الفتح المبين بشرح الأربعين

ابن حجر الهيتمي

الفتح المبين بشرح الأربعين للإمام العلامة الفقية المحقق شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله تعالى (909 - 974 هـ) عني به أحمد جاسم محمد المحمد ... قصي محمد نورس الحلاق أبو حمزة أنور بن أبي بكر الشيخي الدّاغستاني

دار المنهاج لبنان - بيروت - فاكس: 786230 الطبعة الأولى 1428 هـ - 2008 م جميع الحقوق محفوظة للناشر دار المنهاج للنشر والتوزيع لصاحبها عمر سالم باجخيف وفقه اللَّه تعالى المملكة العربية السعودية - جدة حي الكندرة - شارع أبها تقاطع شارع ابن زيدون هاتف رئيسي 6326666 - الإدارة 6300655 المكتبة 6322471 - فاكس 6320392 ص. ب 22943 - جدة 21416 لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزءٍ منه، وبأيِّ شكلٍ من الأشكال، أو نسخه، أو حفظه في أي نظام إلكتروني أو ميكانيكي يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه، وكذلك لا يسمح بالاقتباس منه أو ترجمته إلى أي لغه أخرى دون الحصول على أذن خطي مسبقًا من الناشر www.alminhaj.com E-mail:[email protected]

الفتح المبين بشرح الأربعين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب الحمد للَّه الفتاح العليم، المنعم على من شاء من عباده بالفتح المبين، والفهم المتين، سبحانه جلّ وعز، رافع درجات العلماء، والذين يخشونه من الأعلام النبلاء، اختصهم بالعلم وشرفهم بالعمل، فصرفوا هممهم العالية للاعتناء به، وكرسوا جهودهم لبيانه وحفظه، لتقوم بهم حجة اللَّه على خلقه. والصلاة والسلام على منقذ البشرية من ظلمات الجاهلية، ومعلم الخير لسائر البشرية، وعلى آله الطاهرين، وصحابته المخبتين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن السنة النبوية هي المصدر الثاني من ينابيع التشريع الإسلامي، وهي المبينة للتنزيل الحكيم، المفصلة لأحكامه، لذلك فهي ملتحمة بالفرقان التحامًا يستعصي على الانفكاك. وقد قيض اللَّه لها جهابذة موفقين، وأعلامًا عباقرة، فحفظوها من دسائس الوضع والتخليط، وبينوا مقاصدها، واستنبطوا أحكامها، ووضحوا مبانيها، وقربوا معانيها، وأَثْرَوا بذلك مكتبة الإسلام، وأدوا أمانة البيان والإعلام، فآضت المكتبة الإسلامية زاخرة بتلك الجواهر المتلألئة في سماء الإبداع، وعرضت أفكارهم مطالب الشرع العلية مرصعًا بحكمة التبيين، موشًى بفهم الراسخين، مطرزًا باستنباط الأتقياء المفلحين. ومن هذه الأسفار كتاب "الفتح المبين شرح متن الأربعين النووية"، فإن مؤلفه العلامة المتفنن أحمد ابن حجر الهيتمي، سكب فيه من براعة التأليف وملاحة الترصيف ما أثلج به الصدور، وأنار به البصائر، وأودعه من نفائس الفوائد وعزيز

النقول ما به أوفى على الغاية؛ فلذلك كان مطلب أولي النهى، والمرتع الخصب لمحبي السنة الغراء، لا سيما و"الأربعين النووية" متضمنة أصول الأحاديث المشتملة على مهمات الدين وقواعد الإسلام، فكان شرح الهيتمي المجلّي على أترابه (¬1)، الفريد بلا منازع في بابه. وحين أدركت دار المنهاج أهمية الكتاب ومردوده العلمي في أمة الإسلام. . شمّرت عن ساعد الجد لتحقيق الكتاب وإخراجه إخراجًا يتناسب مع جلالة قدره ونفاسة فوائده، فقامت بذلك خدمة للسنة النبوية، وتقريبًا لفهم مباحثها، وإبراز التراث الإسلامي مُشِعًّا بنور التحقيق العلمي. وتتبعت الدار أماكن وجود مخطوطات "الفتح المبين"، فعثرت بعد التنقيب على ثلاث عشرة مخطوطة للكتاب، إحداها -وهي المرموز لها بـ (أ) - مقابلة على نسخة المؤلف، وهي قريبة من عصره؛ مما يجعلها صالحة لأن تكون الأصل الأول الذي يصح الاعتماد عليه في باب التوثيق، كما استجلبت نسخةً مطبوعة من داغستان، لها من النفاسة مكان، محلّاة بحواشٍ علمية عزيزة، أفدنا منها مع أخواتها ومن "حاشية المدابغي" الشيء الكثير الذي يقر عين القارئ بإذن اللَّه تعالى. وقد قامت اللجنة العلمية بالدار بتوثيق نقول المؤلف؛ بإحالة كل نص إلى مصدره حسب الطاقة والإمكان، ولم تترك غامضًا إلا وأتت عليه، فشرحت الغامض وبينت المشكل، وقوَّمت عوج العبارة بأمانةٍ وتحرٍّ فجعلت الزيادة بين معقوفين، مع حسن ترتيب وأناقة إخراج تعين على التحصيل. كما عنيت لجنة التحقيق بكتابة مقدمة ضافية لعرض من اعتنى بـ "الأربعين"، إضافة إلى ترجمتين ترسلان أشعة الأضواء على المؤلفين النووي وابن حجر الهيتمي رحمهما اللَّه تعالى. ونهضت لعمل فهارس لموضوعات الكتاب، ليسهل على الناظر في الكتاب الرجوع بسهولة إلى أي موضوع أراده فيه. ¬

_ (¬1) المجلي: السابق في الحلبة.

ودار المنهاج إذ تقدم هذا الكتاب يزهو بمنظره، ويفخر بمخبره. . لتؤكد من جديد أنها ماضية في خدمة تراثنا وآثارنا، مستخدمة كل الطاقات والوسائل الحديثة التي من شأنها أن ترفع من شأن الكتاب شكلًا، وتبرز محاسنه مضمونًا. الناشر

عناية العلماء بـ "الأربعين النووية"

عناية العلماء بـ "الأربعين النووية" اشتهرت هذه الأربعون بـ"الأربعين النووية"، نسبةً لجامعها الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى، واقترنت باسمه، فلا تكاد تعرف إلا بـ "الأربعين النووية"، أما هو. . فقد سمَّاها: "الأربعين في مباني الإسلام وقواعد الأحكام". وهي كتابٌ لطيفٌ، صغير الحجم، عظيم القدر، حوى دررًا من مشكاة النبوة، وفَّق اللَّه جامعها في انتقاء نخبةٍ من النصوص النبوية شاملة وجامعة بين الأمور العقدية والفقهية، والأصولية والسلوكية وغيرها. وقد تلقَّت الأُمَّة هذه "الأربعين" بالقبول، وطبَّقت شهرتها الآفاق، وعمَّ نفعها، وكثر حفظها، وما ذلك إلا لإخلاص نية جامعها، وصفاء طويته، وحسن قصده؛ لأن الإقبال علامةٌ على الإخلاص، واللَّه إذا قبل عملًا. . كتب له القبول في الأرض، واللَّه لا يقبل إلا خالصًا. ولقد تناول أهل العلم من عصر المؤلف رحمه اللَّه إلى يومنا هذه الأربعين بالشرح والتعليق، والتخريج والتحقيق، والحفظ والتدريس، وهم في ذلك بين مقلٍّ ومكثرٍ، فإليك أخي القارئ ما وقفنا عليه من الشروح وغيرها مرتبةً على تاريخ وفاة مؤلفيها أولًا بأول: - فشرحها مؤلفها الإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف بن مري النووي المتوفى سنة (676 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو العباس شهاب الدين أحمد بن فَرْح اللخمي الإشبيلي المتوفى سنة (699 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو الفتح تقي الدين محمد بن علي بن وهب المعروف بابن دقيق العيد المتوفى سنة (702 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

وعلى هذا الشرح: * تقريرات للشيخ محمد بن أحمد بن الشريف العلوي المغربي المتوفى سنة (1367 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو البركات بدر الدين عبد اللطيف بن محمد بن الحسين الحموي ثم المصري المتوفى سنة (710 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسمَّاه: "منحة الطالبين لحفظ الأحاديث الأربعين". - وشرحها الإمام أبو الربيع نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري المعروف بابن أبي عباس المتوفى سنة (716 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "التعيين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام أبو الحسن علاء الدين علي بن إبراهيم بن داوود المعروف بابن العطار والملقب بمختصر النووي، المتوفى سنة (724 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أحمد بن عبد الوهاب المصري المتوفى حوالي سنة (730 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام جمال الدين عبد اللَّه بن إبراهيم بن إسماعيل اللخمي الشطنوفي المتوفى سنة (733 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو حفص تاج الدين عمر بن علي بن سالم اللخمي الإسكندري المعروف بالفاكهاني المتوفى سنة (734 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "المنهج المبين في شرح الأربعين"، ثم اختصره في كتاب سماه: "مختصر المنهج المبين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام أبو الحسن علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم الشيحي المعروف بابن الخازن المتوفى سنة (741 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "عمدة الطالبين في شرح الأحاديث الأربعين". - وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن كمال الدين كامل التدمري المتوفى بعد سنة (741 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها الإمام شهاب الدين أحمد بن موسى بن خفاجا الصفدي المتوفى سنة (750 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "منهاج السالكين وعمدة الطالبين". - وشرحها الإمام علي بن محمد بن علي المقرئ الفيومي المتوفى سنة (770 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد ابن مطير الحكمي اليمني المتوفى سنة (773 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام رشيد الدين إسماعيل بن محمود بن محمد الكردي المتوفى بعد سنة (775 هـ) رحمه اللَّه تعالى وسماه: "سراج العابدين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام زين الدين سريجا بن محمد بن سريجا الملطي المارديني المتوفى سنة (788 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "نثر فوائد المربعين النبوية في نشر فوائد الأربعين النووية". - وشرحها الإمام سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد اللَّه التفتازاني المتوفى سنة (792 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد اللَّه الزركشي المتوفى سنة (794 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد الشهير بابن رجب الحنبلي المتوفى سنة (795 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم"، زاد على "الأربعين النووية" ثمانية أحاديث سردها في مقدمة كتابه، ولهذا سمَّاه كذلك، وهو أجل شروح "الأربعين النووية"، وأكثرها فائدة، وعلى هذا الشرح مختصران: * مختصر للشيخ أبي بكر بن محمد بن عمر آل ملَّا المتوفى سنة (1270 هـ) رحمه اللَّه تعالى. * ومختصر للشيخ سليم بن عيد الهلالي (معاصر)، وسماه: "إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم".

- وشرحها الإمام عز الدين يوسف بن الحسن بن محمود المعروف بالحلوائي المتوفى سنة (802 هـ)، وقيل: سنة (804 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو الطاهر جلال الدين أحمد بن محمد بن محمد الخجندي المعروف بالأخوي المتوفى سنة (802 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه شمس الدين محمد بن أحمد بن عمر المصري المعروف بالسعودي المتوفى سنة (803 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الدر الرصين المستخرج من بحر الأربعين". - وشرحها الإمام أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري المعروف بابن الملقن المتوفى سنة (804 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "المعين على تَفَهُّم الأربعين". - وشرحها الإمام شمس الدين محمد بن الحسين بن علي الأسيوطي المتوفى سنة (807 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام ظهير الدين أسعد بن مسعود بن يحيى العمري المتوفى بعد سنة (812 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه عز الدين محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز الكناني المعروف بابن جماعة المتوفى سنة (819 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "التبيين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام أبو زرعة ولي الدين أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين المعروف بابن العراقي المتوفى سنة (826 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الجواهر البهية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام تقي الدين أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن الحسيني الدمشقي المعروف بتقي الدين الحصني المتوفى سنة (829 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو العباس شهاب الدين أحمد بن الحسين بن الحسن ابن رسلان المعروف بالعجيمي المتوفى سنة (844 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها الإمام أبو محمد برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن محمد الخجندي المتوفى سنة (851 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "إيضاح الكلمات النورانية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام أبو بكر عفيف الدين محمد بن محمد بن عبد اللَّه التبريزي الحسيني المتوفى سنة (855 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو الحسن صلاح الدين محمد بن أبي بكر بن علي السيوطي المتوفى سنة (856 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو القاسم محيي الدين محمد بن محمد بن محمد النويري المعروف بأبي القاسم النويري المتوفى سنة (857 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو محمد كمال الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن القاهري المعروف بابن إمام الكاملية المتوفى سنة (864 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو حفص سراج الدين عمر بن أحمد بن محمد القاهري المعروف بالبلبيسي المتوفى سنة (878 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الفيض المعين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام بدر الدين الحسين بن خواجة أحمد بن محمد الكيلاني المعروف بابن قاوان المتوفى سنة (889 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام جمال الدين إسماعيل بن عبد اللَّه الخلوتي المتوفى سنة (899 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد القادر بن محمد بن عبد اللَّه الضميري الدمشقي، كما ذكر الإمام السخاوي المتوفى سنة (902 هـ) رحمه اللَّه تعالى، في "الضوء اللامع" (4/ 290)، وسماه: "الدرر المضية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام معين الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد الإيجي المتوفى سنة (906 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها الإمام أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي المتوفى سنة (911 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن العز الحجازي المتوفى بعد سنة (912 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الأفكار النورانية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام أبو الحسن علي بن ميمون بن أبي بكر الغماري الفاسي المتوفى سنة (917 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد بن خضر الكازروني المتوفى بعد سنة (923 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الهادي للمسترشدين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام شيخ الإسلام زين الدين زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري المتوفى سنة (925 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا الرومي المتوفى سنة (940 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الدُّلَجي العثماني المتوفى سنة (947 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد الهادي بن عبد اللَّه بن أحمد الشتيوي المتوفى بعد سنة (950 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام شهاب الدين أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة (974 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الفتح المبين بشرح الأربعين" وهو كتابنا هذا، وعلى هذا الشرح عدة حواش لجماعة من العلماء: * حاشية للشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب الشوبري المصري المتوفى سنة (1069 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماها: "تعليقات ظريفة وتحقيقات لطيفة على شرح الأربعين النووية".

* حاشية للشيخ إلياس بن إبراهيم بن داوود الكردي المتوفى سنة (1138 هـ) رحمه اللَّه تعالى. * حاشية للشيخ إسماعيل بن محمد بن جراح العجلوني الشهير بالجراحي المتوفى سنة (1162 هـ)، وسماها: "إرشاد المسترشدين لفهم الفتح المبين على شرح الأربعين". * حاشية للشيخ حسين بن علي بن أحمد المنطاوي الشهير بالمدابغي المتوفى سنة (1170 هـ) رحمه اللَّه تعالى. * حاشية للشيخ أحمد بن محمد بن علي القلعاوي المعروف بالسحيمي المتوفى سنة (1178 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماها: "مفتاح الطالبين للفتح المبين"، وله شرح على "الأربعين" كما سيأتي. * حاشية للشيخ مصطفى تقي بن محمد تقي المنتيني المتوفى سنة (1214 هـ) رحمه اللَّه تعالى. وعلى "الفتح المبين" أيضًا مختصران: * مختصر لحفيد المصنف رضي الدين بن عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة (1041 هـ) رحمه اللَّه تعالى. * مختصر للشيخ ضياء الدين يوسف بن عبد اللَّه العمري الموصلي المتوفى بعد سنة (1240 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام شهاب الدين أحمد بن حجازي بن بدير الفشني المتوفى بعد سنة (978 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "المجالس السنية في الكلام على الأربعين النووية"، وعلى هذا الشرح: * مختصر للشيخ عبد الرحمن. (أو عبد الرحيم) بن إبراهيم بن عبد اللَّه التغارغرتي المتوفى سنة (1278 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن صلاح الدين بن جلال الدين الملتوي المعروف بمصلح الدين اللاري المتوفى سنة (979 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها الإمام عبد الجليل بن يوسف الأقحصاري المتوفى في حدود سنة (980 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه "ذخر الآخرة في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام غانم بن أحمد الخطيب البقاعي الشافعي المتوفى سنة (980 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الرياحين البقاعية في شرح الأحاديث النووية". - وشرحها الإمام تقي الدين محمد بن علي المعروف ببير علي المتوفى سنة (981 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو العباس أحمد بن تركي بن أحمد المنشليلي المتوفى سنة (999 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام سالم بن بهاء الدين الدنوشري المتوفى في حدود سنة (1010 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محيي الدين محمد بن عبد اللَّه المعروف بباتمكجي زاده المتوفى سنة (1014 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام نور الدين علي بن سلطان محمد الهروي المعروف بالملا علي القاري المتوفى سنة (1014 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "المبين المعين لفهم الأربعين". - وشرحها الإمام سعيد بن محمد المفتي، كتبت المخطوطة سنة (1015 هـ). - وشرحها الإمام محمد بن عبد الجليل خاقاني الشهير بابن إياس باشا الرومي المتوفى سنة (1015 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "مفتاح الفتوحات في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام أبو الفضل ولي الدين محمد بن علي بن سالم الشبشيري المصري المتوفى سنة (1019 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الجواهر البهية في شرح الأربعين النووية"، وعلى هذا الشرح حاشيتان: * حاشية للشيخ خليل بن محمد بن زهران الرشيدي الشهير بالخضيرى المتوفى سنة (1186 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماها: "خلاصة الغرر الرضية البائحة بسر الأربعين النووية وشرحها الجواهر البهية".

* حاشية للشيخ عبد اللَّه بن محمد النبراوي المتوفى بعد سنة (1257 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماها: "عروس الأفراح". - وشرحها الإمام زين الدين محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي المتوفى سنة (1031 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام إسماعيل بن أحمد البيرامي المولوي المتوفى سنة (1040 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام حسام الدين خليل البرسوي الرومي المتوفى سنة (1042 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو الحسن نور الدين علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي القاهري المتوفى سنة (1044 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن محمد الحجازي المنزلي الرشيدي المتوفى بعد سنة (1055 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الفيض المتين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام أبو الحجاج يوسف بن حجازي القاسمي الجنيدي المعروف بابن حجازي المتوفى سنة (1065 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام مسعود بن منصور بن عبد اللَّه العلوي، كما ذكر حاجي خليفة المتوفى سنة (1067 هـ) رحمه اللَّه تعالى، في "كشف الظنون" (1/ 60)، وسماه: "الكافي في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام إسماعيل بن عبد الباقي بن إسماعيل الدمشقي المعروف باليازجي المتوفى سنة (1069 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الجوهر الثمين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام يوسف ين يعزي الرسموكي المتوفى في القرن الحادي عشر رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام برهان الدين إبراهيم بن مرعي بن عطية الشبرخيتي المتوفى سنة (1106 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين النووية".

- وشرحها الإمام محمد الحُجِّيج الأندلسي التونسي المتوفى سنة (1108 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام رمضان بن محمد بن نقرة البوسالمي القيرواني المتوفى سنة (1110 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو العباس أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي المتوفى سنة (1125 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد الوهاب بن عبد الحي بن أحمد المعروف بابن العماد العكري المتوفى سنة (1128 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام سليمان بن فاضل بن أحمد الرومي الواعظ المتوفى سنة (1134 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي المتوفى سنة (1137 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عمر بن عبد الحي الطرابلسي المتوفى سنة (1147 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الدرر السنية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام أحمد بن أمين الدين البسطامي مفتي الشافعية بنابلس المتوفى سنة (1157 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أحمد بن أبي بكر بن محمد الصماقري المعروف بالكشفي المتوفى سنة (1160 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد حياة بن إبراهيم السندي المدني المتوفى سنة (1163 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "تحفة المحبين في شرح الأربعين"، وعلى هذا الشرح: * تعليقات للشيخ بديع الدين الراشدي السندي المتوفى سنة (1416 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماها: "التعليقات الراشدية على شرح الأربعين النووية".

- وشرحها الإمام محمدبن مصطفى الشهاوي الدسوقي المتوفى بعد سنة (1167 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "حسن النية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام محمد أبو السعود الحسيني رحمه اللَّه تعالى، (خ) في دار الكتب المصرية برقم (23023)، نسخت سنة (1167 هـ)، وسماه: "بغية الطالبين شرح الأربعين". - وشرحها الإمام محمد بن الحاج حميد بن مصطفى الكفوي الآقكرماني المتوفى سنة (1174 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "نبراس العقول الذكية بشرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام أحمد بن محمد بن علي القلعاوي المعروف بالسحيمي المتوفى سنة (1178 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "لباب الطالبين بشرح الأربعين". - وشرحها الإمام علي بن حجازي بن محمد البيومي الإدريسي المتوفى سنة (1183 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "النور المبين على متن الأربعين". - وشرحها الإمام أبو الفداء عصام الدين إسماعيل بن محمد بن مصطفى القونوي المتوفى سنة (1195 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام مصطفى بن محمود الطورحالي المتوفى سنة (1197 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام علي بن محمد الزيات المتوفى في القرن الثاني عشر، وسماه: "تعليق على الأربعين النووية". - وشرحها في شرحين الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن الطالب الفاسي التاودي المتوفى سنة (1209 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو العباس أحمد بن موسى بن أحمد العدوي المعروف بالبيلي المتوفى سنة (1213 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن أحمد بُنَيِّس الفاسي المتوفى سنة (1213 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها الإمام وجيه الدين بن مجيب اللَّه بن محمد الهندي المتوفى بعد سنة (1214 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام إسماعيل مفيد بن علي العطار الرومي المتوفى سنة (1217 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد القادر بن أحمد بن شقرون الفاسي المتوفى سنة (1219 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد عبد اللَّه بن الطالب عبد اللَّه المحجوبي المتوفى سنة (1220 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد الباسط بن رستم علي بن علي أصغر القنوجي الهندي المتوفى سنة (1223 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الحبل المتين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام رفيع الدين بن فريد الدين الفاروقي المتوفى سنة (1223 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام يحيى بن محمد الحلبي الدمشقي المعروف بالمسالخي المتوفى سنة (1225 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن شيخ الإسلام مصطفى عاشر الرومي المتوفى سنة (1226 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه محمد الطيب بن عبد المجيد بن عبد السلام الفاسي المعروف بابن كيران المتوفى سنة (1227 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام وجيه اللَّه بن مجيب اللَّه بن محمد الهندي المتوفى سنة (1229 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أحمد بن التاودي بن سودة المري الفاسي المتوفى سنة (1235 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد فال بن متالي التندغي الشنقيطي المتوفى سنة (1238 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها الإمام عبد اللَّه بن عبد القادر المدراسي المتوفى سنة (1267 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الثمين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام محمد عكاشة الشرقاوي الشبراويني المتوفى بعد سنة (1267 هـ)، وسماه: "الدرر السنية على الأربعين النووية". - وشرحها الإمام عمر بن عبد العزيز الكرسيفي المتوفى في القرن الثالث عشر رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن علال الدليمي الفاسي المتوفى سنة (1300 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "اللطائف السنية على الأحاديث النووية". - وشرحها الإمام أبو المحاسن شمس الدين محمد خليل بن إبراهيم بن محمد المشيشي الطرابلسي المعروف بالقاوقجي المتوفى سنة (1305 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الإمدادات الإلهية على الأربعين النووية". - وشرحها الإمام إسماعيل بن محمد الأنصاري المتوفى سنة (1317 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية". - وشرحها الإمام أحمد الطالب بن محمد بن سودة المري المتوفى سنة (1321 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام هاشم بن محمد الشحات الشرقاوي رحمه اللَّه تعالى، (ط) بمصر بالمطبعة الميمنية سنة (1326 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام أبو الهدى محمد بن حسن وادي بن علي الصيادي المتوفى سنة (1328 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "النفحات المحمدية في الأحاديث الأربعين النووية". - وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن قاسم بن محمد الفاسي المتوفى سنة (1331 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام محمد بن عبد اللَّه بن عبد اللطيف الجرداني الدمياطي المتوفى سنة (1331 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الجواهر اللؤلؤية في شرح الأربعين النووية".

- وشرحها الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إبراهيم بن محمد الحافي العبيدي السباعي المتوفى سنة (1332 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "المنح المولوية بشرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام أبو محمد عبد المجيد بن إبراهيم الشرنوبي الأزهري المتوفى سنة (1348 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد السلام بن محمد الفضيل المعروف بالسكوري المتوفى سنة (1349 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "الفتح المبين في شرح الأربعين". - وشرحها الإمام إبراهيم بن صالح السوسي العروسي التازروالتي المتوفى سنة (1352 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الإمام عبد الوهاب بن مصطفى بن محمد الطلسي الحلبي المعروف بابن طلس المتوفى سنة (1355 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "البرود الطلسية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الإمام قاسم بن أحمد القيسي المتوفى سنة (1374 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "النزهة البهية في شرح أحاديث الأربعين النووية". - وشرحها الإمام فيصل بن عبد العزيز بن فيصل آل مبارك المتوفى سنة (1376 هـ) رحمه اللَّه تعالى في شرحين، أحدهما: "محاسن الدين على متن الأربعين"، والآخر: "تعليم الأحب أحاديث النووي وابن رجب". - وشرحها الإمام محمد بن عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفى سنة (1382 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وله أيضًا: "ختمة كتاب الأربعين النووية". - وشرحها الشيخ محمد صالح بن عبد اللَّه بن محمد صالح الفرفوري الدمشقي المتوفى سنة (1407 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "من مشكاة النبوة في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الشيخ عبد اللَّه بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة (1410 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- وشرحها مع الأحاديث التي زادها ابن رجب الشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري المتوفى سنة (1417 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "التحفة الربانية شرح الأربعين النووية". - وشرحها الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "تعليق على الأربعين النووية". - وشرحها الشيخ عمر بن سالم بن عمر الغرياني المالكي رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "منحة رب البرية بشرح الأربعين النووية". - وشرحها الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المشرع اليمني رحمه اللَّه تعالى. - وشرحها الشيخ عبد اللَّه بن محمد آل عبد اللطيف، وسماه: "فتح القوي شرح أربعين النووي". - وشرحها الشيخ رفيع الدين المرادآبادي. - وشرحها الشيخ محمد عاشق إلهي الميرتهي، وسماه: "القواعد السنية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها مجهول، وسماه: "الإيضاح والتبيين في معاني الأحاديث الأربعين". - وشرحها مجهول، (خ) في مكتبة المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة - مكتبة عبد الرحمن الحصين. - وشرحها الشيخ عبد اللَّه بن صالح المحسن (معاصر)، وسماه: "الشرح الموجز المفيد" (ط) في مطبعة السعادة مصر سنة (1390 هـ). - وشرحها الشيخ عبد الخالق مسعود (معاصر)، وسماه: "المختار من شرح الأربعين النووية" (ط) في مؤسسة الريان بيروت سنة (1403 هـ). - وشرحها الشيخ خالد البيطار (معاصر)، وسماه: "البيان في شرح الأربعين حديثًا النووية" (ط) في مكتبة المنار الأردن سنة (1407 هـ)

- وشرحها الشيخ عوض ابن رده الساعدي (معاصر)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة سنة (1408 هـ). - وشرحها الشيخ ناظم بن محمد سلطان (معاصر)، وسماه: "قواعد وفوائد من الأربعين النووية" (ط) في دار الهجرة السعودية سنة (1410 هـ). - وشرحها الشيخ عبد الوهاب رشيد صالح أبو صفية (معاصر)، وسماه: "شرح الأربعين النووية في ثوب جديد" (ط) في دار البشير عمان سنة (1413 هـ). - وشرحها الشيخ محمد تاتاي (معاصر)، وسماه: "إيضاح المعاني الخفية في الأربعين النووية" (ط) في دار الوفاء القاهرة سنة (1419 هـ). - وشرحها الدكتور مصطفى ديب البغا، والدكتور محيي الدين ديب مستو (معاصران)، وسمياه: "الوافي في شرح الأربعين النووية" (ط) عدة طبعات، إحداها: طبعة دار ابن كثير لبنان - دمشق سنة (1420 هـ). - وشرحها الشيخ محمد بن رياض الأحمد (معاصر)، وسماه: "تيسير رب البرية في شرح الأربعين النووية". - وشرحها الشيخ محمد بكار زكريا (معاصر)، (ط) في دار البشائر الإسلامية الأردن. وممن عني برجال "الأربعين النووية": - الإمام محمد علي بن محمد علان بن إبراهيم الصديقي المتوفى سنة (1057 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - الإمام علي كبير الإله آبادي المتوفى سنة (1090 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "مطلوب الطالبين في أسماء رجال الأربعين". وممن عني بتخريج "الأربعين النووية": - الإمام محمد بن أحمد بن محمد المصري السعودي المعروف بابن شيخ البئر المتوفى سنة (802 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

- الإمام أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة (806 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "أمالي على الأربعين". - الإمام أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "تخريج الأربعين النووية بالأسانيد العلية". - الإمام أبو الخير شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن محمد السخاوي المتوفى سنة (902 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - الإمام أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن حسن بن أحمد ابن عبد الهادي المعروف بابن المبرد الصالحي المتوفى سنة (909 هـ) رحمه اللَّه تعالى، وسماه: "النصيحة في تخريج الأحاديت النووية بالأسانيد الصحيحة". - الإمام أبو عبد اللَّه شمس الدين محمد بن علي بن محمد الدمشقي المعروف بابن طولون المتوفى سنة (953 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - الإمام أبو الفيض محمد بن محمد بن محمد الزبيدي ثم المصري المعروف بمرتضى الزبيدي المتوفى سنة (1205 هـ) رحمه اللَّه تعالى. - الشيخ فوزي بن عبد اللَّه بن محمد (معاصر)، وسماه: "الأضواء السماوية في تخريج الأربعين النووية"، (ط) في المكتبة الإسلامية الأردن. - كما عني بإعراب "الأربعين النووية" الشيخ حسين عبد الجليل يوسف (معاصر)، (ط) في مؤسسة المختار القاهرة سنة (2002 م). - كما عني بذكر جهود العلماء على "الأربعين النووية" الشيخ راشد بن عامر بن عبد اللَّه الغفيلي، وسماه: "إتحاف الأنام بذكر جهود العلماء على الأربعين في مباني الإسلام وقواعد الأحكام"، (ط) في دار الصميعي للنشر والتوزيع الرياض سنة (1422 هـ). - كما نظمها العلامة ابن غازي بعنوان: "الأربعون النووية المسماة بمزيلة الإشكال للمبتدي من جملة الرجال". * * *

ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي اللَّه عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف (¬1) اسمه ومولده ونشأته هو يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمدبن جمعة بن حِزام، الشيخ الإمام العالم الرباني محيي الدين أبو زكريا الحِزامي النووي الحافظ الفقيه، شيخ الإسلام في عصره، وبعد عصره. كان من العلماء العاملين، والأئمة الراسخين، وأولياء اللَّه العارفين، والزهاد المذكورين. اجتمع له من الورع ما لم يتفق مثله لأحد في زمانه ولا قبله من الفقهاء بدهر طويل، فكان لا يأكل من فواكه دمشق؛ لما في بساتينها من الشُّبَه في ضمانها، وقد صرح بذلك رضي اللَّه عنه. ولم يدخل حمَّامًا، وكان لا يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم والليلة بعد عشاء الآخرة، وعند السحر يشرب شربة يجعلها سحورًا، مقتصدًا في مأكله وملبسه وجميع أحواله كل الاقتصاد، صابرًا على خشونة العيش. وَلِيَ مشيخة دار الحديث الأشرفية، ولم يتناول من معلومها شيئًا، ولم يقبل لأحدٍ هديةً، وإنما كان يتقوت مما يأتيه به أبوه من نوى من كعك وتين. ¬

_ (¬1) هذه الترجمة مأخوذة بتصرف من كتاب "المطالب العلية في طبقات الشافعية" للشريف محمد بن الحسن الواسطي (ت 776 هـ)، وهو مخطوط، وأضفنا عليها بالهوامش بعض الفوائد والزيادات المستفادة من غيره كـ"تاريخ الإسلام" للذهبي، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة، و"حياة الإمام النووي" للسخاوي، و"المنهاج السوي" للسيوطي، و"شذرات الذهب" لابن العماد، وغيرها.

وكان يلبس ثوبًا حَوْرانيًا وعمامة شبختانية، ولا يجمع بين أدمين، حافظًا لأوقاته عن أن تضيع في غير طاعة. إذا زاره أحد. . لا يزيده على السلام وجواب ما لا بد منه من مسألة علم، فإن جلس عنده. . دفع إليه كتابًا ينظر فيه، لئلا يشغله. مراقبًا للَّه عز وجل في حركاته وسكناته وخطواته وخطراته. آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، أنكر على الملك الظاهر غير مرة، فكان يقول: أنا لا أخاف إلا من هذا النووي، وكان يمتثل جميع ما يأمره به. كل ذلك من ثمرة الصدق والإخلاص، وإرادة وجه اللَّه عز وجل، وابتغاء رضوانه علمًا وعملًا. . فهنيئًا له رضي اللَّه عنه. فسبحان من وفقه وأعطاه وأفاض عليه من جوده وفضله إنه ذو الفضل العظيم. واعلم: أن مناقبه ومآثره لا تكاد تحصى، وقد أفردها تلميذه الشيخ علاء الدين ابن العطار بتصنيف مستقل جمع فيه معظم أحواله. وملخص ما أقول: أنه ولد في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وست مئة، ونشأ ببلده نوى، وكان آية في النجابة من صغره، وقرأ بها القرآن. وقدم دمشق في سنة تسع وأربعين، فقرأ "التنبيه" في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع "المهذب" في بقية السنة. ولزم شيخه كمال الدين إسحاق بن أحمد المغربي، وأعاد عنده للجماعة. ومكث قريبًا من سنتين لا يضع جنبه إلى الأرض، وأقام بالرّواحيّة ملازمًا للاشتغال إلى سنة إحدى وخمسين. فحج مع والده (¬1)، فحُمَّ من أول ليلة خرجوا من نوى إلى يوم عرفة، قال والده: فما تأوَّه ولا تضجَّر. ¬

_ (¬1) قال السخاوي في "حياة الإمام النووي" (ص 7): (وكانت هذه حجة الإسلام، وفي كلام الدميري -كما في "النجم الوهاج" [1/ 217]- أنه حج مرة أخرى، ويستأنس له بقول العماد ابن كثير في "تاريخه" [7/ 323]: أنه حج في مدة إقامته بدمشق). =

شيوخه

ثم عاد إلى دمشق ولازم شيخه كمال الدين. وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درسًا على المشايخ شرحًا وتصحيحًا، درسين في "الوسيط"، ودرسًا في "المهذب"، ودرسًا في "الجمع بين الصحيحين"، ودرسًا في "أسماء الرجال"، ودرسًا في "صحيح مسلم"، ودرسًا في "اللمع" لابن جنِّي، ودرسًا في "إصلاح المنطق" لابن السِّكِّيت، ودرسًا في التصريف، ودرسًا في أصول الفقه، تارة في "اللمع" لأبي إسحاق، وتارة في "المنتخب" للإمام فخر الدين الرازي، ودرسًا في أصول الدين في "الإرشاد" لإمام الحرمين. قال: وكنت أعلِّق ما يتعلَّق بذلك من الفوائد. قال: وعزمت مرةً على الاشتغال بالطب، فاشتريت "القانون" لأقرأه، فأظلم عليَّ قلبي وبقيت أيامًا لا أشتغل بشيء، ففكرت، فإذا هو من "القانون"، فبعته في الحال (¬1). شيوخه وأخذ العلم عن جماعة من الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام، منهم: الإمامان: كمال الدين إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، المتوفى (650 هـ)، وكمال الدين سَلَّار بن الحسن بن عمر الإربلي، المتوفى (670 هـ). والإمام شمس الدين عبد الرحمن بن نوح بن محمد المقدسي، المتوفى (654 هـ). ¬

_ = وكلام الدميري في "النجم الوهاج" في خاتمة مقدمته قبل بدئه بـ (كتاب الطهارة)، وهو قوله: (وحج حجتين مبرورتين لا رياء فيهما ولا سمعة، وطهر اللَّه من الفواحش قلبه ولسانه وسمعه). (¬1) قال الإمام السخاوي في "حياة الإمام النووي" (ص 8): (فإن قل: كيف هذا مع ما نقل كما روينا في "مناقب الشافعي" للبيهقي [2/ 114] من طريق الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي يقول: "العلم علمان: علم فقه للأديان، وعلم طب للأبدان؟ ". . فالجواب: أن الذي مدحه الشافعي رحمه اللَّه هو الطب النبوي أو المجرد عن أصول الفلاسفة الذي صرح صاحب "القانون" [ابن سينا] في أوله بابتناء الطب المورد في كتابه عليها، وأن الطبيب يتعلم ما يبني عليه من العلم الطبيعي، ولذلك اعترى الشيخ رحمه اللَّه بمجرد عزمه على الاشتغال في الكتاب المذكور ما أشار إليه؛ لما رزقه اللَّه من نور الصيرة، وأبداه له بصلاح السريرة، خصوصًا وعنده من الطب المحمود ما يفوق الوصف).

تلامذته

وعز الدين عمر بن أسعد بن أبي غالب الربعي الإربلي، المتوفى (675 هـ). والقاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر التفليسي، المتوفى (672 هـ). وشرح أكثر "صحيح البخاري" على الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي، المتوفى (668 هـ). وسمع الحديث الكثير على خلائق، منهم: رضي الدين إبراهيم بن عمر بن مضر المصري الواسطي، المتوفى (664 هـ)، سمع عليه "صحيح مسلم". والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن محمد ابن قدامة المقدسي، المتوفى (682 هـ). والشيخ عماد الدين عبد الكريم بن عبد الصمد بن محمد الأنصاري الدمشقي ابن الخرستاني، المتوفى (662 هـ) وغيرهم (¬1). وبارك اللَّه سبحانه وتعالى له في وقته وآتاه من لدنه علمًا وفهمًا في كتابه وسنة رسوله صلى اللَّه عليه وسلم. تلامذته وتفقه به وروى عنه جماعات من الأئمة والحفاظ، منهم: القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل الداراني، المتوفى (725 هـ). والشيخ علاء الدين علي بن إبراهيم ابن العطار، المتوفى (724 هـ). ¬

_ (¬1) كالإمام تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن ضياء الفزاري ابن الفركاح، والشهاب عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي أبي شامة، والعلامة الجمال أبي عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن مالك، وأبي العباس أحمد بن سالم المصري، والضياء بن تمام الحنفي، وفخر الدين المالكي، والحافظ أبي البقاء خالد بن يوسف بن سعد النابلسي، وأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي، وأبي العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي، وأبي محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر التنوخي، وأبي محمد عبد العزيز بن أبي عبد اللَّه محمد بن عبد المحسن الأنصاري، ومحمد بن محمد بن محمد البكري، وأبي زكريا يحيى بن أبي الفتح الحراني الصيرفي، وأبي محمد عبد الرحمن بن سالم الأنباري، والشيخ ياسين بن يوسف المراكشي.

مؤلفاته وتصانيفه

والحافظ جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف المزي، المتوفى (742 هـ). وشيخنا قاضي القضاة محمد بن أبي بكر ابن النقيب، المتوفى (745 هـ). وغيرهم (¬1). مؤلفاته وتصانيفه وقد أعظم اللَّه عز وجل له النفع بتصانيفه أهل المذهب، وغيرهم أيضًا، فمنها: "الروضة"، وشرح "المهذب" سماه "المجموع" وصل فيه إلى (البيع)، ومن ذلك: "شرح صحيح مسلم"، وكتاب "تهذيب الأسماء واللغات"، وشرح قطعة من "صحيح البخاري"، وكتاب "التحقيق" ولم يكمله، وكتاب "الطبقات" للحافظ ابن الصلاح، اختصره وزاد عليه أسماء جماعة من الأئمة، وكتاب "المنهاج"، و"الإرشاد"، وكتاب "التقريب والتيسير"، و"التبيان في آداب حملة القرآن" (¬2)، و"الرياض" (¬3)، و"الأذكار" (¬4)، و"المناسك" أكبر وأصغر وأوسط، و"الأربعين"، وقد سمعناها على الشيخ جمال الدين المزي رضي اللَّه عنه. ¬

_ (¬1) كالإمام البدر محمد بن إبراهيم بن سعد اللَّه بن جماعة، وأبي العباس أحمد الضرير الواسطي الخلال، وأمين الدين سالم بن أبي الدر، وشهاب الدين أحمد بن محمد بن عباس بن جعوان، وشهاب الدين الإربدي، وأبي العباس أحمد بن محمد بن سليمان بن حمايل، والشهاب محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مزهر الأنصاري، وعلي بن الموفق، وأبي عبد اللَّه محمد بن أبي الفتح الحنبلي، والشمس أبي عبد اللَّه إسماعيل بن إبراهيم بن سالم ابن الخباز، والشهاب أبي العباس أحمد بن فرح الإشبيلي، وأبي العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب، والرشيد بن المعلم الحنفي، والشيخ جبريل الكردي، والعلاء علي بن أيوب بن منصور المقدمي، وهبة اللَّه بن عبد الرحيم بن إبراهيم ابن البارزي، وأبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد اللَّه المصري. (¬2) وهو كتاب نفيس لا يستغنى عنه، وقد طبع بحمد اللَّه تعالى طبعة بهية في دار المنهاج اعتمدت على ثلاث نسخ خطية، منها نسخة مقابلة على نسخة المؤلف. (¬3) وهو كتاب عظيم في بابه، وقد طبع بحمد اللَّه وفضله طبعة أنيقة في دار المنهاج اعتمدت سبع نسخ خطية، واحدة منها لتلميذ الإمام النووي الشيخ علاء الدين ابن العطار رحمه اللَّه تعالى. (¬4) الذي لا يكاد يخلو بيت مسلم منه، لبركة هذا الإمام الجليل، وقد منَّ اللَّه عز وجل على دار المنهاج بإخراجه في طبعة متميزة مدققة محققة، اعتمدت على خمس نسخ خطية، واحدة منها بإملاء تلميذ الإمام النووي الشيخ علاء الدين ابن العطار، وأخرى مقروءة عليه، وقد ازدانت بفوائد من شرح العلامة ابن علان رحمه اللَّه تعالى، وبملحق لتعقبات الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى.

إلى غير ذلك (¬1). وكان عليه سكينة ووقار، وفي لحيته الكريمة شعرات بيض كأنها النور الساطع. زار القدس والخليل عليه الصلاة والسلام عدد عفو اللَّه عن خلقه، وعدد ما أحصى علمه سبحانه وتعالى. ثم رجع إلى نوى فمرض عند أبيه إلى أن توفي ليلة الأربعاء في الرابع والعشرين من ¬

_ (¬1) كـ"مختصر التنبيه"، وشرحه "تحفة الطالب النبيه"، وشرح "الوسيط" المسمى بـ"التنقيح"، ونكت على "الوسيط"، و"مهمات الأحكام"، و"العمدة في تصحيح التنبيه"، و"التحرير في لغات التنبيه"، و"نكت المهذب"، و"دقائق الروضة"، و"مختصر الترمذي"، و"الخلاصة" في الحديث، و"شرح سنن أبي داوود"، و"بستان العارفين"، و"الأصول والضوابط"، و"رؤوس المسائل"، و"المقاصد"، و"منار الهدى"، و"الترخيص في القيام"، و"المنثورات" وهو فتاويه جمعها تلميذه ابن العطار، و"مناقب الشافعي" اختصره من كتاب البيهقي وحذف أسانيده، وغيرها. قال الإسنوي -كما في "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (2/ 157) -: (وينسب إليه تصنيفان ليسا له، أحدهما: مختصر لطيف يسمى: "النهاية في اختصار أسد الغابة"، والثاني: "أغاليط على الوسيط" مشتملة على خمسين موضعًا، بعضها فقهية وبعضها حديثية، وممن نسب هذا إليه ابن الرفعة في "المطلب في شرح الوسيط"، فاحذره؛ فإنه لبعض الحمويين، ولهذا لم يذكره ابن العطار تلميذه حين عدد تصانيفه واستوعبها). وفي كلام الإسنوي نظر؛ إذ إن الإمام النووي في كتابه "التقريب" ذكر أنه اختصر كتاب ابن الأثير "أسد الغابة"، فقد قال في "التقريب" (ص 81) في كلامه عن معرفة الصحابة رضي اللَّه عنهم: (وقد جمع عز الدين ابن الأثير الجزري في الصحابة كتابًا حسنًا، جمع فيه كتبًا كثيرة وضبط وحقق أشياء حسنة، وقد اختصرته بحمد اللَّه تعالى). قال ابن العطار -كما نقله السيوطي في "المنهاج السوي" (ص 20)، والسخاوي في "حياة الإمام النووي" (ص 20) -: (وله شرح ألفاظ ومسودات كثيرة، ولقد أمرني مرة بجمع نحو ألف كراس بخطه، وأمرني أن أقف على غسلها في الورّاقة، وحلفني إن خالفت أمره في ذلك، فما أمكنني إلا طاعتُهُ، وإلى الآن في قلبي منها حَسَراتٌ). قال السخاوي في "حياة الإمام النووي" (ص 22): (فهذه نحو من خمسين تصنيفًا، كل ذلك -كما قال الكمال الأدفوي- في زمن يسير وعمر قصير). قال الشافعي في "مرآة الجنان" (4/ 185): (لعمري إنه عديم النظير في زهده وورعه وآدابه، وجميل سيرته ومحاسنه فيمن بعده من العلماء، ولا شك أن الإمام محيي الدين النووي مبارك له في عمره، ولقد بلغني أنه حصلت له نظرة جمالية من نظرات الحق سبحانه بعد موته، فظهرت بركتها على كتبه، فحظيت بقبول العباد والنفع في سائر البلاد). قال السخاوي: وبخط تلميذه العلاء بن العطار أنه وجد بخطه: (من الطويل) أموت ويبقى كل ما قد كتبته ... فيا ليت من يقرأ كتابي دعا لِيَا لعل إلهي أن يَمُنَّ بلطفِه ... ويرحم تقصيري وسوءَ فِعاليا

رجب سنة ست وسبعين وست مئة، ودفن بنوى رحمه اللَّه، وقبره مشهور يزار، ويقصده الصالحون والأخيار. فجزاه اللَّه عني خير الجزاء وجمع بيني وبينه مع سائر الأحبة في دار النعماء، وأنا من أهل محبته والمرء مع من أحب. واللَّه أعلم * * *

ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه الله تعالى

ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى (¬1) اسمه ونسبه هو الشيخ العلامة الفقيه الإمام أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر السَّلْمُنْتي، الهيتمي، الأزهري، الوائلي، السعدي، المكي، الأنصاري، الشافعي. سُمِّي بـ (ابن حجر) لأن جده كان ملازمًا للصمت، ولا يتكلم إلا لضرورة حاقة، وإلا. . فهو مشغول عن الناس بما مَنَّ اللَّه عليه به؛ فلذلك شبهوه بحجر ملقًى لا ينطق، فقالوا: حجر، ثم اشتهر بذلك. والسَّلْمُنْتي: نسبة إِلى (سَلْمُنْت) من بلاد حرام، من أقاليم مصر الشرقية؛ حيث كانت أسرته بها قبل انتقالها إلى محلَّة أبي الهيتم. والهيتمي -بالتاء المثناة الفوقية-: نسبة إلى محلة أبي الهيتم (¬2)، قرية من أعمال مصر الغربية. مولده ونشأته ولد بمحلِّة أبي الهيتم في رجب أواخر سنة (909 هـ)، ومات أبوه وهو صغير، فكفله جده لأبيه -الذي عمَّر أكثر من مئة وعشرين عامًا ورآه ابن حجر وقد جاوز هذا السن وقد أمن من الخرف، وكانت لهذا الجد عبادات خارقة في هذا السن- ثم مات ¬

_ (¬1) مصادر الترجمة: "النور السافر" (ص 390)، "الأعلام" (1/ 234)، "شذرات الذهب" (10/ 541)، "معجم المؤلفين" (2/ 293)، مقدمة "الفتاوى الفقهية" لابن حجر بقلم بعض تلامذته، "ابن حجر المكي وجهوده في الكتابة التاريخية" د. لمياء شافعي ط (1418 هـ) عن مكتبة ومطبعة الغد، "الإمام ابن حجر الهيتمي وأثره في الفقه الشافعي"، للدكتور أمجد رشيد محمد علي، رسالة ماجستير بالجامعة الأردنية (1420 هـ). (¬2) وفي "التاج" أنها مغيَّرة من أبي الهيتم، وتجمع على (الهياتم)، وهي مجموعة قرى.

طلبه للعلم

الجد، فكفله شيخا أبيه الإمامان: الشمس الشناوي، والشمس محمد السروي ابن أبي الحمائل. ثم إن الشيخ الشناوي رحمه اللَّه تعالى تولى رعايته ونقله إلى مقام السيد البدوي رحمه اللَّه تعالى بطنطا، حيث تلَّقى مبادئ العلوم هناك، وحفظ القرآن الكريم. طلبه للعلم في سنة (924 هـ) نقله الشمس الشناوي إلى كعبة العلوم والعرفان الجامع الأزهر، فبدأ بقراءة الحديث، والنحو، والمعاني والبيان، والأصلين (¬1)، والمنطق، والفرائض والحساب، والطب. قال ابن حجر رحمه اللَّه تعالى -بعد ذكره تحصيل هذه العلوم-: (حتى أجاز لي أكابر أساتذتي بإقراء تلك العلوم وإفادتها، وبالتصدُّر لتحرير المشكل منها بالتقرير والكتابة، ثم بالإفتاء والتدريس على مذهب الإمام المطَّلِبيِّ الشافعي ابن إدريس، ثم بالتصنيف والتأليف، فكتبت من المتون والشروح ما يغني روايته عن الإطناب في مدحه، والإعلام بشرحه، كل ذلك وسنِّي دون العشرين) اهـ (¬2) اتصف مترجمنا رحمه اللَّه بصفات جعلته في مصاف الأعلام الأخيار؛ منها: تقلله من الدنيا، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، كما كان السلف الصالح رحمهم اللَّه تعالى. شيوخه أخذ الإِمام ابن حجر عن جمعٍ من كبار علماء عصره، ولقي عددًا من كبار المعمَّرين والمُسنِدين من العلماء، وصنف في أخذه عنهم وتراجمهم "ثَبَتًا" ضَمَّنه أخبارهم، وأسانيده الشهيرة إِلى أُمَّات كتب العلم، ونحن ذاكرون هنا أبرزهم وأجلهم بحسب ترتيب وفياتهم (¬3): ¬

_ (¬1) أي: علم أصول الفقه والعقيدة. (¬2) "ثبت ابن حجر" (ق 21/ أ - ب). (¬3) للإمام ابن حجر رحمه اللَّه تعالى معجم وسط، ومعجم صغير، جمع فيهما أعلام مشايخه، وما لهم من إجازات، والكتب التي رواها عنهم، ومقروءاته لا يمكن حصرها لكثرتها.

1 - شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (826 - 926 هـ)، أشهر فقهاء مصر في عصره، وإِليه انتهت مشيخة الشيوخ، وكان هو الملجأ لكل المعضلات، له مصنفاتٌ عديدةٌ اشتهرت بالبركة، مات رحمه اللَّه عن مئة عام. أخذ عن الحافظ ابن حجر العسقلاني، والبلقيني، والشهاب الغزي، والمراغي، والنويري، وطبقتهم. أخذ عنه ابن حجر رحمه اللَّه حديث الأوَّليَّه، وكان معظِّمًا له جدًا، وكثيرًا ما يحيل على مصنفاته، قال ابن حجر: (ما اجتمعت به قط إِلَّا قال: أسأل اللَّه أن يُفقِّهك في الدِّين)، وأطنب في الثناء عليه في "ثبته" جدًا، وقال في حقِّه: (أَجلُّ من وقع عليه بصري من العلماء العاملين، والأئمة الوارثين، وأَعلى من عنه رويتُ ودريتُ من الفقهاء الحكماء المسندين. . .) إِلخ. 2 - الإمام زين الدِّين عبد الحقِّ بن محمد السنباطي (842 - 931 هـ)، أحد صفوة العلماء الأعلام، وكان مولده بسنباط، ووفاته بمكة. أخذ عن البدر العيني، والجلال البلقيني، وابن الهمام، والولي السنباطي، وأجاز له الحافظ العسقلاني. درس عليه ابن حجر بعض الكتب السِّتَّة في جمعٍ كثير، وأجازه بباقيها. 3 - الشمس ابن أبي الحمائل (ت 932 هـ) واسمه: محمد السروي. أخذ عن الشرف المناوي يحيى بن محمد (ت 871 هـ) وبه تخرج الشمس الشناوي، ووالد ابن حجر الشيخ محمد بن علي بن حجر. 4 - الشهاب الصَّائغ، أحمد بن الصائغ الحنفي (ت 934 هـ)، كان علَّامة في المعقول والمنقول. أخذ عن أمين الدين الأقصرائي، والخقي الشُّمُنِّي، والكافِيَجي. وكان مُبَرِّزًا في الطب. درس عليه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى علم الطب.

5 - الشمس الدَّلْجي، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الدَّلْجي، العثماني، الشافعي، (860 - 947 هـ) المولود بدَلْجة، قريةٌ بصعيد مصر غربي النيل. أخذ بالقاهرة والشام عن جمعٍ، منهم: البرهان البقاعي، والقطب الخَيْضري، وابن رُزَيق، والسَّخَاوي. وله شرحٌ على "الشفا". أخذ عنه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى علم المعاني والبيان، وكذلك الأصلين والمنطق. 6 - الشمس الضيروطي، محمد بن شعبان بن أبي بكر بن خلف الدمياطي، المشهور بابن عَرُوس المصري (870 - 949 هـ). أخذ عن الكمال ابن أبي شريف، والنور المحَلِّي. وقد درَّس بمقام الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى، وله شرح على "المنهاج" للإمام النووي، وغيره. أخذ عنه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى علم النحو. 7 - أحمد بن عبد الحقِّ السنباطي، الشافعي، المصري (ت 950 هـ)، أخذ عن والده وتفقَّه به، ووعظ بالمسجد الحرام لَمَّا حجَّ مع أبيه. أخذ عنه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى الأصلين أيضًا. 8 - أبو الحسن البكري، محمد بن محمد بن عبد الرحمن البكري، الصِّديقي، الشافعي (ت 952 هـ). أخذ عنه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى عدة علوم، وقرأ بمعيته "صحيح مسلم" على شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وحجَّا معًا، وجاورا سنة (934 هـ)، له شرح على "المنهاج"، وعلى "العباب" في الفقه. 9 - الشمس الحطابي، محمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب، الرعيني، الأندلسي، (ت 954 هـ). أخذ عن الإمام السخاوي، وعبد الحق، والنويري، وغيرهم. أخذ عنه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى علم النحو والصرف.

مقاساته في الطلب وخروجه إلى مكة

10 - الشهاب الرَّملي، أحمد بن أحمد بن حمزة الرملي، المصري، الشافعي (957 هـ)، من أجلِّ تلامذة شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وصار بعد وفاة شيخه إِمام علماء مصر. قرأ عليه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى قبل العشرين. كما أن ابن حجر أخذ عن الشيخ يوسف الأرميوني، المتوفى سنة (958 هـ). والناصر اللقاني، المتوفى سنة (958 هـ)، الفقيه المالكي المعروف، قرأ عليه عدة علوم في مدة مديدة، كـ"المنطق" للغزي، والأصلين، و"شرح العقائد"، و"شرح المواقف"، و"شرح جمع الجوامع" للمحلي والمعاني والبيان، و"المطول". . . إلخ. وناصر الدين الطبلاوي، محمد بن سالم الأزهري، المتوفى سنة (966 هـ). بل إن بعض شيوخه مات بعده؛ كالعلامة الإمام محمد بن عبد اللَّه الشنشوري الفرضي، المتوفى سنة (983 هـ). وعَدَّد بعض الباحثين شيوخ الإمام ابن حجر فأوصلهم إلى (31) شيخًا، ذكرنا أبرزهم وأجلهم. مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة كان ابن حجر رحمه اللَّه تعالى يتردَّد إلى مكة المكرمة، وقد جاور بها في بعض السنين. وأول زيارة سنة (934 هـ) مع شيخه البكري. ثم مرة ثانية سنة (938 هـ). ثم في سنة (940 هـ) قرَّر الرَّحلة إلى مكة والإقامة بها، وكان سبب خروجه من مصر ما حصل من سرقة بعض كتبه من قِبَلِ بعض الحُسَّاد، وهو كتابه "بشرى الكريم" الذي شرح به "العباب" شرحًا عظيمًا، ولم يزل متأثِّرًا بذلك الحادث، حتى إنه كان كثير الدُّعاء بالعفو عن ذلك الفاعل، ويقول: (سامحه اللَّه وعفا عنه). وقال ذاكرًا مجاهداته والشَّدائد التي عاناها: (قاسيتُ في الجامع الأزهر من الجوع

زملاؤه وأقرانه

ما لا تحتمله الجِبَّلة البشرية لولا معونة اللَّه وتوفيقه، بحيث إني جلست فيه نحو أربع سنين ما ذقت اللَّحم إلَّا في ليلةٍ، دُعينا لأكلٍ فإِذا هو لحم يُوقد عليه، فانتظرناه إلى أن ابهارَّ الليل، ثم جيء به، فإذا هو يابسٌ كما هو نِيءٌ، فلم أستسغ منه لقمة. وقاسيتُ أيضًا من الإيذاء من بعض أهل الدروس التي كنا نحضرها ما هو أشدُّ من ذلك الجوع إلى أن رأيت (¬1) شيخنا ابن أبي الحمائل قائمًا بين يدي سيدي أحمد البدوي، فجيء باثنين كانا أكثر إيذاءً لي، فضربهما بين يديه فمُزِّقا كل مُمزقٍ). كل هذه الأسباب كانت حاملةً له على مغادرة مصر والإِقامة بمكة، فسكنها لمدة (34) سنة، حتى توفي بها، وكان منزله بالحريرة قريبًا من سوق الليل، كما كانت له خلوة برباط الأشرف قايتباي بقرب المسجد الحرام. زملاؤه وأقرانه كان لابن حجر رحمه اللَّه أقران وزملاء كُثُر، منهم: 1 - شمس الدِّين، محمد بن أحمد الرملي، (919 - 1004 هـ)، وقد شارك ابن حجر رحمه اللَّه في الأخذ عن والده الشِّهاب الرملي المتقدِّم ذِكْره، وشاركه في القراءة والحضور على شيخ الإِسلام زكريا الأنصاري في "صحيح البخاري". وكانا كفرسي رِهان، وجرت بينهما خلافاتٌ فقهيةٌ، ومسائل علمية، وخلافهما من الخلاف المعتبر عند متأخري فقهاء الشافعية، وأُلِّفَتِ الرسائل والكتب في ذكر الخلاف بينهما في مسائل الفقه (¬2). 2 - العلامة المحدث بدر الدِّين الغزي، الشافعي (ت 984 هـ)، لقيه بمصر، ¬

_ (¬1) أي: في الرؤيا. (¬2) فمن ذلك: منظومة "كشف الغطاء واللبس عن اختلاف ابن حجر والشمس" للفقيه مصطفى بن إبراهيم بن حسن العلواني، الشافعي (ت 1193 هـ). "إثمد العينين في بيان اختلاف الشيخين" للشيخ الفقيه علي بن أحمد باصبرين، الدوعني، الحضرمي، ثم الحجازي (ت 1305 هـ). "فتح العلي في الخلاف بين ابن حجر والرملي" للسيد الفقيه عمر بن حامد بن عمر بافرج، العلوي، الحسيني، التريمي، الحضرمي (1252 - 1274 هـ).

تلامذته

وقرأ بمعيَّته بعض "صحيح البخاري" على شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، ثم اجتمع به في مكة سنة (952 هـ). 3 - العلامة عبد العزيز بن علي الزمزمي، الشافعي، المكي (ت 976 هـ)، كان من أَعزَّ أصحابه بعد سُكناه أم القرى، وكان يسير معه للقاء الشيوخ والأعيان، وقد أصهر ابنه الشيخ محمد بن عبد العزيز عند مترجَمنا ابن حجر رحمه اللَّه تعالى وأعقب مفتي مكة العلامة عبد العزيز الثاني بن محمد الزمزمي، وقد أدرك جده، وأخذ عنه. تلامذته بعد استقرار الإمام الهيتمي رحمه اللَّه تعالى بمكة. . شاع حديثه، وانتشر ذِكْره في الآفاق، فقصده طلاب العلم من كل فجٍّ، وتخرَّج به أكابر الفقهاء في القرن العاشر الهجري، فمن أعلام تلامذته وكبارهم: 1 - الفقيه الإمام الشيخ عبد الرحمن بن عمر بن أحمد العمودي، (ت 967 هـ)، من أهل قيدون بحضرموت. قال في حقَّه العلامةُ عبد القادر الفاكهي -تلميذه-: (أخذ عنه أخْذَ روايةٍ، أخْذَ شيخٍ عن شيخٍ، كما قيل في أخذ أحمد عن الشافعي) اهـ 2 - العلامة المتفنن الشيخ عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي، المكي، الشافعي (920 - 982 هـ)، له مؤلفات كثيرة، أخذ عن ابن حجر رحمه اللَّه تعالى ولازمه طويلًا، وصنَّف رسالةً سمَّاها: "فضائل ابن حجر الهيتمي". 3 - العلامة الشيخ عبد الرؤوف بن يحيى بن عبد الرؤوف الزمزمي الواعظ (930 - 984 هـ)، من أكبر تلامذة ابن حجر، أخذ عنه فأكثر، درس على يديه عدة فنون، وهو الذي جمع فتاوى شيخه الكبرى، وشرح "مختصر الإيضاح" له، وغير ذلك، ويخطئ بعض الناس فيظنه محمد عبد الرؤوف المناوي!! 4 - محدث الهند الإمام العلامة محمد طاهر الفتّني، الهندي، الحنفي، (913 - 986 هـ)، له "مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار" مطبوع، أخذ عن ابن حجر الهيتمي، وأبي الحسن البكري.

مؤلفاته

5 - السيد الشريف الإمام العلامة الفقيه شيخ بن عبد اللَّه بن شيخ العيدروس، (الأوسط) مصنف "العقد النبوي"، (919 - 990 هـ)، أخذ عن أبيه وشيوخ تريم، وجاور بمكة ثلاث سنين، من (941) إلى (944 هـ) ملازمًا لطلب العلم والعبادة، فأخذ عن الشيخ ابن حجر وعبد اللَّه باقشير وآل الفاكهي وغيرهم، وله من ابن حجر إِجازة فاخرة. 6 - الإِمام شهاب الدين أحمد بن قاسم العبّادي، المصري، الشافعي، الأصولي، المتكلم، (ت 994 هـ)، له حواشٍ على تحفة شيخه ابن حجر، اعترض فيها على مواضع منها، وله حاشية على "الورقات" تسمى: "الآيات البينات"، وغير ذلك. 7 - السيد الشريف العلامة القاضي عبد الرحمن ابن الشيخ شهاب الدِّين الأكبر العلوي، الحسيني، التريمي (945 - 1014 هـ)، أخذ عن شيوخ عصره، وجاور بمكة مدة، وأخذ بها عن الشيخ ابن حجر الهيتمي. مؤلفاته عدَّها بعض الباحثين فبلغت (117) مؤلَّفًا في شتى فنون العلم؛ من حديثٍ، وفقهٍ، وسيرةٍ، وتراجم، ونحو، وأدبٍ، وأخلاق، وعقيدةٍ، وغير ذلك. إلَّا أن أبرز الفنون التي اشتهر بها رحمه اللَّه تعالى هو علم الفقه، وله في ذلك اليد الطُّولى، وما "تحفته" التي عليها المدار والاعتماد في الإفتاء عند الشافعية إلَّا أصدق دليلٍ على ذلك. ومن مؤلفاته رحمه اللَّه: - شرح "ألفية ابن مالك" شرحًا مزجًا متوسطًا حاويًا لأكثر شروحها، وقد ذكر ذلك في مقدمة شرحه لكتابنا هذا عند قول الإمام النووي رحمه اللَّه: (أحمده. . .) (¬1). وفرغ منه سنة ثلاثين وتسع مئة، وعمره إحدى وعشرون سنة. ¬

_ (¬1) انظر (ص 79) من هذا الكتاب.

- "الفتح المبين بشرح الأربعين"، يعني: "الأربعين النووية"، وهو كتابنا هذا وهو شرحٌ مفيدٌ ونافع، وقد بذلنا جهدًا وجمعنا من اعتنى بـ"الأربعين النووية" أول الكتاب. - "الفتاوى الحديثية"، طبع عدة مرات، وفيها فوائد عزيزة المنال، وليست خاصة بعلم الحديث، بل اشتملت على عدة فنون. - "فتح الإِله بشرح المشكاه" مخطوط، صنفه سنة (954 هـ) بعد إلحاحٍ وطلبٍ من بعض علماء الهند، وهو شرحٌ على "مشكاة المصابيح" في الحديث. - "الفتاوى الفقهية الكبرى"، جمعها بعض كبار تلامذته -وهو عبد الرؤوف الواعظ الزمزمي- طُبعت بمصر قديمًا، وهي في (4) مجلدات، وبهامشه "فتاوى الشهاب الرملي". - "تحفة المحتاج بشرح المنهاج"، صنَّفه ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في ستة أشهرٍ فقط، وهو كتابٌ مهمٌّ ومحقَّق في فقه السادة الشافعية، وعليه مدار الفتوى في حضرموت خصوصًا وبعض بلدان المسلمين، وقد وضعت عليها الحواشي العديدة، واعتنى بها علماء الشافعية من شتَّى البلدان، واختصرها البعض، وحشَّى عليها البعض. - "المنهج القويم بشرح مسائل التعليم"، وهو شرح لـ "المقدمة الحضرمية"، صنَّفه ابن حجر رحمه اللَّه سنة (944 هـ) بطلب من الفقيه عبد الرحمن العمودي، وقد انتفع به طلاب العلم أيَّما انتفاع؛ حتى إن بعض تلامذة ابن حجر يقول فيه (¬1): (قلَّ أن ترى طالبًا ليس عنده منه نسخة) اهـ وقد اهتم أهل العلم والفقهاء بهذا الشرح، فوضعت عليه الحواشي والتعليقات الكثيرة، ولقد صدر عن دار المنهاج مع تتمته التي تطبع لأول مرة، بحلة قشيبة ورونق جذاب، ولقد تشرفتُ بالاعتناء به، وللَّه المنة والفضل. - "المنح المكية في شرح الهمزية" شرح فيه "همزية الإمام البوصيري" رحمه اللَّه تعالى (ت 695 هـ)، وقد عُنيت دار المنهاج بطباعته بحلَّةٍ جديدة بتحقيق علمي مميز. ¬

_ (¬1) وهو: باعمر السيفي في "نفائس الدرر" (ق 3/ ب). من "ابن حجر وجهوده" (ص/ 185).

وفاته

- "الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود"، وقد عنيت دار المنهاج بتوفيق من اللَّه سبحانه وتعالى بطباعته محققًا، تقر بمنظره العيون، وتستمتع بمضامينه الأفكار. هذا ذكر لبعض مصنفات الإمام ابن حجر رحمه اللَّه تعالى، أما بقية كتب ابن حجر الفقهية؛ "كالإِيعاب"، و"الإِمداد"، و"فتح الجواد"، و"شرح الإِيضاح"، وبقية الكتب الأخرى، كـ"الصواعق"، و"الزواجر"، و"كف الرعاع"، و"الإعلام بقواطع الإسلام"، و"إتحاف أهل الإسلام بخصوصيات الصيام" فرغ من تأليفه سنة اثنين وخمسين وتسع مئة، وغيرها. . فالكلام عنها يطول، ومن أراد التوسُّع ومعرفة هذه الكتب ووصفها وما يتعلَّق بها. . فعليه بالبحث الموسَّع عن الإمام ابن حجر رحمه اللَّه تعالى ضمن مصادر الترجمة. ويكفي أن نشير هنا إِلى كتابه الفريد الجامع المسمّى "أسنى المطالب في صلة الأقارب"، وهو كتابٌ كبير، حوى نفائس الفوائد، وهو هام في بابه، وقد طبع مؤخرًا. وفاته ولَمَّا كبرت سنه رحمه اللَّه تعالى. . ابتدأ به مرضٌ ألجأه إِلى ترك التدريس لمدة نيف وعشرين يومًا، وكتب وصيته في الحادي والعشرين من رجب (974 هـ)، وفي ضحوة الإِثنين (23) من الشهر المذكور لبَّى نداء ربه راضيًا مرضيًا. وصُلِّي عليه تحت باب الكعبة الشريفة، ودفن في المعلاة بقرب من مَوْضِعِ صَلْبِ الصحابي الجليل سيدنا عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنهما، في التربة المعروفة بتربة الطبريين. ورثاه الشعراء، وبكى عليه الناس زمنًا، وكان لموته رنة حزنٍ وأسفٍ عَمَّتْ بلاد الحرمين واليمن ونواحيها. رحمه اللَّه رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار.

وهذه أبيات أوردها العلامة العيدروس في "النور السافر" لصاحبه الفقيه أحمد باجابر، يمدح بها ابن حجر قال فيها: قد قيل من حجرٍ أصمَّ تفجرتْ ... للخلق بالنَّصِّ الْجَلِي أنْهَارُ وتفجرت يا معشر العلماء مِن ... حجر العلوم فبحرُهَا زخَّار أَكرِمْ به قطبًا محيطًا بالعلا ... ورَحَاؤُه حقًا عليه تُدار * * *

وصف النسخ الخطية

وصف النسخ الخطية اعتمدنا في إخراج هذا السِّفر النافع على ثلاث عشرة نسخةً خطية، وهي: النسخة الأولى: وهي نسخة المكتبة الأزهرية، ذات الرقم (عام 5665 - خاص 641). وهي نسخة نفيسه كاملة، خطها نسخي معتاد، وهي نسخة مقابلة ومصححة، عليها بلاغات وتصحيحات، وفيها بعض الهوامش، وعليها في صفحة (27) وقف كتب بخط مغاير: وقف برواق الريافة. وهي بخط السيد محمد بن الحاج رجب البولاقي بلدًا، الشافعي مذهبًا، الأزهري نسبًا، رحمه اللَّه تعالى. وهذه النسخة قريبة من عهد المؤلف رحمه اللَّه تعالى؛ إذ وجد في آخر ورقة منها: وكان الفراغ من مقابلته مستهل شهر اللَّه الحرام ذي الحجة، سنة خمس وثمانين وتسع مئة على نسخة المؤلف، لشيخ شيوخ مشايخ الإسلام شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي عفا اللَّه عنا وعنه -آمين- بمكة المشرفة، زادها اللَّه شرفًا وكرمًا، ومهابة وتعظيمًا، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. تتألف هذه النسخة من (191) ورقة، عدد سطور الورقة بين (21) و (23) سطرًا. عدد كلمات السطر الواحد (12) كلمة تقريبًا. ورمزنا لها بـ (أ). النسخة الثانية: وهي نسخة المكتبة السليمانية بإستنبول، وهي من مجموعة مكتبة رئيس الكتاب مصطفى أفندي رحمه اللَّه تعالى، ذات الرقم (167). وهي نسخة نفيسة كاملة، خطها نسخي معتاد، مقابلة ومصححة، عليها بلاغات

وتصويبات، وفيها بعض الهوامش، وعلى صفحة العنوان منها ختم بوقف السيد رئيس الكتاب السابق مصطفى أفندي رحمه اللَّه تعالى، وكتب متن الأحاديث بلون مغاير. وهي بخط السيد صالح بن علي المنداوي الحنفي رحمه اللَّه تعالى. وجد في خاتمتها: (قال مؤلفه الإمام العلامة، العمدة البحر الفهامة شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي: وكان الفراغ من كتابته يوم السبت المبارك، تاسع عشري صفر الخير، سنة ثمانية وتسعين وتسع مئة. . .) ولعل هذا وهم أو سبق قلم؛ لأن وفاة المؤلف رحمه اللَّه تعالى كانت في سنة (974 هـ) واللَّه أعلم. تتألف هذه النسخة من (197) ورقة، عدد سطور الورقة (23) سطرًا، عدد كلمات السطر الواحد (12) كلمة تقريبًا. ورمزنا لهذه النسخة بـ (ب) النسخة الثالثة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية، ذات الرقم (عام 89587 - خاص 5967)، وهي نسخة كاملة إلا ورقة من آخرها، خطها نسخي. وهي نسخة مقابلة ومصححة، في هامشها حواشٍ مفيدة وكثيرة، تم انتقاء بعضها، ولقد كتب فيها متن الأحاديث بلون مغاير. وجد على ورقة العنوان منها: وَقَفَ وحبسَ هذا الكتاب السيد حسن عارف المقدسي على طلبة العلم، وجعل مقره بالخزانة الكائنة برواق الشوام، وبشرط ألَّا يخرج من الجامع، وألَّا يغير منه أكثر من أربعة كراريس، {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. لم نعرف من هو ناسخها، ولا تاريخ نسخها، لنقص الورقة الأخيرة منها. تتألف هذه النسخة من (171) ورقة، عدد سطور الورقة (25) سطرًا، عدد كلمات السطر الواحد (12) كلمة تقريبًا. ورمزنا لهذه النسخة ب (ج). النسخة الرابعة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية أيضًا، ذات الرقم (عام 8958 - خاص 5963)، وهي نسخة مقابلة، فيها تصحيحات وحواش قليلة، فيها نقص

ضمن الورقة (139) حيث انتقل الكلام بعد الحديث الثالث والعشرين إلى أول الحديث الثالث والثلاثين، خطها نسخي معتاد، كتبت فيها الأحاديث بلون مغاير، كتب على ورقة العنوان: (أوقف هذا الكتاب الشيخ إبراهيم بن مفتي صيدا في الأزهر، وجعل مقرها رواق الشوام). وهي بخط السيد محمد أبي بكر الدلجي بلدًا، الشافعي مذهبًا، رحمه اللَّه تعالى ووالديه وجميع المسلمين، وتاريخ انتهاء النسخ: يوم الأحد، السادس والعشرون من شهر رجب المعظم، سنة (1118 هـ). وفي خاتمتها: (قال مؤلفه الإمام العلامة العمدة البحر الفهامة جامع أشتات الفضائل، بقية السلف الأفاضل: شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي عفا اللَّه تعالى عنه: ابتدأت فيه أثناء القعدة، وفرغت منه هلال المحرم سنة إحدى وخمسين وتسع مئة)، وهذا التاريخ هو الذي تبين لنا صحته، وما ورد في خواتم بعض المخطوطات وقع فيها سهو أو سبق قلم. تتألف هذه النسخة من (194) ورقة، عدد سطور الورقة (23) سطرًا، عدد كلمات السطر الواحد (11) كلمة تقريبًا. ورمزنا لهذه النسخة بـ (د). النسخة الخامسة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية أيضًا، وهي نسخة جيدة غير كاملة، فيها خرم ضمن الصفحة (222)، بين الحديث التاسع والعشرين والحديث الثامن والثلاثين، ولقد استأنسنا بها. وهذه النسخة خطها نسخي معتاد، فيها بعض الحواشي، وكتب على ورقة العنوان بخط مغاير: وقفٌ للَّه تعالى على طلبة العلم بالأزهر. وهي بخط السيد أحمد بن علي بن أحمد الشعار، الفيومي بلدًا، والمالكي مذهبا، رحمه اللَّه تعالى وغفر له ولوالديه. وكان الفراغ من نسخها يوم السبت المبارك، رابع يوم شهر ربيع الثاني، من شهور سنة ألفٍ ومئة وستة وثلاثين من الهجرة النبوية.

