبار قيس ولبنى

أَخْبَار قيس ولبنى وجدت فِي كتاب الأغاني الْكَبِير، لأبي الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، الَّذِي أجَاز لي رِوَايَته، فِي جملَة مَا أجَازه لي، أَخْبَار قيس بن ذريح اللَّيْثِيّ، فَقَالَ فِي صدرها: أَخْبرنِي بِخَبَر قيس بن ذريح ولبنى امْرَأَته، جمَاعَة من مَشَايِخنَا، فِي قصَص مُتَّصِلَة ومتقطعة، وأخبار منظومة ومنثورة، فألفت جَمِيع ذَلِك ليتسق حَدِيثه، إِلَّا مَا جَاءَ مُنْفَردا، وَحسن إِخْرَاجه عَن جملَة النّظم، فَذَكرته على حِدته. فَمِمَّنْ أخبرنَا بِخَبَرِهِ أَحْمد بن عبد الْعَزِيز الْجَوْهَرِي، قَالَ: حَدثنَا عمر بن شبة، وَلم يتجاوزه إِلَى غَيره، وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَيُّوب عَن ابْن قُتَيْبَة. وَالْحسن بن عَليّ، عَن مُحَمَّد بن أبي السّري، عَن هِشَام مُحَمَّد الْكَلْبِيّ، وعَلى رِوَايَته أَكثر الْمعول. وَنسخت أَيْضا من أخباره الْمَنْظُومَة، أَشْيَاء ذكرهَا القحذمي، عَن رِجَاله، وخَالِد بن كُلْثُوم عَن نَفسه، وَمن روى عَنهُ، وخَالِد بن جميل. ونتفًا حَكَاهَا اليوسفي صَاحب الرسائل، عَن أَبِيه، عَن أَحْمد بن حَمَّاد، عَن جميل، عَن ابْن أبي جنَاح الكعبي، وحكيت كل مُتَّفق فِيهِ مُتَّصِلا، وكل مُخْتَلف فِي مَعَانِيه مَنْسُوبا إِلَى رَاوِيه، قَالُوا جَمِيعًا:

كَانَ منزل فِي ظَاهر الْمَدِينَة لذريح، وَهُوَ أَبُو قيس، وَكَانَ هُوَ وَأَبوهُ من حَاضِرَة الْمَدِينَة. فَمر قيس فِي بعض حَوَائِجه، ذَات يَوْم، بحي من بني كَعْب بن خُزَاعَة، والحي خلوف، فَوقف على خباء لبنى بنت الْحباب الْكَعْبِيَّة، واستسقى مَاء، فسقته، وَخرجت إِلَيْهِ بِهِ، وَكَانَت امْرَأَة مديدة الْقَامَة، شهلاء، حلوة المنظر وَالْكَلَام، فَلَمَّا رَآهَا وَقعت فِي نَفسه، وَشرب من المَاء. فَقَالَت لَهُ: أتنزل عندنَا؟ قَالَ: نعم، فَنزل بهم، وَجَاء أَبوهَا، فَنحر لَهُ وأكرمه. وَانْصَرف قيس، وَفِي قلبه من لبنى حر لَا يطفأ، فَجعل ينْطق بالشعر فِيهَا حَتَّى شاع خَبره، وَرُوِيَ شعره فِيهَا. وأتاها يَوْمًا آخر، وَقد اشْتَدَّ وجده بهَا، فَسلم، فظهرت لَهُ، وَردت سَلَامه، ورحبت بِهِ، فَشكى إِلَيْهَا مَا يجد بهَا، وَمَا يلقى من حبها، فَبَكَتْ وَشَكتْ إِلَيْهِ مثل ذَلِك، فَعرف كل وَاحِد مِنْهُمَا، مَا لَهُ عِنْد صَاحبه. ثمَّ انْصَرف إِلَى أَبِيه، فَأعلمهُ بِحَالهِ، وَسَأَلَهُ أَن يُزَوجهُ إِيَّاهَا، فَأبى عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا بني عَلَيْك بِإِحْدَى بَنَات عمك، فهن أَحَق بك، وَكَانَ ذريح كثير المَال، وَأحب أَن لَا يخرج مَاله إِلَى غَرِيبَة. فَانْصَرف قيس، وَقد سَاءَهُ مَا خاطبه بِهِ أَبوهُ، فَأتى أمه وشكى ذَلِك إِلَيْهَا، واستعان بهَا على أَبِيه، فَلم يجد عِنْدهَا مَا يحب.

فَأتى الْحُسَيْن بن عَليّ، سَلام الله عَلَيْهِمَا، فَشكى مَا بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: أَنا أكفيك. فَمضى مَعَه إِلَى أبي لبنى، فَلَمَّا بصر بِهِ، وثب إِلَيْهِ، وأعظمه، وَقَالَ: يَابْنَ رَسُول الله، مَا جَاءَ بك إِلَيّ؟ أَلا بعثت إِلَيّ فآتيك؟ قَالَ: قد جئْتُك خاطبًا ابْنَتك لبنى، لقيس بن ذريح، وَقد عرفت مَكَانَهُ مني. فَقَالَ: يَابْنَ بنت رَسُول الله، مَا كنت لأعصي لَك أمرا، وَمَا بِنَا عَن الْفَتى رَغْبَة، وَلَكِن أحب الْأَمريْنِ إِلَيْنَا، أَن يخطبها ذريح علينا، وَأَن يكون ذَلِك عَن أمره، فَإنَّا نَخَاف أَن يسمع أَبوهُ بِهَذَا، فَيكون عارًا ومسبة علينا. فَأتى الْحُسَيْن سَلام الله عَلَيْهِ ذريحًا، وَقَومه مجتمعون، فَقَامُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا لَهُ مثل قَول الْخُزَاعِيّ. فَقَالَ: يَا ذريح، أَقْسَمت عَلَيْك بحقي، إِلَّا خطبت لبنى لابنك قيس. فَقَالَ: السّمع وَالطَّاعَة لأمرك. وَخرج مَعَه فِي وُجُوه قومه، حَتَّى أَتَى حَيّ لبنى، فَخَطَبَهَا ذريح من أَبِيهَا على ابْنه قيس، فَزَوجهُ بهَا، وزفت إِلَيْهِ. فَأَقَامَ مَعهَا مُدَّة، لَا يُنكر أَحدهمَا من صَاحبه شَيْئا.

وَكَانَ قيس أبر النَّاس بِأُمِّهِ، فألهته لبنى وعكوفه عَلَيْهَا عَن بعض ذَلِك، فَوجدت أمه فِي نَفسهَا، وَقَالَت: لقد شغلت هَذِه الْمَرْأَة ابْني عَن بري. وَلم تَرَ للْكَلَام موضعا حَتَّى مرض قيس مَرضا شَدِيدا، فَلَمَّا برِئ، قَالَت أمه لِأَبِيهِ: لقد خشيت أَن يَمُوت قيس وَلم يتْرك خلفا، وَقد حرم الْوَلَد من هَذِه الْمَرْأَة، وَأَنت ذُو مَال، فَيصير مَالك إِلَى الْكَلَالَة، فَزَوجهُ غَيرهَا، لَعَلَّ الله عز وَجل يرزقه ولدا، وألحت عَلَيْهِ فِي ذَلِك. فأمهل ذريح حَتَّى اجْتمع قومه، ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا قيس، إِنَّك اعتللت هَذِه الْعلَّة وَلَا ولد لَك، وَلَا لي سواك، وَهَذِه الْمَرْأَة لَيست بولود، فَتزَوج إِحْدَى بَنَات عمك لَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يهب لَك ولدا تقر بِهِ عَيْنك وأعيننا. فَقَالَ قيس: لست متزوجًا غَيرهَا أبدا. فَقَالَ أَبوهُ: يَا بني، فَإِن مَالِي كثير، فتسر بالإماء. فَقَالَ: وَلَا أسوءها بِشَيْء أبدا. قَالَ أَبوهُ: فَإِنِّي أقسم عَلَيْك إِلَّا طَلقتهَا. فَأبى، وَقَالَ: الْمَوْت، وَالله، أسهل عَليّ من ذَلِك، وَلَكِنِّي أخيرك خصْلَة من خِصَال. فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تتَزَوَّج أَنْت، فَلَعَلَّ الله عز وَجل أَن يرزقك ولدا غَيْرِي. فَقَالَ: مَا فِي فضل لذَلِك. قَالَ: فَدَعْنِي أرحل عَنْك بأهلي، وأصنع مَا كنت صانعًا، لَو كنت مت فِي علتي هَذِه. فَقَالَ: وَلَا هَذَا. قَالَ: فأدع لبنى عنْدك، وأرتحل عَنْك إِلَى أَن أسلوها، فَإِنِّي مَا تحب

نَفسِي أَن أعيش، وَتَكون لبنى غَائِبَة عني أبدا، وَأَن لَا تكون فِي حبالي. فَقَالَ: لَا أرْضى بذلك، أَو تطلقها، وَحلف لَا يكنه سقف بَيت أبدا، حَتَّى يُطلق لبنى. وَكَانَ يخرج فيقف فِي حر الشَّمْس، وَيَجِيء قيس فيقف إِلَى جَانِبه، فيظله بردائه، وَيصلى هُوَ بَحر الشَّمْس، حَتَّى يفِيء الْفَيْء عَنهُ، وينصرف إِلَى لبنى، فيعانقها، ويبكي، وتبكي مَعَه. وَتقول لَهُ: يَا قيس، لَا تُطِع أَبَاك، فتهلك، وتهلكني مَعَك. فَيَقُول لَهَا: مَا كنت لأطيع أحدا فِيك أبدا. فَيُقَال: إِنَّه مكث كَذَلِك سنة، ثمَّ طَلقهَا لأجل وَالِده، فَلم يطق الصَّبْر عَنْهَا. قَالَ ابْن جريج: أخْبرت أَن عبد الله بن صَفْوَان لَقِي ذريحًا أَبَا قيس، فَقَالَ لَهُ: مَا حملك على أَن فرقت بَين قيس ولبنى، أما علمت أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: مَا أُبَالِي فرقت بَين الرجل وَامْرَأَته، أَو مشيت إِلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ. وروى هَذَا الحَدِيث، إِبْرَاهِيم بن يسَار الرَّمَادِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، قَالَ: قَالَ الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام لذريح بن سنة، أبي قيس: أحل لَك أَن فرقت بَين قيس ولبنى، أما أَنِّي سَمِعت عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ، يَقُول: مَا أُبَالِي فرقت بَين الرجل وَامْرَأَته، أَو مشيت إِلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ. قَالَ أَبُو الْفرج: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن خلف، وَكِيع، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن معِين، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق، قَالَ: حَدثنَا

ابْن جريج، قَالَ: أخبرنَا عمر بن أبي نصر، عَن لَيْث بن عَمْرو، أَنه سمع قيس بن ذريح يَقُول ليزِيد بن سُلَيْمَان: هجرني أبواي، اثْنَتَيْ عشرَة سنة، أَسْتَأْذن عَلَيْهِمَا، فيرداني، حَتَّى طَلقتهَا. قَالُوا: فَلَمَّا بَانَتْ لبنى مِنْهُ، بطلاقه إِيَّاهَا، وَفرغ من الْكَلَام، لم يلبث حَتَّى استطير عقله، ولحقه مثل الْجُنُون، وَجعل يبكي وينشج أحر نشيج، وَبَلغهَا الْخَبَر، فَأرْسلت إِلَى أَبِيهَا ليحملها، وَقيل: أَقَامَت حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، وَقيس يدْخل إِلَيْهَا، فَأرْسلت إِلَى أَبِيهَا ليحملها، فَأقبل أَبوهَا بهودج على نَاقَة، وَمَعَهُ إبل، ليحمل أثاثها. فَلَمَّا رأى قيس ذَلِك، أقبل على جاريتها، وَقَالَ: وَيحك، مَا دهاني فِيكُم؟ فَقَالَت: لَا تَسْأَلنِي، وسل لبنى. فَذهب ليلم بخبائها، فَمَنعه قَومهَا، وَأَقْبَلت عَلَيْهِ امْرَأَة من قَومهَا، وَقَالَت: وَيحك تسْأَل، كَأَنَّك جَاهِل أَو متجاهل، هَذِه لبنى ترحل اللَّيْلَة أَو غَدا. فَسقط مغشيًا عَلَيْهِ، ثمَّ أَفَاق، وَبكى بكاء كثيرا، ثمَّ أنشأ يَقُول: وإنّي لمفنٍ دمع عَيْني بالبكا ... حذار الَّذِي قد كَانَ أَو هُوَ كَائِن وَقَالُوا غَدا أَو بعد ذَاك بليلة ... فِرَاق حبيب لم يبن وَهُوَ بَائِن وَمَا كنت أخْشَى أَن تكون منيّتي ... بكفّيك إِلَّا أنّ مَا حَان حائن قَالَ أَبُو الْفرج: فِي هَذِه الأبيات غناء، وَلها أَخْبَار قد ذكرت فِي أَخْبَار الْمَجْنُون قيس بن الملوح، مَجْنُون بني عَامر، ثمَّ ذكر أَبُو الْفرج بعد هَذَا عدَّة قطع من شعر قيس بن ذريح. ثمَّ قَالَ: قَالُوا: فَلَمَّا ارتحل بهَا أَبوهَا إِلَى قَومهَا، أتبعهَا مَلِيًّا، ثمَّ علم أَن

أَبَاهَا يسوءه أَن يسير مَعهَا، ويمنعه ذَلِك، فَوقف ينظر إِلَيْهَا ويبكي، حَتَّى غَابُوا عَن عَيْنَيْهِ، فكر رَاجعا، فَنظر إِلَى أثر خف بَعِيرهَا، فأكب عَلَيْهِ يقبله، وَرجع يقبل مَوضِع مجلسها، وَأثر قدميها، فليم على ذَلِك، وعنفه قومه فِي تَقْبِيل التُّرَاب، فَقَالَ: وَمَا أَحْبَبْت أَرْضكُم وَلَكِن ... أقبّل إِثْر من وطئ الترابا لقد لاقيت من كلفي بلبنى ... بلَاء مَا أسيغ لَهُ شرابًا إِذا نَادَى الْمُنَادِي باسم لبنى ... عييت فَمَا أُطِيق لَهُ جَوَابا ثمَّ ذكر أَبُو الْفرج قطعا من شعر قيس، وأخبارًا من أخباره منشورة، بأسانيد مُفْردَة على الْإِسْنَاد الَّذِي رويته عَنهُ هَهُنَا، ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَوَاضِع من الحَدِيث الَّذِي جمع فِيهِ من أسانيده، وأتى بسياقة يطول عَليّ أَن أذكرها فِي كتابي هَذَا، جُمْلَتهَا عَظِيم مَا لحق قيس من التململ، والسهر، والحزن، والأسفار، والبكاء الْعَظِيم، والجزع المفرط، وإلصاق خَدّه بِالْأَرْضِ على آثارها، وَخُرُوجه فِي أَثَرهَا، وشم رائحتها، وعتابه نَفسه فِي طَاعَة أَبِيه على طَلاقهَا. ثمَّ اعتل عِلّة أشرف مِنْهَا على الْمَوْت، فَجمع لَهُ أَبوهُ فتيات الْحَيّ يعللنه، ويحدثنه، طَمَعا فِي أَن يسلو عَن لبنى، ويعلق بِوَاحِدَة مِنْهُنَّ، فيزوجه مِنْهَا، فَلم يفعل، وقصة لَهُ مَعَ طَبِيب أحضر لَهُ، وَقطع شعر كَثِيرَة لقيس فِي خلال ذَلِك. ثمَّ إِن أَبَا لبنى شكا قيسا إِلَى مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَذكر تعرضه لَهَا بعد الطَّلَاق. فَكتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان بن الحكم بهدر دَمه إِن تعرض لَهَا، فَكتب مَرْوَان بذلك إِلَى صَاحب المَاء.

ثمَّ إِن أَبَاهَا زَوجهَا، فَبلغ ذَلِك قيسا، فَاشْتَدَّ جزعه، وَجعل يبكي أَشد بكاء، وأتى حِلَّةَ قَومهَا، فَنزل عَن رَاحِلَته، وَجعل يتَعَمَّد فِي موضعهَا، ويمرغ خَدّه على ترابها، ويبكي أحر بكاء، ثمَّ قَالَ قصيدته الَّتِي رَوَاهَا أَبُو الْفرج، الَّتِي أَولهَا: إِلَى الله أَشْكُو فقد لبنى كَمَا شكا ... إِلَى الله فقد الْوَالِدين يَتِيم وَذكر بعد هَذَا أَخْبَارًا لَهُ مَعهَا، واجتماعات عفيفة كَانَت بَينهمَا، بحيل طريفة، ووجدها بِهِ، وبكاءها فِي طَلاقهَا، وإنكار زَوجهَا، الَّذِي تزَوجهَا بعد قيس، ذَلِك عَلَيْهَا، ومكاشفتها لَهُ، وَعلة أُخْرَى لحقت قيسا، واشتهارهما، وافتضاحهما، وَمَا لحق قيسا ولبنى من الخبل، واختلال الْعقل، وَقطع شعر كَثِيرَة لقيس أَيْضا فِي خلال ذَلِك، وَأَن قيسا مضى إِلَى ابْن أبي عَتيق، فَمضى بِهِ إِلَى يزِيد بن مُعَاوِيَة، ومدحه وشكى إِلَيْهِ مَا جرى عَلَيْهِ، فرق لَهُ، ورحمه، وَأخذ لَهُ كتاب أَبِيه بِأَن يُقيم حَيْثُ أحب، وَلَا يعْتَرض لَهُ أحد، وأزال مَا كتب بِهِ إِلَى مَرْوَان، من هدر دَمه، وَقطع شعر كَثِيرَة أُخْرَى لقيس فِي خلال ذَلِك، وأخبار مُفْردَة، ومفصلة. ثمَّ قَالَ: وَقد اخْتلف فِي أَكثر أَمر قيس ولبنى، وَذكر كلَاما يَسِيرا فِي ذَلِك، والجميع فِي نَيف وَعشْرين ورقة.

وَذكر القحذمي: أَن ابْن أبي عَتيق، صَار إِلَى الْحُسَيْن بن عَليّ، وَجَمَاعَة من قُرَيْش وَقَالَ لَهُم: إِن لي حَاجَة أحب أَن تقضوها، وَأَنا أستعين بجاهكم وَأَمْوَالكُمْ عَلَيْهَا. قَالُوا: ذَلِك مبذول لَك منا، فَاجْتمعُوا بِيَوْم وعدهم فِيهِ، فَمضى بهم إِلَى زوج لبنى، فَلَمَّا رَآهُمْ، أعظم مَسِيرهمْ إِلَيْهِ، وأكبره. فَقَالُوا: قد جئْنَاك بأجمعنا فِي حَاجَة لِابْنِ أبي عَتيق. فَقَالَ: هِيَ مقضية كائنة مَا كَانَت. فَقَالَ لَهُ ابْن أبي عَتيق: قد قضيتها كائنة مَا كَانَت؟ قَالَ: نعم. قَالَ: تهب لي الْيَوْم لبنى زَوجتك، وَتُطَلِّقهَا ثَلَاثًا. قَالَ: فَإِنِّي أشهدكم أَنَّهَا طَالِق ثَلَاثًا. فاستحيا الْقَوْم، وَاعْتَذَرُوا، وَقَالُوا: وَالله، مَا عرفنَا حَاجته، وَلَو علمنَا أَنَّهَا هَذِه، مَا سألناك إِيَّاهَا. قَالَ ابْن أبي عَائِشَة: فَعوضهُ الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام عَن ذَلِك مائَة ألف دِرْهَم. وَحمل ابْن أبي عَتيق، لبنى مَعَه، فَلم تزل عِنْده، حَتَّى انْقَضتْ عدتهَا، وَسَأَلَ الْقَوْم أَبَاهَا، فَزَوجهَا قيسا، وَلم تزل مَعَه حَتَّى مَاتَ. فَقَالَ قيس يمدح ابْن أبي عَتيق: جزى الرَّحْمَن أفضل مَا يجازي ... على الْإِحْسَان خيرا من صديق فقد جرّبت إخْوَانِي جَمِيعًا ... فَمَا ألفيت كَابْن أبي عَتيق

سعى فِي جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فِيهِ عَن الطَّرِيق وأطفأ لوعة كَانَت بقلبي ... أغصّتني حَرَارَتهَا بريقي قَالَ: فَقَالَ لَهُ ابْن أبي عَتيق: يَا حَبِيبِي، أمسك عَن هَذَا الحَدِيث، فَمَا سَمعه أحد إِلَّا ظنني قوادًا.

عشق جارية زوجته فوهبتها له

عشق جَارِيَة زَوجته فوهبتها لَهُ وَوجدت فِي بعض كتبي: قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن حَمْزَة: كَانَت لزوجتي جَارِيَة حَسَنَة الْوَجْه، فعلقتها، وَعلمت زَوْجَتي بذلك، فحجبتها عني، فَاشْتَدَّ مَا بِي من الوجد عَلَيْهَا، وقاسيت شدَّة شَدِيدَة. فَبينا أَنا ذَات لَيْلَة نَائِم، ومولاتها زَوْجَتي إِلَى جَانِبي، إِذْ رَأَيْت فِي مَنَامِي كَأَن الْجَارِيَة حيالي، وَأَنا أبْكِي، إِذْ لَاحَ لي إِنْسَان فأنشدني: وقفت حيالك أذري الدُّمُوع ... وأخلط بالدمع منّي دَمًا وأشكو الَّذِي بِي إِلَى عاذلي ... وَلَا خير فِي الحبّ أَن يكتما رضيت بِمَا لَيْسَ فِيهِ رضَا ... بِتَسْلِيم طرفك إِن سلّما فتهت عليّ وأقصيتني ... وأعزز عليّ بِأَن أرغما قَالَ: فانتبهت فَزعًا مَرْعُوبًا، ودعوت بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس، وَجَلَست فِي فِرَاشِي، وكتبت الشّعْر. فَقَالَت لي زَوْجَتي: مَاذَا تصنع؟ فقصصت عَلَيْهَا الْقِصَّة والرؤيا. فَقَالَت: هَذَا كُله من حب فُلَانَة؟ قد وهبتها لَك.

بالله يا طرفي الجاني على كبدي

بِاللَّه يَا طرفِي الْجَانِي على كَبِدِي أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ إجَازَة، قَالَ: أَخْبرنِي عمي الْحسن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن مَالك الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنَا معبد الصَّغِير الْمُغنِي، مولى عَليّ بن يَقْطِين، قَالَ: كنت مُنْقَطِعًا إِلَى البرامكة، فَبَيْنَمَا أَنا ذَات يَوْم فِي منزلي، وَإِذا بَابي يدق، فَخرج غلامي ثمَّ رَجَعَ إِلَيّ. فَقَالَ: على الْبَاب فَتى ظَاهر الْمُرُوءَة، يسْتَأْذن عَلَيْك. فَأَذنت لَهُ، فَدخل عَليّ شَاب، مَا رَأَيْت أحسن مِنْهُ وَجها، وَلَا أنظف ثوبا، وَلَا أجمل زيًا، عَلَيْهِ أثر السقم ظَاهر. فَقَالَ لي: يَا سَيِّدي أَنا مُنْذُ مُدَّة أحاول لقاءك، وَلَا أجد إِلَيْهِ سَبِيلا، ولي إِلَيْك حَاجَة. قلت: مَا هِيَ؟ فَأخْرج إِلَيّ ثلث مائَة دِينَار، فوضعها بَين يَدي. ثمَّ قَالَ: أَسأَلك أَن تقبلهَا، وتصنع فِي بَيْتَيْنِ قلتهما لحنًا تغنيني بِهِ. فَقلت لَهُ: هاتهما، فأنشدني: بالله يَا طرفِي الْجَانِي على كَبِدِي ... لتطفئنّ بدمعي لوعة الْحزن أَولا تؤخّر حَتَّى يحجبوا سكني ... فَلَا أرَاهُ وَلَو أدرجت فِي كفني

قَالَ: فصنعت فيهمَا لحنًا، ثقيل أول، مُطلق فِي مجْرى الْوُسْطَى، ثمَّ غنيته إِيَّاه، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى ظننته قد مَاتَ. ثمَّ أَفَاق، فَقَالَ: أعد فديتك. قلت: أخْشَى أَن تَمُوت. فَقَالَ: هَيْهَات، هَيْهَات، أَنا أَشْقَى من ذَلِك، فأعد عَليّ. وَمَا زَالَ يخضع ويتضرع، حَتَّى أعدته، فَصعِقَ صعقة أَشد من الأولى، حَتَّى ظَنَنْت نَفسه قد فاظت، فَلَمَّا أَفَاق، رددت عَلَيْهِ الدَّنَانِير. وَقلت لَهُ: خُذ دنانيرك، وَانْصَرف عني، فقد قضيت حَاجَتك، وَبَلغت وطرًا مِمَّا أردته، وَلست أحب أَن أشارك فِي دمك. فَقَالَ: لَا حَاجَة لي فِي الدَّنَانِير، وَهَذِه مثلهَا لَك، وَأخرج ثلث مائَة دِينَار أُخْرَى. وَقَالَ: أعد عَليّ الصَّوْت مرّة أُخْرَى، وحلال لَك دمي. فَقلت: لَا وَالله، إِلَّا على شَرط. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قلت: تقيم عِنْدِي، وتتحرم بطعامي وتشرب أقداحًا من النَّبِيذ تشد قَلْبك، وتسكن بعض مَا بك، وتحدثني بقصتك. فَقَالَ: أفعل. فَأخذت الدَّنَانِير، ودعوت بِطَعَام، فَأصَاب مِنْهُ، وبالنبيذ، فَشرب أقداحًا، وغنيته بِشعر غَيره فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ يشرب ويبكي. ثمَّ قَالَ: الشَّرْط، أعزّك الله، فغنيته صَوته، فَجعل يبكي أحر بكاء، وينتحب. فَلَمَّا رَأَيْت مَا بِهِ قد خف عَمَّا كَانَ يلْحقهُ، والنبيذ قد شدّ من قوته، كررت عَلَيْهِ صَوته مرَارًا، ثمَّ قلت لَهُ: حَدثنِي حَدِيثك.

فَقَالَ: أَنا رجل من أهل الْمَدِينَة، خرجت يَوْمًا متنزهًا فِي ظَاهرهَا، وَقد سَالَ العقيق، فِي فتية وأقران، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل مَا خرجنَا نَحن لَهُ، فجلسن قَرِيبا منا. وَنظرت بَينهُنَّ إِلَى فتاة كَأَنَّهَا قضيب بَان قد طله الندى، تنظر بعينين، مَا ارْتَدَّ طرفهما إِلَّا بِنَفس من يلاحظهما، فأطلنا وأطلن، حَتَّى تفرق النَّاس. وانصرفنا، وَقد أبقت بقلبي جرحا بطيئًا اندماله، فسرت إِلَى منزلي وَأَنا وقيذ. وَخرجت من غَد إِلَى العقيق، وَلَيْسَ فِيهِ أحد، فَلم أر لَهَا أثرا، ثمَّ جعلت أتتبعها فِي طرق الْمَدِينَة وأسواقها، فَكَأَن الأَرْض ابتلعتها، وسقمت، حَتَّى يئس مني أَهلِي. فأعلمت زَوْجَة أبي بذلك، فَقَالَت: لَا بَأْس عَلَيْك، هَذِه أَيَّام الرّبيع قد أَقبلت، وَهِي سنة خصب، والساعة يَأْتِي الْمَطَر، فَتخرج وَأخرج مَعَك، فَإِن النسْوَة سيجئن، فَإِذا رَأَيْتهَا اتبعتها، حَتَّى أعرف موضعهَا، ثمَّ أصل بَيْنكُمَا، وأسعى لَك فِي تَزْوِيجهَا. قَالَ: فَكَأَن نَفسِي اطمأنت، وَرجعت، وَجَاء الْمَطَر، وسال العقيق، وَخرجت

مَعَ إخْوَانِي إِلَيْهِ، وَزَوْجَة أبي مَعنا، فَجَلَسْنَا مَجْلِسنَا الأول، فَمَا كُنَّا والنسوة إِلَّا كفرسي رهان، فأومأت إِلَى زَوْجَة أبي، فَجَلَست قَرِيبا مِنْهَا. وَأَقْبَلت على إخْوَانِي، فَقلت لَهُم: أحسن وَالله الْقَائِل، إِذْ يَقُول: رمتني بِسَهْم أقصد الْقلب وانثنت ... وَقد غادرت جرحا بِهِ وندوبا فَأَقْبَلت على صويحباتها، وَقَالَت: أحسن وَالله الْقَائِل، وَأحسن من أَجَابَهُ حَيْثُ يَقُول: بِنَا مثل مَا تَشْكُو فصبرًا لعلّنا ... نرى فرجا يشفي السقام قَرِيبا قَالَ: فَأَمْسَكت عَن الْجَواب، خوفًا أَن يظْهر مني مَا يفضحني وَإِيَّاهَا، وانصرفنا. وتبعتها زَوْجَة أبي، حَتَّى عرفت بَيتهَا، وَصَارَت إِلَيّ، وَأخذت بيَدي، ومضينا إِلَيْهَا، وتزاورنا، وتلاقينا على حَال مراقبة ومخالسة. حَتَّى ظهر مَا بيني وَبَينهَا، فحجبها أَهلهَا، وتشدد عَلَيْهَا أَبوهَا، فَلم أقدر عَلَيْهَا. فشكوت إِلَى أبي شدَّة مَا نالني، وَشدَّة مَا ألْقى، وَسَأَلته خطبتها. فمضيت أَنا وَأبي ومشيخة قومِي إِلَى أَبِيهَا، فخطبوها، فَقَالَ: لَو كَانَ بَدَأَ بِهَذَا من قبل أَن يشهرها، لأسعفناه بحاجته وَبِمَا ألتمس، لكنه قد فضحها، فَلم أكن لأحقق قَول النَّاس فِيهَا بتزويجه إِيَّاهَا، فَانْصَرَفت على يأس مِنْهَا وَمن نَفسِي، قَالَ معبد: فَسَأَلته أَن ينزل بقربي، فَأَجَابَنِي، وَصَارَت بَيْننَا عشرَة. ثمَّ جلس جَعْفَر بن يحيى يَوْمًا للشُّرْب، فَأَتَيْته، فَكَانَ أول صَوت غنيته بِشعر الْفَتى، فطرب عَلَيْهِ طَربا شَدِيدا، وَقَالَ: وَيحك لمن هَذَا الصَّوْت؟

فَحَدَّثته فَأمر بإحضار الْفَتى، فأحضر فِي وقته، فاستعاده الحَدِيث، فَأَعَادَهُ. فَقَالَ لَهُ: هِيَ فِي ذِمَّتِي، حَتَّى أزَوجك بهَا فطابت نَفسِي وَنَفس الْفَتى، وَأقَام مَعنا ليلتنا حَتَّى أصبح. وَغدا جَعْفَر إِلَى الرشيد، فحدثه الحَدِيث، فَعجب مِنْهُ، وَأمر بإحضارنا جَمِيعًا، وَأمر بِأَن أغنيه الصَّوْت، فغنيته، وَشرب عَلَيْهِ، وَسمع حَدِيث الْفَتى. فَأمر من وقته، بِأَن يكْتب إِلَى عَامل الْحجاز، بإشخاص الرجل وَابْنَته، وَسَائِر أَهله إِلَى حَضرته. فَلم تمض إِلَّا مَسَافَة الطَّرِيق، حَتَّى أحضر، فَأمر الرشيد بإحضاره إِلَيْهِ، فأوصل، وخطب إِلَيْهِ الْجَارِيَة للفتى، فَأَجَابَهُ، فَزَوجهُ إِيَّاهَا، وَحمل الرشيد إِلَيْهِ ألف دِينَار مهرهَا، وَألف دِينَار لجهازها، وَألف دِينَار لنفقته، فِي طَرِيقه، وَأمر للفتى بألفي دِينَار. وَكَانَ الْمَدِينِيّ بعد ذَلِك من جملَة ندمائه.

به من غير دائه وهو صالح

بِهِ من غير دائه وَهُوَ صَالح أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن مزِيد بن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: سرت إِلَى سر من رأى بعد قدومي من الْحَج، فَدخلت إِلَى الواثق بِاللَّه، فَقَالَ: بِأَيّ شَيْء أطرفتني من الْأَحَادِيث الَّتِي استفدتها من الْأَعْرَاب وأشعارهم؟ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ جلس إِلَيّ فَتى من الْأَعْرَاب فِي بعض الْمنَازل، فحاورني، فَرَأَيْت مِنْهُ أحلى مَا رَأَيْت من الفتيان، منْظرًا، وحديثًا، وظرفًا، وأدبًا. فاستنشدته، فأنشدني: سقى الْعلم الْفَرد الَّذِي فِي ظلاله ... غزالان مكتنّان مؤتلفان إِذا أمنا ألتفّا بجيد تواصلٍ ... وطرفاهما للريب مسترقان أردتهما ختلًا فَلم أستطعهما ... ورميًا ففاتاني وَقد قتلاني ثمَّ تنفس تنفسًا، ظَنَنْت أَنه قد قطع حيازيمه. فَقلت لَهُ: مَا لَك بِأبي أَنْت؟ فَقَالَ: وَرَاء هذَيْن الجبلين شجني، وَقد حيل بيني وَبَين الْمُرُور بِهَذِهِ الْبِلَاد، ونذروا دمي، فَأَنا أتمتع بِالنّظرِ إِلَى هذَيْن الجبلين، تعللًا بهما، إِذا قدم الْحَاج، ثمَّ يُحَال بيني وَبَين ذَلِك. فَقلت لَهُ: زِدْنِي مِمَّا قلت، فأنشدني:

إِذا مَا وَردت المَاء فِي بعض أَهله ... حُضُور فعرّض بِي كأنّك مازح فَإِن سَأَلت عنّي حُضُور فَقل لَهَا ... بِهِ غيرٌ من دائه وَهُوَ صَالح فَأمرنِي الواثق، فَكتبت الشعرين. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام دَعَاني، فَقَالَ لي: قد صنع بعض عَجَائِز دَارنَا فِي أحد الشعرين لحنًا، فاسمعه، فَإِن ارتضيته أظهرناه، وَإِن رَأَيْت فِيهِ مَوضِع إصْلَاح أصلحناه. ثمَّ غَنِي لنا بِهِ من وَرَاء الستارة، فَكَانَ فِي غَايَة الْجَوْدَة، وَكَذَلِكَ كَانَ يصنع إِذا وضع لحنًا. فَقلت لَهُ: أحسن، وَالله، صانعه، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. فَقَالَ: بحياتي؟ فَقلت: إِي وحياتك، وَحلفت لَهُ بِمَا وثق بِهِ. فَأمر لي برطل، فَشَربته، ثمَّ أَخذ الْعود، فغناه ثَلَاث مَرَّات، وسقاني عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَرْطَال، وَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام، دَعَاني، فَقَالَ: قد صنع بعض عَجَائِز دَارنَا فِي الشّعْر الآخر لحنًا، وَأمر فغني بِهِ، فَكَانَ حَالي مثل الْحَال فِي الشّعْر الأول، وَحلفت لَهُ على جودته، فغناه ثَلَاث مَرَّات، وسقاني ثَلَاثَة أَرْطَال، وَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. ثمَّ قَالَ: هَل قضيت حق حَدِيثك؟ فَقلت: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَطَالَ الله بَقَاءَك، وَأتم نعْمَته عَلَيْك. فَقَالَ: وَلَكِنَّك لم تقض حق الْأَعرَابِي، وَلَا سَأَلتنِي معونته على أمره؟ وَقد سبقت مسألتك، وكتبت بِخَبَرِهِ إِلَى صَاحب الْحجاز، وأمرته بتجهيزه، وخطبة

الْمَرْأَة لَهُ، وَحمل صَدَاقهَا إِلَى قَومهَا عَنهُ من مالنا، فَفعل. فَقبلت يَده، وَقلت: السَّبق إِلَى المكارم لَك، وَأَنت أولى بهَا من غَيْرك من سَائِر النَّاس. قَالَ: أَبُو الْفرج: وصنعة الواثق فِي الشعرين جَمِيعًا من الرمل.

عمر بن أبي ربيعة والجعد بن مهجع العذري

عمر بن أبي ربيعَة والجعد بن مهجع العذري وحَدثني أَبُو الْفرج الْقرشِي، الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: نسخت من كتاب مُحَمَّد بن مُوسَى بن حَمَّاد، قَالَ: ذكر الرياشي قَالَ: قَالَ حَمَّاد الراوية: أتيت فِي مَكَّة، إِلَى حَلقَة فِيهَا عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي، فتذاكرنا العذريين، وَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة: كَانَ لي صديق من بني عذرة يُقَال لَهُ: الْجَعْد بن مهجع، وَكَانَ أحد بني سلامان، وَكَانَ يلقى من الصبابة، مثل الَّذِي أَلْقَاهُ بِالنسَاء، على أَنه كَانَ لَا عاهر الْخلْوَة، وَلَا سريع السلوة. وَكَانَ يوافي الْمَوْسِم فِي كل سنة، فَإِذا غَابَ عَن وقته، ترجحت عَنهُ الْأَخْبَار، وتوكفت لَهُ الْأَسْفَار، حَتَّى يقدم. فغمني ذَات سنة إبطاؤه، حَتَّى قدم حَاج عذرة، فَأتيت الْقَوْم أنْشد صَاحِبي، فَإِذا غُلَام قد تنفس الصعداء، وَقَالَ: عَن أبي المسهر تسْأَل؟ قلت: نعم، وإياه أردْت.

فَقَالَ: هَيْهَات، هَيْهَات، أصبح، وَالله، أَبُو المسهر، لَا ميئوس مِنْهُ فيهمل، وَلَا مرجو فيعلل، أصبح، وَالله، كَمَا قَالَ الْقَائِل: لعمري مَا حبّي لأسماء تاركي ... أعيش وَلَا أَقْْضِي بِهِ فأموت فَقلت: مَا الَّذِي بِهِ؟ فَقَالَ: مثل الَّذِي بك، من تهتككما فِي الضلال، وجركما أذيال الخسار، كأنكما لم تسمعا بجنة وَلَا نَار. فَقلت: وَمن أَنْت مِنْهُ، يَابْنَ أخي؟ قَالَ: أَخُوهُ. فَقلت لَهُ: يَابْنَ أخي، مَا مَنعك أَن تسلك مسلكه من الْأَدَب، وَأَن تركب مِنْهُ مركبه إِلَّا أَنَّك وإياه كالبجاد وَالْبرد، لَا ترقعه وَلَا يرقعك. ثمَّ صرفت وَجه نَاقَتي، وَأَنا أَقُول: أرائحة حجّاج عذرة وجهة ... ولمّا يرح فِي الْقَوْم جعد بن مهجع خليلان نشكو مَا نلاقي من الْهوى ... مَتى مَا يقل أسمع وَإِن قلت يسمع أَلا لَيْت شعري أيّ شَيْء أَصَابَهُ ... فلي زفرات هجن مَا بَين أضلعي فَلَا يبعدنك الله خلًّا فإنّني ... سألقى كَمَا لاقيت فِي الحبّ مصرعي ثمَّ انْطَلَقت حَتَّى وقفت موقفا من عَرَفَات، فَبينا أَنا كَذَلِك، وَإِذا بِإِنْسَان قد تغير لَونه، وَسَاءَتْ هيأته، فأدنى نَاقَته من نَاقَتي، ثمَّ خَالف بَين أعناقهما، وعانقني وَبكى، حَتَّى اشْتَدَّ بكاؤه. فَقلت: مَا وَرَاءَك؟ فَقَالَ: برح العذل، وَطول المطل، ثمَّ أنشأ يَقُول:

لَئِن كَانَت عديّة ذَات لبّ ... لقد علمت بِأَن الحبّ دَاء ألم تنظر إِلَى تَغْيِير جسمي ... وأنّي لَا يفارقني الْبكاء وأنّي لَو تكلّفني سواهَا ... لخفّ الْكَلم وانكشف الغطاء وأنّ معاشري وَرِجَال قومِي ... حتوفهم الصبابة والّلقاء إِذا العذريّ مَاتَ خليّ ذرعٍ ... فَذَاك العَبْد يبكيه الرشاء فَقلت: يَا أَبَا المسهر، إِنَّهَا سَاعَة تضرب إِلَيْهَا أكباد الْإِبِل من شَرق الأَرْض وغربها، فَلَو دَعَوْت الله تَعَالَى، كنت مؤملًا لَك أَن تظفر بحاجتك. قَالَ: فتركني، وَأَقْبل على الدُّعَاء، فَلَمَّا تدلت الشَّمْس للغروب، وهم النَّاس أَن يفيضوا، سمعته يتَكَلَّم بِشَيْء، فأصغيت إِلَيْهِ، فَإِذا هُوَ يَقُول: يَا ربّ كلّ غدْوَة وروحة ... من محرمٍ يشكو الضنا ولوحه أَنْت حسيب الْخطب يَوْم الدوحة فَقلت: وَمَا يَوْم الدوحة؟ فَقَالَ: وَالله لأخبرنك وَلَو لم تَسْأَلنِي، ثمَّ أقبل عَليّ، وَقَالَ: أَنا رجل ذُو مَال من نعم وَشاء، وَذُو المَال لَا يصدره القل، وَلَا يرويهِ الثماد. وَأَنِّي خشيت عَام أول على مَالِي التّلف، وقطر الْغَيْث أَرض كلب، فانتجعت أخوالًا لي مِنْهُم، فأوسعوا لي عَن صدر الْمجْلس، وسقوني جمة المَاء، وَكنت مَعَهم فِي خير أخوال.

ثمَّ إِنِّي عزمت على مرافقة إبلي بِمَاء لَهُم، فركبت فرسي، وسمطت خَلْفي شرابًا كَانَ أهداه إِلَيّ بَعضهم، ثمَّ مضيت. حَتَّى إِذا كنت قَرِيبا من الْحَيّ ومرعى الْغنم، رفعت لي دوحة عَظِيمَة، فَنزلت عَن فرسي، وشددته بِبَعْض أَغْصَانهَا، وَجَلَست فِي ظلها. فَبينا أَنا كَذَلِك إِذْ سَطَعَ غُبَار فِي نَاحيَة الْحَيّ، ثمَّ رفعت لي شخوص ثَلَاثَة، ثمَّ نظرت فَإِذا بِفَارِس يطرد مسحلًا وأتانًا، فتأملته، فَإِذا عَلَيْهِ درع أصفر، وعمامة خَز سَوْدَاء، وَإِذا فروع شعره تضرب خصريه، فَقلت: غُلَام، حَدِيث عهد بعرس، أعجلته لَذَّة الصَّيْد، فَترك ثَوْبه، وَلبس ثوب امْرَأَته. فَمَا كَانَ إِلَّا يَسِيرا، حَتَّى طعن المسحل، وثنى بطعنة للأتان، فصرعهما، وَأَقْبل رَاجعا نحوي، وَهُوَ يَقُول: نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرّك لأمين على نابل فَقلت: إِنَّك تعبت، وأتعبت فرسك، فَلَو نزلت. فَثنى رجله، فَنزل، وَشد فرسه بِغُصْن من أَغْصَان الشَّجَرَة، وَألقى رمحه، وَأَقْبل حَتَّى جلس، فَجعل يحدثني حَدِيثا ذكرت بِهِ قَول أبي ذُؤَيْب: وإنّ حَدِيثا مِنْك لَو تبذلينه ... جنى النَّحْل فِي ألبان عوذٍ مطافل

وَقمت إِلَى فرسي، فأصلحت من أمره، ثمَّ رجعت وَقد حسر الْعِمَامَة عَن رَأسه، وَإِذا غُلَام كَأَن وَجهه الدِّينَار المنقوش. فَقلت: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، مَا أعظم قدرتك، وَمَا أحسن صنعتك؟ فَقَالَ لي: مِم ذَلِك؟ فَقلت: لما راعني من جمالك، وَمَا بهرني من نورك. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي يروعك من حبيس التُّرَاب، وأكيل الدَّوَابّ؟ وَمَا يدْرِي أينعم بعد ذَلِك، أم يبتئس. قلت: لَا يصنع الله بك إِلَّا خيرا. ثمَّ تحدثنا سَاعَة، فَأقبل عَليّ، فَقَالَ: مَا الَّذِي سمطت فِي سرجك؟ قلت: شرابًا، أهداه إِلَيّ بعض أَهلِي، فَهَل لَك فِيهِ من أرب؟ فَقَالَ: أَنْت وَذَاكَ. فَأتيت بِهِ، فَشرب مِنْهُ، وَجعل، وَالله، ينكت بِالسَّوْطِ أَحْيَانًا على ثناياه، فيتبين لي أثر السَّوْط فِيهِنَّ. فَقلت: مهلا، إِنَّنِي أَخَاف أَن تكسرهن. فَقَالَ: وَلم؟ قلت: لِأَنَّهُنَّ رقاق عَذَاب. قَالَ: ثمَّ رفع صَوته يُغني: إِذا قبّل الْإِنْسَان آخر يَشْتَهِي ... ثناياه لم يَأْثَم وَكَانَ لَهُ أجرا فَإِن زَاد زَاد الله فِي حَسَنَاته ... مَثَاقِيل يمحو الله عَنهُ بهَا الوزرا قَالَ: ثمَّ قَامَ إِلَى فرسه، فَأصْلح من أمره، ثمَّ رَجَعَ، فبرقت لَهُ بارقة تَحت

الدرْع، فَإِذا ثدي كَأَنَّهُ حق عاج. فَقلت: ناشدتك الله: أمْرَأَة أَنْت؟ فَقَالَت: نعم وَالله، إِلَّا أَنَّهَا تكره الْعَار، وتحب الْغَزل، ثمَّ جَلَست، فَجعلت تشرب معي، وَمَا أفقد من أنسنا شَيْئا، حَتَّى نظرت إِلَى عينيها، كَأَنَّهُمَا عينا مهاة مَذْعُورَة، فوَاللَّه، مَا راعني إِلَّا ميلها تَحت الدوحة سكرى. فزين الشَّيْطَان لي، وَالله، الْغدر، وَحسنه فِي عَيْني، ثمَّ إِن الله عز وَجل عصمني مِنْهُ، فَجَلَست مِنْهَا حجرَة. ثمَّ انْتَبَهت فزعة مَذْعُورَة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت فِي متن فرسها، وَقَالَت: جَزَاك الله عَن الصُّحْبَة خيرا. فَقلت: أَلا تزوديني مِنْك زادًا؟ فناولتني يَدهَا، فَقَبلتهَا، فشممت، وَالله، مِنْهَا ريح الشَّبَاب المطلول، فَذكرت قَول الشَّاعِر: كأنّها إِذْ تقضّى النّوم وانتبهت ... سيّابة مَا لَهَا عين وَلَا أثر فَقلت: وَأَيْنَ الْموعد؟ فَقَالَت: إِن لي أخوة شوسًا، وَأَبا غيورًا، وَوَاللَّه، لِأَن أسرك، أحب إِلَيّ من أَن أَضرّك، وانصرفت. فَجعلت أتبعهَا بَصرِي حَتَّى غَابَتْ، فَهِيَ، وَالله، يَا ابْن أبي ربيعَة، أحلتني هَذَا الْمحل، وأبلغتني هَذَا الْمبلغ.

فَقَالَ: يَا أَبَا المسهر، إِن الْغدر بك مَعَ مَا تذكر لمليح، فَبكى، وَاشْتَدَّ بكاؤه. فَقلت: لَا تبك، فَمَا قلت لَك مَا قلت إِلَّا مازحًا، وَلَو لم أبلغ حَاجَتك إِلَّا بِمَالي وروحي لسعيت فِي ذَلِك حَتَّى أقدر عَلَيْهِ. فَقَالَ لي: جزيت خيرا. فَلَمَّا انْقَضى الْمَوْسِم، شددت على نَاقَتي، وَشد على نَاقَته، ودعوت غلامي فَشد على بعير لَهُ، وحملت عَلَيْهِ قبَّة من أَدَم حَمْرَاء، كَانَت لأبي ربيعَة المَخْزُومِي، وحملت معي ألف دِينَار، ومطرف خَز، وانطلقنا، حَتَّى أَتَيْنَا بِلَاد كلب. فسألنا عَن أبي الْجَارِيَة، فوجدناه فِي نَادِي قومه، وَإِذا هُوَ سيد الْقَوْم، وَالنَّاس حوله، فوقفت على الْقَوْم، وسلمت، فَرد الشَّيْخ السَّلَام. ثمَّ قَالَ: من الرجل؟ قلت: عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي. فَقَالَ: الْمَعْرُوف غير الْمُنكر، فَمَا الَّذِي جَاءَ بك؟ قلت: جِئْت خاطبًا. قَالَ: الكفؤ وَالرَّغْبَة. قلت: إِنِّي لم آتٍ لنَفْسي من غير زهادة فِيك، وَلَا جَهَالَة بشرفك، وَلَكِنِّي أتيت فِي حَاجَة ابْن أختكم هَذَا العذري. فَقَالَ: وَالله، إِنَّه لكفي الْحسب، رفيع النّسَب، غير أَن بَنَاتِي لم ينفقن إِلَّا فِي هَذَا الْحَيّ من قُرَيْش، فوجمت لذَلِك. وَعرف التَّغَيُّر فِي وَجْهي، فَقَالَ: إِنِّي صانع بك مَا لم أصنع بغيرك. قلت: مثلي من شكر، فَمَا ذَاك؟ قَالَ: أخيرها، وَهِي وَمَا اخْتَارَتْ.