وفي هامش آخر ورقة منها: يقول مؤلفه عفا اللَّه عنه: (ابتدأت فيه في أثناء القعدة وفرغت هلال المحرم سنة إحدى وخمسين وتسع مئة، أرجو اللَّه قبوله وعموم النفع به، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير). تتألف هذه النسخة من (242) ورقة، عدد سطورها (23) سطرًا، عدد كلمات الشطر الواحد (7) كلمات تقريبًا، وفيها خرمٌ كما نبهنا عليه آنفًا. ورمزنا لها بـ (هـ). النسخة السادسة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية أيضًا، ذات الرقم (عام 20460 - خاص 1865)، وهي نسخة كاملة، استأنسنا بها، خطها مستعجل، كتبت فيها الأحاديث بلون مغاير. لم يعرف ناسخها ولا تاريخ النسخ، وهي من وقف السيد محمد بيك رحمه اللَّه تعالى. تتألف هذه النسخة من (199) ورقة، عدد سطورها (27) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر الواحد (9) كلمات. ورمزنا لهذه النسخة بـ (و). النسخة السابعة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية أيضًا، ذات الرقم (عام 42217 - خاص 3185)، وهي نسخة كاملة مقابلة فيها بلاغات وتصويبات، وعليها تملكات، خطها نسخي معتاد، كتبت فيها الأحاديث بلون مغاير. وهي بخط السيد عمر الخلوتي، وتاريخ انتهاء نسخها سنة (1177). تتألف من (246) ورقة، عدد سطورها (21) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر الواحد (10) كلمات. ورمزنا لها بـ (ز). النسخة الثامنة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية أيضًا، ذات الرقم (عام 55665 - خاص 4053)، وهي نسخة كاملة، خطها نسخي معتاد، وهي من النسخ التي استأنسنا بها، وقع خطأ في خاتمتها ولعله سبق قلم، حيث نقل عن المؤلف قوله:

(وكان الفراغ من تأليفه: يوم السبت المبارك، تاسع عشر صفر الخير، سنة ثمان وتسعين وتسع مئة) ومن المعلوم: أن وفاة المؤلف رحمه اللَّه سنة (974) فتبين أنه وهم أو سبق قلم. وهي بخط السيد علي بن حسنين الشافعي، وكان الفراغ من نسخه يوم الأربعاء، سبعة أيامٍ خلت من شهر صفر، سنة (1291). تتألف هذه النسخة من (182) ورقة، عدد سطورها (25) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر (11) كلمة. ورمزنا لها بـ (ح). النسخة التاسعة: وهي نسخة المكتبة الأزهرية أيضًا، ذات الرقم (عام 93465 - خاص 6376)، وهي نسخة كاملة، خطها مستعجل، كتبت فيها الأحاديث بلون مغاير، وهي من النسخ المستأنس بها، وعليها ختم في عدة مواضع كتب فيه: (وقف هذا للَّه تعالى الفقير للَّه سبحانه محمد التلمساني المالكي وجعل مقره بمنزله) رحمه اللَّه تعالى رحمة الأبرار. وفي خاتمة هذه النسخة قول المؤلف رحمه اللَّه تعالى: (ابتدأت فيه أثناء القعدة وفرغت منه هلال المحرم سنة "951"). وهي بخط السيد محمد العوضي غفر اللَّه له ولوالديه، وكان الفراغ من نسخه ليلة الأحد المبارك سابع عشري ذي الحجة الحرام ختام سنة (1181). تتألف هذه النسخة من (261) ورقة، عدد سطور الورقة (21) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر الواحد (8) كلمات. ورمزنا لها بـ (ط). النسخة العاشرة: وهي نسخة يمنية من مكتبة خاصة، مصورة من مقتنيات الأخ الباحث محمد أبو بكر باذيب الشبامي جزاه اللَّه عنا خيرًا، وهي نسخة كاملة، خطها نسخي معتاد، وهي من النسخ التي أعدنا المقابلة عليها، واستفدنا منها. وهي نسخة مقابلة مصححة، كتبت فيها الأحاديث بلون مغاير، وفي خاتمتها قول

الشارح رحمه اللَّه تعالى: (ابتدأت فيه أثناء القعدة، وفرغت منه هلال المحرم سنة إحدى وخمسين وتسع مئة). وفي خاتمتها: (وكان الفراغ من كتابته نهار الربوع -[الأربعاء]- يوم سابع وعشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثالث وعشرين من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، والحمد للَّه رب العالمين حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، آمين، آمين). وتمت مقابلة هذه النسخة في مجالس آخرها في شهر رجب الحرام، سنة خمسين بعد الألف، عند ضريح الشيخ عبد الهادي السودي رحمه اللَّه تعالى على نسخة مضبوطة بخط شيخ الإسلام الصديق بن محمد الخاص السراج الحنفي الزبيدي من تلامذة الشيخ ابن حجر المؤلف، رحم اللَّه الجميع رحمة الأبرار. تتألف هذه النسخة من (149) ورقة، عدد سطورها (31) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر (11) كلمة. ورمزنا لهذه النسخة بـ (ي). النسخة الحادية عشرة: وهي نسخة يمنية أيضًا، مصورة من مقتنيات الأخ الباحث محمد أبو بكر باذيب أيضًا، وهي نسخة كاملة، خطها نسخي مستعجل، وهي من النسخ التي أعدنا المقابلة عليها. وهي نسخة مقابلة مصححة، طالعها بعض العلماء من الزيدية والشافعية، وعلقوا بعض الفوائد على الهوامش، كُتبت للقاضي يحيى بن أحمد الآنسي (¬1)، وقابلها ابن القاضي المذكور السيد إسماعيل بن يحيى، وكتب ذلك بخطه. ورد في خاتمتها قول الشارح، وهي موافقة لما سبق، وورد أيضًا: (وكان الفراغ من رقمه نهار الجمعة، شهر رمضان المعظم رابع عشر منه، سنة ثمان وأربعين ومئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بعناية سيدي القاضي الفاضل. . .). ¬

_ (¬1) كان زاهدًا قانعًا، تولى القضاء على عهد الإمام المهدي العباس بن الحسين في محلات كثيرة، توفي سنة (1192 هـ).

وعلى هذه النسخة تملكات عديدة، انتقلت إلى ملك العلامة رضي الدين صالح بن محمد بن عبد اللَّه بن الحسين بن الحسن بن صلاح الحضراني، ثم إلى ملك العلامة الفقيه علي بن عبد اللَّه شبامي (¬1)، شيخ العلماء بمدينة الحديدة سنة (1271 هـ) ثم إلى ملك الجد العلامة الفقيه أبي بكر بن محمد عبود باذيب سنة (1304 هـ). تتألف هذه النسخة من (239) ورقة، عدد سطورها (21) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر (10) كلمات. ورمزنا لهذه النسخة بـ (ك). النسخة الثانية عشرة: وهي نسخة مصرية نفيسة، وهي أيضًا من مقتنيات الأخ الباحث محمد أبو بكر باذيب، وهي نسخة كاملة، خطها نسخي معتاد، أعدنا المقابلة عليها أيضًا. وهي نسخة مقابلة، عليها الكثير من الحواشي والتعليقات المفيدة، والفوائد الهامة، وفي أولها فوائد بخط الشيخ العلامة علي الفرغلي تلميذ الإمام جلال الدين عبد الكريم البلقيني شيخ المشهد الحسيني بمصر، وتلميذ الإمام جلال الدين البكري، رحم اللَّه الجميع رحمة واسعة شاملة؛ ولضيق الوقت لم نستطع الأخذ من الهوامش، ولا نريد تطويل الكتاب أكثر مما وصل إليه. وفي خاتمتها وقع وهم في تاريخ انتهاء الشارح رحمه اللَّه تعالى من كتابتها، والصواب ما قدمناه، ووجد في خاتمتها تاريخ النسخ واسم الناسخ؛ ونص العبارة: (وكان الفراغ من كتابته يوم الثلاثاء المبارك، ثالث شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين بعد الألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، على يد كاتبها لنفسه العبد الفقير الحقير، المعترف بالذنب والتقصير: محمد الخطيب بن الشيخ عبد الصمد بن الشيخ أبو الحسن الخطيب الشربيني الشافعي، غفر اللَّه لهم ولوالديهم ولأمواتهم، وكل المسلمين أجمعين آمين. . .). وعلى هذه النسخة تملكات نفيسة؛ حيث كانت في ملك السيد علي بن محمد ¬

_ (¬1) توفي الشيخ علي رحمه اللَّه تعالى (1305 هـ).

السقاف ساكن سيؤون رحمه اللَّه، ثم دخلت في ملك السيد أحمد بن الإمام العارف باللَّه عمر بن زين بن سميط، ثم دخلت في ملك السيد عمر بن أبي بكر بن محمد باذيب رحم اللَّه الجميع رحمة الأبرار. تقع هذه النسخة في (160) ورقة، عدد سطورها (29) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر (13) كلمة. ورمزنا لهذه النسخة بـ (خ). النسخة الداغستانية وهي النسخة الثالثة عشرة: وهي نسخة مطبوعة في المطبعة الإسلامية، للسيد محمد ميرزا مورايوف، في بلدة تميرخان شوره، في (18) ذي الحجة من سنة (1332 هـ). وقد قابلنا على هذه النسخة النفيسة، وهي نسخة كاملة مقابلة، وفيها تصويبات لم نجدها في غيرها، وفي هوامشها الكثير من "حاشية المدابغي"، وقد أفادتنا فائدة جليلة وهي أن نسخة العلامة المدابغي المطبوعة فيها نقص عما هو في المخطوط -وقد اعتمدنا على نسخة مخطوطة للمدابغي- وأكد لنا ذلك وجود بعض الهوامش منسوبة للمدابغي ولم نجدها في المطبوع ووجدناها في المخطوط، وللَّه الفضل والمنة. في آخر ورقة من هذه النسخة كُتب: يقول الكاتب الفقير مرتضى علي بن محمد الشدردي الداغستاني: قد وقع الفراغ عن كتبه هذا الكتاب في (15) من ذي الحجة الحرام (1332 هجرية). وصححناه حسب ما يمكن من النسخ المعتبرة. وهذه النسخة مقروءة ومقابلة على عدة نسخ، وعليها تصويبات وهوامش لعدة علماء أجلاء من أهل داغستان، حماها اللَّه وأعزها بالإسلام والإيمان. من هؤلاء العلماء: العلامة السيد محمد بن موسى القدقي (¬1)، والعلامة السيد ¬

_ (¬1) العالم العامل، الزاهد الفاضل الرحلة، شيخ علماء داغستان، كان جبلًا من العلم وبحرًا من الفهم، رحل في طلب العلم إلى مصر والحجاز واليمن، وأخذ عن العلماء، ومن أشهرهم الشيخ صالح اليمني؛ حيث ساهم المترجَم له في نقل كتب شيخه إلى داغستان، ثم رحل إلى الدولة العثمانية، وتوفي في مدينة حلب، واختلف في تاريخ وفاته، قيل: (1119 هـ)، وقيل: (1120 هـ)، وقيل: (1129 هـ) رحمه اللَّه تعالى.

إبراهيم العردي (¬1)، والعلامة السيد أبو بكر العيمكي (¬2)، والعلامة السيد عمر الكدالي (¬3)، والعلامة المجاهد شمويل الإمام (¬4)، والعلامة السيد محمد طاهر القراخي (¬5)، والعلامة السيد محمد علي بن ميرزا الجوخي، وابنه العلامة محمد ميرزا (¬6)، والعلامة السيد محمد بن إبراهيم الهجوي (¬7)، والعلامة السيد عبد الحليم ¬

_ (¬1) العلامة الفقيه النابغة، قال عنه الفقيه محمد الجوخي في "فتاواه": (هو أفقه علماء ديارنا الداغستانية، رحل وحج واعتمر، وأخذ عن الأعلام مثل الشيخ سعيد المكي، والشيخ العربي بدمشق، والشيخ عبد اللَّه البصري وغيرهم رحمهم اللَّه تعالى، وله آثار وتقارير جمة في الفقه وغيره، توفي بالطاعون سنة (1174 هـ) ودفن في قريته، رحمه اللَّه تعالى. (¬2) العلامة المحقق أبو بكر بن معاوية العيمكي، ولد في قرية عيمكي سنة (1145 هـ) وحصل من العلوم والفنون الشيء الكثير، كان ناصحًا رحيمًا، قال عنه العلامة سعيد الهركاني في مقدمة شرحه على "الخواطر اللوامع على القصائد الجوامع" للعيمكي: (هو الشيخ الإمام العلامة والبحر الفهامة، محيي السنة والأحكام، مظهر آثار السلف، قاضي قضاة المسلمين. . .) له مؤلفات وتقريرات وحواشٍ؛ من مؤلفاته: "إعلام التلميذ بأحكام النبيذ"، و"فضائل الحبيب" وشرحه، و"بذل الفتوى فيما عمت به البلوى" وغير ذلك، توفي في قرية هر كان سنة (1205 هـ) رحمه اللَّه تعالى. (¬3) القاضي عمر الكدالي الأواري، العالم البارع في المنقول والمعقول، المحقق الأديب والفقيه الأريب، تولى القضاء مدة في بلدة (تارغوا) المشهورة قديمًا ببلنجر، وله مؤلفات وآثار؛ مثل: "فتح الغالب على المبتدأ الطالب" وله شعر بالعربية، توفي سنة (1216 هـ) ودفن في المقبرة القديمة ببلدة تارغوا، رحمه اللَّه تعالى. (¬4) الإمام المجاهد الكِمراوي الأواري شاميل، ولد في حدود (1212 هـ) في قرية كمراه، طلب العلم وأخذه عن الجهابذة، أمثال الشيخ سعيد الهركاني، والشيخ غازي محمد الشهيد، حتى بلغ ذروة المجد، وأثنى عليه العلماء والعامة، تصدى للروس المحتلين مدة (25 سنة) جهادًا في سبيل اللَّه، وممن أثنى عليه العلامة إبراهيم الباجوري رحمه اللَّه تعالى، وأرسل إليه العلامة حسن الدمياطي الشافعي المدرس في مكة المشرفة رسالة، وصلته وهو في معركته في قلعة جوخ سنة (1265 هـ)، توفي هذا المجاهد في المدينة المنورة سنة (1287 هـ) ودفن بالبقيع، رحمه اللَّه تعالى. (¬5) الشيخ العالم المحقق محمد طاهر بن كُنَاش القراخي الأواري، من أفقه علماء داغستان، وكان من المجاهدين، وهو أحد علماء الإمام شمويل أفندي، له تآليف عديدة؛ مثل: "بارقة السيوف الجبلية في بعض الغزوات الشاملية"، و"شرح المفروض على مؤدى الفروض" المتن والشرح له، توفي بعد صلاة الصبح، يوم الأربعاء، الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة (1297 هـ). (¬6) العلامة محمد علي بن محمد ميرزا الجوخي الداغستاني، ولد سنة (1249 هـ)، طلب العلم حتى صار أعلم أهل زمانه، وأفقه فقهاء أوانه، من تآليفه "الفتاوى الجوخية" المشهورة في داغستان، توفي سنة (1305 هـ) رحمه اللَّه تعالى. وله ابن صالح، وهو محمد ميرزا، صاحب المطبعة الإسلامية التي كانت في تمير خان شوره، وتعتبر أول مطبعة إسلامية في داغستان، ونسخنا التي اعتمدنا عليها هي من تلك المطبعة المباركة، توفي رحمه اللَّه تعالى سنة (1964 م). (¬7) محمد بن إبراهيم الهجوي، كان عالمًا علامة، أخذ عن علماء داغستان؛ كالعلامة الحاج دِبير القراخي الهنوخي =

الثغوري (¬1)، والعلامة السيد محمد علي الجركي، والعلامة السيد حل اللطيف، والعلامة السيد قبد الهركني، والعلامة السيد عكلجي، رحمهم اللَّه تعالى أجمعين، وجزاهم اللَّه خيرًا عن الإسلام والمسلمين. ولقد استفدنا من هذه النسخة ومن الهوامش التي فيها، واخترنا من هذه الهوامش وأثبتناه وأشرنا لذلك. وتتألف هذه النسخة من (600) صحيفة، عدد أسطر الصحيفة (16) سطرًا، ومتوسط عدد كلمات السطر (10) كلمات. ورمزنا لهذه النسخة بـ (غ). نسخة حاشية المدابغي رحمه اللَّه تعالى: وهي نسخة المكتبة الأزهرية، ذات الرقم (عام 53096 - خاص 3828)، خطها مستعجل. استفدنا من هذه النسخة بتوجيه عبارة المصنف أحيانًا، وقابلنا الهوامش التي أخذناها من النسخة الداغستانية والتي عزيت لحاشية المدابغي على هذه النسخة. وهذه النسخة مالكها وكاتبها السيد: أحمد المنيلي، وتاريخ انتهاء نسخها: يوم الخميس المبارك، عاشر شهر رجب، سنة (1146). تتألف هذه النسخة من (183) ورقة، عدد سطور الورقة (25) سطرًا، متوسط عدد كلمات السطر الواحد (12) كلمة. ورمزنا لها بـ (م)، وكثيرًا ما صرحنا باسمها. * * * ¬

_ = رحمه اللَّه تعالي، وغيره، ولم نصل إلى سنة وفاته، أما وفاة شيخه الحاج دبير كانت سنة (1276 هـ) رحمهم اللَّه تعالى. (¬1) الشيخ عبد الحليم الثغوري الأواري، كان عالمًا ماهرًا في العلوم العربية وغيرها، من مؤلفاته "حاشية الأضواع على الأوضاع" في علم الوضع، وهو من علماء القرن الثاني عشر، رحمه اللَّه تعالى.

منهج العمل في الكتاب

منهج العمل في الكتاب اعتمدنا في إخراج هذا الكتاب على ثلاث عشرة نسخة خطية، جعلنا النسخة (أ) أصلًا؛ لأنها مقابلة على نسخة المؤلف رحمه اللَّه تعالى، وقريبة من عهده؛ إذ تاريخ نسخها (985 هـ). قابلنا الكتاب على عدة نسخ بداية، وتم النظر في فروق النسخ، ثم تواردت نسخ أخرى، أعدنا المقابلة على أهمها وهي: (ي) و (ك) و (خ) و (غ)، وتجدر الإشارة إلى أنا حصلنا على نسخة خطية لـ"حاشية العلامة المدابغي" رحمه اللَّه تعالى، فيها زيادات كثيرة على ما في المطبوعة، وفيها حلٌّ لكثيرٍ من الإشكالات، وأكَّد لنا صحة هذه الزيادة أن في هامش النسخة الداغستانية كثير من الحواشي منها ما هو من "حاشية المدابغي" وبعضها غير موجود في المطبوع لكنه موجود في المخطوط. - وضعنا بعض هوامش المخطوطات مما رأيناه مفيدًا، أو فيه تصويب أو ضبط للعبارة، وأكثرها من "حاشية المدابغي" ومن النسخة الداغستانية. - أحلنا معظم نقولات الشارح رحمه اللَّه تعالى إلى مظانها قدر الوسع وحسبما توافر بين أيدينا من المصادر، ويجدر بنا أن نشير هنا أن الشارح رحمه اللَّه تعالى استفاد كثيرًا من كتاب الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى "جامع العلوم والحكم" من حيث الصنعةُ الحديثية. - أضفنا الحديث من "الأربعين" عند بداية الكلام عليه بعد مقابلتها على ثلاث نسخٍ خطية نفيسة، إحداها وهي الأنفس عليها إجازة خطية بالسند إلى الحافظ المزي عن المؤلف رحمهما اللَّه تعالى. وجعلنا المتن، مرصعًا بالشكل، مخرَّجًا إلى ما عزاه الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى ضمن إطار ملوَّن. - جعلنا المتن المشروح ضمن النص بلون مغاير، وكذا العناوين، وما له أهمية. - أثبتنا بعض فروق النسخ مما له فائدة.

- أضفنا بين معقوفين [] ما وجدناه مناسبًا لتقويم العبارة، معتمدين على ما بين أيدينا من مصادر. - عنونا أحاديث "الأربعين"، والتنبيهات والفوائد، وجعلناها أيضًا بين معقوفين []. - حضرنا الآيات القرانية بين قوسين مزهرين {} وجعلناها برسم المصحف الشريف من رواية حفص عن عاصم رحمهما اللَّه تعالى، وما أراده الشارح من قراءة أخرى .. تركناه كما أراد. - وضعنا بعض التعليقات إما لإيضاح، أو زيادة بيان، أو شرح لغامض. - قمنا بدراسة وجمع لمن اعتنى بكتاب "الأربعين النووية" من العلماء قديمًا وحديثًا، واستفدنا من كتاب السيد راشد بن عامر الغفيلي جزاه اللَّه خيرًا؛ وهو "إتحاف الأنام في ذكر جهود العلماء على الأربعين". - ترجمنا للإمام النووي وللإمام ابن حجر رحمهما اللَّه تعالى ترجمة موجزة. - وضعنا خاتمة "الأربعين النووية" مع باب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات آخر الكتاب؛ وهو باب ضبط فيه الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى بعض الألفاظ كعادته في كتبه؛ فرأينا وضع الخاتمة مع هذا الباب آخر الكتاب مع أنَّ كثيرًا ممن طبع "الأربعين" فاته أن يطبعها، والشارح رحمه اللَّه تعالى أشار ضمن النص إلى بعضها، ولم يشرح الخاتمة وباب الإشارات. - صنعنا فهارس لموضوعات الكتاب. - وفي الختام: نسأل اللَّه سبحانه الإخلاص في العمل، وتجنب الخطأ والزلل، وأن يخرج الكتاب كما أراده مؤلفه وشارحه رحمهما اللَّه تعالى رحمة الأبرار، وأن يجعلنا وإياهم تحت لواء سيد المرسلين صلى اللَّه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ولا يفوتنا أن نشكر دار المنهاج والقائمين عليها، والعاملين فيها، وكل من بذل جهدًا في هذا الكتاب، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين. * * *

صور المخطوطات المستعان

صور المخطوطات المستعان بها

راموز الورقة الأولى للنسخة (أ) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (أ) راموز ورقة العنوان للنسخة (ب) راموز الورقة الأولى للنسخة (ب) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ب) راموز ورقة العنوان للنسخة (ج)

راموز الورقة الأولى للنسخة (ج) راموز ورقة العنوان للنسخة (د) راموز الورقة الأولى للنسخة (د) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (د) راموز ورقة العنوان للنسخة (هـ) راموز الورقة الأولى للنسخة (هـ)

راموز الورقة الأولى للنسخة (و) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (و) راموز ورقة العنوان للنسخة (ز) راموز الورقة الأولى للنسخة (ز) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ز) راموز الورقة الأولى للنسخة (ح)

راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ح) راموز ورقة العنوان للنسخة (ط) راموز الورقة الأولى للنسخة (ط) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ط) راموز ورقة العنوان للنسخة (ي) راموز الورقة الأولى للنسخة (ي)

راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ي) راموز ورقة العنوان للنسخة (ك) راموز الورقة الأولى للنسخة (ك) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (ك) راموز ورقة العنوان للنسخة (خ) راموز الورقة الأولى للنسخة (خ)

راموز الورقة الأخيرة للنسخة (خ) راموز ورقة العنوان للنسخة (غ) راموز الورقة الأولى للنسخة (غ) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (غ) راموز الورقة الأولى للنسخة (مدابغي) راموز الورقة الأخيرة للنسخة (مدابغي)

الفتح المبين بشرح الأربعين للإمام العلامة الفقيه المحقق شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الشافعي رحمة اللَّه تعالى (909 - 974 هـ)

[خطبة الكتاب]

بسم اللَّه الرحمن الرحيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ وصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ [خُطْبَةُ الكِتَابِ] الحمد للَّه الذي وفَّق طائفةً من علماء كل عصرٍ للقيام بأعباء الأحاديث والسُّنن، وميَّزهم على من سواهم بسلوكهم أوضحَ المحجة وأقومَ السَّنَن، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، شهادةً أنتظم بها في سلكهم، وأتبوأ بخلوصها سوابغ النِّعم وسوابق المنن، وأشهد أن سيدنا محمدًا صلى اللَّه عليه وسلم عبده ورسوله، خير من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأفضل من تحلَّى بمعالي الخُلق الحسن، صلى اللَّه وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، الذين بذلوا أنفسهم في نقل جوامع أقواله (¬1)، وغرر أحواله إلينا؛ لنأمن من غوائل المحن والفتن، صلاةً وسلامًا دائمينِ بدوام جوده على أمته في السِّر والعلن. أما بعد: فإن "الأربعين" التي خرَّجها الشيخ الإمام، والصدِّيق الهمام، ولي اللَّه تعالى بلا نزاع، ومحرر مذهب الإمام الشافعي بلا دفاع، محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النواوي، قدس اللَّه تعالى روحه، ونوَّر ضريحه. . لما كانت أحاديثها من جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم، المشتملة على أبلغ المعاني، وأحكم المباني، حتى وُصِف أكثرها بأن عليه مدار الإسلام، وابتناء أكثر الأحكام. . كانت حقيقةً بأن يُعتنى بها حفظًا وتعليمًا، وتفهُّمًا وتفهيمًا. فلذا عنَّ في أن أكتب عليها شرحًا يعرِّف رواتَها، ويُبيِّن أحكامها، ويوضِّح ¬

_ (¬1) قوله: (أنفسهم) وفي نسخ: (نفوسهم) وكلٌّ منهما جمع (نفس) والأول هو القياس، والنفس لها معانٍ؛ منها: العين، والذات الشاملة للروح والجسد، ومنها: الروح، ومنها الدم. اهـ "مدابغي".

غريبها، ويعرب مشكلها، ويشير إلى بعض ما يُستنبط منها من الأصول والفروع والآداب، مع إيثار الإيجاز ومجانبة الإطناب، كان كانت حريةً بالتطويل والإكثار؛ لِمَا اشتملت عليه من بدائع الفوائد والأسرار، ولعمري؛ إن كثيرًا من أحاديثها يحتمل مجلدات، ولكن التطويل مُملٌّ، والاختصار أكثر مما يأتي مخلٌّ؛ لأنه إنما يشير إلى تقرير قواعدها على وجهٍ كليٍّ في أكثرها، وإلا. . فتفصيلها يستدعي تطويلًا أقل ما يكون في ثلاث مجلدات، يفصِّل في أحدها: حكم الإيمان، وهو علم أصول الدين، وفي ثانيها: حكم الإسلام، وهو علم الفقه، وفي ثالثها: حكم الإحسان، وهو علم التصوف. هذا بالنسبة لحديثٍ واحدٍ منها، وهو حديث جبريل الآتي، فكيف بجميعها؟! وبذلتُ في تحريرها الجهدَ، وتخليصِ الكلام عليها الوسعَ (¬1)؛ رجاء أن تعود عليَّ بركة مخرِّجها، ومددٌ من رفيع جناب المُفتَنّ بها على أمته صلى اللَّه عليه وسلم، وشرف وكرم. واللَّه أسأل أن ينفع به، وأن يبلغني كل مأمولٍ بسببه؛ إنه بكل خيرٍ كفيل، وهو حسبي ونعم الوكيل، وسميته: "الفتح المبين بشرح الأربعين" ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (وتلخيص الكلام عليها).

[خطبة الأربعين النووية]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم [خطبة الأربعين النووية] الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالمِينَ، قيومِ السَّماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، مُدبِّرِ الخَلائِقِ أَجْمَعِينَ، بَاعِثِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِم إلَى الْمُكَلَّفِينَ؛ لِهِدَايَتِهمْ وَبيَانِ شرَائِعِ الدِّينِ، بالدَّلَائلِ الْقَطْعِيَّةِ وَوَاضِحَاتِ الْبَرَاهِينِ، أَحْمَدُهُ عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ، وَأَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ. وَأَشْهدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، الْكَرِيمُ الْغَفَّارُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ، أَفْضَلُ المَخْلُوقِينَ، المُكَرَّمُ بالْقرآنِ الْعَزِيزِ الْمُعجِزَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى تَعَاقُبِ السِّنِينَ، وَبِالسُّنَنِ الْمُستَنِيرَةِ لِلْمُسْترشِدِينَ، الْمَخْصُوصُ بجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَسَمَاحَةِ الدِّينِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائرِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرسَلِينَ، وَآلِ كُلٍّ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ. قال المؤلف رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه مفتتحًا كتابه كأكثر المؤلِّفين بالتسمية والتحميد؛ تأسِّيًا بالكتاب المجيد، وعملًا بالحديث الصحيح: "كل أمرٍ ذي بالٍ -أي: حالٍ يهتم به- لا يبدأ فيه بالحمد للَّه، أو بحمد اللَّه، أو ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، أو بذكر اللَّه -روايات-. . فهو أجذم، أو أقطع، أو أبتر" روايات أيضًا (¬1)؛ أي: قليل البركة، وقيل: مقطوعها، ورواية: "بذكر اللَّه" تبين أنه لا تعارض، ¬

_ (¬1) انظر الحديث ورواياته عند ابن حبان (1 - 2)، وأبي داوود (4840)، وابن ماجه (1894)، والنسائي في "الكبرى" (10255)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 208)، والدارقطني في "سننه" (1/ 229)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 359)، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص 51) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وانظر "نتائج الأفكار" للحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى (3/ 279 - 282).

وأن القصد حصول الابتداء بأي ذكرٍ كان؛ على أنه حقيقيٌّ يحصل بالبسملة، وإضافيٌّ يحصل بما بعدها من الحمدلة: (باسم اللَّه) أي: أبتدئ تاليفي متلبسًا أو مستعينًا باللَّه تعالى أو باسمه، واللَّه: علم على الذات الواجب الوجود لذاته، المستحق لجميع الكمالات، وهو الاسم الأعظم عند أكثر أهل العلم، وعدم الاستجابة لكثيرين؛ لعدم استجماعهم لشرائط الدعاء التي من جملتها: أكل الحلال، وهو مشتقٌّ -وقيل: مرتجلٌ- من (ألِهَ) إذا تحيَّر؛ لتحيُّر الخلق في معرفته، وقيل غير ذلك، وهو أعرف المعارف. ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه اللَّه تعالى أن جميع أسمائه تعالى صالحةٌ للتخلُّق بها إلا هذا؛ فإنه للتعلُّق دون التخلُّق (¬1)، ولم يسمَّ به غيره تعالى، قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: لا أحد تسمَّى اللَّه غيره، وهذا من باهر معجزاته صلى اللَّه عليه وسلم، فهو كإخباره بأن اليهود لا يتمنَّون الموت، وبأن أحدًا لا يمكنه الإتيان بمثل أقصر سورةٍ من القرآن، فلم يتجاسر أحدٌ على واحدةٍ من هذه الثلاثة مع كثرة أعداء الدين وتعنُّتهم، وشدة حرصهم على تكذيبه صلى اللَّه عليه وسلم في إخباره. (الرحمن) أي: البالغ في الرحمة والإنعام، ومن ثَمَّ لم يسمَّ به غيره تعالى، وتسمية أهل اليمامة مُسيلِمة الكذاب لعنه اللَّه تعالى به من التعنُّت في الكفر. ويجوز صرفه وعدمه. (الرحيم) أي: ذي الرحمة الكثيرة، فالرحمن أبلغ منه كان صح في الحديث: "يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما" (¬2)؛ لزيادة بنائه الدالة غالبًا على زيادة المعنى، والاستدلال على الأبلغيَّة بقولهم: (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم ¬

_ (¬1) يعني بعدم صحة التخلُّق بالجلالة: عدم صحة اتصاف الإنسان بالألوهية وإن صح التعلُّق بها؛ بمعنى تعلق عباد الباري تعالى بالتوسل به، فمعنى التعلق: التوسل. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ). (¬2) قطعة من حديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 515) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها، والطبراني في "الكبير" (20/ 154) عن سيدنا معاذ رضي اللَّه عنه، ولفظه عند الحاكم: "لو كان على أحدكم جبلًا من ذهب دينًا فدعا بذلك. . لقضاه اللَّه عنه: اللهم؛ فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك. . . ".

الآخرة). . فيه نظر؛ لهذا الحديث الدال على استوائهما في ذلك، وأتى به تتميمًا لوصفه تعالى بالرحمة، وإشارةً إلى أن ما دلَّ عليه من دقائقها وإن ذكر بعد ما دلَّ على جلائلها الذي هو المقصود الأعظم. . مقصود أيضًا؛ لئلا يُتوهم أنه غير ملتفَتٍ إليه، فلا يُسأل ولا يُعطي. والرحمة: عطفٌ وميلٌ روحانيٌّ، غايته الإنعام، فهي لاستحالتها في حقه تعالى مجازٌ؛ إما عن نفس الإنعام فتكون صفة فعلٍ، أو عن إرادته فتكون صفة ذاتٍ، وإما من باب التمثيل المقرر في علم البيان. (الحمد) مصدر (حمد) وهو لغةً: الوصف بالجميل، سواء تعلَّق بالفضائل؛ أي: الصفات التي لا يتعدى أثرها للغير، أم بالفواضل؛ أي: الصفات المتعدي أثرها إليه، وعرفًا: فعلٌ ينبئ عن تعظيم المُنعِم من حيث إنه منعمٌ على الحامد أو غيره، وهذا هو الشكر لغة، وأما اصطلاحًا: فهو صرف العبد جميع ما أنعم اللَّه تعالى به عليه؛ من نحو السمع والبصر وسائر الجوارح والحواس إلى ما خُلق لأجله من الطاعات، ولعزَّة هذا المقام قال اللَّه تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. قال بعض محققي الصوفية: حقيقة الحمد: إظهار بعض الصفات الكمالية بقولٍ كما مر، أو بفعل وهو أقوى؛ إذ الفعل الذي هو أثر السخاوة مثلًا يدل عليها دلالةً عقليةً قطعية، لا يتصور فيها تخلُّفٌ، بخلاف القول، ومن هذا القبيل حمده تعالى على ذلك (¬1)؛ لأنه تعالى لما بسط بساط الوجود على ممكناتٍ لا تحصى (¬2)، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى. . فقد كشف عن صفات كماله، وأظهرها بدلالاتٍ عقليةٍ قطعيةٍ تفصيليةٍ غير متناهية، فإن كل ذرةٍ من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات، ومن ثَمَّة قال عليه الصلاة والسلام: "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (¬3). ¬

_ (¬1) هذا هو التحقيق، وأما ما يقال من أنه تعالى حمد ذاته على ألسنة عباده. . فتكلُّفٌ مستغنًى عنه. (عيمكي) اهـ هامش (غ). (¬2) في (غ): (بساط الجود. . .). (¬3) أخرجه مسلم (486)، وأبو داوود (879)، والترمذي (3493) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. وفي هامش (غ): (أي: لأن ثناء الرسول عليه الصلاة والسلام بالقول، وثناء اللَّه تعالى بالفعل، وقد مر من أن الفعل أقوى من القول).

(للَّه) أي: مملوك ومستحق له ومختص به، كما أفادته الجملة (¬1)؛ إذ المسند إليه إذا كان معرَّفًا بـ (لام) الجنس. . يفيد قصره على المسند وعكسه، واختصاص الجنس يوجب اختصاص جميع أفراده به تعالى؛ لأن ثبوت فردٍ منه لغيره ينافي اختصاص الجنس به أو استحقاقه إياه؛ لوجوده في ضمن ذلك الفرد، وحينئذٍ ساوت (أل) الجنسية هنا (أل) الاستغراقية الدالة على ثبوت كل فردٍ من أفراد الحمد لهُ تعالى واختصاصه به. وقرنَ الحمد بالجلالة الدالة على استجماعه تعالى لصفات الكمال، واستحقاقِهِ الحمد لذاته؛ لئلا يتوهم اختصاصه بصفةٍ دون أخرى. (رب) أي: مالك، أو سيِّد، أو مصلح، أو مربي، أو خالق، أو معبود، ويختص المحلى بـ (أل) دون المضاف بالله تعالى، وقول الجاهلية للملك من الناس: (الرب) من كفرهم، ويطلق أيضًا على الصاحب والثابت. ثم قيل: هو وصفٌ، فعليه: وزنه فَعِل (¬2)، وقيل: فاعل؛ أي: راب، وحذفت ألفةُ لكثرة الاستعمال، ورُدَّ: بأنه خلف الأصل، وقيل: هو مصدرٌ بمعنى فاعِل، كـ (عدل) و (صوم). واعلم: أن وجوه تربيته تعالى لخلقه لا يحيط بها غيره سبحانه وتعالى: فمنها: تربيته النطفة إذا وقعت في الرحم حتى تفسير علقةً، ثم مضغةً، ثم يصير منها عظامٌ، وغضاريف، ورباطاتٌ، وأوتارٌ، وأوردةٌ، وشرايين، ثم يتصل بعضها ببعضٍ، ثم يصير في كلٍّ قوةٌ خاصةٌ؛ كالنظر والسمع والنطق، فسبحان من بصَّر بشحمٍ، وأسمعَ بعظمٍ، وأنطقَ بلحمٍ. ومنها: أن الحبَّة إذا دفنت في الأرض وحصل لها نداوة. . انتفخت (¬3)، ثم لا تنشق مع عموم الانتفاخ لها إلا من أعلاها وأسفلها، فيخرج من الأعلى الجزء ¬

_ (¬1) في (غ): (الجملة الاسمية). (¬2) أي: صفةٌ مشبهةٌ، وزنه (فَعِلٌ) بكسر العين، أصله: (رَبِب) ثم أُدغم. (¬3) في (ك) و (ي): (أن الحبة إذا وقعت بالأرض فحصل. . .).

الصاعد وهو الساق، ثم يتفرع منه أغصان كثيرة، ثم منها نَوْرٌ (¬1)، ثم ثمرٌ مشتملٌ على أجزاء كثيفةٍ كالقشر، ولطيفةٍ كاللب، ثم دهنٌ، وأما الجزء الغائص من أسفل الحبة. . فيتفرع إلى عروقٍ، ثم ينتهي إلى أطرافها، وهي في اللطافة كأنها مياهٌ منعقدةٌ، ومع غاية لطفها تغوص في الأرض الشديدة الصلابة، وأودع فيها قوةً جاذبةً تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها. والحكمة في جميع هذه التدبيرات: تحصيل ما يحتاج إليه الآدمي من الغذاء والإدام، والفواكه، والأشربة؛ كما قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} الآيةَ. (العالمين) جمع عالَم، مشتقٌ من العَلَم -فيختص بذويه على ما يأتي- أو العَلَامة؛ لأنه علامةٌ على موجده، وأنه متصفٌ بصفات الكمال، فلكونه آلةً في الدلالة على ذلك، واسمًا لما يعلم به صار كالطابع اسمًا لما يطبع به. ومدلوله: ما سوى اللَّه تعالى وصفات ذاته؛ لأنها ليست عينًا نظرًا لِلُّزوم (¬2)، ولا غيرًا نظرًا لاستحالة الانفكاك، وتخصيصه بذي الروح، أو بالناس، أو بالثقلين والملائكة، أو بالثلاثة مع الشياطين، أو ببني آدم، أو بأهل الجنة والنار، أو بالرّوحانيين (¬3). . يحتاج لدليل. ونُقل عن المتقدمين أعدادٌ مختلفةٌ في العالمين وفي مقارِّها، اللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصحيح منها، كقول مقاتل: (هي ثمانون ألف عالم). والضحاك: (ثلاث مئة وستون ألف عالم؛ ثلاث مئة ألفٍ حفاة عراة لا يعرفون خالقهم، وستون ألفًا مكسيون يعرفونه) (¬4). ¬

_ (¬1) النَّوْر: الزهر. (¬2) قوله: (نظرًا للزوم) أي: للزومها للذات، ولازم الشيء غيره؛ إذ العين لا تلزم عينًا أخرى، فلو كانت عينًا. . لما لزمت الذات، وفي نسخٍ: (نظرًا للمفهوم) اهـ "مدابغي" (¬3) الروحانيون، قال ابن الأثير رحمه اللَّه تعالى في "النهاية" (2/ 272): (يروى بضم الراء وفتحها، كأنه نسبةً إلى الرُّوح أو الرَّوح؛ وهو نسيم الريح، والألف والنون من زيادات النسب، ويريد به: أنهم أجسامٌ لطيفةٌ لا يدركها البصر). (¬4) انظر "حاشية البجيرمي على الخطيب" (1/ 29).

وقال ابن المسيب: (للَّه تعالى ألف عالمٍ؛ ست مئة في البحر، وأربع مئة في البر). وقال مقاتل: (ثمانون ألفًا؛ نصفها في البر ونصفها في البحر). وقال وهب: (ثمانية عشر ألف عالمٍ: الدنيا عالمٌ منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاطٍ في صحراء) (¬1). وقال كعب الأحبار (¬2): (لا يحصي عدد العالمين أحدٌ غير اللَّه سبحانه وتعالى؛ قال اللَّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}) (¬3). و (أل) في (العالمين) للاستغراق، وجمع العالم شاذٌّ، لأنه اسمُ جمعٍ كـ (الأنام)، وجمعه بالواو والنون أشذ؛ لعدم استكماله شروط هذا الجمع، لكن لما كان بعضُ مدلوله وهم العقلاء أشرفَ. . غُلِّبوا. ومنع بعض المحققين كونه جمعًا لـ (عالم) قال: بل هو اسم جمعٍ له؛ لئلا يلزم أن المفرد أعم من جمعه؛ لاختصاص (العالمين) بالعقلاء، وشمول (العالم) لهم ولغيرهم، فهو نظير قول سيبويه: ليس (أعراب) -لكونه لا يطلق إلا على البدوي- جمعًا لـ (عرب) لشموله له وللحضري (¬4). وجوابه: منع اختصاص العالمين بالعقلاء، بل يشمل غيرهم أيضًا، كما صرَّح به الراغب (¬5)، وإنما غُلِّبوا في جمعه بالواو والنون لشرفهم، وعلى التنزل وأن (العالمين) خاصٌّ بالعقلاء. . فهو جمعٌ لـ (عالم) مرادًا به العاقل، فلا محذور حينئذ، وإنما لم يجز (شيؤون) جمع (شيء) مرادًا به العاقل؛ لأن (شيئًا) ليس صفةً ولا علمًا، فلا يجمع بالواو والنون. (قيوم) فَيْعُول من أبنية المبالغة، قُلبت الواو ياء وأُدغمت في الياء، وأحسن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 70). (¬2) قوله: (كعب الأحبار) في "القاموس": (كعب الحَبْر، ولا تقل: الأحبار) اهـ "مدابغي". (¬3) ذكر هذه الأقوال الإمام البغوي رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره" (1/ 40)، والإمام ابن عادل الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في تفسيره "اللباب في علوم الكتاب" (1/ 183 - 184). (¬4) انظر "تاج العروس" مادة (عرب). (¬5) انظر "مفردات ألفاظ القرآن الكريم" (ص 582).

الأقوال فيه وأجمعها: أنه الدائم القائم بتدبير خلقه وحفظه؛ قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآيةَ، ويقال فيه: قيَّام وقَيِّم، وبهما قُرئ شاذًا (¬1). (السماوات) جمع سماء؛ وهي: الجِرم المعهود، ويُطلق لغةً على كل مرتفعٍ. (والأرَضين) بفتح الراء وقد تسكَّن، وجَمَعَها -وإن كان خلف ما في الآيات- إشارةً إلى أن الأصح: أنهنَّ سبعٌ؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي: عددًا لا هيئةً وشكلًا فقط، خلافًا لمن زعمه؛ للحديث المتفق عليه: "من ظلم قِيد شبرٍ -بكسر القاف؛ أي: قدر شبر-. . طُوِّقه من سبع أرضين" (¬2). وزَعْمُ أن المراد سبعٌ من سبع أقاليم خروج عن الظاهر بغير دليل، على أن الأصل في العقوبات المماثلة، ولا تتم إلا إن طُوِّق الشبر من سبع طبقات الأرض، وفي حديث البيهقي: "اللهم؛ رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن" (¬3)، وجَمْعُها بالياء والنون شاذٌّ، قيل: وحكمته: أن يكون عوضًا عما فاتها من ظهور علامة التأنيث. (مدبر) مصرِّف أمور (الخلائق) أي: المخلوقات بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، ومن عبَّر بالمصلحة. . أراد التدبير الدنيوي؛ لأن عموم رحمته تعالى اقتضت إقامة المصالح الدنيويةِ على المؤمن والكافر، لا الأخروي (¬4)؛ لأن غاية الكفار النارُ المؤبدة عليهم، فالمدبِّر: العالم بأدبار الأمور وعواقبها، ومقدر المقادير ومجريها. وحملُ (الخلائق) على أنه جمع (خليقة) بمعنى الطبع خلافُ الظاهر. (أجمعين) تأكيدٌ ناصٌّ على شمول تدبيره تعالى لكل مخلوق. (باعث) مرسل (الرسل) جمع رسول؛ وهو: إنسانٌ حرٌّ ذكرٌ من بني آدم، أُوحي إليه بشرعٍ وأُمر بتبليغه، سواء كان له كتالب أنزل عليه ليبلغه -ناسخًا لشرع من ¬

_ (¬1) انظر "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 277)، وانظر "معجم القراءات القرآنية" (1/ 195). (¬2) البخاري (2453)، مسلم (1612) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) سنن البيهقي الكبرى (5/ 252) عن سيدنا صهيب رضي اللَّه عنه. (¬4) قوله: (لا الأخروي) بالنصب عطفأ على (الدنيوي). وفي نسخ: (لا الأخرويةِ) بالجر عطفًا على (الدنيوية) اهـ "مدابغي"

قبله أو غير ناسخٍ له- أو على مَنْ قبله وأُمر بدعوة الناس إليه، أم لم يكن له ذلك؛ بأن أُمر بتبليغ الموحى إليه من غير كتاب، ولذلك كثرت الرسل؛ إذ هم ثلاث مئة وثلاثة عشر، وقلَّت الكتب؛ إذ هي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وصحف آدم، وشيث، وإدريس، وإبراهيم، وهو أخص من النبي؛ فإنه: إنسانٌ حرٌّ ذكرٌ من بني آدم، أُوحي إليه بشرعٍ وإن لم يؤمر بتبليغه. (صلواته) أي: رحمته المقرونة بتعظيم، وخُصَّ لفظها بهم (¬1)؛ تعظيمًا لهم، وتمييزًا لرتبتهم على غيرهم، وتنظير بعض الشُّرَّاح في تفسيرهم لها بالرحمة؛ لأنها عطفت عليها في: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ولأنها مستحيلةٌ في حقه تعالى، وتصويبه أنها المغفرة. . غيرُ سديد (¬2)؛ لأنها أخص من مطلق الرحمة، وعطف العام على الخاص صحيحٌ مفيد؛ ولأن المراد بها -كما مر- في حقه تعالى: غايتُها كسائر الصفات المستحيل ظاهرها عليه تعالى. (وسلامه) أي: تسليمه إياهم من كل آفةٍ ونقصٍ (عليهم) وهذه كجملة (الحمد للَّه) خبريةٌ لفظًا، إنشائيةٌ معنًى (إلى) متعلقٌ بـ (باعث) (المكلَّفين) جمع مكلفٍ؛ وهو: البالغ العاقل من الإنس، وكذا من الجن بالنسبة لنبينا صلى اللَّه عليه وسلم؛ إذ هو مرسلٌ إليهم إجماعًا، خلافًا لمن وهم فيه، كما بيَّنه السبكي في "فتاويه" (¬3)، وأما بقية الرسل. . فلم يرسل أحدٌ منهم إليهم؛ كما قاله الكلبي، وروي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (¬4). ¬

_ (¬1) قوله: (وخصَّ لفظها) أي: الصلاة (بهم) أي: الأنبياء والرسل؛ أي: خُص بهم طلبُها استقلالًا، فلا ينافي أنها تطلب على غيرهم تبعًا، وتكره استقلالًا؛ لأن لفظ الصلاة عرفًا صار شعارًا لذكرهم، ولهذا كُره أن يقال: (محمد عز وجل) وإن كان عزيزًا جليلًا، وكالصلاة السلامُ إلا إذا كان خطابًا -ولو حكمًا كالمراسلات- أو جوابًا؛ فإن الابتداء به سنةٌ، وردُّه واجب، وأُلحق بالأنبياء الملائكة ومَن اختُلف في نبوتهم كلقمان، وأما صلاته صلى اللَّه عليه وسلم على آل أبي أوفى. . فقيل: من خصائصه، وقيل: لبيان الجواز. اهـ من شرحي "الكفاية"، و"الجزرية" (ص 6) لشيخ الإسلام. اهـ هامش (غ) (¬2) قوله: (غير سديد) خبر لقوله: (وتنظير بعض الشُّراح). (¬3) انظر "فتاوى السبكي" (2/ 612 - 613). (¬4) انظر "البحر المحيط" (4/ 223) فقد نقل قول الإمام الكلبي رحمه اللَّه تعالى؛ وهو: (كان الرسل يبعثون إلى الإنس، وبُعث محمد صلى اللَّه عليه وسلم إلى الجن والإنس. ورُوي هذا أيضًا عن ابن عباس) ووقع وهم في "اللباب في علوم الكتاب" (8/ 435) حيث تحرف فيه قول الكلبي، فليتنبه.

وإيمانهم بالتوراة -كما دلَّ عليه قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآيةَ- لا يدل على أنهم كانوا مكلَّفين به؛ لجواز إيمانهم به تبرعًا منهم، وليس منهم رسولٌ عن اللَّه سبحانه وتعالى عند جماهير العلماء، وأما قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}. . فالمراد به: من أحدكم، وهم الإنس، على حدِّ قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}، وكذا من الملائكة بالنسبة لنبينا أيضًا؛ لأنه مرسلٌ إليهم عند جماعةٍ من أئمتنا المحققين (¬1)؛ كما يدل عليه خبر مسلم: "وأُرسلتُ إلى الخلق كافة" (¬2)، بل أخذ بعض المحققين من أئمتنا بعمومه حتى للجمادات؛ بأن ركِّب فيها عقلٌ حتى آمنتْ به (¬3). وقول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الشامل لهم (¬4): (أجمعنا على أن المراد الإنس والجن دون الملائكة) (¬5). . مردودٌ، أو مراده به إجماع الخصمين؛ إذ (أجمعنا) إنما يقال لذلك غالبًا، لا إجماع كل الأمة، على أن هذا لا يؤخذ من مثل الرازي، بل من مثل ابن المنذر وابن جرير. وأما غير نبينا. . فغير مرسلٍ إليهم قطعًا. إذا تقرر ذلك. . فإطلاق المصنف بعْثَ الرسل إلى المكلفين ليس المراد به عمومه كما عرفت. فإن قلت: تكليف الملائكة من أصله مختلَفٌ فيه. قلت: الحق تكليفهم بالطاعات العملية؛ قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، بخلاف نحو الإيمان؛ لأنه ضروريٌّ فيهم، فالتكليف وبه تحصيلٌ ¬

_ (¬1) كالتقي السبكي رحمه اللَّه تعالى كما في "فتاويه" (2/ 613)، والإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى كما في "الحاوي في الفتاوي" (2/ 139) وغيرهما، وانظر "المنح المكية" للشارح رحمه اللَّه تعالى (ص 224 - 225). (¬2) صحيح مسلم (523) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) نقله الإمام السيوطي عن الإمام البارزي رحمهما اللَّه تعالى، ثم قال في "الحاوي" (2/ 140): (واستدلَّ بشهادة الضب له بالرسالة، وشهادة الحجر والشجر له، وأزيد على ذلك أنه مرسلٌ إلى نفسه). (¬4) أي: الشامل للملائكة. (¬5) انظر "تفسير الرازي" (24/ 45).

للحاصل وهو محال، والتكليف: إلزام ما فيه كُلفة، وهو الواجب والحرام، دون المندوب والمكروه؛ إذ لا تكليف فيهما حقيقة. (لهدايتهم) مصدرُ مضافٌ للفاعل أو المفعول؛ أي: لأجل دلالتهم إياهم على سلوك سبيل الهدى، وتجنُّب طريق الردى، ثم بعد هذه الدلالة منهم مَنْ تحصل له الهداية بمعنى الوصول وهم المؤمنون، ومنهم من لا تحصل له وهم الكافرون، ودليل إطلاقها عليهما خلافًا للمعتزلة: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: دللناهم {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى} أي: الضلال {عَلَى الْهُدَى} أي: الإسلام، والذي للرسل هو الأول، وأما الثاني .. فيختص به تعالى؛ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}. وبما قررته عُلم أن (اللام) في كلام المصنف لبيان حكمة الإرسال وغايته، لا للعلَّة الباعثة عليه؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعلَّل بالأغراض؛ لِمَا يلزم على ذلك الذي ذهب إليه المعتزلة قبَّحهم اللَّه تعالى مما هو مقرر في محله. (وبيان شرائع) جمع شريعةٍ، فعيلة بمعنى مفعولة، من (شرعَ): بيَّن؛ وهي لغةً: مشرعة الماء؛ أي: مورد الشارب، واصطلاحًا: وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم. (الدين) الإضافة فيه بيانيةٌ كما عُلم من تفسير الشريعة بما ذكر؛ إذ هو هنا: ما شرعه اللَّه تعالى لنا من الأحكام، وهذه الأحكام المشروعة هي ذلك الوضع الإلهي. . . إلخ. ويصح أن تكون على معنى (اللام) (¬1): بأن يراد بالشرائع الأحكام، وبالدين الملة والإسلام؛ قال اللَّه تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا}، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. ويطلق أيضًا على العادة، والسيرة، والحساب، والقهر، والقضاء، والحكم، ¬

_ (¬1) أي: الإضافة في قوله: (شرائع الدين).

والطاعة، والحال، والجزاء، ومنه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، "كما تدين تدان" (¬1)، والسياسة، والرأي. ودان: عصى وأطاع، وذلَّ وعزَّ، فهو من الأضداد. قيل: ولو قال: (ببيان). . كان أحسن؛ ليكون ذاكرًا للهداية وسببها، وليس في محله؛ لما تقرر أن الهداية هنا بمعنى الدلالة، وهي بيان الشرائع، فكيف يجعل ذلك البيان سببًا لها؟! فالصواب: ما فعله المصنف؛ لأنه من باب عطف الرديف؛ إيضاحًا وتنبيهًا على المراد. (بالدلائل) متعلق بـ (بيان) جمع دليل، وهو لغةً: المرشد، واصطلاحًا: ما يمكن التوصُّل بصحيح النظر فيه إلى علمٍ أو ظنٍّ، نقليًا كان -وهو الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ونحو الاستصحاب- أو عقليًا وهو البرهان الآتي. (القطعية) وهي الأدلة المؤدية إلى العلم؛ للقطع بمقدماتها، نحو: كل إنسانٍ جسمٌ، وكل جسمٍ مركبٌ، فكل إنسانٍ مركب. فإن قلت: أكثر أدلة الشريعة ظنيةٌ؛ لأن مقدماتها كذلك، نحو: الطمأنينة ركنٌ في الصلاة، وكل ركنٍ واجبٌ، والوضوء عبادةٌ، وكل عبادةٍ تُشترط لها النية، فكان ينبغي له حذف (القطعية). قلت: إنما صارت ظنية بالنسبة إلينا، بخلافها بالنسبة لمن سمعها من النبي صلى اللَّه عليه وسلم؛ فإنها بالنسبة إليه قطعيةٌ، والكلام إنما هو في بيان الرسل للشرائع، وذلك جميعه قطعي. ويصح أن يراد بدلائلهم معجزاتهم الدالة على صدقهم، وكلها قطعية؛ لاستفادتها من دليل مؤلَّفٍ من مقدمتين قطعيتين، نحو: الرسل جاؤوا بالمعجزات، وكل من جاء بالمعجزات صادق، فالرسل صادقون، أما الصغرى. . فضروريةٌ حسية، والكبرى ضروريةٌ عقلية؛ إذ المعجزة خارقةٌ للعادة، وخرقها لا يقدر عليه إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وهو لا يؤيد بذلك كاذبًا، وقد أيَّدهم اللَّه بها، فلم يكونوا كاذبين، بل صادقين. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (20262)، والبيهقي في "الزهد" (710) عن سيدنا أبي قلابة رضي اللَّه عنه، وأوله: "البر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديَّان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تُدان".

(وواضحات البراهين) أي: البراهين الواضحة التي لا إشكال فيها، جمع برهانٍ؛ وهو لغة: الحجة، واصطلاحًا: ما تركَّب من مقدمتين متى سلمنا (¬1). . لزمهما لذاتهما قول ثالث؛ كالعالَم متغير، وكل متغيرٍ حادثٌ، ينتج: العالم حادث، على ما هو مقررٌ في محله من كتب الميزان (¬2). (أحمده) أي: أصفه بجميع صفاته الجميلة، وذكر الحمد مرتين؛ للجمع بين نوعيه الواقع في مقابلة صفاته تعالى، والواقع في مقابلة نعمه التي من جملتها التوفيق لهذا التأليف، وهذا الثاني هو الشكر كما، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، وخص الأول بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار، والثاني بالفعلية الدالة على التجدُّد والتعاقب؛ لقدم الصفات واستمرارها، وتجدد النِّعم وتعاقبها، وفي الأبلغ من الحمدينِ كلامٌ بينته في شرحي "الألفية" و"الإرشاد" (¬3). (على جميع نعمه) جمع نعمة؛ وهي: بين العيش وخِصْبه (¬4)، أو الشيء المُنعَم به؛ إذ كثيرًا ما يأتي (فِعْل) بمعنى المفعول، كالذِّبْح والنِّقْض والرِّعْي والطِّحْن (¬5)، ومع ذلك لا ينقاس، وقال الفخر الرازي: (هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، وقيل: لا بد من تقييد المنفعة بالحسنة؛ لأنه لا يستحق الشكر إلا بها، والحق عدم اعتبار هذا القيد؛ لجواز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محذورًا (¬6)؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم، ولهذا ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (من قضيتين)، وفي بعضها: (من تصديقين متى سلما). (¬2) أي: كتب المنطق. (¬3) انظر "فتح الجواد شرح الإرشاد" (1/ 9). (¬4) الخِصب -بكسر الخاء-: ضد الجدب، وفي بعض النسخ: (وخفضه) وهما بمعنًى. (¬5) بمعنى المذبوح والمنقوض والمرعي والمطحون، قال تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: مذبوح. (¬6) قوله: (لجواز أن يستحق الثمكر بالإحسان) أي: بالتصدُّق مما في يده مثلًا وإن كان فعله -أي: فعل ذلك الأحسان والتصدق- محذورًا وحرامًا، لكون ذلك المتصدَّق به مسروقًا أو مغصوبًا، أو مما لا بد منه لنفسه. . . إلى غير ذلك، فالتصدق وإن كان في نفسه إحسانًا إلا أن فعله بمثل المال المسروق حرامٌ، فيتصور استحقاق الشكر بفعل ذلك مع كونه غيرَ حسنٍ، ويترتب عليه الذم؛ لتغاير جهتَي الشكر والذم، هذا واللَّه تعالى أعلم. (محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ).

استحقَّ الفاسق الشكر بإنعامه، والذم بمعصيته) (¬1). واختلفوا: هل للَّه سبحانه وتعالى نعمةٌ على كافرٍ في الدنيا؟ فقيل: نعم، وعليه الباقلاني، وقال الفخر الرازي: إنه الأصوب؛ لقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وذكر آياتٍ كثيرةً فيها دلالة لذلك (¬2)، وقيل: لا (¬3)؛ لأنه وإن وصلت إليه نِعَمٌ لكنها قليلةٌ حقيرةٌ لا اعتداد بها؛ لأدائها إلى الضرر الدائم في الآخرة، فهي كحلوٍ فيه سمٌّ، ومن ثَمَّ قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} الآيةَ، والخلاف لفظي؛ إذ لا نزاع في وصول نِعَمٍ إليه، وإنما النزاع في أنها إذا حصل عقبها ذلك الضرر الأبدي. . هل تسمى حينئذٍ في العرف نِعمًا أو لا؟ فهو نزاعٌ في مجرد التسمية (¬4). وأوَّلَ بعضُ المحققين النعمةَ في نحو كلام المصنف هنا بالإنعام؛ نظرًا إلى أن الحمد على الوصفِ القائمِ بذاته تعالى الدائمِ المستمرِّ أَبلغُ منه على أثره الواصل إلينا. واعلم: أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر منه تعالى؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي: إما ظاهرًا كالخلق، وإما باطنًا كالواصلة من غيره ظاهرًا؛ فإنه الخالق لهما ولداعية الإنعام في قلبه بها، لكن لمَّا أُجريت على يديه. . استحق نوعَ شكرٍ بها، وأما حقيقة الشكر. . فهي تعالى فقط؛ لأنه المنعم بالحقيقة، ونعمه تعالى غير متناهية: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. والأمرُ بتذكرها في قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ} لأنها وإن لم تتناهَ باعتبار الأشخاص والأنواع إلا أنها متناهيةٌ بحسب الأجناس، وذلك كافٍ في التذكر المفيد للعلم بوجود الصانع الحكيم. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الرازي" (1/ 258) و (3/ 29 - 30). وفي هامش (غ): (كما إذا أطعم جائعًا بمغصوب وهو جاهلٌ بالحال؛ فإنه يستحق الشكر من الجائع، والذم من الشارع، فحرر."محمد طاهر". (¬2) انظر "تفسير الرازي" (1/ 259 - 260). (¬3) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 19): (وعُزي للأشعري). (¬4) والحاصل أن معنى كلامه هنا: أن تلك المنافع الواصلة للكافر في الدنيا إذا عُذب بها في العقبى، هل تسمى بالنعمة أو لا؛ لوجود العقاب؟ هذا وقد خالف في"التحفة" (1/ 18) حيث قال: إن النعمة ملائِم تُحمدُ عاقبته، وأنه لا نعمة للَّه تعالى على كافر. والحق ما أفاده كلامه في "التحفة": من أنها ملاذُّ واستدراج، لا نعمة حقيقة. (محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ).

(وأسأله المزيد) أي: الزيادة (من فضله) أي: ما تفضَّل به على عباده من إسداء غاية الإحسان إليهم، فـ (مِنْ) للتعدية، ويصح كونها للتعليل؛ أي: من أجل اتصافه بسائر صفات الكمال، ولا يُسأل بالحقيقة إلا مَنْ هو كذلك. (وكرمه) فيه الوجهان المذكوران، والفضل لغةً: ضد النقص، والإفضال: الإحسان، والكرم: نقيض اللؤم، ويقال: كرم -بسكون الراء- كعدل للمذكر والمؤنث. ولمَّا ورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "كل خطبةٍ ليس فيها تشهدٌ فهي كاليد الجذماء" (¬1). . تأسَّى المصنف به فقال: (وأشهد) أي: أعلم وأُبين (أَنْ لا إله) أي: لا معبود بحقٍّ في الوجود (إلا اللَّه الواحد) في ذاته -فلا يقبل قسمةً ولا تجزؤًا- وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فلا نظير له، ولا شريك له في ملكه، ولا معين له في فعله. (القهَّار) الغالب الذي لا يُغلَب، والقوي الذي لا يَضعُف، مأخوذٌ من (قهره): غلبه، و (أقهرته): وجدته مقهورًا، والقُهْر -بالضم-: الاضطرار. (الكريم) الذي لا تنقطع نِعمه العظمى عمَّن التجأ إليه في مهماته، التي من جملتها تيسير مثل هذا الكتاب، بل ولا عمَّن أعرض عن طاعته وشكره. (الغفار) الستَّار لذنوبِ من أراد من عباده، فلا يفضَحُه بالهتك في الدنيا، ولا بالعذاب في الأُخرى. (وأشهد أن محمدًا) علمٌ منقولٌ من اسم مفعولِ المضعَّف، موضوع لمن كثرت خصاله الحميدة، سُمي به نبينا صلى اللَّه عليه وسلم بإلهامٍ من اللَّه تعالى لجده عبد المطلب بذلك؛ ليكون على وفق تسميته تعالى له به قبل الخلق بألفي عام، على ما ورد عند أبي نعيم (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (2796)، وأبو داوود (4841)، والترمذي (1106) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج أبو نعيم في "الحلية" (7/ 256) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه قال: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: " مكتوب على باب الجنة: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام". وقوله: (على ما ورد) ذكره بصيغة التَّبرِّي؛ لأن السهيلي ذكر ما يعكس عليه من تأخر التسمية بمحمد عن التسمية بأحمد في الوجود؛ فقد أوضحه في "أشرف الوسائل" (ص 532).

وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار: (أن آدم رآه مكتوبًا على ساق العرش، وفي السماوات، وعلى كل قصرٍ وغرفةٍ في الجنة، وعلى نحور الحور العين، وعلى ورق شجرة طوبى (¬1)، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة) (¬2). ولم يُسمَّ أحد قبله به، لكن لما قَرُب زمنه صلى اللَّه عليه وسلم، ونشر أهل الكتاب نعته. . سمى قومٌ أولادَهم به رجاءَ النبوة لهم، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته، وعِدَّتهم خمسة عشر كما بيَّنه بعض المحققين (¬3). (عبدُهُ) قدَّمه امتثالًا لما في الحديث الصحيح: "ولكن قولوا: عبد اللَّه ورسوله" (¬4)؛ ولأنه أحب الأسماء إلى اللَّه سبحانه وتعالى وأرفعها إليه، ومن ثَمَّ وصفه اللَّه تعالى به في أشرف المقامات، فذكره في إنزال القرآن عليه في: {عَلَى عَبْدِنَا}، {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}، {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}، وفي مقام الدعوة إليه في: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}، وفي مقام الإسراء والوحي إليه في: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}، فلو كان له وصفٌ أشرف منه. . لذكره به في تلك المقامات العلية، ومن ثَمَّ خُير صلى اللَّه عليه وسلم بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو نبيًا عبدًا، فاختار الثاني (¬5)، وسليمان عليه الصلاة والسلام سأل الأول (¬6)، فانظر بُعدَ ما بين المرتبتين. وسبب أشرفية هذا الوصف: أن الألوهية والسيادة والربوبية إنما هي بالحقيقة للَّه سبحانه وتعالى لا غير، والعبودية بالحقيقة لمن دونه؛ ففي الوصف بها إشارةٌ أيُّ إشارةٍ إلى غاية كماله تعالى وتعاليه، واحتياج غيره إليه في سائر أحواله. (ورسولُه) تفسيره كالنبي صلى اللَّه عليه وسلم بما يعلم منه أن بينهما عمومًا ¬

_ (¬1) طوبى: اسم شجرةٍ من أشجار الجنة. (¬2) أخرج نحوه في "تاريخ دمشق" (23/ 281). (¬3) انظر "فتح الباري" (6/ 556 - 557)، و"سبل الهدى والرشاد" للإمام الصالحي الشامي رحمه اللَّه تعالى (1/ 503) وما بعدها. (¬4) أخرجه البخاري (3445)، وابن حبان (413)، والإمام أحمد (1/ 23) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 48)، وعبد الرزاق في "المصنف" (19552) عن طاووس رحمه اللَّه مرسلًا، والطبراني في "الكبير" (10/ 288) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬6) بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}.

مطلقًا، وآثر ذكره إشارةً إلى ردِّ ما عليه ابن عبد السلام من تفضيل النبوة -لتعلُّقها بالحق- على الرسالة؛ لتعلقها بالخلق (¬1). ووجه ردِّه: أن الرسالة فيها التعلُّقان كما هو ظاهر، والكلام في نبوة الرسول مع رسالته، وإلَّا. . فالرسول أفضل من النبي قطعًا. (وحبيبُهُ) الأكبر؛ إذ محبة اللَّه للعبد المستفادة من قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} على حسب معرفته به، وأعرف الناس به سبحانه وتعالى نبينا محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فهو أحبُّهم له، وأحقُّهم باسم الحبيب، وسيأتي الكلام على المحبة في حديث: "ازهد في الدنيا يحبك اللَّه" (¬2). و (حبيب) فعيل من (أحبه) فهو محبٌّ، أو (حبَّه يحِبُّه) بكسر الحاء، فهو محبوب. (وخليلُهُ) الأعظم، فعيل بمعنى مفعول أيضًا، من الخَلَّة -بالفتح-: وهي الحاجة؛ ولذا وُصف بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمَّا قَصَر حاجته على ربه حين جاءه جبريل -على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام- وهو في المنجنيق ليُرمى به في النار، فقال له: (ألك حاجة؟ فقال: أما إليك. . فلا) (¬3). أو بالضم؛ وهي: تخلُّل مودةٍ في القلب لا تدع فيه خلاءً إلا ملأته؛ لِمَا خالَلَهُ من أسرار الهيبة، ومكنون الغيوب والمعرفة؛ لاصطفائه عن أن يطرقه نظرٌ لغيره، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي. . لاتخذت أبا بكر خليلًا" (¬4). واختلفوا أيهما أرفع؛ مقام المحبة أو الخلة؟ فقال قومٌ: المحبة أرفع؛ لخبر البيهقي أنه تعالى قال ليلة الإسراء: يا محمد؛ سَلْ تُعطَ، فقال: "يا رب؛ إنك ¬

_ (¬1) انظر "القواعد الكبرى" (2/ 386). (¬2) انظر ما سيأتي (ص 499) وهو الحديث الحادي والثلاثون من أحاديث المتن. (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (24665) عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه رحمهم اللَّه تعالى. (¬4) أخرجه البخاري (3654) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه، ومسلم (2383) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.

اتخذت إبراهيم خليلًا، وكلمت موسى تكليمًا" فقال: ألم أعطِكَ خيرًا من هذا؟!. . . إلى قوله: واتخذتك حبيبًا، أو ما في معناه (¬1). ولأن الحبيب يصل بلا واسطة، بخلاف الخليل؛ قال تعالى في ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)}، وفي إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، والخليل قال: {وَلَا تَحْزَنِي}، وفي المحنة قال: "حسبي" (¬2)، والحبيب قيل له: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ}، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}. وقال قوم: الخلة أرفع، ورجَّحه جماعة متأخرون كالبدر الزركشي وغيره؛ لأن الخلة أخص من المحبة؛ إذ هي توجد بها (¬3)، فهي نهايتها، ومن ثَمَّ أخبر نبينا صلى اللَّه عليه وسلم بأن اللَّه سبحانه وتعالى اتخذه خليلًا، ونفى أن يكون له خليلٌ غير ربه، مع إخباره بحبِّه لجماعةٍ من أصحابه. وأيضًا: فإنه تعالى يحب التوابين، والمتطهرين، والصابرين، والمحسنين، والمتقين، والمقسطين، وخلته خاصة بالخليلين، قال ابن القيم: (وظَنُّ أن المحبة أرفع، وأن إبراهيم خليل، ومحمدًا حبيب. . غلط وجهل) ورَدُّوا ما احتج به الأولون مما مر (¬4)، بأنه إنما يقتضي تفضيل ذات محمد على ذات إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، مع قطع النظر عن وصف المحبة والخلة، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في الأفضلية المستندة إلى أحد الوصفين، والذي قامت عليه الأدلة استنادها إلى وصف الخلة الموجودة في كل من الخليلين، فخلة كلٍّ منهما أفضل من محبته، واخْتَصَّا بها؛ لتوفر معناها السابق فيهما أكثر من بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكون هذا التوفر في نبينا أكثر منه في إبراهيم. . كانت خلته أرفع من خلة إبراهيم صلى اللَّه عليهما وسلم. ¬

_ (¬1) انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (2/ 396 - 402)، فهو حديث طويل عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج البخاري (4563) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما موقوفًا: أنه قال: ({حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار). (¬3) قوله: (توجد بها) أي: لأن الخلة توجد بسبب المحبة. وفي نسخ: (إذ هي توحيدها) أي: خالصها، وقال بعضهم: أي قَصْرها على المحبوب فقط، وفي أخرى: (توجدها) اهـ "مدابغي" (¬4) انظر "روضة المحبين" (ص 51)، و"الجواب الكافي" (ص 236).

(أفضل المخلوقين) كلهم، بشهادة قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة" رواه البخاري (¬1)، وقوله: "أنا سيد العالمين" رواه البيهقي (¬2)، و (العالمون) وإن اختصَّ بالعقلاء على ما مر فهم أفضل أنواع المخلوقات، فإذا فضل هذا النوعَ. . فقد فضل سائر الأنواع بالضرورة. وقوله: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر (¬3)، وما من نبيٍّ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي" رواه الترمذي (¬4)، ومن آخر هذا وصريح الأولَينِ عُلِمت أفضليته على آدم، فقوله: "أنا سيد ولد آدم" إما للتأدُّب مع آدم، أو لأنه عُلِم فضلُ بعض بنيه عليه كإبراهيم، فإذا فضل نبيُّنا الأفضلَ من آدم. . فقد فضل آدم بالأَولى. ولا ينافي التفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}، ولا ينافي الأحاديث الصحيحة من قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا تفضلوني" (¬5)، وفي رواية: "لا تخيروني على الأنبياء"، وفي أخرى: "لا تخيروا بين الأنبياء" (¬6). ولا ينافي تفضيل نبينا عليهم قوله في الحديث المتفق عليه: "من قال: أنا خيرٌ من يونس بن متى. . فقد كذب" (¬7)؛ وذلك لأن عدم التفرقة بينهم إنما هو في الإيمان بهم وبما جاؤوا به. ¬

(¬1) صحيح البخاري (4712) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وهو حديث طويل في ذكر شفاعته صلى اللَّه عليه وسلم. (¬2) ذكره العلامة ابن عادل رحمه اللَّه تعالى في "اللباب في علوم الكتاب" (4/ 300) وعزاه للإمام البيهقي رحمه اللَّه تعالى في كتاب "معرفة الصحابة"، عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها، وذكره أيضًا العلامة العجلوني رحمه اللَّه في "كشف الخفاء" (1/ 203) وعزاه أيضًا للبيهقي. (¬3) قوله: (وبيدي لواء الحمد) بالكسر والمد: علم الحمد، والعلم في العرصات: مقاماتٌ لأهل الخير والشر، نُصِبَ في كل مقامٍ لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، ولما كان صلى اللَّه عليه وسلم أعلى الخلائق. . أعُطي أعظم الألوية لواء الحمد؛ ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي، ولا وجه لحمله على لواء الجمال والكمال. اهـ "مدابغي" (¬4) سنن الترمذي (3148) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬5) ذكره الإمام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره" (1/ 304)، وأخرج البخاري (3414)، ومسلم (2373) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه: "لا تفضلوا بين أنبياء اللَّه. . . ". (¬6) أخرجه البخاري (2412)، ومسلم (2374/ 163) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه البخاري (4604)، والترمذي (3245) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

وأما النهي. . فإما عن تفضيلٍ في ذات النبوة أو الرسالة؛ إذ هم فيها سواء، أو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيصِ بعضهم، أو على التواضع منه بقوله: "لا تفضلوني على الأنبياء"، وإما قبل علمه بتفضيله عليهم وإن استبعد بأن راويَهُ أبو هريرة، وما أسلم إلا سنة سبعٍ، فيبعد أنه لم يعلمه إلا بعد هذا. وأجاب جمعٌ كمالكٍ وإمام الحرمين عن خبر يونس بما حاصله: أن تفضيل نبينا صلى اللَّه عليه وسلم بالأمور الحِسِّية كالشفاعة الكبرى، وكونه تحت لوائه، والإسراء به إلى فوق سبع سماوات مع النزول بيونس إلى قعر البحر. . معلومٌ بالضرورة، فلم يبقَ إلا النهي بالنسبة إلى القرب والبعد من اللَّه سبحانه وتعالى المتوهم التفاوت فيه بين من فوق السماوات، ومن في قعر البحر، فبيَّن صلى اللَّه عليه وسلم أنهما حينئذٍ بالنسبة إلى القرب والبعد من اللَّه سبحانه وتعالى على حد سواء؛ لتعاليه تعالى عن الجهة والمكان علوًا كبيرًا، ففيه أبلغ ردٍّ على الجِهَوية والمجسمة، قاتلهم اللَّه تعالى ما أجهلهم! لا يقال: هو تعالى فضَّل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى (¬1)، فكيف لا يفضله باعتبار ذلك؟! لأنا نقول: ليس النهي عن مطلق التفضيل، بل عن تفضيلٍ مقيدٍ بالمكان يفهم منه القرب المكاني، فهو لم يفضله باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق سبحانه وتعالى. واعلم: أن في حديث: "أنا سيد العالمين" أبلغَ ردٍّ على المعتزلة (¬2) في تفضيلهم الملائكةَ على الأنبياء كان و"افقهم الباقلاني والحليمي رحمهما اللَّه تعالى، قالوا: لأنهم أرواحٌ منزَّهةٌ عن الشر بسائر مبادئه وغاياته، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتعلمون منهم، وقُدِّموا في القرآن والسنة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الذكر (¬3). والجواب: أن ذلك التنزيه هو المقتضي لمفضوليتهم؛ لأن غيرهم لمَّا اكتسب الفضائل والكمالات العلمية والعملية مع ما رُكِّب فيهم من الشهوة والهوى، وسُلِّط ¬

_ (¬1) الملأ الأعلى: أهل السماوات، والحضيض الأدنى: أهل الأرض. (¬2) قوله: (أبلغَ ردٍّ) بالنصب اسم (إن) مؤخرًا. اهـ "مدابغي". (¬3) انظر "المنهاج في شعب الإيمان" (1/ 309) وما بعدها.