قلت: مَا انصفتني، إِذْ تخْتَار لغيري، وتولي الْخِيَار غَيْرك. فَأَشَارَ إِلَيّ العذري، أَن دَعه يخيرها، قَالَ: فَأرْسل إِلَيْهَا: أَن من الْأَمر كَذَا وَكَذَا. فَأرْسلت إِلَيْهِ: مَا كنت أستبد بِرَأْي دون الْقرشِي، وَالْخيَار فِي قَوْله وَحكمه. فَقَالَ لي: إِنَّهَا قد ولتك أمرهَا، فَاقْض مَا أَنْت قَاض. فَقلت: اشْهَدُوا أَنِّي قد زوجتها من الْجَعْد بن مهجع، وأصدقتها هَذِه الْألف دِينَار، وَجعلت تكرمتها العَبْد، وَالْبَعِير، والقبة، وكسوت الشَّيْخ هَذَا الْمطرف، وَسَأَلته أَن يَبْنِي الرجل عَلَيْهَا من ليلته. فَأرْسل إِلَى أمهَا، فَأَبت، وَقَالَت: أتخرج ابْنَتي كَمَا تخرج الْأمة؟ قَالَ الشَّيْخ: فعجلي فِي جهازها. فَمَا بَرحت، حَتَّى ضربت الْقبَّة فِي وسط الْحَرِيم، وَأهْديت إِلَيْهِ لَيْلًا، وَبت أَنا عِنْد الشَّيْخ. فَلَمَّا أَصبَحت، أتيت الْقبَّة، فَصحت بصاحبي، فَخرج إِلَيّ، وَقد أثر السرُور فِيهِ. فَقلت: إيه. فَقَالَ: أبدت، وَالله، كثيرا مِمَّا كَانَت تخفيه عني يَوْم لقيتها، فسألتها عَن ذَلِك، فأنشأت تَقول: كتمت الْهوى لمّا رَأَيْتُك جازعًا ... وَقلت فَتى بعض السرُور يُرِيد وَأَن تطّرحني أَو تَقول فتية ... يضرّ بهَا برح الْهوى فتعود فورّيت عمّا بِي وَفِي دَاخل الحشا ... من الوجد برح فاعلمنّ شَدِيد فَقلت: أقِم على أهلك، بَارك الله لَك فيهم، وَانْطَلَقت، وَأَنا أَقُول: كفيت الْفَتى العذريّ مَا كَانَ نابه ... وإنّي لأعباء النوائب حمّال

أما استحسنت منّي المكارم والعلى ... إِذا طرحت أنّي لمالي بذّال فَقَالَ العذري: إِذا مَا أَبُو الْخطاب خلّى مَكَانَهُ ... فأف لدُنْيَا لَيْسَ من أَهلهَا عمر فَلَا حيّ فتيَان الحجازين بعده ... وَلَا سقيت أَرض الحجازين بالمطر

رضي أن يموت بعد أن يتمتع بحبيبته أسبوعا واحدا

رَضِي أَن يَمُوت بعد أَن يتمتع بحبيبته أسبوعًا وَاحِدًا أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ، الْمَعْرُوف بِابْن لنكك، فِي رِسَالَة لَهُ، فِي فضل الْورْد على النرجس، فَقَالَ فِيمَن سمى بنته

من سَائِر الْعَرَب وردة: فَمنهمْ شُرَحْبِيل بن مَسْعُود التنوخي، وعائد الطَّائِي، وَهِي الَّتِي كَانَ دَاوُد بن سعد التَّمِيمِي عَاشِقًا لَهَا، فَاسْتقْبل النُّعْمَان بن الْمُنْذر، فِي يَوْم بؤسه، وَقد خرج يريدها، وَهُوَ لَا يعلم بِيَوْم النُّعْمَان. فَقَالَ لَهُ: مَا حملك على استقبالي فِي يَوْم بؤسي؟ فَقَالَ: شدَّة الوجد، وَقلة الصَّبْر. فَقَالَ: أَو لست الْقَائِل؟ وددت وَكَاتب الْحَسَنَات أنّي ... أقارع نجم وردة بِالْقداحِ على قَتْلِي بأبيض مشرفيّ ... وكوني لَيْلَة حَتَّى الصَّباح مَعَ الْحَسْنَاء وردة إنّ قلبِي ... من الحبّ المبرّح غير صَاح فَإِن تكن القداح عليّ تلقى ... ذبحت على القداح بِلَا جنَاح وَإِن كَانَت عَلَيْهِ بيمن جدّي ... لهوت بكاعب خود رَبَاح قَالَ: نعم. قَالَ: فَإِنِّي مخيرك إِحْدَى اثْنَتَيْنِ، فاختر لنَفسك. قَالَ: مَا هما أَبيت اللَّعْن؟ قَالَ: أخلي سَبِيلك، أَو أمتعك سَبْعَة أَيَّام، ثمَّ أَقْتلك. قَالَ: بِمَا تمتعني؟ قَالَ: بوردة. قَالَ: قبلت الثَّانِي. فساق النُّعْمَان مهرهَا إِلَى عَمها، وَجمع بَينهمَا، فَلَمَّا انْقَضتْ الْأَيَّام، أقبل

على النُّعْمَان، وَهُوَ يَقُول: إِلَيْك ابْن مَاء المزن أَقبلت بَعْدَمَا ... مَضَت لي سبع من دخولي على أَهلِي مَجِيء مقرّ لاصطناعك شاكرٍ ... مننت عَلَيْهِ بالكريم من الْفِعْل لِتَقضي فِيهِ مَا أردْت قَضَاءَهُ ... من الْعَفو، أهل الْعَفو، أَو عَاجل الْقَتْل فَإِن كَانَ عفوٌ كنت أفضل منعم ... وَإِن تكن الْأُخْرَى فَمن حكمٍ عدل فَأحْسن جائزته، وخلى سَبيله، وَأَنْشَأَ النُّعْمَان يَقُول: لم ينل مَا نَالَ دَاوُد ... بن سعد بن أنيس إِذْ حوى من كَانَ يهوى ... وَنَجَا من كلّ بوس وكذاك الطير يجْرِي ... بسعود ونحوس قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَوجدت كتابا لِأَحْمَد بن أبي طَاهِر، سَمَّاهُ: كتاب فَضَائِل الْورْد على النرجس، أكبر قدرا، وأغزر فَائِدَة من كتاب ابْن لنكك، فَوَجَدته قد ذكر فِيهِ هَذَا الْخَبَر. قَالَ: وَمِمَّنْ سمى ابْنَته وردة، شُرَحْبِيل بن مَسْعُود التنوخي، وَهُوَ صَاحب الْعين، على مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة من تيماء الْيمن. وَسليمَان بن صرد، أَمِير الْجَيْش الَّذِي يُقَال لَهُم: التوابون، الَّذين توَلّوا الطّلب بِدَم الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام، وَقتل عبيد الله بن زِيَاد. وسمى عَائِد الطَّائِي بنته وردة، وَهِي الَّتِي كَانَ دَاوُد بن سعد التَّمِيمِي، عَاشِقًا لَهَا. . . . وسَاق الْخَبَر كَمَا ذكره.

إبراهيم بن سيابة يشكو فلا يجاب

إِبْرَاهِيم بن سيابة يشكو فَلَا يُجَاب أَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، قَالَ: أَخْبرنِي حبيب بن نصر المهلبي، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أبي سعد، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن نصر الْمروزِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الطلحي، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن يحيى بن معَاذ، قَالَ: قدم على نيسابور إِبْرَاهِيم بن سيابة، يَعْنِي الشَّاعِر الْبَصْرِيّ، الَّذِي كَانَ جده حجامًا، فَأعْتقهُ بعض بني هَاشم، فَصَارَ مولى لَهُم، فأنزلته عَليّ، فَجَاءَنِي لَيْلَة من اللَّيَالِي وَهُوَ مكروب، وَقد هام، فَجعل يَصِيح بِي، يَا أَبَا أَيُّوب؟ فَخَشِيت أَن يكون قد غَشيته بلية، فَقلت لَهُ: مَا تشَاء؟ فَقَالَ: أعياني الشادن الربيب فَقلت لَهُ: مَاذَا يَقُول؟ ، فَقَالَ: أَشْكُو إِلَيْهِ فَلَا يُجيب فَقلت: دَاره، وداوه، فَقَالَ: من أَيْن أبغي شِفَاء دائي ... وإنّما دائي الطَّبِيب

فَقلت: فَلَا، إِذن، إِلَى أَن يفرج الله تَعَالَى، فَقَالَ: يَا ربّ فرّج إِذن وعجّل ... فإنّك السَّامع الْمُجيب ثمَّ انْصَرف.

عزل عن الرافقة فولي دمشق

عزل عَن الرافقة فولي دمشق قَالَ مُحَمَّد بن عَبدُوس، فِي كتاب أَخْبَار الوزراء وَالْكتاب، أَخْبرنِي جَعْفَر بن أَحْمد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس بن الْفُرَات، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ بن يُونُس، قَالَ: لما سلمت عمل دمشق إِلَى أبي المغيث الرافقي، سَأَلَني أَن أكتب لَهُ عَلَيْهِ، فَفعلت، فَلَمَّا تآنست أَنا وَهُوَ، حَدثنِي أول خَبره فِي تقلد النَّاحِيَة. فَقَالَ لي: كنت قصدت عِيسَى بن مُوسَى، ابْن عمي، وَهُوَ يتقلد حمص، فقلدني ربع فامية، فأقمت إِلَى أَن قدم ابْن عَم لَهُ، وَهُوَ أقرب إِلَيْهِ مني، فصرفني، فَانْصَرَفت عَنهُ إِلَى الرافقة، وَمَعِي شَيْء مِمَّا كسبته. وَكَانَت لابنَة عَم لي، جَارِيَة نفيسة، قد ربتها، وعلمتها الْغناء، وَكنت

أدعوها، فألفتها، وَوَقعت من قلبِي موقعًا عَظِيما، وَاشْتَدَّ حبي لَهَا، فَعمِلت على أَن أبيع منزلي وأبتاعها، وناظرت مولاتها فِي ذَلِك، فَحَلَفت أَنَّهَا لَا تنقص ثمنهَا عَن ثَلَاثَة آلَاف دِينَار. فَنَظَرت، فَإِذا أَنا أفتقر، وَلَا تفي حَالي بِثمنِهَا، فَقَامَتْ قيامتي، وَاشْتَدَّ وجدي، وانحدرت إِلَى سر من رأى، أطلب تَصرفا، أَو مَا بِهِ شراؤها. وَكَانَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق الطاهري، وَأَبوهُ، يرجيان لي، فقصدت مُحَمَّدًا، وَمَعِي دَوَاب، وَبَقِيَّة من حَالي، فأقمت عَلَيْهِ مُدَّة لم يسنح لي فِيهَا تصرف، فاشتدت بِي رقة الْحَال، فانحدرت إِلَى بَغْدَاد، أقصد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الطاهري، فوردت فِي زورق. وفكرت فِي أَمْرِي، وعَلى من أنزل، فَلم أَثِق بِغَيْر مُحَمَّد بن الْفضل الجرجرائي، لمودة كَانَت بيني وَبَينه، فقصدته، وَنزلت عَلَيْهِ، وَوَقع ذَلِك مِنْهُ أجل موقع، وفاتشني عَن أَمْرِي، وسألني عَن حَالي، فَذكرت لَهُ قصتي مَعَ الْجَارِيَة. فَقَالَ: وَالله، لَا تَبْرَح من مجلسك حَتَّى تقبض ثمنهَا، وَأمر خادمه، فأحضر كيسًا فِيهِ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، وسلمت إِلَيّ، وتأبيت عَلَيْهِ، فَحلف أيمانًا مُؤَكدَة أَن أقبلها. وَقَالَ: إِن اتسعت لقضائه، واحتجت إِلَيْهِ، لم أمتنع من أَخذه مِنْك،

فَأخذت الْكيس وشكرته، وتشاغلنا بالشرب. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد، أَتَى رَسُول إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الطاهري يطلبني، فصرت إِلَيْهِ، فاحتفى بِهِ، وأكرمني، وَقَالَ: مَا ظَنَنْت أَنَّك توافي بَلَدا أحله، فتنزل غير دَاري. فَقلت: وَالله، مَا وافيت إِلَّا قَاصِدا الْأَمِير، وَلَكِن دوابي تَأَخَّرت، فتوقعت وُرُودهَا، لأصير إِلَى بَاب الْأَمِير عَلَيْهَا. فَدَعَا بكتب وَردت من مُحَمَّد بن عبد الْملك، وفيهَا كتاب من أَمِير الْمُؤمنِينَ المعتصم، بولايتي دمشق، وَأرَانِي كتابا يُعلمهُ فِيهِ، مَا جنى عَليّ بن إِسْحَاق من قتل رَجَاء بن أبي الضَّحَّاك بِدِمَشْق، وَأَن أَمِير الْمُؤمنِينَ رأى تقليدك، وَطلبت بسر من رأى، فَذكر لَهُ أَنَّك انحدرت إِلَى إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، فَأمر بِتَسْلِيم كتبك إِلَيّ، وَدفع مائَة ألف دِينَار لَك مَعُونَة على خُرُوجك، وأحضر المَال، ووكل بِي من يستحثني على البدار. فورد عَليّ من السرُور مَا أدهشني، وودعته، وَخرجت إِلَى مُحَمَّد بن الْفضل، فعرفته مَا جرى، وودعته أَيْضا، وأخرجت دنانيره، فرددتها عَلَيْهِ، فَحلف بأيمان غَلِيظَة عَظِيمَة، لَا عَادَتْ إِلَى ملكه أبدا. وَقَالَ: إِن جَلَست فِي عَمَلك واتسعت، لم أمتنع أَن أقبل مِنْك غير هَذَا.

فشخصت، ومررت بالرافقة وابتعت الْجَارِيَة، وَبَلغت مناي بملكها، واجتزت بحمص، بِابْن عمي، وَأَنا أجل مِنْهُ عملا، وَدخلت عَمَلي، فَصنعَ الله سُبْحَانَهُ، ووسع.

أين اختبأ الأسدي

أَيْن اخْتَبَأَ الْأَسدي وَوجدت فِي كتاب المتيمين للمدائني: أَن رجلا من بني أَسد، علق امْرَأَة من هَمدَان بِالْكُوفَةِ، وشاع أَمرهمَا، فَوضع قوم الْمَرْأَة عَلَيْهِ عيُونا، حَتَّى أخبروا أَنه قد أَتَاهَا فِي منزلهَا، فَأتوا دارها، واحتاطوا بهَا. فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِك، وَلم تَجِد للرجل مهربًا، وَكَانَت الْمَرْأَة بادنة، فَقَالَت لَهُ: مَا أرى لَك موضعا أستر لَك من أَن أدْخلك خلف ظَهْري، وتلزمني، فأدخلته بَينهَا وَبَين الْقَمِيص، ولزمها من خلفهَا. وَدخل الْقَوْم، فَدَارُوا فِي الدَّار، حَتَّى لم يتْركُوا موضعا إِلَّا فتشوه، فَلَمَّا لم يَجدوا الرجل، اسْتَحْيوا من فعلهم، وأغلظت الْمَرْأَة عَلَيْهِم، وعنفتهم، فَخَرجُوا. وَأَنْشَأَ الرجل يَقُول: فحبّك أشهاني وحبّك قادني ... لهمدان حَتَّى أَمْسكُوا بالمخنّق فَجَاشَتْ إليّ النَّفس أوّل مرّة ... فَقلت لَهَا لَا تفرقي حِين مفرقي رويدك حَتَّى تنظري عمّ تنجلي ... عماية هَذَا الْعَارِض المتألّق

جميل وبثينة

جميل وبثينة ذكر الْهَيْثَم بن عدي، أَن جمَاعَة من بني عذرة حدثوه: أَن جميل بثينة حضر ذَات لَيْلَة عِنْد خباء بثينة، حَتَّى إِذا صَادف مِنْهَا خلْوَة تنكر، ودنا مِنْهَا، وَكَانَت اللَّيْلَة ظلماء، ذَات غيم ورعد وريح. فَحذف بحصاة، فأصابت بعض أترابها، فَفَزِعت، وَقَالَت: مَا حذفني فِي هَذِه اللَّيْلَة إِلَّا الْجِنّ. ففطنت بثينة أَن جميلًا فعل ذَلِك، فَقَالَت لتربها: أَلا فانصرفي يَا أخية إِلَى مَنْزِلك حَتَّى تنامي، فَانْصَرَفت، وَبقيت مَعَ بثينة أم الْحُسَيْن، ويروى أم الجسير، بنت مَنْظُور، وَكَانَت لَا تكتمها. فَقَامَتْ إِلَى جميل، فأدخلته الخباء مَعهَا، وتحدثوا جَمِيعًا، ثمَّ اضطجعوا، وَذهب بِهِ النّوم حَتَّى أَصْبحُوا. وجاءهم غُلَام زَوجهَا بصبوح من اللَّبن، بعث بِهِ إِلَيْهَا، فرآها نَائِمَة، وَنظر جميلًا، فَمضى لوجهه، حَتَّى خبر سَيّده.

وَكَانَت ليلى رَأَتْ الْغُلَام والصبوح مَعَه، وَقد عرفت خبر جميل وبثينة، فاستوقفته كَأَنَّهَا تسأله عَن حَاله، وطاولته الحَدِيث، وَبعثت بِجَارِيَة لَهَا، وَقَالَت: حذري جميلًا وبثينة. فَجَاءَت الْجَارِيَة ونبهتها، فَلَمَّا تبينت بثينة أَن الصُّبْح قد أَضَاء، وَالنَّاس قد انتشروا، ارتاعت لذَلِك. وَقَالَت: يَا جميل نَفسك، فقد جَاءَ غُلَام بعلي بصبوح من اللَّبن، فرآنا نائمين. فَقَالَ جميل، وَهُوَ غير مكترث: لعمرك مَا خوّفتني من مَخَافَة ... عليّ وَلَا حذّرتني مَوضِع الحذر وَأقسم مَا تلفى لي الْيَوْم غرّة ... وَفِي الكفّ منّي صارم قَاطع ذكر فأقسمت عَلَيْهِ أَن يلقِي نَفسه تَحت النضد، وَقَالَت: إِنَّمَا أَسأَلك خوفًا على نَفسِي من الفضيحة، لَا خوفًا عَلَيْك، فَفعل ذَلِك، ونامت، وأضجعت أم الْحُسَيْن إِلَى جَانبهَا، وَذَهَبت خَادِم ليلى إِلَيْهَا، فَأَخْبَرتهَا الْخَبَر، فَتركت العَبْد يمْضِي إِلَى سَيّده، فَمضى والصبوح مَعَه، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْت بثينة مُضْطَجِعَة، وَجَمِيل إِلَى جنبها. فجَاء زَوجهَا إِلَى أَخِيهَا وأبيها، فعرفهما الْخَبَر، وَجَاءُوا بأجمعهم إِلَى بثينة، وَهِي نَائِمَة، فكشفوا عَنْهَا الثَّوْب، فَرَأَوْا أم الْحُسَيْن إِلَى جَانبهَا نَائِمَة. فَخَجِلَ زَوجهَا، وَسَب عَبده، وَقَالَت ليلى لأَبِيهَا وأخيها: قبحكما الله،

فِي كل يَوْم تفضحان الْمَرْأَة فِي فنائكما، ويلكما، هَذَا لَا يجوز. فَقَالَا: إِنَّمَا فعل هَذَا زَوجهَا. فَقَالَت: قبحه الله وإياكما، فَجعلَا يسبان زَوجهَا، وَانْصَرفُوا. وَأقَام جميل تَحت النضد إِلَى اللَّيْل، ثمَّ ودعها وَانْصَرف.

العمر أقصر مدة من أن يضيع في الحساب

الْعُمر أقصر مُدَّة من أَن يضيع فِي الْحساب حَدثنِي الْحسن بن صافي مولى ابْن المتَوَكل القَاضِي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد اللَّيْثِيّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن كردويه، قَالَ: كَانَ لي صديق من أهل راذان، عَظِيم النِّعْمَة والضيعة، فَحَدثني، قَالَ: تزوجت فِي شَبَابِي امْرَأَة من آل وهب، ضخمة النِّعْمَة، حَسَنَة الْخلقَة وَالْأَدب، كَثِيرَة الْمُرُوءَة، ذَات جوَار مغنيات، فعشقتها عشقًا مبرحًا، وَتمكن لَهَا من قلبِي أَمر عَظِيم، وَمكث عيشي بهَا طيبا مُدَّة طَوِيلَة. ثمَّ جرى بيني وَبَينهَا بعض مَا يجْرِي بَين النَّاس، فَغضِبت عَليّ، وهجرتني، وأغلقت بَاب حُجْرَتهَا من الدَّار دوني، ومنعتني الدُّخُول إِلَيْهَا، وراسلتني بِأَن أطلقها. فترضيتها بِكُل مَا يمكنني، فَلم ترض، ووسطت بَيْننَا أَهلهَا من النِّسَاء، فَلم ينجع. فلحقني الكرب وَالْغَم، والقلق والجزع، حَتَّى كَاد يذهب بعقلي، وَهِي مُقِيمَة على حَالهَا. فَجئْت إِلَى بَاب حُجْرَتهَا، وَجَلَست عِنْده مفترشًا التُّرَاب، وَوضعت خدي على العتبة، أبْكِي وأنتحب، وأتلافاها، وأسألها الرِّضَا، وَأَقُول كلما يجوز أَن يُقَال فِي مثل هَذَا، وَهِي لَا تكلمني، وَلَا تفتح الْبَاب، وَلَا تراسلني. ثمَّ جَاءَ اللَّيْل، فتوسدت العتبة إِلَى أَن أَصبَحت، وأقمت على ذَلِك ثَلَاثَة

أَيَّام بلياليها، وَهِي مُقِيمَة على الهجران. فأيست مِنْهَا، وعذلت نَفسِي، ووبختها، ورضتها على الصَّبْر، وَقمت من بَاب حُجْرَتهَا، عَاملا على التشاغل عَنْهَا. ومضيت إِلَى حمام دَاري، فأمطت عَن جَسَدِي الْوَسخ الَّذِي كَانَ لحقه، وَجَلَست لأغير ثِيَابِي وأتبخر. فَإِذا بِزَوْجَتِي قد خرجت إِلَيّ، وجواريها الْمُغَنِّيَات حواليها، بآلاتهن يغنين، وَمَعَ بَعضهنَّ طبق فِيهِ أوساط، وسنبوسج، وَمَاء ورد، وَمَا أشبه ذَلِك. فحين رَأَيْتهَا استطرت فَرحا، وَقمت إِلَيْهَا، وأكببت على يَديهَا ورجليها. وَقلت: مَا هَذَا يَا ستي؟

فَقَالَت: تعال، حَتَّى نَأْكُل وَنَشْرَب، ودع السُّؤَال. وَجَلَست وَقدم الطَّبَق، فأكلنا جَمِيعًا، ثمَّ جِيءَ بِالشرابِ، واندفع الْجَوَارِي بِالْغنَاءِ، وأخذنا فِي الشَّرَاب، وَقد كَاد عَقْلِي يَزُول سُرُورًا. فَلَمَّا توسطنا أمرنَا، قلت لَهَا: يَا ستي، أَنْت هجرتيني بِغَيْر ذَنْب كَبِير أوجب مَا بلغته من الهجران، وترضيتك بِكُل مَا فِي الْمقدرَة، فَمَا رضيت، ثمَّ تفضلت ابْتِدَاء بِالرُّجُوعِ إِلَى وصالي بِمَا لم تبلغه آمالي، فعرفيني مَا سَبَب هَذَا؟ قَالَت: كَانَ الْأَمر فِي سَبَب الهجر ضَعِيفا كَمَا قلت: وَلَكِن تداخلني من التجني مَا يتداخل المحبوب، ثمَّ اسْتمرّ بِي اللجاج، وَأرَانِي الشَّيْطَان أَن الصَّوَاب فِيمَا فعلته، فأقمت على مَا رَأَيْت. فَلَمَّا كَانَ السَّاعَة، أخذت دفترًا كَانَ بَين يَدي وتصفحته، فَوَقَعت عَيْني مِنْهُ على قَول الشَّاعِر: الْعُمر أقصر مدّة ... من أَن يضيّع فِي الْحساب فتغنّمي ساعاته ... فمرورها مرّ السَّحَاب قَالَت: فَعلمت أَنَّهَا عظة لي، وَأَن سبيلي أَن لَا أَسخط الله عز وَجل بإسخاط زَوجي، وَأَن لَا أسْتَعْمل اللجاج، فأسوءك، وأسوء نَفسِي، فجئتك لأترضاك، وأرضيتك. فانكببت على يَديهَا ورجليها، وَصفا مَا كَانَ بَيْننَا.