عليهم من الشيطان وجنوده، وقام بهم من العوائق والموانع والأشغال الضرورية المانعة عن اكتساب شيءٍ من تلك الكمالات. . كان اكتسابهم لها مع ذلك أشق وأدخل في الإخلاص، فكانوا أفضل. والتعلم منهم؛ لأنهم واسطةٌ في التبليغ، والعادة قاضية بأن المرسل إليه في نحو ذلك أفضل من الرسول. والتقديم في الذكر؛ لتقدُّمهم في الوجود. وأما قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} الآيةَ (¬1). . فإن العادة في مثله وإن اقتضت الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما في: (لا يستنكف من هذا وزير ولا سلطان). . فلا دلالة فيه؛ لأنه ردٌّ على النصارى حيث استعظموا المسيح عن العبادة؛ لإثباتهم له البُنُوَّة لكونه مجردًا لا أب له، ويحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، فردَّ عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى، وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن اللَّه سبحانه وتعالى على أفعالٍ أقوى وأعجب من إبراء ذينك، فالترقي والعلو إنما هو في أمر التجرد وإظهار الآثار القوية، لا في مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة في الآية على أفضلية الملائكة. ومعنى تفضيل البشر عليهم: أن خواصَّهم -وهم الأنبياء لا غير- أفضل من خواص الملائكة؛ وهم جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وحملة العرش، والمقربون، والكروبيون، والروحانيون (¬2)، وخواصُّهم أفضل من عوام البشر إجماعًا، بل ضرورةً، وعوام البشر وهم الصلحاء دون الفسقة -كما قاله البيهقي وغيره- أفضل من عوامهم (¬3). ¬

_ (¬1) وسبب نزول هذه الآية: أن نصارى نجران قالوا للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: إنك تعيب صاحبنا بقولك: إنه عبد للَّه، فأنزل اللَّه تلك الآية ردًا عليهم، وكان الأنسب للمصنف أن يذكرها جوابًا رابعًا ردًا على المعتزلة؛ لكن فصله عن الأجوبة الثلاثة لطول الكلام عليه. اهـ هامش (هـ) (¬2) قوله: (الكروبيُّون) هم ملائكة العذاب، وفي "القاموس": (الكروبيون بالراء مخففة: سادة الملائكة). وقوله: (الروحانيون) بضم الراء: هم ملائكة الرحمة، ورأيت بهامشٍ: نسبةً إلى الرَّوح التي هي الرحمة كما ورد: "الريح من روح اللَّه" أي: من رحمته، وقضيته: أنه بفتح الراء. اهـ هامش (غ) (¬3) لقد فصَّل الإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى هذه المسألة في كتاب "الحبائك في أخبار الملائك" (ص 245 - 249) أتم التفصيل، فراجعها تغنم.

(المكرَّمُ) على سائر الرسل (بالقرآن) مصدر (قرأ) إذا جمع؛ لجمعه السور المختلفة وعلوم الأولين والآخرين، وقيل: إذا أَلَّف؛ لحسن نظمه وتأليفه. (العزيزِ) الممتنع -لرصانة مبانيه، ووصولها إلى أعلى درجات الفصاحة والبلاغة، وصحة معانيه، واشتمالها على أشتات العلوم وبدائع الحكم، وغير ذلك مما لا يحيط به إلا المتفضل بإنزاله سبحانه وتعالى- عن الطعن فيه (¬1)، والإزراء عليه؛ لأنه تعالى تكفَّل بحفظ عن تعنُّت المعاندين (¬2)، وكيد الجاحدين، فهو كريمٌ عليه، ممتنعٌ من الشيطان وجنوده. (المعجزةِ) وهي من حيث هي: الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، الدالُّ على صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسمي معجزةً؛ لعجز البشر عن الإتيان بمثله، فعلم أنه لا بد فيها من أن تكون خارقةً للعادة، وأن تقترن بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة؛ وقال المحققون: هو دعوى الرسالة، وأن يأمن المتحدي من أن يعارض بمثل ما أتى به، وأن يقع ما يأتي به على وفق دعواه. فخرج الخارقُ من غير تحدٍّ، فيسمى كرامة، والخارقُ المتقدم على التحدي كإظلال الغمام -فإنه لم يقع له صلى اللَّه عليه وسلم إلا قبل النبوة خلافًا لمن وهِمَ فيه- فيسمى إرهاصًا؛ أي: تأسيسًا للنبوة، والمتأخر عنه؛ نحو ما رُئي بعد وفاته صلى اللَّه عليه وسلم من نُطْقِ بعضِ الموتى بالشهادتين وشبهه مما تواترت به الأخبار (¬3)، فيسمى كرامة، والخارقُ الذي لا تؤمن معارضته، فيسمى سحرًا (¬4). ¬

_ (¬1) قوله: (عن الطعن) متعلق بقوله: (الممتنع) إذ الأصل: (الممتنع عن الطعن فيه لرصانة مبانيه وصحة معانيه) اهـ "مدابغي" (¬2) قوله: (لأنه تعالى تكفَّل بحفظه) كان الظاهر أن يقول: (ولأنه تعالى) فيكون من عطف العلَّة على العلة؛ لما علمت من أن قوله: (لرصانة) علةٌ مقدمةٌ على المعلول، ولا يصح تعلق جر في جر بعاملٍ واحدٍ. (¬3) روى أبو نعيم في "الحلية" (4/ 367)، والبيهقي في"الدلائل" (6/ 454) -واللفظ له- عن ربعي بن حِراش قال: أُتيت فقيل لي: إن أخاك قد مات، فجئت فوجدت أخي مسجى عليه ثوب، فأنا عند رأسه أستغفر له وأترحم عليه إذ كشف الثوب عن وجهه، فقال: السلام عليك، فقلت: وعليك، فقلنا: سبحان اللَّه! أبعد الموت؟! قال: بعد الموت، إني قدمت على اللَّه عز وجل بعدكم، فتُلقيت بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، وكساني ثيابًا خضرًا من سندس. . . إلخ، ثم قال البيهقي: (هذا إسنادٌ صحيحٌ لا يشك حديثيٌّ في صحته)، وانظر "سبل الهدى والرشاد" (10/ 453). (¬4) قوله: (والخارق) أي: وخرج الخارق الذي لا تؤمن معارضته. اهـ "مدابغي"

وجوَّز قومٌ قلبَ الأعيان وإحالة الطباع به كصيرورة الإنسان حمارًا، ومنعه آخرون، قالوا: وإلَّا. . لم يكن فرقٌ بين النبي والساحر، ويردُّ بوضوح الفرق بينهما؛ فإنَّ قَلْبها عند التحدي لا يمكن معارضته؛ لاطِّراد العادة الإلهية بأن مدعي النبوة كاذبًا لا يظهر على يديه خارقٌ كذلك مطلقًا، وعند عدمه يمكن المعارضة بتعلم ذلك السحر، فظهر أن قيد اللتحدي لا بد منه، لكنه لا يشترط عند كل معجزة (¬1)؛ لأن أكثر معجزاته صلى اللَّه عليه وسلم صدر من غير تحدٍّ، بل قيل: إنه لم يتحدَّ بغير القرآن وتمنِّي الموت، وإنما الشرط وقوعها ممن سبق منه دعوى التحدي، فتأمل ذلك؛ لتدفع به ما أطال به النقَّاش في "تفسيره" من إبطال اشتراط ذلك وتزييفه. والخارقُ المكذِّب للمتحدي به (¬2)؛ كما وقع لمسيلمة اللعين أنه تفل في بئرٍ ليكثر ماؤها فغار، ولا يَرِد ما سيقع على يد الدجال من الخوارق العجيبة؛ لأنه مدَّعٍ للربوبية لا الرسالة، فالعقل يستقل بكذب دعواه، فلا يؤثر فيه ظهور تلك على يديه، بخلاف مدعي الرسالة؛ فإن العقل لا يستقل بكذبه، فلم يمكن ظهور خارقٍ على يديه. ثم هذه الشروط جميعها موجودةٌ في القرآن، فكان معجزةً، بل هو أظهر وأعجب حتى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنه دعاهم إلى معارضته بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، ففروا إلى سفك دمائهم، وسبي حريمهم، وجَلائهم عن وطنهم، ولم يدَّعِ أحدٌ منهم القدرة على ذلك مع كونهم أهل البلاغة، وأرباب الفصاحة، ورؤساء البيان، والمتقدمين في اللَّسَن، فهذا أعجب مِن عجزِ مَنْ شاهد المسيح يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص؛ لأنهم لم يطمعوا فيه، ولا تعاطوا نحوه، وقريش كانوا يتعاطون الفصاحة والبلاغة، فعَجْزُهُم مع ذلك عن المعارضة، وفرارهم إلى ما ذُكِر .. دليلٌ قاطعٌ على نبوة المتحدي به، ومن ثَمَّ نادى عليهم صلى اللَّه عليه وسلم بعجزهم قبل المعارضة بقوله عن اللَّه سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} الآيةَ، فلولا عِلْمه بأنه على بينةٍ من ربه، ¬

_ (¬1) قوله: (لكنه لا يشترط. . . إلخ) لا حاجة إليه إلا إذا اشترط بالفعل، والمختار خلافه، فتكون أكثر معجزاته مقرونةً بالتحدي بالقوة لا بالفعل، فلا حاجة لهذا الاستدراك. اهـ "مدابغي" (¬2) أي: وخرج الخارق المكذب. . . إلخ، فهو معطوفٌ على قوله قبل قليل: (فخرج الخارق من غير تحدٍّ).

وأنه لا يقع فيما أخبر به خُلف، وإلَّا. . لم يأذن له عقله الذي هو أكمل العقول بالقطع في شيءٍ أنه لا يكون وهو يكون. ثم وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر: فمنها: إيجازه وبلاغته، ومن ثَم لمَّا سمع أعرابيٌّ قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}. . سجد، وقال: (سجدت لفصاحة هذا الكلام!) (¬1). ولمَّا سمع الأصمعي من جارية خماسيّةٍ أو سداسيّةٍ فصاحةً (¬2)، فعجب منها. . فقالت: (أَوَ يُعدُّ هذا فصاحةً بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآيةَ؛! فجمع فيها بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبِشارتين) (¬3). وقد قال بعض بطارقة الروم لما أسلم لعمر: (إن آية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} جمعت ما أُنزل، على عيسى عليه الصلاة والسلام من أحوال الدنيا والآخرة) (¬4). ومنها: خروجه عن جنس كلام العرب نظمًا ونثرًا، وخُطبًا وشعرًا، ورجزًا وسجعًا، فلا يدخل في شيء منها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم؛ ومن ثَمَّ لم يهتدوا لمثله حتى يأتوا به. ومنها: أن قارئه لا يمله، وسامعه لا يمجُّه، بل لا يزال مع تكريره وترديده غضًّا طريًا، تتزايد حلاوته، وتتعاظم محبته، يُؤنَس به في الخلوات، ويُستراح بتلاوته من ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الإمام الصالحي رحمه اللَّه تعالى في "سبل الهدى والرشاد" (9/ 578)، والحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الإتقان في علوم القرآن" (2/ 813). (¬2) قوله: (من جارية خماسية أو سداسية) في "المصباح": قولهم: غلام خماسي ورباعي، معناه: طوله خمسة أشبار أو أربعة أشبار، قال الأزهري: وإنما يقال: خماسي أو رباعي فيمن يزداد طولًا، ويقال في الرقيق والوصائف: سداسي أيضًا، وفي الثوب: سباعي؛ أي: طوله سبعة أشبار. اهـ هامش (غ) (¬3) ذكر القصة الإمام الصالحي رحمه اللَّه تعالى في "سبل الهدى والرشاد" (9/ 578). وقوله: (فجمع فبها بين أمرين) وهما: أرضعيه وألقيه (نهيينِ) وهما: لا تخافي ولا تحزني، (وخبربن) وهما: أوحينا، و: فإذا خفت، (وبشارتين) وهما: إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين. اهـ "مدابغي" (¬4) ذكره الإمام القرطبي رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره" (12/ 295) مفصلًا، وفيه: (إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرًا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرًا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند اللَّه فأسلمت) ثم ذكر الآية.

شدائد الأزمات، ومن ثَمَّ وصفه صلى اللَّه عليه وسلم بأنه: "لا يَخلق على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عِبَره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء، ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} " (¬1). ومنها: ما فيه من الإخبار بما كان مما علموه ومما لم يعلموه، وشهادته على اليهود بأنهم لا يتمنون الموت، وعلى قريش بأنهم لا يأتون بمثل شيءٍ منه. ومنها: اشتماله على علوم الأولين والآخرين، مع كون الآتي به أقام بينهم أربعين سنةً قبل تكلُّمه به أميًا لا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب، ولا يتعلَّم سحرًا، ولا ينشد شعرًا، ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا، إلى أن اكرمه اللَّه سبحانه وتعالى بهذه المعجزة العظمى التي لم يأت بمثلها رسولٌ غيره، كيف وجميع كتبهم يمكن أدنى الفصحاء أن يأتي بمثلها؟! إذ لا إعجاز في لفظها. ومن ثَمَّ صح عنه صلى اللَّه عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيت وحيًا يوحى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (¬2)؛ وذلك لأن إكرامه صلى اللَّه عليه وسلم بهذه المعجزة (المستمرةِ) الدائمة (على تعاقب) أي: توالي (السنين) يستلزم بالضرورة كثرتهم؛ لمشاهدة أهل كل زمنٍ لها، فيحملهم ذلك على الإيمان به، بخلاف باقي معجزات الرسل؛ لانقطاعها بموتهم، وباقي معجزات نبينا صلى اللَّه عليه وسلم، فإنه لولا تصديق القرآن لها. . لما آمن بها إلا قليلٌ؛ لانقطاع وجودها، وعدم إحساس الناس بها. (و) المكرم (بالسُّنن) جمع سُنَّةٍ؛ وهي لغةً: الطريقة، واصطلاحًا: أقواله صلى اللَّه عليه وسلم وأفعاله وأحواله. ووجه إكرامه صلى اللَّه عليه وسلم بها: أنها إنباءٌ عن وحيٍ أو إلهامٍ من اللَّه سبحانه وتعالى، أو اجتهاد حقًّ مطابقٍ للواقع، وما ينطق عن الهوى. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2906)، والدارمي في "سننه" (3374)، والبزار في "منسده" (836)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (30628) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152) بنحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(المستنيرة) أي: ذات النور المكني به عما تضمنته واشتملت عليه من هداية الضالين، وإيقاظ الغافلين. ثم استنارتُها وإن ظهرت لكل أحدٍ إلا أنها لا تتم ولا تتضح كمالَ الاتضاح إلا (للمسترشدين) أي: طلاب الرشاد، وهو ضد الغي. (المخصوصُ) (¬1) من بيز، سائر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام (بجوامع الكلم) كما قال صلى اللَّه عليه وسلم في خبر: "أُعطيت خمسًا لم يعطهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي" (¬2) وذكر منها: "وأوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا" (¬3) أي: أوتيت الكلم الجوامع؛ لقلة لفظها، وكثرة معانيها، وفي خبر "الصحيحين": "بعثت بجوامع الكلم" (¬4)، وفي خبر أحمد: "أوتيت فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه" (¬5). ولا يختص بالقرآن، خلافًا لمن زعمه، فقد جمعَ الأئمةُ -كابن السني، والقضاعي، وابن الصلاح، وآخرين- من كلامه المفرد الموجزِ البديعِ الذي لم يُسبَقْ إليه دواوينَ (¬6)، وفي "الشفا" منه ما يشفي العليل (¬7). ¬

_ (¬1) قوله: (المخصوصُ) بالرفع نعتٌ ثالثٌ لـ (عبده) وقول ملا علي قاري: عطف على (المكرم). . سهوٌ. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه، وليس فيه ما سيذكره المصنف رحمه اللَّه تعالى. (¬3) أخرجه بنحوه الضياء المقدسي في "المختارة" (115)، والبيهقي في "الشعب" (1367)، وعبد الرزاق في "المصنف" (10163) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه، دون ما سبق مما ذكره الشارح رحمه اللَّه تعالى. (¬4) البخاري (2977)، ومسلم (523/ 6) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) مسند الإمام أحمد (2/ 172) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما. (¬6) قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 56): (وقد جمع العلماء جموعًا من كلماته صلى اللَّه عليه وسلم الجامعة، فصنف الحافظ أبو بكر ابن السني كتابًا سماه: "الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة"، وجمع القاضي أبو عبد اللَّه القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابًا سماه: "الشهاب في الحكم والآداب"، وصنف على منواله قومٌ آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً، وأشار الخطابي في أول كتابه "غريب الحديث" إلى يسيرٍ من الأحاديث الجامعة، وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح مجلسًا سماه: "الأحاديث الكلية"). (¬7) الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى اللَّه عليه وسلم (ص 115 - 124).

ومما ليس فيه: 1 - "إنما الأعمال بالنيات" فإن تحته كنوزًا من العلم كما يأتي (¬1). 2 - "الولد للفراش وللعاهر الحجر" (¬2). 3 - "كل الصيد في جوف الفَرا" (¬3) وهو بفتح الفاء: حمار الوحش. 4 - "الحرب خدعة" (¬4) أي: بتثليث أوله. 5 - إياكم وخضراءَ الدمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السوء" (¬5). 6 - "ليس الخُبْر كالمعاينة" (¬6). 7 - المجالس بالأمانة" (¬7). 8 - "البلاء موكَّلٌ بالمنطق" (¬8) وزَعْمُ ابنِ الجوزي وضعَه مردودٌ (¬9) ¬

_ (¬1) انظر ما سيأتي (ص 119) من شرح الحديث الأول. (¬2) أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) أخرجه الرامهرمزي في "أمثال الحديث" (82)، والديلمي في "الفردوس" (8457) عن نصر بن عاصم الليثي رحمه اللَّه تعالى مرسلًا. (¬4) أخرجه البخاري (3030)، ومسلم (1739) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما. قال العسكري: أراد بالحديث أن المماكرة في الحرب أنفع من الطعن والضرب، وفي المثل السائر: إذا لم تغلب. . فاخلب؛ أي: فاخدع. قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهدٍ وأمانٍ .. فلا يحل، ويكون الخداع بالتورية، واليمين، وإخلاف الوعد، فينبغي قدح الفكر وإعمال الرأي في الحرب حسب الاستطاعة؛ فإنه فيها أنفع من الشجاعة، وهذا الحديث عُدَّ من الحِكم والأمثال. اهـ "مدابغي" (¬5) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (957)، والرامهرمزي في "أمثال الحديث" (84) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. وانظر "تلخيص الحبير" (3/ 145). (¬6) أخرجه ابن حبان (6213)، والحاكم (2/ 321)، والإمام أحمد (1/ 215) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬7) أخرجه أبو داوود (4869)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 247)، والإمام أحمد (3/ 342) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬8) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (227) عن سيدنا حذيفة رضي اللَّه عنه. (¬9) انظر كتاب "الموضوعات" (2/ 277)، وذكره العلامة ابن عراق رحمه اللَّه تعالى في "تنزيه الشريعة" (2/ 296)، والحافظ السخاوي رحمه اللَّه في "المقاصد الحسنة" (305) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما.

9 - "الحياء خيرٌ كله" (¬1). 10 - "الخيل في نواصيها الخير" (¬2). 11 - "من غشنا. . فليس منا" (¬3). 12 - "المستشار مؤتمن" (¬4). 13 - "الندم توبة" (¬5). 14 - "الدالُّ على الخير كفاعله" (¬6). 15 - "كل معروفٍ صدقة" (¬7). 16 - "حبك الشيء يعمي ويصم" (¬8) وليس بموضوع، بل حسن، خلافًا لمن وهم فيه (¬9). 17 - "زر غبًا تزدد حبًا" (¬10). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (37/ 61)، وأبو داوود (4796)، والإمام أحمد (4/ 426) عن سيدنا عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (2849)، ومسلم (1871) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه مسلم (101)، والحاكم (2/ 9)، والإمام أحمد (2/ 417) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه أبو داوود (5128)، والترمذي (2822)، وابن ماجه (3745) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه ابن حبان (612)، وابن ماجه (4252)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 154) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه الضياء في "المختارة" (2193)، والترمذي (2670)، وأبو يعلى في "مسنده" (4296) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه البخاري (6021) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما، ومسلم (1005) عن سيدنا حذيفة رضي اللَّه عنه. (¬8) أخرجه أبو داوود (5130)، والإمام أحمد (5/ 194)، والقضاعي في "الشهاب" (219) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه. (¬9) قال الحافظ السخاوي رحمه اللَّه تعالى في "المقاصد الحسنة" (381): (وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع، وكذا تعقبه العراقي، قال: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سُرق له حلي فأنكر عقله، وقد ضعفه غير واحد، ويكفينا سكوت أبي داوود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن). (¬10) أخرجه الحاكم (3/ 347)، والطبراني في "الكبير" (4/ 21) عن سيدنا حبيب بن مسلمة رضي اللَّه عنه، والقضاعي في "الشهاب" (629) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (زر غبًا) أي: وقتًا بعد وقتٍ.

18 - "من يشادَّ هذا الدين .. غلبه" (¬1). 19 - "القناعة مالٌ لا ينفد، وكنزٌ لا يفنى" (¬2). 20 - "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودُّد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم" (¬3). 21 - "النساء حبائل الشيطان" (¬4). 22 - "حسن العهد من الإيمان" (¬5). 23 - "منهومان لا يشبعان: طالب علمٍ وطالب دنيا" (¬6). 24 - "اليمين حنثٌ أو ندم" (¬7). 25 - "جفَّ القلم بما أنت لاقٍ" (¬8). (وسماحة الدين) كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: " بُعثت بالحنيفية السمحة" أي: السهلة، رواه الطبراني في "الكبير"، وكذا أحمد في "مسنده" وزاد: "ولم أُبعث بالرهبانية والبدعة" (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1179)، والحاكم (1/ 312) عن سيدنا بريدة رضي اللَّه عنه. وفي النسخ كلها إلا (غ): (ومن شاد) وهو عند البخاري (39) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه القضاعي في "الشهاب" (63) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه، والطبراني في "الأوسط" (6918)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 191) بدون:"وكنز لا يفنى"، وأخرجه اليهقي في "الزهد" (104) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه بلفظ: "القناعة كنز لا يفنى" وقال: (هذا إسناد فيه ضعف). (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6740)، والبيهقي في "الشعب" (6148)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (57/ 179) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه القضاعي في "الشهاب" (55)، وذكره الديلمي في "الفردوس" (3665) عن سيدنا زيد بن خالد الجهني رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه الحاكم (1/ 15 - 16)، والطبراني في "الكبير" (23/ 14)، والبيهقي في "الشعب" (8701) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬6) أخرجه الحاكم (1/ 92)، والبيهقي في "الشعب" (9798)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (41/ 286) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (5587) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬8) أخرجه البخاري (5076)، والنسائي (6/ 59) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬9) المعجم الكبير (8/ 222)، ومسند الإمام أحمد (5/ 266) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه.

ورُويا أيضًا أنه قيل له: يا رسول اللَّه؛ أيُّ الأديان أحبُّ إلى اللَّه؟ قال: "الحنيفية السمحة" (¬1). وروى أحمد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "يا أيها الناس؛ إن دين اللَّه يسرٌ" قالها ثلاثًا (¬2)، وأنه قال صلى اللَّه عليه وسلم: "خير دينكم أيسره" قاله ثلاثًا (¬3)، وأنه قال لمَّا نظرت عائشة رضي اللَّه عنها إلى لعب الحبشة: "لتعلم يهودُ أن في ديننا فسحةً، إني أُرسلت بحنيفية سمحة" (¬4). وروى عبد الرزاق: "أحب الأديان إلى اللَّه الحنيفية السمحة" قيل: وما هي الحنيفية السمحة؟ قال: "الإسلام الواسع" (¬5). وصح عن أُبيٍّ رضي اللَّه تعالى عنه: أقرأني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: (إن الدين عند اللَّه الحنيفية السمحة، لا اليهودية، ولا النصرانية) (¬6) وهذا مما نُسخ لفظه وبقي معناه؛ لحديث البخاري (¬7): "الدين يسر" (¬8) فلا أسمح من دينه صلى اللَّه عليه وسلم كما يفيد ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم} أي: كتعين قرض الجلد إذا أصابه بولٌ، وقتل النفس في التوبة، والقَوَد في القتل (¬9)، ولا تجزئ الدية، وكان من أذنب منهم. . أصبح ذنبه مكتوبًا على بابه، فيقام عليه حدُّه (¬10). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (1/ 236)، والمعجم الكبير (11/ 227) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 69)، وأبو يعلى في "مسنده" (6863) عن سيدنا عروة الفُقَيمي رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (341)، والإمام أحمد (5/ 32) عن سيدنا محجن الأسلمي رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه أحمد (6/ 116) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬5) مصنف عبد الرزاق (238) عن محمد بن واسع رحمه اللَّه تعالى عن رجلٍ. (¬6) أخرجه الحاكم (2/ 224)، والترمذي (3793)، وأحمد (5/ 131) عن سيدنا أبي بن كعب رضي اللَّه عنه. (¬7) قوله: (لحديث البخاري) باللام في أكثر النسخ، وهو يتعلق بقوله: (بقي) على أنه علة له؛ أي: فبقي معناه لحديث البخاري: "الدين يسر" اهـ "مدابغي" (¬8) أخرجه البخاري (39) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬9) القَوَد: القصاص؛ وهو: قتل القاتل بالمقتول. (¬10) أخرج الإمام ابن جرير رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره" (7849) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: =

ولمَّا قرأ الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}. . . إلخ. . أجاب اللَّه تعالى دعاءهم بقوله: (وقد فعلت) رواه مسلم (¬1). (صلوات اللَّه وسلامه عليه) مر معناهما (¬2)، وأتى بالصلاة بعد الحمد؛ لقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ فيه بحمد اللَّه والصلاة عليَّ. . فهو أبتر ممحوقٌ من كل بركة" (¬3) وسنده ضعيفٌ، لكنه في الفضائل، وهي يعمل فيها بالضعيف. وفي حديث: "من صلى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في كتابٍ. . صلَّت عليه الملائكة غدوةً ورواحًا ما دام اسم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ذلك الكتاب" (¬4)، وقد نازع ابن القيم في رفعه، وقال: (الأشبه: أنه من كلام جعفر بن محمد لا مرفوعًا) (¬5). (وعلى سائر) أي: باقي، من (السؤر) بالهمز: بقية نحو الماء، ويأتي -خلافًا للحريري- بمعنى الجميع (¬6)، من سور المدينة؛ لأنه جامعٌ محيطٌ بها. ¬

_ = (كانت بنو إسرائيْل إذا أذنبوا. . أصبح مكتوبًا على بابه الذنب وكفارته، فأُعطينا خيرًا من ذلك هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}). (¬1) أخرجه مسلم (126) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) انظر ما تقدم (ص 76). (¬3) قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "نتائج الأفكار" (3/ 281 - 282): (أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي نزيل بغداد من رواية يونس بن يزيد عن الزهري)، ثم قال: (وإسماعيل ضعيفٌ جدًا، وقد خُولف في وصله عن يونس، وإنما رواه يونس عن الزهري عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرسلًا أو معضلًا). (¬4) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1856)، والخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" (ص 36)، وابن بشكوال في "القربة إلى رب العالمين" (42)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (6/ 80 - 81) بنحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وانظر "الدر المنضود" للشارح رحمه اللَّه تعالى (ص 255 - 256). (¬5) انظر "جلاء الأفهام" (ص 90). وقوله: (الأشبه) أي: الأقرب إلى الصحة والصواب، وقوله: (لا مرفوعًا) كذا في النسخ بنصب (مرفوعًا) وصوابه: الرقع، وغاية ما يتكلف له أن يقال: إن (لا) عاملة عمل (ليس) واسمها محذوف؛ أي: ليس هو مرفوعًا، أو إنه خبر (يكون) المحذوفة؛ أي: لأنه يكون مرفوعًا. اهـ "مدابغي" (¬6) انظر "درة الغواص في أوهام الخواص" (ص 9 - 10)، وكذلك فعل ابن الأثير في "النهاية" (2/ 327) فقد قال: (والناس يستعملونه كثيرًا في معنى الجميع، وليس بصحيح)، وكذا صاحب "القاموس" في مادة =

(النبيين والمرسلين) مرَّ حدهما وما بينهما من العموم والخصوص (¬1). (وآل) أصله: أهل؛ لتصغيره على (أُهيل)، أُبدلت هاؤه همزة، ثم هي ألفًا، وقيل: (أَوَل)، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، والأصح: جواز إضافته إلى الضمير. (كلٍّ) أي: كل واحدٍ من النبيين، فحذف المضاف إليه؛ لدلالة السياق عليه. وآل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عند الإمام الشافعي: مؤمنو بني هاشم والمطلب، كما دلَّ عليه مجموع أحاديث صحيحة، لكن بالنسبة إلى الزكاة والفيء دون مقام الدعاء، ومن ثم اختار الأزهري وغيره من المحققين أنهم هنا كل مؤمنٍ تقي؛ لحديثٍ فيه (¬2). وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وغيرهما. (وسائر الصالحين) وهم القائمون بحقوق اللَّه وحقوق العباد، فدخل الصحابة كلهم؛ لثبوت وصف الصلاح والعدالة لجميعهم، ودخل غيرهم ممَّن اتَّصف بذلك، جعلنا اللَّه تعالى منهم، آمين (¬3). * * * ¬

_ = (سار)، وقد صحيح الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى جواز كونه بمعنى الجميع. انظر "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ ق 1/ 140 - 141). (¬1) انظر ما تقدم (ص 75 - 76). (¬2) أخرج الطبراني في "الأوسط" (3356) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه قال: سُئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: مَنْ آل محمد؟ فقال: "كل تقي"، قال عنه الإمام الهيثمي رحمه اللَّه تعالى في "المجمع" (10/ 272): (فيه نوح بن أبي مريم، وهو ضعيف)، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح ": (11/ 161): (سنده واهٍ جدًا)، وذكره الديلمي في "الفردوس" (1692). (¬3) فائدة: يجب على النبي أن يخبر بنبوته على الراجح، وأما الرسول. . فيجب عليه أن يخبر برسالته اتفاقًا، بخلاف الولي فإنه لا يطلب منه إظهار ولايته فضلًا عن الوجوب أو الندب. اهـ هامش (ج)

[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثا"]

[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا"] أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَاتٍ بِرِوَايَاتٍ مُتنَوِّعَاتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا مِنْ أَمرِ دِينِهَا. . بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي زُمْرَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "بَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى فَقِيهًا عَالِمًا"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "وَكُنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَافِعًا وَشَهِيدًا"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "قِيلَ لَهُ: ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتَ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ: "كُتِبَ فِي زُمْرَةِ الْعُلَمَاءِ، وَحُشِرَ فِي زُمرَةِ الشُّهَدَاءِ"، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ. (أما بعد) كلمةٌ يؤتى بها للانتقال من أسلوبٍ إلى آخر، وأَتى بها تأسيًا به صلى اللَّه عليه وسلم؛ فإنه كان يأتي بها في خُطَبه ونحوها كما صح عنه، بل رواه عنه اثنان وثلاثون صحابيًا (¬1). والمبتدئ بها داوود عليه الصلاة والسلام، فهي فصل الخطاب الذي أُوتيه (¬2)؛ لأنها تفصل بين المقدمات والمقاصد والخُطب والمواعظ، أو قسٌّ، أو كعب بن ¬

_ (¬1) وقد تتبع الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه اللَّه تعالى في خطبة "الأربعين" طرقَ الأحاديث التي وقع فها لفظ: (أما بعد) كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الفتح" (2/ 406). وانظر "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ ق 1/ 29) (¬2) أخرج الطبراني في "الأوائل" (40) عن سيدنا أبي موسى رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "أول من قال: (أما بعد) داوود النبي عليه الصلاة والسلام، وهو فصل الخطاب".

لؤي، أو يعرب بن قحطان، أو سحبان بن وائل (¬1)، وعليها ففصل الخطاب الذي أوتيه داوود: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" (¬2). وفي (دالها) لغات، ليس هذا محل بسطها (¬3)، ولكون (أما) نائبةٌ عن اسم شرطٍ هو (مهما). . أجيبت بـ (الفاء) إذ التقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد ما تقدَّم من الحمد والتشهد، والصلاة والسلام. . (فقد رَوَينا) النون لإظهار نعمة التلبُّس بالعلم المتأكد تعظيم أهله (¬4)؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مع الأمن من الإعجاب ونحوه، وإلا. . كان مذمومًا، وأيضًا: فالعرب -كما في "البخاري"- تؤكد فعل الواحد فتجعله بلفظ الجمع؛ ليكون أثبت وأوكد (¬5). و (رَوَينا) بفتح أوَّليه مع تخفيف الواو عند الأكثر، من (روى): إذا نقل عن غيره، وقال جمعٌ: الأجود: ضم الراء وكسر الواو مشددةً؛ أي: روت لنا مشايخنا (¬6)؛ أي: نقلوا لنا فسمعنا. (عن علي بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري) بالمهملة، ويروي، أيضًا -كما قاله المنذري وغيره- عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي أمامة، وجابر بن سمرة، ونويرة، وسلمان الفارسي (رضي اللَّه عنهم من طرق كثيراتٍ برواياتٍ متنوعاتٍ: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: من حفظ) أي: نقل، وإن لم يحفظ اللفظ ولا عرف المعنى؛ إذ به يحصل انتفاع المسلمين، بخلاف ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 404): (والأول أشبه -أي: أنه داوود- ويجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إلى العرب خاصةً، ثم يجمع بينها بالنسبة إلى القبائل). (¬2) عزاه الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالي في "الدر المنثور" (7/ 154) إلى الإمام ابن جرير والإمام البيهقي عن قتادة رحمهم اللَّه، وأخرج نحوه عبد الرزاق في "المصف" (15190) عن شريح رحمه اللَّه تعالي. (¬3) انظر "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ ق أ/ 28 - 29). (¬4) قوله: (النون لإظهار) أي: الإتيان بالنون، وفيه مسامحة؛ فإن الضمير هو (نا) لا النون وحدها، فكان الأولى: أتى بضمير المعظم نفسه، أو بضمير العظمة. . . إلخ، فتأمل. اهـ "مدابغي" (¬5) ذكر ذلك الأمام البخاري رحمه اللَّه تعالى في"صحيحه"في (كتاب التفسير)، باب تفسير {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}. (¬6) في بعض النسخ: (رووا لنا مشايخنا) وهي على لغة: (أكلوني البراغيث) وفي أخرى: (روَّانا مشايخنا) وما أُثبت هو اللغة الجادة كما في عدة نسخ، واللَّه أعلم.

حِفظ ما لم يُنقل إليهم، قاله المصنف رحمه اللَّه تعالى (¬1). (على أمتي أربعين حديثًا من) تبعيضية (أمر) شأن (دينها. . بعثه اللَّه تعالى يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء) واعترض تفسيره الحفظَ بما ذكر بأن البعث في زمرة الفقهاء والعلماء يستدعي حفظ المعاني؛ إذ لا يُسمَّى فقيهًا عالمًا إلا به. وقد يُجاب بأن بَعْث الحافظ في زمرتهم لا يستدعي أنه مساوٍ لهم، بل يكفي أنه منسوبٌ إليهم نسبةً ما، ألا ترى أن المرء يحشر مع من أحب وإن لم يعمل بعملهم (¬2)، ولا شك أن الناقل المذكور منسوبٌ إليهم كذلك فحشر معهم. ولا يعترض عليه أيضًا بتفسير البخاري (أحصاها) في حديث: "إن للَّه تسعةً وتسعين اسمًا، من أحصاها. . دخل الجنة" بمن حفظها مستظهرًا (¬3)؛ لأن المدار ثَمَّ على التبرُّك بذكرها، والتعبُّد بلفظها، ولا يتمُّ ذلك إلا بحفظها عن ظهر قلب، والمدار هنا على نفع المسلمين، وهو لا يحصل إلا بالنقل، بخلاف مجرد الحفظ من غير نقلٍ؛ فإنه لا نفع لهم به، فلم يشمله الحديث؛ إذ المقرر: أنه يجوز أن يستنبط من النص معنًى يخصصه، على أن أصل الحفظ: ضبط الشيء ومنعه من الضياع. فمن حفظ الأربعين في كتابه، ثم نقلها إليهم. . دخل في ذلك الوعد وإن لم يحفظها عن ظهر قلب، ومن حفظها بقلبه ولم ينقلها. . لم يشمله الوعد، قيل: وإن كتبها في عشرين كتابًا، وفيه نظر؛ لأن كتابتها نقلٌ لها. ثم نقلها إن كان بطريق استخراجها وتدوينها كما فعل البخاري ومسلم ومن شابههما. . كان مقتضيًا لدخول فاعله في ذلك الوعد السابق بلا توقف، وإن كان بأخذها من ¬

_ (¬1) ذكره المصنف رحمه اللَّه تعالى في آخر "الأربعين" في (باب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات) انظر (ص 647) آخر هذا الكتاب. (¬2) أخرج مسلم في "صحيحه" (2639/ 163) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه؛ متى الساعة؟ قال: "وما أعددت للساعة؟ " قال: حب اللَّه ورسوله، قال: "فإنك مع من أحببت" قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "فإنك مع من أحببت"، قال. أنس: فأنا أحب اللَّه ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم. (¬3) أخرجه البخاري (7392)، ومسلم (6/ 2677) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وفسر الإمام البخاري رحمه اللَّه تعالى عقبه قوله تعالى: {أَحْصَيْنَاهُ} بـ (حفظناه)، وللمزيد انظر "شرح صحيح مسلم" (17/ 5).

تنبيهان

دواوين أولئك كنقل المصنف هذه الأربعين منها. . كان في دخول فاعله في ذلك الوعد نظر؛ إذ لم يحفظه هو على الأمة، وإنما حافِظُه صاحب الكتاب المدون المفروغ منه الذي تعب في تخريجه وإسناده، وعلى تسليم دخوله فليس كدخول المُسنِد المجتهد، وإنما له أجر إفراد الحديث من ذلك الديوان، وتقريب تناوله على من أراده، لا أجر إسنادٍ واجتهادٍ. وحاصله: أنه إن لم يحفظ الحفظ التام. . فلا يدخل في الوعد الدخولَ التام، هذا مقتضى النظر، وخبر: "ثوابك على قدر نَصَبك" (¬1)، وقد يتفضَّل اللَّه تعالى عليه بالأجر التام وإن لم يحفظ الحفظ التام؛ لخبر مسلم: "من سأل اللَّه عز وجل الشهادة خالصًا من قلبه. . بلَّغه اللَّه سبحانه وتعالى منازل الشهداء وإن مات على فراشه" (¬2) كذا قاله بعض الشارحين. ويردُّ تنظيرُه (¬3): بأن الذي في الحديث ترتيب الوعد بحشره مع من ذكر على مجرد الحفظ المراد به النقل كما مر، وأما التخريج والإسناد. . فلا دخل لهما في ترتيب الوعد بوجه، وحينئذٍ فالمصنف ونحو البخاري يدخلون في هذا الوعد على حدٍّ سواء، لا تفاوت بينهم فيه؛ لاستوائهما في شرطه، وهو مجرد النقل، وأما تمييز نحو البخاري بالتخريج والإسناد. . فذاك له ثوابٌ آخر يتميز به، ولا كلام لنا فيه، فاندفع ما نظر به ذلك الشارح وجميع ما فرَّعه عليه، فتأمله. تَنبيهَان أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل] لا فرق بين حفظ أربعين صحيحةً وحسنةً، وكذا ضعيفة في الفضائل؛ للعمل بها فيها لا في الحلال والحرام؛ لامتناع العمل بها فيهما، فلم يحفظ على الأمة ما ينفعهم، بل ما يضرُّهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم بنحوه (1211/ 126)، وابن خزيمة في "صحيحه" (3027)، والحاكم (1/ 471) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. والنَّصَب: التعب. (¬2) صحيح مسلم (1909) عن سيدنا سهل بن حنيف رضي اللَّه عنه. (¬3) أي: قوله: (كان في دخول فاعله في ذلك الوعد نظر) اهـ هامش (غ)

ثانيهما [حفظ الأربعين مختص بالحديث الشريف]

ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف] لا شاهد في الحديث؛ لقول إِلْكِيَا من أصحابنا (¬1): (من حفظ أربعين مسألة. . فهو فقيه) (¬2) لأن الوعد السابق يحصل بحفظ أربعين حديثًا ولو في مسألةٍ واحدةٍ، ومع ذلك يحشر في زمرة الفقهاء؛ لما مر: أن الحشر في زمرتهم لا يستدعي إلا أن يكون بينه وبينهم نوع نسبةٍ دون حقيقة المساواة، ونظَّر فيه الرافعي أيضًا (¬3): بأن حفظ الشيء غير حفظه على الغير. قيل: وجه إيثار هذا العدد بذلك: ما أشار إليه بشر الحافي رحمه اللَّه تعالى بقوله: (يا أهل الحديث؛ اعملوا من كل أربعين حديثًا بحديث) (¬4)؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "أدُّوا ربع عشر أموالكم؛ من كل أربعين درهمًا درهم" (¬5) أي: بشرط بلوغ دراهمه مئتي درهم؛ إذ لا وجوب في أقلَّ منها، فهي -أعني: الأربعين- أقل عددٍ له ربع عشرٍ صحيح، فكما دلَّ حديث الزكاة على تطهير ربع العشر للباقي. . كذلك العمل بربع عشر الأربعين يخرج باقيها عن أن يكون غير معمولٍ بها، فخُصَّت بالذِّكر إشارةً لذلك. ¬

_ (¬1) هو شمس الإسلام علي بن محمد بن علي، أبو الحسن إِلْكِيا الهَرَّاسي، من أجلِّ تلامذة إمام الحرمين، توفي سنة (504 هـ). انظر "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (7/ 231)، و"سير أعلام النبلاء" (19/ 350). وفي "حاشية المدابغي": (إلكيا: بكسر الهمزة، وسكون اللام، وكسر الكاف، وتخفيف المثناة التحتية، معناه: الكبير بلغة الفرس). (¬2) نقل الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "روضة الطالبين" (6/ 169) هذا القول عن "التتمة" وقال: (وهو ضعيف جدًا). (¬3) أي: كما نظر فيه غيره، المعلوم ذلك من قول الشارح: (لا شاهد في الحديث. . . إلخ) فإنه تنظير في المعنى، فصح له أن يقول: (ونظر فيه الرافعي أيضًا) فتأمله. اهـ هامش (غ) (¬4) أخرجه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (184) بلفظ: (اعملوا من كل مئتي حديثٍ بخمسة أحاديث) والمؤدَّى واحدٌ؛ إذ لو قسمنا المئتين على خمسة. . لكان الناتج أربعين، لكلٍّ حديث، واللَّه أعلم. (¬5) أخرجه أبو داوود بنحوه (1572)، والترمذي (620)، والنسائي (5/ 37)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 137) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه.

وفي الحديث الحسن: "إنكم في زمانٍ من ترك منكم عشر ما أمر به. . هلك، ثم يأتي زمانٌ من عمل منهم بعشر ما أُمر به. . نجا" (¬1). (وفي رواية: "بعثه اللَّه تعالي فقيهًا عالما"، وفي رواية أبي الدرداء: "وكنت له يوم القيامة شافعًا وشهيدًا" (¬2)، وفي رواية ابن مسعود: "قيل له: ادخل من أي أبواب الجنة شئت" (¬3)، وفي رواية ابن عمر: "كتب في زمرة العلماء، وحشر في زمرة الشهداء") (¬4) وبين الثانية -أعني: "فقيهًا عالمًا" والتي قبلها نوعُ تخالفٍ، بناءً على ما قدمناه: أن الحشر في زمرتهم لا يستدعي مساواتَه لهم، وبين هاتين والأخيرة ذلك أيضًا، وقد يجمع بأن حُفَّاظ الأربعين مختلفو المراتب؛ فمنهم من يحشر في زمرة الفقهاء والعلماء وهم الأدنون، ومنهم الفقيه العالم وهم الأعلون، ومنهم المتوسط وهو الذي كُتب في زمرة العلماء، وحُشر في زمرة الشهداء؛ إذ الكَتْب في زمرة قومٍ يقتضي أنه منهم، بخلاف الحشر. وأما رواية: "شافعا وشهيدًا"، وأنه يقال له: "ادخل من أي أبواب الجنة شئت". . فيأتيان في الجميع. (واتفق الحفَّاظ على أنه) أي: الحديث المذكور (حديثٌ ضعيفٌ وإن كثرت طرقه) ومن جملة من أوضح ضعفها: ابن الجوزي في "علله المتناهية" وبرهن عليه (¬5)، وكذا الحافظ المنذري، فقال: (ليس في جميع طرقه ما يقوى وتقوم به الحجة؛ إذ لا يخلو طريقٌ منها أن يكون فيها مجهولٌ، أو معروفٌ مشهورٌ بالضعف)، ولمَّا أخرجه ابن عبد البر من حديث مالك. . قال: (هذا غير محفوظٍ ولا معروفٍ عنه، ومن رواه عنه. . فقد أخطأ عليه) وقال في "كتاب العلم": ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2267) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقال: (هذا حديث غريب)، وله شاهد عند الإمام أحمد (5/ 155) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "إنكم في زمان علماؤه كثير، خطباؤه قليل، من ترك فيه عَشِير ما يعلم. . هوى -أو قال: هلك- وسيأتي على الناس زمانٌ يقِلُّ علماؤه، ويكثر خطباؤه، من تمسَّك فيه بعشير ما يعلم. . نجا". (¬2) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (1597). (¬3) ذكره العلامة الهندي في "كنز العمال" (29188) وعزاه للديلمي. (¬4) ذكره العلامة الهندي في "كنز العمال" (29191). (¬5) انظر "العلل المتناهية" (1/ 119) وما بعدها.

(إسناده ضعيف) (¬1)، وقال ابن السكن في بعض رواة بعض طرقه: (إنه منكر الحديث، وليس يروى من وجهٍ يثبت) (¬2)، وقال الدارقطني في "علله": (كل طرقه ضعاف) (¬3)، والبيهقي: (أسانيده كلها ضعيفة) (¬4)، وابن عساكر: (فيها كلها مقال (¬5). ولا يرد على قول المصنف: (الحفاظ) قولُ الحافظ أبي طاهر السِّلَفي في "أربعينه": (إنه روي من طرقٍ وثقوا بها، وركنوا إليها، وعرفوا صحتها، وعولوا عليها) انتهى؛ لأنه معترَضٌ وإن أجاب عنه المنذري بأنه يمكن أن يكون سلك في ذلك مسلك من رأى أن الأحاديث الضعيفة إذا انضم بعضها إلى بعض. . أحدثت قوةً، ولا يرد على المصنف ذكرُ ابن الجوزي له في "الموضوعات" لأنه تساهُلٌ منه، فالصواب: أنه ضعيفٌ لا موضوعٌ. فإن قلت: سلَّمنا عدم وضعه، لكنه شديد الضعف، والحديث إذ اشتدَّ ضعفه. . لا يُعمل به ولا في الفضائل، كما قاله السبكي وغيره، وحينئذٍ فكيف عمِلَ به جمعٌ من الأئمة أتعبوا أنفسهم في تخريج الأربعينيات اعتمادًا عليه؟! قلتُ: لا نسلم أنه شديد الضعف؛ لأنه الذي لا يخلو طريقٌ من طرقه عن كذَّابٍ أو متهمٍ بالكذب، وهذا ليس كذلك، كما دلَّ عليه كلام الأئمة، ولئن سلمنا ذلك. . فهم لم يعتمدوا في ذلك عليه، بل على ما سيذكره المصنف من الأحاديث الصحيحة، وأما خبر: (من حفظ على أمتى حديثًا واحدًا. . كان له كأجر أحد وسبعين نبيًا صديقًا). . فهو موضوع. * * * ¬

_ (¬1) انظر القولين في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 192 - 193). (¬2) انظر "جامع بيان العلم" (1/ 198). (¬3) انظر "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" (6/ 34). (¬4) انظر "شعب الإيمان" (3/ 241). (¬5) أربعون حديثًا لأربعين شيخًا من أربعين بلدة (ص 25).

[ذكر بعض من صنف أربعين حديثا]

[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا] وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، فَأَوَّلُ مَنْ عَلِمْتُهُ صَنَّفَ فِيهِ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ المُبَارَكِ، ثُمَّ مُحَمَّد بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ الْعَالِمُ الْرَّبَّانِيُّ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ النَّسَوِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيٌّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الأَصْفَهَانِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْمَالِينِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ الصَّابُوييُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنْ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَونَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتأَخِّرِينَ. وَقَدِ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي جَمْعِ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا؛ اقْتِدَاءً بِهَؤُلَاءِ الأَئِمَّةِ الأَعْلَامِ، وَحُفَّاظِ الإِسْلَامِ، وَقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ اعْتِمَادِي عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ عَلَى قَوْلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ"، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا". (وقد صنف العلماء رضي اللَّه عنهم في هذا الباب ما لا يحصى من المصنفات) أي: فلي بهم أسوةٌ في ذلك (فأول من علمته صنف فيه: عبد اللَّه بن المبارك، ثم محمد بن أسلم الطُّوسي) بضم الطاء (العالم الرباني) هو: مَنْ أُفيضت عليه المعارف الإلهية فعرف بها ربه، وربى الناس بعلمه. (ثم الحسن سفيان النَّسوي) بنون فمهملة مفتوحتين، نسبة إلى نَسا. (وأبو بكر الآجري) بهمزة مفتوحة ممدودة.

(وأبو بكر محمد بن إبراهيم الأصفهاني) بكسر الهمزة وفتحها، وبالفاء لا الباء (¬1). (والدارقطني) بفتح الراء، نسبة إلي دار القطن، محلَّةٌ كبيرةٌ ببغداد. ([والحاكم وأبو نعيم] (¬2) وأبو عبد الرحمن) محمد بن الحسين (السُّلَمي) بضم السين وفتح اللام، نسبة إلي سليم بن منصور، قبيلة مشهورة. (وأبو سعيد) الذي قاله السمعاني: أبو سعد أحمد بن محمد (¬3) (المالينيُّ) بفتح الميم وكسر اللام ثم تحتية ثم نون، نسبة إلي مالين (¬4)، قرى مجتمعة من أعمال هراة، وهو راوية ابن عديٍّ الحافظ، (وأبو عثمان الصابوني) نسبة إلي عمله (¬5). (ومحمد بن عبد اللَّه الأنصاري (¬6)، و) الإمام الجليل، الحافظ الكبير (أبو بكر البيهقي) نسبة إلي بيهق، قرية بناحية نيسابور، أحد أئمة الشافعية، (وخلائق لا يحصون من المتقدمين والمتأخرين) (¬7). ولما كانت الاستخارة مطلوبةً في جميع الأمور، وحديثها ثابتٌ في ¬

_ (¬1) قوله: (بالفاء لا بالباء) عبارة السعد: (والأصبهاني: بالباء والفاء مع كسر الهمزة وفتحها، والفتح أفصح) انتهى، وقال ابن رسلان: (نسبة إلى أصبهان بلدة من بلاد فارس) انتهى، وفي "القاموس": أن الفاء تبدل منه باءً، فقول الشارح: (لا الباء). . مشكل. وفي بعض النسخ: (بالفاء والباء) فلا إشكال. ويمكن أن يكون مراده: لا بالباء من حيثُ نسخةُ المصنف. اهـ "مدابغي" في هامش (هـ): (قوله: "لا الباء" أي: هنا في نسخة المصنف، فلا ينافي أنها في اللغة لم تستعمل، بل تستعمل كذلك مثل الفاء، ففيها أربع لغات). (¬2) قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى بعد تعريفه بالإمامين رحمهما اللَّه: (وهذان الاسمان -أعني قوله: "والحاكم وأبو نعيم"- ساقطان في شرح ابن حجر، موجودان في الأصول المصححة والمتون المشروحة كما قاله ملا علي). وهما موجودان فيما بين أيدينا من "مخطوطات الأربعين". (¬3) انظر "الأنساب" (5/ 179). وفي كثيرِ من النسخ تحريف للاسم، والمثبت من نسخةٍ، وهو الصواب. (¬4) قوله: (نسبة إلى مالين) وأهل هراة يقولون: مالان، وحينئذٍ فيقال فيه: المالاني الهروي الأنصاري. اهـ "مدابغي" (¬5) قال السمعاني في "الأنساب" (3/ 506): (ولعل أحد أجداده عمله فعُرفوا به وهو المعروف بشيخ الإسلام، وكان إمامًا مفسرًا محدثًا فقيهًا، روى عن الحاكم، وروى عنه البيهقي) اهـ بتصرف (¬6) صوابه: عبد اللَّه بن محمد الأنصاري من ذرية سيدنا أبي أيوب رضي اللَّه عنه، له "الأربعين في التوحيد"، و"الأربعين في السنة". انظر "سير أعلام النبلاء" (18/ 505 - 518). (¬7) سقطت هذه الفقرة من إحدى عشرة نسخة، وهي مثبتة من (ز) و (غ)، وقد نبه العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى لذلك فقال: (والاسمان المتقدمان إلى هنا ساقطٌ من شرح ابن حجر).

"الصحيح" (¬1)، قيل: ولأنها استشارة الرب، والمستشار مؤتمن، ويروى: "من سعادة ابن آدم الرضا بالقضاء والقدر، واستخارة اللَّه تعالى في أموره، ومن شقاوته ترك ذلك" (¬2). . قدَّمها المصنف على هذا التأليف؛ لتعود بركتها عليه، كما قال: (وقد استخرت اللَّه تعالى) أي: طلبت منه خير الأمرين (في جمع أربعين حديثًا؛ اقتداءً بهؤلاء الأئمة الأعلام، وحفَّاظ الإسلام) إذ الاقتداء بالأئمة فيما يفعلونه من الخير مطلوبٌ ما لم يكن محل اجتهاد، ويؤدي اجتهاد مَنْ فيه أهلية الاجتهاد إلى خلافهم. (وقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال) لأنه إن كان صحيحًا في نفس الأمر. . فقد أعطي حقه من العمل به، وإلَّا. . لم يترتب على العمل به مفسدة تحليلٍ ولا تحريم، ولا ضياع حقٍّ للغير، وفي حديث ضعيف: "من بلغه عني ثواب عمل فعمله. . حصل له أجره وإن لم أكن قلته" (¬3) أو كما قال. وأشار المصنف رحمه اللَّه تعالى بحكاية الإجماع على ما ذكره إلى الرد على من نازع فيه بأن الفضائل إنما تُتَلقى من الشرع، فإثباتها بالحديث الضعيف اختراعُ عبادة، وشرع في الدين ما لم يأذن به اللَّه. ووجه ردِّه: أن الإجماع لكونه قطعيًا تارةً، وظنيًا ظنًا قويًا أخرى لا يُردُّ بمثل ذلك لو لم يكن عنه جوابٌ، فكيف وجوابه واضح؟! إذ ذاك ليس من باب الاختراع والشرع المذكورَينِ، وإ نما هو ابتغاء فضيلةٍ ورجاؤها بأمارةٍ ضعيفةٍ من غير ترتُّب مفسدةٍ عليه كما تقرر. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (6382) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلِّها كالسورة من القرآن: "إذا همَّ بالأمر. . فليركع ركعتين ثم يقول: اللهم؛ إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم؛ إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله-. . فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري، وآجله-. . فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، يسمي حاجته". (¬2) أخرج نحوه الشاشي في "مسنده" (185) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه بنحوه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (93) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

(ومع هذا) المقرر من جواز العمل بالضعيف في الفضائل إجماعًا (فليس اعتمادي على هذا الحديث) وحده حتى يرد عليَّ الإشكال السابق (بل على قوله صلى اللَّه عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: "لِيبلغِ الشاهدُ منكمُ الغائبَ") أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" في خطبته في حجة الوداع (¬1)، وأخرجه ابن منده في "مستخرجه" عن ثمانية عشر صحابيًا. (وقوله صلى اللَّه عليه وسلم): "بلِّغوا عنِّي ولو آية" (¬2)، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: (نضَّر اللَّه) بتخفيف الضاد المعجمة، ورجَّحه بعضهم، وعليه جرى الروياني من أصحابنا في "بحره" (¬3) -وبتشديدها قال المصنف رحمه اللَّه تعالى، وهو الأكثر (¬4) - وفيه أيضًا: (أنضر) من النضارة؛ وهي: حُسْن الوجه وبريقُه، فهو على حدِّ قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}. ومن ثَمَّ قال بعضهم: إني لأرى في وجوه أهل الحديث -وعبَّر بعضهم بأهل العلم- نضرةً وجمالًا (¬5) لهذا الحديث، يعني: إنها دعوةٌ أُجيبتْ (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (105)، وصحيح مسلم (1679) عن سيدنا أبي بكرة رضي اللَّه عنه. وفي "الفتوحات الوهبية" (ص 40): (وهذا تحريض على التعليم والتعلم؛ فإنه لولاه. . لانقطع العلم بين الناس). (¬2) أخرجه البخاري (3461)، وابن حبان (6256)، والترمذي (2669) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما. (¬3) حيث قال في "بحر المذهب" (1/ 20): (يقال: "نضر اللَّه" بالتخفيف والتثقيل، وأجودهما التخفيف). (¬4) ضبطها المصنف رحمه اللَّه تعالى في آخر "الأربعين" في باب سماه: (باب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات) انظر (ص 640) آخر هذا الكتاب. (¬5) ومن نظم الحافظ جلال الدين السيوطي رحمه اللَّه تعالى في فن الحديث: (من الكامل) مَنْ كانَ من أهلِ الحديثِ فإنَّهُ ... ذو نضرةٍ في وجهه نورٌ سطَعْ إنَّ النبيَّ دعا بنضرةِ وجهِ مَنْ ... أدَّى الحديثَ كما تحمَّل واتَّبعْ ومن نظمه أيضًا: (من الكامل) أهلُ الحديثِ لهم مفاخرُ ظاهرةْ ... وهمُ نجومٌ في البريَّةِ زاهرةْ في أيِّ مصرٍ قد ثَوَوْا تلقاهُمُ ... حقًا لأعداءِ الشريعةِ قاهرةْ بالنُّورِ قد مُلئتْ حشاشةُ صدرهِمْ ... فكذا وجوهُهُم تراها ناضرةْ (¬6) وخُصَّ حامل السنة بالدعاء؛ لأنه سعى في نضارتها وتجديدها، فجازاه اللَّه تعالى في دعائه بما يناسب جماله، وذكر سيدي محمد الشاذلي رحمه اللَّه في كتابه "البيان" ما نصه: (اخُتصَّ أهل الحديث من دون سائر العلماء بأنهم لا تزال وجوههم نضرة؛ لدعوة النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم لهم بقوله: "نضر اللَّه. . . إلخ"، =

وقال بعضهم: (ليس هذا من الحسن في الوجه، وإنما معناه: حسَّن اللَّه وجهه في خَلْقه؛ أي: في جاهه وقَدْره، فهو مثل قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "اطلبوا الحوائج إلى حسان الوجوه" (¬1) يعني: الوجوه من الناس وذوي الأقدار) انتهى، وهو تأويلٌ بعيدٌ مخالفٌ للظاهر من غير حاملٍ عليه، وليس نظيرَ حديث: "اطلبوا الحوائج" لذكر الوجوه فيه المحتمل لأن يراد بها جمع (وجه) من الوجاهة؛ وهي: التقدُّم وعلو القدر. وحكى ابن العربي عن ابن بُشْكوال: أنه بالصاد المهملة، وهو شاذٌّ. (امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) رواه الترمذي عن ابن مسعود، وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" عن جبير بن مطعم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأبو داوود، وابن ماجه، والترمذي عن زيد بن ثابت، وقال: حسن (¬2). وفي روايةٍ صحيحةٍ: "نضر اللَّه امرأ سمع منَّا حديثًا فأداه عنَّا كما سمعه، فربَّ مبلَّغ -أي: بفتح اللام- أوعى من سامع" (¬3). وفي أخرى صحيحةٍ أيضًا: "نضر اللَّه رجلًا سمع منا كلمةً فبلغها كما سمعها، فرب مبلَّغٍ أوعى من سامع" (¬4). قال الروياني في "بحره": (في الخبر: بيان أن الفقه هو الاستنباط والاستدراك لمعاني الكلام، وفي ضِمْنه وجوب التفقهِ والحثِّ على استنباط معاني الحديث) اهـ (¬5) ¬

_ = والنضرة: الحسن والرونق، والمعنى: خصه اللَّه تعالي بالبهجة والسرور؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه في دعائه بما يناسب حاله في المعاملة. اهـ "الفتوحات الوهبية" (ص 41). (¬1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3799) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) سنن الترمذي (2656) و (2657)، وصحيح ابن حبان (66)، ومستدرك الحاكم (1/ 87)، وسنن أبي داوود (3660)، وسنن ابن ماجه (230). (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1326) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه الشاشي في "مسنده" (278)، والبيهقي في "الشعب" (1607) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬5) بحر المذهب (1/ 20 - 21).

وليس في قوله: "كما سمعها" منعٌ لرواية الحديث بالمعنى بشروطه (¬1)، خلافًا لمن زعمه؛ لأن المراد: أداء حكمها لا لفظها؛ بدليل قوله في آخر الحديث: "فرب حامل فقهٍ غير فقيه، ورب حامل فقهٍ إلى مَنْ هو أفقه منه" (¬2) والفقه: اسمٌ للمعنى لا لِلَّفظ. * * * ¬

_ (¬1) عبارة "جمع الجوامع وشرحِه" للجلال (2/ 205 - 206): (مسألة: الأكثر من العلماء -منهم الأئمة الأربعة- على جواز نفل الحديث بالمعنى للعارف بمدلولات الألفاظ ومواقع الكلام؛ بأن يأتي بلفظٍ بدل آخر يشاركه في المراد منه وفهمه؛ لأن المقصود المعنى، واللفظ آلةٌ له، أما غير العارف. . فلا يجوز له تغيير اللفظ قطعًا، وسواء في الجواز نسي الراوي اللفظ أم لا) اهـ هامش (غ) (¬2) أخرجه ابن ماجه (230) عن سيدنا جبير بن مطعم رضي اللَّه عنه.

[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها] ثُمَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَمَعَ الأَرْبَعِين في أُصُولِ الدِّينِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْفُرُوعِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الزُّهْدِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الآدَابِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْخُطَبِ، وَكُلُّهَا مَقَاصِدُ صَالِحَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ قَاصِدِيهَا. وَقَدْ رَأَيْتُ جَمْعَ أَرْبَعِينَ أَهَمَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ وَهِيَ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا مُشْتَمِلَةً عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَقَدْ وَصَفَهُ الْعُلَمَاءُ بأَنَّ مَدَارَ الإِسْلَامِ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ نِصْفُ الإِسْلَامِ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. ثُمَّ أَلْتَزِمُ فِي هَذَهِ الأَرْبَعِينَ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً وَمُعْظَمُهَا فِي "صَحِيحَي الْبُخَارِي وَمُسْلِمٍ"، وَأَذْكُرُهَا مَحْذُوفَةَ الأَسَانِيدِ؛ لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا وَيَعُمَّ الانْتِفَاعُ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أتبِعُهَا بِبَابٍ فِي ضَبْطِ خَفِيِّ أَلْفَاظِهَا. وَيَنْبَغِي لِكُلِّ رَاغِبٍ فِي الآخِرَةِ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ؛ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَاحْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ. وَعَلَى اللَّهِ اعْتِمَادِي، وَإِلَيْهِ تَفْوِيضِي وَاسْتِنَادِي، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالنِّعْمَةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ. (ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم) جمعها (في الفروع) أي: المسائل الفقهية (وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب) (¬1) وبعضهم في فضائل سورٍ أو عملٍ أو قبيلةٍ أو نحوها. ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (وبعضهم في الأدب) وهي في بعض النسخ المتن.

(وبعضهم) جمعها (في الخطب) جمع خطبة من الخَطْب؛ لأن العرب كانوا إذا ألمَّ بهم الخطب -وهو الأمر المهم-. . خطبوا له، فيجتمع بعضهم إلى بعض، ويحتالون في دفعه. (وكلها مقاصد صالحة) لشمول الأحاديث السابقة لجميعها (رضي اللَّه) تعالى (عن قاصديها، وقد رأيتُ) من الرأي (جمع أربعين أهم من هذا كلِّه، وهي أربعون حديثًا مشتملة على جميع ذلك) (¬1) لاشتمالها على جميع أصول الشريعة وفروعها، وآدابها وأخلاقها، ووسائلها ومقاصدها؛ لأن منها ما يرجع إلى تصحيح النية والتقوى في السر والعلن، والزهد في الدنيا وقصر الأمل، وترك ما لا يعني من الفضول، والاشتغال بالذكر، والاستعداد للِّقاء، والتواضع للخلق، وحسن التخلُّق معهم بالآداب الشرعية، والانقباض عنهم فيما لا يعني، وإرادة الخير لهم باطنًا، ومساعدتهم ظاهرًا حسب الإمكان، وغير ذلك من المصالح الدينية والدنيوية؛ إذ الشريعة منحصرةٌ في بيان مصالحهما. ولا يَرِدُ على قوله: (وهي أربعون حديثًا) زيادتُهُ حديثينِ: إما لأن العدد لا مفهوم له كما قال به جمعٌ من الأصوليين، بل هو الصحيح، أو أن ذكر القليل لا ينفي الكثير (¬2)؛ كما قيل به في رواية: "صلاة الجماعة تعدل صلاة الواحد بخمسةٍ وعشرين" (¬3) مع رواية: "سبعة وعشرين" (¬4)، أو أنه هنا كان عزمُهُ الاقتصارَ على الأربعين، فعند فراغها عنَّ له زيادة الحديثين الأخيرين؛ لحكمةٍ هي: أن أحدهما من باب الوعظ بمخالفة الهوى ومتابعة الشرع، ففيه حثٌّ على العمل بجميع الأحاديث السابقة، فكان في تعقيبها به تمام المناسبة، وثانيهما من باب الرجاء والدعاء والاستغفار والإطماع في الرحمة، ففيه تأنيس النفس وعدم نفرتها من التشديدات ¬

_ (¬1) سقطت كلمة (جميع) من النسخ إلا من (غ) وهي موجودة في نسخ "المتن". (¬2) قوله: (أو أن ذكر القليل لا ينفي الكثير) هذا في معنى ما قبله؛ لأنه ينشأ عن كون العدد لا مفهوم له: أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، فلا يظهر عطفه بـ (أو) عليه، فليتأمل. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجها مسلم (649/ 247)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 60) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (645)، ومسلم (650) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ولفظه: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة".

الواقعة في خلال تلك الأحاديث السابقة، بل والحث على الإقبال عليها؛ رجاء أن يكون ذلك مكفِّرًا لما فرط منه، ففي التعقيب به تمام المناسبة أيضًا. (وكل حديثٍ منها قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الدين) القاعدة: أمرٌ كليٌّ يُتَعرف منه أحكام جزئياتِ موضوعِه، كـ: الأمر للوجوب، فإن جزئيات موضوعها وهو الأمر يعرف أحكامها منها بضم الدليل التفصيلي إليها هكذا، نحو: {وَأَقِيمُواْ ألصَّلَوةَ} أمر، والأمر للوجوب، فـ (أقيموا) للوجوب، وبهذا يُعلم أن القاعدة بهذا المعنى ليست مرادةً للمصنف؛ لأن تلك الأحاديث كلها من باب الأحكام التفصيلية دون القواعد الإجمالية، وإنما أراد بالقاعدة الأصلَ الذي يرجع إليه غالب الأحكام أو كثيرٌ منها. (وقد وصفه العلماء بأن مدار) غالب أحكام (الإسلام عليه) لاستنباطها منه ابتداء، أو بواسطة مقدماتٍ كما يأتي بسطه في شرحها. (أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك) كالربع، فكل واحدٍ من هذه الأربعين وُصف بأحد هذه الأوصاف الأربعة، كما ذكره ابن الصلاح في أكثرها؛ فإنه ذكر أقوال الأئمة في تعيينها واختلافهم في أعيانها، فبلغ ما قيل فيه ذلك سبعةً وعشرين، كلها مندرجة في هذه الأربعين، منها عشرون صحيحة، وسبعة حسنة، وبلَّغها المصنف في "أذكاره" إلى ثلاثين، وزاد عليها هنا اثني عشر وذكر في السابع والعشرين حديثين؛ لاجتماعهما على معنًى واحد (¬1). وسيتلى عليك في شرح كل منها -إن شاء اللَّه تعالى- ما يظهر به وجه كونه قاعدةً عظيمةً من قواعد الدين. ومما ينتظم في سلكها: الحديث المتفق عليه: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي. . فلأولى رجل ذكر" (¬2)؛ لأنه جامعٌ لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم. "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (¬3). ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (على أمر واحد). (¬2) صحيح البخاري (6737)، وصحيح مسلم (1615) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1447) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما.

"إن اللَّه إذا حرَّم شيئًا. . حرم ثمنه" (¬1)، "كل مسكرٍ حرام" (¬2)، "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًا من بطنه" (¬3)، "أربع من كنَّ فيه. . كان منافقًا. . . " الحديث (¬4)، "لو أنكم توكلون على اللَّه حقَّ توكله. . لرزقكم كما يرزق الطير" (¬5)، "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر اللَّه" (¬6). (ثم) بعد جمع هذه الأربعين (ألتزم في) أسانيد (هذه الأربعين أن تكون صحيحةً) بالمعنى الأعم الشامل للحسن؛ إذ يطلق عليه أنه صحيحٌ حقيقةً عند بعضهم، ومجازًا عند الباقين؛ لمشابهته له في وجوب العمل به. (ومعظمها) أي: غالبها (في "صحيحي البخاري ومسلم") اللذينِ هما أصح الكتب كما يأتي. (وأذكرها محذوفة الأسانيد) لأنه ليس لها بالنسبة لأكثر الناس فائدةٌ بعد أن عُلمت صحتُها (¬7)، و (ليسهل حفظها) لقلة ألفاظها وحينئذٍ يكثر حفاظها (ويعم الانتفاع بها) كما هو مشاهَدٌ؛ لخلوص نية جامعها، وحقيقة التجائه إلى اللَّه تعالى. (إن شاء اللَّه تعالى) أتى بها؛ للتبرك امتثالًا لأمره تعالى حيث أمر أشرف خلقه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (4938)، والدارقطني في "سننه" (3/ 7)، والإمام أحمد (1/ 293)، والطبراني في "الكبير" (12/ 155) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن حبان (5236)، والترمذي (2380)، وابن ماجه (3349) عن سيدنا المقدام بن معدي كرب رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. وفي هامش (غ): (ثم هذه الخصال قد توجد في مسلمِ، فتسميةُ مرتكبها منافقًا تشبيهٌ له، أو المراد بالمنافق: من غلبت هذه الخصال عليه واستخفَّ بها؛ إذ من كان كذلك. . كان فاسد الاعتقاد غالبًا). "فتح الباري" (1/ 90 - 91) بتصرف. (¬5) أخرجه ابن حبان (730)، والحاكم (4/ 318)، والترمذي (2344) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه ابن حبان (814)، والحاكم (1/ 495)، والترمذي (3375) عن سيدنا عبد اللَّه بن بُسر رضي اللَّه عنه، وهذه الأحاديث الثمانية التي ذكرها الشارح رحمه اللَّه تعالى هي التي ألحقها الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بهذه "الأربعين"، ثم شرحها في كتابه "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم". (¬7) وإنما تثبت صحة الحديث بالإسناد، وقد تعذَّر الإسناد في هذا الزمان باعتبار الرواية، بل الطريق في معرفة الإسناد: نقلُ الحديث من كتابٍ معتبرٍ، مقابَلٍ على يد ثقةٍ، على كتابٍ معتبرٍ أيضًا. اهـ هامش (غ).

بالإتيان بها لذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، ومن ثم سُنَّت في الأمور المستقبلة دون الماضية، كما استُفيد من الآية، فلا يقال: فعلت كذا أمس إن شاء اللَّه تعالى. (ثم أُتبعها ببابٍ في ضبط خفيِّ ألفاظها) جميعه، وبعض الواضح منها كما ذكره أول هذا الباب، وسأنقل منه ما يُحتاج إليه إلى مواضعه من هذا الشرح إن شاء اللَّه تعالى (¬1). (وينبغي لكل راغبٍ في) عمل أو ثواب (الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث) ويبحث عن أحكامها، ومعانيها، وما نصَّتْ عليه، وأشارت إليه (لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهرٌ لمن تدبَّره) مستحضرًا ما قدمناه آنفًا في شرح قوله: (مشتملة على جميع ذلك) ونزيد هنا إيضاحًا: أن الشريعة إنما وردت لبيان مصالح الناس، وانتظام أحوالهم في معاشهم ومعادهم، وانتظام حال الأول إنما يتم بوضع قانون المعاملات على وفق العدل والإنصاف، وانتظام حال الثاني إنما يوجد بالتوحيد، ويتم بالطاعات القلبية؛ كالإخلاص والنية، والعلمية والعملية، وهذه الأحاديث منها ما هو ناصٌّ على الأول بأقسامه، ومنها -وهو أكثرها- ما هو ناصٌّ على الثاني بأقسامه، كما سيتضح لك بأزيد من ذلك عند تقرير كلٍّ منها. (وعلى اللَّه) لا على غيره، كما أفاده تقديم المعمول (اعتمادي) في هذا الجمع وغيره (وإليه) لا إلى غيره (تفويضي واستنادي، وله) دون غيره (الحمد) ملكًا واستحقاقًا واختصاصًا (والنعمة) إيجادًا وإيصالًا إلى خلقه بسائر أنواعها كما مر، وغيرُهُ وإن وُجد له حمدٌ أو مِنهُ نعمةٌ فإنما هو باعتبار الصورة دون الحقيقة؛ كما مر بيانه واضحًا سوطًا (¬2). (وبه) أي: بسبب تفضُّله ومِنَّته على من يشاء من خلقه (التوفيق) وهو: خلق ¬

_ (¬1) وقد أتبع الإمام النووي رحمه اللَّه تعالي "الأربعين" ببابٍ سماه: (باب الإشارات إلي ضبط الألفاظ المشكلات) وضبط فيه الألفاظ الواردة كما يفعل رحمه اللَّه تعالي في كتبه دائمًا، وكثير ممن اعتنى بـ"الأربعين" فاته أن يلحق بها هذا الباب المفيد، وقد جعلناه آخر الكتاب؛ لتمام الفائدة. (¬2) انظر ما تقدم (ص 81).

قدرة الطاعة في العبد، ويرادفه باعتبار المآل اللُّطف؛ وهو: صلاح ما به العبد عند خاتمة عمره، فمآلهما واحدٌ وإن اختلف مفهومهما كما تقرر. (والعصمة) أي: الحفظ عن الوقوع في المخالفات، ويؤخذ من كلامه: أنه يجوز لنا الدعاء بالعصمة، وهو ظاهر إن أُريد بها الحفظ من الذنب مع جواز وقوع خلافه، وهذا هو الثابت لغير الأنبياء، وأما الثابت للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. . فهو الحفظ مع استحالة وقوع خلافه، وأما مَنْ منع الدعاء بها مطلقًا، واعترَضَ على الشيخ الأستاذ أبي الحسن الشاذلي في الدعاء بها في "حزبه". . فلم يصب؛ إذ لا دليل يعضده، ولا قياس يساعده (¬1). * * * ¬

_ (¬1) حيث قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه اللَّه تعالى في حزبه المسمى "حزب البحر": (بسم اللَّه الرحمن الرحيم، اللهم؛ يا علي يا عظيم، يا حليم يا كريم، أنت ربي، وعلمك حسبي، فنعم الرب ربي، ونعم الحسب حسبي، تنصر من تشاء وأنت العزيز الرحيم، نسألك العصمة في الحركات والسكنات، والكلمات والإرادات والخطرات؛ من الشكوك والظنون، والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب. . .).

الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

الحديث الأول [الأعمال بالنيات] عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ آمْرِئٍ مَا نَوَي، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَن كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ أمْرَأة يَنْكِحُهَا. . فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ" رَوَاهُ إِمَامَا الْمُحَدِّثينَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ بَرْدِزْبَهْ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ مُسلِمٍ الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي "صَحِيحَيْهِمَا" اللَّذَيْنِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ (¬1). ابتدأ به اقتداءً بالسلف؛ فإنهم كانوا يحبون ذلك تنبيهًا للطالب على مزيد الاعتناء والاهتمام بحسن النية، والإخلاص في الأعمال؛ فإنه روحها الذي به قِوامها، وبفقده تصير هباءً منثورًا (¬2). رواه من الأئمة الحفَّاظ فوق ثلاث مئة نَفْسٍ، وقيل: سبع مئة، عن سعيد بن يحيى بن سعيد الأنصاري (¬3)، عن محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عنه غير ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907). (¬2) قال الإمام ابن عطاء اللَّه السكندري رحمه اللَّه تعالى: الأعمال صورٌ قائمةٌ، وأرواحها وجود سرِّ الإخلاص فيها. انظر "شرح الحكم" للعلامة الشرنوبي رحمه اللَّه تعالى (ص 74). (¬3) كذا في جميع النسخ، وفي هامش (و): (صوابه: يحيى بن سعيد. اهـ تقرير شيخنا). وقال العلامة المدابغي رحمه اللَّه: (هكذا في النسخ، والذي في "البخاري": عن يحيى بن سعيد الأنصاري، فالصواب: إسقاط لفظة: "سعيد بن").