الباب الرابع عشر

الْبَاب الرَّابِع عشر مَا اختير من ملح الْأَشْعَار فِي أَكثر مَا تقدم من الْأَمْثَال وَالْأَخْبَار قَالَ لَقِيط بن زُرَارَة التَّمِيمِي: قد عِشْت فِي النَّاس أطوارًا على خلقٍ ... شتّى وقاسيت فِيهَا اللّين والقطعا كلا لبست فَلَا النّعماء تبطرني ... وَلَا تخشّعت من لأوائها جزعا لَا يمْلَأ الهول صَدْرِي قبل وقعته ... وَلَا أضيق بِهِ ذرعًا إِذا وَقعا مَا سدّ لي مطلعٌ ضَاقَتْ ثنيّته ... إِلَّا وجدت وَرَاء الضّيق متّسعا وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ:

وإنّي صبرت النّفس بعد ابْن عنبسٍ ... وَقد لجّ من مَاء الشئون لجوج لأُحسب جلدا أَو ليستاء حاسدٌ ... وللشرّ بعد القارعات فروج ويروى لأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام: إنّي أَقُول لنَفْسي وَهِي ضيّقةٌ ... وَقد أَنَاخَ عَلَيْهَا الدّهر بالعجب صبرا على شدَّة الأيّام إنّ لَهَا ... عُقبى وَمَا الصّبر إِلَّا عِنْد ذِي الْحسب سيفتح الله عَن قربٍ بنافعةٍ ... فِيهَا لمثلك راحاتٌ من التّعب ويروى لعُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ، وَقيل إِنَّه لغيره: خليليّ لَا والله مَا من ملحّةٍ ... تدوم على حيّ وَإِن هِيَ جلّت فَإِن نزلت يَوْمًا فَلَا تخضعن لَهَا ... وَلَا تكْثر الشّكوى إِذا النّعل زلّت فكم من كريمٍ قد بلي بنوائبٍ ... فصابرها حتّى مَضَت وأضمحلّت وَكَانَت على الأيّام نَفسِي عزيزةٌ ... فلمّا رَأَتْ صبري على الذلّ ذلّت وَأنْشد مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان متمثلًا: فَلَا تيأسن واستغن بالله إنّه ... إِذا الله سنّى حلّ عقدٍ تيسّرا

وَلأبي دهبل الجُمَحِي من قصيدة: وإنّي لمحجوبٌ غَدَاة أزورها ... وَكنت إِذا مَا جِئْتهَا لَا أعرّج عَسى كربَة أمسيت فِيهَا مُقِيمَة ... يكون لنا مِنْهَا نجاءٌ ومخرج فيكبت أعداءٌ ويجذل آلفٌ ... لَهُ كبدٌ من لوعة الْبَين تلعج ولحارثة بن بدر الغداني: وَقل للفؤاد إِن نزا بك نزوةً ... من الهمّ أفرخ أَكثر الروع باطله ولتوبة بن الْحمير الْعقيلِيّ: وَقد تذْهب الْحَاجَات يطْلبهَا الْفَتى ... شعاعًا وتخشى النفّس مَا لَا يضيرها

ولجرير بن الخطفى: يعافي الله بعد بلَاء جهدٍ ... وينهض بعد مَا يبْلى السّقيم ولزياد بن عَمْرو من بني الْحَارِث بن كَعْب، وَقيل لزياد بن عَمْرو الغداني وَقيل لزِيَادَة بن زيد العذري: إِذا مذهبٌ سدّت عَلَيْك فروجه ... فإنّك لاقٍ لَا محَالة مذهبا وَلَا تجعلن كرب الخطوب إِذا عرت ... عَلَيْك رتاجًا لَا يزَال مضبّبا وَكن رجلا جلدا إِذا مَا تقلّبت ... بِهِ صيرفيّات الْأُمُور تقلّبا وَلغيره، وَلم يسم قَائِلا: نَوَائِب الدَّهْر أدّبتني ... وإنّما يوعظ اللبيب قد ذقت حلوًا وذقت مرًّا ... كَذَاك عَيْش الْفَتى ضروب مَا مرّ بؤسٌ وَلَا نعيمٌ ... إِلَّا ولي فيهمَا نصيب

وَقَرِيب مِنْهُ مَا أَنْشدني أبي رَحمَه الله تَعَالَى، عَن ابْن دُرَيْد، عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي الْأَصْمَعِي، عَن عَمه: كأنّ قوما إِذا مَا بدّلوا نعما ... بنكبةٍ لم يَكُونُوا قبلهَا نكبوا وَمثله، أَو يُقَارِبه لغيره، مُفْرد: إنّ الْبُطُون إِذا جاعت، مَتى شبعت ... كأنّما لم يُقَاس الْجُوع طاويها وَذكر أَبُو تَمام الطَّائِي فِي كتاب الحماسة، لجَابِر بن تغلب الطَّائِي: كأنّ الْفَتى لم يعر يَوْمًا إِذا اكتسى ... وَلم يَك صعلوكًا إِذا مَا تموّلا وَلم يَك فِي بؤسٍ إِذا بَات لَيْلَة ... يناغي غزالًا ساجي الطّرف أكحلا ولسعيد بن مضاء الْأَسدي وَقيل إِنَّه للْإِمَام عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: فَمَا نوب الْحَوَادِث باقياتٌ ... وَلَا البؤسى تدوم وَلَا النَّعيم كَمَا يمْضِي سرورك وَهُوَ جمٌّ ... كَذَلِك مَا يسوءك لَا يَدُوم

فَلَا تهْلك على مَا فَاتَ وجدا ... وَلَا تفردك بالأسف الهموم وَقَرِيب مِنْهُ لكثير عزة، فِي مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِ السَّلَام، لما حَبسه ابْن الزبير، من أَبْيَات: تحدّت من لاقيت أنّك عائذٌ ... بل العائذ الْمَظْلُوم فِي سجن عَارِم وَمَا رونق الدُّنْيَا بباقٍ لأَهْلهَا ... وَمَا شدّة الدُّنْيَا بضربة لَازم لهَذَا وَهَذَا مدّةٌ سَوف تَنْقَضِي ... وَيُصْبِح مَا لاقيته حلم حالم ولبعض الْأَعْرَاب، قريب مِنْهُ: كأنّك لم تعدم من الدَّهْر لذّةً ... إِذا أَنْت أدْركْت الَّذِي كنت تطلب وللأضبط بن قريع التَّمِيمِي من أَبْيَات: لكلّ ضيق من الْأُمُور سعه ... والليّل وَالصُّبْح لَا بَقَاء مَعَه لَا تحقرنّ الوضيع علّك أَن ... تَلقاهُ يَوْمًا والدهر قد رَفعه قد يجمع المَال غير آكله ... وَيَأْكُل المَال غير من جمعه

قد يقطع الثَّوْب غير لابسه ... ويلبس الثَّوْب غير من قطعه قد يرفع الْبَيْت غير ساكنه ... ويسكن الْبَيْت غير من رَفعه فارض من الله مَا أَتَاك بِهِ ... من قرّ عينا بعيشه نَفعه وصل حبال الْبعيد إِن وصل ... الْحَبل وأقص الْقَرِيب إِن قطعه قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب، ولي من هَذَا الروي، وَقَرِيب من هَذَا الْمَعْنى، أَبْيَات وَهِي: اصبر فَلَيْسَ الزَّمَان مصطبرًا ... وكلّ أحداثه فمنقشعه كم من فَقير غناهُ فِي شبعٍ ... قد نَالَ خفضًا فِي عيشه ودعه وَكم جليلٍ جلّت مصائبه ... ثمَّ تلافاه بعد من وَضعه فَعَاد بالعزّ آمنا جذلًا ... وَعَاد أعداؤه لَهُ خضعه وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن يحيى الْمَعْرُوف بثعلب: ربّ ريحٍ لِأُنَاس عصفت ... ثمّ مَا إِن لَبِثت أَن ركدت وكذاك الدَّهْر فِي أَفعاله ... قدمٌ زلّت وَأُخْرَى ثبتَتْ بالغٌ مَا كَانَ يَرْجُو دونه ... ويدٌ عمّا استحقّت قصرت وَكَذَا الأيّام من عاداتها ... أنّها مفسدةٌ مَا أصلحت

ثمّ تَأْتِيك مقاديرٌ بهَا ... فترى مصلحَة مَا أفسدت وللحسين بن مطير الْأَسدي: إِذا يسّر الله الْأُمُور تيسّرت ... ولانت قواها واستقاد عسيرها فكم طامعٍ فِي حَاجَة لَا ينالها ... وَكم آيسٍ مِنْهَا أَتَاهُ بشيرها وَكم خائفٍ صَار المخيف ومقترٍ ... تموّل والأحداث يحلو مريرها وَقد تغدر الدُّنْيَا فيمسي غنيّها ... فَقِيرا ويغنى بعد عسرٍ فقيرها وَكم قد رَأينَا من تكدّر عيشة ... وَأُخْرَى صفا بعد انكدارٍ غديرها ولمسكين الدَّارمِيّ: وإنّي لأرجو الله حتّى كأنّني ... أرى بجميل الظنّ مَا الله صانع

وأنشدني مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر بن الْحُسَيْن، قَالَ: أَنْشدني الْحسن بن أبي الْخضر، قَالَ: أنشدنا ثَعْلَب: إِلَى الله كلّ الْأَمر فِي الْخلق كلّه ... وَلَيْسَ إِلَى الْمَخْلُوق شَيْء من الْأَمر إِذا أَنا لم أقبل من الدَّهْر كلّما ... تكرّهت مِنْهُ طَال عتبي على الدَّهْر ووسّع صَدْرِي للأذى كَثْرَة الْأَذَى ... وَقد كنت أَحْيَانًا يضيق بِهِ صَدْرِي وصيّرني يأسي من النَّاس راجيًا ... لحسن صَنِيع الله من حَيْثُ لَا أَدْرِي وَأَخْبرنِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، خَليفَة أبي رَحمَه الله على الْقَضَاء بهَا، قَالَ: أخبرنَا وَكِيع، مُحَمَّد بن خلف القَاضِي، أَن طَلْحَة بن عبيد الله أخبرهُ، قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن شبيب، قَالَ: أَنْشدني الثَّوْريّ، وَذكر الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين، ثمَّ بَيْتا ثَالِثا، وَهُوَ: وعوّدت نَفسِي الصَّبْر حَتَّى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إِلَى الصَّبْر ثمَّ ذكر الْبَيْتَيْنِ الآخرين على نَحْو ذَلِك. وَقَالَ آخر:

إِذا ضَاقَ صَدْرِي بالأمور تفرّجت ... لعلمي بأنّ الْأَمر لَيْسَ إِلَى الْخلق وَقَالَ آخر: يضيق صَدْرِي بغمّ عِنْد حادثةٍ ... وربّما خير لي فِي الغمّ أَحْيَانًا وربّ يَوْم يكون الغمّ أوّله ... وَعند آخِره روحًا وريحانا مَا ضقت ذرعًا بغمٍّ عِنْد نائبةٍ ... إِلَّا ولي فرجٌ قد حلّ أَو حانا وأنشدني مُحَمَّد بن الْحسن، قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد، قَالَ: أنشدنا ثَعْلَب، عَن الزبير: لَا أَحسب الشَّرّ جارًا لَا يفارقني ... وَلَا أحزّ على مَا فَاتَنِي الودجا وَمَا لقِيت من الْمَكْرُوه نازلةً ... إِلَّا وثقت بِأَن ألْقى لَهَا فرجا وَأَخْبرنِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، خَليفَة أبي رَحمَه الله على الْقَضَاء بهَا، قَالَ: أنشدنا أَحْمد بن عمر الْحَنَفِيّ، قَالَ: أنشدنا الرياشي، قَالَ: أنشدنا القحذمي، فَذكر الْبَيْت الأول، ثمَّ قَالَ:

وَلَا تراني لما قد فَاتَ مكتئبًا ... وَلَا تراني بِمَا قد نلْت مبتهجا ثمَّ ذكر الْبَيْت الثَّالِث. ولبعض الْأَعْرَاب: وقلّ وَجه يضيق إِلَّا ... ودونه مَذْهَب فسيح من روّح الله عَنهُ هبّت ... من كلّ وَجه إِلَيْهِ ريح قرئَ على أبي بكر الصولي، بِالْبَصْرَةِ، فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَثَلَاث مائَة، فِي كِتَابه: كتاب الوزراء، وَأَنا أسمع، حَدثَك الْحُسَيْن بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنِي البيمارستاني، قَالَ: أنشدت أَبَا الْعَبَّاس إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس الصولي، وَهُوَ فِي مَجْلِسه بديوان الضّيَاع: ربّما تكره النُّفُوس من الْأَمر ... لَهُ فرجةٌ كحلّ العقال فَنكتَ بقلمه، ثمَّ قَالَ: ولربّ نازلةٍ يضيق بهَا الْفَتى ... ذرعًا وَعند الله مِنْهَا الْمخْرج ضَاقَتْ فلمّا استحكمت حلقاتها ... فرجت وَكَانَ يظنّها لَا تفرج

أَنْشدني أَحْمد بن عبد الله الْوراق، قَالَ: أنشدنا أَحْمد بن الْقَاسِم بن نصر أَخُو أبي اللَّيْث الْفَرَائِضِي، قَالَ: أنشدنا دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ، قصيدته: مدارس آيَات خلت من تِلَاوَة، فَذكر القصيدة إِلَى آخرهَا وفيهَا مَا يدْخل فِي هَذَا الْبَاب: فلولا الَّذِي أَرْجُو فِي الْيَوْم أَو غدٍ ... تقطّع قلبِي إثرهم حسرات فيا نفس طيبي، ثمَّ يَا نفس أَبْشِرِي ... فَغير بعيدٍ كلّما هُوَ آتٍ وَلَا تجزعي من دولة الْجور إنّني ... كأنّي بهَا قد آذَنت بشتات عَسى الله أَن يرتاح لِلْخلقِ إنّه ... إِلَى كلّ حيّ دَائِم اللّحظات ولعلي بن الجهم من قصيدة: غير اللَّيَالِي بادياتٌ عوّد ... وَالْمَال عَارِية يفاد وينفد ولكلّ حالٍ معقبٌ ولربّما ... أجلى لَك الْمَكْرُوه عمّا يحمد

لَا يؤيسنّك من تفرّج كربةٍ ... خطبٌ رماك بِهِ الزَّمَان الأنكد صبرا فإنّ الْيَوْم يتبعهُ غدٌ ... وَيَد الْخَلِيفَة لَا تطاولها يَد كم من عليلٍ قد تخطّاه الردى ... فنجا وَمَات طبيبه والعوّد وَلغيره فِي مثله: قد يصحّ الْمَرِيض من بعد يأسٍ ... كَانَ مِنْهُ وَيهْلك العوّاد ويصاد القطا فينجو سليما ... بعد هلكٍ وَيهْلك الصيّاد ولعَبْد الله بن المعتز من أَبْيَات: وَكم نعمةٍ لله فِي صرف نقمةٍ ... ومكروه أَمر قد حلا بعد إمرار وَمَا كلّ مَا تهوى النُّفُوس بنافعٍ ... وَمَا كلّ مَا تخشى النُّفُوس بضرّار وَله مُفْرد: ولربّما انْتفع الْفَتى بضرار من ... يَنْوِي الضرار وضرّه من ينفع وَقَرِيب مِنْهُ:

ربّما خير للفتى ... وَهُوَ للخير كَارِه وَأَتَاهُ السرُور من ... حَيْثُ تَأتي المكاره أَنْشدني أَبُو إِسْحَاق مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن شهرام الْكَاتِب وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، وأخبراني أَن فِيهِ لحنًا من الرمل: فَلَا تيأسن من فرجةٍ أَن تنالها ... لعلّ الَّذِي ترجوه من حَيْثُ لَا ترجو وَقَالَ آخر: أَتَى من حَيْثُ لَا ترجوه صنعٌ ... وتأبى أَن تهمّ بِهِ الظنون وَحَيْثُ تراك تيأس فارج خيرا ... فإنّ الْغَيْب محتجبٌ مصون فَكُن أَرْجَى لأمر لَيْسَ ترجو ... من المرجوّ أقرب مَا يكون وَقَالَ آخر: وَإِذا تصبك خصاصةٌ فأرج الْغنى ... وَإِلَى الَّذِي يُعْطي الرغائب فأرغب

وأنشدني أبي رَحمَه الله لِعبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر: أَرَاهَا تمخّض بالمعضلات ... فيا لَيْت شعري مَا الزبده أَلا إنّ زبدتها فرجةٌ ... تحلّ العقال من العقده وَلأبي إِسْحَاق إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم الملقب بِأبي الْعَتَاهِيَة: إنّما الدُّنْيَا هباتٌ ... وعوارٍ مستردّه شدّةٌ بعد رخاءٍ ... ورخاءٌ بعد شدّه وَله أَيْضا: النَّاس فِي الدَّين وَالدُّنْيَا ذَوُو درجٍ ... وَالْمَال مَا بَين موقوفٍ ومختلج من ضَاقَ عَنْك فأرض الله واسعةٌ ... فِي كلّ وَجه مضيقٍ وَجه منفرج قد يدْرك الراقد الْهَادِي برقدته ... وَقد يخيب أَخُو الروحات والدلج خير الْمذَاهب فِي الْحَاجَات أنجحها ... وأضيق الْأَمر أدناه من الْفرج

ويروى لَهُ، والقافية كلهَا وَاحِدَة، وَهَذَا هُوَ الإيطاء، وَأَبُو الْعَتَاهِيَة يرْتَفع عَنهُ، فإمَّا أَن يكون الشّعْر لغيره مِمَّن جهل هَذَا الْعَيْب، أَو لَهُ وَجه لَا أعلمهُ، وأوله: يَا صَاحب الهمّ إنّ الهمّ منقطعٌ ... أبشر بِذَاكَ فإنّ الْكَافِي الله الْيَأْس يقطع أَحْيَانًا بِصَاحِبِهِ ... لَا تيأسنّ كَأَن قد فرّج الله الله حَسبك ممّا عذت مِنْهُ بِهِ ... وَأَيْنَ أمنع ممّن حَسبه الله هنّ البلايا، وَلَكِن حَسبنَا الله ... والله حَسبك، فِي كلٍّ لَك الله هوّن عَلَيْك، فإنّ الصَّانِع الله ... وَالْخَيْر أجمع فِيمَا يصنع الله يَا نفس صبرا على مَا قدّر الله ... وسلّمي تسلمي، فالحاكم الله يَا ربّ مستصعب قد سهّل الله ... وربّ شرّ كثير قد وقى الله إِذا بَكَيْت فثق بالله وَارْضَ بِهِ ... إنّ الَّذِي يكْشف الْبلوى هُوَ الله الْحَمد لله شكرا لَا شريك لَهُ ... مَا أسْرع الْخَيْر جدًّا إِن يشا الله ولمحمد بن حَازِم الْبَاهِلِيّ، فِي مثل هَذَا:

طُوبَى لمن يتولّى الله خالقُهُ ... وَمن إِلَى الله يلجأ يكفه الله وربّ حاذر أَمر يستكين لَهُ ... ينجو وَخيرته مَا قدّر الله وَمن دَعَا الله فِي اللأواء أنقذه ... وكلّ كرب شَدِيد يكفه الله وليحيى بن خَالِد بن برمك، من أَبْيَات: أَلا يَا بَائِعا دينا بدنيا ... غرورٍ لَا يَدُوم لَهَا نعيم سينقطع التلذّذ عَن أنَاس ... أداموه وتنقطع الهموم وأنشدني أبي، القَاضِي أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْفَهم التنوخي رَحمَه الله، من قصيدة لسالم بن عَمْرو الخاسر: إِذا أذن الله فِي حَاجَة ... أَتَاك النجاح على رسله وقرّب مَا كَانَ مستبعدًا ... وردّ الْغَرِيب إِلَى أَهله فَلَا تسْأَل النَّاس من فَضلهمْ ... وَلَكِن سل الله من فَضله وَوجدت بِخَط عمي القَاضِي أبي جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الْفَهم

التنوخي، مَكْتُوبًا: إِذا أذن الله فِي حَاجَة ... أَتَاك النجاح بهَا ويركض وَإِن عَاق من دونهَا عائق ... أَتَى دونهَا عَارض يعرض ولعَبْد الله بن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب من أَبْيَات: لَا تعجلنّ فربّما ... عجل الْفَتى فِيمَا يضرّه والعيش أحلى مَا يعود ... على حلاوته مُمرُّه ولربّما كره الْفَتى ... أمرا عواقبه تسرّه وَلغيره: كم مرّة حفّت بك المكاره ... خار لَك الله وَأَنت كَارِه وَلغيره:

ربّ أَمر تزهق النَّفس لَهُ ... جاءها من خلل الْيَأْس الْفرج لَا تكن من وَجه روحٍ آيسًا ... ربّما قد فرجت تِلْكَ الرتج بَيْنَمَا الْمَرْء كئيبٌ موجعٌ ... جَاءَهُ الله بروحٍ فابتهج ربّ أَمر قد تضايقت لَهُ ... فأتاك الله مِنْهُ بالفرج وَقَالَ آخر: إِذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت تذوب لهنّ المهج وجلّ الْبلَاء وقلّ العزاء ... فَعِنْدَ التناهي يكون الْفرج ولبعضهم مُفْرد: البؤسُ يعقبه النَّعيم وربّما ... لاقيت مَا ترجوه فِيمَا ترغب وأنشدني عبيد الله بن مُحَمَّد بن الْحسن العبقسي الْمَعْرُوف بالصوري، لنَفسِهِ: إِذا أذن الله فِي حَاجَة ... أَتَاك النجاح بِغَيْر احتباس فيأتيك من حَيْثُ لَا ترتجي ... مرادك بالنجع بعد الْإِيَاس

ولمحمد بن حَازِم الْبَاهِلِيّ: وارحل إِذا أجدبت بلادٌ ... مِنْهَا إِلَى الخصب وَالربيع لعلّ دهرًا غَدا بنحسٍ ... بكرّ بالسعد فِي الرُّجُوع وَوجدت فِي بعض الْكتب مَنْسُوبا إِلَى أبي تَمام الطَّائِي: وَمَا من شدّة إِلَّا سَيَأْتِي ... لَهَا من بعد شدّتها رخاء وأنشدني الْأَمِير أَبُو الْفضل جَعْفَر بن المكتفي بِاللَّه، قَالَ: أَنْشدني بعض أَصْحَابنَا، وَلم يسم قَائِلا، وَأَخْبرنِي بعض الشُّعَرَاء: أَن الْبَيْت الأول لقيس بن الخطيم، وَوَجَدته وَحده فِي كتاب الْأَمْثَال السائرة مَنْسُوبا إِلَى قيس بن الخطيم: وكلّ شَدِيدَة نزلت بقومٍ ... سَيَأْتِي بعد شدّتها رخاء فإنّ الضغط قد يحوي وعَاء ... ويتركه إِذا فرغ الْوِعَاء

وَمَا ملئ الْإِنَاء وسدّ إِلَّا ... ليخرج مِنْهُ مَا امْتَلَأَ الْإِنَاء وأنشدت: مَتى تصفو لَك الدّنيا بخيرٍ ... إِذا لم ترض مِنْهَا بالمزاح ألم تَرَ جَوْهَر المصفّى ... ومخرجه من الْبَحْر الأجاج وربّ مخيفةٍ فجأت بهولٍ ... جرت بمسرّةٍ لَك وابتهاج وربّ سلامةٍ بعد امتناعٍ ... وربّ إقامةٍ بعد اعوجاج ولمحمد بن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي عُيَيْنَة المهلبي، من أَبْيَات، وَمُحَمّد هَذَا، هُوَ وَالِد أبي خَالِد يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي، نديم المتَوَكل: إنّي لرحّال إِذا الهمّ برك ... رحب اللّبان عِنْد ضيق المعترك عسري على نَفسِي ويسري مُشْتَرك ... لَا تهْلك النَّفس على شيءٍ هلك وَلَيْسَ فِي الهمّ لما فَاتَ دَرك ... وَلم يدم شيءٌ على دور الْفلك ربّ زمانٍ ذلّه أرْفق بك ... لَا عَار إِن ضامك دهرٌ أَو فتك فقد يعود بالّذي تهواه لَك ... كم قد رَأينَا سوقةً صَار ملك وَقَالَ آخر:

لكل غمّ فرجٌ عَاجل ... يَأْتِيك فِي المصبح والممسى لَا تتّهم ربّك فِيمَا مضى ... وهوّن الْأَمر تطب نفسا ولعَبْد الله بن المعتز: سَوَاء على الأيّام حفظٌ وإغفال ... وتارك سعيٍ واحتيالٌ ومحتال وَلَا همّ إِلَّا سَوف يفتح قفله ... وَلَا حَال إِلَّا بعْدهَا للفتى حَال وَقَالَ آخر: جزعت كَذَا ذُو الهمّ يجزع قلبه ... أَلا ربّ يأسٍ جَاءَ من بعده فرج كأنّك بالمحبوب قد لَاحَ نجمه ... وَذُو الهمّ من بَين المضايق قد خرج وَأنْشد لأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: لَا تكره الْمَكْرُوه عِنْد نُزُوله ... إنّ المكاره لم تزل متباينه كم نعْمَة لَا تستقلّ بشكرها ... لله فِي جنب المكاره كامنه

حَدثنَا عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا قَالَ: أَنْشدني رجل من قُرَيْش: ألم تَرَ أنّ ربّك لَيْسَ تحصى ... أياديه الحديثة والقديمه تسلّ عَن الهموم فَلَيْسَ شيءٌ ... يُقيم وَلَا همومك بالمقيمه لعلّ الله ينظر بعد هَذَا ... إِلَيْك بنظرة مِنْهُ رحيمه وأنشدني مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن الْحسن بن طرخان، قَالَ: أَنْشدني أَبُو الْحسن عَليّ بن هَارُون بن عَليّ بن يحيى المنجم، لنَفسِهِ من أَبْيَات كتب بهَا إِلَى عَليّ بن خلف بن طناب، فَعمِلت فِيهِ صَوتا: بيني وَبَين الدَّهْر فِيك عتاب ... سيطول إِن لم يمحه الإعتاب يَا غَائِبا بمزاره وَكتابه ... هَل يرتجى من غَيْبَتِك إياب لَوْلَا التعلّل بالرجاء تقطّعت ... نفسٌ عَلَيْك شعارها الأوصاب لَا يأس من فرج الْإِلَه فربّما ... يصل القطوع وَيقدم الغيّاب وَلآخر غَيره:

فَلَا تيأس وَإِن أعسرت يَوْمًا ... فقد أَيسَرت فِي الزَّمن الطَّوِيل وَقَالَ آخر: فَلَا تيأس وَإِن صحّت ... عزيمتهم على الدلج فإنّ إِلَى غَدَاة غدٍ ... سَيَأْتِي الله بالفرج فَتُصْبِح عيسهم عرجًا ... وَقد كَانَت بِلَا عرج وَقَالَ آخر: ربّما يطلع التفرّج فِي الْكُرْبَة ... كالبدر من خلال السَّحَاب وتزول الهموم فِي قدر الزرّ ... تفرّى عَن عُرْوَة الجلباب وَقَالَ آخر: رميت بالهمّ لمّا أَن رميت بِهِ ... وَلم أُقم غَرضا للهمّ يرميني وَلست آيس من روح وَمن فرجٍ ... وَمن لطائف صنعٍ سَوف تكفيني وكلّ مَا كَانَ من دهري إليّ شوى ... مَا سلّم الله من أحداثه ديني وَقَالَ آخر:

وَكم من ضيقةٍ ركدت بغمّ ... فَكَانَ عقيبها فرج مفاجي وأضيق مَا يكون الْأَمر أدنى ... وَأقرب مَا يكون إِلَى انفراج ولعلي بن جبلة: عَسى فرجٌ يكون عَسى ... نعلّل نفسنا بعسى فَلَا تقنط وَإِن لاقيت ... همًّا يقبض النفسا فأقرب مَا يكون الْمَرْء ... من فرج إِذا يئسا حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن، وَذكر الْبَيْت الأول، وَالثَّالِث، وَلم يذكر الثَّانِي، وَلَا سمى قَائِلا. وَقَالَ آخر: لعمرك مَا الْمَكْرُوه من حَيْثُ تتقي ... وتخشى وَلَا المحبوب من حَيْثُ تطمع وَأكْثر خوف النَّاس لَيْسَ بكائنٍ ... فَمَا دَرك الهمّ الَّذِي لَيْسَ ينفع وَقَالَ آخر: رضيت بالله إِن أعْطى شكرت وَإِن ... يمْنَع قنعت وَكَانَ الصَّبْر من عددي

إِن كَانَ عنْدك رزق الْيَوْم فاطّرحن ... حمل الهموم فَعِنْدَ الله رزق غَد وَلأبي يُوسُف البنهيلي الْكَاتِب، عَم المفجع الشَّاعِر، وَهُوَ من قَرْيَة من أَعمال النهروانات، من قصيدة: لَا الْبُؤْس يبْقى وَلَا النَّعيم وَلَا ... حَلقَة ضيقٍ، ستفرج الحلقه صبرا على الدَّهْر فِي تجوّره ... كم فتح الصَّبْر مرّة غلقه وَقَالَ آخر: جَدِيد همّك يبليه الجديدان ... فاستشعر الصَّبْر إنّ الدَّهْر يَوْمَانِ يَوْم يسوء فيتلوه فيذهبه ... يومٌ يسرّ وكلٌّ زائلٌ فان وَقَالَ آخر: لَا تعجّل همًّا بِمَا لَيْسَ تَدْرِي ... إِن ترَاخى، يكون أَو لَا يكون وَقَالَ آخر:

عادني الهمّ واعتلج ... كلّ همّ إِلَى فرج وَقَالَ آخر: لعمرك مَا يدْرِي الْفَتى كَيفَ يتّقي ... نَوَائِب هَذَا الدَّهْر أم كَيفَ يحذر يرى الشَّيْء ممّا يتّقي فيخافه ... وَمَا لَا يرى مِمَّا يقي الله أَكثر وَقَالَ آخر: الهمّ فضلٌ وَالْقَضَاء مغالب ... وصروف أيّام الْفَتى تتقلّب والبؤس يتبعهُ النَّعيم وربّما ... لاقيت مَا ترجوه فِيمَا ترهب وَلَا تيأسنّ وَإِن تضايق مذهبٌ ... فِيمَا تحاول أَو تعذّر مطلب وَانْظُر إِلَى عُقبى الْأُمُور فَعندهَا ... لله عَادَة فرجةٍ تترقّب ولبعض الْأَعْرَاب: فَلَا تحسبن سجن الْيَمَامَة دَائِما ... كَمَا لم يدم عَيْش بسفح ثبير

ولحوط بن ذياب الْأَسدي: تعلّمني بالعيش عرسي كأنّما ... تعلّمني الشَّيْء الَّذِي أَنا جاهله وَلآخر: يعِيش الْفَتى بالفقر يَوْمًا وبالغنى ... وكلّ كَأَن لم يلقه حِين يذهب كأنّك لم تعدم من الدَّهْر لذّة ... إِذا أَنْت أدْركْت الَّذِي كنت تطلب تخطي النُّفُوس مَعَ العيان ... وَقد تصيب مَعَ التظنّه كم من مضيق بالفضاء ... ومخرج بَين الأسنّة ولسليمان بن المُهَاجر البَجلِيّ، من أَبْيَات: إنّ المساءة قد تسرّ وربّما ... كَانَ السرُور بِمَا كرهت جَدِيرًا وللبحتري:

لَا ييأس الْمَرْء أَن ينجّيه ... مَا يحْسب النَّاس أنّه عطبه إنّ سرّك الْأَمر قد يسوءوكم ... نوّه يَوْمًا بخامل لقبه وَلأبي الْعَتَاهِيَة: ولربّما استيأست ثمَّ أَقُول: لَا ... إنّ الَّذِي ضمن النجاح كريم وأنشدني بعض إخْوَانِي لسَعِيد بن حميد، وَقَالَ: فِيهِ لحن من الرمل: يومٌ عَلَيْك مباركٌ ... مَا عِشْت فِي فَرح وَطيب عَاد الحبيب لوصله ... وحجبت عَن عين الرَّقِيب وَكَذَا الزَّمَان يَدُور ... بالأفراح من بعد الكروب فَاشْرَبْ شرابًا نَقله ... تَقْبِيل سالفة الحبيب ودع الهموم فإنّها ... تنأى عَن الصَّدْر الرحيب لَا بدّ من فرجٍ قريب ... يَأْتِيك بالعجب العجيب والكمد

وحَدثني عَليّ بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْأنْصَارِيّ الخطمي، قَالَ: سَمِعت برامهرمز فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَلَاث مائَة، مغنيًا يُقَال لَهُ ابْن هاني، يُغني على الطنبور: علّل همومك بالمنى ... ترجى إِلَى أجل قريب لَا بدّ من صنعٍ قريب ... يَأْتِيك بالعجب العجيب لَا تيأسنّ وَإِن ألح ... الدَّهْر من فرج قريب روّح فُؤَادك بِالرِّضَا ... ترجع إِلَى روح وَطيب قَالَ: فَسَأَلته من قَائِلهَا، فَقَالَ: عبيد الله بن عبيد الله بن طَاهِر. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقَرِيب من الْبَيْت الْأَخير: حرّك مناك إِذا اغتممت ... فإنّهنّ مراوح وحَدثني الْحُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد، وَيعرف أَبوهُ بالبغدادي النديم، قَالَ: سَمِعت عبد الْوَاحِد بن حَمْزَة الْهَاشِمِي، من ولد إِبْرَاهِيم الإِمَام، يُغني على الطنبور، وَكَانَ حاذقًا طيبا، لحنًا من الرمل: لَيْسَ لي صَبر وَلَا جلد ... قد براني الهمّ والسّهد من ملمّاتٍ تؤرّقني ... مَا لَهَا من كثرةٍ عدد ولعلّ الله يكشفها ... فيزول الْحزن والكمد

وأنشدني مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن الْحسن بن طرخان، لنَفسِهِ، وَقَالَ: لي فِيهِ لحن من الرمل: هاكها صرفا تلالًا ... لم يدنّسها المزاج واترك الهمّ لشانيك ... فللهمّ انفراج ثمَّ وجدت بعد ذَلِك، أَن إِسْحَاق الْموصِلِي، ذكر فِي كِتَابه كتاب الأغاني الْمَعْرُوف بشجا، أبياتًا لم يسم قَائِلهَا، وَذكر أَن فِيهَا للغريض لحنًا من الثقيل الثَّانِي بالبنصر، فِي مجْراهَا: يَا أَبَا وهب صفيّي ... كلّ ضيق لانفراج اسْقِنِي صهباء صرفا ... لم تدنّس بمزاج وَقَالَ آخر: رضيت بالله إِن أعْطى شكرت وَإِن ... يمْنَع منعت وَكَانَ الصَّبْر من عددي إِن كَانَ عنْدك رزق الْيَوْم فاطّرحن ... عَنْك الهموم فَعِنْدَ الله رزق غَد

وَقَالَ آخر: سهّل على نَفسك الأمورا ... وَكن على مرّها صبورا فَإِن ألمّت صروف دهرٍ ... فَلَا تكن عِنْدهَا ضجورا فكم رَأينَا أَخا همومٍ ... أعقب من بعْدهَا سُرُورًا فربّ عسرٍ أَتَى بيسرٍ ... فَصَارَ معسوره يَسِيرا وأنشدني أَبُو الْفرج الْقرشِي الْمَعْرُوف بالأصبهاني، لنَفسِهِ، من قصيدة: تعزّ وَلَا تأسى عليّ وتيأس ... فجدّي محظوظ وأمري مقبل لعلّ اللَّيَالِي أَن تعود كعهدنا ... وتجمعنا حالٌ تسرّ وتجذل ويعقب هَذَا الْبُؤْس نعمى، وهمّنا ... سرورٌ، وبلوانا سراحٌ معجّل وأنشدني سعيد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالوحيد، لنَفسِهِ: إنّ الزَّمَان عزور ... لَهُ صروف تَدور فاصبر فربّ اغتمامٍ ... يَأْتِيك مِنْهُ حبور وربّ همٍّ تفرّى ... فلاح مِنْهُ سرُور

قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: ولي فِي محنة لحقتني، فكشفها الله تَعَالَى عني بتفضله: هوّن على قَلْبك الهموم فكم ... قاسيت همًّا أدّى إِلَى فَرح مَا الشرّ من حَيْثُ تتّقيه وَلَا ... كلّ مفضٍ إِلَى ترح وأنشدني الْأمَوِي، أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، لنَفسِهِ من قصيدة، أَولهَا: هَل مشتكى لغريب الدَّار ممتحن ... أَو رَاحِم لوثيق الْأسر مُرْتَهن يَقُول فِيهَا: كأنّ جلدي سجنٌ فَوق أعظمه ... وَالروح محبوسة للهمّ فِي الْبدن فَالْحَمْد لله حمد الصابرين على ... مَا سَاءَنِي من قضاياه وأفجعني لعلّ دهري بعد الْيَأْس يسعفني ... بِمَا أحبّ وَمَا أَرْجُو ويعقبني وَأَن أنال المنى يَوْمًا وَإِن طويت ... من فَوق جثماني الْأَثْنَاء من كفني وأنشدني لنَفسِهِ من قصيدة أَولهَا: لقد بكر الناعي فوثّب أَن رأى ... ارتياعي لخطبٍ عزّ فِيهِ التجمّل وَيَقُول فِيهَا:

وَمَا زَالَ هَذَا الدَّهْر يَأْتِي بأضربٍ ... تسرّ وتبكي كلّها تتنقّل فَلَا حزنٌ يبْقى على ذِي كآبة ... وَلَا فرحٌ يحظى بِهِ من يؤمّل وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ قصيدة مِنْهَا: فِي ذمّة الله من سَارَتْ بسيرهم ... مسرّتي وَأقَام الْخَوْف والحرق لَئِن أَسَاءَ بِنَا دهرٌ قضى شططًا ... وأرهق النَّفس همّ حكمه رهق لقد أناب بعتبى بعد معتبةٍ ... لجّت عوائقها وامتدّت العلق وَقَالَ آخر: يَا قارع الْبَاب ربّ مجتهدٍ ... قد أدمن القرع ثمَّ لم يلج وربّ مستولج على مهلٍ ... لم يشق فِي قرعه وَلم يهج علام يسْعَى الْحَرِيص فِي طلب ... الرزق بطول الرواح والدلج وَهُوَ وَإِن كفّ عَنهُ طَالبه ... الرزق، وَإِن عاج مِنْهُ لم يعج فاطو على الهمّ كشح مصطبرٍ ... فآخر الهمّ أوّل الْفرج وأنشدني أبي رحمه الله، قال: أنشدت لبعضهم:

اصحب الدُّنْيَا مياومةً ... وادفع الأيّام تنْدَفع وَإِذا مَا ضيقةٌ عرضت ... فالقها بِالصبرِ تتّسع وَقَرِيب مِنْهُ، مَا أنشدناه عَليّ بن هَارُون بن عَليّ بن يحيى المنجم، وَلم يسم قَائِلا: أدرج الأيّام تندرج ... وبيوت الهمّ لَا تلج ربّ أَمر عزّ مطلبه ... هوّنته سَاعَة الْفرج وَلابْن دُرَيْد من قصيدة: كَمَا لم يكن عصر الغضارة لابثًا ... كَذَلِك عصر الْبُؤْس لَيْسَ بلابث وأنشدني أَبُو الْفرج عبد الْوَاحِد بن نصر بن مُحَمَّد المَخْزُومِي الْبَصْرِيّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بالببغاء، لنَفسِهِ: تنكّب مَذْهَب الهمج ... وعذ بِالصبرِ تبتهج فإنّ مظلّم الأيّام ... محجوجٌ بِلَا حجج تسامحنا بِلَا شكر ... وتمنعنا بِلَا حرج ولطف الله فِي إتيانها ... فتح من اللجج

فَمن ضيق إِلَى سَعَة ... وَمن غمّ إِلَى فرج وأنشدني أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن أَحْمد بن الْحجَّاج الْكَاتِب الْبَغْدَادِيّ، لنَفسِهِ من قصيدة: فسلّ عَنْك الهموم مصطبرًا ... وَكن لما كَانَ غير منزعج كلّ مضيق يتلوه متّسع ... وكلّ همّ يُفْضِي إِلَى فرج وَلغيره: تشفّع بالنبيّ فكلّ عبد ... يُجَاب إِذا تشفّع بالنبيّ وَلَا تحرج إِذا مَا ضقت يَوْمًا ... فكم لله من لطفٍ خفيّ وَإِن ضَاقَتْ بك الْأَسْبَاب يَوْمًا ... فثق بِالْوَاحِدِ الْفَرد العليّ كتب أَبُو مُحَمَّد المهلبي، وَهُوَ وَزِير، إِلَى أبي، كتابا بِخَطِّهِ، فَرَأَيْت فِيهِ

كلَاما يَسْتَوْفِيه، ويتمثل عَقِيبه بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: لَئِن درست أَسبَاب مَا كَانَ بَيْننَا ... من الودّ مَا شوقي إِلَيْك بدارس وَمَا أَنا من أَن يجمع الله بَيْننَا ... بِأَحْسَن مَا كنّا عَلَيْهِ بآيس وَلغيره، مُفْرد: وَقد يجمع الله الشتيتين بَعْدَمَا ... يظنّان كلّ الظنّ أَن لَا تلاقيا أَنْشدني عبيد الله بن مُحَمَّد الصروي، لنَفسِهِ، من أَبْيَات: وَمَا أَنا من بعد ذَا آيسٌ ... بِأَن يَأْذَن لله لي فِي اجْتِمَاع وأتعس جدّ النَّوَى باللقا ... وأرغم بِالْقربِ أنف الزماع وَأنْشد أَبُو الْعَتَاهِيَة: الدَّهْر لَا يبْقى على حالةٍ ... لَا بُد أَن يقبل أَو يدبر فَإِن تلقّاك على وهلةٍ ... فاصبر فإنّ الدَّهْر لَا يصبر

وَقَالَ آخر: إِذا ضيّقت أمرا ضَاقَ جدًّا ... وَإِن هوّنت مَا قد عزّ هانا فَلَا تهْلك لما قد فَاتَ غمًّا ... فكم شَيْء تصعّب ثمّ لانا قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: إِن هَذَا المصراع الْأَخير، يشبه قَول بشار بن برد، وَهُوَ من أحسن مَا قيل فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ يدْخل فِي مَضْمُون هَذَا الْكتاب، فِي بَاب من نالته شدَّة فِي هَوَاهُ: لَا يؤيسنّك من مخدّرةٍ ... قَول تغلّظه وَإِن جرحا عسر النِّسَاء إِلَى مياسرةٍ ... والصعب يُمكن بَعْدَمَا جمحا ولبشار خبر مَعَ الْمهْدي، فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ، لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. وَأخذ الْمَعْنى أَبُو حَفْص الشطرنجي، نديم المتَوَكل، فَقَالَ: عرّضنّ للَّذي تحبّ بحبٍّ ... ثمَّ دَعه يروضه إِبْلِيس صابر الحبّ لَا يصدّك عَنهُ ... من حبيبٍ تجهّمٌ وعبوس فلعلّ الزَّمَان يدنيك مِنْهُ ... إنّ هَذَا الْهوى نعيمٌ وبوس وَأَخْبرنِي من أَنْشدني الشّعْر، أَن فِيهِ لحنًا من خَفِيف الرمل بالوسطى، لبَعض المغنين فِي زمن المتَوَكل.

وَفِي هَاتين القطعتين، معنى من القَوْل بديع، نحته علية بنت الْمهْدي، حَيْثُ تَقول: وَلها فِيهِ لحن مَشْهُور، على مَا وجدت أَبَا الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ يذكرهُ فِي كِتَابه الأغاني الْكَبِير، وَقد ظرفه: تحبّب فإنّ الحبّ دَاعِيَة الحبّ ... فكم من بعيد الدَّار مستوجب الْقرب تبيّن فَإِن حدّثت أنّ أَخا هوى ... نجا سالما فارج النجَاة من الحبّ إِذا لم يكن فِي الحبّ سخطٌ وَلَا رضى ... فَأَيْنَ حلاوات الرسائل والكتب وللعباس بن الْأَحْنَف، فِي غير هَذَا الْمَعْنى، وَلكنه من هَذَا الْبَاب: أما تحسبيني أرى العاشقين؟ ... بلَى، ثمَّ لست أرى لي نظيرا لعلّ الَّذِي بيدَيْهِ الْأُمُور ... سَيجْعَلُ فِي الكره خيرا كثيرا قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقيل لي إِن فِي الْبَيْت الأول مِنْهُمَا لحنًا ثَانِي ثقيل مُطلقًا. وَوجدت فِي بعض الْكتب، الْبَيْت الثَّانِي مِنْهُمَا غير مَنْسُوب إِلَى أحد، وَقد جعل قبله بَيْتا، وَهُوَ: تعزّ وهوّن عَلَيْك الخطوب ... عساك ترى بعد هَذَا سُرُورًا وَوجدت فِي كتاب أبي الْقَاسِم الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن إِسْمَاعِيل السكونِي: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: أنشدنا أَحْمد بن يحيى، قَالَ: أنشدنا ابْن الْأَعرَابِي: تعزّ وهوّن عَلَيْك الأمورا ... عساك ترى بعد هَذَا سُرُورًا

فإنّ الَّذِي بيدَيْهِ الْأُمُور ... سَيجْعَلُ فِي الكره خيرا كثيرا وأنشدنيهما أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، وَقَالَ لي: فيهمَا لعريب، من الثقيل الثَّانِي لحنًا. وَقَالَ آخر: قرّبت لي أملًا فَأصْبح حسرة ... ووعدتني وَعدا فَصَارَ وعيدا فلأصبرنّ على شقائي فِي الْهوى ... فلربّما عَاد الشقّي سعيدا وَقَالَ آخر: لعلّك أَن تلاقي فِي ليالٍ ... وأيّام من الدُّنْيَا بَقينَا حبيبًا نازحًا أمسيت مِنْهُ ... على يأسٍ وَكنت بِهِ ضنينا وَأَخْبرنِي أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني: قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَسدي، قَالَ:

حَدثنِي مُحَمَّد بن صَالح بن شيخ بن عميرَة، عَن أَبِيه، قَالَ: حجب طل الْخَادِم عَن علية بنت الْمهْدي، فَقَالَت: وصحفت اسْمه فِي أول بَيت: أيا سروة الْبُسْتَان طَال تشوّقي ... فَهَل لي إِلَى ظلٍّ لديك سَبِيل مَتى يلتقي من لَيْسَ يقْضى خُرُوجه ... وَلَيْسَ لمن يهوى إِلَيْهِ سَبِيل عَسى الله أَن يرتاح من كربَة لنا ... فَيلقى اغتباطًا خلّة وخليل وَقَالَ الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف، ويروى لمُحَمد بن دنقش حَاجِب المعتصم بِاللَّه: قَالُوا لنا إنّ بالقاطول مشتانا ... وَنحن نأمل صنع الله مَوْلَانَا وَالنَّاس يأتمرون الرَّأْي بَينهم ... والله فِي كلّ يَوْم مُحدث شانا وأنشدنيهما أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، لفضل الشاعرة، وَقَالَ لي: فيهمَا لعريب لحن، ولغيرها عدَّة ألحان. وأنشدني سعيد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، الْمَعْرُوف بالوحيد، لنَفسِهِ: كَانَت على رغم النَّوَى أيّامنا ... مَجْمُوعَة النشوات والأطراب وَلَقَد عتبت على الزَّمَان لبينهم ... ولعلّه سيمنّ بالإعتاب وَمن اللَّيَالِي إِن علمت أحبّة ... وَهِي الَّتِي تَأْتِيك بالأحباب

وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ: إِن راعني مِنْك الصدود ... فلعلّ أيّامي تعود إِذْ لَا تناولنا يَد ... النعماء إِلَّا مَا نُرِيد ولعلّ عَهْدك بالهوى ... يحيى فقد تحيى العهود فالغصن ييبس تَارَة ... وتراه مخضرًّا يميد إِنِّي لأرجو عطفةً ... يبكي لَهَا الواشي الحسود فرجا تقرّ بِهِ الْعُيُون ... فينجلي عَنْهَا السهود وحَدثني عَليّ بن الْحسن، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وحَدثني الْحُسَيْن بن الْحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى الواثقي، قَالَ: سَمِعت أَبَا عَليّ بن مقلة، ينشد، فِي نكبته عقيب الوزارة الأولى، والإلحاقات من رِوَايَة الواثقي: إِذا اشْتَمَلت على الْيَأْس الْقُلُوب ... وضاق لما بِهِ الصَّدْر الرحيب وأوطنت المكاره واطمأنّت ... وأرست فِي أماكنها الخطوب وَلم تَرَ لانكشاف الضرّ وَجها ... وَلَا أغْنى بحيلته الأريب أَتَاك على قنوطك مِنْهُ غوثٌ ... يمنّ بِهِ الْقَرِيب المستجيب وكلّ الحادثات وَإِن تناهت ... فموصولٌ بهَا فرجٌ قريب

وَقَالَ آخر: فِي كلّ بلوى تصيب الْمَرْء عافيةٌ ... مَا لم يصب بوفاةٍ أَو بِذِي عَار وكلّ خطبٍ يلاقي حدّه جللٌ ... مَا لم يكن يَوْم يلقى فِيهِ فِي النَّار وأنشدني الْفضل بن أَحْمد بن الْفضل الحنائي، قَالَ: أَنْشدني الْأَمِير أَبُو مُحَمَّد جَعْفَر بن وَرْقَاء الشَّيْبَانِيّ لنَفسِهِ. قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَرَأَيْت أَنا أَبَا مُحَمَّد، وأنشدني أَشْيَاء، وَحدث بأخبار، وَلم أسمع هَذَا مِنْهُ: الْحَمد لله على مَا قضى ... فِي المَال لمّا حفظ المهجه وَلم تكن من ضيقَة هَكَذَا ... إِلَّا وَكَانَت بعْدهَا فرجه وحَدثني عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بن عبد الرَّحْمَن: لعَمْرو بنّيّ اللّذين أراهما ... جزوعين إنّ الشَّيْخ غير جزوع إِذا مَا اللَّيَالِي أَقبلت بإساءة ... رجونا بِأَن تَأتي بِحسن صَنِيع

وحَدثني عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: قَالَ رجل من قُرَيْش: حلبنا الدَّهْر أشطره ومرّت ... بِنَا عقب الشدائد والرخاء فَلَا تأسف على دنيا تولّت ... وَلَا تفزع إِلَى غير الدُّعَاء هِيَ الأيّام تكلمنا وتأسو ... وَتَأْتِي بالسعادة والشقاء قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: الْبَيْت الأول وَالثَّالِث من هَذِه الأبيات، لعَلي بن الجهم بن بدر من بني سامة بن لؤَي، لما حَبسه المتَوَكل، من قصيدة مَشْهُورَة، أَولهَا: توكّلنا على ربّ السَّمَاء ... وسلّمنا لأسباب الْقَضَاء وَهِي نَيف وَعِشْرُونَ بَيْتا، وَقد رَوَاهَا النَّاس لَهُ، وَمَا روى أحد مِنْهُم الْبَيْت الثَّانِي، وَلَا علمت أحدا جَاءَ بِهِ، غير ابْن أبي الدُّنْيَا. وَقَالَ آخر: عَسى فرجٌ من حَيْثُ جَاءَت مكارهي ... يَجِيء بِهِ من جَاءَنِي بالمكاره عَسى منقذٌ مُوسَى بِحسن اقتداره ... وَقد طرحته أمّه فِي بحاره سيرتاح لي ممّا أعاني بفرجةٍ ... فينتاشني مِنْهَا بِحسن اخْتِيَاره وَقَالَ آخر:

وَمَا نبالي إِذا أَرْوَاحنَا سلمت ... بِمَا فقدناه من مالٍ وَمن نشب فَالْمَال مكتسبٌ والعزّ مرتجعٌ ... إِذا النُّفُوس وقاها الله من عطب ولمحمود الْوراق: إِذا منّ بالسرّاء عمّ سرورها ... وَإِن مسّ بالضرّاء أعقبها الْأجر وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا لَهُ فِيهِ منَّة ... تضيق بهَا الأوهام وَالْوَصْف وَالشُّكْر وَقَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: لَئِن عداني عَنْك الدَّهْر يَا أملي ... وسلّ جسمي بالأسقام والعلل وشتّ شَمل تصافينا وإلفتنا ... فالدهر ذُو غيرٍ والدهر ذُو دوَل فَالْحَمْد لله حمد الصابرين على ... مَا سَاءَ من حَادث يوهي قوى الأمل قد استكنت لصرف الدَّهْر والتحفت ... عليّ مِنْك غواشي الْخَوْف والوجل واعتضت مِنْك بسقمٍ شَأْنه جلل ... وَمن وصالك بالهجران والملل وَبعد أمني من غدرٍ ومقليةٍ ... غدرًا تصرّح بالألفاظ وَالرسل وَمن لقائك لقيا الطبّ أرحمهم ... فظٌّ، وأرفقهم مدنٍ إِلَى الْأَجَل وَلست آيس من رَجَعَ الْوِصَال وَلَا ... عود العوافي، وَلَا أَمن من السبل قَالَ: ولي أَبْيَات أَيْضا من قصيدة، فِي محنة لحقتني، فكشفها الله تَعَالَى بِلُطْفِهِ عني:

أما للدهر من حكم رضيّ ... يدال بِهِ الشريف من الدنيّ فتستعلي الرُّءُوس على الذنابى ... وينتصف الذكيّ من الغبيّ وَأَقُول فِيهَا: وَمن عاصاه دمعٌ فِي بلاءٍ ... فَلَيْسَ بكاء عَيْني بالعصيّ وَمَا أبْكِي لوفرٍ لم يفره ... زمانٌ خَان عهد فَتى وفيّ وَلَا آسى على زمنٍ تقضّى ... بعيشٍ ناضرٍ غضٍّ نديّ وَلَكِن من فِرَاق سراة قومٍ ... عهدتهموا شموسًا فِي النديّ وَمن حدثٍ يفوّتني الْمَعَالِي ... على عهدٍ بهَا حدثٍ فتيّ وأنّ يَدي تقصّر عَن هَلَاك ... العدوّ وَعَن مكافاة الوليّ وَمَا تغني الْحَوَادِث إِن ألمّت ... سوى قلبٍ عَن الدُّنْيَا سخيّ وصبر لَيْسَ تنزحه اللَّيَالِي ... كنزح الدَّلْو صَافِيَة الركيّ وَلَيْسَ بأيس من كَانَ يخْشَى ... ويرجو الله من صنع قويّ قَالَ: ولي قصيدة قلتهَا بالأهواز، لما صرفت فِي الدفعة الأولى من تقليدي الْقَضَاء، بالأهواز، وقبضت ضَيْعَة من ضياعي، فَخرجت إِلَى بَغْدَاد أطلبها، وَبَلغنِي عَن أَعدَاء لي، إِظْهَار شماتة بِالْحَال، وتعصب للصارف: لَئِن أشمت الْأَعْدَاء صرفي ومحنتي ... فَمَا صرفُوا فضلي وَلَا ارتحل الْمجد مقامٌ وترحالٌ وقبضٌ وبسطةٌ ... كَذَا عَادَة الدُّنْيَا وأخلاقها النكد

وَمَا زلت جلدا فِي الملمّات قبلهَا ... وَلَا غرو فِي الأحيان أَن يغلب الْجلد فكم لَيْث غابٍ شرّدته ثعالبٌ ... وَكم من حسامٍ فلّه غيلَة غمد وَكم جيفةٍ تعلو وترسب درّةٌ ... ومنحسة تقوى إِذا ضعف السعد ألم تَرَ أنّ الْغَيْث يجْرِي على الربى ... فيحظى بِهِ إِن جاد صيّبه الوهد وَكم فرج والخطب يعتاق نيله ... يَجِيء على يأس إِذا ساعد الجدّ لقد أقْرض الدَّهْر السرُور فَإِن يكن ... أَسَاءَ اقْتِضَاء فالقروض لَهَا ردّ فكم فرحةٍ تَأتي على إِثْر ترحةٍ ... وَكم رَاحَة تطوى إِذا اتَّصل الكدّ وَكم منحة من محنة تستفيدها ... ومكروه أمرٍ فِيهِ للمرتجي رفد على أنّني أَرْجُو لكشف الَّذِي عرا ... مليكًا لَهُ فِي كلّ نائبة رفد فَيمْنَع منّا الْخطب، والخطب صاغرٌ ... وتمسي عُيُون الدَّهْر عنّا هِيَ الرمد ونعتاض باللقيا من الْبَين أعصرًا ... مضاعفةً تبقى ويستهلك الْبعد ونضحي مراحى قد غنينا عَن الْغنى ... بيا راهبي نَجْرَان مَا صنعت هِنْد ولي أَيْضا من قصيدة فِي محنة أُخْرَى: أعيا دواي أساته ودواءهم ... فَغَدَوْت لَا أَرْجُو سوى المتطوّل ربٌّ عَلَيْهِ فِي الْأُمُور توكّلي ... هُوَ عدّتي فِي النائبات وموئلي سيتيح مِمَّا قد أقاسي فُرْجَة ... فيغيثني مِنْهُ بِحسن تفضّل

وَقَالَ آخر: فصبرًا أَبَا جَعْفَر إنّه ... مَعَ الصَّبْر نصرٌ من الصَّانِع فَلَا تيأسن أَن تنَال الَّذِي ... تؤمّل من فَضله الْوَاسِع وَقَالَ آخر: وَإِذا ضَاقَ زمانٌ بامرئ ... كَانَ فِيهِ عِنْد ضيق متّسع وَقَالَ آخر: قد ينعم الله بالبلوى وَإِن عظمت ... ويبتلي الله بعض الْقَوْم بِالنعَم ولمحمود الورّاق: صابر الدَّهْر على كرّ النوائب ... من كنوز البرّ كتمان المصائب والبس الدَّهْر على علاته ... تَجِد الدَّهْر مليئًا بالعجائب وأنشدني الوحيد لنَفسِهِ: عَلَيْك رَجَاء الله ذِي الطول والعطف ... بجملة مَا تبدي من الْأَمر أَو تخفي فقد خلق الأيّام دَائِرَة بِنَا ... تقلّبنا من كرّ صرفٍ إِلَى صرف

فكم فرجٍ لله يَأْتِي مرفرفًا ... على خافق الأحشاء فِي تلف مشف فَلَا تمكنن من طرفك الْيَأْس والأسى ... لعلّ الَّذِي ترجوه فِي مرجع الطّرف وصبرًا جميلًا إنّ لله عَادَة ... مجرّبة، إتباعه العسف باللّطف وَقَالَ ابْن بسام: أَلا ربّ ذلٍّ سَاق للنَّفس عزّةً ... وَيَا ربّ نفسٍ للتعزّز ذلّت تبَارك رزّاق البريّة كلّها ... على مَا رَآهُ، لَا على مَا استحقّت فكم حاصلٍ فِي الْقَيْد وَالْبَاب دونه ... ترقّت بِهِ أَحْوَاله وتعلّت تشوب القذى بالصفو والصفو بالقذى ... وَلَو أَحْسَنت فِي كلّ حَال لملّت سأصدق نَفسِي إنّ فِي الصدْق رَاحَة ... وأرضى بدنياي، وَإِن هِيَ قلّت وَإِن طرقتني الحادثات بنكبةٍ ... تذكّرت مَا عوفيت مِنْهُ فقلّت وَمَا محنةٌ إِلَّا ولله نعمةٌ ... إِذا قابلتها أَدْبَرت واضمحلّت وأنشدني أَبُو الْفرج المَخْزُومِي الْمَعْرُوف بالببغاء، لنَفسِهِ: كل الْأُمُور إِلَى من ... بِهِ تتمّ الْأُمُور

وأفزع إِلَيْهِ إِذا لم ... يجرك عَجزا مجير وكلّ صعبٍ عسيرٍ ... عَلَيْهِ سهل يسير وَلآخر: أيّها الْإِنْسَان صبرا ... إنّ بعد الْعسر يسرا اشرب الصَّبْر وَإِن كَانَ ... من الصَّبْر أمرّا وَقَالَ آخر: كأنّك بالأيّام قد زَالَ بؤسها ... وأعطتك مِنْهَا كلّ مَا كنت تطلب فترجع عَنْهَا رَاضِيا غير ساخطٍ ... وتحمدها من بعد مَا كنت تعتب وحَدثني الْحسن بن صافي مولى ابْن المتَوَكل القَاضِي، قَالَ: قَرَأت على حَائِط مَسْجِد مَكْتُوبًا بالفحم: لَيْسَ من شدّة تصيبك إِلَّا ... سَوف تمْضِي وسوف تكشف كشفا لَا يضق ذرعك الرحيب فإنّ ... النَّار يَعْلُو لهيبها ثمَّ تطفا كم رَأينَا من كَانَ أشفى على الهلك ... فوافت نجاته حِين أشفى وَقَالَ آخر:

الدَّهْر خدنٌ مصافٍ ذُو مخادعةٍ ... لَا يَسْتَقِيم على حالٍ لإِنْسَان حلوٌ ومرٌّ وجمّاعٌ وَذُو فرقٍ ... يخالط السوء مِنْهُ فرط إِحْسَان وَقَالَ آخر: لَئِن قدّمت قبلي رجالٌ، لطالما ... مشيت على رُسُلِي وَكنت المقدّما ولكنّ هَذَا الدَّهْر يعقب صرفه ... فيبرم منقوضًا وينقض مبرما وأنشدني أَبُو الْفرج الببغاء لنَفسِهِ: كم كربةٍ ضَاقَ صَدْرِي عَن تحمّلها ... فملت عَن جلدي فِيهَا إِلَى الْجزع ثمَّ استكنت فأدّتني إِلَى فرجٍ ... لم يجر بالظنّ فِي يأس وَلَا طمع وأنشدني سيدوك الوَاسِطِيّ لنَفسِهِ من قصيدة: أَبى الله إِلَّا أَن يغِيظ عباده ... بجلسته تَحت الشراع المطنّب إِلَى أَن يَمُوت الْمَرْء يَرْجُو ويتّقي ... وَلَا يعلم الْإِنْسَان مَا فِي المغيّب

وأنشدني سعد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْأَزْدِيّ، الْمَعْرُوف بالوحيد لنَفسِهِ: يَا نفس كوني لروح الله ناظرة ... فإنّه للأماني طيّب الأرج كم لَحْظَة لَك مخلوس تقلّبها ... كَانَت مدى لَك بَين الْيَأْس والفرج وأنشدني طَلْحَة بن مُحَمَّد الْمُقْرِئ الشَّاهِد، قَالَ: أَنْشدني نفطويه، وَلم يسم قَائِلا: أتيأس أَن يساعدك النجاح ... فَأَيْنَ الله وَالْقدر المتاح هِيَ الأيّام والنعمى ستجزي ... يَجِيء بهَا غدوٌّ أَو رواح وَقَالَ آخر: إِذا اشتدّ عسرٌ فأرج يسرا فإنّه ... قضى الله أنّ الْعسر يتبعهُ الْيُسْر عَسى فرج يَأْتِي بِهِ الله إنّه ... لَهُ كلّ يَوْم فِي خليقته أَمر فَكُن عِنْدَمَا يَأْتِي بِهِ الدَّهْر حازمًا ... صبورًا فإنّ الحزم مفتاحه الصَّبْر فكم من همومٍ بعد طولٍ تكشّفت ... وَآخر معسور الْأُمُور لَهُ يسر

وَقَالَ آخر: وَأكْثر مَا تلقى الْأَمَانِي كواذبًا ... فَإِن صدقت جَازَت بصاحبها القدرا وَآخر إِحْسَان اللَّيَالِي إساءة ... على أنّها قد تتبع الْعسر اليسرا وَلأبي صَفْوَان القديدي الْبَصْرِيّ من أَبْيَات إِلَى إِبْرَاهِيم ابْن الْمُدبر لما عزل عَن الْبَصْرَة: لَا تجزعنّ فإنّ الْعسر يتبعهُ ... يسرٌ وَلَا بؤس إِلَّا بعده ريف وللمقادير وَقت لَا تجاوزه ... وكلّ أَمر على الأقدار مَوْقُوف وربّ من كَانَ معزولًا فيعزل من ... ولّي عَلَيْهِ وللأحوال تصريف فكم عزيزٍ رَأينَا بَات محتجبًا ... فَصَارَ يحجب عَن قوم بِهِ خيفوا وَقَالَ أَبُو الشبل عَاصِم بن وهب التَّمِيمِي، البرجمي، الْبَصْرِيّ من قصيدة: من ذَا رَأَيْت الزَّمَان أيسره ... فَلم يشب يسره بتعسير أم هَل ترى عسرة على أحد ... دَامَت فَلم تنكشف بتيسير

وجدت بِخَط أبي الْحُسَيْن بن أبي الْبَغْل الْكَاتِب: لَيْسَ لما لَيست لَهُ حِيلَة ... إِلَّا عزاء النَّفس وَالصَّبْر وَخير أعوان أخي محنةٍ ... صبرٌ إِذا ضَاقَ بِهِ الصَّدْر والمرء لَا يبْقى على حَالَة ... والعسر قد يتبعهُ الْيُسْر وَقَالَ آخر: صبرا قَلِيلا فإنّ الدَّهْر ذُو غيرٍ ... مَا دَامَ عسرٌ على حالٍ وَلَا يسر قد يرحم الْمَرْء من تَغْلِيظ محنته ... وَلَيْسَ يعلم مَا يخبي لَهُ الْقدر والدهر حلوٌ ومرٌّ فِي تصرّفه ... خير وشرٌّ وَفِيه الْعسر واليسر أَنْشدني مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، وَأَخْبرنِي أَن فِيهِ لحنًا من المهجوع قَدِيما: كن عَن همومك معرضًا ... وكل الْأُمُور إِلَى القضا وأبشر بطول سلامةٍ ... تسليك عمّا قد مضى

وأنشدني عَليّ بن أبي طَالب بن أبي جَعْفَر بن البهلول التنوخي، قَالَ: أنشدنا جدي القَاضِي أَبُو جَعْفَر، لنَفسِهِ: فصبرًا وإمهالًا فكلّ ملمّة ... سيكشفها الصَّبْر الْجَمِيل فأمهل وأنشدنا، قَالَ: أَنْشدني جدي القَاضِي أَبُو جَعْفَر، لنَفسِهِ أَيْضا: وَقد يأمل الْإِنْسَان مَا لَا يَنَالهُ ... ويأتيه رزق الله من حَيْثُ ييأس وأنشدني أَيْضا، قَالَ: أَنْشدني جدي القَاضِي أَبُو جَعْفَر، لنَفسِهِ: إِذا استصغرت من دنياك حَالا ... ففكّر فِي صروف كنت فِيهَا وأحدث شكر من نجّاك مِنْهَا ... وأبدلها بنعمى ترتضيها وَقَالَ آخر: الدَّهْر إِعْرَاض وإقبال ... وكلّ حَال بعْدهَا حَال وَصَاحب الأيّام فِي غفلةٍ ... وَلَيْسَ للأيّام إغفال مَا أحسن الصَّبْر وَلَا سيّما ... بالحرّ إِن حَالَتْ بِهِ الْحَال وأنشدني مُحَمَّد بن بشير مولى الأزد لنَفسِهِ:

إنّي رَأَيْت وللأيّام تجربةٌ ... للصبر عَاقِبَة محمودة الْأَثر فاصبر على مضض الإدلاج فِي السحر ... وَفِي الرواح إِلَى الْحَاجَات وَالْبكْر لَا يعجزنك وَلَا يضجرك مطلبها ... فالنجح يتْلف بَين الْعَجز والضجر وقلّ من كَانَ فِي أَمر يحاوله ... واستنجد الصَّبْر إِلَّا فَازَ بالظفر 5: 60 وَأَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الأشْنَاندَانِيُّ عَنِ التَّوَّزِيِّ، عَنِ الأَصْمَعِيِّ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الأَشْتَرَ دَخَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سَلامُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ:

حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ، قَالَ: دَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدَءُوبٌ بِاللَّيْلِ، وَدَءُوبٌ بِالنَّهَارِ، فَانْفَتَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَهُوَ يَقُولُ: §اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإِدْلاجِ فِي السَّحَرِ ... وَفِي الرَّوَاحِ إِلَى الْحَاجَاتِ وَالْبَكَرِ لَا تَضْجَرَنَّ وَلا يُحْزِنْكَ مَطْلَبُهَا ... فَالنُّجْحُ يَتْلَفُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ إِنِّي رَأَيْتُ وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةً مَحْمُودَةَ الأَثَرِ وَقَلَّ مَنْ لَجَّ فِي شَيْءٍ يُطَالِبُهُ ... وَاسْتَشْعَرَ الصَّبْرَ إِلا فَازَ بِالظَّفَرِ 5: 61 وَأَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخَرِّمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَارِقٍ، قَالَ:

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ جُوَيْنٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ لِي: يَا حَبَّةُ، §مَا لِي أَرَاكَ أَصْبَحْتَ مَهْمُومًا؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيَّ لأَمْرٍ مُحَاوَلَةٌ. فَقَالَ: لَا تَضْجَرْ، أَمَا عَلِمْتَ مَا قُلْتُ فِي الصَّبْرِ. فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإِدْلاجِ فِي السَّحَرِ ... وَفِي الرَّوَاحِ إِلَى الْحَاجَاتِ وَالْبَكَرِ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الأَبْيَاتِ وَقَالَ آخر، وَفِيه صَنْعَة: قد فرّج الله من الهجر ... ونلت مَا آمل بِالصبرِ فِي سَاعَة الْيَأْس أَتَانِي المنى ... كَذَاك تَأتي دوَل الدَّهْر وَقَالَ آخر: مَا أحسن الصَّبْر فِي الدُّنْيَا وأجمله ... عِنْد الْإِلَه وأنجاه من الكرب

من شدّ كفًّا بصبرٍ عِنْد نائبة ... ألوت يَدَاهُ بحبلٍ غير منقضب وَقَالَ آخر: مَا أحسن الصَّبْر فِي مواطنه ... وَالصَّبْر فِي كلّ موطن حسن حَسبك من حسنه عواقبه ... عَاقِبَة الصَّبْر مَا لَهَا ثمن وَقَالَ آخر: إِن خفت من خطبٍ ألمّ فبعده ... فرجٌ يرجّى عِنْده وَيخَاف فأصبر على قحم النوائب مِثْلَمَا ... صبرت لَهَا آباؤك الْأَشْرَاف وأنشدت لعَمْرو بن معد يكرب الزبيدِيّ: صبرت على اللّذات لمّا تولّت ... وألزمت نَفسِي الصَّبْر حتّى استمرّت وَكَانَت على الأيّام نَفسِي عزيزةٌ ... فلمّا رَأَتْ صبري على الذلّ ذلّت فَقلت لَهَا يَا نفس عيشي كَرِيمَة ... لقد كَانَت الدُّنْيَا لنا ثمَّ ولّت وَمَا النَّفس إِلَّا حَيْثُ يَجْعَلهَا الْفَتى ... فَإِن أُطمعت تاقت وَإِلَّا تسلّت فكم غمرةٍ دافعتها بعد غمرةٍ ... تجرّعتها بِالصبرِ حتّى تولّت

أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، قَالَ: أَنْشدني الْحسن بن الْقَاسِم الْمُؤَدب، قَالَ: أنشدنا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن بشار الْأَنْبَارِي، لأبي الْعَتَاهِيَة: الدَّهْر لَا يبْقى على حَالَة ... لَا بدّ أَن يقبل أَو يدبرا فَإِن تلقّاك بمكروهه ... فاصبر فإنّ الدَّهْر لن يصبرا ولعلي بن الجهم: هِيَ النَّفس مَا حمّلتها تتحمّل ... وللدهر أيّام تجور وتعدل وعاقبة الصَّبْر الْجَمِيل جميلَة ... وَأفضل أَخْلَاق الرِّجَال التجمّل وللواثق بِاللَّه: هِيَ الْمَقَادِير تجْرِي فِي أعنّتها ... فاصبر فَلَيْسَ لَهَا صَبر على حَال يَوْمًا تريك وضيع الْقَوْم مرتفعًا ... إِلَى السَّمَاء وَيَوْما تخْفض العالي ولسعيد بن حميد الْكَاتِب: لَا تعتبنّ على النوائب ... فالدهر يرغم كلّ عَاتب واصبر على حدثانه ... إنّ الْأُمُور لَهَا عواقب مَا كلّ من أنكرته ... وَرَأَيْت جفوته تعاتب