الأنصاري، عن علقمة، ولم يروه عنه غير التيمي (¬1). (عن أمير المؤمنين) ولم يروه عنه غير علقمة، وهو أول من سُمِّي به من الخلفاء؛ لاستثقالهم (خليفةَ خليفةِ رسول اللَّه) صلى اللَّه عليه وسلم (¬2)، لا مطلقًا؛ فقد سُمي به عبد اللَّه بن جحش رضي اللَّه تعالى عنه حين أَمَّره النبي صلى اللَّه عليه وسلم على السرية التي أرسلها أول مقدمه المدينة، وفيها أُنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] الآيتينِ (¬3). (أبي حفصٍ عمر بن الخطاب) بن نُفَيْل بن عبد العُزى العدوي القرشي، يجتمع مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم في كعب بن لؤي، كناه النبي صلى اللَّه عليه وسلم بأبي حفص؛ وهو لغةً: الأسد، ولقَّبه بالفاروق؛ لفرقانه بين الحق والباطل بإسلامه؛ إذ أَمْرُ المسلمين قبله كان على غايةٍ من الخفاء، وبعده على غايةٍ من الظهور. أسلم بعد أربعين رجلًا وإحدى عشرة امرأةً، سنة ستٍّ من النبوة، وبُويع له بالخلافة يوم موت الصديق رضي اللَّه تعالى عنهما، وهو يوم الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الأولى، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، بعهدٍ منه إليه، ففتح الفتوح العظيمة الكثيرة؛ كما أشار صلى اللَّه عليه وسلم إلى ذلك بحديث البئر المشهور (¬4). ¬

_ (¬1) وفيه طرفةٌ من طُرَف الإسناد؛ وهي: أنه رواه ثلاثةٌ تابعيون بعضهم عن بعضٍ: يحيى، ومحمد، وعلقمة. ذكرها الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرح صحيح مسلم" (13/ 54). (¬2) أي: في اللفظ؛ لِمَا فيه من التكرير. وفي بعض النسخ هنا زادة؛ وهي (لأنه خليفة أبي بكر خليفةِ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم). (¬3) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 601)، و"الدر المنثور" للإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى (1/ 600)، وفيه: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كتب له كتابًا وأمره ألَّا يقرأه إلا في مكان كذا وكذا، وألَّا يكره أحدًا على السير معه، فلما قرأ الكتاب. . استرجع، وقال: سمعًا وطاعة للَّه ولرسوله، فخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام؟! فانزل اللَّه تعالى الآية. (¬4) أخرج البخاري (3676)، ومسلم (2393) واللفظ له، عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "أُريت كأني أنزع بدلوِ بكرةٍ على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين، فنزع نزعًا ضعيفًا، واللَّه تبارك وتعالى يغفر له، ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه، حتى رَوِيَ الناس وضربوا العَطَن". و (غربًا): دلوًا كبيرًا، وكذا (ذنوبًا) بفتح الذال، و (العطن): مبرك الإبل؛ أي: روي الناس ورويت إبلهم فأقامت على الماء، وليس الضعف من سيدنا أبي بكر =

وقد ذكرتُ بقية أحواله ومناقبه وعظيم سيرته الحسنة الحميدة في كتابي "الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الضلالة والابتداع والزندقة" (¬1). واستشهد على يد نصرانيٍّ اسمه أبو لؤلؤة (¬2)، يوم الأربعاء، لأربعٍ بقين من ذي الحجة، سنة ثلاثٍ وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاثٍ وستين على الصحيح. (رضي اللَّه) تعالى (عنه قال) دون غيره؛ إذ لم يروِ هذا الحديثَ غيرُه من طريقٍ صحيحٍ وإن رواه نحو عشرين صحابيًا، فهو -وإن أجمعوا على صحته- فردٌ غريبٌ باعتبار أوله، بل تكررت الغرابة فيه أربع مراتٍ كما مر (¬3)، وهو مشهورٌ باعتبار آخره وليس بمتواتر؛ لأن شرط المتواتر: أن يوجد فيه عدد التواتر في جميع طبقاته. (سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: إنما) هي لتقوية الحكم الذي في حيِّزها اتفاقًا، ومن ثَمَّ وجب أن يكون معلومًا للمخاطب، أو منزَّلًا منزلته، ولإفادةِ الحصر وضعًا على الأصح فيهما عند جمهور الأصوليين (¬4)، خلافًا لجمهور النحاة، وهو إثبات الحكم لما بعدها ونفيه عمَّا عداه؛ وذلك لأنها وردت في كلامهم له غالبًا، والأصل: الحقيقة، وجواز غلبة الاستعمال في غير ما وضعت له خلاف الأصل، فلا بد له من دليل، ولأنها -بناءً على أنها غيرُ بسيطةٍ- مركبةٌ من (إنَّ) الإثباتية و (ما) النافية. . فإما أن تنفي الحكم عمَّا بعدها وتثبته لغيره، وهو باطلٌ إجماعًا، وإما عكسه، وهو المطلوب. ¬

_ = رضي اللَّه عنه، ولكن من الوقت بسبب الفتن التي اتفقت في زمانه من قتال أهل اليمامة وقتل مسيلمة، وفي زمن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه اتسعت الفتوح، وكثرت الأموال والخيرات. (¬1) انظر الباب الرابع منه (ص 87 - 104). (¬2) الأَولى: كنيته أبو لؤلؤة، واسمه فيروز، وقيل: هو مجوسي، عليه وعلى من أحبه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين. (¬3) لم يَرْوِه من الصحابة إلا عمر رضي اللَّه عنه، ولم يروه عنه إلا علقمة، ولم يروه عنه إلا محمد بن إبراهيم، ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد رحمهم اللَّه تعالى. (¬4) قوله: (ولإفادة الحصر) عطفٌ على قوله: (لتقوية) أي: فهي لأمرين: التأكيد والحصر، بلا خلافٍ في الأول، وعلى الأصح في الثاني، وهل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم؟ قال البرماوي في "شرح ألفيته": (الصحيح: أنه بالمنطوق) اهـ، وممَّن صرح بأنه منطوقٌ: أبو الحسين بن القطان، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والغزالي، بل نقله البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي. اهـ "قسطلاني" (1/ 53)

فإن قلنا ببساطتها. . تعيَّن الأول، وورودها لغير الحصر نادرٌ، على أن الحصر إما حقيقيٌّ نحو: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ}، وإما إضافيٌّ نحو: {إِنَمَا اَللَّهُ إِلَهٌ وَحِدٌ}؛ لأن صفاته تعالى لا تنحصر في ذلك، وإنما قصد به الرد على منكري التوحيد، ومنه: "إنما الربا في النسيئة" (¬1)، بل فهم منه ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما الحصر الحقيقي، فقصر الربا عليه (¬2)، وقال الجمهور: إن كان إضافيًا. . فظاهرٌ، أو حقيقيًا. . فمفهومه منسوخٌ بأدلةٍ أخرى. وإنما حَسُن: (هل قام عمرو) بعد: (إنما قام زيد) ولم يكن تحصيلًا للحاصل (¬3)؛ لأنها قد يتجوز بها لغير الحصر، وتراخيها فيه عن: (ما قام إلا زيد) لأنه قدر مشترك بينهما، واختص الثاني بزيادة قوة فيه؛ لزيادة حروفه، نظير (سوف) و (السين) في التنفيس؛ ولأنه فيه لفظيٌّ للتصريح بـ (ما) و (إلا) جمعًا بين النفي والإثبات بالمطابقة، وفي (إنما) معنوي. وقولُ شارحٍ: الأنسب أنها ليست للحصر مطلقًا؛ لخبر: "ما من نبىٍّ من الأنبياء إلا وقد أُوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتُه وحيًا" (¬4)، ويلزم من كونها للحصر نفي المعجزة عن غير القراَن، وأنه يمتنع الاحتجاج بغيره؛ لنفي المعجزة عنه. . ليس في محله (¬5)؛ لما قررناه من أن الحصر يكون إضافيًا، وهو هنا كذلك، فحصر المعجزة في القرآن ليس لنفيها عن غيره، بل لتمييزه عن سائر المعجزات بأنه المعجزة الكبرى الدائمة المحفوظة من التغيير والتبديل، التي لم يُقهَر المعاندون بمثلها، فصارت المعجزات كلها كأنها في ضمنه فحصرت فيه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1596/ 102) عن سيدنا ابن عباس عن سيدنا أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهم. (¬2) أي: على ربا النسيئة. انظر "المحلى" للإمام ابن حزم رحمه اللَّه تعالى (8/ 483 - 484)، و"المغني" للإمام ابن قدامة المقدسي رحمه اللَّه تعالى (6/ 52)، و"موسوعة فقه ابن عباس" رضي اللَّه عنهما للدكتور محمد رواس قلعه جي (ص 338) وما بعدها. (¬3) جوابٌ عما يقال: لو كانت (إنما) لإفادة الحصر. . لما حسُن: (هل قام عمرو) بعد (إنما قام زيد) مثلًا؛ لأنه يكون من طلب تحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل محالٌ، فكذا طلبه، فأجاب بقوله: (لأنها قد يتجوز بها) يعني: إنما (لغير الحصر) أي: والسؤال بـ (هل قام عمرو) مبنى على هذا. اهـ هامش (غ) (¬4) أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) قوله: (ليس في محله) خبرٌ لقوله: (وقول شارح).

ونظيره: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: إنما الكاملون في الإيمان (¬1)، {إِنَّمَاَ أَنتَ مُنذِرٌ} أي: بالنسبة لمن لا يؤمن، "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ" (¬2) أي: بالنسبة لعدم الاطلاع على بواطن الأمور، {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: بالنسبة لمن آثرها. والمُحكَّم في ذلك القرائن والسياق، فحيث عيَّنَّا الحصر في شيءٍ مخصوصٍ. . فهو إضافيٌّ، وإلَّا. . فهو حقيقيٌّ. فإن قلت: حَذفُ (إنما) في روايةٍ صحيحةٍ يدلُّ على عدم اعتبار الحصر (¬3). قلت: ممنوع؛ لأن روايةَ ذكرِها فيها زيادة، وزيادةُ الثقةِ مقبولةٌ. (الأعمال) هي: حركات البدن، فتدخل فيها الأقوال، ويتجوز بها عن حركات النفس، وآثرها على الأفعال؛ لئلا تتناول أفعال القلوب، وهي لا تحتاج لنيةٍ كما يأتي، و (أل) فيها للعهد الذِّهني، أي: غير العادية؛ لعدم توقف صحتها على نية، أو للاستغراق، وهو ما حكي عن جمهور المتقدمين، ولا يرد عليه نحو الأكل من العاديات، ونحو قضاء الديون من الواجبات؛ لأن من أراد الثواب عليه. . احتاج إلى نيةٍ كما يأتي، لا مطلقًا؛ لحصول المقصود بوجود صورته. (بالنيات) بالتشديد من (نوى): قصد، فأصل (نية): نِوْيَة، ثم أُعلت كسيدة، وقيل بالتخفيف، من (ونى): أبطأ؛ لأنه يحتاج في تصحيحها إلى نوع إبطاء؛ أي: بسببها، أو مصاحبة لها، فعلى الأول هي جزءٌ من العبادة، وهو الأصح، وعلى الثاني هي شرطٌ (¬4)، وأُفردت في روايةٍ (¬5)؛ لأنها مصدر، وجُمعت في هذه؛ لاختلاف أنواعها. ¬

_ (¬1) قوله: (الكاملون في الإيمان) فحصر الإيمان في (الذين وجلت قلوبهم) ليس لنفي الإيمان عن غيرهم من المؤمنين، بل لتمييزهم عنهم بالصفة الكاملة اللائقة بمن صَدَقوا في إيمانهم باللَّه تعالى: وهي تلين قلوبهم بذكره استعظامًا له تعالى. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ) (¬2) أخرجه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص 354) بلفظه، وأخرج نحوه البخاري (7169)، ومسلم (1713) عن سيدتنا أم المؤمنين أم سلمة رضي اللَّه عنها. (¬3) أخرجها البخاري (54)، ومسلم (1907) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه؛ ولفظه: "الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى. . . ". (¬4) ولا ثمرة لهذا الخلاف، إذ لا بد منها على كل حالٍ، ومبنى الخلاف -كما في "شرح البهجة"- على أن النية هل هي فعل أو صفة. اهـ هامش (غ) (¬5) تقدم ذكرها قريبًا؛ وهي رواية: "الأعمال بالنية".

وهي لغة: القصد؛ أي: عزم القلب، وشرعًا: قصده المقترن بالفعل؛ أي: إلا في الصوم ونحو الزكاة؛ للعسر، فهو محلها، لكن يسنُّ مساعدة اللسان له. وقيل: محلها الدماغ، ورُدَّ بأن هذا لا مجال للرأي فيه، بل يتوقَّف على السمع، والأدلة السمعية دالة على الأول؛ منها خبر: "التقوى ههنا" وأشار بيده إلى صدره ثلاثًا (¬1)، وأيضًا: فالإخلاص اللازم لها محلُّه القلب اتفاقًا. ومتعلَّقُ هذا الظرفِ الصحةُ؛ إذ هي أكثر لزومًا للحقيقة، فالحمل عليها أَولى؛ لأن ما كان ألزم للشيء. . كان أقرب خطورًا بالبال عند إطلاق اللفظ، لا الكمالُ، فلا يصح عملٌ -كالوضوء، خلافًا لأبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه، ولا نسلم أن الماء مطهرٌ بطبعه، وكالتيمم، خلافًا للأوزاعي- إلا بنيةٍ، ما لم يقم دليلٌ على التخصيص. وممَّا يعيِّن تقدير الصحة وأن الحصر فيها عامٌّ إلا لدليلٍ. . خبرُ البيهقي: "لا عمل لمن لا نية له" (¬2)، وخبرُ غيره: اليس للمرء من عمله إلا ما نواه، لا عمل إلا بنية) (¬3)، والخبر الصحيح: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أُجِرْتَ عليها" (¬4)، وخبر ابن ماجه: "إنما يبعث الناس على نياتهم" ورواه مسلم بمعناه (¬5). وشُرِعت تمييزًا للعبادة من العادة؛ كالغسل يكون تنظيفا وعبادة، أو لرتب العبادة بعضها عن بعض؛ كالتيمم يكون للجنابة والحدث وصورتهما واحدة، وكالصلاة تكون فرضًا ونفلًا. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث سيأتي تخريجه (ص 550) وهو الحديث الخامس والثلاثون من أحاديث المتن. (¬2) سنن البيهقي الكبرى (1/ 41) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) انظر "تلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى (1/ 150)، فقد قال: (هذا الحديث بهذا اللفظ لم أجده. . .). (¬4) أخرجه البخاري (56)، ومسلم (1628) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. (¬5) انظر "صحيح مسلم" (2884) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها، و"سنن ابن ماجه" (4229) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

فلا تجب في عبادةٍ لا تكون عادةً ولا تلتبس بغيرها (¬1)؛ كالإيمان باللَّه سبحانه وتعالى، والمعرفة، والخوف، والرجاء، والنية، والقراءة، والأذكار، حتى خطبة الجمعة على الأوجه؛ لتميُّزها بصورتها مع لزوم التسلسل أو الدور لو توقفتِ النيةُ على نية، ولزوم التناقضِ المحالِ لو توقفتِ المعرفةُ عليها؛ إذ هي قصد المنوي، ولا يقصد إلا ما يعرف، فيلزم أن يكون الإنسان عارفًا باللَّه تعالى قبل معرفته له، فيكون عارفًا به غير عارفٍ به في حالةٍ واحدةٍ. نعم؛ تجب في قراءةٍ نَذَرها ومثلها كما هو ظاهرٌ كل ذِكْرٍ نذره؛ ليتميز الفرض حينئذٍ من غيره، ولا تجب في التروك؛ كترك الزنا إلا لحصول ثواب الترك (¬2)؛ لأن القصد اجتناب المنهي، وهو حاصلٌ بانتفاء وجوده وإن لم تكن نية. ولتردد إزالة النجاسة بين الفعل والترك اختلفوا في اشتراطها فيه، ورجَّح الأكثرون عدمه تغليبًا لمشابهة التروك؛ إذ هي أقرب إليها منها إلى الفعل، وألحقوا به غسلَ الميت؛ إذ القصد منه التنظيف، والخروجَ من الصلاة؛ لأنه تركٌ أيضًا، ولا تجب نيةُ تفرقةِ صومِ نحو التمتع (¬3). واستشكل بنية الجمع في جمع التقديم، ومن ثَمَّ اختار البُلقيني عدمَ وجوبها فيه أيضًا، ويرد: بأن الجمع ضم إحداهما إلى الأخرى، فهو فعلٌ حقيقة، بخلاف التفريق؛ فإنه تركٌ حقيقةً، أو أقرب إلى الترك، فاتضح ما قالوه، وبطل ما اختاره. وإنما لم تجب في جمع التأخير؛ لأن وقت الثانية يصلح للأولى من غير عذرٍ، بخلاف عكسه، وعند عدم الصلاحية لا بد من نيةٍ تُميزه عن التلاعب. ومطلق النية في كلامه صلى اللَّه عليه وسلم وكلام السلف والعارفين يُراد بها غالبًا ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: (أو لا تلتبس بغيرها) وقد قال الإمام المدابغي رحمه اللَّه تعالى: (ولعل "أو" بمعنى الواو؛ أي: فلا تجب النية في عبادة لا تكون عادة ولا تلتبس بغيرها. . .). (¬2) ومن ههنا يؤخذ حصول الثواب للحائض بترك الصلاة والصوم إن قصدت الامتثال بالشارع وكذا غيره، فاحفظه فإنه مهمٌّ. اهـ هامش (غ) وفي هامشها أيضًا: (فإن قلت: الصوم من التروك؛ لأنه كفٌّ عن تعاطي المفطر مع أنهم أجمعوا على وجوب النية فيه. . أُجيب بأن الصوم إمساكٌ، والإمساك يقع عادةً وعبادة، فاحتيج لنيةٍ تميز بينهما). (¬3) أي: فيما إذا فاته صيام ثلاثة أيام في الحج؛ فالأصح عند ذلك: وجوب التفريق بينها وبين السبعة، ولكن لا تجب النية. انظر "النجم الوهاج" للإمام الدميري رحمه اللَّه تعالى (3/ 571 - 572).

تمييز المقصود بالعمل، وهل هو اللَّه تعالى وحده، أو غيره، أو مع غيره؟ فهي حينئذٍ بمعنى الإرادة، وبها عبر عنها في القرآن كثيرًا، نحو: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}، {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}، والفرق بينهما إنما يأتي على المعنى السابق عند الفقهاء. ثم هذا الحديث قد تواتر النقل عن الأئمة بتعظيم موقعه، وكثرة فوائده، وأنه أصل عظيم من أصول الدين، ومن ثَمَّ خطب به صلى اللَّه عليه وسلم كما في رواية البخاري فقال: "يا أيها الناس؛ إنما الأعمال بالنيات" (¬1)، وخطب به عمر رضي اللَّه تعالى عنه على منبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كما أخرجه أيضًا (¬2). ولذلك قال أبو عبيد: (ليس في الأحاديث أجمع وأغنى وأكثر فائدةً منه، ومن ثَمَّ قال أبو داوود: إنه نصف العلم) (¬3). ووجهه: أنه أجلُّ أعمال القلب والطاعة المتعلقة بها (¬4)، وعليه مدارها، فهو قاعدة الدين، ومن ثَمَّ كان أصلًا في الإخلاص أيضًا، وأعمالُ القلب تقابل أعمال الجوارح، بل تلك أجلُّ وأفضل، بل هي الأصل، فكان نصفًا، بل أعظم النصفين كما تقرر. وقال كثيرون منهم الشافعي: (إنه ثلث العلم) (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6953)، والذي فيه بلفظ: "بالنية" عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح البخاري (1) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬3) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير" (1/ 32) ونقل فيه عن الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى قولَه: (أصول الإسلام تدور على ثلاثة أحاديث: "الأعمال بالنية"، و"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه. . فهو رد"، و"الحلال بين، والحرام بين". وقال أبو داوود: مدار السنة على أربعة أحاديث: "الأعمال بالنية"، وحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وحديث: "الحلال بين والحرام بين"، وحديث: "وإن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا". . .)، ونظمها العلامة طاهر بن معوذ رحمه اللَّه تعالى -كما في "الفتوحات الوهبية" (ص 53) - فقال: (من الخفيف) عمدة الدين عندنا كلماتٌ ... أربعٌ من كلام خير البريَّةْ اتق الشبهات، وازهد، ودع ما ... ليس يعنيك، واعملَنَّ بنيَّةْ (¬4) قوله: (ووجهه أنه) أي: الحديث باعتبار ما اشتمل عليه من النية، يعني أن النية أجلُّ أعمال القلب، و (أل) للجنس، فالضمير في قوله: (والطاعة المتعلقة بها) يعود إلى القلب باعتبار الجنس، ويدل على هذا ما وجد في نسخ "شرح الشيخ الشبرخيتي" (ص 52): (المتعلقة به) بالتذكير، فليتأمل. اهـ هامش (غ) (¬5) أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعي رحمهما اللَّه تعالى في "معرفة السنن والآثار" (589).

قال البيهقي: (لأن كسب العبد إما بقلبه، أو بلسانه، أو بجوارحه، فالنية أحدها وأرجحها؛ لأنهما تابعان لها صحةً وفسادًا، وثوابًا وحرمانًا، ولا يتطرق إليها رياءٌ ونحوه بخلافهما، ومن ثَمَّ ورد: "نية المؤمن خيرٌ من عمله") (¬1) وهو ضعيفٌ لا موضوع، خلافًا لمن زعمه (¬2). ويدل لخيريَّتها خبرُ أبي يعلى: "يقول اللَّه تعالى للحفظة يوم القيامة: اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربنا؛ لم نحفظ ذلك عنه، ولا هو في صحفنا" (¬3). وقال الإمام الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه أيضًا: (إنه يدخل في سبعين بابًا)، ولم يُرِدْ به المبالغة، خلافًا لمن وهم فيه (¬4)؛ لأن من تدبَّر مسائل النية في متفرقات الأبواب. . وجدها تزيد على ذلك؛ إذ تدخل في ربع العبادات بكماله، وكنايات العقود، والحلول، والإقرار، والأيمان، والظهار، والقذف، والأمان، والردة، وفي الهدايا، والضحايا، والنذور، والكفارات، والجهاد، وسائر القُرَب؛ كنشر العلم، وكل ما يتعاطاه الحُكَّام، بل وسائر المباحات إذا قصد بها التقوي على ¬

_ (¬1) انظر كتاب "السنن الصغير" (1/ 12). (¬2) الحديث أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (148) عن سيدنا النواس بن سمعان رضي اللَّه عنه، والطبراني في " الكبير" (6/ 185)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 255) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. وفي هامش (ب): (في رواية: "نية المرء خيرٌ من عمله" وقد وقع السؤال عن معناه، وأجاب الفقيه ابن عبد السلام بجوابين [القواعد الكبرى (1/ 333 - 334)]: أحدهما: أنه وارد على سبب؛ وهو أنه صلى اللَّه عليه وسلم وعد بثوابٍ على حفر بئرٍ، فنوى عثمانُ رضي اللَّه تعالى عنه حفْرَه، فسبق كافرٌ بحفرها، فقال: "نية المرء خير من عمله" يعني: [نية] عثمان خيرٌ من عمله؛ يعني الكافر. ثانيهما: أن النية المجردة من المؤمن خيرٌ من عمله المجرد عن النية؛ لأنه لا ثواب على العمل إلا بنيته، بخلاف النية. وفي الجواب الأول ضعفٌ؛ لأن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة، وعمل الكافر لا خير فيه ألبتة، إلا أن يقال: سماه خيرًا باعتباره في نفسه وإن لم يُثَبْ عليه؛ بدليل أنه لو أسلم. . أُثيب عليه من غير تضعيف؛ كما يدل عليه: "أسلمت على ما أسلفت من خير"). وحديث: "أسلمت على ما أسلقت من خيرٍ" أخرجه البخاري (1436)، ومسلم (123) عن سيدنا حكيم بن حزام رضي اللَّه عنه، وسيذكره الشارح (ص 214). (¬3) ذكره الإمام العيني رحمه اللَّه تعالى في "عمدة القاري" (1/ 35) بلفظه، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده"، ولم يخرجه أبو يعلى بلفظه فيما بين أيدينا، وإنما أخرج نحوًا منه في حديث طويل (3429) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬4) انظر قول الإمام الشافعي رحمه اللَّه، وتفصيل المسألة في "فتح الباري" (1/ 11).

الطاعة، أو التوصل إليها؛ كالوطء بقصد إقامة السُّنة، أو الإعفاف، أو تحصيل الولد، وفي تمييز العمد من قسيميه (¬1)، وفي منع القطع إذا أخذ نحو الدائن مال مدينه بقصد الاستيفاء، وقصد دين الرهن عند الأداء، واللقطة للتملك أو الحفظ، وفسخ من أسلم على أكثر من أربعٍ بقصد الطلاق اختيارًا للنكاح، ولا بقصده اختيارًا للفراق (¬2)، ووطء زوجته معتقدًا أنها أجنبيةٌ، وشربُ ماءٍ يظن أنه خمرٌ، وقتل قاتل مورثه يظن أنه معصوم، فيفسق؛ لقصده نحو الزنا، ولا يحدُّ؛ لمصادفته المحل المباح. لكن قال ابن عبد السلام: (يكون عذابه متوسطًا بين الكبيرة والصغيرة) (¬3) لأنه يترتَّب على المفاسد غالبًا، ولم يترتب هنا مفسدةٌ كبيرة، وفي عكسه لا يأثم ولا يحدُّ اعتبارًا بنيته. ولو خاطب امرأةً بـ (أنت طالق) أو قِنًا بـ (أنت حرٌّ). . طلقت وعتق وإن ظنهما أجنبيينِ؛ لمصادفته المحل الغير المتوقف على نية، فلم تؤثر فيه عند وجود الصريح نفيًا ولا إثباتًا. وتدخل في غير ذلك ممَّا لا يخفى عليك استحضاره بعد ما تقرر، فعلم أنه إنما أراد التحديد بالسبعين بالنسبة إلى جملة الأبواب، وأما بالنسبة إلى جزئيات المسائل. . فذلك لا ينحصر. (وإنما لكل امرئ ما) أي: جزاء الذي (نوى) دون ما لم ينوه، ودون ما نواه غيره له، فاستفيد من هذه الجملة -دون التي قبلها- وجوبُ التعيين في نية ما يلتبس دون غيره؛ كالطهارة، والزكاة، والكفارة، والنسك؛ للخبر الصحيح -خلافًا لمن ¬

_ (¬1) أي: شبه العمد والخطأ. (¬2) قوله: (بقصد الطلاق اختيارًا للنكلاح. . . إلخ) كمن أسلم على ثمانٍ مثلًا، فقال لأربع منهنَّ: فسختُ نكاحكنَّ، ونوى به الطلاق. . كان اختيارًا لنكاحهن، وكأنه قال: اخترت نكاحكن وطلقتكُنَّ، فينقطع نكاحهن بالفسخ المنوي به الطلاق، وتندفع به الباقيات بالشرع، وإن لم ينو به الطلاق. . كان اختيارًا لفراقهن ونكاح الباقيات؛ وكأنه قال: اخترت فراقكن ونكاحَ الباقيات؛ كما هو مبسوطٌ في محله من كتب الفقه. اهـ هامش (غ) (¬3) القواعد الكبرى (1/ 34).

طعن فيه- أنه صلى اللَّه عليه وسلم سمع رجلًا يلبِّي بالحج عن رجلٍ فقال له: "أحججت عن نفسك؟ " قال: لا، قال: "هذه عن نفسك، ثم حجَّ عن الرجل" (¬1)، ووجه فهم ذلك من هذه الجملة الثانية: أن أصل النية فيما يلتبس عُلِم من الجملة الأولى، ومنع الاستنابة في النية علم من الجملة الثانية. نعم؛ يستثنى منه نية الوكيل في تفرقة الزكاة إذا فُوضت إليه؛ لأنها حينئذٍ تابعة، ومن ثَمَّ لو استناب غيره في نية الزكاة وحدها. . لم يصح كما هو ظاهر، وإنما اعتبرت نية الولي عن الصبي للنسك، والحاج عن غيره، ومغسل نحو المجنونة؛ لعدم تأهُّل المنوي عنهم لها، فأُقيمت نيةُ الناوي عنهم مقام نيتهم. وأوقع بعض العلماء الطلاق والنذر بالنية المجردة عملًا بعموم الحديث، وأباه الأكثرون؛ لأنهما من وظائف اللسان لغةً وشرعًا، فلا تؤثر فيهما النية المجردة. وقيل: مفاد الأُولى أن صلاح العمل وفساده بحسب النية الموجدة له، ومفاد الثانية أن جزاء العامل بحسب نيته من خيرٍ أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يشدُّ عنهما شيء. قيل: ويؤخذ منهما بطلان حِيَل نحو الربا؛ لأنه المنوي دون البيع، ويردُّ: بأنا وإن سلمنا أنه المنوي وحده فلا تؤثر فيه؛ لأن نيته إنما هي عند المواطأة، وهي سابقة لعقد البيع، فلا تؤثر فيه؛ لأن نيته إنما تؤثر إن اقترنت بالفعل؛ إذ ذاك هو حقيقتها كما مر. على أن لنا أدلةً ظاهرةً على جواز الحيل (¬2)؛ منها: حديث خيبر المشهور؛ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داوود (1811)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 337)، والدراقطني في "سننه" (2/ 270) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما وقد سمعه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: لبيك عن شُبْرُمة قال: "من شبرمة؟ " قال: أخٌ لي. (¬2) والحيلة على أقسام: فإن توصل بها بطريقٍ مباحٍ إلى إبطال حقٍّ وإثبات باطل. . فهي حرام إلى حرام، أو إثبات حقٍّ أو دفعِ باطلٍ. . فواجبةٌ أو مستحبة، أو إلى ترك مندوب. . فهي مكروهة. ووقع اختلاف بين الأئمة في القسم الأول: هل يصح مطلقًا وينفذ ظاهرًا وباطنًا، أو يبطل مطلقًا، أو يصح مع الإثم؟ والأصل في ذلك الاختلاف اختلافهم: هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها. . . إلخ؟ والمشهور عند النُّظار: حمل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكًا في القول بسدِّ الذرائع واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ وصح القصد. . أُلغي اللفظ وأُعمل القصد تصحيحًا وإبطالًا، قال: والاستدلال بهذا الحديث على =

وهو: "بع الجَمْع -أي: الجيد (¬1) - بالدراهم، ثم اشترِ بها جنيبًا" (¬2) وهو الرديء (¬3)، وإنما أمرهم بذلك؛ لأنهم كانوا يبيعون الصاعين من هذا بالصاع من ذلك، فعلَّمهم صلى اللَّه عليه وسلم الحيلة المانعة من الربا. ومن ثَمَّ أخذ السبكي منه عدم كراهة هذه الحيلة، فضلًا عن حرمتها؛ لأن القصد هنا بالذات تحصيل أحد النوعين دون الزيادة، فإن قصدها. . كرهت الحيلة الموصلة إليها، ولم يحرم؛ لأنه توصُّل بغير طريقٍ محرمٍ، فعلم أن كل ما قصد التوصل إليه من حيث ذاتُهُ لا من حيث كونُهُ حرامًا. . جاز بلا كراهة، وإلَّا. . كره، إلا أن يحرم طريقه فيحرم؛ كتعدي اليهود في السبت، فإن القصد منعهم من الاستيلاء على الصيد فيه، ودخولُه في حفرهم التي هيؤوها له قبل يوم السبت استيلاءٌ منهم عليه فيه، فلم تفدهم الحيلة شيئًا. وقول ابن حزم: (كلُّ عقدٍ حيلةٌ إلى محرم) ليس في محلِّه؛ لأن الوطء المتوصل إليه بالنكاح ليس محرمًا، إنما المحرم الزنا، فالأعم إذا شَمَل صورةً مباحةً وصورةً محرمةً. . لا يوصف بالتحريم، ولا التوصلُ إليه بالطريق الشرعي تحيُّلٌ على التحريم (¬4). ثم لمّا كان في تينك الجملتين نوع إجمال. . ذكر صلى اللَّه عليه وسلم عقبهما مفرعًا عليهما تفصيل بعض ما تضمنتاه زيادةً للإيضاح، ونصًا على صورة السبب الباعث على هذا الحديث، وهي على ما روي -وإن قال بعض المحدثين: لم نر له ¬

_ = سد الذرائع وإبطال الحيل من أقوى الأدلة، ونص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في تفويت الحقوق، فقال بعض أصحابنا: هي كراهة تنزيه، وقال بعضٌ من محقيقيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم، فمن نوى بعقد البيع الربا. . وقع في الربا، ومن نوى بعقد النكاح التحلل. . كان محللًا ودخل في الوعيد على ذلك. اهـ هامش (غ) (¬1) قوله: (الجمع أي الجيد) صوابه: الرديء، أو سقط منه لفظ: (غير) أو هو كل نوع من التمر لا يعرف له اسم، وقيل: هو المختلط من أنواع شتى، وعادتهم ألا يخلط كذلك إلا الرديء. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه البخاري (2202)، ومسلم (1593/ 95) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أبي سعيد رضي اللَّه عنهما. (¬3) قوله: (جنيبًا وهو الرديء) صوابه: وهو الجيد، قال في "شرح المشكاة": وهو نوع جيد معروف، أو أجود التمر، وحينئذٍ تعلم ما في قوله: (يبيعون الصاعين من هذا. . . إلخ) وأنه لا يأتي إلا على ما علمت أنه خلاف الصواب، تأمل اهـ "مدابغي" (¬4) انظر تفصيل الإمام السبكي رحمه اللَّه تعالى في "الفتاوى" (1/ 328 - 329) في باب الحجر، مسألة التجارة في مال اليتيم.

سندًا صحيحًا-: أن رجلًا من مكة كان يهوى امرأةً تُسمى أم قيس (¬1)، فخطبها فامتنعت حتى تهاجر، فلما هاجرت إلى المدينة. . هاجر لأجلها (¬2)، فعرَّض به تنفيرًا عن مثل قصده فقال: (فمن كانت هجرته) وهي -أعني الهجرة- لغةً: الترك، وشرعًا: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، ووجوبها باقٍ. وخبر: "لا هجرة بعد الفتح" (¬3) المراد به: لا هجرة بعد فتح مكة منها؛ لأنها صارت دار الإسلام (¬4). وحقيقةً: مفارقة ما يكرهه اللَّه تعالى إلى غيره؛ للحديث الآتي: "والمهاجر من هجر ما نهى اللَّه عنه" (¬5). وكانت أول الإسلام إما من مكة إلى الحبشة، أو منها ومن غيرها إلى المدينة، والمراد بها هنا: الانتقال من الوطن إلى غيره، سواء مكة وغيرها، وصورة السبب لا تخصص، لكنها داخلةٌ قطعًا. (إلى اللَّه ورسوله) قصدًا ونيةً (فهجرته إلى اللَّه ورسوله) ثوابًا وأجرًا، فليس الشرط هنا عين الجزاء؛ لأنهما -وإن اتحدا لفظًا- اختلفا معنًى، وهو كافٍ في اشتراط تغاير الجزاء والشرط، والمبتدأ والخبر. ¬

_ (¬1) قال القسطلاني رحمه اللَّه تعالى (1/ 55): (لم يسمه أحدٌ ممن صنف في الصحابة فيما علمته). انتهى، قال مشايخنا: وما قيل: إن اسمه حاطب،. لم يثبت. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 103)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الفتح" (1/ 10): (وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور) ثم ذكر رواية الطبراني وقال: (وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث: "الأعمال. . . " سيق بسب ذلك، ولم أرَ في شيءٍ من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك). (¬3) أخرجه البخاري (2783)، ومسلم في الإمارة (1353) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) قال العلماء: المسلم بدار الحرب أو دار الإسلام التي استولى عليها الكفار إذا لم يمكنه إظهار دينه، أو خافت فتنةً فيه. . وجبت الهجرة إن أطاقها، وعصى بإقامته ولو أنثى لم تجد محرمًا مع أمنها على نفسها، أو كان خوف الطريق أقل من خواف الإقامة، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح" أي: من مكة؛ لكونها دار الإسلام إلى يوم القيامة، فإن أمكنه إظهار دينه لشرفه أو شرف قومه وأمن فتنةً في دِينه، ولم يرج ظهور الإسلام بإقامته. . استُحبَّ له الهجرة إلى دار الإسلام، لئلا يكثر سوادهم به، كما في "شرحي المنهاج" لابن حجر (9/ 269)، والرملي (8/ 82)، وكما في "شرح الروض" لشيخ الإسلام (4/ 204). (¬5) أخرجه البخاري (10)، وأبو داوود (2481)، والنسائي (8/ 105) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.

(ومن كانت هجرته لدنيا) بضم أوله -وحكي كسره- وبقصره من غير تنوين؛ إذ هو غير منصرف؛ للزوم ألف التأنيث فيه، وحكي تنوينه، من (الدنو) لسبقها الدار الآخرة، وهي: سائر المخلوقات الموجودة قبل الآخرة. وقيل: الأرض مع الهواء والجو. و (اللام) للتعليل، أو بمعنى (إلى) كقوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) والأول أظهر، وستأتي حكمة التغاير بينهما. (يصيبها) شبَّه تحصيلها عند امتداد الأطماع إليها بإصابة الغرض بالسهم، بجامع سرعة الوصول وحصول المقصود. (أو امرأة ينكحها) (¬1) أي: يتزوجها كما في رواية (¬2). وذكر الدنيا (¬3): إما زيادة على السبب؛ تحذيرًا من قصدها، نظير: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" (¬4) بعد السؤال عن طهورية ماء البحر، وإما لأن أم قيس انضم لجمالها مالٌ فقصدهما مهاجرها، وإما لأن السبب قصده نكاحها وقصد غيره دنيا (¬5). ¬

_ (¬1) سئل بعض الفضلاء عن كلمة (أو) في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إلى دنيا يصيبها أو امرأة. . . " الحديث، مع أن عطف الخاص على العام من خواص (الواو) أو (حتى)؛ فأجاب بأن ذلك إذا أُريد بالعام ما يشمل الخاص، أما إذا أريد به ما عدا الخاص. . فيعطف بـ (أو)؛ ولعل الحكمة في الحديث: أنه صلى اللَّه عليه وسلم نبَّه بعطفها بـ (أو) على شدة ضرر النساء حتى كأنها نصفٌ وباقي الدنيا نصف، ولو عطف بالواو. . لعلم أن لهنَّ زيادة مضرة، لكن لا يحصل عند العطف بـ (أو) من التنبيه على أنهنَّ قسم مساوٍ لجميع ما عداهن، واللَّه تعالى أعلم. (قدقي رحمه اللَّه تعالى) اهـ هامش (غ) (¬2) عند البخاري (54)، ومسلم (1907) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. (¬3) حذفت الواو في النسخ كلها إلا (ط). (¬4) أخرجه ابن حبان (1243)، والحاكم (1/ 140)، وأبو داوود (83) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) المرأة داخلة في الدنيا، وحذر الشارع من الدنيا ثم حذر من المرأة؛ تنبيهًا على زيادة التحذير من باب ذكر الخاص بعد العام كما في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، قال بعض العارفين: ما أيس الشيطان من إنسانٍ قط إلا أتاه من قِبل النساء، وقال سفيان: قال إبليس: سهمي الذي إذا رميت به لم أخطئ. . النساء، ومن ثم جُعلن في القرآن عين الشهوات، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ}، وقال سيدنا علي رضي اللَّه عنه: (أيها الناس؛ لا تطيعوا للنساء أمرًا، ولا تَدَعوهن يُدبِّرن أمرَ عيش؛ فإنهنَّ إن تُركن وما يردن. . أفسدن المُلك وعصين المالك، وجدناهنَّ لا دين لهنَّ في خلواتهن، ولا وازع لهنَّ عند شهواتهنَّ، اللذة بهنَّ يسيرةٌ، والحَيْرة بهنَّ كثيرةٌ، فأما صوالحهنَّ. . ففاجرات، وأما طوالحهنَّ. . فعاهرات، وأما المعصومات. . فهنَّ المعدومات، فيهن ثلاث خصالٍ من خصال اليهود: يتظلمن وهن الظالمات، ويتمنعن وهن الراغبات، ويحلفن وهن الكاذبات، فاستعيذوا باللَّه من شرارهن، وكونوا على حذرٍ من خيارهن، والسلام) اهـ "مدابغي" باختصار

فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

(فهجرته إلى ما هاجر إليه) عبر بـ (إلى) هنا وبـ (اللام) ثَمَّ؛ ليفيد أن من كانت هجرته لأجل تحصيل ذلك. . كان هو نهاية هجرته، لا يحصل له غيره، وإنما اتحد الشرط والجزاء لفظًا ثَمَّ (¬1) -تبركًا بذكر اللَّه ورسوله، وتعظيمًا لهما بتكراره، ولكونه أبلغ في الهجرة إليهما؛ إذ من يسعى لخدمة ملكٍ تعظيمًا له أَجْزلُ عطاءً ممَّن يسعى لينال كسرةً من مأدبته- لا هنا (¬2)؛ إظهارًا لعدم الاحتفال بأمرهما، وتنبيهًا على أن العدول عن ذكرهما أبلغ في الزجر عن قصدهما، فكأنه قال: إلى ما هاجر إليه، وهو حقيرٌ مهينٌ لا يجدي. ولأن ذكرهما يستحلى عند العامة، فلو كرر. . ربما عَلِقَ بقلب بعضهم، فيهش له ويرضى به، ويظنه العيش الكامل، فضرب عنهما صفحًا؛ لإزالة هذا المحذور، وذَمُّ قاصد إحداهما (¬3) -وإن قصد مباحا- لأنه خرج لطلب فضيلة الهجرة ظاهرًا، وأبطن خلافه؛ فلذلك توجَّه عليه الذم، وأيضًا: أغراض الدنيا لا تنحصر (¬4)، فأتى بما يشملها، وهو ما هاجر إليه، بخلاف الهجرة إلى اللَّه ورسوله؛ فإنه لا تعدُّدَ فيها، فأُعيدا بلفظهما تنبيهًا على ذلك. فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال] العمل إما رياء محض (¬5)؛ بأن يراد به غرضٌ دنيويٌّ فقط ولو مباحًا، فهو حرامٌ لا ثواب فيه، وإما مشوب برياءٍ ولا ثواب فيه أيضًا، للخبر الصحيح: "من عمل عملًا أشرك فيه غيري. . فانا منه بريءٌ، هو للذي أشرك" (¬6) وحَمْلُ الغزاليِّ الإشراكَ ¬

_ (¬1) أي: في قوله: "فمن كانت هجرته إلى اللَّه ورسوله. . . ". (¬2) أي: في قوله: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها. . . ". (¬3) كلامٌ إضافيٌّ مبتدأ، خبره قوله: (لأنه خرج ... إلخ) اهـ "مدابغي" (¬4) قوله: (وأيضًا) عطف على قوله: (إظهارًا لعدم الاحتفال. . . إلخ) اهـ "مدابغي" (¬5) أي: العمل غير الخالص للَّه تعالى. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ) (¬6) أخرجه ابن ماجه (4202)، والإمام أحمد (2/ 435)، والطبراني في "الأوسط" (6525) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

فيه على المساواة محله في إشراك دنيوي لا رياء فيه (¬1)، على أن هذا لا يؤثر في منع الثواب مطلقًا؛ كما يدل عليه نص الشافعي والأصحاب: أن من حج بنية التجارة. . كان له ثوابٌ بقدر قصده الحج، كما بيَّنتُ ذلك مع هذه المسألة بما لم أُسبق إليه في "حاشيتي" على "إيضاح المصنف في المناسك" (¬2)، فعلم أن من قصد بجهاده إعلاء كلمة اللَّه تعالى ونيل نحو غنيمة. . نقص أجره، ولم يبطل؛ لخبر مسلم: "إن الغزاة إن غنموا. . تعجَّلوا ثلثي أجرهم، وإلَّا. . تمَّ لهم أجرهم" (¬3). وبه يتبيَّن حمل الأحاديث الكثيرة المصرِّحة بأن إرادة المجاهد الدنيا تُحبط أجره على ما إذا تمحَّض الجهاد للدنيا، ومن عقد عملًا للَّه ثم طرأ له خاطرُ رياءٍ؛ فإن دفعه. . لم يضر إجماعًا، وإن استرسل معه. . ففيه خلاف، والذي رجَّحه أحمد وجماعةٌ من السلف ثوابه بنيته الأولى، ومحله: في عمل يرتبط آخره بأوله كالصلاة والحج، دون نحو القراءة، ففيه لا أجر فيما بعد حدوث الرياء. ولو تمَّ عمله خالصًا فأُثني عليه ففرح. . لم يضر؛ لخبر مسلم: "تلك عاجل بشرى المسلم" (¬4). (رواه إماما المحدثين) ورعًا وزهدًا واجتهادًا في تخريج الصحيح وإيداعه -دون غيره- كتابيهما، حتى ائْتمَّ بهما في ذلك الأئمة الذين حذوا حذوهما. ¬

_ (¬1) انظر "إحياء علوم الدين" (4/ 384 - 385). قوله: (وحمل الغزالي. . . إلخ) حاصله: أن الشخص إذا أوقع عبادةً وشرك فيها بين دينيٍّ ودينونيٍّ. . فالذي رجَّحه ابن عبد السلام: أنه لا ثواب له مطلقًا عملًا بظاهر الخبر، واختار الغزالي اعتبار الباعث على العمل، قال: فإن كان الأغلب قصد الديني. . فله أجرٌ بقدره، أو الدنيوي أو تساويا. . فلا أجر له، وحمل الخبر على ما إذا غلب قصد الدنيوي أو تساويا، وظاهره: أن الحكم كذلك وإن وجد هناك رياء، مع أنه متى وُجِد في العبادة رياءٌ. . أحبط ثوابها وإن قلَّ الرياء، فإطلاقه ليس مسلَّمًا؛ ولهذا اعترض عليه الشارح، وحمل كلامه على ما إذا لم يكن المخالط الآخر رياءً؛ كما لو حج ناويًا مع حجه التجارة، أو المتوضئ ناويًا التبرُّدَ أو التنظُّفَ، ثم إن الشمس الرملي رحمه اللَّه اعتمد كلام الغزالي مع الحمل المذكور، والشارح رحمه اللَّه لم يعتمده، بل اعتمد أنه إذا لم يكن رياء. . يثاب بقدر قصد الديني وإن قلَّ؛ ولهذا استدرك عليه بقوله: "على أن هذا لا يؤثر. . . إلخ" اهـ "مدابغي" (¬2) انظر حاشية المؤلف المسماة: "منح الفتاح شرح حقائق الإيضاح" (ص 40 - 41). (¬3) صحيح مسلم (1906) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬4) صحيح مسلم (2642) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه.

(أبو عبد اللَّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة (¬1) بن بَرْدِزْبه) بموحدة مفتوحة، فمهملة ساكنة، فمهملة مكسورة، فزاي ساكنة، فموحدة مفتوحة، وهو بالعربية: الزراع (البخاري) الجُعفي، مولاهم (¬2)، كتب عن أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وخلائق يزيدون على ألف، وروى عنه مسلم خارج "صحيحه" وأبو زرعة، والترمذي، وابن خزيمة، قيل: والنسائي. ولد ثالث عشر شوال، سنة أربعٍ وتسعين ومئة، ومات ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ستٍّ وخمسين ومئتين، ودفن بخرْتَنْك؛ قرية على فرسخين من سَمَرْقَنْد. ومناقبه جمّةٌ أُفردت بالتآليف، وحُكي أنه عمي صبيًا، فرأى في نومه إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فتفل في عينيه، أو دعا له فأبصر، فمن ثَمَّ: لم يُقرأ كتابُه في كربٍ إلا فُرِّج. (وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري) نسبةً إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قبيلةٌ كبيرةٌ، وقُشير أيضًا بطنٌ من أسلم، منهم سلمة بن الأكوع رضي اللَّه تعالى عنه. (النيسابوري) ولد سنة أربع ومئتين، ومات في رجب سنة إحدى وستين ومئتين، وأخذ عن أحمد وحرملة وخلائق، وروى عنه الترمذي حديثًا واحدًا (¬3). ([رضي اللَّه عنهما] في "صحيحيهما") (¬4) المشهورينِ كنارٍ على علم، وهو -أعني الحديث المذكور- في سبع مواضع من "صحيح البخاري" (¬5). ¬

_ (¬1) سقط من بعض النسخ قوله: (ابن المغيرة) وأثبتت من النسخ الأخرى ومن مخطوطات "الأربعين"، ولقد نبَّه العلامة المدابغي على ذلك رحمه اللَّه تعالى. (¬2) أي: مولى البخاري وآبائه إسماعيل وإبراهيم والمغيرة؛ لأن بردزبه كان فارسيًا على دين قومه، وأسلم ولده المغيرة على يد اليمان بن أخنس الجعفي فنُسب إليه ولاءً على مذهب من يرى أن من أسلم على يد شخصٍ. . كان ولاؤه له. ذكره القسطلاني [في "إرشاد الساري" (1/ 31)]. و (مولاهم) فاعل (الجعفي) فالجعفي: نعت سببيٌّ للبخاري، قرره شيخنا. اهـ "مدابغ" (¬3) وهو حديث سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "أحصوا هلال شعبان لرمضان" انظر "سنن الترمذي" (687). (¬4) ما بين معكوفين ساقط من النسخ، ومثبت من نسخ المتن. (¬5) صحيح البخاري (1)، (54)، (2529)، (3898)، (5070)، (6689)، (6953)، وهو عند مسلم في موضع واحد (1907).

(اللذين هما أصح الكتب) بلا شكٍّ ولا مرية، كما أطبق عليه مَنْ بعدهما سيما المحدثون، حيث جعلوا الصحيح سبعة أقسام: ما اتفقا عليه، فما انفرد به البخاري، فمسلم، فما على شرطهما (¬1)، فما على شرط البخاري، فمسلم، فما صححه معتبرٌ وسَلِمَ عن المعارض. وقول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: (لا أعلم كتابًا بعد كتاب اللَّه تعالى أصح من "موطأ مالك" رضي اللَّه تعالى عنه) (¬2) إنما كان قبل ظهورهما، فلما ظهرا. . كانا بذلك أحق وأولى. وللأئمة اختلافٌ طويلٌ في الترجيح بينهما، فالجمهور على أن ما أسنده البخاري في "صحيحه" -دون التعاليق والتراجم (¬3)، وأقوال الصحابة والتابعين- أصح مما في "مسلم" لأنه كان أعلم منه بالفن اتفاقًا، مع كونه تلميذه وخِريجه، ومن ثَمَّ قال الدارقطني: (لولاه. . ما راح مسلمٌ ولا جاء) (¬4). وهذا وإن لم يلزم منه أرجحية المصنَّف، إلا أنها الأصل، وبعض المغاربة يعكس، ونقل عن ابن حزم، وعن أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم، وعلَّله بعضهم بأنه ليس فيه بعد الخطبة غير الحديث السرد، وهو غير مجدٍ؛ إذ لا ارتباط لذلك بالأصحِّيَّة التي الكلام فيها على أن قول أبي علي: (ما تحت أديم السماء كتابٌ أصح من "كتاب مسلم") (¬5) ليس صريحًا في أصحيته على "البخاري"؛ لصدقه ¬

_ (¬1) أقول: المراد بشرطهما: الرجالُ الذين اتفقا في الرواية عنهم، وشرط البخاري من انفرد بالرواية عنهم البخاري، وأما ما اشتهر من أن المراد بشرط البخاري ما هو معروفٌ عنه من اللُّقي والمعاصرة، وشرط مسلمٍ المعاصرة دون اللُّقي. . فلا تصح إرادته هنا؛ لأن شرطهما حينئذٍ متباينان، فيفوت قولهم في بعض الأحاديث: إنه على شرط الشيخين، وبعضها على شرط مسلم. اهـ هامش (غ) (¬2) أخرجه الخطيب في "الجامع" (1618)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 77). (¬3) التعاليق -جمع تعليق-: وهو حذف أول السند ولو إلى آخره مع صيغة الجزم. اهـ "مدابغي" والتراجم: ما يذكر بعد لفظ (باب) أو (كتاب) بأن يقال: باب كذا، أو كتاب كذا، كما قال البخاري: (باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي) وساق بعده قصة الثلاثة الذين أَوَوا إلى كهفٍ فانحطت صخرةٌ وسدَّتْ بابه، فدعا كلٌّ بخالص عمله، فخرَّج عنهم بإسنادها مثلًا. فحرر غفر اللَّه لنا ولأساتيذنا؛ فإنه مما تنبهت عليه بقول العالم الكبير قربان علي الخرشي. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ) (¬4) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 103). (¬5) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 102)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (14/ 274).

بالمساواة، ونظيره قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "ما أقلَّتِ الغبراء، ولا أظلَّتِ الخضراء أصدق لهجةً من أبي ذرٍّ" (¬1) فإنه ليس صريحًا في أنه أصدق العالم أجمع؛ لأن نفي أصدقية أحدٍ عليه لا يستلزم نفي مساواة غيره له في الصدق، وقيل: هما سواء. وأقول: البخاري أرجح من حيث انفراده بدقة الاستنباط، والغوص على المعاني الغريبة، ومسلم أرجح من حيث جمع الطرق واستيفاؤها بحسب الإمكان، والإشارة إلى ما بينها مما تعظم فوائده عند أهل فن الحديث، وأما من حيث الصحة. . فلا شك أن البخاري فيها أرجح؛ لأن شرطه -وهو أنه لا بد من تحقُّقِ اللقي- آكد وأحوط من شرط مسلم، وهو الاكتفاء بإمكانه، وإن أطال في خطبة "صحيحه" في الرد عليه في اشتراطه ذلك. ثم رأيت المصنف أشار للأول بقوله: ("كتاب البخاري" أكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة) (¬2)، والحافظَ أبا بكر الإسماعيلي صرَّح به فقال ما حاصله: إن مسلمًا رام ما رام البخاري؛ لكنه لم يضايق نفسه مضايقته، بل لم يبلغ أحدٌ مبلغه في التشديد، واستنباط المعاني، واستخراج لطائف فقه الحديث، وتراجم الأبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث. وغيرهما صرَّح بالثاني فقال: الإسناد الصحيح مداره على الاتصال وعدالة الراوي، و"كتاب البخاري" أعدل رواةً، وأشد اتصالًا. وبيانه: أن الذي انفرد بالإخراج لهم دون مسلم أربع مئة وخمسةٌ وثلاثون رجلًا، المُتكلَّم فيه بالضعف منهم نحو الثمانين، والذين انفرد مسلم بهم ستُّ مئة وعشرون، المُتكلَّم فيه منهم مئةٌ وستون على الضِّعف، ولا شك أن من سلم من التكلم فيه رأسًا أقوى ممَّن تُكُلِّم فيه وإن لم يُعَوَّل على ما تكلَّم به فيه، على أن المتكلَّم فيهم في البخاري لم يكثر من تخريج أحاديثهم، بخلاف مسلم، وأيضًا أكثرهم شيوخه الذين هو أعرف بهم من غيره؛ لكونه لقيهم وخَبَرهُم وخَبَرَ حديثهم، وأما المتكلَّم فيهم في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (7132)، والحاكم (3/ 342)، والترمذي (3802) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. (¬2) شرح صحيح مسلم (1/ 14).

مسلم. . فأكثرهم من المتقدمين الذين لم يَخبُرهم. وأيضًا فالبخاري غالبًا إنما يخرج للمتكلَّم فيهم في الاستشهاد ونحوه، بخلاف مسلم. وأما ما يتعلق بالاتصال. . فمسلمٌ كان مذهبه -بل نقل فيه الإجماع في أول "صحيحه"- أن الإسناد المعَنْعَن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعِن والمعنعَن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما (¬1)، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرةً واحدةً (¬2). ومن ثَمَّ قال النووي رحمه اللَّه تعالى: (وهذا المذهب يرجح "كتاب البخاري" وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في "صحيحه" بهذا المذهب؛ لكونه يجمع طرقًا كثيرةً يتعذَّر معها وجود هذا الحكم الذي جوَّزه) اهـ (¬3) وجمعه لتلك الطرق إنما هو غالبًا؛ ففيما لم يجمع فيه طرقًا جلالته قاضيةٌ بأنه إنما جرى على الأحوط من ثبوت الاتصال. واقتفى المصنف رحمه اللَّه تعالى أثر إمامه الشافعي في قوله: (بعد كتاب اللَّه تعالى) فقال: (المصنفة) ليحترز بذلك عنه أيضًا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر مقدمة "صحيح مسلم" (1/ 29) وما بعدها. (¬2) انظر "مقدمة فتح الباري" (ص 11 - 12). (¬3) شرح صحيح مسلم (1/ 14). (¬4) مرَّ قريبًا قول الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى في حق "موطأ الإمام مالك" رحمه اللَّه تعالى. وقوله: (فقال: "المصنفة") سقطت من بعض النسخ علمًا أنها من المتن، واللَّه أعلم.

الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان] عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ. . إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَي عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ؛ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه "قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ. . فَإنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتهَا، قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ" ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثَ مَلِيًّا (¬1)، ثُمَّ قَالَ: " يَا عُمَرُ؛ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬2). ¬

_ (¬1) وفي رواية (فلبثت)، ولقد بيَّن الشارح رحمه اللَّه تعالى تفضيل ذلك، انظر (ص 184). (¬2) صحيح مسلم (8).

(عن عمر) بن الخطاب (رضي اللَّه عنه [أيضًا] قال: بينما) (¬1) هي -كـ (بينا) الواقعة في روايةٍ أخرى- (بين) الظرفية التي لا تكون إلا بين اثنين فأكثر، زِيدَ عليها (ما) أو الألف؛ لتكفَّها عن جرِّها لمَا وليها، ومن ثَمَّ رُفع على الابتداء فيهما، لكن وجوبًا في (بينما)، وجوازًا في (بينا) بل الأحسن: جرُّ المصدر بعدها نظرًا إلى أن ألفها ملحقةٌ لإشباع الفتحة، وأنها مضافةٌ إليه، ورفعُه نظرًا إلى أنها زِيدت لمنع الإضافة، وينحصر ما يليها في المصدر والجملة؛ لأنها جوابٌ، فاشترط فيما يليها أن يُعطى معنى الفعل، وشذَّ من قال: إن ألفها للتأنيث. (نحن) ضمير للمتكلم المعظم نفسه، أو ومعه غيره. (عند) (¬2) ظرف مكانٍ غير متمكن (¬3)، ولا يدخل عليها حرف جرٍّ غير (من) (¬4) وتعم المملوك الحاضر والغائب، بخلاف (لدى) تختصُّ بالحاضر. (رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذات يوم) تأنيث (ذو) بمعنى صاحب؛ أي: بينما نحن عنده في ساعةٍ ذات مرة من يومٍ، فحذف ذلك لوضوح المراد منه، على حدِّ قوله: (تضوع المسك منها نسيمَ الصبا) (¬5) أي: تضوعًا مثل تضوُّعِ نسيم الصبا. (إذ) ظرف زمانٍ ماضٍ غير متمكن، يضاف للجملتين، وقد تفيد الشرط إذا وليتها (ما) وقد تبدل اشتمالًا من مفعول، نحو: {إِذِ اَنتَبَذَت} وتكون مفعولًا به كما قال الزمخشري وغيره (¬6)، وتعليلية، وللمفاجأة كما هنا؛ أي: كان طلوعه علينا بين أثناء أزمنة كوننا عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وخالف ذلك أبو حيان، فقال في ¬

_ (¬1) قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: (قوله: "أيضًا" أي: كما روى عنه الحديث السابق، وهذه اللفظة ساقطة من نسخ الشارح). وهي موجودة في متن "الأربعين". (¬2) قوله: (عند) هو خبر (نحن). وفي النسخ المطبوعة: (جلوس) وهي في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي (82) وقد حشى عليها المدابغي، وليست في نسخ المتن، ولا في "صحيح مسلم"، فتنبه. (¬3) قوله: (غير متمكن) صوابه: إسقاط (غير) لأن (عند) ظرف متمكن، أي: معرب، لأنه منصوب. انتهى "شوبري"، وقال (ع ش): أراد بغير المتمكن ما ليس متصرفًا وليس المراد أنه مبني. اهـ "مدابغي" (¬4) الظروفُ التي لا يدخل عليها من حروف الجر سوى (مِنْ) خمسةٌ؛ وهي: عند، ومع، وقبل، وبعد، ولدى. (¬5) هذه قطعة من بيتٍ لامرئ القيس، وفي النسخ كلها: (منها) والصواب: (منهما)، انظر "ديوانه" (ص 99) وهو بتمامه: (من الطويل) إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيمَ الصبا جاءت بريح من القُطْرِ (¬6) انظر "الكشاف" (3/ 10).

"بحره": (وهو ملازمٌ للظرفية، إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولًا به، ولا حرفًا للتعليل، أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، خلافًا لزاعمي ذلك، وزعمُ أبي عبيدة وابن قتيبة زيادتَها ليس بشيءٍ، على أنهما ضعيفانِ في علم النحو، وزعم أنها بمعنى: "قد" ليس بشيءٍ أيضًا) (¬1). و (إذا) وإن كانت للمفاجأة كـ (إذ) لكنها تفارقها في أنها لا تكون ظرفًا للماضي، ولا تدخل على الجملة الإسمية (¬2)، وفيها معنى الشرط غالبًا، وخرج به المؤقتة كـ (آتيك إذا طلع الفجر) والمعاقبة لـ (إذ) نحو: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ}، والمقدر ما يليها بالحال نحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: غاشيًا؛ فإنها حينئذ تتمحَّض للظرفية. وذكرُ (إذ) هنا مع رواية: (بينما) و (بينا) يردُّ على الحريري زعمه أن (بينا) لا يتلقى بها، ولا بـ (إذا) بخلاف (بينما) (¬3)، ويرد عليه أيضًا الحديث الصحيح: "بينا أنا نائمٌ إذ جيء بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي" (¬4). (طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى) بضم التحتية أوله، أبلغ من (نرى) بالنون (عليه أثر السفر) وفي رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي ذرٍّ رضي اللَّه عنهما: (أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لا يمسها دنس) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "البحر المحيط" (1/ 139) فالكلام منقولٌ منه بتصرف واختصار. (¬2) قوله: (ولا تدخل على الجملة الاسمية) انظره مع قول "المغني" (1/ 120، 127): (إذا) على وجهين: أحدهما: أن تكون للمفاجأة، فتختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج لجواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناه الحال لا الاستقبال؛ نحو: خرجت فإذا الأسد بالباب، ومنه: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}، {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}. . . ثم قال: والثاني من وجهَي (إذا): أن تكون لغير مفاجاة، فالغالب أن تكود ظرفًا للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية عكس الفجائية، وقد اجتمعتا في قوله تعالي: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} اهـ، ثم رأيت في بعض نسخ الشارح: (ولا تدخل إلا على الجملة الاسمية) فينبغي حمله على الفجائية، وحمل الأول على الجزاية، فليتأمل. اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "درة الغواص" للحريري (ص 76) وما بعدها. وقال ابن قتيبة أيضًا في "أدب الكاتب" (ص 327): (ويقولون: بينا نحن كذلك. . إذ جاء فلان، والأجود: جاء فلان، بطرح "إذ"). (¬4) أخرجه البخاري (6998)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 48)، والإمام أحمد (2/ 268) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) سنن النسائي (8/ 101).

ففيه ندب تنظيف الثياب، وتحسين الهيئة بإزالة ما يؤخذ للفطرة، وتطييب الرائحة عند الدخول للمسجد، وعلى نحو العلماء، وندب ذلك للعلماء والمتعلِّمين؛ لأنه معلِّمٌ؛ بدليل: "يعلمكم دينكم"، ومتعلِّمٌ بمقاله وحاله، ومن ثَمَّ استحبَّ عمر رضي اللَّه عنه البياض للقارئ، واستحبه بعض أئمتنا لدخول المسجد. أقول: ينبغي ندبه لكل اجتماعٍ ما عدا العيد إذا كان عنده أرفع منه؛ لأنه يوم زينةٍ وإظهارٍ للنعمة. (ولا يعرفه منا أحدٌ) (¬1) لا ينافي أنه كان يأتي النبي صلى اللَّه عليه وسلم في صورة دحية الكلبي رضي اللَّه تعالى عنه؛ لأن ذلك كان غالبًا لا دائمًا، وأيضًا زاد في العماية عليهم؛ إذ هيئته هيئة حضريٍّ ساكنٍ معهم بالمدينة، وهم عارفون بمن فيها، وسؤاله سؤال أعرابيٍّ جاهلٍ بالدين لا إلمامَ له بالمدينة، وإلَّا. . لما جهل ذلك، وهذا صريحٌ في أنهم رأوه (¬2)، وأما ما وقع عند أحمد عن غير عمر: (ونسمع رجْعَ النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولا نرى الذي يكلِّمه ولا نسمع كلامه) (¬3). . فيرده حديث عمر هذا الأصح منه. (حتى جلس إلى) قد يشكل التعبير بها هنا؛ لأنها لانتهاء الغاية، وهو إنما يكون في ممتدٍّ كالسفر، دون الجلوس؛ إذ لا امتداد فيه، فلتكن بمعنى (عند) أو (مع). (النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) صريحٌ في أنه جلس بين ¬

_ (¬1) قوله: (ولا يعرفه منا) أي: معشر الصحابة، وقدمه للاهتمام (أحد) وإنما لم يقل: (ولم يعرف) لئلا يوهم أنه صلى اللَّه عليه وسلم لا يعرفه وليس كذلك، فإن قيل: كيف عرف عمر أنه لم يعرفه منهم أحد؟ فالجواب: يحتمل أنه استند فيه إلى ظنه إلى صريح قول الحاضرين، قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر: ويعين الثاني أنه قد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث: فنظر القوم بعضهم إلى بعضٍ وقالوا: ما نعرف هذا. اهـ "مدابغي" (¬2) قوله: (وهذا صريحُ في أنهم رأوه) ذكر الغزالي وآخرون أن رؤية الملائكة ممكنةٌ إلا أنها كرامةٌ يُكْرم اللَّه بها من شاء من أوليائه، ووقع ذلك لجماعةٍ من الصحابة، ولما رأى ابنُ عباسٍ جبريلَ. . قال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "لن يراه خلقٌ إلا عمي إلا أن يكون نبيًا ولكن يكون ذلك آخر عمرك" رواه الحاكم، وكذا رأته عائشة وزيد بن أرقم وخلق لما جاء فسأل عن الإيمان ولم يعموا؛ لأن الظاهر أن المراد: من رآه منفردًا به كرامة له، كذا في "فتاوى الشارح الحديثية" اهـ "مدابغي" (¬3) مسند الإمام أحمد (4/ 129) عن سيدنا أبي عامر الأشعري.

يديه دون جانبه، وهي جِلْسة المتعلِّم، لكنه بالغ في القُرْب حتى وضع كفَّيه على ما يأتي جريًا على ما بينهما قبلُ من مزيد الودِّ والأُنس حين يلقي عليه الوحي؛ تنبيهًا على أنه ينبغي للسائل قوة النفس، وعدم فعل ما يَمنع عنه كمالَ التلقي من نحو الالتهاء عمَّا هو بصدده (¬1)، وللمسؤول ألَّا يعاتبه حينئذ وإن لم يسلك الأدب ظاهرًا. (ووضع كفيه على فخذيه) أي: فخذي النبي صلى اللَّه عليه وسلم كما صرحتْ به روايةُ النسائي، وفيها: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه، فلا يعرفه الغريب، فبُنيتْ له مصطبة من طين (¬2)، فجاءه جبريل وهو عليها فقال: السلام عليكم يا محمد، فردَّ عليه السلام، فقال: أدنو يا محمد؟ قال: "ادنه" فما زال يقول: (أدنو) مرارًا، ويقول له: "ادن" حتى وضع يديه على ركبتي النبي صلى اللَّه عليه وسلم (¬3)، ففيه سنة الابتداء بالسلام، وتعميم الحاضرين به، ثم تخصيص رأس القوم. قلت: يحتمل أنه أراد بـ (عليكم) النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحده؛ بدليل: يا محمد، ففيه ندب السلام على الواحد بصيغة الجمع (¬4)، وبه صرح أصحابنا نظرًا لمن معه من الملائكة، واستئذان الكبير في القرب منه وإن جلس للناس (¬5)، وتكريره تعظيمًا له واحترامًا، وجوازُ تخصيص المعلم بمحلٍّ من المسجد مرتفع؛ لضرورة التعليم أو غيره. قلت: وجواز بناء مصطبةٍ في المسجد بهذا القصد، وهو متجهٌ إن لم يحصل بها تضييقٌ. ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: (وفعل ما يمنع عنه. . . إلخ) وقال العلامة المدابغي رحمه اللَّه: (هو على تقدير "لا" النافية؛ أي: وفعل ما لا يمنع عنه كمال التلقي. . . إلخ، على حد قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} فإنه على تقدير: لا يطيقونه، كذا قرَّره بعضهم، ولا يناسب البيان بقوله: "من نحو الالتهاء" فالمتعين حمله على أنه أراد بالفعل الترك من تسمية الشيء باسم ضده؛ أي: وترك ما يمنع عنه كمال التلقي. . . إلخ) والمثبت من باقي النسخ. (¬2) قوله: (مصطبة) أي: موضع مرتفع في المسجد النبوي. اهـ هامش (غ) (¬3) أخرجه النسائي (8/ 101) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنهما، واللفظ فيه: "فبنينا له دكانًا من طين"، وأيضًا ليس فيه لفظ: "عليكم" بالجمع، بل هو بالإفراد. (¬4) انظر الحاشية السابقة، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الفتح" (1/ 117): (والذي وقفت عليه من الروايات إنما فيه الإفراد). (¬5) قوله: (واستئذان الكبير) أي: ونُدِب استئذان الكبير، وفي بعض النسخ: (واستئذانه) أي: الواحد.

(وقال: يا محمد) قد يستشكل بحرمة ندائه صلى اللَّه عليه وسلم به؛ لقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} مع أن المقام مقام تعليم، ويجاب بأنا لا نسلم حرمة ذلك على الملائكة، فكان في ندائه بذلك -مع ما سيعلم به الصحابة رضي اللَّه عنهم من أنه جبريل- إعلامٌ لهم بأن الملائكة لا يدخلون في هذا الخطاب، على أنه يحتمل أن حرمة ذلك إنما عرضت بعد، فلا إشكال أصلًا. ثم رأيت بعضهم أجاب بأنه قصد مزيد التعمية عليهم، فناداه بما كان يناديه به أجلاف الأعراب. وفيه أيضًا: جواز نداء العالم والكبير باسمه ولو من المتعلم، ومحله: إن لم يعلم كراهته لذلك، ولا كان على سبيل الوضع من قدره؛ لمخالفته ما اعتيد من النداء لأولئك بالألقاب المعظمة. (أخبرني عن الإسلام) في رواية الترمذي تقديم الإيمان كما في رواية "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه (¬1)، قيل: وهي أَولى؛ لموافقتها القرآن في نحو: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآيةَ، {إِنَّمَا ألمؤْمُنون} الآيتينِ أول (الأنفال) ولعل الأُولى روايةٌ بالمعنى. اهـ (¬2) وفي رواية أبي هريرة: (ما الإسلام) هنا، و (ما الإيمان) فيما يأتي، وهي تدل على أنه إنما سأل عن شرح ماهيتهما، لا عن شرح لفظهما لغةً، وإلَّا. . لم يُجِب بما يأتي، ولا عن حكمهما؛ لأن (ما) في أصلها إنما يسأل بها عن الحقائق والماهيات. ولما كان الإيمان لغة معلومًا عندهما (¬3). . أعاد لفظه في الجواب ببيان متعلقاته، وقصره عليها توسعًا كما يأتي. ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2610)، وانظر "صحيح البخاري" (50)، و"صحيح مسلم" (9). (¬2) والحق كما قال ابن حجر وغيره: أن هذا التقديم والتأخير من الرواة؛ لأن القصة واحدة اختلفت الرواة في تأديتها. اهـ "مدابغي" (¬3) أي: السائل والمسؤول عليهما السلام.

ومن روى أن جبريل إنما سأل عن شرائع الإسلام لا عن الإسلام. . فقد وهِم؛ لأن هذا لم يصح عند أحدٍ من أئمة الحديث. (فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) مجيبًا له عن ماهية الإسلام وحقيقته، مبادرًا من غير استفسارٍ عن أن السؤال عن ذلك أو عن شروطه أو أركانه أو غيرهما من لواحقه، إشارةً إلى أن للمسؤول من مفتٍ وغيره أن يجيب على ما فهمه بالقرينة؛ إذ هي كالنَّصِّ، فجاز الاعتماد عليها سؤالًا وجوابًا، ومن ثَمَّ لو قيل لمفتٍ: أيجوز كذا؛ فأشار بما يشار به كـ (نعم). . جاز الاعتماد على أنه أفتى بالجواز (¬1). (الإسلام) هو لغة: الطاعة والانقياد، وشرعًا: الانقياد إلى الأعمال الظاهرة؛ كما بيَّن ذلك صلى اللَّه عليه وسلم بقوله: (أن تشهد أن) مخففة من الثقيلة (لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه) ظاهره -إن لم يحمل (تشهد) على (تعلم) بدليل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} -: أنه لا بد في الإسلام من لفظ: (أشهد) بأن يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه. فلو قال: (أعلم) بدل: (أشهد)، أو أسقطهما فقال: (لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه). . لم يكن مسلمًا، وتوافقه رواية: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا. . . " الحديث (¬2)، وهو ما اعتمده بعض المتأخرين منَّا، ويؤيده أن الشارع تعبَّد بلفظ: (أشهد) في أداء الشهادة، فلا يكفي (أعلم) ونحوها وإن رادفت (أشهد) أي: في إفادة مطلق العلم، لا مطلقًا، لأن الشهادة أخصُّ منه، فكل شهادةٍ علمٌ، ولا عكس، واستدل له بكلام "الروضة" في الكفارة (¬3). ¬

_ (¬1) قاعدة: إشارة الناطق لاغيةٌ إلا في الإفتاء؛ كأن يقال له: أيجوز فعل كذا وكذا؟ فيشير: أي نعم، وفي الإجازة؛ كان يقال له: أجزتني في "البخاري" مثلًا فيشير: أي نعم، وفي الأمان مع الكفار؛ كأن يقال له: أقررتنا بداركم على أن نلتزم لكم كذا جزية، فيشير ويريد: أي نعم، وأما إشارة الأخرس المفهمة. . فمعتدٌّ بها إلا في ثلاثة مواضع: في الحنث فيما لو حلف قبل خرسه: أنه لا يكلم زيدًا، ثم خرس وكلَّمه بها؛ فإنه لا يحنث، وفي الصلاة، فلو أشار فيها. . لم تبطل، فلهذا يصح بيعه وهو في الصلاة بالإشارة ولا تبطل صلاته، وفي الشهادة فلا تقبل شهادته بها مطلقًا. اهـ "مدابغي" (¬2) سيأتي تخربجه (ص 259) وهو الحديث الثامن من أحاديث المتن. (¬3) انظر "روضة الطالبين" (8/ 283).