ولكلّ صَافِيَة قذى ... ولكلّ خَالِصَة شوائب والدهر أولى مَا صبرت ... لَهُ على رنق المشارب كم نعمةٍ مطويّةٍ ... لَك بَين أثْنَاء النوائب ومسرّة قد أَقبلت ... من حَيْثُ تنْتَظر المصائب وَوجدت بِخَط أبي الْحُسَيْن بن أبي الْبَغْل الْكَاتِب، من أَبْيَات؛ وَلم أَجِدهُ نسبه إِلَى نَفسه: فصبرًا على حُلْو الْقَضَاء ومرّه ... فإنّ اعتياد الصَّبْر أدعى إِلَى الْيُسْر وَخير الْأُمُور خيرهنّ عواقبًا ... وَكم قد أَتَاك النَّفْع من جَانب الضرّ وَمن عصم الله الرِّضَا بِقَضَائِهِ ... وَمن لطفه توفيقه العَبْد للصبر ثمَّ وجدت فِي كتاب أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْعَبَّاس اليزيدي، الَّذِي أَلفه فِيمَن رثى مَا لَا يرثى مثله، وَعَلِيهِ تَرْجَمَة بِخَط الصولي: مراثي الْبَهَائِم، والنبات، والأعضاء، وَغير ذَلِك، قصيدة نَسَبهَا اليزيدي إِلَى ابْن أبي الْبَغْل، وَذكر بِخَطِّهِ أَيْضا، أَنه عَارض بهَا فِي سنة ثَمَان وَثَلَاث مائَة قصيدة يرثي بهَا سنورًا لَهُ لما حبس، وَهِي تزيد على مائَة وَخمسين بَيْتا، وَهِي حَسَنَة، كَثِيرَة الحكم، فاخترت مِنْهَا مَا يجْرِي مجْرى الأبيات الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة، لِأَنِّي وَجدتهَا فِيهَا، وَبعدهَا: وإنّي لأرجو الله يكْشف محنتي ... وَيسمع للمظلوم دَعْوَة مضطرّ فيرأب مَا أثأى، ويعطف مَا ألتوى ... ويعدل مَا استوحى وَيجْبر من كسري

لقد عجمتني الحادثات مثقّفًا ... إِذا ضاقه همٌّ ثناه إِلَى الصَّبْر وَمَا حزني أَن كرّ دهري بصرفه ... عليّ وَلَكِن أَن يفوت لَهُ وتري فَإِن فَاتَنِي وتري فأيسر فَائت ... إِذا أَنا عوّضت الثَّوَاب من الوفر ولطف كفايات الْإِلَه مبشّري ... بنيل الَّذِي أمّلت لَا بيدٍ صفر فَإِن يهل الْبَحْر أمرأً فَهُوَ آملٌ ... بُلُوغ الْغنى فِيمَا يهول من الْبَحْر وربّ مضيقٍ فِي الفضاء ووارطٍ ... رأى مخرجا بَين المثقّفة السمر وَوجدت بِخَطِّهِ أَيْضا لبَعض الشُّعَرَاء: لَيْسَ لمن لَيست لَهُ حِيلَة ... مَوْجُودَة خير من الصَّبْر وَالصَّبْر مرٌّ لَيْسَ يقوى بِهِ ... غير رحيب الذرع والصدر ألق فضول الهمّ عَن جانبٍ ... وافزع إِلَى الله من الْأَمر وَذكر إِسْحَاق الْموصِلِي فِي كتاب شجا أَن فِي الأول مَعَ بَيْتَيْنِ ذكرهمَا غير هَذَا الثَّانِي وَالثَّالِث، لحن من الثقيل الأول، بِإِطْلَاق الْوتر فِي مجْرى البنصر. وَقَالَ آخر: وَمَا التحف الْفَتى بِالصبرِ إِلَّا ... وكفّت عَنهُ أَيدي النائبات

وَذُو الصَّبْر الْجَمِيل يُفِيد عزًّا ... وَيكرم فِي الْحَيَاة وَفِي الْمَمَات وَوجدت بِخَط القَاضِي أبي جَعْفَر بن البهلول التنوخي لبَعض الشُّعَرَاء: الصَّبْر مِفْتَاح مَا يرجّى ... وكلّ خير بِهِ يكون فاصبر وَإِن طَالَتْ اللَّيَالِي ... فربّما طاوع الحرون وربّما نيل باصطبارٍ ... مَا قيل هَيْهَات أَن يكون وَلأبي الْحُسَيْن الأطروش الْمصْرِيّ من أَبْيَات: مَا زلت أدمغ شدّتي بتصبّري ... حَتَّى استرحت من الأيادي والمنن فاصبر على نوب الزَّمَان تكرّمًا ... فكأنّ مَا قد كَانَ مِنْهَا لم يكن حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ؛ حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْحسن الحنطبي، قَالَ: قَالَ هِشَام بن عبد الذمارِي: أثاروا قبرًا بذمار فَأَصَابُوا فِيهِ حجرا مَكْتُوب فِيهِ:

اصبر لدهرٍ نَالَ مِنْك ... فَهَكَذَا مَضَت الدهور فَرح وحزن مرّة ... لَا الْخَوْف دَامَ وَلَا السرُور وَقَالَ آخر: اصبر على الدَّهْر إِن أَصبَحت منغمسًا ... بالضيق فِي لججٍ تهوي إِلَى لجج فَإِن تضايق أَمر عَنْك مرتتجًا ... فاطلب لنَفسك بَابا غير مرتتج لَا تيأسنّ إِذا مَا ضقت من فرجٍ ... يَأْتِي بِهِ الله فِي الروحات والدلج فَمَا تجرّع كأس الصَّبْر معتصمٌ ... بالله إِلَّا أَتَاهُ الله بالفرج وأنشدنيهما أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الهُجَيْمِي بِالْبَصْرَةِ، وَقد أَتَت عَلَيْهِ يَوْمئِذٍ مائَة سنة وَثَلَاث سِنِين، قَالَ: أنشدت لبَعْضهِم: وَجعل أَولهَا: لَا تيأسن، وَالثَّانِي: فَإِن تضايق، وَالثَّالِث: فاصبر على الدَّهْر، وَالرَّابِع فَمَا تجرع. وَقَالَ آخر: وألزمت نَفسِي الصَّبْر فِي كلّ محنةٍ ... فَعَادَت بإحسانٍ وخيرٍ عواقبه وَمن لم ينط بِالصبرِ والرفق قلبه ... يكن غَرضا أودت بنبل جوانبه

وَقَالَ آخر: وإنّي لأغضي مقلتيّ على القذى ... وألبس ثوب الصَّبْر أَبيض أبلجا وإنّي لأدعو الله وَالْأَمر ضيّقٌ ... عليّ فَمَا ينفكّ أَن يتفرّجا وَكم من فَتى سدّت عَلَيْهِ وجوهه ... أصَاب لَهَا فِي دَعْوَة الله مخرجا ولمحمد بن يسير: إنّ الْأُمُور إِذا انسدّت مسالكها ... فالصبر يفرج مِنْهَا كلّما رتجا لَا تيأسنّ وَإِن طَالَتْ مُطَالبَة ... إِذا استعنت بصبر أَن ترى فرجا أخلق بِذِي الصَّبْر أَن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أَن يلجا وَقَرِيب مِنْهُ لمدرك بن مُحَمَّد الشَّيْبَانِيّ على مَا وجدته فِي كتاب: مُسْتَعْمل الصَّبْر مقرونٌ بِهِ الْفرج ... يبْلى فيصبر والأشياء ترتتج حَتَّى إِذا بلغت مَكْنُون غايتها ... جاءتك تزهر فِي ظلمائها السرج فاصبر، وَدم، واقرع الْبَاب الَّذِي طلعت ... مِنْهُ المكاره فالمغرى بِهِ يلج

بقدرة الله فأرض الله وارج بِهِ ... فَعَن إِرَادَته الغمّاء تنفرج وَوجدت فِي نُسْخَة عتيقة من شعر أبي عبد الرَّحْمَن العطوي، هَذِه الأبيات منسوبة إِلَيْهِ، وفيهَا أَلْفَاظ مُخْتَلفَة، فَأَلْحَقْتهَا تَحت الرِّوَايَة الأولى المنسوبة إِلَى مدرك. وَوجدت فِي هَذِه النُّسْخَة لأبي عبد الرَّحْمَن العطوي، أبياتًا مِنْهَا: يَنُوب الْخطب أوّله غليل ... وَآخره شِفَاء من غليل وَكم من خلّة كَانَت إِلَى مَا ... يَجِيش عنانه أهْدى سَبِيل وَكم غادٍ مسيف ضمّ أَهلا ... ومالٍ موبق قبل المقيل وكلّ منيخةٍ بِفنَاء قومٍ ... من الْأَحْدَاث فَهِيَ إِلَى رحيل كلا نجمي صروفٍ الدَّهْر خيرا ... وشرًّا لابسٌ ثوب الأفول وَقَالَ آخر: لقّ الْحَوَادِث تَسْلِيمًا وَلَا ترع ... واصبر فَلَيْسَ بمغنٍ شدّة الْجزع من صَاحب الدَّهْر لَاقَى من تصرّفه ... مَا لَا يَدُوم على يأس وَلَا طمع

حينا يسرّ وَأَحْيَانا يسوء فَلَا ... هَذَا بباقٍ وَلَا هَذَا بمنقطع وَكتب إِلَيّ أَبُو أَحْمد عبد الله بن عمر بن الْحَارِث الْمَعْرُوف بالحارثي، جَوَابا، قصيدة مِنْهَا: قلّ من سرّه رضى الدَّهْر إِلَّا ... سَاءَهُ سخطه بِمَا لَا يُطَاق وَكَذَا عَادَة الزَّمَان شتات ... والتئامٌ وإلفةٌ وافتراق وَلأبي أَحْمد يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، إِلَى أبي عَليّ مُحَمَّد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقَان لما ولي الوزارة، من أَبْيَات: لقد كذبت فِيك العدوّ ظنونه ... وَقد صدقت فِيك الصّديق المواعيد وَقد تحسن الأيّام بعد إساءةٍ ... وَإِن كَانَ فِي الْأَمر المؤجّل تبعيد

وأنشدني بعض شعراء قُرَيْش، وَهُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحسن الجُمَحِي من أهل الباين، بلد قريب من سيراف، لأبي صَخْر الْهُذلِيّ، وَقَالَ لي: فِيهِ لحن من الرمل مزموم قديم: بيد الَّذِي شغف الْفُؤَاد بِهِ ... فرج الَّذِي ألْقى من الهمّ كربٌ بقلبي لَيْسَ يكشفه ... إِلَّا مليكٌ عَادل الحكم وَلأبي تَمام الطَّائِي: أآلفة النحيب كم افتراقٍ ... أظلّ فَكَانَ دَاعِيَة اجْتِمَاع وَلَيْسَت فرحة إِلَّا وَجَاءَت ... لموقوف على ترح الْوَدَاع وأنشدني أَحْمد بن الْحسن بن سخت الْبَغْدَادِيّ، وَيعرف بالجصاص، وبابن بنت هرثمة، قَالَ: أنشدنا أَحْمد القطربلي، وغنانا فِيهِ، وَهُوَ من أَبْيَات ذكرهَا ابْن بنت هرثمة: ولله لطفٌ يرتجى ولعلّه ... سيعقبنا من كسر أَيدي النَّوَى جبرا وَقَالَ آخر:

وربّ أَمر مرتج بَابه ... عَلَيْهِ أَن فتح أقفال ضَاقَتْ بِذِي الْحِيلَة فِي فَتحه ... حيلته والمرء محتال ثمَّ تلقّته مفاتيحه ... من حَيْثُ لَا يخطره البال ولعبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر، من أَبْيَات، جَوَابا: دَعَوْت مجيبًا يَا أَبَا الْفضل سَامِعًا ... وَيَا رب مدعوّ وَلَيْسَ بسامع فأوقعت شكواك الزَّمَان وَصَرفه ... إِلَيْهِ بحقّ فِي أحقّ المواقع فصبرًا قَلِيلا كلّ هَذَا سينجلي ... وَيدْفَع عَنْك السوء أقدر رَافع فَمَا ضَاقَ أمرٌ قطّ إِلَّا وجدته ... يؤول إِلَى أَمر من الْخَيْر وَاسع ولمحمد بن حَازِم الْبَاهِلِيّ: إِذا نابني خطبٌ فزعت لكشفه ... إِلَى خالقي من دون كلّ حميم وإنّ من اسْتغنى وَإِن كَانَ مُعسرا ... على ثقةٍ بالله غير ملوم أَلا ربّ عسرٍ قد أَتَى الْيُسْر بعده ... وغمرة كرب فرّجت لكظيم هُوَ الدَّهْر يومٌ يَوْم بؤسٍ وشدّةٍ ... وَيَوْم سرورٍ للفتى ونعيم وَله: أَلا ربّ أمرٍ قد تربت وحاجةٍ ... لَهَا تَحت أحناء الضلوع غليل فَلم تلبث الْأَيَّام أَن عَاد عسرها ... ليسرٍ وَنجم والأمور تحول

وَقَالَ آخر: اصبر على مضض الزَّمَان ... وَإِن رمى بك فِي اللجج فلعلّ طرفك لَا يعود ... إِلَيْك إِلَّا بالفرج وَقَالَ آخر: كن لما لَا ترجو من الْأَمر أَرْجَى ... مِنْك يَوْمًا لما لَهُ أَنْت راجي إنّ مُوسَى مضى ليقبس نَارا ... من شُعَاع أَضَاء وَاللَّيْل داجي فانثنى رَاجعا وَقد كلّم الله ... وناجاه وَهُوَ خير مناجي وَكَذَا الْأَمر حِين يشتدّ بِالْمَرْءِ ... مؤدّ لسرعة الإنفراج حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر بن داسه الْبَصْرِيّ، بهَا، قَالَ: حَدثنَا أَبُو حَاتِم الْمُغيرَة بن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بشر مُحَمَّد بن خَالِد البَجلِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو فَزَارَة العكلي، عَن الْقَاسِم بن معن المَسْعُودِيّ، قَالَ: أُتِي الْحجَّاج بِعَبْد الله بن وهيب النَّهْدِيّ، فَقَالَ لَهُ: أَنْت الْقَائِل؟ فيا صَاحِبي رحلي عَسى أَن أراكما ... كَمَا كنتما إنّ الزَّمَان يَنُوب فَلَا تيأسا من فرحة بعد ترحة ... وللدهر أمرٌ حادثٌ وخطوب سيرحمنا مولى شعيبٍ وصالحٍ ... وأرحامنا ندلي بهَا فتخيب وَذكر بَقِيَّة الشّعْر وَالْخَبَر.

أَنْشدني أَبُو الْعَبَّاس هبة الله بن مُحَمَّد بن يُوسُف بن يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، لجده أبي أَحْمد يحيى بن عَليّ، من قصيدة: خَافَ من فقرٍ تعجّله ... والغنى أولى بمنتظره لَيْسَ منكورًا وَلَا عجبا ... أَن يعود المَاء فِي نهره قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: الْبَيْت الأول كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من قَول الله عز وَجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} [الْبَقَرَة: 268] ، وَالثَّانِي: من الْمثل الْمَشْهُور على أَلْسِنَة الْعَامَّة. وَكتب أَبُو عَليّ بن مقلة، فِي نكبته، إِلَى زنجي الْكَاتِب، رقْعَة يشكو فِيهَا عظم محنته، وَيَقُول: إِن فرط يأسه من زَوَالهَا، قد كَاد يتْلف نَفسه. فَكتب إِلَيْهِ زنجي، فِي جملَة الْجَواب: أَلا أيّها الشاكي الَّذِي قَالَ مفصحًا ... لقد كَاد فرط الْيَأْس أَن يتْلف المهج رويدك لَا تيأس من الله واصطبر ... عَسى أَن يوافينا على غَفلَة فرج

وأنشدني أَبُو الْفرج المَخْزُومِي، الْمَعْرُوف بالببغاء، لنَفسِهِ: صبرت وَلم أَحْمد على الصَّبْر شيمتي ... لأنّ مآلي لَو جزعت إِلَى الصَّبْر ولله فِي أثْنَاء كلّ ملمّةٍ ... وَإِن آلمت، لطفٌ يحضّ على الشُّكْر وَكم فرجٍ واليأس يحجب دونه ... أَتَاك بِهِ الْمَقْدُور من حَيْثُ لَا تَدْرِي وأنشدني مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر الْكَاتِب لنَفسِهِ: مَا قادني طمع يَوْمًا إِلَى طبعٍ ... وَلَا ضرعت إِلَى خلقٍ من الْبشر وَلَا اعتصمت بِحَبل الصَّبْر مُعْتَمدًا ... على الْمُهَيْمِن إِلَّا فزت بالظفر وأنشدني الوحيد لنَفسِهِ: إنّي وَإِن عصبت بالعيش نائبةٌ ... فسبّطتني بَين الْيَأْس والطمع لَا أستدمّ إِلَى صَبر أجرّعه ... وَلَا أسرّ زمَان السوء بالجزع

وأنشدني أَبُو الْفرج المَخْزُومِي الْمَعْرُوف بالببغاء، لنَفسِهِ: لَا تستكن لطوارق النوب ... والق الخطوب بِوَجْه محتسب فدنوّ مَا ترجوه من فرجٍ ... يَأْتِي بِحَسب تكاثف الكرب كم خائفٍ من هلكة سَببا ... نَالَ النجَاة بذلك السَّبَب وأنشدني أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن الْحسن بن المظفر، الْمَعْرُوف بالحاتمي، لنَفسِهِ: من صَاحب الصَّبْر اقتدر ... أولى بفوزٍ من صَبر إِن ساءك الزَّمَان سرّ ... الصَّبْر عنوان الظفر وَلغيره: كم نكبةٍ فِي حشاها نعْمَة ويدٍ ... لله يُنجي بهَا من هول مطّلع وَكم فزعت إِلَى الأيّام ثمَّ أَتَت ... تمدّ أيديها نحوي من الْفَزع إِذا بَدَت نكبةٌ فالحظ أواخرها ... تنظر إِلَى فرج للكرب متّسع وقريء على حَائِط مَكْتُوب: يَا معمل الوجناء بالهجر ... وقاطع السبسب والقفر وهاربًا من زمنٍ جائرٍ ... يجني الملمّات على الحرّ

اصبر فَمَا استشفعت فِي مطلبٍ ... لسامعٍ خيرا من الصَّبْر وَابْشَرْ فإنّ الْيُسْر يَأْتِي الْفَتى ... أقنط مَا كَانَ من الْيُسْر وأنشدني سعد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالوحيد، لنَفسِهِ: لَا يوحشنّك من جميل تصبّرٍ ... خطبٌ فإنّ الصَّبْر فِيهِ أحزم الْعسر أكْرمه ليسرٍ بعده ... وَلأَجل عين ألف عين تكرم لم تشك منّي عسرة ألبستها ... لؤمًا وَلَا خورًا على مَا تحكم الْمَرْء يكره بؤسه ولعلّه ... تَأتيه مِنْهُ سَعَادَة لَو يعلم وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ: كَانَت إِلَيْك من الْحَوَادِث زلّة ... فاصبر لَهَا فلعلّها تستنفر إنّا لنمتهن الخطوب بصبرنا ... والخطب ممتهنٌ لمن لَا يصبر ولربّ ليلٍ بتّ فِيهِ بكربةٍ ... وَغدا بفرحتها الصَّباح الأنور وَقَالَ آخر: أدّبتني طوارق الْحدثَان ... فتجافيت عَن ذنُوب زماني كَيفَ أَشْكُو من الزَّمَان صروفًا ... أظهرت لي جَوَاهِر الإخوان

فتبيّنت مِنْهُم الْخَيْر والشرّ ... وَأهل الْوَفَاء والخذلان وتوكّلت فِي أموري على الله ... اللّطيف الْمُهَيْمِن المنّان وتيقّنت أنّه سَوف يَكْفِينِي ... خطوب الدهور والأزمان ثمَّ يمحو باليسر عسرًا وبالنعمة ... ضرًّا كَمَا أَتَى فِي الْقُرْآن إِن تصبّرت وانتظرت غياث ... الله وافى كاللّمح بالأجفان هُوَ عوني فِي كلّ خطب ملمٍّ ... عدمت فِيهِ نصْرَة السُّلْطَان ورجائي إِن خَابَ منّي رجائي ... فِي جَمِيع الإخوان والخلان وَقَالَ آخر: إِن أكن خبت إِن سَأَلت فَمَاذَا ... لَك فِي مطلب الْكَرِيم بِعَارٍ يحرم اللَّيْث صَيْده وَهُوَ مِنْهُ ... بَين حدّ الأنياب والأظفار ويزلّ السهْم السديد عَن الْقَصْد ... وَمَا تِلْكَ زلّة الإسوار لَيْسَ كلّ الأقطار تروى من الْغَيْث ... وَإِن عمّها بصوب القطار إِن يخنّي رشاء دلوي فقد ... أحكمت إكرابه بِعقد مغار أَو يعد فَارغًا إليّ فَمَا ... ألقيت إِلَّا إِلَى الْمِيَاه الغزار إِن أَسَاءَ الزَّمَان لي فَلَقَد ... أَحْسَنت صبرا وَمَا أَسَاءَ اخْتِيَاري وَعَسَى فُرْجَة تفتّح نحوي ... نَاظر النَّصْر بعد طول انْتِظَار مَا لقِيت الْإِعْسَار بِالصبرِ إِلَّا ... بشّرتني وجوهه باليسار

وللقاضي أبي الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْفَهم التنوخي من قصيدة: صبرا فَسَوف تحقّق الآمال ... وتحول عمّا ساءنا الْأَحْوَال إِن كَانَ قد ظفر الصدود بوصلنا ... فلسوف يظفر بالصدود وصال فالدهر لَا يبْقى على حدثانه ... ولكلّ شَيْء نقلة وَزَوَال وَله من قصيدة قَالَهَا فِي الحداثة: إِن سَاءَ يومٌ من الأيّام سرّ غدٌ ... أَو سدّ بَاب سبيلٍ فتّحت سبل وَهَكَذَا الدَّهْر ألوانًا تصرّفه ... بالشرّ وَالْخَيْر يجْرِي حِين ينْتَقل وَأنْشد سعد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ الْمَعْرُوف بالوحيد الْبَصْرِيّ لنَفسِهِ: بَين البلاءين فرق صرفه نعم ... غرٌّ وَبَعض الظما خير من الرنق وَفِي الخطوب إِذا أَلْقَت كلاكلها ... صنعٌ عوائده الْإِمْسَاك للرمق كم موثقٍ مدّ عنقًا نَحْو ضاربه ... بصارم كشعاع الشَّمْس مؤتلق حَتَّى أَتَى فرج بعد الْقنُوط لَهُ ... حَالَتْ يميناه بَين السَّيْف والعنق وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ: يراع الْفَتى للخطب تبدو صدوره ... فيأسى وَفِي عقباه يَأْتِي سروره

ألم تَرَ أنّ اللَّيْل لمّا تراكمت ... دجاه بدا وَجه الصَّباح ونوره فَلَا تصحبنّ الْيَأْس إِن كنت عَالما ... لبيبًا فإنّ الدَّهْر شتّى أُمُوره وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ: أتحسب أنّ الْبُؤْس للمرء دائمٌ ... وَلَو دَامَ شَيْء عدّه النَّاس فِي الْعجب لقد عرّفتك الحادثات نفوسها ... وَقد أدّبت إِن كَانَ ينفعك الْأَدَب وَلَو طلب الْإِنْسَان من صرف دهره ... دوَام الَّذِي يخْشَى لأعياه مَا طلب ولمحمد بن غياث: خبوّ النَّجْم يَتْلُو اشتعالٌ ... وَنقص الْبَدْر يُؤذن بالتمام وأكمل مَا تكون الشَّمْس حسنا ... إِذا رفعت لَهَا سجف الْغَمَام وللقاسم بن يُوسُف الْكَاتِب، من قصيدة: فَإِن تفقدوا يومكم نعْمَة ... فَفِي غدكم نعْمَة زَائِدَة