لكن رواية: "حتى يقولوا. . . إلخ" (¬1) ظاهرةٌ في عدم اشتراط لفظ: (أشهد) وأن المراد به في أحاديثه: (يقول) ولم يعكس (¬2)؛ لأن حمل (أشهد) على (يقول) عليه قرينةٌ خارجيةٌ هي: أن هذه الكلمة تُسمى كلمة الشهادة وإن أسقط منها (أشهد)، وحمل (يقول) على (أشهد) لا قرينة عليه خارجيةٌ. وأيضًا فالاحتياطُ في المشهود به المبني على المشاحَّة غالبًا ثَمَّ. . اقتضى تضييقَ طرقه (¬3)، والاقتصارَ فيه على الوارد، والاحتياط للدخول في الإسلام والعصمة المتشوف إليهما الشارع. . اقتضى توسعةَ طرقه، فعملنا بالاحتياط المذكور في البابينِ (¬4)، وكلام "الروضة" في الإيمان يقتضي عدم الاشتراط (¬5). ويؤيده اكتفاؤهم في حق مَنْ لم يَدِنْ بشيءٍ بـ (آمنت) وكذا (أُومن -إن لم يرد به الوعد- باللَّه)، أو (أسلمت للَّه)، أو (اللَّه خالقي)، أو (ربي)، ثم يأتي بالشهادة الأخرى، فإذا اكتفوا بنحو: (اللَّه خالقي) مع أنه لا شيء فيه من الوارد نظرًا للمعنى دون اللفظ. . فأولى الاكتفاء بـ (لا إله إلا اللَّه) كما هو واضحٌ؛ لأنه وُجد فيه لفظُ الوارد نظرًا لرواية: "يقولوا" ومعناه. فعلم أنهم لم يتعبدوا هنا بلفظ الوارد، فيكفي بدل (إله): (بارئ) أو (رحمن) أو (رازق)، وبدل (اللَّه): (محيي) أو (مميت) إن لم يكن طبائعيًا (¬6)، أو أحدُ تلك الثلاثة (¬7) أو (من في السماء) دون (ساكن السماء) أو (من آمن به المسلمون). ¬

(¬1) أخرجها البخاري (392) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬2) أي: بأن يحمل لفظ (يقول) على (يشهد). (¬3) قوله: (فالاحتياط) مبتدأ، خبره جملة (اقتضي تضييق). (¬4) قوله: (في البابين) أي: باب أداء الشهادة على غيره، وباب الإسلام. اهـ هامش (غ) (¬5) واعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة" (9/ 98). (¬6) وأصحاب الطبائع: القائلون بقدم العناصر الأربعة: الماء والتراب والنار والهواء. اهـ "الأنوار لأعمال الأبرار" من النكاح (2/ 103) (¬7) قوله: (أو أحدُ تلك الثلاثة) برفع (أحد) عطفًا على (محيي) يعني أنه يكفي أن يقول بدل (اللَّه): (محيى) أو (مميت) بالشرط المذكور، أو (بارئ) أو (رحمن) أو (رازق)، ولا تكرار في كلامه؛ لأنه فيما تقدم يقول أحدها بدل (إله)، وهنا يقول بدل (اللَّه) كما لا يخفى. اهـ "مدابغي"

وبدل (محمد): (أحمد) و (أبو القاسم)، وبدل (إلا): (غير) و (سوى) و (عدا)، وبدل (رسول): (نبي). ولبعض أئمتنا رأيٌ ثالثٌ؛ وهو اشتراط (أشهد) أو مرادفها كـ (أعلم)، وأنه يشترط ترتيبهما وإن لم تقتضه (الواو)، فلا يصح الإيمان بالنبي قبل الإيمان باللَّه. نعم؛ لا تشترط الموالاة بينهما، ولا العربية وإن أحسنها، وأنه لا بد من مجموعهما في الإسلام، فلا يكفي أحدهما (¬1)، خلافًا لما شذَّ به بعض أصحابنا أنه يكفي: (لا إله إلا اللَّه) وحدها، وأنه لا يشترط زيادة عليهما وهي البراءة من كل دينٍ يخالف دين الإسلام، ومحله: إن أنكر أصل رسالة نبينا محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم، فإن خصَّصها بالعرب. . اشترط زيادة إقراره بعمومها (¬2). ويزيد حتمًا مَنْ كفر بإنكار معلومٍ من الدين بالضرورة: اعترافَهُ بما كفر بإنكاره، أو التبري من كل ما يخالف الإسلام، والمشركُ: وكفرت بما كنت أشركتُ به، والمُشَبِّهُ: البراءة من التشبيه بما لم يعلم مجيء محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم بنفيه. (وتقيمَ الصلاة) معطوف على (تشهد) خلافًا لمن زعم رفع هذا وما بعده استئنافًا، وكأنه نظر إلى أنه يكفي في إجراء أحكام الإسلام الشهادتان وحدهما. وجوابه: أن الانقياد له أقلُّ وهو هذا، وأكملُ وهو ما ذكر في الحديث، فكان عطف ما بعد: (أن تشهد) عليه ليفيد هذا الأكمل. . أَولى؛ أي: يأتي بها محافظًا على أركانها وشروطها، أو على مكملاتها، أو يداوم عليها، فـ (تقيم) من التقويم والتعديل، أو من الإقامة؛ أي: الملازمة والاستمرار، أو التشمير والنهوض. ¬

_ (¬1) قال بعضهم: (من الرجز) شروط الاسلام بلا اشتباهِ ... عقل بلوغ عدم الإكراهِ والنطق بالشهادتين والوِلا ... والسادس الترتيب فاعلم واعملا (¬2) قال الشارح رحمه اللَّه تعالي في "المنهج القويم" (ص 161) في فصل الأذان: (فلا يصحان -أي: الأذان والإقامة- من كافرٍ؛ لعدم أهليته للصلاة، ويحكم بإسلامه؛ لنطقه بالشهادتين إلا إذا كان عيسويًا؛ لأنهم يعتقدون أن نبيا صلى اللَّه عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة). والعيسوية: فرقةٌ من اليهود تُنسب إلي أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني، كان في خلافة المنصور.

وحملُه على (تقوم إليها)، أو (تقيم لها)، من (الإقامة) أخت الأذان. . بعيدٌ لغةً ومعنًى. وهي لغةً: الدعاء، وقيل: الدعاء بخيرٍ، وشرعًا: أقوالٌ وأفعالٌ غالبًا مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، فدخلت صلاة الأخرس، ومن لم يلزمه إلا إجراؤها على قلبه؛ إذ لا تسقط ما دام العقل موجودًا. ووجوبُ تركها أو قطعها لنحو إنقاذ غريقٍ، أو تجهيز ميتٍ خِيفَ انفجاره. . عذرٌ في الإخراج عن الوقت إذا توقَّف ذلك عليه، لا في مطلق الترك. وأصلها: فَعَلَة بفتحات، ولامها واو (¬1). واختار بعض المحققين: أنها مأخوذةٌ من الصَّلى: عرق متصل بالظَّهْر يفترق من عند عجب الذنَب، ويمتدُّ منه عرقان، في كل وَرِكٍ عِرقٌ، يقال لهما: الصلوان، فإذا ركع المصلي. . انحنى صَلاه وتحرك، ومنه سُمِّي ثاني خيل السباق مُصَلِّيًا؛ لأنه يأتي مع صَلَوي السابق. وعلم مما مر: أنها بمعنى الدعاء حقيقة لغوية، مجاز عرفي علاقته تشبيه الداعي في تخشعه ورغبته بالمصلي. (وتؤتي الزكاة) من الأنواع الواجبة فيها إجماعًا؛ وهي: الأنعام، والتمر، والعنب، والحبوب المقتاتة اختيارًا، والنقدان، وزكاة الفطر، وخلاف ابن اللبان من أصحابنا فيها لغوٌ؛ لأنه غير مجتهدٍ في غير علم الفرائض، أو على خلاف (¬2)، كزكاة التجارة وبقية الفواكه ونحوها بالنسبة لمن اعتقد وجوبها لاجتهاد أو تقليد. وهي لغةً: النماء والتطهير، وشرعًا: اسم للمُخْرَج من المال؛ لأنه إنما يؤخذ من نامٍ ببلوغه النصابَ، أو لأنه يُنَمِّي الأموالَ بالبركة، وحسناتِ مؤديها بالتكثير، أو لأنه يطهرها من الخبائث الحسية والمعنوية، ونفسَ المزكي من رذيلة البخل وغيره، أو لأنه يزكيه ويشهد بصحة إيمانه. وإنكار وجوبها في المُجمَعِ عليه كفرٌ؛ لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة. ¬

_ (¬1) أصلها: صَلَوَة بوزن فَعَلَة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقُلبت ألفًا، وفي الجمع تُرَدُّ الألف إلي أصلها، فتجمع على (صَلَوَات). (¬2) معطوف على قوله: (إجماعًا) السابق.

(وتصوم) من الصوم؛ وهو لغة: الإمساك، وشرعًا: إمساكٌ مخصوصٌ. (رمضان) صريح في عدم كراهة إطلاق ذلك مطلقًا، وهو الأصح، وقيل: يكره مطلقًا، وقيل: إن لم تدل قرينةٌ على أن المراد غير اللَّه تعالى؛ لأنه من أسمائه، ويرده الأخبار الصحيحة: "إذا جاء رمضان. . فتحت أبواب الجنة" (¬1)، وزعمُ أنه من أسمائه تعالى غيرُ صحيحٍ، كيف ولم يرد فيه إلا أثر ضعيف؟! وأسماء اللَّه تعالى توقيفيةٌ لا تطلق إلا بخبر صحيح، بل لو صح فيه الخبر. . لم تلزمه الكراهة؛ لتوقفها على النهي الصحيح. ذكره المصنف (¬2)، ونازعه بعض الشُّرَّاح من المالكية بما لا ينفع دليلًا؛ إذ حاصله: أن أئمتهم لا يقولون شيئًا إلا بدليل وإن لم يعلم. وسمي شهر الصوم به؛ لأنهم لما أرادوا وضع أسماء الشهور. . وافق اشتداد حرِّ الرمضاء فيه، وهو مبنيٌّ على أن اللغات غير توقيفية، والأصح: خلافه. (وتحج البيت) أي: تقصده بنسك حج وعمرة؛ إذ هي واجبةٌ أيضًا عندنا للخبر الصحيح: هل على النساء جهاد يا رسول اللَّه؟ قال: "نعم، جهادٌ لا قتال فيه؛ الحج والعمرة" (¬3)، فهو صريح في وجوبهما، وما عارضه محتملٌ فقُدِّم هذا عليه، ثم رأيت ابن حبان زاد في روايته: "وتعتمر وتغتسل من الجنابة، وأن تتم الوضوء" وقال: تفرد بهذا سليمان التيمي (¬4). (إن استطعت إليه سبيلًا) أي: طريقًا؛ بأن تجد زادًا وراحلةً بشروطهما المقررة في محلها، وصح عند الحاكم وغيره: أنه صلى اللَّه عليه وسلم فسر بهما السبيل في الآية (¬5)، لكن ضعفه آخرون، فلا يجب على عاجزٍ عن مؤنته أو مؤنةِ مَنْ تلزمه مؤنته، ولا على عاجزٍ عن الراحلة إن كان بينه وبين مكة مرحلتان وإن قدر على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1898)، ومسلم (1/ 1079) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر "شرح صحيح مسلم" (7/ 187 - 188). (¬3) أخرجه ابن ماجه (2901)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 350)، والدارقطني في "سننه" (2/ 284) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬4) صحيح ابن حبان (173) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬5) المستدرك (1/ 441 - 442) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

المشي؛ إذ لا يسمى مستطيعًا حينئذ؛ لكثرة المشقة عليه، لكن يندب للقادر؛ خروجًا من خلاف مَنْ أوجبه عليه. وإنما قيد بالاستطاعة في الحج مع أن ما مر مقيدٌ بها أيضًا؛ اتباعًا للنظم القرآني؛ فإنه لم يقيد بهذا اللفظ غيره، أو إشارةً إلى أن فيه من المشاقِّ ما ليس في غيره. أقول: وأيضًا فعدمها في نحو الصلاة والصوم لا يسقط فرضهما بالكلية، وإنما يسقط وجوب أدائه، بخلافها في الحج؛ فإن عدمها يسقط وجوبه بالكلية. (قال) أي: جبريل: (صدقت، قال) عمر: (فعجبنا له) أي: منه، أو لأجله (يسأله ويصدقه) إذ سؤاله يقتضي عدم علمه، وتصديقه يقتضي علمه، أو أن كلامه دالٌّ على خبرته بالمسؤول عنه، مع أنه لم يكن إذ ذاك مَنْ يعرف هذا غير رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فساغ التعجب منه، ثم زال بإعلامهم أنه جبريل؛ لأنه بان به أنه عالمٌ في صورة متعلمٍ ليعلمهم. فإن قلت: تفسير الإسلام هنا بالأعمال ينافي ما يأتي مبسوطًا أنه الاستسلام والانقياد. قلنا: لا شك أنه يطلق عليها شرعًا كما أنه يطلق على الاستسلام والانقياد لغةً وشرعًا، وما يأتي من أن بين الإسلام والإيمان تلازمًا أو ترادفًا. . إنما هو بناءً على معناه الثاني، وأما على معناه الأول -أعني أنه الأعمال الظاهرة-. . فالإيمان ينفك عنه؛ إذ قد يوجد التصديق مع الاستسلام الباطن بدون الأعمال، أما الإسلام بمعنى الأعمال المشروعة. . فلا يمكن أن ينفك عن الإيمان؛ لاشتراطه لصحتها، وهي لا تشترط لصحته، خلافًا للمعتزلة (¬1). (قال: فأخبرني عن الإيمان) هو لغةً: مطلق التصديق، من (آمن) بوزن أفعل، لا فاعل، وإلَّا. . لجاء مصدره فعالًا، وهمزته للتعدية، كأن المصدِّق جعل ¬

_ (¬1) قوله: (وهي لا تشترط لصحته خلافًا للمعتزلة) والحاصل: أن الإسلام بمعنى الأعمال الشرعية لا ينفرد عن الإيمان؛ لاشراط الإيمان لصحتها، بخلاف الإيمان فإنه ينفرد عنه بهذا المعنى، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلق، يجتمعان في مصدقٍ بقلبه آتٍ بالأعمال الشرعية، وينفرد الإيمان في مصدقٍ بقلبه غير آتٍ بالأعمال الشرعية، فكل مسلمٍ بهذا المعنى مؤمن ولا عكس. اهـ "مدابغي"

الغير آمنًا من تكذيبه، أو للصيرورة كأنه صار ذا أمنٍ من أن يكذبه غيره، ويضمن معنى (اعترفَ) و (أقرَّ) فيُعدَّى بالباء كما يأتي، و (أذعنَ) و (قَبِل) فيُعدَّى باللام؛ نحو: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}. وشرعًا: التصديق بالقلب فقط؛ أي: قبوله وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم كما سيأتي بسطه، ثم ما لوحظ إجمالًا كالملائكة والكتب والرسل. . كفى الإيمان به إجمالًا، وما لوحظ تفصيلًا كجبريل وموسى والإنجيل. . اشترط الإيمان به تفصيلًا؛ حتى إن من لم يصدق بمعينٍ من ذلك. . فهو كافر. وهذا الذي قررته هو معنى قول بعض الشراح: (يجب الإيمان بجميع الملائكة والكتب والرسل إيمانًا كليًا، فمَنْ ثبت بعينه وباسمه كجبريل. . وجب الإيمان به عينًا، ومَنْ لم يعرف اسمه. . آمنَّا به إجمالًا، وكذلك الكتب والأنبياء والرسل؛ مَنْ علم اسمه. . وجب الإيمان بعينه، ومَنْ لا. . آمنا به إجمالًا) اهـ ولا يكفي لوجوب الإيمان بشيءٍ معينٍ حتى يكون إنكاره كفرًا ثبوتُهُ، بل لا بد من تواتر وجوده حتى يقطع به (¬1). وحد الإيمان بما ذكرناه هو مختار جمهور الأشاعرة، وعليه الماتريدية (¬2)، وقيل: يشترط أن ينضم لذلك إقرار اللسان وعمل سائر الجوارح، فيكفر من أخلَّ بواحدٍ من هذه الثلاثة، وهو مذهب الخوارج، فلا صغيرة عندهم، وقيل: يعتبر ضمهما إليه على وجه التكميل لا الركنية، وهو مذهب المحدثين؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم فسَّره في حديث وفد عبد القيس، وحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" الآتيينِ بما فيهما (¬3). وما يروى: أن الإيمان إقرار باللسان، وعمل بالأركان، واعتقادٌ بالجَنَان إنما هو من كلام بعض السلف، وقيل: هو التلفُّظ بالشهادتين، ثم إن طابقه تصديق القلب. . ¬

_ (¬1) في هامش (غ): (كالإيمان بالنبي خالد بن سنان الذي بُعث بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ فإنه ثابتٌ لكن لا بالتواتر، فليس قطعيًا، فراجعه). فلا يكفر بإنكار الظنيات، وإنما يكفر بإنكار القطعي. (¬2) قوله: (وعليه الماتريدية) أي: أكثرهم، فلا ينافي قوله الآتي: (ونقُل عن أبي حنيفة واشتهر عن أصحابه) اهـ "مدابغي" (¬3) انظر ما سيأتي (ص 167 - 168).

فمنجٍ (¬1)، وإلَّا. . فمخلِّدٌ في النار، وهو مذهب الكرامية، وفي المعنى ليس لهم كبير خلاف، لأنا نوافقهم على ما بعد (ثُمَّ) (¬2). وقيل: تصديقٌ بالجَنَان، وإقرارٌ باللسان، ونُقِل عن أبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه، واشتهر عن أصحابه وبعض محققي الأشاعرة؛ لأن التصديق لمَّا اعتبر بكلٍّ منهما. . كان كلٌّ منهما جزءًا من مفهوم الإيمان، لكن تصديق القلب ركنٌ لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرسٍ أو إكراهٍ. واستدلَّ لركنيته عند القدرة بخبر: "حتى يقولوا" أو: "يشهدوا" السابق، ويُردُّ: بأنه لا يدل لخصوص ركنية القول التي النزاعُ فيها، بل كما يحتملها يحتمل ما قلناه: إنه شرطٌ لإجراء أحكام الإسلام، ويدل له أنه فيه رَتَّب على القول الكفَّ عن الدم والمال دون النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع. وأما ما وقع في "شرح مسلم" للمصنف من نقله اتفاق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن مَنْ آمن بقلبه، ولم ينطق بلسانه مع قدرته كان مخلدًا في النار (¬3). . فمعترضٌ بأنه لا إجماع على ذلك (¬4)، وبأن لكلٍّ من الأئمة الأربعة قولًا: إنه مؤمن عاصٍ بترك التلفظ، بل الذي عليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية -كما قاله المحقق الكمال ابن الهمام وغيره- أن الإقرار باللسان إنما هو شرطٌ لإجراء أحكام الدنيا فحسب (¬5). قيل: لو أُجريت عليه لنطقه بلسانه وهو كافر باطنًا؛ كنكاح مسلمة، وأخذِ ميراثِ ¬

_ (¬1) وفي بعض النسخ: (فهو آمن ناج)، وفي أخرى: (فهو مؤمن ناجٍ). (¬2) قوله: (لأنا نوافقهم على ما بعد "ثم") وهو أن التلفظ بالشهادتين إن طابقه التصديق القلبي. . فهو مُنجٍ، وإلا. . فهو مخلِّد في النار، وأما ما قبل "ثم". . فنخالفهم فيه؛ إذ التلفظ بالشهادتين عندنا إنما هو الإسلام لا الإيمان. اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 149). (¬4) قوله: (فمعترض. . . إلخ) يمكن حمل كلام النووي على ما إذا طلب منه ذلك وهو قادرٌ عليه فامتغ منه، فلا اعتراض. اهـ "مدابغي" (¬5) انظر "كتاب المسايرة" للإمام الكمال ابن الهمام مع شرحه "المسامرة" للكمال بن أبي شريف رحمهما اللَّه تعالى (2/ 302 - 303).

قريب مسلم، ثم زال كفره القلبي. . احتمل حلُّ الوطءِ والأخذِ؛ لقيام التلفظ به المقتضي لإجراء الأحكام عليه. والأظهر -أي: بل الصواب-: عدم حل الوطء إلا بعد تجديد النكاح، وعدم حل الأخذ من تركة قريبه المسلم؛ لأنا إنما لم نؤاخذه بما في باطنه أولًا؛ لعدم ظهوره لغيره، وأما بالنسبة له. . فهو كظاهره، ونظيره: الحكم بشاهدَيْ زورٍ في النكاح (¬1)؛ فإنه لا يحل لمن علم بالزور العمل بقضية ذلك الحكم على الصحيح عند أكثر العلماء، بل الصواب الموافق للكتاب والسنة (¬2). وعلى القول بتوقف الإيمان عليه: يكفي أن يُسمِع به نفسه، واتفق القائلون بأن الإقرار لا يعتبر على اشتراط ترك العناد بأن يعتقد أنه متى طُولب به. . أتى به، فإن طولب به فامتنع عنادًا. . كفر، كما لو سجد لصنمٍ، أو استخفَّ بنبيٍّ، أو بالكعبة، ونحو ذلك من المكفرات. واستشكل الحكم بكفره بأحد هذه المذكورات مع كونه مصدقًا بقلبه (¬3)؛ لما يلزم عليه أن تعريف الإيمان بالتصديق غير مانع لصدقه على هذا، مع انتفاء الإيمان عنه. وجوابه: يعلم من تقرير مهماتٍ يتعيَّن التفطُّن لها؛ وهي أنهم اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشاعرة، أو جزء مفهومه عند غيرهم، فقيل: هو من باب العلوم والمعارف. ورُدَّ: بأنا نقطع بكفر كثيرٍ من أهل الكتاب مع علمهم بحقيَّة رسالته صلى اللَّه عليه وسلم وما جاء به (¬4)؛ قال اللَّه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآيةَ، وبأن الإيمان مكلفٌ به، والتكليف إنما يتعلَّق ¬

_ (¬1) قوله: (ونظيره الحكم بشاهدي زور في النكاح) صورته: أن يدَّعي رجل أن هذه زوجته، وهي في الواقع ليست ويقيم شاهدي زورٍ على دعواه؛ فإنه لا يحل له وطؤها وغيره من ثمرات النكاح. اهـ "مدابغي" (¬2) قوله: (بل الصواب) أي: بل على الصواب. اهـ "مدابغي" (¬3) وحاصل الجواب الذي لهذا الإشكال: أن الاستسلام والمعرفة شرط التصديق، فإذا انتفى الشرط فيمن وجد فيه التصديق فهو كافر؛ مثلًا: إذا سجد لصنمٍ مَن فيه التصديق القلبي. . يكفر بالسجود؛ لعدم الاستسلام والانقياد للأوامر والنواهي باطنًا، واللَّه أعلم. اهـ هامش (غ) (¬4) في بعض النسخ (مع علمهم بحقيقة رسالته).

بالأفعال الاختيارية، والعلمُ بصدق مدعي النبوة عند وجود سببه وهو مشاهدة المعجزة. . حاصلٌ قهرًا عليه. وقيل: هو من باب الكلام النفسي، وعليه إمام الحرمين وغيره (¬1)، وظاهر كلام الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه كلامٌ للنفس، وأن المعرفة شرطٌ فيه؛ إذ المرادُ بكلام النفسِ: الاستسلامُ الباطن والانقياد لقبول الأوامر والنواهي، وبالمعرفةِ: إدراكُ مطابقة دعوى النبي صلى اللَّه عليه وسلم للواقع؛ أي: لتجليها للقلب وانكشافها له، وذلك الاستسلام إنما يحصل بعد حصول هذه المعرفة. ويحتمل أن كلًّا من هذينِ المذكورينِ ركنٌ (¬2)، فلا بد من المعرفة -إن جعلناها شرطًا أو ركنًا- ومن ضم الاستسلام لها؛ لما مرَّ من ثبوتها مع الكفر، وقهرًا على النفس، وتعلقُ التكليف بها مع ثبوتها قهرًا في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أريد به تحصيل أسبابها من القصد إلى النظر في آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدي إلى المقصود. وظاهر كلام "شرح المقاصد": أنه لا يكتفى بذلك العلم القهري، بل لا بد من تحصيله بَعْدُ بطريق الاستدلال، ورُدَّ: بأن حصول الاستسلام الباطني بعد حصول العلم القهري حصولٌ للمقصود مغنٍ عن استحصاله بتعاطي أسبابه، فالوجه: الاكتفاء بحصول القهري المنضم إليه الاستسلام، والتكليفُ بتعاطي الأسباب إنما هو لمن لم يحصل له ذلك العلم القهري. وأخذ بعضهم من أنه لا بد من ضمِّ الاستسلام إلى المعرفة أن مفهوم الإسلام لغةً -الذي هو هذا الاستسلام- جزءٌ من مفهوم الإيمان، وأطلق بعضهم اسم المرادف عليهما (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد" (ص 397). (¬2) قوله: (من هذين المذكورينِ) أي: الاستسلام والمعرفة. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (وأخذ بعضهم. . . إلخ) حاصله: أن الإيمان والإسلام في اللغة متباينان؛ إذ مدلول الإسلام لغةً: الخضوع والانقياد، ومدلول الإيمان لغةً: التصديق، ولا يلزم من تصديق شخصٍ مثلًا لآخر خضوعه والانقياد له وبالعكس، وفي الشرع: متلازما المفهوم، متحدا الماصدق. اهـ "مدابغي"

والأظهر -كما قال بعض المحققين-: أنهما متلازما المفهوم، فلا يعتبر شرعًا في الخارج إيمانٌ بلا إسلامٍ (¬1)، ولا عكسه، وأن التصديق قولٌ للنفس مغايرٌ للمعرفة وإن نشأ عنها؛ إذ هو لغة: نسبة الصِّدق بالقلب أو اللسان إلى القائل، وهو فعلٌ، وهي ليست فعلًا، بل من قبيل الكيف (¬2)، فكلٌّ منها ومن الاستسلام خارجٌ عن مفهوم التصديق لغةً وإن اعتُبِرا شرعًا في الإيمان. ثم اعتبارهما فيه شرعًا إما على أنهما جزآن لمفهومه شرعًا، أو شرطان لاعتباره لإجراء أحكامه شرعًا، والثاني هو الراجح؛ لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى معنًى آخر شرعي، والنقل خلاف الأصل، فلا يصار إليه بغير دليل، بل الدليل على خلافه؛ لأنه كثر في الكتاب والسنة طلبه من العرب، ولم يستفسر مَنْ أجاب إليه عن معناه اللغوي. ووقوعُ استفساره عن بعضهم إنما هو عن متعلقه؛ بدليل أن جبريل لما سأل عنه. . أجابه صلى اللَّه عليه وسلم بذكر المتعلق حيث (قال: أن تؤمن. . . إلى آخره) ففسَّره بمتعلقاته، ولم يفسر لفظه، بل أعاده بقوله: "أن تؤمن" لأنه كان معروفًا عندهم، لا نزاع في أنه لغةً: لمطلق التصديق، وشرعًا: تصديقٌ بأمورٍ خاصةٍ، وهي المعلومة من الدين بالضرورة كما مر. فهو تصديقٌ بها بالمعنى اللغوي، وانتفاؤه بانتفاء المعرفة، والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما؛ لمفهومه شرعًا؛ لجواز كونهما شرطين له شرعًا، فظهر أنه يمكن ثبوت التصديق لغةً بدونهما (¬3)، وأن هذا الثبوت يمكن مجامعة الكفر له (¬4)؛ إذ لا مانع عقلًا أن يصدق جبارٌ نبيا ويقتله لنحو حمقٍ أو غلبة هوًى، فقتله لا يدل على انتفاء ¬

_ (¬1) فقبول الأحكام الظاهرة إسلامٌ عند الناس مطلقًا، وعند اللَّه تعالى بشرط التصديق، والتصديق مع المعرفة إيمان، لكن إجراء أحكام الشرع موقوف على التلفظ بالشهادتين فلا دور، واللَّه أعلم. (قدقي) اهـ هامش (غ) (¬2) في بعض النسخ: (من قبيل الكف). (¬3) أي: المعرفة والاستسلام. (¬4) قوله: (وأن هذا الثبوت) أي: ثبوت التصديق المجرد عن المعرفة والاستسلام يمكن مجامعة الكفر له، فبهذا اندفع الاستشكال المذكور.

التصديق به من أصله كما ظنه بعض الأئمة، بل على أن ما عنده من التصديق غير منجٍ له شرعًا من الخلود في النار. فالحاصل: أن اللَّه سبحانه وتعالى رتب على التلبس بالإيمان لازمًا لا يتخلَّف عنه، هو سعادة الأبد، وعلى ضده شقاوته، وهي لازم الكفر شرعًا، وأنه اعتُبِرَ في ترتُّب لازم الإيمان وجودُ أمورٍ بعدمها يترتب لازم الكفر. فمنها: تعظيمه سبحانه وتعالى، وتعظيم نحو أنبيائه، وترك السجود لنحو صنم، والاستسلام باطنًا لقبول أوامره ونواهيه، الذي هو معنى الإسلام لغة. ومن ثَمَّ اتفق أهل الحق -وهم فريقا الأشاعرة والحنفية- على أنه لا عبرة بإيمانٍ بلا إسلامٍ وعكسه؛ إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر، فعُلم أنه باختلال واحدٍ من تلك الأمور ينتفي لازم الإيمان، لكن الحنفية أشد مبالغةً في رعاية ذلك التعظيم. ومن ثَمَّ كفَّروا بألفاظٍ وأفعالٍ كثيرة؛ نظرًا منهم إلى أنها تدلُّ على الاستخفاف بالدين؛ كتعمد صلاةٍ بلا وضوء، ودوام ترك سنةٍ استخفافًا بها واستقباحها؛ كإحفاء الشارب (¬1)، وتحنيك العمامة؛ أي: جعل طرفها تحت حلقه، وغير ذلك مما ذكرنه في كتابي الآتي (¬2). وإذا ظهر لك بيان حقيقة الإيمان وما يتعلق بها. . فلا بد لك من معرفة متعلقه الذي يجب الإيمان به، وهو -كما عرف من حده السابق-: ما جاء به محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقاديٍّ؛ وهو ما قصد منه اعتقاده، أو عمليٍّ؛ وهو ما قصد منه العمل. ومعنى التصديق به: اعتقاد أنه حقٌّ وصدقٌ كما أخبر به صلى اللَّه عليه وسلم، وتفاصيل هذينِ كثيرةٌ جدًّا؛ إذ هي حاصل ما في الكتب الكلامية ودواوين السنة، ¬

_ (¬1) قوله: (واستقباحها) بالنصب عطفًا على (استخفافًا)، وبالجر عطفًا على (تعمُّدِ) أي: وكاستقباح السُّنَّة، وفي نسخة: (واستتقباحًا) أي: لها، ثم رأيت في "المسايرة" و"شرحها": (واستقباحها بالجر عطفًا على المواظبة) اهـ، أي: التي أبدلها الشارح بالدوام. وقوله: (كإحفاء الشارب) مثال للسنة، قال شيخنا: يقال عليه: إن مذهبنا -معاشرَ الشافعية أيضًا- أن مَنِ استخفَّ بسنَّةٍ أو استقبحها من حيث كونها سُنَّة. . كفر، فلا خلاف بيننا وبين الحنفية في هذا، فليراجع. اهـ "مدابغي" (¬2) وهو كتابًا "الاعلام بما يقطع الإسلام".

فاكتُفِيَ بالإجمال، وهو أن يقرَّ بـ (لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه) إقرارًا مطابقًا لقلبه واستسلامه. وأما التفاصيل: فما لاحظه منها ببصيرته؛ بأن جذبه جاذبٌ إلى متعلقه. . وجب الإيمان به، فإن جحده. . فتارةً ينفي جحده الاستسلام، أو يوجب تكذيبه صلى اللَّه عليه وسلم، فيكون جحده كفرًا، وتارةً لا ينفي جحده الأول، ولا يوجب الثاني، فيكون جحده فسقًا، فالذي ينفي الاستسلام سائر الأقوال والأفعال المكفِّرة (¬1). وقد ألفتُ فيها كتابًا حافلًا لا يُستغنى عنه، سميته: "الإعلام بما يقطع الإسلام" وبينتُ فيه أكثر الأحكام على المذاهب الأربعة، فعليك بتحصيله إن أردت الاعتناء بأمر دينك. والذي يوجب التكذيب هو إنكار ما عُلم من دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم بالضرورة، بأن يعلمه بالبديهة حتى العامة الذين يخالطون المسلمين؛ كالوحدانية، والنبوة، والبعث، والجزاء، ووجوب نحو الصلاة، وحرمة نحو الخمر، ووطء الحائض، وحل نحو البيع، والنكاح، ونَدْبِ نحو الرواتب، وغير ذلك مما استوعبتُ أكثره في بعض الفتاوى. وجعل في "الروضة" حرمة نكاح المعتدة من غيره ممَّا لم يعلم بالضرورة (¬2)، وهو مشكلٌ جدًّا، وأي فرقٍ بينه وبين حرمة وطء الحائض؟! بل حرمة ذلك أظهر للعامة من حرمة هذا كما هو جليٌّ لمن سبر أحوالهم، وكأن العذرَ فيه جهلُ أكثرهم بتفاصيل العدة وما تنقضي به، وهو مفضٍ إلى جهل تحريم نكاحها في كثيرٍ من الصور (¬3). ¬

_ (¬1) يعني أنه لما اعتبر الشارع في الإيمان المعرفةَ والتصديقَ والاستسلامَ، واعتبر في ترتب لازمه عليه وجود تعظيم نحو أنبيائه، وترك أمارات التكذيب مثلًا. . كان ما في المذكورات مناقضًا للإيمان، فليتأهل. (قدقي) اهـ هامش (غ) (¬2) انظر "روضة الطالبين" (2/ 146). (¬3) عبارة الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة" (9/ 87 - 89): (أما ما لا يعرفه إلا الخواص؛ كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وكحرمة نكاح المعتدة للغير، وما لمنكره أو مثبته تأويلٌ غيرُ قطعيِّ البطلانِ كما مر في النكاح، أو بَعُدَ عن العلماء بحيث يخفى عليه ذلك. . فلا يكفر بجحده؛ لأنه ليس فيه تكذيب، ونوزع في نكاح المعتدة بشهرته، ويجاب بمنع ضروريته؛ إذ المراد بالضروري: ما يشترك في معرفته الخاص والعام، ونكاح المعتدة ليس كذلك إلا في بعض أقسامه، وذلك لا يؤثر).

وتحريمُ مُجمَعٍ على حِلِّه وعكسُه. . مكفرٌ أيضًا. فإن قلت: لا فائدة للتقييد بالعلم مع اشتراط المخالطة السابقة؛ لأنه متى علم فأنكر. . كفر وإن لم يخالط، ومتى لم يعلم. . لم يكفر وإن خالط. قلت: هو كذلك، لكن المخالط لا يُصدَّق ظاهرًا في دعوى الجهل، بخلاف غيره، وقد يكون الشيء متواترًا معلوما بالضرورة عند قومٍ دون غيرهم، فيكفر من تواتر عنده دون غيره. أما المجمع عليه غير المعلوم بالضرورة؛ كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب. . فلا كفر بإنكاره عندنا، وكفَّره الحنفية إن علم ثبوته قطعًا، أو ذكر له أهل العلم أنه قطعيٌّ فاستمر على جحده عنادًا (¬1). فمن تلك المتعلقات التي يجب الإيمان بها وعُلمت من الدِّين بالضرورة: الإيمان (باللَّه) أي: بأنه تعالى واحدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في الألوهية -وهي استحقاق العبادة- منفردٌ بخلق الذوات بصفاتها وأفعالها، وبقِدَم ذاته وصفاته الذاتية، قال الحنفية: وأفعاله ككونه خالقا ورازقًا (¬2)؛ فإن هذا الوصف ثابتٌ له في الأزل، والأشعرية يردون ذلك إلى صفات القدرة. وبأن ذاته لها صفات: حياةٌ منزهة عن الروح (¬3)، وعلمٌ بلا ارتسامٍ لصورةٍ في قلبٍ ولا دماغ، وإنما هو صفة تتميز بها الأشياء، وتتعلق بكل جزءٍ كان أو هو كائنٌ قبل وجوده بعلمٍ واحدٍ؛ إذ كلٌّ من صفاته لا تكثُّرَ فيه، وإنما التكثُّر في التعلُّقات ¬

_ (¬1) في بعض النسخ هنا زيادة هي: (عنادًا لوجود التكذيب حينئذٍ). (¬2) قوله: (قال الحنفية: وأفعاله. . . إلخ) أي: إن الحنفية يقولون: إن صفات الأفعال ككونه خالقًا رازقًا صفاتٌ حقيقيةٌ؛ كالعلم والقدرة أزليةٌ قائمةٌ بذاته تعالى، والأشاعرة يقولون: إنها من الإضافات والاعتبارات العقلية، والحاصل في الأزل هو مبدؤها، ولا دليل على كونها صفة أخرى سوى القدرة والإرادة. اهـ قال الجلال المحلي في "شرح جمع الجوامع" (2/ 460): (أما صفات الأفعال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. . فليست أزليةً خلافًا للحنفية، بل هي حادثةٌ متجددة؛ لأنها إضافات تعرض للقدرة وهي تعلقاتها بوجود المقدورات لأوقات وجدانها، ولا محذور في اتصاف الباري سبحانه بالإضافة ككونه قبل العالم وبعده) اهـ هامش (غ) (¬3) قوله: (حياةٌ) مع ما عُطف عليه بدلٌ من قوله: (صفات) بدل مفصل من مجمل.

والمتعلقات، لم يتجدَّد له علم بحسب تجدد المعلوم، وقدرة على الممكنات، وإرادة لجميع الكائنات لم تتجدد له إرادة بتجدد المرادات. وبأن الطاعات بإرادته ومحبته ورضاه وأمره، والمعاصي بإرادته دون محبته ورضاه وأمره، والكل بقضائه وقدره. وسمعٌ بلا صماخ لكل خفيٍّ، وبصرٌ بلا حدقةٍ -تعالى اللَّه عنهما- لكل موجود، وكلامٌ قائمٌ بذاته منزهٌ عما يعتري كلامنا النفسي من الخرس الباطني، وهو عدم الاقتدار على إرادة الكلام النفسي، ليس بصوتٍ ولا حرفٍ. وبأنه تعالى منزهٌ عن قيام حادثٍ به؛ كحركةٍ أو سكونٍ أو تحيزٍ، فصفاته ليست أعراضًا، ولا عين ذاته ولا غيرها، بناء على أن الغيرين ما ينفك أحدهما عن الآخر. وبأنه أحدث العالم باختياره من غير أن يحصل له به كمالٌ لم يكن قبله، ولم يتجدد له بإيجاده اسمٌ ولا صفةٌ، بل لم يزل بأسمائه وصفات ذاته، لا شبيه له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله. وبأنه منزهٌ عن الجهة والجسمية وصفاتهما ولوازمهما، وكل سمة نقصٍ، أو لا كمال فيها. وبأنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاء من خيرٍ وشرٍّ، ونفعٍ وضرٍّ، بل لا تقع لمحة ناظرٍ، ولا فلتة خاطرٍ إلا بإرادته تعالى. وبأنه الغَنِيُّ المطلق، فكل موجودٍ مفتقرٌ إليه تعالى في وجوده وبقائه، وسائر ما يمده به. ويجمع ذلك كله: أنه تعالى متصفٌ بكل كمال، منزَّهٌ عن كل وصفٍ لا كمال فيه، واجب الوجود لذاته، منفردٌ باستحقاق العبودية على العالم، إذ هو مالكهم حقيقة؛ لأنه الذي أوجدهم من العدم، وبالألوهية والقدم والبقاء وبالخلق والقدرة؛ لثبوت إسناد جميع الحوادث إليه تعالى، مع مشاهدة كمال الإحسان في خلقها وترتيبها. وبالإرادة؛ لأن تخصيص بعض الممكنات بالوقت الذي أوجده فيه دون ما قبله أو ما بعده ليس إلا لمعنًى هو الإرادةُ.

(وملائكته) (¬1) جمع مَلَكٍ على غير قياس، أو جمع مَلْأَك على مَفْعَل؛ إذ هو من الألوكة، وهي الرسالة، ثم خُفف بنقل الحركة والحذف، فصار ملكًا، وقيل فيه غير ذلك، وتاؤه لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة، غلبت في الأجسام النورانية المبرأة من الكدورات الجسمانية، القادرة على التشكل بالأشكال المختلفة؛ أي: بأنهم عبادٌ له -لا كما زعم المشركون: من تألُّهِهِمْ- مكرمون، لا كما زعم اليهود من تنقيصهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وبأنهم سفراء اللَّه تعالى بينه وبين خلقه، متصرفون فيهم كما أذن، صادقون فيما أخبروا به عنه، وأنهم بالغون من الكثرة ما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، "أطَّتِ السماء، وحُقَّ لها أن تئط؛ ما من موضع قدمٍ إلا وفيه ملَكٌ ساجدٌ أو راكع" (¬2). (وكتبه) أي: بأنها كلام اللَّه تعالى الأزلي القديم، القائم بذاته، المنزه عن الحرف والصوت، وبأنه تعالى أنزلها على بعض رسله بألفاظٍ حادثةٍ في ألواح، أو على لسان الملك، وبأن كل ما تضمنته حقٌّ وصدقٌ، وبأن بعض أحكامها نُسخ وبعضها لم ينسخ. قال الزمخشري وغيره: (وهي مئة كتاب وأربعة كتب، أُنزل منها خمسون على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرةٌ على آدم، وعشرةٌ على إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والفرقان) (¬3). (ورسله) أي: بأنه أرسلهم إلى الخلق؛ لهدايتهم وتكميل معاشهم ومعادهم، ¬

_ (¬1) قدَّم الملائكة على الرسل اتباعًا لترتيب الوجود؛ فإن الملائكة مقدمةٌ للخلق، أو لترتيب الواقع في تحقيق معنى الرسالة؛ فإنه يقال: أرسل المَلَك إلى الرسول، لا تفضيلًا للملائكة على الرسل كما زعم المعتزلة. اهـ هامش (أ) (¬2) أخرجه الحاكم (2/ 510)، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. وقوله: (أطَّتِ السماء) وهو بفتح الهمزة وتشديد الطاء، قال الطيبي: الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها؛ أي: إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطَّت؛ وهو مثل، وإيذانٌ بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثمة أطيط، وإنما هو كلام تقريبٍ أُريد به تقرير عظمة اللَّه تعالى وقدرته. اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "الكشاف" (4/ 742 - 743) فقد ذكره الإمام الزمخشري رحمه اللَّه عن سيدنا أبي ذر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا، وهو جزءٌ من حديثٍ طويلٍ عند ابن حيان (361).

وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، فبلَّغوا عنه رسالاته، وبيَّنوا للمكلفين ما أمروا ببيانه، وأنه يجب احترام جميعهم، ولا نفرق بين أحدٍ منهم كما في الإيمان به (¬1)، وأنه تعالى نزَّههم عن كل وصمةٍ ونقصٍ (¬2)، فهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها على المختار، بل هو الصواب، وما وقع في قصصٍ يذكرها المفسرون، وفي كتب قصص الأنبياء مما يخالف ذلك. . لا يعتمد عليه، ولا يلتفت إليه وإن جلَّ ناقلوه كالبغوي والواحدي، وما جاء في القرآن من إثبات العصيان لآدم، ومن معاتبة جماعة منهم على أمورٍ فعلوها. . فإنما هو من باب أن للسيد أن يخاطب عبده بما شاء، وأن يعاتبه على خلاف الأولى معاتبةَ غيره على المعصية. وقد قدمنا أنهم أفضل من سائر الملائكة بدليله، فإذا فضلوا المعصومين. . لزم كونهم معصومين بالأولى. (واليوم الآخر) وهو من الموت إلى آخر ما يقع يوم القيامة، وصف بذلك؛ لأنه لا ليلَ بعده، ولا يقال: يومٌ إلا لما يعقبه ليلٌ؛ أي: بوجوده، وما اشتمل عليه من سؤال الملكين، ونعيم القبر وعذابه، والجزاء، والبعث، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، وغير ذلك مما بيَّنه الأصوليون بأدلته والرد على المخالفين فيه. وفي رواية: "والبعث الآخر" (¬3)، ووصفُه بالآخر إما تأكيدٌ كأمس الدابر، أو احترازٌ عن غير الآخر؛ لأنه إحياءٌ بعد إماتةٍ، وقد كنَّا ميتين قبل نفخ الروح فأُحيينا بنفخها، ثم متنا، ثم أُحيينا لسؤال الملكين، ثم متنا، ثم أُحيينا للحشر، فهذا هو الآخر. (وتؤمن بالقدر خيره وشره) حلوه ومره، وفي رواية لمسلم: "وبالقدر كله" (¬4) ¬

_ (¬1) أي: لا نفرق بين أحدٍ منهم في الاحترام كما لا نفرق بين أحدٍ منهم في الإيمان. اهـ هامش (غ) (¬2) الوصم: الصدع والشق، ويستعمل بمعنى العجب، وهو هنا كذلك. (¬3) أخرجها البخاري (4777)، ومسلم (9) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) صحيح مسلم (10) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

أي: بأن ما قدره اللَّه في أزله لابد من وقوعه، وما لم يقدره يستحيل وقوعه، وبأنه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته؛ لقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} بنصب (كل) كما أجمع عليه السبعة، وحينئذٍ فقد نص على عموم الخلق؛ إذ تقديره: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، وبرفعها يزول هذا المعنى (¬1)؛ إذ تقديره حينئذ: إنا كلُّ شيءٍ مخلوقٌ لنا بقدر، فتأمله. {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، ولإجماع السلف والخلف على صحة قول القائل: ما شاء اللَّه. . كان، وما لم يشأ. . لم يكن، ولخبر: "كل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس" (¬2). والقضاء عند الأشعرية: إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، والقدر: إيجاده إياها على قدرٍ مخصوصٍ وتقديرٍ معينٍ في ذواتها وأفعالها؛ أو القضاء: علمه أزلًا بالأشياء على ما هي عليه، والقدر: إيجاده إياها على ما يطابق العلم. وأنه يرحم من يشاء من خلقه فضلًا، ويعذب من يشاء منهم عدلًا، كل نعمةٍ منه فضلٌ، وكل نقمةٍ منه عدلٌ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. وأنه أعلم بطبائع خلقه منهم: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} فما فعل فيهم. . فهو غير ملوم، ولا يطلعون على علمه (¬3)، ولا على عدله. وأن له تكليفهم بما شاء من الأفعال مع تقدير أسباب منعهم منها، وهو المسمى: ¬

_ (¬1) وقرأ به أبو السمال كما ذكر ابن عطية رحمه اللَّه تعالى في "المحرر الوجيز" (5/ 221). (¬2) أخرجه مسلم (2655)، وابن حبان (6149)، والإمام أحمد (2/ 110) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. وقوله: (حتى العَجْز والكيس) العجز: التقصير عما يجب فعله، والكَيْس -بفتح الكاف-: النشاط والحِذق وكمال العقل وشدة معرفة الأمور، وهما مجروران بـ (حتى) أو بعطفهما على (شيء)، أو مرفوعان عطفًا على (كل) أو على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: كائنان بقدر اللَّه. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (ولا يطلعون على علمه) عطف على قوله: (أعلم بطباع خلقه منهم) أو عطف على قوله: (فما فعل. . فهو غير ملوم). وفي بعض النسخ: (ولا مطعونٍ على عمله) بالجر عطفًا على (ملوم).

بتكليف ما لا يطاق (¬1)، ومن ثم قال بعض العلماء: يجب السكوت عن (كيف) في صفاته، وعن (لِمَ) في أفعاله. واعلم: أن الإيمان بالقدر على قسمين: أحدهما: الإيمان بأنه تعالى سبق في علمه ما يفعله العباد من خيرٍ وشرٍّ، وما يُجازَون عليه، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. ثانيهما: أنه تعالى خلق أفعال عباده كلَّها من خيرٍ وشرٍّ وكفرٍّ وإيمانٍ، وهذا القسم تنكره القدرية كلهم، والأول لا ينكره إلا غلاتهم، وكفَّرهم بإنكاره كثيرون، ومحل الخلاف حيث لم ينكروا العلم القديم، وإلَّا. . كفروا كما نصَّ عليه الشافعي وأحمد وغيرهما. (قال: صدقت) قيل: ويؤخذ من الحديث تكفير القدرية بإنكار القدر؛ لأنه جعل الإيمان به من جملة أركان الدين التي يكفر منكر واحدٍ كل منها، ويشهد له تبرئة ابن عمر منهم، وخبر: "القدرية مجوس هذه الأمة" (¬2)، والأشبه: عدم كفرهم؛ لتعارض شُبَهٍ عندهم، فلهم نوع عذر. اهـ والحاصل: أن أهل السنة: اختلفوا في تكفير المخالف في العقائد بعد الاتفاق على أن ما كان من ضروريات الدين يكفر مخالفه، كالقول بقدم العالم، ونفي حشر الأجساد، ونفي علمه تعالى بالجزئيات، وإثبات أنه تعالى موجبٌ بالذات لا بالاختيار، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، بخلاف ما ليس ¬

_ (¬1) قوله: (وهو المسمى بتكليف ما لا يطاق) هذه المسألة مبسوطة في "العقائد النسفية" و"شرحها" للسعد التفتازاني، و"جمع الجوامع" الأصولي و"شرحه" للجلال المحلي، وحاصلها: أن الصحيح جواز التكليف بالممتنع مطلقًا، سواء كان ممتنعًا لذاته كالجمع بين الضدين أم لغيره؛ كالمشي من الزَّمِن، والطيران من الإنسان، وإيمان مَنْ علم اللَّه أنه لا يؤمن، وأما وقوع التكليف بالممتنع. . فالجمهور على عدم وقوعه؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، لا في الممتنع؛ لتعلق علم اللَّه بعدم وقوعه؛ كإيمان الكافر، وطاعة العاصي، فإن التكليف به جائزٌ وواقعٌ اتفاقًا، قال السعد (ص 149): لكونه مقدور المكلف بالنظر إلى نفسه. وقال الجلال المحلي (1/ 273): لكونه في وسع المكلفين ظاهرًا. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه الحاكم (1/ 85)، وأبو داوود (4691)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 203) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

من ضرورياته؛ كنفي المعتزلة مبادئ الصفات من نحو العلم والقدرة، مع إثباتهم لها بقولهم: عالم قادر ونحوهما، وكقولهم: إن الشر غير مرادٍ له تعالى، وإن القرآن مخلوق، فقيل بكفرهم؛ لأن نفي مبادئ الصفات وعموم الإرادة جهلٌ باللَّه تعالى، ولخبر: (من قال: القرآن مخلوق. . فهو كافر) (¬1). والمختار الذي عليه جمهور المتكلمين والفقهاء: أنه لا يكفر أحدٌ من المخالفين في غير الضروري. والجهل به تعالى من بعض الوجوه غير مكفر، وليس أحدٌ من أهل القبلة يجهله تعالى إلا كذلك؛ فإنهم على اختلاف مذاهبهم اعترفوا بأنه تعالى قديمٌ أزليٌّ، عالمٌ قادر، موجدٌ لهذا العالَم، والخبر المذكور غير ثابت، أو المراد بالمخلوق فيه المختلَق؛ أي: المفترى، ومدعي ذلك كافرٌ إجماعًا. نعم؛ يُبدَّعون ويُفسَّقون؛ لوجوب إصابة الحق عينًا في مسائل الخلاف في أصول الدين. ووجه تشبيه القدرية بالمجوس: أن المعتزلة الذين هم القدرية أنكروا إيجاد الباري تعالى فعلَ العبد، فجعله بعضهم -كالجبائية- غيرَ قادر على عينه، وجعله بعضهم -كالبلخي وأتباعه- غيرَ قادرٍ على مثله، وجعلوا العبد قادرًا على فعله، فهو إثباتٌ للشريك كقول المجوس، فالإيمان والكفر عندهم من فعل العبد، لا من الرب سبحانه وتعالى. ويقوي القولَ بتكفيرهم بذلك -وإن كان المختارُ خلافَه- أنهم خرقوا ببدعتهم هذه إجماعَ متقدمي الأمة على الابتهال إليه تعالى أن يرزقهم الإيمان، ويجنبهم الكفر. هذا، واعلم: أن وجوب الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظيرٍ واستدلالٍ، بل يكفي اعتقاد جازمٌ بذلك، إذ المختار الذي عليه السلف، وأئمة الفتوى من الخلف، وعامة الفقهاء: صحةُ إيمان المقلد، ¬

_ (¬1) نُقل هذا الكلام عن غير واحد من السلف. انظر "خلق أفعال العباد" للإمام البخاري رحمه اللَّه (ص 29) وما بعدها، وانظر "سنن البيهقي الكبرى" (10/ 206 - 207).

ونقلُ المنعِ عن إمام السنة الشيخ أبي الحسن الأشعري. . كذبٌ، عليه؛ كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري. على أنه يقِلُّ أن يُرى مقلدٌ في الإيمان باللَّه تعالى؛ لأنا نجد كلام العوام محشوًا بالاستدلال بوجود هذا العالم على وجوده تعالى وصفاته من نحو العلم والإرادة والقدرة، وليس هذا تقليدًا؛ إذ هو أن يسمع مَنْ نشأ بقُلة جبلٍ الناسَ يقولون: للخلقِ ربٌّ خلقهم وخلَقَ كلَّ شيءٍ من غير شريكٍ له، ويستحقُّ العبادة عليهم، فيجزم بذلك؛ إجلالًا لهم عن الخطأ، وتحسينًا للظن بهم، فإذا تمَّ جزمه بأن لم يُجوِّز نقيضَ ما أخبروا به. . فقد حصل واجب الإيمان وإن فاته الاستدلال؛ لأنه غير مقصودٍ لذاته، بل للتوصل به للجزم وقد حصل. وقضية هذا التعليل: أنه لا يعصي بتركه الاستدلالَ؛ لما تقرر من حصول المقصود بالذات بدونه، لكن نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه بتركه. ووجهه: أن جزمه حينئذٍ لا ثقة به؛ إذ لو عرضت له شبهةٌ. . فات وبقي متردِّدًا، بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال لا يفوت بذلك. ومما يَرِد أيضًا على زاعم بطلان إيمان المقلد: أن الصحابة رضوان اللَّه عليهم فتحوا أكثر بلاد العجم، وقَبِلوا إيمان عوامِّهم كأجلاف العرب، وإن كان تحت السيف، أو تبعًا لكبيرٍ منهم أَسْلَمَ، ولم يأمروا أحدًا منهم أسلم بترديد نظرٍ، ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر، والعقل في نحو هذا يجزم بعدم وقوع الاستدلال منهم؛ لاستحالته حينئذ، فكان ما أطبقوا عليه ليلًا أيَّ دليلٍ على صحة إيمان المقلد. وخلاف الباقلاني والإسفراييني وأبي المعالي في أول قوليه تبعوا فيه ما ابتدعه المعتزلة، وأحدثوا القول به بعد انقضاء أئمة السلف، ومن المحال -قيل: والهذيان- أن يُشترط لصحة الإيمان ما لم يعرفوه وهُمْ مَنْ هُمْ فهمًا عن اللَّه عز وجل، وأخذًا عن رسوله، وتبليغًا لشريعته، واتباعًا لسنته وطريقته. وأما البراهين التي حررها المتكلمون، ورتبها الجدليون. . فإنما أحدثها

تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

المتأخرون، ولم يخض في شيءٍ منها السلفُ الصالحون، ومن ثَمَّ اختار الغزالي وغيره في العوام الذين لا أهلية فيهم لفهمها أنهم لا يخوضون فيها؛ أي: يحرم عليهم ذلك إن خافوا منه تمكُّنَ شبهةٍ منهم يعسر زوالها من قلوبهم. تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما] مر أن الأظهر أن الإيمان والإسلام متلازما المفهوم (¬1)، فلا ينفك أحدهما عن الآخر وإن اختلف المفهومان، أو مترادفان، فلا يوجد شرعًا إيمانٌ من غير إسلامٍ ولا عكسه كما مر عن أهل الحق، وأن الإسلام يطلق على الأعمال شرعًا، كما يطلق على الانقياد لغةً وشرعًا، وأن الإيمان يُطلق عليها شرعًا باعتبار أنه يتعلق بها. إذا تقرر ذلك. . فحيث ورد ما يدل على تغايرهما؛ كما في هذا الحديث وقولِهِ تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الآيةَ؛ فهو باعتبار أصل مفهومهما، فأصح التفسيرين ما قاله ابن عباس وغيره: أنهم لم يكونوا منافقين، بل كان إيمانهم ضعيفًا (¬2)، ويدل عليه: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخره الدالُّ على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم، وحينئذٍ يؤخذ من الآية أنه يجوز نفي الإيمان عن ناقصه. ومما يصرح به: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬3)، وفيه قولان لأهل السنة: أحدهما هذا، والثاني: لا ينفى عنه اسم الإيمان من أصله، ولا يطلق عليه مؤمن؛ لإيهامه كمال إيمانه، بل يقيد، فيقال: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان. وهذا بخلاف اسم الإسلام؛ لأنه لا ينتفي بانتفاء ركني من أركانه؛ بل ولا بانتفاء جميعها ما عدا الشهادتين؛ وكأن الفرق: أن نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرةً ظاهرة، بخلاف نفي الإيمان. ¬

_ (¬1) أي: بالنسبة لأحد مَعْنَيَي الإسلام الذي هو الاستسلام والانقياد كما مر، فلا تغفل. اهـ "مدابغي" (¬2) قال الإمام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في "تفسيره" (4/ 219): (فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، وهذا معنى قول ابن عباسِ رضي اللَّه عنهما، وإبراهيم النخعي وقتادة. . .). (¬3) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

وحيث ورد ما يدل على اتحادهما؛ كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيةَ. . فهو باعتبار تلازم المفهومين أو ترادفهما، ومن هنا قال كثيرون: إنهما على وِزان الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما. . دخل فيه الآخر، ودلَّ بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، وإن قرن بينهما. . تغايرا (¬1)؛ كما في خبر أحمد: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب" (¬2). وحيث فسَّرنا الإيمان بالأعمال. . فهو باعتبار إطلاقه على متعلقاته؛ لما مر أنه تصديقٌ بأمورٍ مخصوصة. ومنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} اتفقوا على أن المراد به هنا: الصلاة. ومنه: حديث وفد عبد القيس: "هل تدرون ما الإيمان؟ " قالوا: لا، قال: "شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمُسًا من المغنم" (¬3)، ففسَّر فيه الإيمان بما فسَّر به الإسلام في حديث جبريل الذي نحن فيه، فاستفيد منهما إطلاق الإيمان والإسلام على الأعمال شرعًا باعتبار أنها متعلق مفهوميهما المتلازمين، وهما التصديق والانقياد. فتأمل ذلك حق التأمل؛ ليندفع به عنك ما أطال به الشُّراح هنا مما لا طائل تحت أكثره، ومنه: دعوى الاضطراب في حديث وفد عبد القيس؛ ومعارضته لحديث جبريل، وبينوا ذلك بوجوهٍ لا حاجة إليها بعد ما قررناه. ثم رأيت بعضهم وافق ما ذكرته فقال: قد يتوسع فيطلق الإيمان على الإسلام كما في حديث وفد عبد القيس؛ لأنه يكون عنه غالبًا وهو مظهره، وقد صح: "الإيمان ¬

_ (¬1) الفقير والمسكين صنفان إذا قُرِن بينهما كما في الزكاة، وصنفٌ واحدٌ إذا أُفرد كلٌّ منهما كما في الكفارات. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 134) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه البخاري (7556)، ومسلم (17/ 24) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. قال القسطلاني: واستشكل قوله: (أمرهم بأربع) مع ذكر خمسة، قال أبو عبد اللَّه الأبي: وأتم جوابٍ في المسألة ما ذكره ابن الصلاح من أن قوله: (وأن تعطوا. . . إلخ) معطوف على (أربع) أي: أمرهم بأربعٍ وبإعطاء الخمس. انتهى، ومنه يظهر قول الشارح فيما نقله عن بعضهم، وهذا أَولى من دعوى اضطراب متنه من جهة أنه أمرهم بأربع ولم يأمرهم إلا بالإيمان وحده وفسره بخمس. انتهى، فالضمير في (وفسره) للإيمان كما عرف. اهـ "مدابغي"

بضع وسبعون شعبة، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلا اللَّه" (¬1)، وهذا أولى من دعوى اضطراب متنه من جهة أنه أمرهم بأربع ولم يأمرهم إلا بالإيمان وحده، وفسره بخمس. ويطلق الإسلام على مسمى الإسلام والإيمان؛ ومنه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وخبر أحمد: أي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان" (¬2)، وخبر ابن ماجه: ما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وتشهد أني رسول اللَّه، وتؤمن بالأقدار كلها، خيرها وشرها، حلوها ومرها" (¬3). وقد أُطلق الإيمان كذلك أيضًا كما روي: "الإيمان اعتقاد بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان" (¬4) وهذه الإطلاقات الثلاثة تجَوُّزٌ وتوسُّع، وبها ينزاح كثيرٌ من الإشكال الناشئ عن ذلك الاستعمال. ومنه -أعني: ما أطالوا به- أن الجواب بقوله: "أن تؤمن باللَّه. . . إلخ" فيه تعريف الشيء بنفسه، ثم ردوه بأن الإيمان لغة: مطلق التصديق، وشرعًا: تصديقٌ بأمورٍ مخصوصةٍ، فكأنه قال: الإيمان شرعًا: هو التصديق لغةً وزيادة، وهي: التصديق بتلك الأمور الخاصة. ومنه: أن مسماهما لغةً غيره شرعًا، ففيه إثبات الحقائق الشرعية (¬5)، وهو الراجح، على أن الخلاف هنا لا طائل تحته؛ لاتفاقهم على أنه يستفاد من الأسماء الشرعية زيادة على أصل الوضع، وأما كون تلك الزيادة هل صيرتها موضوعًا شرعًا أو لا وإنما هي صفات على وضعها اللغوي (¬6)، والشارع إنما تصرَّف في شروطها وأحكامها. . فالأمر فيه قريبٌ وإن كان الراجح الأول؛ لتصرُّف الشارع فيها بالتخصيص كالإسلام والإيمان؛ لأنهما يعمان لغةً: كل انقيادٍ وتصديقٍ، لكن الشارع ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (35/ 58)، وابن حبان (166)، والترمذي (2614) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) مسند الإمام أحمد (4/ 114) عن سيدنا عمرو بن عبسة رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن ابن ماجه (87) عن سيدنا عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه. (¬4) انظر "سنن ابن ماجه" (65) فهو بنحوه عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. (¬5) في بعض النسخ: (ففيه إعمال الحقائق الشرعية). (¬6) قوله: (صفات) هكذا في النسخ، ولعله: (باقية) تحرفت على الناسخ. اهـ "مدابغي"

قصرهما على انقيادٍ وتصديقٍ مخصوصٍ، فهو نظير جعلِ العربِ الدابةَ لغةً: لكل ما دبَّ على وجه الأرض، ثم خصَّصها عُرْفُهم بذوات الأربع. واعلم: أن مسائل الإيمان والإسلام والكفر والنفاق عظيمةٌ جدًّا، فيتعين على كل أحدٍ الاعتناءُ بتحقيقها؛ فإن اللَّه سبحانه وتعالى علَّق بها السعادة والشقاوة، والاختلافُ في مسمياتها أولُ اختلافٍ وقع في هذه الأمة بين الصحابة والخوارج المكفرين لعصاة الموحدين، ثم حدث خلاف المعتزلة وقولهم: إن مرتكب الكبيرة لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فيخلد في النار (¬1)، ثم خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق كامل الإيمان. وهنا مسائل تتعلق بالإيمان، وتمس الحاجة إلى معرفتها، وهي أربع: الأولى: في قبوله الزيادة والنقص، أنكرهما أبو حنيفة وأتباعه، واختاره من الأشاعرة إمام الحرمين وآخرون، قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وعليه أكثر المتكلمين) وأثبتهما جمهور الأشاعرة؛ قال المصنف: (وهو مذهب السلف والمحدثين) (¬2). قال الفخر الرازي وغيره: والخلاف مبنيٌّ على أن الطاعة إن أخذت في مفهومه. . قبلهما، وإلَّا. . فلا؛ لأنه اسمٌ للتصديق الجازم مع الإذعان، وهذا لا يتغير بضم طاعةٍ ولا معصيةٍ إليه. ورُدَّ: بأن القائلين بهما معترفون بأنه مجرد التصديق، وحمَلَهُم على ذلك ظواهرُ الكتاب والسنة؛ نحو: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا}، وغير ذلك مما ذكره ¬

_ (¬1) قوله: (ثم حدث خلاف المعتزلة. . . إلخ) فإن قيل: فما الفرق بين قول الخوارج وقول المعتزلة في هذه المسألة؛ حيث إن كلًّا من الفريقين يقول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار؟ قلنا: الفرق أن المعتزلة يقولون: هو مخلَّدٌ في النار لكن يعذب عذابًا دون عذاب الكفر، والخوارج حكموا بكفره وتعذيبه عذاب الكفار؛ لأنهم يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فتأمل. اهـ هامش (غ) (¬2) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 148). وحاصلها: أنه اختلف في الإيمان هل يزيد وينقص أم لا؟ على أقوال؛ فقيل: لا يزيد ولا ينقص، وقيل: يزيد وينقص بناءً على أن الأعمال داخلة فيه فيقبل ذلك بحسبها، وقيل: نفس التصديق يقبل الزيادة قوةً وضعفًا، وقيل: زيادة هي دوام حضوره بتوالي أشخاصه، والخلاف في إيمان غير الأنبياء والملائكة، أما هم. . فإيمانهم لا يقبل النقص. . . إلخ. اهـ "مدابغي"

البخاري وغيره، قالوا: ولا مانع عقلًا من قبول التصديق لهما؛ لأن اليقين الأخص من التصديق متفاوت القوة (¬1)، ألا ترى إلى ما بين أجلى البديهيات ككون الواحد نصف الاثنين، وأخفى النظريات القطعية ككون العالم حادثًا، وأيضًا فكل أحدٍ يقطع بأن تصديقنا ليس كتصديق أبي بكر، وبأن تصديقه ليس كتصديق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والمانعون لهما يقولون: نحن لا نمنعهما إلا بالنسبة لذات التصديق دون آثاره الخارجة عنه، وتفاوت اليقين السابق ليس تفاوتًا في شدةٍ وضعفٍ، بل في ظهور انكشافٍ أو تقدُّمٍ أو تأخرٍ، قالوا: وزيادته في الأدلة هي زيادة إشراقه في القلب وثمراته، كدوام حضوره بتوالي أشخاصه؛ إذ هو عَرَضٌ لا يبقى زمانينِ، وتواليهما لاستمرار شهود موجَبه مع شهود الجلال والكمال (¬2)، وهذا يختص كماله بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويشاركهم أكابر المؤمنين في نوعٍ منه، فثبت لهم أعداد من الإيمان لا تثبت لغيرهم. وقضية ذلك: أن استمرارَ حضور الجزم زيادةُ قوةٍ في ذاته وليس كذلك، فإن أراد الأولون هذا بقولهم (¬3) بزيادة قوته. . فلا خلاف في المعنى؛ لاتفاق الفريقينِ على ثبوت التفاوت في الإيمان بهذا الأمر المعين، وإنما الخلاف حينئذٍ في أن هذا المعيَّن؛ هل هو داخلٌ في ماهية التصديق أو خارجٌ عنها؟ ولا عبرة به؛ لأنه ليس خلافًا في نفس التفاوت؛ قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (قال محققو أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يقبلهما، والإيمان الشرعي يقبلهما بزيادة ثمراته، وهي الأعمال ونقصها، قالوا: وفي هذا توفيقٌ بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة واللغة، وهو وإن كان ظاهرًا حسنًا فالأظهر -واللَّه أعلم-: أن نفس التصديق يزيد ¬

_ (¬1) قوله: (لأن اليقين الأخص من التصديق) أي: فالتصديق من بابٍ أولى، وفي كلامه الجمع بين (أل) و (من) وهو ممنوع، وأُجيب بأن (أل) زائدة. اهـ "مدابغي" (¬2) قوله: (موجَبه) بفتح الجيم؛ أي: مقتضاه وهو المؤمن به، ورأيت بهامشٍ: (موجِبه) بكسر الجيم حضور القلب. . . إلخ، وهو غير ظاهر، بل الظاهر تفسير الموجب بالكسر الدليل، فتأمل. اهـ هامش (غ) (¬3) قوله: (فإن أراد الأولون هذا) أي: زيادة إشراقه في القلب وثمرته. . . إلخ. اهـ "مدابغي"

بكثرة النظر وتظاهر الأدلة (¬1)؛ إذ لا يمكن إنكار أن إيمان الصديقين أقوى من إيمان نحو المؤلفة، ومن ثَمَّ قال البخاري: عن ابن أبي مُليكة: أدركت ثلاثين صحابيًا كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحدٍ يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل) انتهى ملخصًا (¬2). وإن كانت زيادة إشراقه غير زيادة قوته. . فالخلاف ثابت، لا يقال: تقرر أن الإيمان لا يتحقق بدون القطع وعدم التردد، وقول سيدنا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} يقتضي عدم الاطمئنان قبل ذلك، فلا قطع؛ لأنا نقول: ليس المراد ظاهره، بل هو مؤولٌ بأمورٍ، أحسنها ما قاله العز بن عبد السلام: أنه قاطعٌ بالإحياء عن دليله، لكنه اشتاق إلى مشاهدة كيفية هذا الأمر العجيب، الذي هو جازمٌ بثبوته، فهو كمن علم ببستانٍ في غاية النُّضرة والخضرة، فنازعته نفسه في مشاهدته، فإنها لا تسكن ولا تطمئن إلا إن شاهدته، فطلب بذلك سكونَ قلبه عن المنازعة إلى رؤية تلك الكيفية المطلوب رؤيتها (¬3)، أو أنه طلب العلم البديهي بعد العلم الاستدلالي. الثانية: قال جمعٌ من الحنفية: الإيمان مخلوقٌ، وكلام أبي حنيفة صريحٌ فيه، وقال آخرون منهم: غير مخلوق، وهما متفقان على أن أفعال العباد كلَّها مخلوقةٌ للَّه سبحانه وتعالى، وبالغ جمعٌ منهم فكفَّروا مَنْ قال بخلقه؛ لما يلزم عليه من خلق كلامه سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فالمتكلم بها قاطعٌ بكلامه بما ليس بمخلوق، كما أن قارئآيةٍ يصير قارئًا لكلامه سبحانه وتعالى حقيقة. ورُدَّ: بأن هذا جهلٌ وغباوةٌ؛ إذ الإيمان وفاقًا: التصديق بالجَنان، أو مع الإقرار باللسان، وكل منهما فعل العبد، وهو مخلوقٌ للَّه سبحانه وتعالى، وأيضًا: فقد قال الفقهاء: لا يكون المقروء قرآنًا إلا بالقصد، وأيضًا يلزمهم أن كل ذاكرٍ، بل كل ¬

_ (¬1) هذا هو المعتمد؛ كما في "المدابغي". (¬2) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 148 - 149)، وكلام ابن أبي مُليكة في "صحيح البخاري" في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. (¬3) انظر "الفتاوى الموصلية" للعز بن عبد السلام رحمه اللَّه تعالى (ص 112 - 113).

متكلمٍ وافق كلامه أجزاءً من القرآن قد قام به ما ليس بمخلوقٍ من معاني كلامه تعالى، وذلك مما لا يقوله ذو لبٍّ، وأيضًا: المتلفظ بالشهادتين لم يقصد به قراءة، بل إقرار بالتصديق. والحاصل: أن الواجب اعتقاده أن كل ما قام بقارئ القرآن حادثٌ؛ لأنه إن قام به مجرد التلفظ والملفوظ (¬1)؛ لعدم فهمه لما يقرأه. . فظاهر؛ إذ التلفظ أمرٌ اعتباري، وهو حادثٌ؛ لأنه مسبوق بما يعتبر به، والملفوظ سبقه العدم، فيستحيل قدمه، وإن قام به مع ذلك الفهم والتدبر. . فهو إنما يحدث في نفسه صورة معاني نظم القرآن، وغايتها أن تدلَّ على المعنى القائم بذاته سبحانه وتعالى، وليست هو (¬2)؛ للقطع بحدوثها وبعدم انفكاكه عن الذات الواجب الوجود، ولتغايرهما؛ إذ هو مدلولٌ لفعل القارئ، صفةٌ للكلام النفسي، والقائم بنفس القارئ هو صفةٌ للعلم بتلك المعاني النظمية، لا للكلام؛ بدليل أن القائم بقارئ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ليس طلب إقامتها، بل العلم بأنه سبحانه وتعالى طلب ذلك. قيل: وهذا ينافيه قولهم: القراءة -وهي أصوات القارئ- حادثةٌ؛ لوجوبها تارةً وحرمتها أخرى (¬3)، والمقروء بالألسنة، المكتوب في المصاحف، المسموع بالأسماع، المحفوظ في الصدور. . قديمٌ؛ لاقتضاته قيام المعنى القديم بنفس الإنسان؛ لأن المحفوظ مودعٌ في قلبه. ورُدَّ: بأنهم لم يريدوا بهذا اللفظ ظاهره؛ لتصريحهم بما يدل على أنهم تساهلوا فيه إذ قالوا عقبه: ليس المقروء المذكور حالًّا في قلبٍ ولا لسانٍ ولا مصحفٍ، فأرادوا بالمقروء: المعلوم بالقراءة، والمكتوب: المفهوم من الخط، والمسموع: المفهوم من الألفاظ المسموعة، فالحالُّ في القلب هو نفس فهمه والعلم به، لا متعلقهما؛ إذ هو المعنى القديم القائم بذاته سبحانه وتعالى. وقد نقل بعض أهل السُّنة أنهم منعوا من إطلاق القول بحلول كلامه سبحانه وتعالى ¬

_ (¬1) في هامش (ب): (لعله: لا الملفوظ). (¬2) قوله: (وليست) أي: صورة معاني نظم القرآن (هو) أي: المعنى القائم بذاته تعالى، وفيه استعارة ضمير الرفع لضمير النصب؛ إذ كان القياس: وليست إياه. اهـ هامش (غ) (¬3) أي: لوجوب القراءة تارة كما في الصلاة، ولحرمتها أخرى كما في حال الجنابة.

في لسانٍ أو قلبٍ أو مصحفٍ ولو مع إرادة اللفظ؛ لئلا يسبق الوهم إلى إرادة النفسي القديم. ثم ما مر من القول بعدم خلق الإيمان لم ينفرد به الحنفية، بل نقله الأشعري عن أحمد وجماعةٍ من أهل الحديث ومال إليه، لكن وجَّهه بغير ما مر، وهو أن المراد بالإيمان حينئذٍ: ما دلَّ عليه وصفُه تعالى بالمؤمن، فإيمانه هو تصديقه في الأزل بكلامه القديم لإخباره بوحدانيته، وليس تصديقه هذا محدثًا ولا مخلوقًا، تعالى أن يقوم به حادث؛ بخلاف تصديقه لرسله بإظهار المعجزة، فإنه من صفات الأفعال، وهي حادثةٌ عند الأشاعرة، قديمةٌ عند الماتريدية. وبذلك علم أنه لا خلاف في الحقيقة؛ لأنه إن أُريد بالإيمان المكلف به. . فهو مخلوقٌ قطعًا، أو ما دل عليه وصفه سبحانه وتعالى بالمؤمن. . فهو غير مخلوقٍ قطعًا. الثالثة: منع جماعةٌ منهم أبو حنيفة وأصحابه: أنا مؤمنٌ إن شاء اللَّه، وإنما يقال: أنا مؤمن حقًّا، وأجازه آخرون (¬1). قال السبكي: (وهم أكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والشافعية والمالكية والحنابلة، ومن المتكلمين الأشعرية والكُلَّابية (¬2)، وهو قول سفيان الثوري) اهـ (¬3) ¬

_ (¬1) قال الشيخ الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 100): يجوز عند الأشاعرة أن يقال: أنا مؤمنٌ إن شاء اللَّه؛ نظرًا للمآل، وهو مجهول الحصول في المستقبل، ووافقهم الشافعي على ذلك، ولا يجوز ذلك عند الماتريدية؛ نظرًا للحال، ووافقهم إمامنا مالك والأمام أبو حنيفة وأحمد؛ لأن الإيمان يجب فيه الجزم، ولا جزم مع التعليق، وقال ابن عبدوس -من أتباع مالك- بوجوب التعليق؛ لما في تركه من الجزم الذي فيه تزكية النفس، وقد قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، وقد نظم ذلك بعض شيوخنا مع زياده فقال: [من الرجز] من قال إني مؤمنٌ يمنعُ مِنْ ... مقاله: إن شاء ربي يا فطِنْ وذا لمالكٍ وبعض تابعيهْ ... يوجب أن يقول هذا يا نبيهْ ومثل ما لمالكٍ للحنفي ... والشافعي جَوَّزَ هذا فاعرفِ وامنعه إجماعًا إذا أراد بهْ ... أَلشكَّ في إيمانه يا منتبهْ كعدمِ المنعِ إذا به يُرادْ ... تبركٌ بذكرِ خالقِ العبادْ فالخُلفُ حيثُ لم يردْ شكًا ولا ... تبرُّكًا فكُنْ بذا محتفلا (¬2) الكُلَّابية -بضم الكاف وبالموحدة-: نسبة إلى سعيد بن كُلاب، أحد مشايخ أهل السنة، أقدم من الشيخ أبي الحسن الأشعري. اهـ هامش (ب) (¬3) فتاوى السبكي (1/ 53).