عَسى أَن تَدور صروف الزَّمَان ... بِحسن الْخلَافَة والعائدة ولإبراهيم بن الْمهْدي وَهُوَ فِي استتاره من الْمَأْمُون، قصيدة، مِنْهَا: ولله نَفسِي إنّ فيّ لعبرة ... وَفِي الدَّهْر نقض للعرى بعد إبرام غَدَوْت على الدُّنْيَا مليكًا مسلّطًا ... ورحت وَمَا أحوي بهَا قيس إِبْهَام وَهل لَيْلَة فِي الدَّهْر إِلَّا أرى بهَا ... قد أثبت أقدامًا وزلّ بأقدام كَذَاك رَأينَا الدَّهْر يقدم صرفه ... على كلّ نفسٍ بَين بؤسٍ وإنعام فيرفع أَقْوَامًا وَكَانُوا أذلّة ... ويهوي من الصَّيْد الْكِرَام بِأَقْوَام فيسقيهم شربين سخنًا وباردًا ... بكأسين شتّى من هوان وإكرام وكائن ترى من معدمٍ بعد ثروة ... وَآخر يُؤْتى ثروةً بعد إعدام وَله فِي هَذَا الاستتار قصيدة مِنْهَا: سُبْحَانَ مقتدرٍ ملك السَّمَاء لَهُ ... وَالْأَرْض يملك أَعْلَاهَا وأسفلها يختصّ من نعمٍ من شَاءَ من بشرٍ ... بِمَا يَشَاء وعمّن شَاءَ حوّلها أضحت حياتك فِي بؤس تكابده ... بعد النَّعيم كَذَاك الدَّهْر بدّلها عدمت بَاقِي حَيَاة قد شجيت بهَا ... فَمَا على الْجهد أبقاها وأطولها

فِي فَتْرَة من مرير الْعَيْش مفظعة ... قد كنت من قبل ريب الدَّهْر أجهلها حَتَّى إِذا هِيَ حلّت بِي أعترضت لَهَا ... صبرا عَلَيْهَا فإنّي لست أحفلها مستنظرًا نعْمَة لَا شَيْء يحجبها ... عَن الْعباد إِذا الرَّحْمَن أرسلها فربّ مسهلة فِي الأَرْض صعّبها ... وصعبة مِنْهُ ولّت حِين سهّلها لكنّ فِي ثنيها تَأتي حوادث لَو ... لَا الله مِنْهَا لفاضت مهجتي وَلها وَقَالَ آخر: إنّي لأعْلم أنّ حبّك قاتلي ... وَالنَّفس تفرق أَن يحلّ بهَا الردى لَا تيأسنّ فقد يفرّق دائبًا ... شَمل الْجَمِيع وَيجمع المتبدّدا وَعَسَى اللَّيَالِي بالوصال رواجعٌ ... فَيَعُود دهري مصلحًا مَا أفسدا وَقَالَ آخر: اصبر سينكشف القناع ... إنّ الْأُمُور لَهَا انْقِطَاع

وَلها من الْفرج اتّساع ... ولكلّ مَا ارْتَفع اتّضاع وَإِذا تضايقت الْأُمُور ... تَلا تضايقها اتّساع حَدثنِي أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ، الْمَعْرُوف بِأبي عمر بن نيزك الْعَطَّار، الشَّاعِر، قَالَ: بت لَيْلَة، حرج الصَّدْر، ضيقه، فَرَأَيْت فِي مَنَامِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب سَلام الله عَلَيْهِ، وَهُوَ ينشدني أبياتًا فِي الْفرج، فانتبهت وَلم يبْق فِي حفظي مِنْهَا إِلَّا قَوْله: وَحميد مَا يرجوه ذُو أملٍ ... فرجٌ يعجلّه لَهُ صَبر وَلأبي الْحُسَيْن بن أبي الْبَغْل الْكَاتِب: إِلَى الله أَشْكُو مَا أُلَاقِي من الْأَذَى ... وحسبي بالشكوى إِلَيْهِ تروّحا هُوَ الفارج الغمّاء بعد اشتدادها ... ومعقب عسر الْأَمر يسرا ومسرحا أَطَالَ يَدي بعد المذلّة فأعتلت ... ودافع عنّي مَا كرهت وزحزحا لَئِن عرضت لي نكبة بعد أنعمٍ ... توالت ففاتت أَن تعدّ وتشرحا فَمَا أَنا من تَجْدِيد صنعٍ بيائسٍ ... وَلَا كَانَ، ممّا كَانَ، إِذْ كَانَ، أصلحا وَمَا يقف الْإِنْسَان فِي طيّ دهره ... كمرّ اللَّيَالِي مسعفاتٍ وجنّحا

وَله: إِن كَانَ هَذَا الْأَمر قد سَاءَنِي ... لطال مَا قد سرّني الدَّهْر وَالْأَمر فِي مَعْنَاهُمَا واحدٌ ... لذاك شكرٌ وَلذَا صَبر حَتَّى أرى الأقدار قد فرّجت ... وكلّ عسرٍ فَلهُ يسر وَله: إِن يَأْذَن الله فِيمَا بتّ آمله ... أَتَى النجاح حَدِيثا غير مطلول مَا لي سوى الله مأمولٌ لنائبةٍ ... والله أكْرم مأمولٍ وَمَسْئُول وَله: حزنت وَذُو الأحزان يحرج صَدره ... أَلا ربّ حزنٍ جَاءَ من بعده فرج كأنّك بالمحبوب قد لَاحَ نجمه ... وَذي الْعسر من بَين المضايق قد خرج وَلابْن الرُّومِي: لعلّ اللَّيَالِي بعد شحطٍ من النَّوَى ... ستجمعنا فِي ظلّ تِلْكَ المآلف نعم إنّ للأيّام بعد انصرافها ... عواطف من إحسانها المتضاعف

وَله: لكلّ خيرٍ وشرّ ... دون العواقب غيب وربّ جِلْبَاب همّ ... لَهُ من الصنع جيب وأنشدني أَبُو عَليّ أَحْمد بن الْمَدَائِنِي بالهائم الراوية، وَلم يعرف قَائِله: أَقُول قَول حكيمٍ ... فاعرف بفهمك شَرحه كم فرجةٍ إِثْر ضيقٍ ... وفرحةٍ بعد ترحه فالعسر يعقب يسرا ... والهمّ يكْسب فرحه والعيش فَاعْلَم ثَلَاث ... غنى، وَأمن، وصحّه ولمؤلف هَذَا الْكتاب: قل لمن أودى بِهِ التَّرَحِ ... كلّ غمّ بعده فَرح لَا تضق ذرعًا بنازلةٍ ... وأرمها بِالصبرِ تنفسح غالط الأيّام مُجْتَهدا ... كلّ مَا قد حلّ منتزح وأزح بِالرَّاحِ طارقها ... فجلاء الْكُرْبَة الْقدح وألق بالمزج المريح أَذَى ... حدّها إِن شِئْت تسترح

وَوجدت بِخَط عبيد الله بن أَحْمد الْكَاتِب، النَّحْوِيّ، الملقب بجخجخ: أنشدنا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أنشدنا عبد الرَّحْمَن ابْن أخي الْأَصْمَعِي، عَن عَمه للنابغة الشَّيْبَانِيّ: وكائن ترى من ذِي هموم ففرّجت ... وَذي غربَة عَن دَاره سيئوب وَهُوَ من أَبْيَات، لَا يذكر بَاقِيهَا مؤلف هَذَا الْكتاب. ولبعض الشُّعَرَاء: لَا يرعك الشرّ إِن ظَهرت ... بتهاويل مخايله ربّ أَمر سرّ آخِره ... بَعْدَمَا ساءت أَوَائِله ولكشاجم من قصيدة: لَيْسَ إِلَّا تيقّني أنّ إِيرَاد ... اللَّيَالِي من بعده إصدار

ووراء الأسى سرورٌ وَبعد ... الْعسر يسرٌ وَتَحْت ليلٍ نَهَار وَأَخْبرنِي الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن سعيد الدِّمَشْقِي، أَن الزبير حَدثهُ، قَالَ: أَنْشدني إِسْحَاق، قَالَ: أَنْشدني الْفضل بن الرّبيع: فَلَا تجزع وَإِن أعسرت يَوْمًا ... فقد أَيسَرت فِي الزَّمن الطَّوِيل وَلَا تَظنن بربّك ظنّ سوءٍ ... فإنّ الله أولى بالجميل قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَقد رويت فِي الْجُزْء الأول مِنْهُ، فِي أَخْبَار وَجب أَن تكْتب هُنَاكَ، مَا رُوِيَ من أَن هَذِه الأبيات للحسين بن عَليّ بن أبي طَالب سَلام الله عَلَيْهِمَا، وَمَا رُوِيَ أَيْضا إنَّهُمَا لجَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِم السَّلَام. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن وهيب الْحِمْيَرِي، قصيدة أَولهَا:

هَل الهمّ إِلَّا فُرْجَة تتفرّج ... لَهَا معقب يحدي إِلَيْهَا ويزعج أَبى لي إغضاء الجفون على القذى ... يقيني بِأَن لَا عسر إِلَّا مفرّج أخطّط فِي ظهر الْحَصِير كأنّني ... أَسِير يخَاف الْقَتْل والهمّ يفرج وَيَا ربّما ضَاقَ الْقَضَاء بأَهْله ... وَأمكن من بَين الأسنّة مخرج وَله أَيْضا: أجارتنا إنّ التعفّف بالياس ... وصبرًا على استدرار دنيا بإبساس جديران أَن لَا يبدءا بمذلّةٍ ... كَرِيمًا وَأَن لَا يحوجاه إِلَى النَّاس ولي مقلةٌ تَنْفِي القذى عَن جفونها ... وَتَأْخُذ من إيحاش دهرٍ بإيناس أجارتنا إنّ القداح كواذبٌ ... وَأكْثر أَسبَاب النجاح مَعَ الياس وللنابغة الذبياني من قصيدة: فَلَا تحسبنّ الْخَيْر لَا شرّ بعده ... وَلَا تحسبنّ الشرّ ضَرْبَة لازب وأنشدني عَليّ بن مُحَمَّد السّري الْهَمدَانِي، وَكتبه لي بِخَطِّهِ، قَالَ: أنشدنا

عَليّ بن سُلَيْمَان الْأَخْفَش، قَالَ: أَنْشدني الأول عَن ابْن الْأَعرَابِي، لبَعض شعراء تنوخ: أَلا لَا تموتنّ اغتمامًا وحسرةً ... وهمًّا إِذا مَا سارح الْقطر أجدبا وصبرًا فإنّ الجدب لَيْسَ بدائم ... كَمَا لم يدم عشب لمن كَانَ معشبا وجدت فِي كتاب الأبيات السائرة، لعيينة بن الْمنْهَال، قَالَ جبلة العذري: قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: هُوَ جبلة بن حُرَيْث العذري، من عذرة، وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات لَا يتَعَلَّق بكتابي مِنْهَا إِلَّا مَا ذكرته: استقدر الله خيرا وارضينّ بِهِ ... فَبَيْنَمَا الْعسر إِذْ دارت مياسير وَفِي غير هَذَا الْكتاب، لبَعض الشُّعَرَاء:

أما علمت بأنّ الْعسر يتبعهُ ... يسرٌ كَمَا الصَّبْر مقرون بِهِ الْفرج وَقَالَ آخر: إِذا مَا الْبَين أحرجني ... فَلَيْسَ على النَّوَى حرج دعِي لومي على صلتي ... سيقطع بَيْننَا حجج سأركب كلّ مظْلمَة ... أفرّجها فتنفرج غَدا للبين موعدنا ... فإنّ إِلَى غدٍ فرج وَقد بَلغنِي على وَزنهَا، وإعرابها، وقافيتها، أَبْيَات لأبي مُحَمَّد الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِم السَّلَام، وَهِي: دنا التهجير والدلج ... وقصدي للمنى لحج ولي همٌّ يؤرّقني ... عليّ لبحره لجج أطاف عليّ فِي وضحٍ ... عَلَيْهِ من البلا نهج أَقُول لنَفس مكتئبٍ ... عَلَيْهِ من الردى ثبج رضَا، مَا دمت سَالِمَة ... فإنّ الْعَيْش مندمج

وَلَا تستحقبي شبها ... فَرَحَّبَ الحقّ منبلج وزور القَوْل منمحقٌ ... إِذا دارت بِهِ الْحجَج وعاذلةٍ تعاتبني ... وجنح اللَّيْل معتلج فَقلت: رويد معتبتي ... لكلّ ملمّة فرج ذَرِينِي خلف قاضية ... تضايق بِي وتنفرج أسرّك أَن أكون رفعت ... حَيْثُ الْأَمر والمهج وأنّي بتّ يصهرني ... بحرّ جهنمٍ وهج فَأدْرك مَا قصدت بِهِ ... وَيبقى الْعَار والحرج إِذْ أكدت حبائله ... فلي فِي الأَرْض منعرج وَوجدت كتابا قد جمع فِيهِ شعر صَاحب الزنج، الْخَارِج بِالْبَصْرَةِ، نسب إِلَيْهِ فِيهِ من هَذَا الشّعْر سِتَّة أَبْيَات، أَولهَا: وعاذلة تعاتبني. وَأَخْبرنِي أبي، أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْفَهم التنوخي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر يَمُوت بن المزرع بن يَمُوت بن مُوسَى الْعَبْدي الْبَصْرِيّ، وَكَانَ ابْن أُخْت الجاحظ، قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدثنَا قبيصَة بن حَاتِم المهلبي، عَن أَبِيه، قَالَ: كتب حَفْص بن عمر هزارمرد إِلَى

الْمَنْصُور، يُخبرهُ بِأَنَّهُ وجد فِي بعض خانات المولتان بِبِلَاد الْهِنْد، مَكْتُوبًا: يَقُول عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب سَلام الله عَلَيْهِم، انْتَهَيْت إِلَى هَذَا الْموضع، بعد أَن مشيت حَتَّى انتعلت الدِّمَاء، وَأَنا أَقُول: عَسى مشربٌ يصفو فيروي ظماءةً ... أَطَالَ صداها المشرب المتكدّر عَسى بالجنوب العاريات ستكتسي ... وَذي الغلبات المستذلّ سينصر عَسى جَابر الْعظم الكسير بِلُطْفِهِ ... سيرتاح للعظم الكسير فَيجْبر عَسى صورًا أَمْسَى لَهَا الْجور دافنًا ... يتاح لَهَا عدلٌ يَجِيء فتظهر عَسى الله، لَا تيأس من الله، إنّه ... يهون عَلَيْهِ مَا يجلّ وَيكبر فَكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور: قَرَأت كتابك، والأبيات، وَأَنا وَعبد الله، وَأَهله، كَمَا قيل: نحاول إذلال الْعَزِيز لأنّه ... رمانا بظلمٍ واستمرّت مرائره

فَإِن بلغك لعبد الله خبر، فأعطه الْأمان، وَأحسن إِلَيْهِ. وَأَخْبرنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي الحرمي، قَالَ: حَدثنِي إِسْحَاق بن مُحَمَّد النَّخعِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن المهلبي، عَن عَمه، قَالَ: كتب حَفْص بن عمر، أَو قَالَ عمر بن حَفْص هزارمرد، إِلَى الْمَنْصُور، فَذكر مثله، إِلَّا أَنه لم يَأْتِ بِالْبَيْتِ الَّذِي أَوله: عَسى صورًا. . وَأَخْبرنِي أبي، قَالَ: وجدت بِخَط أبي يعلى، وَكَانَ عَالما بِأُمُور الطالبيين وأخبارهم وأنسابهم، وأشعارهم، أبياتًا للقاسم بن إِبْرَاهِيم، أَولهَا: يُقَابل هَذَا أيّها المتحيّر ... وَإِن قَالَ فِيك الْقَائِلُونَ فَأَكْثرُوا وَقد أضيفت إِلَى هَذِه الأبيات. وَقد ذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن، هَذَا الْخَبَر فِي كِتَابه، بِغَيْر إِسْنَاد، على نَحْو هَذِه الرِّوَايَات إِلَّا أَنه زَاد شَيْئا، فَقَالَ: حَدثنِي أبي، قَالَ: رُوِيَ لنا عَن الْعُتْبِي، قَالَ: حَدثنِي بعض مَشَايِخنَا، قَالَ: أتيت السَّنَد، فَدخلت خَانا، فَإِنِّي لأدور فِيهِ، إِذْ قَرَأت كتابا فِي بعض بيوته: يَقُول عَليّ بن مُحَمَّد. . . . وَذكر الْقِصَّة، والأبيات الْخَمْسَة، وَلم يذكر مَا كتب بِهِ إِلَى الْمَنْصُور، وَلَا جَوَابه، وَقَالَ فِي آخِره: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث بعض أَوْلَاد البختكان، فَقَالَ لي:

كنت عَاملا بِالشَّام، على السراة، فَدخلت كَنِيسَة فِيهَا لِلنَّصَارَى، مَوْصُوفَة، أنظر إِلَيْهَا، فَإِذا بَين التصاوير مَكْتُوب: يَقُول صَالح بن عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس، نزلت هَذِه الْكَنِيسَة يَوْم كَذَا من شهر كَذَا من سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَة، وَأَنا مكبل بالحديد مَحْمُول إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ هِشَام، وَأَنا أَقُول: مَا أنسدّ بابٌ وَلَا ضَاقَتْ مذاهبه ... إِلَّا أَتَانِي وشيكًا بعده الْفرج قَالَ: وَكَانَ بَين ذَلِك، وَبَين أَن نزل صَالح بن عَليّ، على تِلْكَ الْكَنِيسَة بِعَينهَا لمحاربة مَرْوَان بن مُحَمَّد، أَربع عشرَة سنة. وروى القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، عَن صديق لَهُ أنْشدهُ: إنّي رَأَيْت مغبّة الصَّبْر ... تُفْضِي بصاحبها إِلَى الْيُسْر لَا بدّ من عسرٍ وَمن يسرٍ ... بهما تَدور دوائر الدَّهْر وكما يلذّ الْيُسْر صَاحبه ... فكذاك فليصبر على الْعسر وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، قَالَ: وجد فِي عذبة سيف أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب، سَلام الله عَلَيْهِ وتحياته، رقْعَة فِيهَا: غنى النَّفس يَكْفِي النَّفس حَتَّى يكفّها ... وَإِن أعسرت حَتَّى يضرّ بهَا الْفقر

فَمَا عسرة فاصبر لَهَا إِن لقيتها ... بدائمة حَتَّى يكون لَهَا يسر وَمن لم يُقَاس الدَّهْر لم يعرف الأسى ... وَفِي غير الأيّام مَا وعد الدَّهْر وَأنْشد فِي كِتَابه: وَمَا الدَّهْر إِلَّا مَا ترَاهُ فموسرٌ ... يصير إِلَى عسرٍ وَذُو فاقة يثري وَأنْشد فِي كِتَابه أَيْضا، وَوجد فِي بعض كتبي عَن ابْن دُرَيْد، قَالَ: أنشدنا الْعَبَّاس بن الْفرج الرياشي، وَلم يسم قَائِلا: لعمرك مَا كلّ التعطّل ضائر ... وَلَا كلّ شغل فِيهِ للمرء منفعه إِذا كَانَت الأرزاق فِي الْقرب والنوى ... عَلَيْك سَوَاء فاغتنم لذّة الدعه وَإِن ضقت يَوْمًا يفرج الله مَا ترى ... أَلا ربّ ضيق فِي عواقبه سعه وأنشدني فِي كِتَابه أَيْضا، لأبي يَعْقُوب الخريمي: يَقُولُونَ صبرا، والتصبّر شيمتي ... ألم تعلمُوا أنّ الْكَرِيم صبور هَل الدَّهْر إِلَّا نكبة وسلامة ... وَإِلَّا فبؤس مرّة وحبور

وأنشدني القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، عَن صديق لَهُ، وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء يتَمَثَّل بِهِ: وكلّ كرب وَإِن طَالَتْ بليّته ... يَوْمًا تفرّج غمّاه فتنكشف وَأنْشد أَيْضا فِي كِتَابه، وَلم يسم قَائِلا: مِفْتَاح بَاب الْفرج الصَّبْر ... وكلّ عسرٍ بعده يسر والدهر لَا يبْقى على حالةٍ ... وكلّ أَمر بعده أَمر وَالْكرب تفنيه اللَّيَالِي الَّتِي ... أَتَى عَلَيْهَا الْخَيْر والشرّ حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا ابْن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني أَحْمد بن يحيى، قَوْله: مِفْتَاح بَاب الْفرج الصَّبْر ... وكلّ عسرٍ مَعَه يسر وَذكر الأبيات، إِلَّا أَنه قَالَ فِي الثَّانِي: وَالْأَمر يَأْتِي بعد الْأَمر، وَقَالَ فِي الثَّالِث: يفنى عَلَيْهَا الْخَيْر وَالشَّر، وَزَاد فِيهَا رَابِعا، وَهُوَ: وَكَيف تبقى حَال من حَاله ... يسْرع فِيهَا النَّفْع والضرّ

قَالَ القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه: كَانَ بعض إخْوَانِي يتَمَثَّل كثيرا بِبَيْت لهدبة، وَهُوَ: عَسى الكرب الَّذِي أمسيت فِيهِ ... يكون وَرَاءه فرج قريب قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وَتَمام هَذَا الشّعْر: فَيَأْمَن خائفٌ ويفكّ عانٍ ... وَيَأْتِي أَهله النائي الْغَرِيب وَقد ذكرتهما فِيمَا تقدم من كتابي هَذَا، فِي قصَّة يَعْقُوب بن دَاوُد، لما أطلقهُ الرشيد، ثمَّ وجدتهما مَعَ بَيْتَيْنِ آخَرين، فِي غير هَذَا الْمَعْنى، فِي كتاب الْأَمْثَال، لعيينة بن الْمنْهَال، فَقَالَ: قَالَ هدبة بن الخشرم: فَذكر الْبَيْتَيْنِ، مَعَ بَيْتَيْنِ غَيرهمَا، ليسَا فِي هَذَا الْمَعْنى، وهما: فيا لَيْت الرِّيَاح مسخّرات ... بحاجتنا تصبّح أَو تؤوب فتخبرنا الشمَال إِذا أتتنا ... وتخبر أهلنا عنّا الْجنُوب وَذكر أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ، فِي كِتَابه الْمُجَرّد، فِي الأغاني، أَن فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ، لحنين: هزجًا، وخفيف رمل، لعريب. وروى القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، لناجم الْبَصْرَة، يَعْنِي الخائن صَاحب الزنج:

الْحَمد لله شكرا لَا انْقِضَاء لَهُ ... إنّ الزَّمَان لذُو جمعٍ وتفريق قد ينْقل الْمَرْء من ضيق إِلَى سَعَة ... ويسلس الْأَمر يَوْمًا بعد تعويق والدهر يَأْتِي على كلٍّ بأجمعه ... وَلَيْسَ من سعةٍ تبقى وَلَا ضيق وَذكر القَاضِي أَبُو الْحُسَيْن فِي كِتَابه، وَلم ينْسبهُ إِلَى أحد: أَلا فاصطبر مَا دَامَ فِي النَّفس مسكةٌ ... عَسى فرج يَأْتِي بِهِ الله فِي غَد وإنّ امْرأ ربّ السَّمَاء وَكيله ... حريٌّ بِحسن الظنّ غير مبعّد قَالَ مؤلف هَذَا الْكتاب: وأنشدنيه مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يحيى بن عَليّ بن يحيى المنجم، فَجعل أَوله: سأصبر مَا دَامَت بنفسي مسكةٌ وَقَالَ لي: إِن فِيهَا لحنًا قَدِيما من الثقيل الثَّانِي، يُغْنِيه.

وَأنْشد أَبُو الْحُسَيْن القَاضِي فِي كِتَابه، وَلم يسم قَائِلا: خلقان لَا أرْضى فعالهما ... تيه الْغنى ومذلّة الْفقر فَإِذا غنيت فَلَا تكن بطرًا ... وَإِذا افْتَقَرت فته على الدَّهْر واصبر فلست بواجدٍ خلقا ... أدنى إِلَى فرج من الصَّبْر وَأنْشد أَيْضا فِي كِتَابه، وَلم ينْسبهُ إِلَى قَائِله: إِذا تضايق أمرٌ فانتظر فرجا ... فأضيق الْأَمر أدناه من الْفرج وَوجدت فِي بعض الْكتب: أَن أَبَا الْعَبَّاس ثعلبًا، أنْشد هَذَا الْبَيْت، وبيتًا قبله، وَهُوَ: النَّسْل من واحدٍ والشكل مختلفٌ ... والدهر فِيهِ بَنو الدُّنْيَا على درج وأنشدناه أَبُو الْفرج الْمَعْرُوف بالأصبهاني، عَن الْأَخْفَش، قَالَ: أنشدنا الْمبرد: النَّاس من واحدٍ والشكل مختلفٌ وَذكر الْبَيْتَيْنِ. حَدثنِي عَليّ بن أبي الطّيب، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْجراح، قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن، قَالَ: رَأَيْت مَجْنُونا قد أَلْجَأَهُ الصّبيان إِلَى مَسْجِد، فجَاء حَتَّى قعد فِي زَاوِيَة، فَتَفَرَّقُوا عَنهُ، فَقَامَ وَهُوَ يَقُول: إِذا تضايق أَمر فانتظر فرجا وَذكر الْبَيْت وَحده.

§1/1