وفي "شرح مسلم": (عن أكثر أصحابنا المتكلمين: لا يقول: أنا مؤمنٌ مقتصرًا عليه، بل يضم إليه: "إن شاء اللَّه تعالى"، وعن الأوزاعي وغيره: التخيير، وهو حسنٌ صحيحٌ؛ إذ مَنْ أطلق. . نَظَرَ إلى أنه جازمٌ في الحال، ومَنْ قال: إن شاء اللَّه. . إما للتبرك، أو للجهل بالخاتمة، والكافر في التقييد بـ "إن شاء اللَّه" كالمسلم) انتهى ملخصا" (¬1). وليس الخلاف فيمن يأتي بـ (إن شاء اللَّه) شاكًا في ثبوت الإيمان له حالًا؛ لأنه كافر، بل هو فيمن هو جازمٌ به حالًا، غير أن بقاءه على الموت عليه غير معلومٍ له. ووجه جوازه: أنه ليس القصد بالاستثناء فيه إلا التبرك؛ اتباعًا لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فإنه يعمُّ طلب الاستثناء حتى في قطعيِّ الحصول، وقد صرَّح به فيه (¬2) في: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} مع أن خبره تعالى قطعيُّ الصدق؛ تعليمًا وتأديبًا لعباده في صرف الأمور كلِّها إلى مشيئته. ووجه ربطه بالمشيئة: أن المعتبر في النجاة هو الموت على الإيمان، وهذا غير معلوم، وهو أمرٌ مستقبَلٌ، فصح ربطه بها لا تعليقًا، بل تبركًا واتباعًا وفَرَقًا من سوء الخاتمة (¬3). وأما توجيهُ منعه بأنَّ تركَهُ أَبعدُ عن التهمة بعدم الجزم به في الحال الذي هو كفر، وبتقدير أنه قصد غير التعليق، فربما اعتادت نفسه التردُّد في الإيمان؛ لكثرة إشعار النفس بواسطة الاستثناء بتردُّدها في ثبوت الإيمان واستمراره. . فجوابه: أنه لا تهمة مع القرائن القطعية بانتفائها. وأيضًا: إشعار اللفظ بما مر إنما هو بالنظر للتعليق، وليس الكلام فيه؛ إذ الفَرْض أنه إنما قصد التبرك؛ لما مر، على أنه لو فرض أنه أطلق فلم يقصد تعليقًا ولا تبركًا. . ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 150). (¬2) أي: وقد صرح بالاستثناء في قطعي الحصول في قوله تعالى. . . إلخ. (¬3) في بعض النسخ: (وخوفًا من سوء) وهما بمعنًى.

فالذي يظهر: أنه لا إثم عليه أيضًا؛ لأن الفرض أنه جازمٌ بالإيمان في الحال، وإيهام لفظه تدفعه قرائن أحواله. الرابعة: الإيمان باقٍ حكمًا شرعيًا مع النوم والغفلة والإغماء والجنون والموت وإن ضادت التصديق والمعرفة، ونظير ذلك بقاء نحو النكاح وسائر العقود في هذه الأحوال. (قال: فأخبرني عن الإحسان) (أل) فيه للعهد الذهني المذكور في الآيات الكثيرة؛ نحو: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} فلمَّا كثر تكرره وعظم ثوابه. . سأل عنه جبريل؛ ليُعلِمهم بعظيم ثوابه وكمال رفعته. وهو مصدر: أحسنت كذا وفي كذا؛ إذا أحسنتَهُ وكملتَهُ (¬1)، متعديًا بهمزة، من (حسن كذا)، وبحرف الجر كـ (أحسنت إليه) إذا فعلتَ معه ما يحسن فعله، والمراد هنا: الأول؛ إذ حاصله راجعٌ إلى إتقان العبادات بأدائها على وجهها المأمور، مع رعاية حقوق اللَّه تعالى فيها، ومراقبته، واستحضار عظمته وجلاله ابتداءً واستمرارًا، وهو على قسمين (¬2): أحدهما: غالبٌ عليه مشاهدة الحق؛ كما (قال) صلى اللَّه عليه وسلم: (أن تعبد اللَّه) من (عبد): أطاع، والتعبد: التنسك، والعبودية: الخضوع والذل (كأنك تراه) وهذا من جوامع الكلم؛ لأنه جمعَ -مع وجازته- بيانَ مراقبةِ العبد ربَّه في إتمام الخضوع والخشوع وغيرهما في جميع الأحوال، والإخلاصِ له في جميع الأعمال، والحث عليهما (¬3)، مع بيان سببهما الحامل عليهما؛ لملاحظة أنه لو قُدِّر أن أحدًا قام في عبادةٍ وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى. . لم يترك شيئًا مما يقْدِر عليه من ¬

_ (¬1) في كلامه تفسير الشيء بنفسه، وعبارة غيره من الشُّراح: (إذا أتقنته وكملته) اهـ هامش (غ) (¬2) قوله: (وهو على قسمين) أي: صاحبه أو المتحلِّي به على قسمين، فهو على حذف مضاف، والضمير راجعٌ للمحسن المفهوم من الإحسان بقرينة ما بعده، فليتامل. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (والحث عليهما) بالنصب عطفًا على (بيان) أي: وجمع الحث على المراقبة والإخلاص. اهـ "مدابغي"

الخضوع، والخشوع، وحسن الصمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن الوجوه. والثاني: من لا ينتهي إلى تلك الحالة، لكن يغلب عليه أن الحق له سبحانه وتعالى مُطَّلعٌ عليه، ومشاهدٌ له، وقد بينه صلى اللَّه عليه وسلم بقوله: (فإن لم تكن تراه. . فإنه يراك) (¬1) مشيرًا إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون حاله مع فرض عدم عِيانه لربه سبحانه وتعالى كهو مع عيانه؛ لأنه سبحانه وتعالى مطلع عليه في الحالين؛ إذ هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت، مشاهدٌ لكل أحدٍ من خلقه في حركته وسكونه، فكما أنه لا يُقْدِم على تقصيرٍ في الحال الأول. . كذلك لا ينبغي له أن يُقْدِم عليه في الحال الثاني؛ لما تقرر من استوائهما بالنسبة إلى اطلاع اللَّه وعلمه وشهود عظيم كماله وباهر جلاله سبحانه وتعالى. وقد ندبَ أهلُ الحقائق إلى مجالس الصالحين؛ لأنه لاحترامه لهم وحيائه منهم لا يقدم على تقصيرٍ في حضرتهم، وإلى أن العبد ينبغي له أن يكون في عبادة ربه كضعيفٍ بين يدي جبار؛ فإنه حينئذ يتحرَّى ألَّا يصدر منه سوءُ أدبٍ بوجهٍ. ثم هذان الحالان هما ثمرتا معرفة اللَّه وخشيته سبحانه وتعالى، ومن ثَمَّ عبَّر بها عن العمل في خبر: "أن تخشى اللَّه كأنك تراه" (¬2) مجازًا عن المسبب باسم السبب (¬3). قيل: وينبغي أن يكون الجواب قد انتهى عند قوله: (تراه) (¬4) وما بعده ¬

_ (¬1) قوله: (فإن لم تكن تراه): (إن) للشرط، و (لم تكن) جملة وقعت فعل الشرط، فإن قلتَ: أين جزاء الشرط؟ قلتُ: محذوفٌ تقديره: فإن لم تكن تراه. . فأحسنِ العبادة؛ فإنه يراك، فإن قلت: لِمَ لا يكون قوله: (فإنه يراك) جزاء الشرط؟ قلتُ: لا يصح؛ لأنه ليس مسببًا عنه، وينبغي أن يكون فعل الشرط سببًا لوقوع الجزاء؛ كما تقول في: إن جئتني. . أكرمتك؛ فإن المجيء هو السبب للإكرام، وعدمه سبب لعدمه، وههنا عدم رؤية العبد ليست بسببٍ لرؤية اللَّه تعالى، فإن اللَّه تعالى يراه سواء وجدت من العبد رؤيةٌ أم لم توجد، فإن قلت: ما الفاء في قوله: (فإنه)؟ قلت: للتعليل على ما لا يخفى. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه مسلم (10) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (مجازًا عن السبب) هو العبادة، وقوله: (باسم السبب) وهو الخشية؛ فإن خشية اللَّه تعالى سببٌ لعبادته. (¬4) أي: الأول.

مستأنفٌ؛ لأن الأولى من جنس مقدور العبدا؛ لجواز أن يوجد وألَّا يوجد، بخلاف الثاني؛ فإنه سبحانه وتعالى يرى الكائنات جملةً وتفصيلًا على الدوام، لا يشذُّ عن نظره شيءٌ في وقتٍ من الأوقات. اهـ وجوابه: يعلم مما قررته في معناه من أن المطلوب به (¬1) استحضار أنه بين يدي الحق بمرأىً منه ومسمعٍ؛ ليكسبه ذلك غاية الكمال في عباداته، والإعراض عن عاداته، واستحضارُ ذلك مقدور للعبد ومكملٌ له فكُلِّف به، ولا يلزم من نظر اللَّه سبحانه وتعالى للعبد وأحواله أن العبد يستحضر ذلك، فظهر أنه من تتمة الجواب، وأنه ليس أمرًا مستأنفًا وإن تتابع على تلك المقالة جماعةٌ من الشُّراح. ثم رأيت بعضهم قال: إنه تعليلٌ لما في قبله؛ فإن العبد إذا أُمِرَ بمراقبة اللَّه سبحانه وتعالى في عبادته واستحضار قربه منه حتى كأنه يراه. . شقَّ عليه ذلك، فيستعين عليه بإيمانه بأن اللَّه سبحانه وتعالى مطلع عليه لا يخفى عليه منه شيءٌ؛ ليسهل عليه الانتقال إلى ذلك المقام الأكمل، الذي هو مقام الشهود الأكبر. ومن البعيد وَقفُ بعض الصوفية على (تراه) الثاني (¬2)؛ لظنهم أن المراد: أنك إذا فنيت عن نفسك فلم ترها شيئًا. . شاهدت ربك؛ لأنها الحجاب بينك وبين شهوده، والمعنى وإن صح إلا أن لفظ الحديث لا ينطبق عليه، فتنزيله عليه جهل من قائله بقواعد العربية وأساليبها (¬3). قيل: وفي الحديث دلالةٌ على أن رؤيته سبحانه وتعالى في الدنيا ممكنةٌ عقلًا؛ لأن ¬

_ (¬1) أي: بالثاني. (¬2) قوله: (ومن البعيد وقف بعض الصوفية على "تراه" الثانية) لظنهم أن فعل الشرط (لم تكن) وهي تامة لا خبر لها، و (تراه) جواب الشرط، وقوله: (فإنه يراك) تفريعٌ، والمعنى: فإن لم توجد؛ أي: لم تفرض أن نفسك موجودةٌ. . فإنك ترى ربك عز وجل، والمراد "أنك إذا فنيت عن نفسك. . . إلخ. اهـ "مدابغي" (¬3) قال الصلاح الصفدي: وغفل هذا القائل للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم. . لكان قوله: (تراه) محذوف الألف؛ لأنه يصير مجزومًا، لكونه على ما زعمه جواب الشرط، وتعقبه الدماميني بقوله: إنما تصح هذه الدعوى التي عارض بها الصفدي لو كان الجواب في هذه الصورة مما يجب جزمه، وهو ممنوع؛ فقد نصَّ الإمام جمال الدين بن مالك في "التسهيل" على أن الشرط إذا كان منفيًا بـ (لم). . جاز رفع الجواب بكثرة، وكفانا به حجة. على أن الشُّرَّاح قبلوا هذا منه ولم يتعقبوه، وعليه: فيصح قولنا: إن لم يقم زيد. . يقوم عمرو، ويتخرج عليه الحديث، فلا يكون رفع الفعل المضارع الذي هو (تراه) مانعًا من دعوى كونه جوابًا للشرط. اهـ "مدابغي"

(لم) لنفي الممكن (¬1)، كـ (زيد لم يقم) بخلاف (لا) كـ (الحجر لا يطير) اهـ وإمكانها في الدنيا عقلًا هو الحق، ومن ثَمَّ سألها موسى عليه الصلاة والسلام، ومحالٌ أن يسأل نبيٌّ ما لا يجوز على اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن ذلك جهلٌ باللَّه تعالى وبما يجب له ويستحيل عليه، والنبي معصومٌ منه قطعًا. أما في الآخرة. . فهي ممكنةٌ بل واقعةٌ؛ كما صرحت به النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية التي كادت تتواتر، وخلاف المعتزلة في ذلك لسوء جهلهم، وفرط عنادهم، وتصرفهم في النصوص بأرائهم القاصرة الفاسدة، نعوذ باللَّه سبحانه وتعالى من أحوالهم (¬2). (قال: صدقت) (¬3) وأخَّر هذا عن الإسلام والإيمان؛ لأنه غاية كمالهما، بل والمُقَوِّم لهما؛ إذ بعدمه يتطرق إلى الإسلام -بمعنى الأعمال الظاهرة- الرياءُ والشرك، وإلى الإيمان النفاقُ، فيظهره رياءً أو خوفًا، ومن ثَمَّ قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} فشرَطَهُ فيهما. وفي هذا وما قبله دليلٌ على أن الاسم غير المسمى؛ لأن جبريل أتى في سؤاله بأسامٍ: هي الإسلام وتالياه، فأُجيب بمسمياتها، ولو اتَّحدا. . لعلَّمها جبريل مَنْ علَّمه بأسمائها، وهذه مسألةٌ طويلة الذيل، وليس للخلاف فيها كبير فائدة؛ فلذا أضربنا عن حكايته، واقتصرنا على الأصح منه بدليله، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} (¬4) إن جعلنا (اسم) فيه صلة. . فظاهر، أو غير صلة. . فمعناه: أنه يجب تنزيه الاسم كما يجب تنزيه مسماه، وهو الذات الواجب الوجود؛ لأن الأصح: أن أسماء اللَّه تعالى توقيفية، فلا يجوز أن يسمى سبحانه وتعالى إلا بما صح عن الشارع أنه من أسمائه. ¬

_ (¬1) أي: غالبًا فلا يرد: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} اهـ هامش (غ). (¬2) قال في "بدء الأمالي": (من الوافر) يراه المؤمنون بغير كيفٍ ... وإدراك وضرب من مثالِ فينسون النعيم إذا رأوهُ ... فيا خسرانَ أهل الاعِتزالِ (¬3) ليست من نسخ المتن ولا هي موجودة في "صحيح مسلم"، واللَّه أعلم. (¬4) قوله: (واقتصرنا على الأصح منه) وهو: أن الاسم غير المسمى، وقوله: (بدليله) يعني هذا الحديث، وقوله: (و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. . . إلخ) أي: فهذا ظاهره يقتضي أن الاسم عين المسمى لا غيره؛ لأن التسبيح -الذي هو التنزيه- إنما يكون للذات، فمعنى المضاف هو المضاف إليه، وجوابه: أن الاسم صلة، أو كما يجب تنزيه الذات يجب تنزيه الاسم. اهـ "مدابغي"

ومعنى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} بعد قوله: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} أي: يا أيها الذي اسمه يحيى. ثم المغايرة بينهما ذاتيةٌ، فالاسم: الموضوع للذات تعريفًا أو تخصيصًا، والمسمَّى: الموضوع له، والتسمية: الوضع، والمسمِّي -بكسر الميم-: الواضع، والوضع: تخصيص لفظٍ بمعنًى بحيث إذا أُطلق ذلك اللفظ. . فُهم ذلك المعنى. (قال: فأخبرني عن الساعة) (¬1) أي: عن زمن وجود يوم القيامة، سُمِّي بها مع طول زمنه اعتبارًا بأول أزمنته؛ فإنها تقوم بغتةً في ساعة، حتى إن من تناول لقمةً لا يمهل حتى يبتلعها: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا}. وهي لغة: قطعةُ زمنٍ غير معينٍ ولا محدودٍ، وفي اصطلاح المؤقتِين ونحوهم: جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءًا من الليل والنهار. (قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) أي: بل كلانا سواء في عدم علم زمن وجودها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، {إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} الآيات. وفي "الصحيح": "مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا اللَّه" وتلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيةَ (¬2)، وروى أحمد "أُوتيت مفاتيح كل شيءٍ إلا الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيةَ (¬3). ففيه أنه ينبغي للمفتي والعالم وغيرهما إذا سُئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يُستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه، ومن ثَمَّ قال علي كرم اللَّه وجهه: (وابَرْدها على كبدي؛ إذا سئلتُ عما لا أعلم أن أقول: لا أعلم) (¬4). ¬

_ (¬1) قوله: (قال: فأخبرني عن الساعة) وإنما سأل جبريل عن وقت الساعة مع علمه أن أحدًا لا يطلع عليه؛ لينبِّه الناس عن قطع أطماعهم عن التلفت إلى الاطلاع عليها. اهـ "مدابغي" (¬2) صحيح البخاري (4778) و (1/ 379) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. وفي "شرح الجوهرة" للقاني ما نصه بعد كلام يتعلق بذلك: والحق -كما قاله جمعٌ- أن اللَّه تعالى لم يقبضه عليه الصلاة والسلام حتى أطلعه على كل ما أبهمه عنه، إلا أنه أمره بكتم بعضٍ، والإعلام ببعض. اهـ هامش (أ). (¬3) مسند الإمام أحمد (2/ 85) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه الدارمي في "سننه" (181)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (42/ 510). وقوله: (وابردها): =

وقال بعض السلف: إذا أخطأ العالم (لا أدري). . فقد أُصيبت مقاتله. (قال: فأخبرني عن أمارتها) بفتح الهمزة -إذ هي بكسرها: الولاية- أي: أشراطها وعلاماتها الدالة على اقترابها، وربما روي: "أماراتها". (قال: أن تلد الأمة) أي: القِنَّة و (أل) فيها للماهية ونحوها مما يأتي، دون الاستغراق؛ لعدم اطراد ذلك في كل أَمة. (ربتها) أي: سيدتها -وفي رواية: "ربها" (¬1) أي: سيدها، وفي أخرى: "بعلها" (¬2) بمعنى ربها (¬3)، ومنه: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: ربًا- كناية: إما عن كثرة السراري اللازمة لاستيلائنا على بلاد الكفر، حتى تلد السرية بنتًا. أو ابنًا لسيدها، فيكون ولدها سيدها كأبيه، فالعلامة استيلاؤنا على بلادهم وكثرة الفتوح والتسري. أو عن كثرة بيع المستولدات لفساد الزمان، حتى تشتري المرأة أمها وتسترقَّها جاهلةً أنها أمها، فالعلامة غلبة الجهل الناشئِ عنها بيعُ أم الولد، وهو ممنوعٌ إجماعًا على نزاعٍ فيه. قيل: ويتصور هذا في غير أمهات الأولاد، بأن تلد حرًا بشبهة، أو قِنًّا بنكاحٍ أو زنًا، ثم تُباع بيعًا صحيحًا وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد. أو عن كون الإماء يلدْنَ الملوك، فتكون أم الملك من جملة رعيته، وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وإنما يظهر هذا على رواية: "ربها" لا: "ربتها" لندرة كون الأنثى ملكة. ¬

_ = مندوبٌ متفجع؛ أي: وابرد هذه المسألة على كبدي؛ حتى أستريح به من الحرارة، وهي كلمة تعجبٍ بمعنى: ما أشد بردها على كبدي. . . إلخ، ويحتمل ضبطه بهمزة مفتوحة بعد الواو، وإسكان الباء الموحدة، وفتح الراء، ورفع الدال أفعل التفضيل. اهـ هامش (غ) (¬1) عند البخاري (50)، ومسلم (9). (¬2) عند مسلم (9/ 6). (¬3) فإن قيل: كيف أطلق الرَّب على غير اللَّه وقد ورد النهي عنه بقوله: "لا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي"؟!. . فالجواب: أن الممنوع إطلاقه على غير اللَّه بدون الإضافة، وأما بالإضافة. . فلا يمنع؛ يقال: رب الدار، ورب الناقة. اهـ "مدابغي"

أو عن كثرة عقوق الأولاد لأمهاتهم، فيعاملونهم معاملة السيد أمته من الإهانة والسبِّ، ويُستأنس له برواية: "أن تلد المرأة" (¬1)، وبخبر: "لا تقوم الساعة حتى يكون الولد غيظًا" (¬2). أو عن كثرة بيع السراري، حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، بناء على رواية: "بعلها" وأن المراد به زوجها. ولا دلالة في ذلك لمنع بيع أمهات الأولاد ولا لجوازه، خلافًا لمن زعمه؛ إذ لا يلزم من كون الشيء علامةً للساعة حرمتُهُ ولا ذمُّه؛ لما يأتي في التطاول في البنيان وغيره، وأيضًا: فكما فيه إشارةٌ لا إلى جواز بيعها من جهة أنه جَعْلُ ولدها سيدَها المستلزمِ لملكه لها بعد الموت حتى عتقت، ويلزم من كونها إرثًا جوازُ بيع المستولد لها. . فيه إشارةٌ إلى منع بيعها؛ لأن معنى كون ولدها ربَّها: أنها بولادته عتقت؛ لها: ثبت لها حق العتق فامتنع بيعها، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم في سريته مارية لما ولدت إبراهيم: "أعتقها ولدها" (¬3)، فلما تعارض هذان الاحتمالان. . تساقطا، وصار تقديم أحدهما تحكمًا. (وأن ترى الحفاة) جمع حافٍ بالمهملة؛ وهو: من لا نعل برجله. (العراة) جمع عارٍ؛ وهو: من لا شيء على جسده، وفي رواية: "الحفدة" أي: الخَدَمة، و (أل) هنا وإن احتملت الاستغراق إلا أن العادة القطعية دالةٌ على تخصيصه، وأن كل واحدٍ منهم لا يحصل له ذلك؛ فالأَولى: كونها للمعهود عند المخاطبين (¬4)، أو لتعريف الماهية. (العالة) بتخفيف اللام جمع عائلٍ، من (عال): افتقر، ومنه: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} و (أعال): كثرت عياله. ¬

_ (¬1) عند البخاري (4777) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه؛ ولفظه: "إذا ولدت المرأة. . . ". (¬2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (949) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. وقوله: (غيظًا) أي: ضررًا على والديه. (¬3) أخرجه الحاكم (2/ 19)، وابن ماجه (2516)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 346) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) أي: الفقراء، ومعناه: أن أسافل الناس يصيرون أهل ثروة ظاهرة. اهـ هامش (غ)

(رِعاء) بكسر أوله وبالمد جمع راعٍ، ويجمع أيضًا على رُعاة بضم أوله وهاء آخره مع القصر، والرعي: الحفظ. (الشاء) جمع شاة، وهو من الجموع التي يفرق بينها وبين واحدها بالهاء، وفي رواية لمسلم: "رعاء البُهم" (¬1) جمع بَهمة بفتح أوله: صغار الضأن والمعز، وقد يخص بالمعز (¬2)، وفي رواية للبخاري: "رعاء الإبل البُهم" (¬3) بضم أوله جمع بهيم، قيل: مجهول (¬4)، والأَولى: أنه الأسود الصرف، وفيه الرفعُ صفة لـ (رعاء) لأن الأدمة غالب ألوان العرب، والجرُّ صفة لـ (الإبل). وخُصَّ مطلق الرعاء؛ لأنهم أضعف الناس، ورعاء الشاء؛ لأنهم أضعف الرعاء، ومن ثَمَّ قيل: رواية: "رعاء الشاء" أنسب بالسياق من رواية: "رعاء الإبل" فإنهم أصحاب فخرٍ وخيلاء، وليسوا عالةً ولا فقراء غالبًا. ويجاب بأن فخرهم إنما هو بالنسبة لرعاء الشَّاء لا لغير الرعاء، فالقصد حاصلٌ بذكر مطلق الرعاء، ولكنه برعاء الشاء أبلغ. فإن قلت: القصة غير متعددة، فكيف الجمع بين الروايتين؟ قلتُ: يحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلم جمع بينهما فقال: "رعاء الإبل والشاء" فحفظ راوٍ الأولَ، وآخرُ الثاني. (يتطاولون في البنيان) وهذا كناية عن كون الأسافل يصيرون ملوكًا أو كالملوك؛ أي: إذا رأيت أهل البادية الغالب عليهم الفقر وأشباهَهُم من أهل الحاجة والفاقة قد ملكوا أهل الحاضرة بالقهر والغلبة، فكثرت أموالهم، واتسع في الحطام آمالهم، فتفرق هممهم إلى تشييد المباني، وهدمِ أركان الدين بعدم العمل بآي المثاني. . فذاك من علامات الساعة. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (9) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) كتب الشيخ الشوبري رحمه اللَّه: قال بعضهم: وقل: أولاد الضأن خاصة واقتصر عليه الجوهري. اهـ، فقول الشارح: (وقد يخص بالمعز) صوابه: بالضأن، فليراجع. اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "صحيح البخاري" (50) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أي: اللون.

ومن ثَمَّ صح: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع" (¬1) أي: لئيم بن لئيم. وصح أيضًا: "من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار" (¬2). وقد بالغ صلى اللَّه عليه وسلم في روايةٍ في تحقيرهم، فوصفهم بأنهم صمٌّ بكمٌ (¬3)؛ أي: جهلةٌ رَعَاع، لم يستعملوا أسماعهم ولا ألسنتهم في علمٍ ونحوه من أمر دينهم، فلعدم حصول ثمرتي السمع واللسان صاروا كأنهم عدموهما؛ ومن ثَمَّ قال اللَّه تعالى في حقهم: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} قيل: فيه دليلٌ لكراهة تطويل البناء. اهـ (¬4) وفي إطلاقه نظر، بل الوجه: تقييد الكراهة -إن سُلِّمت؛ لما يأتي لا لهذا، فقد مر أن جَعْلَ الشيء من أمارات الساعة لا يقتضي ذمه- بما لا تدعو الحاجة إليه، وعليه يحمل خبر: "يؤجر ابن آدم على كل شيءٍ إلا ما يضعه في هذا التراب" (¬5). وخبر أبي داوود: أنه صلى اللَّه عليه وسلم خرج فرأى قُبةً مشرِفةً، فقال: "ما هذه؟ " قالوا: هذه لرجلٍ من الأنصار، فجاء فسلَّم على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فأعرض عنه، فعل ذلك مرارًا، فهدمها الرجل (¬6). وخبر الطبراني: "كل بناءٍ -وأشار بيده هكذا على رأسه- أكثر من هذا فهو وبالٌ" (¬7). وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمار بن أبي عمار قال: (إذا رفع الرجل بناءه فوق سبعة ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2209)، والإمام أحمد (5/ 389) عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه الحاكم (4/ 554) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما بنحوه. (¬3) وهي رواية الإمام محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (367) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما من حديث طويل؛ واللفظ فيه: "وأن ترى الصم البكم العمي رعاء الشاء يتطاولون البناء ملوك الناس. . . ". (¬4) قوله: (الكراهة تطويل البناء) أي: كراهة تنزيه؛ لأنه متى أُطلقت الكراهة. . فالمراد بها ذلك. اهـ "مدابغي" (¬5) أخرجه البخاري (5672)، والترمذي (2483) عن سيدنا خباب رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬6) انظر "سنن أبي داوود" (5237) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬7) المعجم الأوسط (3105) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

أذرعٍ. . نُودي: يا أفسق الفاسقين؛ إلى أين؟!) (¬1) ومثله لا يقال من قِبَل الرأي. واقتصر في الجواب على أَمارتين مع شمول السؤال لأكثر، ومع أن لها أماراتٍ أُخر صغارًا وعظامًا؛ كالدجال، والمهدي، وعيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وكثرة الهرج، وفيض المال حتى لا يقبله أحد، وانحسار الفرات عن جبلٍ من ذهب، وغير ذلك مما ألَّف الناس في استقصائه كتبًا مدونة. . تحذيرًا للحاضرين وغيرهم عنهما؛ لاقتضاء الحال ذلك؛ إذ لعل منهم من تعاطى شيئًا منهما، فزجره عنه، وإن قلنا: إن جعلَ الشيء أمارة لا يقتضي ذمه؛ لأن معناه -كما هو ظاهر-: أنه لا يستلزمه، وإلا. . فالغالب أنه ذمٌّ له. (ثم انطلق) أي: جبريل (فلبث) (¬2) زمنًا (مليًا) بتشديد الياء؛ أي: كثيرًا، من الملوان: الليل والنهار (¬3)، وأما المهموز. . فهو من الملاءة؛ أي: اليسار، وفي رواية: (فلبثت) إخبارًا عن نفسه، وبيَّنتْ روايةُ أبي داوود والترمذي وغيرهما أنه لبث ثلاثًا (¬4)، وظاهره: أنها ثلاث ليالٍ، وقد ينافيه خبر أبي هريرة: فأدبر الرجل، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "ردوه" فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئًا (¬5)، فقال: "هذا جبريل" (¬6). وأُجيب بأنه يحتمل أن عمر لم يحضر قوله هذا، بل كان قد قام فأُخبر به بعد ثلاث. ¬

_ (¬1) عزاه الحافظ السخاوي رحمه اللَّه تعالى في "المقاصد الحسنة" (ص 405) إلى الطبراني، وعنه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 75) عن الحسن عن أنس مرفوعًا رضي اللَّه عنهما، ثم قال: وله شواهد. وذكره أيضًا الحافظ المنذري رحمه اللَّه تعالى في "الترغيب والترهيب" (2803) عن عمار بن عامر رضي اللَّه عنه، وعزاه لابن أبي الدنيا موقوفًا على سيدنا عمار وقال: (ورفعه بعضهم ولا يصح). (¬2) قوله: (فلبث) أي: النبي صلى اللَّه عليه وسلم؛ يعني أمسك عن الكلام. اهـ "مدابغي" (¬3) هو ملحق بالمثنى فكان القياس (من الملوين) إلا أن يقال: هو على لغة مَنْ يُلزم المثنى الألف، فليراجع. اهـ "مدابغي" (¬4) سنن أبي داوود (4695)، وسنن الترمذي (2610) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬5) في جميع النسخ: (فأخذوا يردوه) بحذف اللام، والصواب: إثباتها كما في رواية مسلم، ولقد نبه على ذلك العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى. (¬6) أخرج نحوه البخاري (50)، ومسلم (9).

(ثم قال: يا عمر؛ أتدري من السائل؟) فيه ندبُ تنبيه المعلم تلامذتَه، والكبيرِ مَنْ دونهم على فوائد العلم وغرائب الوقائع؛ طلبًا لنفعهم ومزيد فائدتهم وتيقظهم. (قلت: اللَّه ورسوله أعلم) فيه حسن ما كان عليه الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم من مزيد الأدب معه صلى اللَّه عليه وسلم، برد العلم إلى اللَّه وإليه (¬1). (قال: هذا جبريل) (¬2) اسمٌ أعجميٌّ سريانيٌّ، قيل: معناه: عبد اللَّه، احتجَّت به الحلولية والاتحادية -لعنهم اللَّه تعالى- على مذهبهم الباطل، من جهة أنه روحانيٌّ، وقد خلع صورة الروحانية وظهر بمظهر البشرية (¬3). وكان يظهر في صورة دحية، فيَعْلَمُه النبي صلى اللَّه عليه وسلم ملَكًا، والناس حوله يعتقدونه بشرًا؛ أي: ولم يره صلى اللَّه عليه وسلم على صورته الأصلية إلا مرتين. قالوا: فإذا قَدر على ذلك وهو مخلوق. . فاللَّه سبحانه وتعالى أقدر على الظهور في صورة الوجود الكلي أو بعضه، قالوا: ويدل له النصوص الدالة على أنه يَرى ولا يُرى، وما ذاك إلا لأنه ماهيةٌ لطيفةٌ. وجوابه: أن البرهان قاطعٌ باستحالة الحلول والاتحاد عليه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، فلا نظر لظواهرَ تقتضي خلافه. على أنه لا دلالة لهم في ذلك؛ لأن جبريل جسمٌ نورانيٌّ في غاية اللطافة، فقبلتْ ذاتُه التشكل والانخلاع من طورٍ إلى طورٍ، واللَّه سبحانه وتعالى منزهٌ عن الجسمية وسائرِ لوازمها كما مر. وكونه تعالى يَرَى ولا يُرى، أو أقرب إلينا من حبل الوريد، أو بين المصلي وقبلته ¬

_ (¬1) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 84 - 85) بعد نقله كلام الشارح: (وكذا ذكره الشارح الهيتمي، ومن المعلوم أن ذلك إنما يحسن عده من الأدب لو كانوا يعلمون من السائل وردوا العلم إليه إجلالًا له، وهم كانوا غير عالمين قطعًا إلا أن يقال: فيه حسن الأدب من جهة تفويض العلم إليهما، بخلاف: لا نعلم). (¬2) هكذا في النسخ كلها، واللفظ في نسخ المتن وفي "صحيح مسلم": (قال: فإنه جبريل). (¬3) الحلولية: هم الذين عبدوا كل صورةٍ حسنةٍ؛ لزعمهم أن الإله قد حل فيها؛ أي: نزل ودخل فيها. اهـ "الأنوار لعمل الأبرار" (2/ 103)

لا دليل فيه على كونه ماهيةً بوجهٍ؛ إذ القرب والبينيَّة في ذلك أمرٌ معنويٌّ لا حِسَيٌّ؛ كما دلت عليه النصوص القطعية السمعية، والبراهين العقلية. وظاهر رواية البخاري: أنه لم يعرفه إلا في آخرة الأمر (¬1)، وورد: "ما جاءني في صورةٍ لم أعرفها إلا في هذه المرة" (¬2)، وفي حديث "صحيح ابن حبان": "والذي نفسي بيده؛ ما شُبِّه عليَّ منذ أتاني قبل مَرَّتي هذه، وما عرفته حتى ولَّى" (¬3). (أتاكم يعلمكم) بسبب سؤاله، فنسبة التعليم إليه مجاز (¬4)، وإلا. . فالمعلِّم لهم حقيقةً هو النبي صلى اللَّه عليه وسلم. (دينكم) أي: قواعده وأحكامه، وفي رواية ابن حبان: "يعلمكم أمر دينكم، فخذوا عنه" (¬5). وفيه: أن الدين هو مجموع الإسلام والإيمان والإحسان، ولا ينافيه أن الإسلام وحده يسمى دينًا بنص: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} لأنه كما يطلق على ذلك المجموع يطلق على هذا الفرد، إما بالاشتراك، أو الحقيقة والمجاز، أو التواطؤ، أو غير ذلك، ومر أول الكتاب للدين إطلاقات أُخر، فلا يغِبْ عنك استحضارها (¬6). قيل: وحكمه إرساله: ليعلمهم أنهم كانوا أكثروا على النبي صلى اللَّه عليه وسلم المسائل، فنهاهم كراهيةً لما قد يقع من سؤال تعنُّتٍ أو تجهيل، فألحوا فزجرهم، فخافوا وأحجموا واستسلموا امتثالًا، فلما صدقوا في ذلك. . أرسل لهم من يكفيهم المهمات، ومن ثَمَّ قال لهم صلى اللَّه عليه وسلم: "هذا جبريل، أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا" (¬7). ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (في خاتمة الأمر). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 329 - 330) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) صحيح ابن حبان (173) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬4) فهو سبب في التعليم لا أنه معلم. اهـ هامش (ج) (¬5) الذي في "صحيح ابن حبان" (173) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه أنه قال: "هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه" فليتنبه. (¬6) انظر ما تقدم (ص 77 - 78). (¬7) أخرجه مسلم (10)، وقال المصنف رحمه اللَّه تعالى في "شرحه على مسلم" (1/ 165) في ضبط كلمة (أن تعلموا): (ضبطناه على وجهين: أحدهما: تعلَّموا بفتح التاء وتشديد اللام؛ أي: تتعلموا. والثاني: بإسكان العين، وهما وجهان صحيحان).

(رواه مسلم) فهو من أفراده، ولم يخرج البخاري عن عمر فيه شيئًا، وإنما خرَّج هو ومسلم عن أبي هريرة نحوه (¬1). وهو حديثٌ متفقٌ على عظم موقعه، وكثرة أحكامه؛ لاشتماله على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة؛ من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعةٌ إليه، ومتشعبةٌ منه، فهو جامع لطاعات الجوارح والقلب أصولًا وفروعًا، حقيقٌ بأن يسمى (أم السنة) كما سميت (الفاتحة) (أم القرآن) لتضمنها جمل معانيه. ومن ثَمَّ قيل: لو لم يكن في هذه "الأربعين" بل في السُّنة جميعها غيره. . لكان وافيًا بأحكام الشريعة؛ لاشتماله على جملتها مطابقةً، وعلى تفصيلها تضمنًا، فهو جامعٌ لها علمًا ومعرفةً، وأدبًا ولطفًا، ومرجعُهُ من القرآن والسنة كلُّ آيةٍ أو حديثٍ تضمن ذكر الإسلام، أو الإيمان، أو الإحسان، أو الإخلاص، أو المراقبة، أو نحو ذلك. * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4777)، وصحيح مسلم (9).

الحديث الثالث [أركان الإسلام]

الحديث الثالث [أركان الإسلام] عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَي خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَام الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّه بن عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا) أشار به إلى أنه ينبغي لكل من ذكر صحابيًا أبوه صحابيٌّ أن يترضَّى عنهما. وابن عمر هذا كان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وزهادهم، واعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع علي ولا مع معاوية ورعًا، ثم لما بانت له الفئة الباغية. . ندم على عدم قتاله مع علي كرم اللَّه تعالى وجهه. ولد قبل البعثة بسنة، أسلم مع أبيه بمكة وهو صغير، وقيل: قبله، وهاجر معه، وقيل: قبله، ولم يشهد بدرًا، وكان عمره عام أُحُدٍ أربعَ عشرة سنة، فاستصغره صلى اللَّه عليه وسلم، ثم في عام الخندق بلغ خمس عشرة سنة، فأجازه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم لم يتخلَّف بعدُ عن سرية من سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وقال صلى اللَّه عليه وسلم لشقيقته حفصة رضي اللَّه تعالى عنها: "إن أخاكِ رجلٌ صالحٌ لو أنه يقوم الليل" (¬2) فلم يترك قيامه بعدُ. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (8)، وصحيح مسلم (16/ 21). وفي نسخ المتن: (رواه) بدل (أخرجه). (¬2) أخرجه البخاري (7016) وليس عنده قوله: "لو أنه يقوم الليل" إلا أن الكُشْمِيهَني في روايته عن الفربري زاد: "لو كان يصلي من الليل" كما ذكر الإمام ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الفتح" (12/ 404)، والحديث عند مسلم (2479) بنحوه.

قال جابر: (ما منَّا إلا من نال من الدنيا ونالت منه إلا عمر وابنه) (¬1). وأُولع بالحج أيام الفتنة وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك، وكثيرَ الصدقة، سيما بما يستحسنه من ماله، ولمَّا عرفت أرقاؤه منه ذلك. . كانوا يقبلون على الطاعة ويلازمون المسجد؛ ليعتقهم، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: (مَنْ خدعنا باللَّه انخدعنا له) (¬2)، قال نافع: أعتق ألف رقبةٍ أو أَزْيد. قيل: وحج ستين حجة، واعتمر ألف عمرة، وحمل على ألف فرسٍ في سبيل اللَّه تعالى. مات عن ستٍّ وثمانين سنة، وأفتى في الإسلام ستين سنة، توفي بمكة سنة ثلاث وسبعين شهيدًا، فإن الحجَّاج سفِهَ عليه، فقال له عبد اللَّه: (إنك سفيهٌ مسلَّطٌ)، فعَزَّ ذلك عليه، فأمر رجلًا فسمَّ زُجَّ رمحه (¬3)، فزحمه في الطواف ووضع الزُّج على قدمه، فمرض أيامًا، ولما دخل الحجَّاج ليعوده فسأله عن الفاعل وقال: قتلني اللَّه إن لم أقتله. . قال: (لستَ بفاعل)، قال: ولِمَ؟ قال: (لأنك الذي أمرتَ به) (¬4)، فأوصى أن يدفن في الحِلِّ، فلم تنفذ هذه الوصية، فدفن بذي طُوى في مقبرة المهاجرين، وقيل: بفَخٍّ. روي له عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ألف حديثٍ وست مئةٍ وثلاثون حديثًا، اتفق الشيخان منها على مئة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانين، ومسلمٌ بأحد وثلاثين. (قال: سمعت رسول اللَّه) وفي نسخة: النبي (صلى اللَّه عليه وسلم يقول: بُني الإسلام) أي: أُسِّس، واستعمال البناء الموضوع للمحسوسات في المعاني مجازٌ، علاقته المشابهة، شبَّه الإسلامَ ببناءٍ عظيمٍ مُحكَمٍ، وأركانَهُ الآتية بقواعد ثابتةٍ محكمةٍ حاملةٍ لذلك البناء، فتشبيه الإسلام بالبناء استعارةٌ بالكناية، وإثبات البناء له استعارة ترشيحية. ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (31/ 107)، وانظر "سير أعلام النبلاء" (3/ 211). (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (31/ 133)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 294). (¬3) الزج -بالضم-: الحديدة التي في أسفل الرمح. (¬4) انظر نحوه في "سير أعلام النبلاء" (3/ 229 - 230).

(على) دعائم أو أركان (خمس) وهي خصاله المذكورة، قيل: المراد القواعد، ولذلك لم تلحقها التاء، ولو أراد الأركان. . لألحقها، وفيه نظر؛ لأن المعدود إذا حذف. . يجوز حذف التاء؛ نحو: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، "من صام رمضان، وأتبعه ستًا من شوال. . كان كمن صام الدهر كله" (¬1)، فلا دليل فيه على أن المراد واحدٌ منهما. نعم؛ في رواية لمسلم: "خمسة" (¬2)، وهي صريحةٌ في إرادة الأركان، وتقدير (خمس) وصفًا أصوبُ من تقديره مضافًا؛ لجواز حذف الموصوف إذا علم، بخلاف المضاف إليه، وفي رواية: "خمس دعائم" (¬3)، وهي لا تُعيِّن -بل ولا تقتضي- أن المحذوف هو المضاف إليه. (شهادة) بجره مع ما بعده بدلًا من (خمس) وهو الأحسن، ويجوز رفعه بتقدير مبتدأ؛ أي: أحدها، أو خبر، أي: منها، وهو أَولى؛ لإيثارهم حذفه على حذف المبتدأ؛ لأن الخبر كالفضلة بالنسبة إليه. وخُصَّتْ هذه الخمس بكونها أساسَ الدين وقواعدَه، عليها يُبنى وبها يقوم، ولم يضم إليها الجهاد مع أنه المُظْهر للدين، ومع كونه ذروةَ سنام الأمر كما يأتي، وذروة سنامه: أعلى شيء فيه؛ لأنها فروضٌ عينيةٌ لا تسقط، وهو فرض كفايةٍ يسقط بأعذارٍ كثيرةٍ، بل قال كثيرون بسقوط فرضه بعد فتح مكة. قيل: ولأنه لم يكن فُرِضَ إذ ذاك. وأجاب بعضهم بأن فرضيته غير مستمرة؛ لزوالها بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام؛ إذ لم يبق غير ملة الإسلام، بخلاف هذه الخمسة؛ فإن فرضيتها باقيةٌ إلى قيام الساعة، ولا يلزم من كونه ذروة سنامه أنه من أركانه التي بُني عليها. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1164)، وأبو داوود (2433)، والترمذي (759) عن سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬2) صحيح مسلم (16) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (413) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

(أن لا إله إلا اللَّه) وفي روايةٍ للبخاري تعليقًا: "إيمان باللَّه ورسوله" (¬1)، وفي أخرى لمسلم: "على أن تعبد اللَّه، وتكفر بما دونه" (¬2)، وفي أخرى: "على أن توحد اللَّه" (¬3) قيل: الأُولى نقلٌ باللفظ، والأخريات نقلٌ بالمعنى. اهـ ولا يتعين ذلك؛ لجواز أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال كلَّ لفظٍ في مجلس، أو أنه غاير ليفيد أن المدار على وجود الإيمان باللَّه ورسوله، لا خصوصية لفظ الشهادتين، على ما مر في حديث جبريل. (وأن محمدًا عبده ورسوله) مر الكلام عليهما في الخطبة، وعلى هذه الخمس في حديث جبريل، فلا نطيل بإعادته. (وإقام الصلاة) أصله: إقامة؛ فحذفت تاؤه؛ للازدواج مع ما بعده كما وقع في القرآن. (وإيتاء الزكاة) إلى أهلها، فحذف للعلم به (¬4)، ورتبت هذه الثلاثة هكذا في سائر الروايات؛ لأنها وجبت كذلك؛ إذ أول ما وجب الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة، قال بعضهم: وفرضها سابقٌ فرضَ الصوم السابق لفرض الحج. اهـ لكن قال بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث: لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة. أو تقديمًا للأفضل فالأفضل (¬5)، والأوكد فالأوكد، قيل: فيستنبط منه أنه: إذا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (التوحيد، باب قول اللَّه تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}. واللفظ هنا ليس فيه موضع استشهاد، وهو: وسئل أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان باللَّه ورسوله. . . "، والرواية التي كان ينبغي الإشارة إليها ليست معلقة، بل هي موصولة، وهي عند البخاري (4515): "بني الإسلام على خمس: إيمان باللَّه ورسوله" وهي موقوفةٌ على سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، فلعل ذلك سهو أو سبق قلم، واللَّه أعلم. (¬2) صحيح مسلم (16/ 20) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ولفظه: "أن يُعبد اللَّهُ، ويُكفَرَ بما دونه". (¬3) صحيح مسلم (16/ 19) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ولفظه: "على أن يُوحَّدَ اللَّهُ". (¬4) أي: فحذف المفعول به الثاني؛ وهو (إلى أهلها) للعلم به؛ لأن فعل (آتى) يتعدَّى إلى مفعولين. (¬5) معطوف على قوله قبل نحو سطرين: (لأنها وجبت كذلك)، وفي "حاشية المدابغي": (قوله: "أو تقديمًا" أي: أو رتبت تقديمًا. . . إلخ).

تعذَّر الجمع بينهما، كمن ضاق عليه وقت صلاة، وتعيَّن عليه فيه أداء زكاةٍ لضرورة المستحِق. . قدم الأوكد، وهو الصلاة. اهـ وليس على إطلاقه، بل القياس: أن المستحِق إن لحقه ضررٌ بتقديم الصلاة. . حرم تقديمها، ووجب إعطاؤه؛ أخذًا من إيجابهم إخراجَها عن وقتها إذا عارضها إنقاذُ نحو غريق، أو خوف انفجار ميتٍ لو ترك تجهيزه لأجلها؛ لأن تداركها ممكنٌ بالقضاء، ولحوق الضرر لا يتدارك، ولو تعارضت صلاة العشاء وإدراك الحج. . وجب تقديمه وتركها؛ لأنه يشق قضاؤه بخلافها. (وحج البيت، وصوم رمضان) فيه أن الشرع تعبَّد الناسَ في أموالهم وأبدانهم، فلذلك كانت العبادة إما بدنيةً محضةً كالصلاة، أو ماليةً كالزكاة، أو مركبةً منهما كالأخيرين؛ لدخول التكفير بالمال فيهما (¬1). وفي روايات: "وصيام رمضان، وحج البيت" قيل: الأُولى وهمٌ؛ لأن ابن عمر -كما رواه مسلم- زجر من قال له: أتقدِّم الحج على الصوم؟! ثم عكس وقال: هكذا سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. اهـ (¬2) والصواب: أنها ليست وهمًا؛ فإنها صحَّت عن ابن عمر من طريق، قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (والأظهر -واللَّه أعلم-: أن ابن عمر سمعه من النبي صلى اللَّه عليه وسلم مرتين، مرةً بتقديم الحج، ومرةً بتقديم الصوم، ورواه أيضًا على الوجهين في وقتين، فلما ردَّ عليه الرجل وقدَّم الحج. . قال ابن عمر: لا ترد على ما لا علم لك به، ولا تتعرَّض لما لا تعرفه، ولا تقدح فيما لا تتحققه، بل تقديم الصوم (¬3)، هكذا سمعته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وليس في هذا نفي سماعه على ¬

_ (¬1) فائدة: إن الحج يكفر الصغائر اتفاقًا، وكذا الكبائر على الأظهر كما قاله الأُبِّي وابن حجر، وأما التبعات. . فقال القرافي: لا يسقطها، وظاهر كلام ابن حجر وغيره إسقاطه إياها؛ للأحاديث الواردة في ذلك، وأجمعوا على عدم سقوط قضاء ما ترتب عليه من الصلوات والكفارات في حقوق الآدميين من دَينٍ وغيره. اهـ، وقال الزواوي في "شرح المختصر": إنه يغفر الصغائر والكبائر حتى التبعات إذا مات في الحج أو بعده ولم يمكنه أداؤها. اهـ "الفتوحات الوهبية" (ص 90) (¬2) انظر "صحيح مسلم" (16) و (16/ 22) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) كذا في النسخ، والذي في "شرح مسلم": (بل هو بتقديم الصوم).

الوجه الآخر، ويحتمل أنه كان سمعه بالوجهين، ثم لما ردَّ عليه الرجل. . نسي الوجه الذي رده فأنكره). قال: (وأما قول ابن الصلاح: محافظته على ما سمعه، ونهيه عن عكسه حجةٌ لكون الواو للترتيب، وهو مذهب كثيرٍ من فقهاء شافعيين وشذوذٍ نحويين، وعلى مقابله الأصح إنما أنكر؛ لأن رمضان فُرِض في شعبان في السنة الثانية، والحج فُرِض سنة ستٍّ أو تسع، فرُتِّبا ذكرًا لترتيبهما فرضًا، ورواية تقديم الحج كأنها صدرت ممن يرى الرواية بالمعنى، فقدَّم وأخَّر نظرًا إلى جواز تأخير الأول، والأهم في الذكر. . فضعيفٌ؛ لِمَا مر من صحة الأمرين روايةً ومعنًى من غير تنافٍ بينهما، فلا يجوز إبطال إحداهما، ولأن فتح باب احتمال التقديم والتأخير في مثل هذا قدح في الرواة والروايات؛ إذ لو فُتح ذلك. . لم نثق بشيءٍ منها إلا القليل، وهو باطلٌ؛ لما فيه من المفاسد، وتعلُّقِ مَنْ يتعلق به ممن في قلبه مرض) انتهى ملخصًا (¬1). وهو ظاهرٌ جليٌّ، وتعجَّبَ بعض الشارحين من إنكاره احتمال التقديم والتأخير، واعترضه بما حاصله: نص العلماء على وقوعه في القرآن صريحًا أو احتمالًا؛ نحو: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} إذ الأصل: أحوى غثاء؛ إذ الأحوى: الأخضر الضارب إلى سواد، والغثاء: اليابس المتفتت، وساق آياتٍ كثيرةً أُخر؛ منها: {الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الآيةَ، ففيها تقديمٌ وتأخير؛ لاقتضاء نظمها أن السفر والمرض حدثان، وتقديرها: إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحدٌ منكم من الغائط، أو لامستم النساء. . فاغسلوا وامسحوا ما ذُكِر، فإن كنتم جنبًا. . فاطَّهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ فلم تجدوا ماءً. . فتيمموا. . . إلخ. {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ظاهرها: اشتراط العَود أيضًا في الكفارة، فيؤخر: {ثُمَّ يَعُودُونَ} عن: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}. {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} الآيةَ، فيه ذلك؛ أي: له معقباتٌ من أمر اللَّه، يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فوق اثنتين؛ أي: اثنتين فما فوق. ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 178)، وانظر قول الإمام ابن الصلاح رحمه اللَّه تعالى في "صيانة صحيح مسلم" (ص 146 - 147).

قال (¬1): فإذا كان هذا التقدير عند العلماء في نص القرآن. . فكيف يبعد أن يكون في غيره؟! على أنه جاء في الجملة الواحدة؛ كما في: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" (¬2) أي: ذى: أمه ذكاةٌ له، على رواية الرفع، ونحو ذلك كثيرٌ، فأراد الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى سدَّ بابٍ يتعذَّر سده، ويستحيل رده، فحذارِ حذارِ من الاغترار بهذا القول. اهـ وهو في غاية السقوط؛ لأن النووي لم يمنع جواز التقديم والتأخير من حيث هو، ولا عند مقتضٍ له، وفَهْمُ ذلك من عبارته دليلٌ على مزيد عماية وغباوة، وإنما الذي يدعيه: أنَّا إذا فتحنا احتمال ذلك مع صحة النظم بدونه. . أدَّى إلى إلغاء كثيرٍ من الأدلة؛ لأنا إذا أوردناها. . يقال لنا: يحتمل أن فيها تقديمًا وتأخيرًا، وطروق الاحتمال المؤثر للدليل يسقطه. وصحة هذه الدعوى في غاية الظهور والتحقيق، فاتضح رد تجويز ابن الصلاح لاحتمالهما في الحديث، وبان فساد ما اعتُرِض به عليه، على أن ما ساقه من الآيات إما متعين الحمل عليهما كالآية الثانية (¬3)، وإما غير متعيّنة كالرابعة؛ للاستغناء عنهما بحَمْل (مِن) في: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أنها بمعنى (الباء) والبصريون إنما يمنعون تأويل حرفٍ بحرفٍ حيث صحَّ المعنى بدون ذلك التأويل، والخامسةِ؛ لأن حكم الاثنتين (¬4) عُلم بالأولى من القياس على الأختين، وإما غير جائزة كالثالثة (¬5)؛ لأن نظمها اقتضى شرطية العود للكفارة، وبه قال الشافعي وغيره، فلا يجوز إخراج هذا النظم عن ظاهره إلا بدليل. قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (ولا يعارض ما مر عن ابن عمر رواية "مستخرج أبي عوانة": أنه قال للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهن؛ كما سمعتُ من في ¬

_ (¬1) هذا القول للشارح المشار إليه قبل قليل بقوله: (وتعجب بعض الشارحين. . .). (¬2) أخرجه الحاكم (4/ 114)، وأبو داوود (2828)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 334) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬3) وهي آية الوضوء. (¬4) في هامش (غ): (الابنتين) وأشار بأنها نسخة. (¬5) أي: آية الظهار.

رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؛ لاحتمال جريان القضية لرجلين) اهـ (¬1) وهذا أَولى من جواب ابن الصلاح بأن هذه لا تقاوم روايةَ مسلم السابقة (¬2)؛ لأنها وإن لم تقاومها فهي صحيحةٌ أيضًا، فالجمع بينهما أَولى من إلغاء إحداهما. واستفيد من بناء الإسلام على ما مر، مع ما هو معلومٌ أن البيت لا يثبت بدون دعائمه: أن من تركها كلها. . فهو كافر، وكذا من ترك الشهادتين؛ إذ هما الأساس الكلي الحامل لجميع ذلك البناء ولبقية تلك القواعد، كما استفيد من أدلةٍ أخرى؛ كالخبر الصحيح أن: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد" (¬3)، فالمراد بـ (الإسلام) فيه: الشهادتان بدليل سياقه، بخلاف من ترك غيرهما؛ فإنه إنما يخرج عن كمال الإسلام بقدر ما ترك منها؛ لبقاء البناء حينئذٍ، ويدخل في الفسق لا في الكفر، إلا إن جحد وجوبه، وعليه حمل الأكثرون خبر مسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (¬4). وخالف الإمام أحمد وآخرون فأخذوا بظاهره من كُفْرِ تاركها مطلقًا، وبالغ إسحاق فقال: عليه إجماع أهل العلم، وقال غيره: عليه جمهور أهل الحديث، وأجرت طائفةٌ ذلك في الأركان الثلاثة، وهو روايةٌ عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وبعض المالكية، بخلاف متعلق الإيمان السابق في حديث جبريل؛ فإن تَرْكَ واحدٍ منه كفرٌ (¬5). وعُلم مما قدمته ثَمَّ في الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان: أن من أتى بهما. . مؤمنٌ كامل، ومن تركهما. . كافر كامل، ومن ترك الإسلام وحده. . فاسق، ويسمى مؤمنًا ناقصًا، ومن ترك الإيمان وحده. . منافقٌ، ويسمى مسلمًا ظاهرًا. ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 179). (¬2) انظر "صيانة صحيح مسلم" (ص 146). (¬3) سيأتي تخريجه (ص 480) وهو الحديث التاسع والعشرون من أحاديث المتن. (¬4) أخرجه مسلم (82)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 365)، والإمام أحمد (3/ 389) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬5) قوله: (فإن ترك واحدٍ منه) أي: من متعلق الإيمان. وفي بعض النسخ: (منها) أي: متعلقات الإيمان؛ لأنه مفرد مضاف فيعم. اهـ "مدابغي"

تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى] هذا الحديث وإن كان مطلقًا في الأزمان، إلا أنه ثبت عمومه فيها، ووجوب تكرر تلك الأركان من أدلةٍ أخرى تفصيلية، وهي لشهرتها غنيةٌ عن ذكرها. (أخرجه البخاري) في (الإيمان) و (التفسير) رباعيًا (¬1)، (ومسلم) في (الإيمان) و (الحج) خماسيًا (¬2). وهو حديثٌ عظيم، أحد قواعد الإسلام، وجوامع الأحكام؛ إذ فيه معرفةُ الدين وما يعتمد عليه، ويجمعُ أركانه، وكلها منصوصٌ عليه في القرآن، وهو داخل في ضمن حديث جبريل؛ فلذا اكتفينا بما بسطناه ثَمَّ. * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (8) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) صحيح مسلم (16) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله] عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنفُخ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِي أَوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُوَنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي عبد الرحمن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه) ابن غافل، بمعجمة وفاء، ابن حبيب الهذلي، وهذيل بن مدركة، وكان أبوه مسعود حالف في الجاهلية عبد الحارث بن زهرة، وأمه أم عبدٍ هذليةٌ أيضًا. أسلم قديمًا بمكة سادس ستةٍ لمَّا مرَّ به صلى اللَّه عليه وسلم وهو يرعى غنمًا لعقبة بن أبي مُعَيط، فقال له: "يا غلام؛ هل من لبن؟ " قال: نعم، ولكنِّي مؤتمن (¬2)، قال: "فهل من شاةٍ لا ينزو عليها الفحل؟ " فأتاه بها، فمسح ضرعها، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3208)، وصحيح مسلم (2643). (¬2) قوله: (ولكني مؤتمن) فإن قيل: كيف استباح النبي صلى اللَّه عليه وسلم شرب اللبن وهو مِلْكٌ لغيره وأملاك الكفار لم تكن أُبيحت يومئذٍ ولا دماؤهم؟ أجاب السهيلي: بأن العرب في الجاهلية كان في عرف العادة عندهم =

فنزل لبنٌ، فحلبه في إناءٍ، فشرب منه، وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقلص" فقلص (¬1). ثم هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وشهد بدرًا، وبيعة الرضوان، والمشاهد كلَّها، وصلى إلى القبلتين، وكان صلى اللَّه عليه وسلم يكرمه ويدنيه ولا يحجبه؛ فلذلك كان كثير الوُلوج عليه صلى اللَّه عليه وسلم، ويمشي أمامه ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويُلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس. . أدخلهما في ذراعيه، وكان مشهورًا بين الصحابة رضي اللَّه عنهم بأنه صاحب سرِّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وسواكه، ونعليهِ، وطَهورهِ في السفر. وبشَّره صلى اللَّه عليه وسلم بالجنة، وقال: "رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد" (¬2). وكان شبيهًا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في سَمته وهديه ودأبه، وكان خفيف اللحم، شديد الأُدمة، نحيفًا، قصيرًا جدًّا نحو ذراع، ولمَّا ضحك الصحابة رضي اللَّه عنهم من دقَّة رِجليه. . قال صلى اللَّه عليه وسلم: "لَرِجْلُ عبد اللَّه في الميزان أثقل من أُحُد" (¬3). وَلِيَ قضاء الكوفة ومالها في خلافة عمر رضي اللَّه عنه وصدرًا من خلافة عثمان ¬

_ = إباحة اللبن، وكانوا يتعهدون بذلك رعاتهم، ويشترطون عليهم عند عقد إجارتهم ألَّا يمنعوا اللبن من أحدِ مرَّ بهم، وللحكم بالعرف في الشريعة أصول تشهد له. اهـ، قلت: وقد ذكر بعض أئمتنا رضي اللَّه عنه في خصائص النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه أُبيح له صلى اللَّه عليه وسلم أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج النبي صلى اللَّه عليه وسلم إليهما، وأنه يجب على صاحبهما البذل له صلى اللَّه عليه وسلم؛ قال اللَّه تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قاله النجم الغيطي. اهـ "مدابغي" (¬1) أخرجه ابن حبان (6504)، وأبو يعلى في "مسنده" (4985)، والطبراني في "الكبير" (9/ 79) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. وفي هامش (غ): (قال عبد اللَّه: فلما رأيت هذا. . قلت: يا رسول اللَّه؛ علمني فمسح رأسه فقال: "بارك اللَّه فيك؛ فإنك غلام مُعلَّم"). (¬2) أخرجه الحاكم (3/ 317)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 120) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه، وليس عندهم: "وسخطتُ لها ما سخط"، والحديث عند البزار في "مسنده" (1986) بلفظ: "وكرهتُ لها ما كره لها ابن أم عبد". (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (237)، والإمام أحمد (1/ 114)، وأبو يعلى في "مسنده" (539) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه.

رضي اللَّه عنه، ثم رجع إلى المدينة ومات بها -وقيل: بالكوفة- سنة اثنتين وثلاثين عن بضعٍ وستين سنة، وصلى عليه الزبير ليلًا، ودفنه بالبقيع بإيصائه له بذلك؛ لكونه صلى اللَّه عليه وسلم كان قد آخى بينهما. رُوي له ثمان مئة حديث وثمانية وأربعون، أخرجا منها أربعةً وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين، روى عنه الخلفاء الأربعة، وكثيرون من الصحابة ومن بعدهم رضي اللَّه تعالى عنهم. (قال: حدثنا) أي: أنشأ لنا خبرًا حادثًا، وهذا أصل لما استعمله المحدِّثون من أن (حدثنا) لما سمع من الشيخ، و (أخبرنا) لما قُرئ عليه، و (أنبأنا) لما أجازه، على الخلاف في ذلك (¬1). (رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو الصادق) في جميع ما يقوله؛ إذ هو الحق الصدق المطابق للواقع. (المصدوق) فيما أُوحي إليه؛ لأن الملَك يأتيه بالصدق، واللَّه سبحانه وتعالى يصدقه فيما وعده به، والجمع بينهما للتأكيد؛ إذ يلزم من أحدهما الآخرُ، وعكس ذلك نحو ابن صياد، فهو كاذبٌ مكذوب، ومن ثَمَّ لما قال للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: يأتيني صادقٌ وكاذبٌ، وأرى عرشًا على الماء. . قال له: "خُلِّط عليك" (¬2). (إن) بكسر الهمزة على حكاية لفظه صلى اللَّه عليه وسلم (أحدكم) أي: معشر بني آدم، و (أحد) هنا بمعنى واحد، لا بمعنى (أحد) التي للعموم؛ لأن تلك لا تستعمل إلا في النفي، نحو: لا أحد في الدار، أصله: وحد، قُلبت واوه المفتوحة همزةً على غير قياس لخفَّتها، بخلاف المضمومة كوجوه وأُجْوُه؛ فإنه مقيسٌ ¬

_ (¬1) (أخبرنا) هو كـ (أنبأنا) و (حدثنا) بمعنًى واحد عند مالك والبخاري رضي اللَّه تعالى عنهما، ومعظم الحجازيين والكوفيين ومذهب الشافعي رحمه اللَّه تعالى وجمهور المشارقة -قيل: وأكثر المحدثين- أن (حدثنا) لِمَا سُمع من الشيخ خاصَّة وهو الأعلى، و (أخبرنا) لما قُرئ عليه، وأما (أنبأنا). . فيكون في الإجازة، فهو أدنى مما قبله، ومما اعتيد غالبًا في الرسم (ثنا) لـ (حدثنا)، و (أنا) لـ (أخبرنا)، و (بنا) لـ (أنبأنا). اهـ "شرح الشمائل" لابن حجر (ص 40 - 41) (¬2) أخرجه البخاري (1354)، ومسلم (2930) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

لثقلها (¬1)، والمكسورة كوسادة وإسادة؛ فإنه قيل: سماعي، وقيل: قياسي. (يُجمع) أي: يضم ويحفظ (خلقه) أي: مادة خلقه؛ وهو الماء الذي يخلق منه (في بطن) أي: رحم (أمه أربعين يومًا) حال كونه (نطفةً) (¬2) أي: منيًا في مدة الأربعين، فجمعه فيها: مكثه في الرحم يتخمَّر حتى يتهيأ للخلق، أو ضمُّ متفرقه؛ لأن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة متفرقًا، فيجمعه اللَّه تعالى في محل الولادة من الرحم في هذه المدة. ودليله: أنه جاء في بعض طرق هذا الحديث عن ابن مسعود -كما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره- تفسيرُ ذلك الجمع بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد اللَّه تعالى أن يخلق منها بشرًا. . طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفرٍ وشعرٍ، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دمًا في الرحم، فذلك جمعها، وذلك وقت كونها علقة (¬3). وجاء تفسير الجمع بمعنًى آخر عند الطبراني وابن منده بسندٍ على شرط الترمذي والنسائي: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "إن اللَّه تعالى إذا أراد خَلْق عبدٍ فجامع الرجل المرأة. . طار ماؤه في كل عرقٍ وعضوٍ منها، فإذا كان يوم السابع. . جمعه اللَّه تعالى، ثم أحضره كلُّ عرقٍ له دون آدم" (¬4)، [ثم قرأ]: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (¬5)، ويشهد لهذا المعنى قوله صلى اللَّه عليه وسلم لمن قال له: ولدت امرأتي غلامًا أسود: "لعله نزعه عِرقٌ" (¬6). (ثم) عَقِب هذه الأربعين (يكون) في ذلك المحل الذي اجتمعت فيه النطفة (علقة) وهي قطعة في دمٍ لم تيبس (مثل ذلك) الزمن الذي هو أربعون يومًا (ثم) عقب الأربعين الثانية (يكون) في ذلك المحل (مضغة) أي: قطعة لحم قدرَ ما يمضغ (مثل ذلك) الزمن، وهو أربعون. ¬

_ (¬1) سقطت من النسخ كلها إلا من (غ) كلمتان هما: (لخفتها) و (لثقتها). (¬2) قوله: (نطفة) جُعلت متنًا في نسخ الشرح، وليست في نسخ المتن، ولا في "الصحيحين" فتنيه. (¬3) انظر "تفسير ابن أبي حاتم" (3156) عن الإمام السدي رحمه اللَّه تعالى. (¬4) يعني إذا كان يوم السابع. . جمعه اللَّه تعالى، ثم يعرضه على كل أصلٍ له من لدن آدم إلى جمعه من ذلك المني؛ أي: على آدم فمن دونه. اهـ هامش (غ) (¬5) انظر "المعجم الكبير" (19/ 290) عن سيدنا مالك بن الحويرث رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه البخاري (5305)، ومسلم (1500) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

(ثم) بعد انقضاء الأربعين الثالثة (يرسل) اللَّه (الملك) أي: الموكل بالرحم كما يأتي، وظاهر (ثم) هنا: أن إرساله إنما يكون بعد الأربعين الثالثة، لكن في رواية في "الصحيح": "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين -وفي أخرى: أو خمس وأربعين ليلة- فيقول: يا رب؛ أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ " (¬1). وفي أخرى: "إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلةً. . بعث اللَّه إليها ملكًا، فصوَّرها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها" (¬2). وفي أخرى لمسلم: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك" (¬3). وفي أخرى له: "إن ملكًا موكلًا بالرحم، إذا أراد اللَّه تعالى أن يخلق شيئًا بإذن اللَّه لبضعٍ وأربعين ليلة. . . " وذكر الحديث (¬4). وفي أخرى عند الشيخين: "إن اللَّه تعالى قد وكل بالرحم ملكًا فيقول: أي ربِّ نطفةٌ، أي ربِّ علقةٌ، أي ربِّ مضغةٌ" (¬5). وجمع العلماء بينها بأن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة، فيقول وقت النطفة: يا رب؛ هذه نطفة، وكذا في الآخرين، فكل وقتٍ يقول فيه ما صارت إليه بأمر اللَّه تعالى، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. وأول علم المَلَك أنها ولا إذا صارت علقةً، وهو عقب الأربعين الأُولى، وحينئذٍ يكتب الأربعة الآتية على ما يأتي فيه، ثم له فيه تصرفٌ آخر بالتصوير المتكرر، أو المختلف باختلاف الناس على ما يأتي أيضًا. قال القاضي وغيره: (والمراد بإرسال الملك في هذه الأشياء: أمره بها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2644) عن سيدنا حذيفة بن أسيد رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح مسلم (2645) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح مسلم (2645/ 4). (¬4) صحيح مسلم (2645/ 4). (¬5) صحيح البخاري (6595)، وصحيح مسلم (2646) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. وقوله: (نطفة) بالرفع؛ أي: وقعت في الرحم نطفةٌ، وللقابسي بالنصب؛ أي: خلقت نطفةً، وكذا ما بعده. اهـ "مدابغي"

وبالتصرف فيها بهذه الأفعال، وإلَّا. . فقد صرح في الحديث بأنه موكلٌ بالرحم، وأنه يقول: يا رب؛ نطفة. . . إلخ) (¬1). (فينفخ فيه الروح) هو ما يحيا به الإنسان، وهو من أمر اللَّه تعالى كما أخبر (¬2)، والخلاف في تحقيقه طويلٌ، ولفظه مشتركٌ بين عدة معانٍ، قال القاضي عياض وأقره المصنف وغيره: (وظاهر الحديث: أن الملك ينفخ الروح في المضغة، وليس مرادًا، بل إنما ينفخ فيها بعد أن تتشكَّل بشكل ابن آدم، وتتصوَّر بصورته؛ كما قال اللَّه تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (¬3) أي: بنفخ الروح فيه. ولك أن تقول: ليس ظاهره ذلك، وإنَّما ظاهره: أن الإرسال بعد الأربعين الثالثة المنقضي اسم المضغة بانقضائها، وتلك البَعْدية لم تُحدَّد، فيحتمل أنه بعد الأربعين الثالثة يصور في زمنٍ يسيرٍ، وبعد تصويره يُرسل الملك لنفخ الروح. ثم رأيت القرطبي في "المفهم" صرَّح بما ذكرته من أن التصوير إنَّما هو في الأربعين الرابعة (¬4)، ثم كون التصوير في الأربعين الثالثة أو بعدها -على ما تقرر- ينافيه ما في رواياتٍ أُخر أنه عقب الأربعين الأُولى. وأجاب القاضي عياض بأن هذه الروايات ليست على ظاهرها، بل المراد: أنه يكتب ذلك ويفعله في وقتٍ آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأُولى غير موجودٍ عادةً، وإنَّما يقع في الأربعين الثالثة مدةِ المضغة (¬5)، كما نصَّت عليه الآية المذكورة: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} (¬6)، وفيه نظر وإن أقره المصنف وغيره عليه؛ فإنَّ مجرد التصوير لا يستدعي خلق العظام، فلا دليل في الآية لما ذكره. وحينئذٍ يمكن أن يجمع بأنه عقب الأربعين الأُولى يُرسل الملك لتصوير تلك العلقة ¬

_ (¬1) انظر "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (8/ 128) وهو هنا بتصرف. (¬2) أي في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. (¬3) انظر "إكمال المعلم" (8/ 127)، و"شرح صحيح مسلم" للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى (16/ 191). (¬4) انظر "المفهم" (6/ 655). (¬5) قوله: (مدة المضغة) بالجر بدلًا من الأربعين الثالثة. (¬6) انظر "إكمال المعلم" (8/ 127).

تصويرًا خفيًا، ثم يُرسل في مدة المضغة أو بعدها على ما مر، فيصورها تصويرًا ظاهرًا مقارنًا لخلق عظمها ونحوه، فتأمل ذلك؛ فإني لم أَرَ من صرح به، مع أن الجمع لا يتمُّ إلَّا به. أو يقال: إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يصور بعد الأربعين الأُولى، ومنهم من لا يصور إلا في الأربعين الثالثة أو بعدها. ثم رأيت في روايةٍ لمسلم ما يدفع الجمع الأول وهي: "إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة. . بعث إليها ملَكًا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها ولحمها وعظامها، ثم يقول: يا رب؛ أذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي ربك بما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب؛ أجله، فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب؛ رزقه، فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد ولا ينقص" (¬1)؛ ففيها التصريح بأنَّ خلق العظم يكون عقب الأربعين الأُولى، فإنْ حملنا خلقه هنا على ابتدائه، وبعد الأربعين الثالثة على تمامه. . أمكن ما ذكرناه من الجمع الأول، وإلَّا. . تعيَّن الجمع الثاني. ثم رأيت بعضهم ذكر ما يؤيد ما ذكرته من الجمعين، حيث قال بعد رواية مسلم المذكورة: فأوَّلَها بعضهم على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقةً إلى أجزاء، فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للَّحم، وبعضها للعظم، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، وهذا خلاف ظاهر الحديث، بل ظاهره: أنه يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها، وقد يكون ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، وقد يكون هذا في بعض الأجنَّة دون بعضٍ. ومرت رواية في تفسير الجمع تقتضي أن التصوير يكون يوم السابع، وهو مذهب الأطباء؛ لتصريحهم بأن المني إذا نزل الرحم. . أزبد وأرغى ستةَ أيامٍ أو سبعة، وفيها يصور من غير استمدادٍ من الرحم، ثم يستمد منه، وتبتدأ خطوطه ونقطه بعد ثلاثة أيَّام، ثم بعد ستة أيَّام -وهو خامسَ عشرَ العلوق- ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 201).

تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

علقة، ثم تظهر الأعضاء، ويتنحى بعضها عن مماسَّة بعض، وتمتد رطوبة النخاع، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأسُ عن المنكبين، والأطرافُ عن الأصابع. قالوا: وأقل مدة يتصور الذكر فيها ثلاثون يومًا، والزمان المعتدل في تصور الجنين خمسةٌ وثلاثون يومًا، وقد يتصور في خمسةٍ وأربعين يومًا. وأجاب بعضهم بجوابٍ آخر غير ما قدمناه، فحَمَلَ حديثَ المتن على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأُولى وصفُ المني، وفي الأربعين الثَّانية وصفُ العلقة، وفي الثالثة وصفُ المضغة وإن كانتْ خِلْقته قد تمَّت وتمَّ تصويره. وفي روايةٍ في سندها السدي -وهو مختلفٌ في توثيقه- عن ابن مسعود وجماعة من الصّحابة رضي اللَّه عنهم: أن التصوير لا يكون قبل ثمانين يومًا (¬1)، وبه أخذ طوائف من الفقهاء، وقالوا: أقل ما يتبيَّن فيه خَلْق الولد أحدٌ وثمانون يومًا؛ لأنَّه لا يكون مضغة إلَّا في الأربعين الثالثة (¬2)، ولا يتخلَّق قبل أن يكون مضغة. تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح] قال لزوجته: إن كنت حاملًا فأنت طالق، فولدت لدون ستة أشهر من التعليق. . طلقت، سواء كان يطؤها أم لا؛ لتحقق الحمل حينئذ عند التعليق؛ لأن أقل مدته ستة أشهر، ونازع ابن الرفعة فيما إذا كان يطؤها بأن كمال الولد ونفخ الروح فيه يكون بعد أربعة أشهر؛ كما يشهد به الخبر، فإذا أتت به لخمسة أشهر مثلًا. . احتمل العلوق به بعد التعليق، قال: والستة إنما هي معتبرةٌ لحياة الولد غالبًا. وأجاب عنه أبو زرعة بأن الخبر ليس فيه أن النفخ يكون عقب الأربعة، فإن لفظه: "ثم يأمر اللَّه الملك، فينفخ فيه الروح" و (ثم) تدل على تراخي أمر اللَّه بذلك، ومدته مجهولةٌ، لكن لما استنبط الفقهاء من القرآن -أي: من آية: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مع آية: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} - أن أقلَّ مدة الحمل ¬

_ (¬1) أخرجها ابن جرير في "تفسيره" (6566). (¬2) أي: في ابتدائها، وهو معنى قوله: (أحد وثمانون يومًا) فتأمل. اهـ هامش (ج)

ستةُ أشهر. . علم أنها مدته، وأن نفخ الروح عندها. اهـ وفي ادعائه أن هذا الاستنباط يدل على أن النفخ عند الستة أشهر وقفةٌ، بل لا دلالة له على ذلك بوجهٍ، كما هو ظاهرٌ ممَّا مر ومما سيأتي. والأَولى أن يقال: إن (ثم) دلت على التراخي، ولا تعرف مدته، ولا أنها تختلف باختلاف الأولاد أو لا، فأُنيط بالأمر المحقق وهو الستة؛ لأن العصمة ثابتةٌ بيقين، فلا ترفع إلا به، فاندفع قول ابن الرفعة: إذا أتت به لخمسة أشهر مثلًا. . احتمل العلوق به بعد التعليق. ووجه اندفاعه: أن كل احتمالٍ لا يرفع العصمة، وإنَّما يرفعها أمر محقَّقٌ أو مظنون، وكلاهما مُنْتَفٍ هنا، ولذلك مزيدٌ ذكرته في "شرح الإرشاد" في (باب الطلاق) (¬1). قال القاضي: (ولم يُختلف أن نفخها بعد مئةٍ وعشرين يومًا، قال القاضي: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلَّا بعد أربعة أشهر) (¬2) أي: عقبها كما صرَّح به جماعةٌ، وخبر الإمام أحمد المصرِّح بأن الأربعين الرابعة يخلق فيها العظام، ثم بعدها ينفخ الروح. . ضعيف (¬3). قال بعضهم: وهو غلطٌ بلا شك؛ فإنها تنفخ بعد الأربعين الثالثة، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: (أنها تنفخ بعد أربعة أشهرٍ وعشرة أيام) (¬4) لكن في إسناده نظر، لكن أخذ به الإمام أحمد. ودخوله في الخامس وحركة الجنين في الجوف قرينةٌ غالبًا لذلك النفخ، قيل: وهذا حكمة كون عدة الوفاة أربعة أشهرٍ وعشرًا؛ لأنها بالشروع في الخامس من غير ظهور حملٍ يتبيَّن براءتها منه، والعشرة احتياط، أو أن الروح تنفخ فيها كما قاله ابن المسيب (¬5)، وتبعه أحمد، وروي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما. ¬

_ (¬1) انظر "فتح الجواد" (2/ 161 - 162). (¬2) انظر "إكمال المعلم" (8/ 123). (¬3) مسند الإمام أحمد (1/ 374) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرج نحوه اللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" (1060). (¬5) قوله: (والعشرة احتياط أو أن الروح) هكذا في النسخ الصحاح بـ (أو) أي: والعشرة إما احتياط، وإما لأن الروح تنفخ فيها. اهـ "مدابغي"

ويؤخذ منه: أن السِّقط لا يُصلَّى عليه حتَّى يبلغ تلك المدة؛ لأنَّه قبلها جماد، ومعنى نفخه الروح: أنه سببٌ لخلق الحياة عنده؛ لأنه وضعًا: إخراج ريحٍ من النافخ يتصل بالمنفوخ فيه، وهذا غير مؤثرٍ شيئًا، وما يحدث عنده ليس به، بل بإحداث اللَّه تعالى، فهو مُعرِّفٌ عادي، ونسبة الخلق والتصوير إليه فيما مرَّ مجازية؛ لأنه آلةٌ في التصوير والتشكيل بإقدار اللَّه تعالى له بالأفعال؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}. والإيجادُ على هذا الترتيب العجيب مع قدرته تعالى على إيجاده كاملًا كسائر المخلوقات في أسرع من لحظةٍ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} كنايةٌ عن مزيد السرعة (¬1)، وإلَّا. . فلا قول؛ لأنَّه بمجرد تعلُّقِ الإرادة به يوجد في أقل من زمن (كن) لو تصور. . يمكن (¬2) أن يقال في حكمته ما قالوه في خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيَّام؛ وهي تعليمه سبحانه وتعالى لعباده التأنِّي في أمورهم. أو يقال: حكمته: إعلام الإنسان بأن حصول الكمال المعنوي له إنَّما يكون بطريق التدريج، نظيرَ حصول الكمال الظاهر له بتدرُّجه في مراتب الخلق، وانتقاله من طورٍ إلى طورٍ إلى أن يبلغ أشده، فكذلك ينبغي له في مراتب السلوك أن يكون على نظير هذا المنوال، وإلَّا. . كان راكبًا متنَ عمياء، وخابطًا خبطَ عشواء (¬3). (ويؤمر) الملك، ظاهر سياقه: أن هذا الأمر والكتابة بعد الأربعين الثالثة، ورواية البخاري: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقةً مثله، ثم يكون مضغةً مثله، ثم يُبعث إليه الملك، فيُؤمر بأربع كلمات: فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح" (¬4) كالصريحة في ذلك، لكن ¬

_ (¬1) في النسخ: (إنَّما أَمْرنا) والصواب ما أثبت. وقوله: (كناية) خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وما في الآية كناية، أو مفعول مطلق؛ أي: كنى بهذه الآية عن مزيد السرعة. اهـ "مدابغي" (¬2) خبرٌ لقوله: (والإيجادُ على هذا. . .). (¬3) الخبط: الضرب بالأيدي. والعشواء: الناقة التي في بصرها ضعفٌ، تخبط إذا مشت، ولا تتوقَّى شيئًا، والمراد هنا: التسرُّع، وعدم الدقة والتمحيص. (¬4) صحيح البخاري (7454) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه.

في روايات أُخر لمسلم وغيره: أن كتابة تلك الأمور عقب الأربعين الأُولى (¬1)، وبهذا أخذ جماعةٌ من الصحابة. وجمع بعضهم بأن ذلك بختلف باختلاف الناس؛ فمنهم من يكتب له ذلك عقب الأربعين الأُولى، ومنهم من كتب له ذلك عقب الأربعين الثالثة، ولعل الجمع بهذا أَولى من قول القاضي عياض -وإن أقره المصنف-: إن (ثم يبعث) وما بعده معطوفٌ على (يجمع) ومتعلقاته، لا على (ثم يكون مضغة مثله) بل هو و (ثم يكون علقة مثله) معترضان بين المعطوف والمعطوف عليه (¬2)، ومن قول غيره (¬3): إنها تكون مرتين: مرة في السماء، وأخرى في بطن الأم. وظاهر رواية البخاري: أن النفخ بعد الكتابة، وفي رواية البيهقي عكسه (¬4)، قيل: فإما أن يكون من تصرُّف الرواة، أو المراد: ترتيب الإخبار فقط (¬5)، لا ترتيب ما أُخبر به. وأقول: الأَولى: تقديم رواية البخاري؛ لأنها أصح وأثبت. (بأربع كلمات) في خبر "صحيح ابن حبان": "خمس" الثلاثة الآتية، والأثر، والمضجع (¬6)؛ أي: القبر، وفي حديث صحيحٍ أيضًا: "أذكرٌ أو أنثى؟ شقيٌّ أو سعيد؟ وما عمره؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول اللَّه تعالى، ويكتب الملك، فإذا مات الجسد. . دُفن من حيثُ أُخِذ ذلك التراب" (¬7) ولا تنافي؛ لأن الزائد على تلك الأربع أُعلم به صلى اللَّه عليه وسلم بَعْدُ. (بكتب) بإعادة الجار (¬8)، وقيل: مضارع، ولعله رواية أخرى (¬9). ¬

_ (¬1) تقدم ذكر بعض روايات مسلم رحمه اللَّه تعالى، انظر (ص 201). (¬2) انظر "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى (16/ 191). (¬3) أي: وأَولى من قول غيره. (¬4) سنن البيهقي الكبرى (7/ 421) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬5) أي: ترتيب خبرٍ على خبر، لا ترتيب الأفعال المخبرة عنها. اهـ هامش (غ) (¬6) صحيح ابن حبان (6150) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه. وقوله: (الأثر) أي: مواضع مشيه وقعوده وغيرهما. (¬7) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (6566) عن سيدنا ابن مسعود وابن عباس وغيرهما رضي اللَّه عنهم. (¬8) في بعض النسخ زيادة، والصواب ما أثبت، والزيادة موجودة في شرح قوله الآتي: (أو سعيد) بعد قوله: (بين عيني الولد). (¬9) قوله: (بإعادة الجار. . . إلخ) عبارة الشيخ الشبرخيتي (بكتب) ضبط بوجهين: أحدهما: بموحدة مكسورة، =

(رزقه) قليلًا أو كثيرًا، حلالًا أو حرامًا، ومن أي جهةٍ هو، ونحو ذلك، وهو ما يُتَناول لإقامة البدن وانتفاعه ولو حرامًا، خلافًا للمعتزلة. (وأجله) طويلًا أو قصيرًا، وهو مدة الحياة (وعمله) صالحًا أو فاسدًا، وفي رواية حذفه (¬1) (وشقي) في الآخرة، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو شقي (أو سعيد) فيها. والمراد بأمر الملك بذلك: إظهار ذلك له، وأمره بإنفاذه وكتابته، وإلَّا. . فقضاء اللَّه تعالى وعلمه وإرادته لكل ذلك سابق على ذلك في الأزل لقدمه، وفي خبر عند البزار: أن كتابة ذلك ككل ما هو لاقٍ يكون بين عينيه (¬2)، وفي حديثٍ آخر: أنه يكتب ذلك في صحيفةٍ بين عيني الولد، وهذه الكتابة غير كتابة المقادير السابقة على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ كما في خبر مسلم (¬3). وظاهر الحديث: أن كل أحدٍ يكتب فيه ذلك، وتجويزُ بعضهم أن المراد: ذكر جملة ما يؤمر به، لا أن كل شخصٍ يُؤمَر فيه بهؤلاء الأربع. . يحتاج لدليل. وظاهر الحديث أيضًا: الأمر بكتابة تلك الأربع ابتداءً، وليس مرادًا، وإنما المراد -كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة-: أنه يؤمر بذلك بعد أن يسأل عنها فيقول: يا رب؛ ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ وهل هو شقيٌّ أو سعيدٌ؟ فمن تلك الأحاديث: "إن النطفة إذا استقرَّت في الرحم. . أخذها الملك بكفِّه فقال: أي رب؛ أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرضٍ تموت؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب -أي: اللوح المحفوظ، وقد يطلق على ¬

_ = وكاف مفتوحة، ومثناة ساكنة، ثم موحدة على البدل من قوله (أربع)، والآخر: بتحتانية مفتوحة بصيغة الفعل المضارع على الاستئناف، ورواية البخاري: (فيكتب) بزيادة الفاء، ورُوي بفتح الياء وضمها فيهما؛ أي: في رواية البخاري، ورواية المؤلف على الضبط الثاني مبنبًا للفاعل أو للمفعول وهو أوجه؛ لأنه وقع في رواية آدم وأبي داوود وغيرهما: "فيؤذن بأربع كلماتِ فيكتب". انتهت، وهي مأخوذة من "فتح الباري" (11/ 482) اهـ "مدابغي" (¬1) عند البخاري (6594) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 196) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، وعزاه للبزار وأبي يعلى. (¬3) صحيح مسلم (2653) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.

العلم القديم، وليس مرادًا هنا؛ لأن ذلك لا يطَّلِع عليه غير اللَّه تعالى- فإنك تجد قصَّة هذه النطفة، فينطلق، فيجد قصتها في أُمِّ الكتاب: تُخلَق فتأكل رزقها، وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها. . قُبضت فدُفنت في المكان الذي قُدر لها" (¬1). وفي أخرى أنه يقول: "يا ردب؛ مُخلَّقة أو غير مُخلَّقة؟ فإن كانت غير مخلقة. . قذفتها الأرحام دمًا، وإن قيل: مخلقة. . قال: يا رب؛ أذكرٌ أم أنثى؟. . . " (¬2) وذكر ما مر. واستقرارها: صيرورتها علقة أو مضغة؛ لأنها قبل ذلك غير مجتمعةٍ كما مر، فلا تؤخذ بالكف؛ وسُميت بعد الإستقرار نطفةً باعتبار ما كان. واستفيد من عدم اجتماعها قبل صيرورتها علقةً: أنه لا يدار على إلقائها حكمٌ ما دامت نطفة، فلا تثبت بها أمية ولد، ولا تنقضي بها عدة، قال الحنابلة وغيرهم: ولا يحرم التسبب إلى إلقائها؛ لأنها لم تنعقد بَعْدُ، وقد لا تنعقد ولدًا؛ بخلاف العلقة، لا يجوز إسقاطها لانعقادها؛ أي: وهو يغلب على الظن صيرورتها ولدًا، ومن ثَمَّ جاء في بعض الروايات السابقة: أن الملك لا يعلم أن النطفة ولدٌ حتى تصير علقة. وقولُ جمعٍ من الفقهاء: (يجوز الإسقاط ما لم ينفخ فيه الروح كالعزل) (¬3). . ضعيفٌ (¬4)؛ إذ لا جامع بينهما؛ فإن غاية ما في العزل تسببٌ إلى منع الانعقاد، فكيف يقاس به ولدٌ انعقد، وربما تصور؟! ويؤيّد ما قررناه من حرمة إسقاط العلقة قول المالكية: يثبت بها الاستيلاد، ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور" (6/ 9) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه بنحوه، وعزاه للحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن أبي حاتم. (¬2) ذكره في "الدر المنثور" (6/ 10) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه بنحوه، وعزاه لابن جرير. (¬3) قوله: (يجوز) معتمد، فقوله: (ضيف) ضعيف، وعبارة (م ر) في كتاب أمهات الأولاد: والراجح تحريمه بعد نفخ الروح مطلقًا -أي: ولو من زنا- وجوازه قبله. اهـ "مدابغي" قال الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة" (8/ 241): (فرع: اختلفوا في التسبب لإسقاط ما لم يصل لحدِّ نفخ الروح فيه، وهو مئة وعشرون يومًا، والذي يتجه -وفاقًا لابن العماد وغيره- الحرمة) ثم قال: (ويحرم استعمال ما يقطع الحبل من أصله كما صرَّح به كثيرون، وهو ظاهر). قال العلامة الشرواني رحمه اللَّه تعالى في "حاشيته على التحفة" (8/ 241): (قوله: "والذي يتجه. . . " سيأتي في "النهاية" في أمهات الأولاد خلافُه. وقوله: "من أصله" أي: أما ما يبطئ الحمل مدّةً ولا يقطعه من أصله. . فلا يحرم كما هو ظاهر، ثم الظاهر: أنه إن كان لعذرٍ كتربية ولدٍ. . لم يكره أيضًا، وإلا. . كره. اهـ "ع ش"). (¬4) كما ضعف هذا القول في عدة مواضع من "شرح المنهاج" راجع أول النكاح، وفصل عدة الحامل، وبحث الغرة، واللَّه تعالى أعلم. اهـ هامش (غ)

فأداروا عليها حكم الوَلَدية، وهو مستلزمٌ لحرمة الإسقاط، ولا ينافيها عدمُ انقضاء العدة بها، وعدم ثبوت الاستيلاد عندنا؛ لأنا وإن منعنا تسميتها ولدًا وحملًا كما يأتي، لا نمنع حرمة إسقاطها؛ لما قررته عند عدم انقضاء العدة بها آنفًا بقولي: (وهو يغلب على الظن. . . إلخ). فإن صارت مضغة، وشهد أربع قوابل بتصويرها، أو بأنها أصل آدمي، ولم يتشككن فيه. . انقضت بها العدة، بخلاف أُمِّيَّة الولد، لا تثبت إلَّا بإلقاء صورةٍ ظاهرة التخطيط. والفرق: أن مدار العدة على تحقُّق براءة الرحم، وهو متحققٌ بإلقاء المضغة المذكورة، ومدار أُمِّيَّة الولد على إلقاء ما يسمى ولدًا، وما لم يظهر التخطيط لا يسمى ولدًا، فإثباتُ المالكية انقضاء العدة، وأُمِّيَّة الولد بوضع العلقة فما فوقها بعيدٌ؛ إذ لا قرينة على الحمل حتى ترفع به العدة المحققة، واحتماله مع عدم القرينة لا أثر له، وأُمِّيَّة الولد لم تثبت إلَّا بوضع الولد، وهو لا يسمى ولدًا إلا إن ظهرت الصورة فيه، ولا يسمى حملًا إلا إن ظهر أو قامت عليه قرينة، فقبل ذلك لا يسماه، فلا يدخل في: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ} ونحوه، بل قيل: هذا الحديث يقتضي أنه لا يسمى ولدًا قبل أربعة أشهر؛ لأنه سماه قبلها نطفةً وعلقةً ومضغةً، ولا يُسمى شيءٌ من ذلك بولدٍ لغةً ولا عرفًا، فلا تثبت به أُمِّيَّة الولد. ولا يقال: إنه مشتقٌّ من الولادة؛ وهي: الخروج من الرحم؛ لأنه يلزم عليه صيرورتها أمَّ ولدٍ بخروج النطفة، والقولُ به بعيدٌ عن دليل الشرع، وإنما صار بعض الفقهاء إلى صيرورتها أُمِّ ولدٍ بدون ما ذكرناه؛ حرصًا على عتقها، وتشوفًا إليه ولو بسببٍ ضعيفٍ. اهـ ومنعُه تسميته ولدًا لغةً وعرفًا قبل الأربعة. . ممنوعٌ، بل حيث وجد ما شرطناه فيه آنفًا. . يسمى ولدًا عرفًا (¬1)؛ بخلاف النطفة، لا تسمى مطلقًا، وكذا العلقة، وضمانه بالجناية نظير ما مر في العدة. وقال علي كرم اللَّه وجهه: (لا يضمن حتى تمضي عليه الأطوار السبعة المذكورة ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (نسميه عرفًا)، وفي أخرى: (سمي به عرفًا) وفي غيرها غير ذلك.

أولَ "المؤمنين") (¬1) وهي: السلالة، والنطفة، والعلقة، والمضغة، ثم العظام، ثم كسوَتها لحمًا، ثم إنشاؤها خلقًا آخر. (فو) اللَّه (الذي لا إله غيره) (¬2) فيه الحلف من غير استحلاف، ولا كراهة فيه إذا كان لعذر؛ كتأكيد أو ترهيب، أو تعجُّب أو تعجيب كما هنا؛ فإن العرب إذا تعجَّبت من شيء. . أقسمت عليه، وزاد (الذي. . . إلخ) لمناسبة المقام؛ فإنه تعالى المنفرد بالألوهية، المستلزمة لانفراده بخلق الأعمال من خيرٍ وشرٍّ، المعبَّر عنه فيما مر بالإيمان بالقدر، ومن ثَمَّ كان هذا المحلوف عليه مأخوذًا من آيات القدر؛ نحو: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}، وأحاديثِهِ؛ كحديث محاجَّة آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام (¬3)، وحديث: "كلٌّ ميسرٌ لما خلق له" (¬4)، وحديث: "اعملوا على مواقع القدر" (¬5). (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون) بالرفع؛ لأن (ما) كفَّت (حتى) (¬6) (بينه وبينها إلا ذراع) هو من باب التمثيل المقرر في علم البيان، فهو تمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه إحدى الدارين؛ أي: ما بقي بينه وبين أن يصلها إلا كمن بقي بينه وبين مقصده ذراع. (فيسبق عليه الكتاب) أي: المكتوب له في بطن أمه، مستندًا إلى سابق العلم الأزلي فيه، ويصح بقاؤه على مصدريته. ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن عبد البر في "الإستذكار" (27539). (¬2) هكذا في جميع النسخ بالجمع بين الجلالة وصفته، وعبارة المناوي: (فوالذي: صفة لمقسم به محذوف؛ أي: واللَّه الذي، وفي رواية "البخاري": "فواللَّه؛ إن أحدكم"، وفي رواية "ابن ماجه": "فوالذي نفسي بيده" انتهت، والفاء فصيحة. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه البخاري (3409)، ومسلم (2652) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (7551)، ومسلم (2649) عن سيدنا عمران بن حصين رضي اللَّه عنهما. (¬5) أخرجه ابن حبان (338)، والإمام أحمد (4/ 186) عن سيدنا عبد الرحمن بن قتادة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬6) قوله: (بالرفع لأن "ما" كفت حتى) قلَّد في ذلك قول الشارح الفاكهاني: يتعين رفع (يكون) لأن (ما) نافية قطعت عمل (حتى) عنه. اهـ، وما زعمه من التعين ممنوعٌ، بل لا يصح؛ فقد قال الطييي في "شرح المشكاة": (حتى) هي الناصبة و (ما) نافية ولم تكف (حتى) عن العمل، فتكون منصوبة بـ (حتى). وأجاز غيره كون (حتى) ابتدائية. . . ونسبة النصب إلى (حتى) مجازية؛ لأن النصب بـ (أن) مضمرة بعدها كما في كتب النحو. اهـ "مدابغي"

(فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها) تفريعٌ على ما مهَّده صلى اللَّه عليه وسلم من كتابة السعادة والشقاوة عند نفخ الروح مطابقين لما في العلم الأزلي؛ لبيان أن الخاتمة إنما هي على وفق تلك الكتابة، ولا عبرة بظواهر الأعمال قبلها بالنسبة لحقيقة الأمر وإن اعتبر بها من حيث كونها علامة كما يأتي بسطه، إما لكفره (¬1)، فيكون دخولَ خلودٍ، وإما لمعصيته، فيكون دخول تطهيرٍ، قال القاضي وغيره: وهذا نادرٌ جدًا؛ لخبر: "إن رحمتي سبقت غضبي" (¬2)، وفي رواية: "تغلب غضبي" (¬3)، بخلاف ما بعده؛ فإنه كثيرٌ، فلله الحمد والمِنَّة على ذلك. (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب) بالمعنى السابق (فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها) أي: بحكم القدر الجاري عليه في هذا وما قبله، المستند إلى خلق الدواعي والصوارف في قلبه إلى ما يصدر عنه من أفعال الخير، فمن سبقت له السعادة. . صرف اللَّه تعالى قلبه إلى خيرِ يختم له به، وعكسه بعكسه. وفي بعض روايات هذا الحديث: "وإنما الأعمال بالخواتيم" (¬4)، و: "الأعمال بخواتيمها" (¬5). وفي حديثٍ صحيحٍ: "اعملوا؛ فكلٌّ ميسرٌ لما خلق له" (¬6) أي: فذو السعادة ميسرٌ لعمل أهلها، وذو الشقاوة ميسرٌ لعمل أهلها، وهذا أيضًا فيه إشارة إلى تصريف كلٍّ في أفعاله إلى ما يراد به بحسب القدر الجاري عليه، المستند إلى سابق العلم به بحسب خلق تلك الدواعي والصوارف فيه، المشارِ إليه بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: ¬

_ (¬1) أي: فيدخلها إما لكفره. . . إلخ. (¬2) أخرجه البخاري (7422)، ومسلم (2751/ 15) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) عند البخاري (7404)، ومسلم (2751/ 14) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (تغلب غضبي) قال شارحه: المراد بالغلبة: سعة الرحمة وشمولها للخلق؛ كما يقال: غلب على فلانٍ الكرم؛ أي: هو أكثر خصاله، وإلَّا. . فرحمة اللَّه وغضبه صفتان راجعتان إلى إرادة عقوبة العاصي وإثابة الطائع، وصفتاه لا توصفان بغلبة إحداهما على الأخرى، وإنما هو على سبيل المجاز للمبالغة. اهـ "مدابغي" (¬4) عند البخاري (6607) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬5) عند البخاري (6493) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه البخاري (4949)، ومسلم (2647/ 7) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه.

"قلوب الخلق بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء" (¬1). فتصرُّفه تعالى في خلقه إما ظاهرٌ بخرق العادات كالمعجزة، أو نصبِ الأدلة كالأحكام التكليفية، وإما باطنٌ بتقدير الأسباب نحو قوله تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}، أو بخلق الدواعي والصوارف، نحو قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}، {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، "يا مقلب القلوب؛ ثبِّت قلبي على دينك" (¬2) أي: طاعتك (¬3). ومعنى سببية الأعمال (¬4) للسعادة والشقاوة الدال عليها الحديث: أنه تعالى خلق الخلق وركَّب فيهم طباع الخير والشر، فعلم ما يكون منهم بحسب مقتضى طباعهم المركوزة فيهم، فلو أسعدهم وأشقاهم اعتمادًا على سابق علمه وحكمته. . لكان في ذلك مأمونًا غير متهمٍ؛ لكنَّه تعالى عادلٌ في حكمه، حكيمٌ في عدله، والحكمة تقتضي اجتناب مظانِّ التُّهم ولو من سُخفاء العقول، فلو عذَّب بعضهم بموجَب علمه فيهم. . لاتهموه، فدفع هذه التهمة بأن كلَّفهم حتى ظهرت معصيتهم على طباعهم المركوزة فيهم من القوة إلى الفعل، وهذا هو سرُّ قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم في أطفال المشركين: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (¬5) لكن الأصح: أنهم في الجنة. وإنما اقتصر في الحديث على قسمين مع أن الأقسام أربعةٌ؛ لظهور حكم القسمين الآخرين: مَنْ عمل بعمل أهل الجنة أو النار، من أول عمره إلى آخره. وقد اختلف أهل التحقيق؛ فمنهم من راعى حكم السابقة وجعلها نصب عينيه، ومنهم من راعى حكم الخاتمة، والأول أَولى؛ لأنه تعالى سبق في علمه الأزلي سعيد العالم وشقيه، ثم رتَّب على هذا السبق الخاتمةَ عند الموت بحسب صلاح العمل ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2654)، وابن حبان (902)، والإمام أحمد (2/ 168) بنحوه عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه الحاكم (1/ 526)، والترمذي (2140)، والإمام أحمد (3/ 112) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) في النسخ كلِّها إلا (غ): (أو طاعتها) وهي ليست من لفظ الحديث. (¬4) في كثير من النسخ: (ومعنى سبقية الأعمال). (¬5) أخرجه البخاري (1384)، ومسلم (2659) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

عندها وفساده، وعلي الخاتمة سعادةَ الآخرة وشقاوتَها، والمبني على المبني على الشيء مبنيٌّ على ذلك الشيء (¬1)، فحقيقة السعادة أو الشقاوة مبنيةٌ على سابق العلم بها (¬2)، فهي إذن أَولى بالخوف منها والمراعاة لها. قال أبو المظفر السمعاني: وسبيلُ باب القدر -أي: المستفاد من الأحاديث والآيات السابقة- التوقيفُ من الكتاب والسنة، فمن عدل عنهما لقياسٍ أو عقلٍ. . ضلَّ وتاهَ، ولم يصِلْ إلى ما يطمئن إليه قلبه؛ لأن القدر سرٌّ من أسرار اللَّه تعالى، ضُربت دونه أستارٌ اختص اللَّه تعالى بها، وحجبها عن عقول خلقه حتى الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، قيل: ولا ينكشف إلا بعد دخول الجنة. وأفاد الحديث: أن التوبة تهدم ما قبلها من الذنوب، وأن من مات على خيرٍ أو شرٍّ. . أُديرت عليه أحكامه. نعم؛ الميت فاسقًا تحت المشيئة، خلافًا للمعتزلة. وأن عمل مَنْ سبق في علم اللَّه موتُه على الكفر يكون صحيحًا مُقرِّبًا للجنة، حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، وأن عمل مَنْ سبق في العلم موتُه على الإسلام يكون باطلًا مُقرِّبًا من النار، حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، لكن لا مطلقًا في هذين، بل باعتبار ما يظهر لنا؛ كما دلَّ عليه خبر مسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار" (¬3). أما باعتبار ما في نفس الأمر. . فالأول لم يصح له عملٌ قط (¬4)، فلم يقرب من الجنة شيئًا مطلقًا؛ لأنه كافرٌ في الباطن، وأما الثاني. . فعملُه الذي لا يحتاج لنيةٍ صحيحٌ، والذي يحتاج إليها باطلٌ من حيث عدمُ وجودها. هذا فيما صورته سورة خيرٍ، وأما ما عداه. . فلا يؤثر فيه الكفر؛ لخبر: "أسلمت على ما سلف لك من خير" (¬5). ¬

_ (¬1) قوله: (المبني على) أي؛ السعادة والشقاوة المبية على (الشيء) أي: السابقة، مبنيةٌ على ذلك الشيء الذي هو السابقة نفسها. (¬2) قوله: (على سابق العلم) من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: علمه تعالى بها السابق؛ أي: القديم الأزلي. (¬3) صحيح مسلم (112) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬4) أي: من سبق في علم اللَّه موته على الكفر. (¬5) أخرجه البخاري (2220)، ومسلم (123) عن سيدنا حكيم بن حزام رضي اللَّه عنه.

وأن العبرة إنما هو بسابق القضاء؛ إذ لا تغيير فيه ولا تبديل، ويوافقه حديث: "الشقي مَنْ شقي في بطن أمه" (¬1) أي: يظهر من حاله للملائكة، أو لمن شاء من خلقه ما سبق في علم اللَّه الأزلي وقضائِهِ الإلهي، الذي لا يقبل تغييرًا ولا تبديلًا؛ من سعادته، أو شقاوته، ومن رزقه، وأجله، وعمله، ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند اللَّه سبحانه وتعالى من علم حال النطفة وتقول: يا رب؛ ما الرزق؟ ما الأجل؟ قال: فيقضي ربك ما شاء؛ أي: يُظهر من قضائه وحكمه للملائكة ما سبق به علمه، ونطقت به إرادته (¬2)، ويكتب الملك من اللوح المحفوظ كما مر، ثم يخرج بالصحيفة؛ أي: من حال الغيبة عن هذا العالم إلى حال المشاهدة، فيُطلع اللَّه تعالى عليها مَنْ شاء من الملائكة الموكلين بأحواله؛ ليقوموا بما عليهم حسبما سُطِّر في صحيفته. ولا ينافي ذلك كله خبر: "إنما الأعمال بالخواتيم" (¬3) لأن ربطها بها إنما هو لكون السابقة مستورةً عنَّا، والخاتمة ظاهرة لنا، فكانت الأعمال بها بالنسبة إلى ما عندنا، واطلاعِنا في بعض الأشخاص والأحوال، وأنه ينبغي ترك الإعجاب بالعمل، والالتفات والركون إليه، وأن يعول على كرم اللَّه تعالى ورحمته، والاعتراف بمنَّته؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه. . . " الحديث (¬4)، لكن ثبتت الأحاديث بالنهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل يتعيَّن العمل، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "اعملوا، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له" (¬5)، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. فينبغي التيقُّظ لهذا؛ فإنه مزَلةُ قدَمٍ لمن لا علم عنده ولا يقين، فإن الشيطان ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2645)، وابن حبان (6177)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 422) موقوفًا على سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (ونطقت به إرادته) أي: تعلقت ثم رأيته هكذا في نسخة، فلعل الناسخ حرفه بـ (نطقت) اهـ "مدابغي" (¬3) تقدم تخربجه قريبًا (ص 212). (¬4) أخرجه البخاري (6463)، ومسلم (2816) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) تقدم تخريجه قريبًا (ص 212).

وأعوانه من النفس وغيرها ربما أوحوا إلى الإنسان أنه لا عبرة بالعمل، وإنما العبرة بالسابقة أو الخاتمة على ما مر، فمن سعد ثَمَّ. . لا يضره أيُّ شرٍّ اقترفه، ومن شقي ثَمَّ. . لا ينفعه أيُّ خيرٍ اكتسبه، فيصغَى إليهم؛ لظهور حجتهم وزخرفتها، ويترك أعمال الخير، وينهمك في قبائح الشر، وما دَرَى المسكين أن هذا تمويهٌ عليه، وإضلالٌ له، وغفلةٌ عمَّا وضعه اللَّه تعالى من الأسباب الدالة على مسبباتها، بل والمستلزمة لها عادة (¬1). وأما انخرامها بموت من كانت أعمالُه صالحةً على الكفر. . ففي غاية الندور، والنادر لا تنخرم به القواعد الكلية، على أن غاية المنهمك في الشر إذا فُرض موتُه على الإسلام النجاةُ من الخلود في النار، على ما فيه من خلافٍ لنحو المعتزلة. وأما حوزه لشيءٍ من الكمالات. . فبعيدٌ عنه، فوجب عليه تحرِّي الأعمال الصالحة، وأن يغلب الرجاء في اللَّه تعالى وفضله بإماتته إياه على الإسلام؛ لأنه على هذا التقدير يكون من ملوك الجنة وساداتهم. فإن فُرض -والعياذ باللَّه تعالى- خلافُ ذلك. . لم تضره تلك الأعمال شيئًا، بل ربما خفَّفت عنه؛ فإن الكافر معاقبٌ على المعاصي مع الكفر، فمن لا معاصي له إنما يعاقب على الكفر فقط (¬2)، فلا ضرر في الأعمال الصالحة بوجهٍ، بل إن الغالب -بل المطَّرد- نفعها وحوز الكمالات بسببها، فأي حجةٍ في العدول عنها؟! فظهر لك أن تلك الحجة التي أقامها إبليس إنما هي كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطل، فافهم ذلك وتدبَّره؛ فإنه أهم ما يعتني به المكلف، ويجعله نصب عينيه، وإلَّا. . زلَّ به القدم، وندم حيث لا ينفعه الندم، نسأل اللَّه دوام رضوانه، وسوابغ امتنانه، آمين. ¬

_ (¬1) وما أحسن ما قاله بعضهم: (من الطويل) ألم تر أن اللَّه قال لمريمٍ: ... وهزي إليك الجذع يسَّاقطِ الرُّطَبْ ولو شاء أدنى الجذع من غير هزِه ... إليها ولكن كل شيءٍ له سببْ (¬2) قوله: (فمن لا معاصي له. . . إلخ) هو ظاهرٌ على القول بعدم تكليف الكفار بفروع الشريعة، أما على الأصح. . فلا يظهر، اللهم إلا أن يقال: إنه يصونه بموته عقب بلوغه قبل التمكن من التكليفات، فتأمل. اهـ هامش (ب)

وفي "الصحيحين" أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "ما من نفسٍ منفوسةٍ إلا وقد كتب اللَّه مكانها من الجنة والنار" فقال رجلٌ: يا رسول اللَّه؛ أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "اعملوا؛ فكلٌ ميسرٌ لما خُلق له، أما أهل السعادة. . فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة. . فييسرون لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيتينِ (¬1)، ففيه: أن الكتاب سبق بالسعادة والشقاوة، وأنهما مقدران بحسب الأعمال، وأن كلًّا ميسرٌ لما خُلِق له من الأعمال التي هي سببٌ لهما، وروي هذا المعنى عنه صلى اللَّه عليه وسلم من وجوهٍ كثيرةٍ. (رواه البخاري ومسلم) وهو حديثٌ عظيمٌ جليلٌ، يتعلَّق بمبدأ الخلق ونهايته، وأحكام القدر في المبدأ والمعاد، وإنكارُ عمرو بن عبيدٍ من زهَّاد القدرية له من ضلالاته وخرافاته، وحماقته وجهالاته. وأما ما بيَّنه الخطيب الحافظ وبرهن عليه من أن: "فواللَّه الذي لا إله غيره. . . إلخ" من كلام ابن مسعود. . فمردودٌ عليه، وورودُهُ عنه مدرجًا من قوله في رواية لا تقاوم رواية "الصحيحين" هذه الصريحة في رفعه (¬2). وعلي التنزل وأنه مدرجٌ من قوله. . فلا ينسب إليه إلا اللفظ، وأما المعنى. . فهو صحيحٌ عنه صلى اللَّه عليه وسلم من طرقٍ صحيحةٍ؛ منها للبخاري: "إنما الأعمال بالخواتيم" (¬3). ومنها لابن حبان في "صحيحه": "إنما الأعمال بخواتيمها كالوعاء، فإذا طاب أعلاه. . طاب أسفله، وإذا خبث أعلاه. . خبث أسفله" (¬4). ومنها لمسلمٍ: "إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له ¬

_ (¬1) الحديث مركب من حديثين: عند البخاري (4948)، (4949)، وعند مسلم (2647/ 6)، (2647/ 7) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (ووروده عنه) مبتدأ، وقوله: (في رواية) خبر؛ أي: ورودهُ عن ابن مسعود مدرجًا من قوله إنما هو في روايةٍ لا تقاوم رواية "الصحيحين". . . إلخ، تأمل. اهـ "مدابغي" (¬3) تقدم تخريجه (ص 212). (¬4) صحيح ابن حبان (212) عن سيدنا معاوية رضي اللَّه عنه.

بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له بعمل أهل الجنة" (¬1). وأخرج أحمد: "لا عليكم ألَّا تعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا ما يُختم له. . . " الحديث (¬2)، وأحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما (¬3) قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان؟ " قلنا: لا يا رسول اللَّه إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى (¬4): "هذا كتابٌ من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يُزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا" ثم قال للذي في شماله: "هذا كتابٌ من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا" فقال أصحابه: ففيم العمل -يا رسول اللَّه- إن كان أمرٌ قد فُرغ منه؟ فقال: "سدِّدوا وقاربوا؛ فإنَّ صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ عملٍ، وإنَّ صاحب النار يُختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ عملٍ" ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: "فرغ ربكم من العباد، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير" (¬5) وروي هذا الحديث من وجوهٍ متعددة. وحديث البخاري (¬6) في الرجل الذي قاتل المشركين أبلغ القتال، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إنه من أهل النار" فجُرح فلم يصبر فقتل نفسه؛ فلمَّا بلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلم. . قال: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2651) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 120) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) كذا في النسخ، لكن في المصادر التي عزا إليها الشارح رحمه اللَّه تعالى: (عن ابن عمرو رضي اللَّه عنهما) وقال الترمذي رحمه اللَّه تعالى: (وفي الباب عن ابن عمر). (¬4) لعل اللام فيه وفيما بعده بمعنى (في) أو (عن) فليراجع. اهـ هامش (غ) (¬5) مسند الإمام أحمد (2/ 167)، وسنن الترمذي (2141)، وسنن النسائي الكبرى (11409) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. وقوله: (فرغ ربكم من العباد) أي: أنهى تقدير سعادتهم وشقاوتهم وشؤونهم في الأزل. اهـ "مدابغي" (¬6) أي: ومنها حديث البخاري رحمه اللَّه تعالى.

من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" (¬1). وفي قوله فيه: "فيما يبدو للناس" إشارةٌ إلى أن باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره، وأن خاتمة السوء تكون -والعياذ باللَّه تعالى- بسبب دسيسةٍ باطنيةٍ للعبد، ولا يطلع عليها الناس، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلةُ خيرٍ خفيةٌ تغلب عليه آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة. وحكى عبد العزيز بن [أبي] رَوَّاد قال: حضرت عند محتضرٍ لُقِّن الشهادتين، فقال: هو كافرٌ بهما، فسأل عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: (اتقوا الذنوب؛ فإنها هي التي أوقعته) (¬2). وأخرج الإمام أحمد والترمذي: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يكثر في دعائه: "يا مقلب القلوب؛ ثبِّتْ قلبي على دينك" فقيل له: يا رسول اللَّه؛ آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع اللَّه عز وجل، يُقلِّبها كيف يشاء" (¬3). وأخرج مسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلبٍ واحدٍ، يصرفه حيث يشاء" ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "اللهم مصرف القلوب؛ صرِّف قلوبنا على طاعتك" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2898) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "المحتضرين" (286)، وما بين معقوفين زيادة منه. (¬3) مسند الإمام أحمد (3/ 112)، وسنن الترمذي (2140) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬4) صحيح مسلم (2654) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.

الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة] عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ. . فَهُوَ رَدٌّ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1)، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا. . فَهُوَ رَدٌّ" (¬2). (عن أم المؤمنين) أي: في الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، دون نحو النظر والخلوة، وكذا سائر أمهات المؤمنين، وهو صلى اللَّه عليه وسلم أبو المؤمنين في الرأفة والرحمة، ونفي أبوته في الآية أُريد به نفي أُبوَّةِ النسب والتبنِّي. (أم عبد اللَّه) كناها صلى اللَّه عليه وسلم بابن أختها أسماء عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تعالى عنهم، وأبعدَ مَنْ قال: بِسِقْط لها. (عائشة) الصديقة بنت الصديق، الحبيبة بنت الحبيب (رضي اللَّه عنها) تزوجها صلى اللَّه عليه وسلم بمكة وهي بنت ستٍّ، بعد تزوجه بسَوْدة بشهرٍ، وقبل الهجرة بثلاث سنين، ودخل بها في المدينة في شوال منصَرفَهُ من بدر، سنة اثنتين من الهجرة وهي بنت تسع سنين (¬3)، وتوفي صلى اللَّه عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2697)، وصحيح مسلم (1718/ 17). (¬2) صحيح مسلم (1718/ 18). (¬3) قوله: (وهي بنت تسع سنين) مشكلٌ مع ما قبله؛ فإنه يقتضي أن تكون حين الدخول بنت إحدى عشرة سنة، وعليه يكون سنها عند وفاته صلى اللَّه عليه وسلم تسع عشرة لا ثمان عشرة سنة كما ذكره، قال شيخنا الشهاب ابن الفقيه عليه الرحمة: ويمكن الجمع بأن يقال: المراد بالست: خمس ونصف لكنها جُبرت فصارت ستًا، وبالثلاث: اثنان ونصف، وجبر ذلك النصف فصارت ثلاثًا، وإذا ضُمَّتِ الخمس ونصف إلى الاثنين ونصف. . =

وعاشت بعده أربعين سنة؛ فإنها توفيت سنة سبع أو ثمان وخمسين، لثلاث عشرة بقيت من رمضان بعد الوتر، وصلَّى عليها أبو هريرة؛ لإمارته على المدينة حينئذٍ من قِبَل مروان. روى لها ألفًا حديث ومئتان وعشرة، وقيل: ألف وعشرة، اتفقا منها على مئة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وسبعين (¬1)، ومسلم بثمانية وستين. (قالت: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: من أحدث) أي: أنشأ واخترع من قِبَل نفسه (في أمرنا) أي: شأننا الذي نحن عليه؛ وهو ما شرعه اللَّه تعالى ورسوله صلى اللَّه عليه وسلم، واستمر العمل به، ومن ثَمَّ جاء في رواية: "ديننا"، ويطلق ويراد به مصدر (أمَرَ) لكن هذا يجمع على أوامر (¬2). (هذا) إشارة لجلالته، ومزيد رفعته وتعظيمه، على حد: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وإن اختلفا في أداة الإشارة؛ إذ تلك أدل على ذلك من هذا، وقد تأتي الإشارة به للتحقير. (ما ليس منه) مما ينافيه، أو لا يشهد له شيءٌ من قواعده وأدلته العامة (فهو رَدٌّ) أي: مردودٌ على فاعله؛ لبطلانه وعدم الاعتداد به، سواء كانت منافاته لما ذكر لعدم مشروعيته بالكلية، كنذر القيام وعدم الاستظلال، ومن ثَمَّ أبطل صلى اللَّه عليه وسلم نذر ذلك (¬3)، أو للإخلال بشرطه أو ركنه، عبادةً كانت أو عقدًا، فلا ينقل الملك مطلقًا على الأصح (¬4) من خلافٍ طويلٍ فيه للعلماء (¬5)، أو للزيادة على المشروع ¬

_ = صار المجموع ثمانية وستين سنة ونصف، وأُلغي الكسر وهو النصف، فادعاء أن المجموع تسعة صحيح، وكذا قوله: (وتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة) لأنه عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة عاش عشر سنين ومات في أول الحادية عشرة، وكان سنها قبل ذلك ثمان سنين. فليتأمل. اهـ "مدابغي" (¬1) كذا في النسخ، وفي "تهذيب الأسماء واللغات" للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى (2/ 351)، و"عمدة القاري" للإمام العيني رحمه اللَّه تعالى (1/ 38): أن ما انفرد به الإمام البخاري أربعة وخمسون، فليتنبه. (¬2) أي: الأمر الذي هو مصدر (أمَرَ). (¬3) أخرجه البخاري (6704)، وأبو داوود (3300)، وابن ماجه (2136) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) قوله: (فلا ينقل. . . إلخ) بالبناء للمفعول أو للفاعل، وضميره راجعٌ إلى العقد المختل شرطًا أو ركنًا، فلا ينقل ذلك العقد، ويجب رد المأخوذ على صاحبه. اهـ هامش (غ) (¬5) هذا مذهب الإمام الشافعي، وعند الحنفية: كما ينعقد البيع بالإيجاب والقبول ينعقد بالتواطؤ (التعاطي) =

فيه في نحو الصلاة دون نحو الوضوء، أو لارتكابه منهياته (¬1)، كالصلاة بنحو مغصوبٍ أو فيه، والحج بمالٍ حرامٍ، والذبح بمغصوب؛ والاعتكاف مع اقتراف كبيرة، والصوم مع نحو كذب، والبيع مع نحو النجش وغيره مما نُهي عنه لأمرٍ خارجٍ، وهبةِ بعض الأولاد على رأيٍ ضعيفٍ في الجميع (¬2). والأصح: الصحة؛ لأن النهي في هذه لأمرٍ خارجٍ بخلافه للذات؛ فإنه يبطلها؛ كذبح المحرم للصيد، ولبسه للخف بلا عذر، فلا يمسح عليه، وجماعِ الصائم، أو الحاجِّ قبل التحلُّل. أما ما لا ينافي ذلك بأن شهد له شيءٌ من أدلة الشرع أو قواعده. . فليس يُردُّ على فاعله، بل هو مقبولٌ منه، وذلك كبناء نحو الربط وخانات السبل (¬3)، وسائر أنواع البِرِّ التي لم تُعهَد في الصدر الأول؛ فإنه موافقٌ لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف، والمعاونة على البِر والتقوى، وكالتصنيف في جميع العلوم النافعة الشرعية على اختلاف فنونها، وتقرير قواعدها، وكثرة التفريعات، وفرض ما لم يقع وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسنة (¬4)، والكلام على الأسانيد والمتون، وتتبع كلام العرب نثره ونظمه، وتدوين كل ذلك، واستخراج علوم اللغة؛ كالنحو والمعاني، والبيان والأوزان، فذلك كله وما شاكله معلومٌ حُسْنُه، ظاهرٌ فائدته؛ معينٌ على معرفة كتاب اللَّه تعالى وفهم معاني كتابه، وسنة رسوله صلى اللَّه عليه وسلم، فيكون مأمورًا به. وكتفريع الأصول والفروع، وما يحتاجان إليه من الحساب وغيره من العلوم الآلية، وككتابة القرآن في المصاحف، ووضع المذاهب وتدوينها، وتصنيف الكتب ومزيد إيضاحها وتبيينها، وغير ذلك مما مرجعه ومنتهاه إلى الدين بواسطةٍ أو وسائط؛ فإنه مقبولٌ من فاعله، مثابٌ ممدوحٌ عليه. ¬

_ = مطلقًا، فينقل الملك عندهم فاحفظ ذلك. اهـ هامش (غ) (¬1) في بعض النسخ: (منهيًا عنه)، وفي أخرى: (منهيًا فيه). (¬2) أي: من قوله: (الصلاة بنحو مغصوبٍ أو فيه) وما بعدها. (¬3) الخان: ما ينزله المسافرون. (¬4) في هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة).

ومن ثَمَّ استجاز كثيرًا منه الصحابةُ رضوان اللَّه تعالى عليهم (¬1)، كما وقع لأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنهم في جمع القرآن؛ فإن عمر أشار به على أبي بكر؛ خوفًا من اندراس القرآن بموت الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم لمَّا كثر فيهم القتلُ يوم اليمامة وغيره، فتوقَّف لكونه صورةَ بدعة، ثم شرح اللَّه صدره لفعله؛ لأنه ظهر له أنه يرجع إلى الدين، وأنه غير خارجٍ عنه، ومن ثَمَّ لمَّا دعا زيد بن ثابت وأمره بالجمع. . قال له: (كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟!) فقال: (واللَّه إنه حقٌّ) ولم يزل يراجعه حتى شرح اللَّه صدره للذي شرح له صدرهما (¬2). وكما وقع لعمر رضي اللَّه تعالى عنه في جمع الناس لصلاة التراويح في المسجد، مع تركه صلى اللَّه عليه وسلم لذلك بعد أن كان فعله لياليَ؛ وقال -أعني عمرَ رضي اللَّه عنه-: (نعمت البدعة هي) (¬3) أي: لأنها وإن أُحدثت ليس فيها رَدٌّ لِمَا مضى، بل موافقةٌ له؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم علَّل الترك بخشية الافتراض، وقد زال ذلك بوفاته صلى اللَّه عليه وسلم. وقال الشافعي رضي اللَّه عنه: (ما أُحدث وخالف كتابًا أو سنةً أو إجماعًا أو أثرًا. . فهو البدعة الضَّالة، وما أُحدث من الخير ولم يخالف شيئًا من ذلك. . فهو البدعة المحمودة) (¬4). والحاصل: أن البدع الحسنة متفقٌ على ندبها؛ وهي: ما وافق شيئًا ممَّا مرَّ ولم ¬

_ (¬1) وأعلم: أن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة؛ فتارة تكون واجبة كضبط المصاحف والشرائع إذا خيف عليها الضياع، وتارة تكون محرمة كالمكوس وسائر المحدثات المنافية للقواعد الشرعية، وتارة تكون مندوبة كصلاة التراويح جماعة؛ ولذلك قال سيدنا عمر رضي اللَّه عنه في التراويح: (نعمت البدعة هي)، وتارة تكون مكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف، وتارة تكون مباحة كاتخاذ المناخل للدقيق؛ ففي الآثار: (أن أول شيءٍ أحدثه الناس بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اتخاذ المناخل) وإنما كانت مباحة؛ لأن لين العيش وإصلاحه من المباحات، فوسائله مباحة. اهـ "تحفة المريد" (ص 343) (¬2) أخرجه البخاري (4986)، وابن حبان (4506)، والترمذي (3103) عن سيدنا زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 114)، والبيهقي في "السنن الصغير" (816). (¬4) انظر "المدخل إلى السنن الكبرى" للبيهقي (253).

يلزم من فعله محذورٌ شرعيٌّ، ومنها ما هو فرض كفاية؛ كتصنيف العلوم ونحوها مما مر. قال الإمام أبو شامة شيخ المصنف رحمهما اللَّه تعالى: (ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عامٍ في اليوم الموافق ليوم مولده صلى اللَّه عليه وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور؛ فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعرٌ بمحبته صلى اللَّه عليه وسلم، وتعظيمه، وجلالته في قلب فاعل ذلك، وشكرِ اللَّه سبحانه وتعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله صلى اللَّه عليه وسلم، الذي أرسله رحمة للعالمين صلى اللَّه عليه وسلم) (¬1). وأن البدع السيئة -وهي: ما خالف شيئًا من ذلك صريحًا أو التزامًا- قد تنتهي إلى ما يوجب التحريم تارةً، والكراهة أخرى، وإلى ما يظن أنه طاعةٌ وقُربةٌ: فمن الأول: الانتماء إلى جماعةٍ يزعمون التصوف، ويخالفون ما كان عليه مشايخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة عنهم، بل كثيرٌ من أولئك إباحيَّة لا يُحرِّمون حرامًا؛ لتلبيس الشيطان عليهم أحوالَهم القبيحة الشنيعة، فهم باسم الفسق أو الكفر أحق منهم باسم التصوف أو الفقر (¬2). ومنه: ما عمَّ به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليقَ حائطٍ أو عمودٍ (¬3)، وتعظيمَ نحو عينٍ أو حجرٍ أو شجرةٍ لرجاء شفاءٍ أو قضاء حاجة، وقبائحهم في هذا ظاهرةٌ غنيةٌ عن الإيضاح والبيان. وقد صحَّ: أن الصحابة رضي اللَّه عنهم مروا بشجرة سدرة قبل حنين، كان المشركون يعظمونها، وينوطون بها أسلحتهم -أي: يعلقونها بها- فقالوا: يا رسول اللَّه؛ اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه ¬

_ (¬1) انظر "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 23 - 24). (¬2) قال بعضهم: (من الخفيف) طلعَ الفقرُ مُستغيثًا إلى اللَّهِ ... إنَّ بعضَ العبادِ قد ظلموني يتسمَّونَ بي -وحقِّكَ- زورًا ... لستُ أعرفهم ولا يعرفوني (¬3) التخليق: وضع الخَلوق عليه، وهو الطيب.

عليه وسلم: "اللَّه أكبر، هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبنَّ سَنَن مَنْ كان قبلكم" (¬1). ومن الثاني -ومنشؤه أن الشرع يخص عبادةً بزمنٍ، أو مكانٍ، أو شخصٍ، أو حالٍ، فيعمِّمونها جهلًا وظنًا أنها طاعة مطلقًا-: نحو صوم يوم الشَّك، أو التشويق، والوصال، وغيرها، مما لو قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض. . قالوا: إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. ومنه: التعريف بغير عرفة عند جمعٍ من السلف (¬2)، لكن استحسنه آخرون منهم، فخفَّ أمره إلا في نحو ما يفعل ببيت المقدس؛ لاقترانه بمفاسد كثيرة، كما نبَّه عليه العلماء. ومنه: الصلاة ليلة الرغائب أولَ جمعةٍ في رجب، وليلة النصف من شعبان، فهما بدعتان مذمومتان، خلافًا لمن استحسنهما، وحديثهما موضوعٌ، كما بيَّنه المصنفُ رحمه اللَّه تعالى في "شرح المهذب" (¬3) وغيرُه ممن قبله وبعده، وردُّوا على ابن الصلاح رجوعه عن موافقتهم إلى الانتصار لهما، وأبطلوا جميع ما استدل به، وهو كما قالوا (¬4)، وهو في الثَّانية على كيفيات: مئة ركعة بألف {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وثنتي عشرة ركعة في كل ركعةٍ ثلاثون مرة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وأربع عشرة ركعة، ثم يجلس فيقرأ (الفاتحة) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوّذتين كلًّا أربعة عشر، و (آية الكرسي) مرة، و {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآيةَ، وكلها موضوعة. والكلام في خصوص إحيائهما بالكيفية المشهورة بين العوام دون غيرهما من الليالي، فلا ينافيه ما جاء في ليلة نصف شعبان، كخبر: "قوموا ليلها، وصوموا يومها" (¬5)، وكخبر: (أنه تعالى يغفر ليلتها لأكثر من عدد شعر غنم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (6702)، والترمذي (2180)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11121) عن سيدنا أبي واقد الليثي رضي اللَّه عنه. (¬2) التعريف: هو اجتماع الناس يوم عرفة بغير عرفة بعد العصر للدعاء، وانظر "المجموع" (8/ 111). (¬3) انظر "المجموع" (4/ 61). (¬4) أي: الأمر كما قالوا من الرد والإبطال. (¬5) أخرجه ابن ماجه (1388) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه.

كلب) (¬1)، وخبر: (أنه تعالى يغفر ليلتها لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ) (¬2)، على أن هذه الثلاثة ضعيفةٌ بالمرة، وإن أخرج الأول الترمذي (¬3)، ومن ثَمَّ قال ابن العربي رحمه اللَّه تعالى: (ليس فيها حديثٌ يساوي سماعه) (¬4). نعم؛ أخرج البيهقي أنه صلى اللَّه عليه وسلم صلى ليلته وقال: "في هذه الليلة يكتب كل مولودٍ وهالكٍ من بني آدم، وفيها تُرفع أعمالهم، وتنزل أرزاقهم"، وأنه قال: "إن للَّه تعالى في هذه الليلة عتقاء من النار بعدد شعر غنم كلب" (¬5) قال: (وفي إسنادهما بعض من يجهل، وإذا انضم أحدهما إلى الآخر. . أجدى بعض القوة) اهـ ولا شاهد فيهما، وإن أجدى بعض القوة؛ إذ ليس فيهما صلاة مخصوصة، وقيام الليل سُنَّةٌ مطلقًا، فصلاته صلى اللَّه عليه وسلم فيها كصلاته في غيرها؛ فإنه كان لا يتركها لوجوبها عليه (¬6). ومنه: الوقود ليلة عرفة، والمشعر الحرام، والاجتماع ليالي الختوم آخر رمضان، ونصب المنابر والخطب عليها؛ فيكره ما لم يكن فيه اختلاط الرجال بالنساء؛ بأن تتضامَّ أجسامهم؛ فإنه حرامٌ وفسقٌ. قيل: ومن البدع: صوم رجب، وليس كذلك، بل هو سنةٌ فاضلةٌ، كما بينتُه في "الفتاوى" وبسطت الكلام فيه (¬7). وقولُ بعض الشافعية: منها: مداومة الإمام على قراءة (السجدة) و (هل أتى) ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (739)، وابن ماجه (1389)، والإمام أحمد (6/ 238) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬2) أخرجه ابن حبان (5665)، والطبراني في "الكبير" (20/ 108)، والبيهقي في "الشعب" (3552) عن سيدنا معاذ رضى اللَّه عنه. (¬3) كذا في النسخ، ولعل الصواب: (الثاني) بدل (الأول). (¬4) عارضة الأحوذي (3/ 275). (¬5) انظر "شعب الإيمان" (3554) وما بعده. (¬6) قوله: "لوجوبها عليه" كما كانت واجية علينا في صدر الإسلام ثم نُسخ وجوبها، وهل نسخ أيضًا في حقه صلى اللَّه عليه وسلم أو لا؟ خلاف، والراجح: الأول. اهـ هامش (غ) (¬7) انظر "الفتاوى الكبرى الفقهية" (2/ 53 - 54).

في صبح الجمعة. . ليس في محله، كما بينتُه في "شرح العباب" وغيره، وروى الطبراني: أنه صلى اللَّه عليه وسلم (كان يقرؤهما فيه كل جمعة) (¬1). وكذا قوله: منها: الاضطجاع بين سنة الفجر وفرضه، كيف وقد صحَّ عنه صلى اللَّه عليه وسلم فعله (¬2)، والأمر بها؟! ومن ثَمَّ أوجبه بعض الظاهرية. (رواه البخاري ومسلم) وهو قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الإسلام، بل من أعظمها، وأعمها نفعًا من جهة منطوقه؛ لأنه مقدمةٌ كليةٌ في كل دليلٍ يستنتج منه حكمٌ شرعي، كما يقال في الوضوء بماء مغصوبٍ، أو نجسٍ، أو بلا نيةٍ، وفي الصلاة مع نحو كشف العورة، وفي بيع نحو النجس (¬3)، ونكاح نحو الشغار: هذا أمرٌ ليس من الشرع، وليس عليه أمره، وكل ما كان كذلك. . فهو باطلٌ، فهذا العمل باطلٌ ومردودٌ. أما الكبرى. . فلا نزاع فيها (¬4)، وأما الصغرى (¬5). فدليلها ما نحن فيه (¬6)، ومن جهة مفهومه؛ إذ مفهومه: أن كل عملٍ غير محدثٍ صحيحٌ مقبولٌ، فيقال في نحو الوضوء مثلًا بدون نحو مضمضة: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان كذلك. . صحيحٌ، فهذا صحيحٌ. أما الكبرى. . فثابتةٌ بمفهوم هذا الحديث، وأما الصغرى. . فيثبتها المستدل بدليلها. قال بعض الأئمة: وهو ثلث الإسلام، وكأن وجهه أن أحكام الشرع إما منصوصة نصًا لا يحتمل التأويل، أو يحتمله، أو مستنبطة ومآلها إليه منطوقًا أو مفهومًا، كما قررناه، على أنه يصح أن يكون نصف الأدلة؛ لأن الدليل إنما يتركَّب من صغرى ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (10/ 100) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البخاري (1160)، ومسلم (736/ 122) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) في بعض النسخ: (وفي بيع نحو النجش). (¬4) قوله: (أما الكبرى) وهي التي فيها الحد الأكبر الذي هو محمول المطلوب؛ أعني بها قوله: (وكل ما كان كذلك. . فهو باطل) اهـ "مدابغي" (¬5) قوله: (وأما الصغرى) وهي التي فيها الحد الأصغر الذي هو موضوع المطلوب؛ وهي قوله: (هذا أمرٌ ليس من الشرع وليس عليه أمره) اهـ "مدابغي" (¬6) أي: ما تقرر من قول الشافعي: (ما خالف كتابًا أو سنة. . . إلخ) ومن غيره وليس المراد بما نحن فيه حديث المتن؛ إذ لا يدل على الكبرى بقرينة ما ذكره في النتيجة.

وكبرى، ثم المطلوب إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمةٌ في إثبات كل حكمٍ شرعيٍّ ونفيه باعتبار منطوقه ومفهومه، كما مر، فلو وجد حديث مقدمة صغرى لإثباتِ أو نفي كل حكمٍ شرعي. . لَاسْتَقَلَّا بأدلة الأحكام (¬1)، لكن هذا لم يوجد، فكان ذلك نصفًا بهذا الاعتبار. وقال بعضهم: إنه مما ينبغي حفظه وإذاعته؛ فإنه أصلٌ عظيمٌ في إبطال جميع المنكرات، وحوادث الضلالات؛ إذ هو من جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم، واستمداده من قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآيةَ. قال مجاهد: (السبل: البدع والشبهات) (¬2). وروى الدارمي: أنه صلى اللَّه عليه وسلم خطَّ خطًا ثم قال: "هذا سبيل اللَّه" ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذه سُبُلٌ، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه" ثم تلا هذه الآية (¬3). وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه في "الرسالة": (إلى ما قال اللَّه والرسول) (¬4). ويوافقه قوله ميمون بن مهران من فقهاء التابعين: (الردُّ إلى اللَّه: إلى كتابه وإلى رسوله؛ فإذا قبض. . إلى سنته) (¬5). وقد كان صلى اللَّه عليه وسلم يقول في خطبته: "خير الحديث كتاب اللَّه، وخير الهُدَى هُدَى محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم (¬6)، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ ¬

_ (¬1) في نسخ عدة: (لاستقلاله بأدلة الأحكام). (¬2) أخرجه الدارمي في "سننه" (209)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8104). (¬3) سنن الدارمي (208) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) الرسالة (80 - 81). (¬5) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (9888). (¬6) قوله: (وخير الهُدَى هدى محمد صلى اللَّه عليه وسلم) هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما، وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضًا، ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين، وقال القاضي عياض: رويناه في "مسلم" بالضم وفي غيره بالفتح، وبالفتح ذكره الهروي، وفسره بالطريق؛ أي: أحسن الطريق طريق محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وأما على رواية الضم. . فمعناه: الدلالة والإرشاد. اهـ "شرح النووي على مسلم" (6/ 154)

بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ" رواه مسلم (¬1)، زاد البيهقي: "وكل ضلالةٍ في النار" (¬2). وفي الحديث الصحيح: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات؛ فإن كل محدثةٍ بدعةٌ" (¬3). وروى الدارمي: أن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنكر على جماعةٍ اجتمعوا في المسجد يعدُّون الأذكار بالحصى، وأشار إليهم بأن يعدوا سيئاتهم، وأنهم مفتتحو باب ضلالة (¬4). وينبغي حمل إنكاره على هذه الهيئة المخصوصة، وإلَّا. . فالسُّبحة ورد لها أصلٌ أصيلٌ عن بعض أمهات المؤمنين، وأقرَّها النبي صلى اللَّه عليه وسلم على ذلك (¬5). وأخرج البيهقي أن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: (إن أبغض الأمور إلى اللَّه تعالى البدع، وإن من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور) (¬6). وينبغي حمله على المعتَزَلات المهَيَّأة للصلاة؛ فإن هذه لا يصح الاعتكاف فيها؛ بخلاف ما وُقف منها مسجدًا. وأخرج أبو داوود عن حذيفة: (كل عبادةٍ لم تفعلها الصحابة. . فلا تفعلوها) أي: إلَّا إن دلَّ عليها دليلٌ آخر، وإلَّا. . فكم من عباداتٍ صحَّت عنه صلى اللَّه عليه وسلم قولًا وفعلًا ولم تنقل عن أحدٍ منهم (¬7). وورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "عملٌ قليلٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من عملٍ كثيرٍ في بدعة" (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (867) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر "المدخل إلى السنن الكبرى" (202). (¬3) سيأتي تخريجه (ص 469) وهو الحديث الثامن والعشرون من أحاديث المتن. (¬4) سنن الدارمي (210). (¬5) أخرجه الترمذي (3554) عن أم المؤمنين سيدتنا صفية رضي اللَّه عنها، وللفائدة انظر رسالة العلامة عبد الحي اللكنوي رحمه اللَّه تعالى "سباحة الفكر في الجهر بالذكر". (¬6) السنن الكبرى (4/ 316). (¬7) أي: لم ينقل فعلهم لها. (¬8) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1270)، ومعمر بن راشد في "الجامع" (20568) مرسلًا عن الحسن رحمه اللَّه تعالى.

(وفي روايةٍ لمسلم: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا) أي: حكمنا وإذننا، بخلاف غيره مما مر، ومن ثَمَّ سُرَّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأخذ خالد رضي اللَّه تعالى عنه اللواء في مؤتة مع عدم أمره له، ومدحه على ذلك؛ لأنه من المصالح العامة، وهي لا تتوقف على أمرٍ بها بخصوصها، وكذا يقال في كل تخصيصٍ لدليلٍ عامٍّ بدليلٍ خاص أو عام؛ لأنه حينئذ عليه أمر الشرع، بخلافه لغير دليل. ومدح صلى اللَّه عليه وسلم بلالًا على صلاته ركعتين كلَّما توضأ (¬1)، مع أنه لم يأخذهما عنه صلى اللَّه عليه وسلم نصًا، بل استنباطًا من الأمر بمطلق الصلاة. (فهو رد) أي: مردودٌ عليه، وإن لم يكن هو المحدِث له، فاستُفيد منها زيادة على ما مر، وهي الرد لِمَا قد يحتج به بعض المبتدعة من أنه لم يخترِع، وإنما المخترع مَن سبقه، ويحتج بالرواية الأولى، فيرد عليه بهذه الصريحة في رد المحدثات المخالفة للشريعة بالطريقة التي قدمناها، سواء أحدثها الفاعل، أو سُبِق بإحداثها. وفي الحديث دلالةٌ للقاعدة الأصولية: أن مطلق النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهي عنه مخترعٌ محدثٌ، وقد حُكم عليه بالرد المستلزم للفساد، وزَعْمُ أن القواعد الكلية لا تثبت بخبر الآحاد. . باطلٌ لا يُعوَّل عليه. وفيه أيضًا: دلالة على عدم انعقاد العقود الممنوعة، وعدم ترتُّب أثرها عليه (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في الحديث الذي أخرجه البخاري (1149)، ومسلم (2458) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، واللفظ للبخاري: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال؛ حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دَفَّ نعليك بين يدي في الجنة" قال: ما عملت عملًا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليلٍ أو نهارٍ إلَّا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي. (¬2) في بعض النسخ: (آثارها عليها).

الحديث السادس [الابتعاد عن الشبهات]

الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيَّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ. . فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ. . وَقَعَ فِي الْحَرَام، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّه مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ. . صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ. . فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي عبد اللَّه النعمان بن بشير) بفتح الموحدة، الأنصاري الخزرجي، وأمه صحابية، أخت عبد اللَّه بن رواحة، وأبوه بشير صحابيٌّ أيضًا (¬2)، وهو القائل: (يا رسول اللَّه؛ عَلِمْنَا كيف نسلِّم عليك، فكيف نصلِّي عليك إذا نحن صلينا عليك. . .) الحديث (¬3)، فلذلك قال المصنف: (رضي اللَّه) تعالى (عنهما). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (52)، وصحيح مسلم (1599). (¬2) وليس في الصحابة من اسمه النعمان بن بشير غير هذا، وفيهم النعمان جماعات فوق الثلاثين رضي اللَّه عنهم أجمعين. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه مسلم (405) بنحوه عن سيدنا أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه تعالى في "فتح الباري" (11/ 154) أسماء مَنْ سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن هذا الأمر وهم: (كعب بن عجرة، وبشير بن سعد والد النعمان، وزيد بن خارجة الأنصاري، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن بشير رضي اللَّه عنهم أجمعين) ثم ذكر روايات الحديث.

ولد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة على الأصح، وهو أول مولودٍ ولد في الأنصار بعد قدومه صلى اللَّه عليه وسلم المدينة، كما أن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تعالى عنهما المولودَ معه في عامه أولُ مولودٍ ولد للمهاجرين. قيل: روي له مئة حديثٍ وأربعة عشر حديثًا. ولي الكوفة لمعاوية، ثم ولي حمص ودعا لابن الزبير، فطلبه أهلها فقتلوه بقريةٍ من قراها سنة أربع وستين. ولم ينفرد برواية هذا الحديث، بل رواه أيضًا سبعةٌ من أكابر الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم (¬1). (قال: سمعت) في روايةٍ: أنه أهوى إلى أذنيه بإصبعيه (¬2)، ففيها تأكيد التصريح بسماعه من النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وهذا هو الصحيح، ولا التفات إلى خلافٍ فيه، قاله المصنف (¬3). (رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: إن الحلال) هو كالحل ضد الحرام لغةً وشرعًا، ويأتي (حِلٌّ) بمعنى مقيم؛ كما في: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}. (بَيِّن) أي: ظاهر، وهو ما نص اللَّه تعالى أو رسوله صلى اللَّه عليه وسلم، أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه، أو جنسه، ومنه أيضًا: ما لم يُعلَم فيه منعٌ على أشهر القولين كما يأتي. (وإن الحرام بَيِّن) وهو ما نُصَّ أو أُجمع على تحريمه بعينه أو جنسه، أو على أن فيه حدًا، أو تعزيرًا، أو وعيدًا. ثم التحريم: إما لمفسدةٍ أو مضرَّةٍ خفيةٍ كالزنا، ومذكَّى المجوس، وإما لمفسدةٍ أو مضرةٍ واضحةٍ كالسم، والخمر. وبيانه: أن المُنتَفع به إما معدنٌ، أو نباتٌ، أو حيوانٌ، وتوابعه، فالمعادن ¬

_ (¬1) وهم كما قاله الشيخ الشبشيري رحمه اللَّه تعالى في "شرحه": (علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وابن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وابن عمر، وابن عباس، وعمار بن ياسر رضي اللَّه عنهم) اهـ "مدابغي" (¬2) هي رواية مسلم (1599). (¬3) انظر "شرح صحيح مسلم" (11/ 29).

بأسرها حلالٌ إلا الضارَّ، على أنه لا يختص بها، بل لو ضرَّ العسل بعض المحرورين. . حرم عليه أكله، والنبات كذلك، إلا ما زال الحياةَ كالسم، أو العقلَ كالخمر، وسائر المسكرات، والمخدرات؛ كالحشيشة، والأفيون، والبنج، وكذا جوزة الطيب، كما أفتيتُ به، ونقلت فيه نص أرباب المذاهب الثلاثة: الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وأن ذلك هو مقتضى كلام الحنفية، فاشدد يديك على هذه الفائدة؛ لئلا تقع فيما وهم فيه كثيرون من أنه لا كلام فيها لأحد (¬1). وأما الحيوان: فكل ما ورد النص على أكله. . فهو حلالٌ كالخيل؛ فقد صحَّتِ الأحاديث بأكلها، وبتحريم الحمر الأهلية، وتحريمُها -أعني الخيل- وتحليلُ النبيذ منابذٌ للسنة الصريحة، وكل ما ورد النص على عدم أكله. . فهو حرام، وما لا نص فيه. . يُرجَع إلى ذوي الطباع السليمة من العرب، فما استخبثوه. . حرامٌ، وما لا. . حلالٌ، وأكل النجس حرامٌ كاستعماله إلا لنحو اضطرارٍ أو تداوٍ؛ لجوازه بصِرْف سائر النجاسات إلا الخمر. وإما لخللٍ في وضع اليد عليه (¬2)؛ كالمأخوذ بنحو غصبٍ، أو سرقةٍ، أو عقدٍ فاسدٍ، أو نحو ذلك مما حظره الشرع، بخلافه بنحو عقدٍ صحيحٍ، أو إرثٍ، أو أخذٍ من مباحٍ، أو من غير معصوم، أو ممتنع من نحو زكاة، أو وفاء دَينٍ (¬3)، فهذه كلها حلالٌ بيِّن. (وبينهما أمور) (¬4) أي: شؤون وأحوال (مشتبهاتٌ) جمع مشتبهٍ؛ وهو: كل ما ليس بواضح الحل والحرمة مما تنازعته الأدلة، وتجاذبته المعاني والأسباب، فبعضها يعضده دليل الحرام، وبعضها يعضده دليل الحلال، ومن ثَمَّ فسر أحمد وإسحاق وغيرهما المشتبه بما اختلف في حل أكله كالخيل، أو شربه كالنبيذ، أو لبسه كجلود السباع، أو كسبه كبيع العِينة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى الكبرى الفقهية" (4/ 229 - 230). (¬2) قوله: (إما لخللٍ) عطف على قوله: (إما لمفسدة) كما عرف. (¬3) قوله: (أو وفاء دين) أي: أو ممتنع من وفاء دين بالنسبة للدائن. وفي عدة نسخ: (أو أداء دين). (¬4) قوله: (أمور) جُعلت متنًا في نسخ الشرح، وليست في نسخ المتن ولا في "الصحيحين"، فليتنبه. (¬5) قوله: (كبيع العِينة) بكسر العين المهملة، وسكون المثناة تحت؛ وهو: أن يبيع متاعًا بثمنٍ، ثم بعد أن يقبضه المشتري يبيعه لبائعه بأقل مما اشتراه به، وهو حلالٌ عندنا، حرامٌ عند الغير؛ لأنه من حيل الربا، فإن باعه لغير بائعه. . حل اتفاقًا. اهـ "مدابغي"

وفسره أحمد مرة باختلاط الحلال والحرام، وحكم هذا أنه يخرج قدر الحرام، ويأكل الباقي عند كثيرين من العلماء، سواء أقل الحرام أم أكثر. ومن المشتبه معاملة مَنْ في ماله حرام؛ فالورع تركها مطلقًا وإن جازت، وقيل -واعتمده الغزالي-: إن كان أكثر ماله الحرام. . حرمت معاملته (¬1). ثم الحصر في الثلاثة صحيحٌ؛ لأنه إن نُصَّ أو أُجمِع على الفعل. . فالحلال، أو على المنع جازمًا. . فالحرام، أو سُكِت عنه أو تعارض فيه نصَّان ولم يعلم المتأخر منهما. . فالمشتبه، ولكونه أشكل الثلاثة مسَّتِ الحاجة إلى مزيد بيانه وإيضاحه، فنقول: علم مما مر: أن الحلال المطلق: ما انتفى عن ذاته الصفات المحرِّمة، وعن أسبابه ما يجر إلى خللٍ فيه. ومنه: صيدٌ احتُمِل أنه صِيدَ وانفلت من صائده (¬2)، ومُعارٌ احتُمِل موت المعير وانتقاله إلى ورثته (¬3)، وليس هذا مشتبهًا، فلا ورع في العمل بذلك الاحتمال؛ لأنه هَوَسٌ؛ لعدم اعتضاده بشيء، مع أن الأصل: عدمه، وإنما المشتبه: الذي يتجاذبه سببان متعارضان يؤديان إلى وقوع التردُّد في حلِّه وحرمته كما مر. وأن الحرام: ما في ذاته صفةٌ محرمةٌ كالإسكار، أو في سببه ما يجر إليه خللًا كالبيع الفاسد. ¬

_ (¬1) قال العلامة عبد اللَّه بن سليمان الجرهزي في "المواهب السنية شرح الفوائد البهية" (2/ 62): (وسبقه إلى ذلك القول الشيخ أبو حامد في مواضع من "تعليقه" حيث كان مختلطًا، ومال إليه الأذرعي، وكذا الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيمن يندر الحلال معه، وألحق الغزالي مَنْ عليه دلائل الظَّلمة في المال كزي الجندي، ودونه مَنْ زيّه كالفسقة وغيرهم، وتردد فيه، ذكره أبو قشير، وقال في "التحفة" [9/ 389]: لا يحرم معاملة من أكثر ماله حرامٌ ولا الأكل منها؛ كما صحَّحه في "المجموع" وأنكر قول الغزالي بالحرمة مع أنه تبعه في "شرح مسلم" اهـ، ويظهر اختصاص الحرمة أو الكراهة على غير من في يده مالُهُ، بخلاف المظلوم ممن ظلمه ولم يظلم غيره، ويحتمل أن محله فيما هو من جنس ماله، ويحتمل تخصيصه بما إذا لم يملكه الغاصب حتى تنتقل اليد إلى ذمته). (¬2) صورته: أن يصطاد سمكةً مثلًا، ثم يخيل له أنه يحتمل أن تلك السمكة صادها غيره فملكها بالصيد، ثم انفلتت منه ودخلت في البحر. اهـ "مدابغي" (¬3) صورته: أنه استعار ثوبًا مثلًا للبسه، ثم خُيل له أن يكون ذلك المعير مات، وانتقل ذلك الثوب لورثته، فالملك فيه حينئذٍ لهم، ولم يقع منهم إذنٌ له في الاستعمال. اهـ "مدابغي"

ومنه: ما تحقَّقت حرمته واحتمل حلُّه كمغصوبٍ احتمل إباحة مالكه، فهو حرامٌ صِرف وليس من المشتبه، لما قررناه في نظيره؛ إذِ الذي فيهما احتمالٌ محضٌ لا سبب له في الخارج إلا مجرد التجويز العقلي، وهو لا عبرة به، فليسا من المشكوك فيه. وأما المشتبه بالمعنى الذي قررناه آنفًا. . فهو أقسامٌ أربعة: الأول: الشك في المحلل والمحرم، فإن تعادلا. . استصحب السابق، وإن كان أحدهما أقوى لصدوره عن دلالةٍ معتبرةٍ في العين. . فالحكم له، فلو رمى صيدًا فجرحه، فوقع في ماءٍ أو نارٍ، أو على طرف سطحٍ، أو جبلٍ، فسقط منه، أو على شجرةٍ فصدمه غصنها، أو أرسل كلبه وشَرِكه فيه كلبٌ آخر وشكَّ في قاتله منهما. . حرم؛ لأن الأصل: التحريم، فلا يزال بالشك في المبيح. ولو جرح طير الماء وهو على وجهه ومات، أو جرحه وهو خارج الماء فوقع فيه، أو وهو في مائه والرامي في سفينةٍ في الماء. . حلَّ (¬1)، أو في البَرِّ. . فلا إن لم ينتهِ بالجرح إلى حركة مذبوح. الثاني: الشك في طروِّ محرِّمٍ على الحل المتيقَّن، فالأصل: الحل، فلو قال: إن كان ذا الطائر غرابًا. . فامرأتي طالق، وقال آخر: إن لم يكن هو. . فامرأتي طالق، والتبس أمره. . لم يُقضَ بالتحريم على واحدٍ منهما على الأصح؛ لأن كلًّا منهما على يقين الحل بالنظر إلى نفسه؛ إذ لم يعارضه بالنظر إليه وحده شيءٌ، وإنما عارضه يقين التحريم بالنظر إلى ضم غيره إليه، ولا مسوغ لهذا الضم؛ لأن المكلف إنما يكلف بما يخصه هو على انفراده، ومن ثَمَّ لو قالهما واحدٌ في زوجتيه؛ كأن علَّق طلاق إحداهما بكونه غرابًا، وأخرى بكونه غيره. . لزمه اجتنابهما؛ لأن إحداهما طلقت منه يقينًا، وأصل الحلِّ فيهما عارضه يقينُ التحريم في إحداهما بالنظر إليه وحده، فارتفع به ذلك الأصل. الثالث: أن يكون الأصل التحريم، ثم يطرأ ما يقتضي الحل بظنٍّ غالبٍ، فإن ¬

_ (¬1) قال في "شرح المنهاج" (9/ 328) بحرمة ما جرح خارج الماء من طيره ثم وقع فيه، وهنا بحلِّه؛ إشارة إلى أنهما وجهان محكيان بلا ترجيح كما قال به في "شرح الروض" (1/ 555)، واللَّه أعلم. (الحاج إبراهيم) اهـ هامش (غ)

اعتبر سبب الظن شرعًا. . حلَّ وأُلغي النظر لذلك الأصل، وإلَّا. . فلا، فلو أرسل كلبًا على صيدٍ ثم غاب عنه بعد جرحه. . حلَّ إن كان الجرح مذففًا (¬1)، سواء أكان فيه أثر غيره أم لا، وكذا إن كان الجرح غير مذففٍ ولم يكن فيه أثر غيره، بخلاف ما لو غاب عنه قبل جرحه، ثم وجده مجروحًا ميتًا؛ فإنه يحرم وإن تضمَّخ الكلب بدمه. ولو وُجدت شاةٌ مذبوحة ولم يُدْرَ مَنْ ذبحها، فإن كان أهل البلد مسلمين فقط، أو كانوا أغلب. . حلَّتْ، وإن كان نحو المجوس أكثر، أو استويا. . حرمت؛ لأن أصل التحريم حينئذٍ لم يعارضه أقوى منه. الرابع: أن يعلم الحل ويغلب على الظن طروُّ محرِّمٍ، فإن لم تستند غَلَبَتُه لعلامةٍ تتعلَّق بعينه. . لم يعتبر، ومن ثَمَّ حكمنا بطهارة ثياب الخمَّارين، والجزارين، والكفرة المتدينين باستعمال النجاسة، وإن استندت لعلامةٍ تتعلَّق بعينه. . اعتُبرتْ وأُلغي أصل الحل؛ لأنها أقوى منه، فلو رأى ظبيةً تبول في ماءٍ كثيرٍ، فوجده عقب البول متغيرًا، أو شك هل تغيره به، أو بمكثٍ مثلًا، وأمكن تغيره به. . فهو نجسٌ؛ بخلاف ما لو وجده متغيرًا بعد مدة، أو وجده عقبه غير متغير، ثم ظهر التغير، أو لم يمكن التغير به لقلته؛ فإنه طاهرٌ عملًا بالأصل الذي لم يعارضه حينئذٍ ما هو أقوى منه. والحاصل: أنه إذا تعارض أصلان، أو أصلٌ وظاهرٌ. . فقال جماعةٌ من متأخري الخراسانيين: إن في كل مسألةٍ من ذلك قولين، لكن قال المصنف رحمه اللَّه تعالى في "شرح المهذب": (هذا الإطلاق ليس على ظاهره؛ فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف (¬2)، كشهادة عدلين؛ فإنها تفيد الظنَّ ويعمل بها بالإجماع، ولا نظر إلى أصل براءة الذمة، ومسألة بول الظبية وأشباهها (¬3)، ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف، كمن ظن حدثًا، أو طلاقًا، أو عتقًا، أو أصَلَّى ثلاثًا أم أربعًا (¬4)؛ فإنه يعمل بالأصل بلا خلاف). ¬

_ (¬1) أي: مزهقًا للروح ومسرِّعًا للموت. (¬2) في "المجموع": (. . . بالظن بلا خلاف). (¬3) في "المجموع": (بول الحيوان وأشباهها). (¬4) في "المجموع": (أربعًا لا ثلاثًا).

قال: (والصواب في الضابط: ما حرَّره ابن الصلاح فقال: إذا تعارض أصلان، أو أصلٌ وظاهرٌ. . وجب النظر في الترجيح، كما في تعارض الدليلين، فإن تردَّد في الراجح. . فهي مسائل القولين، وإن ترجَّح دليل الظاهر. . حكم به بلا خلاف، وإن ترجح دليل الأصل. . حكم به بلا خلاف) اهـ (¬1) فالأقسام حينئذ أربعة: أولها: ما ترجح فيه الأصل جزمًا، وضابطه: أن يعارضه احتمالٌ مجرد كما مر (¬2). ثانيها: ما ترجح فيه الظاهر جزمًا، وضابطه: أن يستند إلى سببٍ نصبه الشارع، كشهادة العدلين، واليد في الدعوى، ورواية الثقة، وإخباره بدخول وقت، أو برؤية ماءٍ، وإخبارها بحيضها في العدة. أو عُرِف عادةً (¬3)، كأرضٍ بشط نهرٍ الظاهرُ أنها تغرق وتنهار في الماء، فلا يجوز استئجارها، ومثَّل الزركشي له باستعمال السرجين في أواني الفخار، فيحكم بنجاستها قطعًا، ونقله عن الماوردي، وبالماء الهارب من الحمام؛ لاطراد العادة بالبول فيه، وفيه نظر كما بينته في شرحي "الإرشاد" و"العباب" وعلي تسليمه فيُعفى عن تلك الأواني؛ كما نصَّ عليه الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه، فإنه لمَّا دخل مصر. . سُئِل عنها فقال: إذا ضاق الأمر. . اتسع. أو ضم إليه ما يعضده (¬4)، كما مر في بول الظبية. ثالثها: ما ترجح فيه الأصل على الأصح، وضابطه: أن يستند الاحتمال فيه إلى سببٍ ضعيف، وأمثلته لا تكاد تنحصر، ومنها ما مر في نحو ثياب الخمارين، وما لو أدخل كلبٌ رأسه في إناءٍ وأخرجه وفمه رَطْبٌ ولم يعلم ولوغه. . فهو طاهر. ¬

_ (¬1) انظر "المجموع" (1/ 260). (¬2) أي: في مسألتي الصيد والمعار. (¬3) معطوف على قوله: (نصبه الشارع) أي: أو أن يستند إلى سببٍ عُرِف عادةً. (¬4) أي: ويستند إلى سبب ضُمَّ إليه ما يعضده.

وما لو تنحنح إمامه فظهر منه حرفان، فلا يفارقه؛ لأن الأصل: بقاء صلاته، ولعله معذور. وما لو امتشط مُحرِمٌ فرأى شعرًا، وشك هل نتفه أو انتتف. . فلا فدية عليه؛ لأن النتف لم يتحقق، والأصل: براءة الذمة. رابعها: ما ترجح فيه الظاهر على الأصح، وضابطه: أن يكون سببًا قويًا منضبطًا، فلو شك بعد الصلاة في ترك ركني غير النيَّة والتحرُّم، أو شرطٍ كأن تيقَّن الطهارة وشك في ناقضها. . لم تلزمه الإعادة؛ لأن الظاهر: مضي عبادته على الصحة، أو شك بعد فراغ (الفاتحة)، أو الاستنجاء، أو غسل الثوب: في بعض كلماتها، أو هل استجمر بحجرين أو ثلاث، أو هل استوعب الثوب (¬1). . لم يؤثر لذلك، ولو اختلفا في صحةِ عقدٍ صُدِّق مدعيها؛ لأن الظاهر: جريان العقود بين المسلمين على قانون الشرع، وفي تعارض الأصلين تارةً يجزم بأحدهما، وتارةً يجري خلافٌ ويرجح ما عضده ظاهرٌ أو غيره. قال ابن الرفعة: ولو كان في جهةٍ أصلٌ، وفي أخرى أصلان. . قُدِّما جزمًا. قال الإمام: وليس المراد بتعارضهما تقابلَهما على جهةٍ واحدةٍ في الترجيح؛ فإن هذا كلامٌ متناقض، بل المراد: التعارض بحيث يَتَخَيَّل الناظرُ في ابتداء نظره [تساويهما] (¬2)، فإذا حقَّق فكره. . رجَّح. (لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس) أي: من حيث الحلُّ والحرمة لخفاء النص فيه؛ لكونه لم ينقله إلا القليل، أو لتعارض نصَّينِ فيه من غير معرفة المتأخر، أو لعدم نصٍّ ¬

_ (¬1) فيه لفٌّ ونشرٌ مرتَّبٌ؛ فقوله: (في بعض كلماتها) عائدٌ على (الفاتحة)، و (أو هل استجمر. .) عائدٌ على الاستنجاء، و (أو هل استوعب. .) عائدٌ على غسل الثوب. (¬2) ليست في النسخ، ولا بد منها لتتضح العبارة، وهي مثبتةٌ من "المواهب السنية شرح منظومة الفوائد البهية في القواعد الفقهية" (1/ 227) للعلامة عبد اللَّه بن سليمان الجرهزي رحمه اللَّه تعالى، حيث نقل فيه كلام الإمام هذا بنصه، قال العلامة ياسين الفاداني رحمه اللَّه تعالى في حاشيته على "المواهب السنية" المسماة: "الفوائد الجنية" (1/ 227): (قوله: "تساويهما" أي: يظهر في خيال المجتهد عند بادئ أمره أن الأصلين متساويان) وهذا أولى من قول العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى في "حاشيته" عليها: (قوله: "بحيث يتخيل الناظر" أي: التعارض) حيث لم تكن الزيادة في نسخته، واللَّه أعلم.

صريحٍ فيه، وإنما يؤخذ من عمومٍ أو مفهومٍ أو قياسٍ، وهذا يكثر اختلافُ أفهامِ العلماء فيه، أو لاحتمال الأمر فيه للوجوب والندب (¬1)، والنهي للكراهة والحرمة، أو لنحو ذلك. ومع هذا فلا بد في الأمة من عالم يوافق الحقَّ قولُه، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبهًا عليه كما يأتي. وخرج بالحيثية التي ذكرتُها علمهُنَّ من حيث إشكالهنَّ؛ لترددهنَّ بين أمورٍ محتملة؛ لأن علم كونهنَّ مشتبهات يستلزم علمهنَّ من هذه الحيثية. أما النادر من الناس وهم الراسخون في العلم. . فلا يشتبه عليهم ذلك؛ لعلمهم من أيِّ القسمين هو بنصٍّ، أو إجماعٍ، أو قياسٍ، أو استصحابٍ، أو غير ذلك. فإذا تردَّد شيءٌ بين الحل والحرمة، ولم يكن فيه نصٌّ ولا إجماعٌ. . اجتهد فيه المجتهد، وأخذ بأحدهما بالدليل الشرعي، فيصير مثله (¬2). وقد يكون دليله غير خالٍ عن الاحتمال، فيكون الورع تركه، كما يرشد إليه قوله: "فمن اتقى الشبهات. . . إلخ"، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيءٌ فهو باقٍ على اشتباهه بالنسبة للعلماء وغيرهم، ومثله ما لم يتنازعه شيءٌ مما مر، لكن لم يتيقَّن سبب حله ولا حرمته؛ كشيءٍ وجده ببيته ولم يدر هل هو له أو لغيره، وتقوى الشبهة بأن يكون هناك محظورٌ من جنسه ويشك هل هو منه أو من غيره؟ وحينئذٍ اختلفوا فيما يؤخذ به، فقيل: بحله؛ لقوله صلى اللَّه عليه وسلم الآتي: "كالراعي. . . إلخ" فتكره مواقعته، والورع تركها؛ لأنه -أعني الورع- عند ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما ومن تبعه: تركُ قطعة من الحلال خوف الوقوع في الحرام. وقيل: بحرمته؛ لأنه يوقع في الحرام، ولقوله صلى اللَّه عليه وسلم الآتي: "فمن اتقى الشبهات. . . إلخ". وقيل: لا يقال فيه واحدٌ منهما؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم جعله قسيمًا لهما. ¬

_ (¬1) قوله: (فيه) أي: في النص. (¬2) أي: مثل أحدهما بمعنى أنه يصير حلالًا إن أدَّاه اجتهاده إلى الحل، وحرامًا إن أداه إلى الحرمة. اهـ هامش (ج)

قال القرطبي: (والصواب: الأول) (¬1)، وقال المصنف: (الظاهر: أن هذا الخلاف مخرجٌ على الخلاف المعروف في الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب، والأصح: أنها لا يحكم فيها بحلٍّ ولا حرمةٍ، ولا إباحةٍ ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع) اهـ (¬2)، واعترضه جماعةٌ من المتأخرين كما بيَّنتُه مع الجواب عنه في "شرح العباب" في (باب النجاسة). قال القرطبي: (ودليل الحل: أن الشرع أخرجها من قسم الحرام، وأشار إلى أن الورع تركها بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك") (¬3). ومن عبَّر بـ (أنها حلال يتورع عنها). . أراد بـ (الحلال) مطلق الجائز الشامل للمكروه، بدليل قوله: (يتورع عنها) لا المباح المستوي الطرفين؛ لأنه لا يتصور فيه ورعٌ ما داما مستويين، بخلاف ما إذا ترجَّح أحدهما؛ فإنه إن كان الراجح الترك. . كُره، أو الفعل. . نُدب. لا يقال: هو صلى اللَّه عليه وسلم وأكثر أصحابه زهدوا في التنعُّم في المأكل وغيره مع إباحته؛ لأنا نمنع إباحته بأنهم إنما زهدوا في مُترجِّح الترك شرعًا، وهذه حقيقة المكروه، لكنه تارةً يكرهه الشرع لذاته؛ كأكل متروك التّسمية عندنا، وتارةً يكرهه لخوف مفسدةٍ تترتَّب عليه؛ كالقُبْلة لصائمٍ لم تحرِّك شهوته (¬4)، وتركهم التنعم من هذا؛ لأنه يترتب عليه مفاسد حالية كالركون للدنيا، ومآلية كالحساب عليه في الآخرة، وعدم القيام بشكره، وغير ذلك. والدليلُ على أن ترك الشبهات ورعٌ: قولُه صلى اللَّه عليه وسلم لمن تزوج امرأةً -فقالت له سوداء: قد أرضعتكما-: "أليس وقد قيل؟! دعها عنكَ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "المفهم" (4/ 488). (¬2) انظر "شرح صحيح مسلم" (11/ 28). (¬3) انظر "المفهم" (4/ 488). (¬4) المعتمد: أن القُبْلة للصائم إن حركت شهوته: بأن خاف الإنزال أو الجماع. . حرمت، وإن لم تحرك شهوته. . كانت خلاف الأَولى، وعبارة "المنهج": وحَرُم نحو لمسٍ إن حرك شهوة، وإلَّا. . فتركه أولى. اهـ "مدابغى" (¬5) أخرجه البخاري (2660)، والترمذي (1151)، والنسائي (6/ 109) عن سيدنا عقبة بن الحارث رضي اللَّه عنه.

وقوله لزوجته سودة رضي اللَّه تعالى عنها لمَّا اختصم أخوها عبد وسعد بن أبي وقاص في ابنِ وليدةِ أبيها زمعة (¬1)، فألحقه صلى اللَّه عليه وسلم بأبيها بحكم الفراش، ولكنه رأى فيه شبهًا بيِّنًا بعتبة أخي سعد: "احتجبي منه يا سودة" (¬2). قال جمهور العلماء: الإفتاء الأول تحرزٌ عن الشبهة، وحثٌّ على الأحوط؛ خوفًا من الوقوع في فرجٍ محرمٍ بتقدير صدق المرضعة، لا تحريمٌ صِرْفٌ؛ للإجماع على أن شهادة امرأةٍ واحدةٍ غيرُ كافيةٍ في مثل ذلك، والثاني كذلك؛ لأنه حكم بأنه أخوها، فأَمْرُها بالاحتجاب منه مجردُ احتياط؛ نظرًا إلى ما فيه من الشَّبَهِ البيِّنِ بعتبة، المقتضي كونَهُ أجنبيًا عنها، وهذا مُؤْذِنٌ بأنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يعلم باطن الأمر، وإلَّا. . لما أمرها بذلك، ودالٌّ على أنه ينبغي للمفتي أن يجيب بالاحتياط في النوازل المحتملة للتحريم والتحليل؛ لاشتباه أسبابها عليه وإن علم حكمها يقينًا باعتبار ظاهر الشرع، وممَّن صرَّح بما مر تصويبه (¬3) ابنُ المنذر، حيث قال: ما تيقن حرمته وشك في بقاء سبب تحريمه باقٍ على أصل تحريمه، وعكسه في الحلال؛ لخبر: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا" (¬4). وما احتملهما ولا مرجح لأحدهما. . الأحسن: التنزه عنه، كما تنزه صلى اللَّه عليه وسلم عن تمرةٍ ساقطةٍ في بيته وقال: "لولا أخشى أن تكون من الصدقة. . لأكلتها" (¬5). وإذا تقرر أن المشتبه مترددٌ بين الحرام والحلال؛ لتعارض سببهما، وتنازع دليلهما، وأن الأَوْلى والأحوط: التنزه عنه خوفًا من الوقوع في الحرام على أحد التقديرين، وعلم أن المشتبهات على قسمين بالنسبة لمن هي مشتبهة عليه (¬6)، وعلي ¬

_ (¬1) أي: جارية أبيها. (¬2) أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) أي: عن الإمام القرطبي رحمه اللَّه تعالى. (¬4) أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361) عن سيدنا عبد اللَّه بن زيد رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البخاري (2055)، ومسلم (1071) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬6) المتقي منها للاشتباه، والواقع فيها مع الاشتباه. (عردي) اهـ هامش (غ)

ثلاثة أقسام لا بالنسبة لذلك (¬1): مُتَّقِيها (¬2)، والواقعِ فيها مع اشتباهها عليه، والواقعِ فيها لا مع اشتباه، بأن يعلم حكمها. . اقتصر صلى اللَّه عليه وسلم على القسمين الأولين، وحذف هذا الثالث؛ لظهور حكمه فقال: (فمن اتقى) من التقوى، وهي لغة: جعل النفس في وقايةٍ مما يخاف، وشرعًا: حفظ النفس عن الآثام وما يجرُّ إليها، وهي في عرف الصوفية -قدس اللَّه تعالى أرواحهم-: التبري مما سوى اللَّه سبحانه وتعالى بالمعنى المعروف المقرر عندهم. وعدل إلى (اتقى) عن (ترك) المرادف له هنا؛ ليفيد أن تركها إنما يعتد به في استبراء الدين والعرض إن خلا عن رياء ونحوه وإن صحبه قصد براءة أحدهما فقط. (الشبهات) فيه إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ تفخيمًا لشأن اجتناب الشبهات؛ إذ هي المشتبهات بعينها، والشبهة: ما يُخيَّل للناظر أنه حجةٌ وليس كذلك، وأُريد بها هنا ما مر في تعريف المشتبه. (فقد استبرأ) بالهمز، وقد يُخفَّف؛ أي: طلب البراءة (لدينه) من الذم الشرعي وحصَّلَها له، كاستبرأ من البول: حصَّل البراءة منه. (وعرضه) بصونه عن كلام الناس فيه بما يَشينه ويَعيبه، فهو هنا الحسب؛ وهو: ما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه، وصونه عن الشين والعيب من آكد ما يعتني به ذوو المروءات والهمم. وقيل: النفس؛ لأنها التي يتوجَّه إليها الذم والمدح من الإنسان، وفسَّره بعضهم بما يعمهما، فقال: هو موضع الذم والمدح من الإنسان، وذلك إما في نفسه، أو سلفه، أو أهله، وحينئذٍ يسلم من العذاب والذم والعيب على كل تقدير، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء اللَّه تعالى وثوابه، وثناء رسله وخلقه، وروى الترمذي: "لا يكفي أحدًا أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به؛ حذرًا مما به بأس" (¬3). ¬

_ (¬1) في نسخة المحقق محمد الهجوي: (على قسمين لا بالنسبة لمن هي مشتبهة عليه، وعلي ثلاثة أقسام بالنسبة لذلك: متقيها. . .) وهو الظاهر فيما نظن، واللَّه تعالى أعلم. اهـ هامش (غ) (¬2) قوله: (متقيها) بدل من (ثلاثة) في قوله: (وعلي ثلاثة أقسام). وفي أكثر النسخ: (تيقنها). (¬3) سنن الترمذي (2451) عن سيدنا عطية السعدي رضي اللَّه عنه.

وجاء في الأثر: (من وقف موقف تهمةٍ -وفي رواية: من عرض نفسه للتهم- فلا يأمن من إساءة الظن به) (¬1). وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم لمن رأياه مع امرأةٍ فَهَرْوَلَا: "على رِسْلكما؛ إنها صفية" خوفًا عليهما لمن يظنا به شيئًا فيهلكا، ولم ينظر إلى أن وقوع ذلك منهما بعيدٌ جدًا، ومن ثَمَّ لما أشارا لذلك. . قال لهما: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" (¬2). وفي عطف العِرض على الدين دليلٌ على أنَّ طلبَ براءتِهِ مطلوب ممدوحٌ كطلب براءة الدين، ومن ثَمَّ ورد: "ما وقي به العرض. . فهو صدقة" (¬3)، وعلي طلب نزاهته (¬4) مما يظنه الناس شبهة ولو ممن علم عدمها في نفس الأمر. ومن ثَمَّ لما خرج أنس رضي اللَّه تعالى عنه لصلاة الجمعة، فرأى الناس راجعين منها. . دخل محلًّا لا يرونه وقال: (من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من اللَّه) (¬5)، ورفْعُ الطبراني له غير صحيحٍ (¬6). ولو أمره أحد أبويه بأخذ أو بأكل شبهة. . فقال الإمام أحمد: لا يطيعهما، وقال بعض السلف: يطيعهما، وتوقَّف آخرون (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج نحوه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (44/ 359)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (747)، وعزاه الإمام السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 566) إلى الزبير بن بكار في "الموفقيات" كلهم أخرجوه من كلام سيدنا عمر رضي اللَّه عنه، ولفظه في "تاريخ دمشق": (من كتم سره. . كانت الخيرة في يده، ومن عرض نفسه للتهمة. . فلا يلومنَّ من أساء به الظن، ولا تظننَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءًا تجد لها في الخير مدخلًا، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تكثر الحلف فيهينك اللَّه، وما كافأت من عصى اللَّه فيك بمثلِ أن تطيع اللَّه فيه، وعليك بإخوان الصدق: اكتسبهم؛ فإنهم زينٌ في الرخاء، عُدةٌ عند البلاء). (¬2) أخرجه البخاري (3281)، ومسلم (2175) عن أم المؤمنين سيدتنا صفية بنت حيي رضي اللَّه عنها. (¬3) أخرجه الحاكم (2/ 50)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 242)، والدارقطني في "سننه" (3/ 28) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬4) أي: ودليل على طلب نزاهته. (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5435)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (19/ 332) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬6) انظر "المعجم الأوسط" (7155) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬7) قوله: (ولو أمره أحد أبويه بأخذ أو بأكل شبهة. . . إلخ) قال في "المشكاة": والذي يتجه: أن الشبهة إن خفَّت ولم يكن على الولد في ذلك ضررٌ بوجهٍ، وكان إن لم يفعل ذلك تأذَّى الوالد أذًى ليس بالهيِّن. . جاز، وإلَّا. . فلا. اهـ "مدابغي"

ولاستحالة اتقاء ما لا يعرف كان اتقاء الشبهات يستدعي تفاصيلها بذكر جُملٍ منها، وهي أن الشيء إذا لم يتنازعه دليلان. . فهو حلالٌ بيِّن، أو حرامٌ بيِّن، وإن تنازعه سبباهما؛ فإن كان سبب التحريم مجرد توهمٍ وتقدير، لا مستند له، كترك النكاح من نساء بلدٍ كبير خشية أن له فيها محرمًا بنسبٍ، أو رضاعٍ، أو مصاهرةٍ، واستعمال ماء بمجرد احتمال وقوع نجاسة فيه. . أُلغي ولم يلتفت إليه بكل حال (¬1)؛ لأن ذلك التجويز هَوَسٌ، فالورع فيه وسوسةٌ شيطانية؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيءٌ، وليس منه تركه صلى اللَّه عليه وسلم لأكل التمرة السابق ذكرها آنفًا؛ لأن احتمال كونها من الصدقة غير بعيد؛ لكثرة إتيانهم بصدقاتِهم التمرِ للمسجد، وحجرته ملتصقةٌ به، فخشي انتثار تمرةٍ منه إلى حجرته، أو أن نحو صبيٍّ دخل بها، فهو احتمالٌ قريبٌ، فتورَّع نظرًا له. وإن كان سببه له نوعَ قوةٍ. . فالورع مراعاته؛ كما مر في قضية المرضعة وسودة، ومن ثَمَّ سن مراعاة الخلاف الذي لم يعارض سنةً صحيحةً، ولا ضعُف مدركه جدًا؛ لاحتمال أنه الحق؛ إذ المصيب في الفروع واحدٌ لا بعينه، فإن لم يكن له نوع قوة. . لم يتوقف لأجله؛ لأنه ملحقٌ بالقسم الأول. وإن تكافأ السببان. . تأكد الورع فيه، ولم يجب التوقف فيه إلى الترجيح، خلافًا لبعضهم؛ لأن الأصل: الحل، فاندفع قوله: الإقدامُ على أحد الأمرين من غير رجحانٍ حكمٌ بغير دليلٍ فيحرم؛ إذ لا دليل مع التعارض، ولعل من حرَّم مواقعة الشبهة. . أراد هذا النوع، ومن كرهها. . أراد الذي قبله. اهـ (ومن وقع في الشبهات. . وقع في الحرام) (¬2) أي: كان بصدد الوقوع فيه؛ لأن من أكثر تعاطيها. . ربما صادف الحرام المحض وإن لم يتعمَّده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير، ولأن التجرؤ عليها مع اعتياد مواقعتها يوجب تساهلًا وجراءةً ¬

_ (¬1) قوله: (واستعمال ماء. . . إلخ) أي: وترك استعمال. . . إلخ. (¬2) قوله: (وقع في الحرام) يحتمل ثلاثة معان: أحدها: مَن أكثر من تعاطي الشبهات. . كان بصدد الوقوع في الحرام؛ فتارة يقع فيه وتارة لا، والثاني: أنه يصادف الحرام وهو لا يشعر به، والثالث: أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويجسر على شبهة أغلظ منها، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا. اهـ "مدابغي"

يحملانه عادةً على الحرام المحض (¬1)، ومن ثَمَّ قيل: الصغيرة تجرُّ للكبيرة، وهي تجر للكفر، وهو معنى قول السلف -وقيل: إنه حديث-: (المعاصي بريد الكفر) (¬2)، المؤيد بقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وبرواية "الصحيحين" في هذا الحديث: "ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم. . أوشَكَ أن يواقع ما استبان" (¬3) أي: الحرام الذي ظهر. وبرواية غيرهما: "ومن يخالط الريبة. . يوشك أن يجسر على الحرام المحض" (¬4) والجَسور: المقدام الذي لا يهاب شيئًا، ولا يراقب أحدًا. وفي بعض المراسيل: "من يرعى بجانب الحرام. . يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات. . يوشك أن تخالطه الكبائر" (¬5). ثم ضرب صلى اللَّه عليه وسلم مثلًا لمحارم اللَّه فيه أحسن التنبيه، وآكد التحذير، وأصله: أن ملوك العرب كانوا يحمون مراعيَ لمواشيهم، ويتوعَّدون من دخلها بالعقوبة، فيَبْعُد الناس عنها؛ خوفًا من تلك العقوبة، فقال: (كالراعي) أصله: الحافظ لغيره، ومنه قيل للوالي: راعي، وللعامة: رعية، وللزوجة والقِنِّ: راعيان في مال الزوج والسيد، ونحو ذلك، ثم خُصَّ عرفًا بحافظ الحيوان كما هنا. (يرعى حول الحمى) أي: المحمي؛ وهو: المحظور على غير مالكه (¬6). (يوشِك) بكسر الشين مضارع أوشك بفتحها، وهو من أفعال المقاربة، ومعناها ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (يوجب تساهلًا وجرأة يحملانه عادة على الجرأة على الحرام). (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (6831)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 229) عن أبي حفص النيسابوري رحمه اللَّه من كلامه. (¬3) صحيح البخاري (2051) والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 264) وعزاه للبخاري ومسلم، وقال: (وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي فروة) وهو رواية ذكر مسلم السند فيها فقط بحد الحديث (1599)، كلهم أخرجه عن سيدنا النعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه أبو داوود (3329)، والنسائي (7/ 241)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 334) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما بنحوه. (¬5) عزاه الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 205) إلى "مراسيل أبي المتوكل الناجي". (¬6) قوله: (على غير مالكه) بأن يمنع الإمام أو نائبه من رَعْيِ مكانٍ لأجل مواشي الصدقة أو خيل المجاهدين. اهـ هامش (غ)

هنا: يسرع (أن يرتع) بفتح التاء فيه وفي ماضيه. "فيه" أي: تأكل ماشيته منه فيعاقب، وأصله: الإقامة والتبسُّط في الأكل والشرب، ومنه قول إخوة يوسف: {نرتع ونلعب} (¬1)، فكما أن الراعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد؛ لأنه يلزم من القرب غلبة الوقوع وإن أكثر الحذر، فيعاقب. . كذلك حمى اللَّه سبحانه وتعالى، أي: محارمه التي حظرها، لا ينبغي قرب حماها، فضلًا عنها؛ لغلبة الوقوع فيها حينئذ، فيستحق العقوبة، وإنما الذي ينبغي تحري البعد عنها وعما يجر إليها من الشبهات ما أمكن، حتى يسلم من ورطتها، ومن ثَمَّ قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} نهى عن المقاربة حذرًا من المواقعة، وقد حُرِّمت أشياء كثيرة مع أنه لا مفسدة فيها؛ لأنها تجر إليها؛ كقليل المسكر، وقُبْلة الصائم ممن خاف، والخلوة بالأجنبية. قال شارح مالكي: (فيه دليل لسد الذرائع) اهـ، وفي إطلاقه نظر؛ لأنه إن أُريد مطلق سدها. . فواضح؛ إذ المذاهب الأربعة لا تخلو من ذلك، وإن أُريد خصوصه عند مالك. . فلا دليل فيه لهذا الخصوص. (أَلَا) حرف استفتاح كـ (أَمَا) لكن الأُولى يتعيَّن كسر (إن) بعدها، والثانية يجوز فيها الكسر والفتح، كالواقعة بعد (إذا)، والقصد به (¬2) إعلام السامع بأن ما بعده مما ينبغي أن يصغي إليه، ويفهمه، ويعمل به لعظم موقعه. (وإن لكل ملِك) من ملوك العرب (حمى) يحميه عن الناس، ويتوعَّد من دخل إليه، أو قرب منه بالعقوبة الشديدة، وقد حمى صلى اللَّه عليه وسلم حرم المدينة عن أن يُقطَع شجرُه، أو يصاد صيده (¬3)، وحمى عمر رضي اللَّه عنه لإبل الصدقة أرضًا ترعى فيها (¬4). ¬

_ (¬1) هكذا في النسخ، وهي قراءة الإمام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى قرأها بفتح النون فيهما وكسر العين في (نرتع)، وقرأ الإمامان أبو عمرو وابن عامر رحمهما اللَّه تعالى (نرتَعْ ونلعبْ) بالنون فيهما وتسكين الباء والعين. انظر "الحجة للقراء السبعة" (4/ 402) للإمام أبي علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي رحمه اللَّه تعالى. (¬2) أي: بحرف الاستفتاح. (¬3) أخرجه مسلم (1362)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 198)، وأبو يعلى في "مسنده" (2151) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 146)، ومعمر بن راشد في "الجامع" (19751) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه.

(ألا وإن حمى اللَّه محارمه) (¬1) أي: المعاصي التي حرمها، وهي الجناية على النفس والعرض والمال وغيرها؛ كالقتل، والزنا، والسرقة، والقذف، والخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك. وتُطلَق المحارم على المنهيات مطابقة، وعلي ترك المأمورات استلزامًا، والإطلاق الأول أشهر، وعلي كل تقديرٍ فكل هذه حمى اللَّه تعالى، مَنْ دخله بارتكابه شيئًا من المعاصي. . استحق العقوبة، ومن قاربه. . يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه. . لم يقاربه، ولا يتعلق بشيءٍ يقربه من المعصية، ولا يدخل في شيءٍ من الشبهات. وفي هذا السياق منه صلى اللَّه عليه وسلم إقامة برهانٍ عظيمٍ على اجتناب الشبهات؛ إذ حاصله: أن اللَّه عز وجل مَلِك، وكل ملكٍ له حمًى يخشى من قربانه؛ لإيقاعه في أليم عذابه ممن قرب منه، فاللَّه سبحانه وتعالى له حمًى يُخشى منه كذلك، وهذا قطعي المقدمتين والنتيجة، فلا مساغ للتشكيك فيه. وفي ذلك أيضًا: ضرب المثل بالمحسوس؛ ليكون أشد تصورًا للنفس، فيحملها على أن تتأدَّب مع اللَّه سبحانه وتعالى، كما تتأدب الرعايا مع ملوكهم. ثم حضَّ صلى اللَّه عليه وسلم وحثَّ وأكَّد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد، وبين أنه مع صغر حجمه سائر البدن تابع له صلاحًا وفسادًا فقال: (ألا وإن في الجسد) أي: البدن (مضغةً) هي: قدر ما يمضغ، كما مر، لكنها وإن صغرت في الحجم هي عظيمة في القدر، ومن ثَمَّ كانت (إذا صلحت) بفتح لامه وضمها، والفتح أشهر، كذا أطلقه كثيرون، وظاهره: أنه لا فرق بين أن يصير سجيةً وأن لا (¬2)، لكن قيَّد جمعٌ الضمَّ بما إذا صار سجية، وكذا يقال في (فَسَد). وصلاحها بصلاح المعنى القائم بها، الذي هو مَلْحَظُ التكليف، ومن ثَمَّ كان الذي عليه الجمهور: أن العقل في القلب، كما يصرح به ترتب صلاح البدن -ومن جملته ¬

_ (¬1) كرر حرف الاستفتاح؛ للدلالة على فخامة شأن مدخولها وعِظم موقعه. (¬2) في بعض النسخ: (أن يكون) بدل: (أن يصير).

الدماغ- وفسادِه على صلاح القلب وفساده في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: (صلح الجسد كله، وإذا فسدت. . فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وذلك لأنه مبدأ الحركات البدنية، والإرادات النفسانية؛ فإن صدرت عنه إرادةٌ صالحة. . تحرك البدن حركةً صالحة، وإن صدرت عنه إرادةٌ فاسدة. . تحرك البدن حركةً فاسدة، فهو كملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده، أو كعينٍ والبدن كمزرعة، فإن عذب ماؤها. . عذب الزرع، وإن مَلُح. . مَلُح، أو كأرضٍ والأعضاء كنباتٍ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}. وشاهد ذلك: أنه صلى اللَّه عليه وسلم شُقَّ قلبه الكريم أربع مرات، عند انتقاله في الأطوار التي كل طورٍ منها يحتاج لتطهير، كما بيَّنتُه في "شرح شمائل الترمذي" (¬1) فشق عند طفوليته، ثم قرب بلوغه، ثم عند بلوغه أشدَّه أول ما أُوحي إليه، ثم عند الإسراء به، وأخرج منه علقة سوداء، وقيل له: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل بماء زمزم (¬2)، الذي هو أشرف المياه (¬3)، ومن هذا أخذ البلقيني أنه أفضل من ماء الكوثر، ونُوزع فيه بما رددته في "شرح العباب"، فلمَّا طهر قلبه صلى اللَّه عليه وسلم؛ وبُولغ في تطهيره بما لم يبالغ به في غيره. . كان أفضل العالمين، ونبي الأنبياء والمرسلين صلى اللَّه عليه وسلم. والحاصل: أن القلب محل الاعتقادات والعلوم والأفعال الاختيارية، فلكونه محلًّا لهذه الخصوصية الإلهية التي تدرك بها الكليات والجزئيات، ويفرق بها بين الواجب والجائز والمستحيل. . امتاز به الإنسان عن بقية أنواع الحيوان؛ لأنه وإن وجد لها شكله، وقام بها ما تدرك به مصالحها ومنافعها، وتميز به بين مفاسدها ومضارها إلا أن هذا إدراكٌ جزئي طبيعي، وشتان ما بينه وبين الإدراك الكلي العلمي ¬

_ (¬1) انظر "أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل" (ص 57 - 58). (¬2) أخرج مسلم (162/ 261)، وابن حبان (6334)، والحاكم (2/ 528) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) قال بعضهم مرتبًا أشرف المياه: (من الرجز) وأفضل المياه ماءٌ قد نبَعْ ... بين أصابع النبيِّ المتبعْ يليه ماء زمزمٍ فالكوثرِ ... فنيل مصر ثم باقي الأنهرِ

الاختياري؛ ولهذا المعنى امتاز أيضًا عن بقية الأعضاء بكونه أشرفها، ومن ثَمَّ كانت مسخَّرةً ومطيعةً له، فما استقر فيه. . ظهر عليها، وعملت بمقتضاه، إن خيرًا. . فخيرٌ، وإن شرًا. . فشرٌّ، فكان صلاحها بصلاحه، وفسادها بفساده. وبهذا ظهر أن الحواس معه كالحُجَّاب مع الملِك؛ لأنها تدرك المعلومات أولًا، ثم تؤديها إليه ليحكم عليها، ويتصرف فيها، فهي آلاتٌ وخَدَمٌ له، وهي كما مر معه كملكٍ مع رعيته، إن صلح. . صلحوا، وإن فسد. . فسدوا، ثم يعود صلاحهم وفسادهم إليه بزيادة المصالح أو المضار الراجعة منها إليه، ومن ثَمَّ لم يكن بين تبعيتها له وتأثره بأعمالها تنافٍ؛ لما بينهما من تمام الملازمة وشدة الارتباط. وقيل: بل هي معه كملك بنيت له خمس طاقات، يشاهد من كلٍّ منها مالا يشاهده من الأخرى؛ بدليل أن النائم لو فتحت عينه. . لم يدرك شيئًا حتى يستيقظ، فحينئذٍ يدرك، فلا إدراك للحواس بذاتها، وإنما المدرِك هو من ورائها. ورُدَّ: بأن البهائم لا قلب لها بالمعنى الذي قررناه، وتدرك بالحواس، وكذلك المجنون، فدل على أنها مستقلةٌ بالإدراك، وعدم إدراك النائم يحتمل أنه لمعنًى قائم بنفس تلك الحواس، لا لعدم إدراك القلب. وقد يسمى العقل قلبًا مبالغة؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: عقل، فلقيامه به وعدم انفكاكه عنه صار كأنه هو، ومن ثَمَّ أضاف تعالى إليه العقل، كما أضاف الإسماع إلى الأذن، والإبصار إلى العين، فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وبهذه أيضًا يرد على مَنْ قال: إنه في الدماغ، ونسب لأبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه، وعليه الأطباء، واحتجاجُهم بأنه إذا فسد. . فسد العقل غيرُ مفيد؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع من ذلك، قال الماوردي: لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا، وفيه بسطٌ بينته في "شرح العباب" أوائلَ الخطبة.

وإذا بان أن صلاح القلب أعظم المصالح، وفساده أشد المفاسد. . فلا بد من معرفة ما به صلاحه ليطلب، وما به فساده ليجتنب، فالذي به صلاحه: علوم؛ وهي: العلم باللَّه تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاؤوا به مع العلم بأحكامه ومراده منها، والعلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها ومذمومها. وأعمال؛ وهي: تحلِّيه بمحمودِ تلك الأوصاف، وتخلِّيه عن مذمومها، ومنازلته للمقامات، وترقِّيه عن مفضول المنازلات. وأحوال؛ وهي: مراقبة اللَّه تعالى أو شهوده بحسب تهيئه واستعداده، كما مر في شرح قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أن تعبد اللَّه كأنك تراه" (¬1)، وتفصيل ذلك في كتب العارفين كـ"الإحياء" و"قوت القلوب" فاطلبه؛ فإنه مهمٌّ. قيل: وممَّا يصلحه تدبُّر القرآن، وخلو الجوف، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين (¬2)، ورأسُ ذلك الأعظمُ: تحرِّي أكل الحلال، واجتناب الشبهات؛ فإنها تورثه قسوةً وظُلمةً، وتجره إلى الحرام كما مر، وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم فيمن غُذِي بالحرام: "يقول: يا رب، يا رب، فأنَّى يُستجاب لذلك؟! " (¬3). وقال: "كل لحمٍ نبت من سُحتٍ. . فالنار أَولى به" (¬4). وروى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الرجل لَيُصيب الذنب فيسودّ قلبه، فإن هو تاب. . صقل قلبه" قال: "وهو الران الذي ذكره اللَّه تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 175) من شرح الحديث الثاني من أحاديث المتن. (¬2) ونظمها بعضهم -كما في "المدابغي"- فقال: (من البسيط) دواءُ قلبك خمسٌ عند قسوتِهِ ... فدُمْ عليها تفز بالخير والظفرِ خلاء بطنٍ وقرآن تدبّرهُ ... كذا تضرُّعُ باكٍ ساعة السحرِ كذا قيامك جنح الليل أوسطه ... وأن تجالسَ أهلَ الخيرِ والخبرِ (¬3) أخرجه مسلم (1015)، والترمذي (2989)، والإمام أحمد (2/ 328) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (19/ 135) عن عاصم العدوي رحمه اللَّه تعالى مرسلًا. (¬5) الترمذي (3334).

وإلى هذا المعنى أشار صلى اللَّه عليه وسلم بقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة. . . إلخ" بعد قوله: "الحلال بيِّن. . . إلخ" إشعارًا بأن أكل الحلال يُنوِّره ويُصلحه، وأكل الشبهة والحرام يُصْدئه ويقسيه ويظلمه، وقد وجد ذلك أهلُ الورع، حتى قال بعض أكابرهم: شربت من ركوة جنديٍّ شربةً، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحًا. ثم القلب لغةً: مشتركٌ بين كوكبٍ معروف، والخالص، واللب، ومنه قلب النخلة، بتثليث أوله، ومصدر قلبت الشيءَ: رددته على بدئه، والإناءَ: قلبته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه: صرفته عنه، ثم نُقل وسُمي به تلك المضغة السابقة؛ لسرعة الخواطر فيه، وترددها عليه، كما قيل: [من الطويل] وما سُمِّيَ الإنسان إلا لنسيهِ ... ولا القلب إلا أنه يتقلَّبُ وفي الحديث: "إن القلب كريشةٍ بأرض فلاةٍ تقلبها الرياح" (¬1) لكنهم التزموا فتح (قافه) فرقًا بينه وبين أصله، ومن ثَمَّ قيل: ينبغي للعاقل أن يحذر من سرعة انقلاب قلبه؛ فإنه ليس بين القلْب والقلَب إلا التفخيم (¬2). (رواه البخاري ومسلم) وقد أجمع العلماء على عظيم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده؛ إذ منها: الحث على فعل الحلال، واجتناب الحرام، والإمساك عن الشبهات، والاحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي ما يسيء الظن أو يوقع في محذور، والأخذ بالورع، وأنه لا ورع في ترك المباح، وسد الذرائع وأكثرت منه المالكية، وتعظيم القلب، والسعي فيما يصلحه ويفسده، وأنه محل العقل، وأن العقوبة من جنس الجناية، وضرب الأمثال للمعاني الشرعية العملية، وأن الأعمال القلبية أفضل من البدنية، وأنها لا تصلح إلا به، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (88)، والإمام أحمد (4/ 419)، والبيهقي في "الشعب" (738) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (فإنه ليس بين) لفظ (القلب) بمعنى الفؤاد (وبين القلب) بمعنى الانقلاب (إلا التفخيم) أي: إلا تحريك وسط هذا، وسكون وسط دلك، فكما يصير القلْب الذي بالسكون إذا حرك وسطه بمعنى الانقلاب. . يسرع انقلاب الفؤاد من حال إلى حال. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ)

وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم نبَّه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وعلى أنه ينبغي أن يحافظ على صلاح ذلك وخلوصه من الشُّبَهِ؛ ليحمي دينه وعرضه، وحذَّر من مواقعة الشُّبَه، وأوضح ذلك بضرب ذلك المثل العظيم، ثم بيَّن أهم الأمور، وهو مراعاة القلب، الذي بصلاحه تنصلح سائر أموره الظاهرة والباطنة، وبفساده تفسد جميعها. ومن ثم قيل: جَعْلُ طائفةٍ هذا الحديثَ ثلثَ الإسلام أو ربعَهُ استرواحٌ (¬1)، وإلَّا. . فلو أمعنوا النظر فيه من أوله إلى آخره. . لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها؛ لأنه بُيِّنَ فيه الحلالُ وقسيماه مع ما يتعلَّق بها مما أشرنا إليه في شرحها، وصلاح القلب وفساده، وأعمال الجوارح التابعة له، والورع الذي هو أساس الخيرات، ومنبع سائر الكمالات. ومن ثم قال الحسن: (أدركنا قومًا كانوا يتركون سبعين بابًا من الحلال خشية الوقوع في بابٍ من الحرام) (¬2). وهذه الجملة التي اشتمل عليها مستلزمةٌ لمعرفة تفاصيل الشريعة كلها أصولها وفروعها. * * * ¬

_ (¬1) أي: تساهل وراحة. (¬2) ذكره في "إحياء علوم الدين" (3/ 268) وقال: (بلغني أن بعض الصحابة قال. . .)، وذكره الإمام القشيري رحمه اللَّه تعالى في "الرسالة" (ص 90) من قول سيدنا أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه.

الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

الحديث السابع [النصيحة عماد الدين] عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيم بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" قُلْنَا لِمَنْ؟ قَالَ: "للَّهِ, وَلِكِتَابِهِ, وَلِرَسُولِهِ, وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي رقية) بضم الراء وفتح القاف وتشديد الياء، ابنةٌ له لم يولد له غيرها. (تميم بن أوس) بن حارثة، وقيل: خارجة بن سُود، وقيل: سواد بن جذيمة بن دَرَّاع بن عدي بن الدار (الداري) -نسبةً إلى جدٍّ له كما ذكرناه- القحطانيِّ، ويقال له أيضًا: الديري، نسبةً إلى ديرٍ كان يتعبَّد فيه. (رضي اللَّه) تعالى (عنه) كان نصرانيًا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلى اللَّه عليه وسلم قصة الجساسة والدجال؛ إذ وجده هو وأصحابه في البحر، فحدَّثَ النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم بذلك على المنبر، وعُدَّ ذلك من مناقبه؛ إذ لم يقع نظيره لغيره (¬2). قال ابن السكن: أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم، ولهما صحبة. وقال ابن إسحاق: قدم المدينة وغزا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم. وقال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره، وعابد أهل فِلَسْطين. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (55). (¬2) أي: حدَّث النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم بقصة الجساسة التي حدثه بها سيدنا تميم رضي اللَّه عنه، وتسمى في مصطلح الحديث: رواية الأكابر عن الأصاغر؛ وهي: أن يروي الكبير القدر أو السن أو هما عمَّن دونه في كلٍّ منهما أو فيهما، ويمثلون له بحديث الجساسة المروي في "صحيح مسلم" (2942)، وهذا المثال من أجلِّ ما يذكر في هذا الباب.

وهو أول من أسرج السراج في المسجد، وأول من قصَّ في زمن عمر بإذنه (¬1)، انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان، وسكن فلسطين، وكان صلى اللَّه عليه وسلم أقطعه بها قريةً، ولبعض محققي المتأخرين من المحدثين فيها تأليف. وكان كثير التهجد، يختم القرآن في ركعة، قام ليلة بـ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} الآيةَ حتى أصبح. مات سنة أربعين، ودفن ببيت جبرين أو جبريل من بلاد فلسطين، وهي قريةٌ من قرى الخليل. روي له ثمانية عشر حديثًا، لمسلم منها واحدٌ وهو هذا، وهو صاحب الجام (¬2) الذي نزل فيه وفي صاحبه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الآية، كما في "الترمذي" وغيره عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (¬3)، وقولُ الذهبي عن مقاتل بن حيان: إنه غيره. . مردودٌ (¬4). ولقد قال عمر لبعض من قدم عليه: (اذهب فانزل على خير أهل المدينة) فنزل على تميم قال: فبينما نحن نتحدَّث إذ خرجت نارٌ بالحرَّة، فجاء عمر إلى تميم فقال: (يا تميم؛ اخرج) فصغَّر نفسه، ثم قام فحاشها حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه (¬5)، ثم اقتحم في أثرها، ثم خرج فلم تضره (¬6). (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: الدين) مرت معانيه أول الخطبة، والمراد هنا: الملة، وهي دين الإسلام؛ أي: عماده وقوامه ومعظمه كـ "الحج عرفة" (¬7)، ¬

_ (¬1) أي: أول من وعظ الناس بذكر قصص الماضين ومآثرهم وسيرهم رضي اللَّه عنه. (¬2) وهو إناءٌ من فضةٍ، وكان وزنه ثلاث مئة درهم. اهـ "مدابغي". (¬3) سنن الترمذي (3059). (¬4) نقل الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الإصابة" (1/ 186) قول الحافظ الذهبي في "التجريد". (¬5) حاشها: جمعها وساقها؛ شبهها بالإبل عندما يجمعها سائقها فتنقاد له. (¬6) ذكره الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الإصابة" (3/ 473) وعزاه للبغوي، والقادم على سيدنا عمر هو سيدنا معاوية بن حرمل رضي اللَّه عنهما. (¬7) أخرجه أبو داوود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (5/ 256) عن سيدنا عبد الرحمن بن يعمر رضي اللَّه عنه.

فالحصر مجازيٌّ، بل حقيقيٌّ؛ نظرًا لما سنقرره في معنى النصيحة؛ فإنها لم تُبقِ من الدِّين شيئًا. (النصيحة) هي كالنُّصح بضم النون، مصدر (نصح) وقيل: الأول اسم مصدر، والثاني مصدر، هي لغة: الإخلاص والتصفية، من (نصحتُ له القول والعمل): أخلصته، ونصحت العسل: صفيته، شبهوا تخليص الناصح قولَهُ من الغشِّ بتخليص العسل من شمعه، أو من (النَّصح) بفتح النون؛ وهو: الخياطة، والمنصحة: الإبرة؛ والنِّصَاح: الخيط، والناصح: الخياط، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح ولَمِّ شَعَثِه بما تسده الإبرة، وتضمه من خرق الثوب وخلله، و (نصحت له) أفصح من (نصحته). وشرعًا: إخلاص الرأي من الغش للمنصوح وإيثارُ مصلحته، ومن ثَمَّ كانت هذه الكلمة مع وجازة لفظها كلمةً جامعةً، معناها: حيازة الخير للمنصوح له، بل ليس في كلام العرب أجمع منها ومن كلمة الفلاح لخيري الدنيا والآخرة. ودلَّتْ هذه الجملة على أن النصيحة تُسمى دينًا وإسلامًا، وعلى أن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. (قلنا) معشرَ السامعين: النصيحة (لمن؟) فيه إشارة إلى أن للعالم أن يَكِلَ فهم ما يُلقيه إلى السامع، فلا يزيد له في البيان حتى يسأله؛ لتَشَوُّف نفسه حينئذٍ إليه، فيكون أوقع في نفسه ممَّا إذا هجمه من أول وهلة. (قال) صلى اللَّه عليه وسلم: (للَّه) بالإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بجميع صفات الكمال والجلال، وتنزيهه عن جميع النقائص وما لا كمال فيه من الأوصاف، والقيام بطاعته، وتجنُّب معصيته، والحب والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والرغبة في محابِّه، والبُعد عن مساخطه، والاعتراف بنعمته، وشكره عليها، والدعاء إلى جميع ذلك وتعليمه، والإخلاص فيه للَّه عز وجل عن كل نقصٍ ووصفٍ ليس ببالغ في الكمال المطلق أقصاه وغايَتَهُ، وحفيقة هذه الأوصاف راجعةٌ إلى العبد في نصحه نفسه، وإلَّا. . فهو

تعالى غنيٌّ عن نصح الناصحين، ثم النصيحة الواجبة من ذلك هي شدة عناية الناصح بإيثاره محبة اللَّه تعالى، بفعله جميعَ ما افترض، واجتنابه جميعَ ما حرَّم، والنافلة ما عدا ذلك. (ولكتابه) مفرد مضاف، فيعم سائر كتبه المنزلة؛ بأن يؤمن بأنها من عنده وتنزيله، ويُميِّز القرآنَ بأنه لا يشبهه شيءٌ من كلام الخلق، ولا يقدر أحدٌ منهم على الإتيان بمثل أقصر سورةٍ منه، وبأن يتلوه حق تلاوته: خشوعًا، وتدبُّرًا، ورعايةً لما يجب له مما اتفق عليه القرَّاء، ويذبَّ عنه تأويل المحرفين، وطعن الطاعنين، ويُصدِّق بجميع ما فيه، ويقف مع أحكامه، ويتفهم أمثاله وعلومه، وينشرها، ويبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه، ومطلقه ومقيده، وظاهره ومجمله، ونحو ذلك، ويعتني بمواعظه، ويتفكَّر في عجائبه، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه مع التنزيه عمَّا يوهمه ظاهره مما لا يليق بعظيم جلال اللَّه وعليِّ كماله، تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، ويمسك عن الخوض في تفسيره ما دام لم تجتمع فيه آلاته، ويدعو إلى جميع ذلك ويحض عليه، ويُرغِّب الناس في مسابقتهم إليه. (ولرسوله) صلى اللَّه عليه وسلم بتصديق رسالته، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرة دينه حيًا وميتًا، ومعاداة مَنْ عاداه، وموالاة مَنْ والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء سنته بنشرها وتصحيحها، ونفي التُّهَم عنها، وانتشار علومها، والتفقه في معانيها، والإمساك عن الخوض فيها بغير علم، والدعاء إليها، والتلطُّف في تعليمها، وإظهار إعظامها وإجلالها، وإجلال أهلها من حيث انتسابُهم إليها، والتأدب بآدابه عند قراءتها، ومحبة آله وأصحابه، ومجانبة من ابتاع في سنته، أو انتقص أحدًا من صحابته، والدعاء إلى جميع ذلك سرًا وعلنًا، ظاهرًا وباطنًا. (ولأئمة المسلمين) وهم الخلفاءُ ونوابُهم، بطاعتهم فيما يوافق الحق؛ كالصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم إن طلبوها، أو كانوا عادلين، وترك الخروج عليهم وإن جاروا، والدعاء بالصلاح لهم، ومعاونتهم عليه، وتنبيههم له،

وتذكيرهم باللَّه وأحكامه وحكمه ومواعظه، لكن برفقٍ ولطفٍ، وإعلامهم بما غفلوا عنه، أو لم يبلغهم من حقوق المسلمين، وتألُّف قلوب الناس لطاعتهم، وعدم إغرائهم بالثناء الكاذب عليهم. والعلماءُ بقبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم، وإجلالهم وتوقيرهم، والوفاءِ بما يجب لهم على الكافَّة من الحقوق التي لا تخفى على الموفقين. (وعامتهم) بإرشادهم لمصالحهم في أمر آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم عليها بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسدِّ خلاتهم (¬1)، ودفع المضارِّ عنهم، وجلب المنافع إليهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بشروطه المقررة في محلِّها (¬2)، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتعهدهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحبَّ لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وحثهم على التخلق بجميع ما مر في تفسير النصيحة، اقتداءً بما كان عليه السلف الصالح رضي اللَّه تعالى عنهم، بل منهم من بلغت به النصيحة إلى أن أضرت بدنياه ولم يبالِ بذلك. وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحدٍ. . وعظوه سرًّا، حتى قال بعضهم: مَنْ وعظ أخاه سرًا. . فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس. . فإنما وبَّخه، ومن ثم قال الفضيل: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير) (¬3). ثم هي قد تجب عينًا، وقد تجب على الكفاية كما يعلم من أقسامها التي ذكرناها. نعم؛ شرط وجوبها بقسميه: أن يأمن من لحوق ضررٍ له في نفسه، أو نحو ماله، لا العلم بقبول نصحه؛ لِمَا صرحوا به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن علم أنه لا يسمع له، ومن ثَمَّ يندب له السلام ولو على من علم منه أنه لا يرد. ¬

_ (¬1) أي: حاجاتهم وفقرهم. (¬2) قوله: (وأمرهم بالمعروف. . . إلخ) أي: أمرهم بواجبات الشرع، ونهيهم عن محرماته إذا لم يخف على نفسه أو ماله أو غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع، ولا ينكر إلا ما يرى الفاعل تحريمه. اهـ "مدابغي"، وانظر عبارة الشارح في شرح الحديث الخامس والعشرين (ص 437). (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 195) بأتمَّ مما هنا.

(رواه مسلم) منفردًا به عن تميم، وليس له في "صحيحه" عنه سواه، وأخرجه البخاري تعليقًا (¬1)، لأن في رواته مَنْ ليس على شرطه، وورد عن غير تميم، كابن عمر من طرقٍ لا بأس بها (¬2)، وكأبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنهم (¬3). ثم هذا الحديث وإن أوجز لفظًا لكنه أطنبُ فائدةً ومعنًى؛ لأن سائر السُّنَن وأحكام الشريعة أصولًا وفروعًا داخلةٌ تحته، بل تحت كلمةٍ منه؛ وهي: (ولكتابه) لأنه اشتمل على أمور الدين جميعها أصلًا وفرعًا، وعملًا واعتقادًا، فإذا آمن به وعمل بما تضمنه على ما ينبغي مما أشرنا إليه في النُّصح له. . فقد جمع الشريعة بأسرها {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وبهذا يُردُّ على من قال: إنه ربع الإسلام. * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "الدين النصيحة للَّه. . . ". (¬2) أخرجه الدارمي في "سننه" (2796)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (19). (¬3) أخرجه الترمذي (1926)، والنسائي (7/ 157).

الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله] عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاِتلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيموا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ. . عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عن) عبد اللَّه (بن عمر رضي اللَّه عنهما: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: أُمرت) (¬2) أي: أمرني اللَّه تعالى؛ إذ ليس فوق رتبته صلى اللَّه عليه وسلم من يأمره إلا اللَّه تعالى، ومن ثَمَّ لم يأت فيه الاحتمال في قول الصحابي: أمرنا، أو: نهينا؛ لأن فوقه من يمكن إضافة الأمر إليه غير النبي صلى اللَّه عليه وسلم من نحو خليفةٍ، ومعلمٍ، ووالدٍ، ورئيسٍ، لكن لما بَعُدَ هذا وكان الظاهر من حال الصحابي أنه لا يطلق ذلك إلا إذا كان الآمر أو الناهي هو النبي صلى اللَّه عليه وسلم. . كان الأصح: أن له حكم المرفوع، وكأنه قال: أمرنا، أو: نهانا النبي صلى اللَّه عليه وسلم. وحذف الفاعل هنا تعظيمًا، من قولهم: أمر بكذا، ولا يذكرون الآمر تعظيمًا له وتفخيمًا. (أن) أي: بأن؛ لأن الأصل في (أمر) أن يتعدَّى لمفعولينِ، ثانيهما بحرف الجر، فـ (أمرتُك الخيرَ) قليلٌ (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (25)، ومسلم (22). (¬2) في نسخ متن "الأربعين": (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم). (¬3) ومنه قول الإمام البوصيري رحمه اللَّه تعالى من قصيدته "البردة" (ص 11): (من البسيط) أمرتُكَ الخيرَ لكن ما ائتمرتُ به ... وما استقمتُ فما قولي لك: استقمِ

(أقاتل الناس) أي: عبدة الأوثان منهم دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: لا إله إلا اللَّه، ثم يقاتِلون، ولا يُرفع عنهم السيف حتى يقروا بالشهادتين، قاله الخطابي (¬1). لكنه إنما يجيء في رواية أبي هريرة؛ لاقتصارها على: (لا إله إلا اللَّه)، أما على رواية ابن عمر. . فالمراد بهم: جميع الكفار، وتارك الصلاة، أو الزكاة وإن كانوا مسلمين كما دل عليه الحديث، ويأتي موضَّحًا في شرحه، فتخصيص جمع من الشُّراح الناسَ هنا بما قاله الخطابي وَهَمٌ؛ لِمَا عرفت. وإنما لم تدخل الجن، مع أن لفظ (الناس) قد يشملهم، كما قاله الجوهري، ورسالته صلى اللَّه عليه وسلم عامة لهم إجماعًا؛ لأنه لم يرد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قاتل نوعًا منهم داعيًا لهم للتوحيد، كما فعل ذلك بالإنس، وإنما الذي جاء: أن جماعاتٍ منهم كجن نصيبين وغيرهم أسلموا على يديه صلى اللَّه عليه وسلم من غير قتال. (حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه) مرَّ في بحث الإسلام الكلام على الشهادتين وما يشترط فيهما، فراجعه (¬2)، وصريح هذا أن الآتي بهما مؤمنٌ حقًا، وإن كان مقلدًا بالمعنى الذي قررناه ثَمَّ في مبحث الإيمان مع دليله، قال المصنف: (وهو مذهب المحققين، والجماهير من السلف والخلف، واشتراط تعلُّمِ أدلة المتكلمين ومعرفة اللَّه تعالى بها، وإلَّا. . لم يكن من أهل القبلة. . خطأٌ ظاهرٌ؛ فإن المراد: التصديق الجازم، وقد حصل، ولأنه صلى اللَّه عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به، ولم يشترط المعرفة بالدليل، وقد تظاهرت بهذا أحاديث في "الصحيح" يحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي) اهـ (¬3) (و) حتى (يقيموا الصلاة) أي: يأتوا بها على الوجه المأمور به، أو يداوموا ¬

_ (¬1) انظر "معالم السنن" (2/ 141). (¬2) انظر ما تقدم (ص 145) من شرح الحديث الثاني. (¬3) انظر "شرح صحيح مسلم" (1/ 210 - 211).

عليها، كما مر بسطه، وفيه دليلٌ لقتل تاركها غير الجاحد لوجوبها (¬1)، وهو ما عليه أكثر العلماء؛ لأنه غيَّا الأمر بالقتال بفعلها، فما لم يفعلها. . فهو مقاتَل وجوبًا (¬2)، ويلزم من قتاله قتله غالبًا أو احتمالًا، فدلَّ على جوازِ بل وجوبِ قتله، وسياقُ الحديثِ وإن كان في الكافر، لكن المسلم أَولى منه بذلك؛ لأنه تركها مع اعتقاده وجوبها، بخلاف الكافر، ومن ثم قضى المرتد بعد إسلامه ما فاته زمن ردته، بخلاف الكافر الأصلي، وأيضًا: الغاية هنا في معنى الشرط، وحينئذٍ فكفُّ القتال مشروطٌ بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والمشروط ينتفي بانتفاء أحد شروطه، فإذا انتفى فعل الصلاة. . وجد القتال المقتضي لجواز، بل وجوب القتل كما مر. (و) حتى (يؤتوا الزكاة) إلى مستحقيها، ومثلها في قتال الممتنعين منها بقيةُ شرائع الإسلام، وإنما لم نقل بأن تاركها يقتل وإن قال به جماعة؛ لأنه إن امتنع. . أمكن تخليصها منه بالقتال، وإلَّا. . أمكن تخليصها بلا قتال، فلم يجز القتل هنا حينئذ؛ إذ لا ضرورة إليه، بخلافه في تارك الصلاة؛ لأنه إذا امتنع. . لم يمكن استيفاؤها منه، فغلظت عقوبته بالقتل ما لم يتب بأن يصلي. (فإذا) آثرها على (إنْ) مع أن المقام لها (¬3)؛ لأن فعلهم متوقعٌ؛ لأنه علم إجابة بعضهم فغلَّبهم لشرفهم، أو تفاؤلًا، نحو: غفر اللَّه لك. (فعلوا ذلك) جميعه؛ أي: أتوا به: قولًا كان وهو الشهادتان، أو: فعلًا وقولًا وهو الصلاة، أو: فعلًا محضًا وهو الزكاة، (عصموا) منعوا وحفظوا، ومنه: اعتصمت باللَّه؛ أي: امتنعت بلطفه من معصيته، والعصام: ما يربط به فم القِربة لمنعه سيلان مائها. (منِّي دماءهم وأموالهم) وهي: كل ما صح إيراد نحو البيع عليه، وأُريد بها هنا ¬

_ (¬1) قوله: (لقتل تاركها) أي: على قتل، فاللام بمعنى (على) أو المراد: فيه دليل لقول من قال بقتل تاركها. اهـ هامش (غ) (¬2) قوله: (فما لم يفعلها) ما: مصدرية ظرفية؛ أي: فمدة عدم الفعل فهو مقاتَلٌ. (¬3) أي: آثر (إذا) بن الاستعمال على (إنْ).

ما هو أعم من ذلك حتى يشمل الاختصاصات، ولا ينافي ما تقرر من توقف العصمة على هؤلاء الثلاثة ما هو معلومٌ بالضرورة: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعصم الدم بالشهادتين، ومن ثم اشتد نكيره على أسامة؛ لقتله مَنْ قالهما (¬1)، ولم يشترط على مريد الإسلام التزام صلاةٍ ولا زكاة، بل روى أحمد: أنه قَبِلَ إسلامَ مَنِ اشترط أن لا زكاة ولا جهاد (¬2)، ومن اشترط ألَّا يصلي إلا صلاتين (¬3)، ومن اشترط أن يسجد من غير ركوع (¬4)، ومن ثم قال أحمد: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يُؤمَر بشرائع الإسلام كلها. وخبر: (لم يكن صلى اللَّه عليه وسلم يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. . .) الحديث. . ضعيفٌ جدًا (¬5). ووجه عدم المنافاة: أنه وإن كان يقبل مجرد النطق بالشهادتين، لكنه لا يقر مَنْ نطق بهما على ترك صلاةٍ ولا زكاةٍ، ومن ثَمَّ أمر معاذًا لمَّا بعثه النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى اليمن أن يدعوهم أولًا إلى الشهادتين، وأن مَنْ أطاعه بهما. . أعلمه بالصلاة، ثم بالزكاة (¬6). وبهذا عُلِم الجمع بين هذه الرواية ورواية أبي هريرة الآتيةِ المفيدةِ العصمةَ بمجرد النطق بالشهادتين؛ لأن معناها كما عُرف أنه بهما يعصم، ويحكم بإسلامه، ثم إن أتى بشرائع الإسلام. . فظاهر، وإلَّا. . قُوتل ذو المنعة. وزعْمُ أنه يقاتل حتى يأتي بالثلاثة ابتداءً التزامًا وفعلًا (¬7)، فيكون حجة على خطاب الكفار بالفروع. . منظرٌ فيه بما في خبر مسلم يوم خيبر حين أعطى الراية لعليٍّ رضي اللَّه عنه ثم قال: على ماذا أقاتلهم؟ قال: "على أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (97) عن سيدنا جندب بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر "مسند الإمام أحمد" (3/ 341) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه، والتي اشرطت ذلك قبيلة ثقيف. (¬3) مسند الإمام أحمد (5/ 25) عن رجل. (¬4) مسند الإمام أحمد (3/ 402) عن سيدنا حكيم بن حزام رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (12) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (19) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬7) أي: لا نكف عن قتاله حتى يفحل الثلاثة ملتزمًا لوجوبها عليه. اهـ هامش (غ).

محمدًا رسول اللَّه، فإذا فعلوا ذلك. . عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (¬1)، فجعل مجرد الإجابة إليهما عاصمةً للنفوس والأموال إلا بحقِّها، ومنه الامتناع من الصلاة أو الزكاة بعد الإسلام كما فهمتِ الصحابةُ في القصة الآتية، فعلم أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يعصم بمجرد الشهادتين. ثم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؟ وإلَّا. . لم يمتنع من قتالهم (إلا بحق الإسلام) فلا يعصم حينئذٍ دمه ولا ماله، وفسر هذا الحق في حديثٍ بأنه: (زنًا بعد إحصان، أو كفرٌ بعد إيمان، أو قتل النفس التي حرم اللَّه تعالى) (¬2). وقضيته: أن الزاني والقاتل تباح أموالهما، وليس مرادًا، فكأنه غلَّب الكافر عليهما، وبه يردُّ على من قال: فيه دليلٌ على كفر تارك الصلاة؛ لأن مفهومه أنهم إذا لم يفعلوا ذلك. . لم يعصموا مني دماءهم وأموالهم بحق الكفر؛ لأن حق الإسلام ذكر بعد (إلا) وما بعدها يخالف ما قبلها. اهـ على أنه يلزم عليه كفر تارك الصلاة (¬3)، وهو ضعيفٌ جدًا؛ وأيضًا فلا يُحتاج لهذا التكلف لو سُلِّمت صحته؛ لما في حديث مسلمٍ من التصريح بكفر تارك الصلاة (¬4)، لكن حمله الجمهور على المستحل. ثم الحكم عليهم بما ذكر إنما هو باعتبار الظاهر (و) أما باعتبار البواطن والسِّرِّ. . فأمرهم ليس إلى الخلق؛ إذ (حسابهم) أي: حساب بواطنهم وسرائرهم (على اللَّه) (¬5) إذ هو المطلع وحده على ما فيها من إيمانٍ وكفرٍ ونفاقٍ وغير ذلك. فمن أخلص في إيمانه. . جازاه جزاء المخلصين، ومن لا. . أجرى عليه في الدنيا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2405) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه الضياء في "المختارة" (1917) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) الصواب: تارك الزكاة. اهـ هامش (ج). (¬4) صحيح مسلم (82) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬5) قوله: (وحسابهم على اللَّه): (على) بمعنى اللام، أو بمعنى (إلى) فما أفهمه لفظ العلاوة من الوجوب. . غير مراد، ولئن سلم. . فهو للتشبيه؛ أي: هو كالواجب على اللَّه في تحقُّق الوقوع، أو بحسب وعده، هذا ما عليه أهل السنة، وأما عند المعتزلة. . فهو على ظاهره؛ لأن الحساب عندهم واجب عقلًا. اهـ "مدابغي"

أحكام المسلمين، وكان في الآخرة من أسوأ الكافرين، فرب عاصٍ في الظاهر يصادف عند اللَّه خيرًا، وبالعكس. ومن ثَمَّ صح أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "إنكم لتختصمون إليَّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض. . . " الحديث (¬1)، وقال: "نحن نحكم بالظاهر، واللَّه يتولى السرائر" (¬2)، وقال: "ما أُمرت أن أشق عن قلوب الناس ولا بطونهم" (¬3)، وقال: "فهلَّا شققت عن قلبه. . . " الحديث (¬4)، وقال تعالى: {فَإِن تَابُوا} أي: أسلموا {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}، وفي الآية الأخرى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}. وما فهم منهما من أن من ترك واحدة من الثلاثة لا يُخلَّى سبيله وليس بأخٍ لنا. . موافقٌ للحديث الذي نحن فيه، وبهما يظهر قول الشافعي ومالك: يقتل تارك الصلاة وإن اعتقد وجوبها كما مر، ويُرَدُّ قول المرجئة: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وفي تلك الأحاديث والآيتين دليلٌ أيضًا على أن من أظهر الإسلام وأسرَّ الكفر. . قُبِلَ إسلامه ظاهرًا، وهو ما ذهب إليه الجمهور، وقال مالك وأحمد: لا تقبل توبة الزنديق، ولأصحابنا فيه خمسة أوجه؛ أصحها: قبول توبته مطلقًا وإن تكررت أو كانت تحت السيف، أو كان داعية إلى الضلال. (رواه البخاري) بلفظه المذكور جميعه (ومسلم) ما عدا قوله: "إلا بحق الإسلام" وعجيبٌ من المصنف رحمه اللَّه تعالى مع شدة تحقيقه وحفظه كيف أوهم أن كلًّا من الشيخينِ خرجه جميعه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2680)، ومسلم (1713) عن أم المؤمنين سيدتنا أم سلمة رضي اللَّه عنها. (¬2) ذكره الملا علي القاري رحمه اللَّه تعالى في "المصنوع" (38)، وانظر تعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه اللَّه. (¬3) أخرجه البخاري (4351)، ومسلم (1064/ 144) بنحوه عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه مسلم (96)، وأبو داوود (2643) عن سيدنا أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما. (¬5) رواه البخاري ومسلم في (كتاب الإيمان) إلا أن مسلمًا لم يذكر في حديثه عن ابن عمر رضي اللَّه عنه: "إلا بحق الإسلام"، لكنه قال في رواية له عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: "إلا بحقها"، وفي رواية أخرى: "إلا بحقه"، فنسبه المؤلف إلى تخريجه بالنظر إلى مجموع رواياته، وذلك يقع للمحدثين كثيرًا، ولا ينكره إلا من لم =

وهو حديثٌ عظيمٌ مشتملٌ من قواعد الدين على مهماتها كما ظهر بما قررناه في شرحه وما يأتي أيضًا، وفيه بيانٌ واضحٌ أن للإيمان أجزاءً وشُعَبًا: منها ما هو فرضٌ على كل مكَّلفٍ في كل حالٍ وهو الأُولى (¬1)، أو في بعضها وهو الثانية (¬2)، وما هو فرضٌ على بعض الآدميين ولو غير مكلف وهو الثالثة. والمراد بوجوبها على غير المكلف: وجوبها في ماله، والمخاطب بإخراجها منه وليُّه، فيلزمه -إن لم يكن حنفيًا- إخراجُها فورًا وإن منعه الإمام. واستفيد من تلك الثلاثة: أنه يلحق بكل واحدةٍ منها في كونه جزءًا وشعبةً من الإيمان ما هو في معناه. وفيه زيادة على حديث أبي هريرة الذي روياه أيضًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك. . عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" (¬3)، وفي رواية: "حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فمن قال لا إله إلا اللَّه. . عصم مني. . . إلخ" (¬4)، وخرجه مسلم عن جابر بهذا اللفظ، وزاد: ثم قرأ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (¬5) على حديث أنسٍ الذي رواه مسلم، وإن كان الآخر فيه زيادة أيضًا وهو: "أُمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك. . حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين" (¬6). ¬

_ = يمارس فنَّهم، وبذلك زال العجب وبطل الشغب الذي طول به الشارح الهيتمي على المؤلف رحمهما اللَّه تعالى. اهـ "الفتوحات الوهبية" للشبرخبتي (ص 130) وفي هامش (خ): (ويمكن أن يجاب عن المصنف بأن مراده: أنهما اتفقا على أصل هذا الحديث وإن لم يتفقا على توابعه التي من جملتها الاستثناء). (¬1) أي: حتى حال الحيضِ والنفاسِ، فمتى بلغته الدعوة. . وجب النطق بالشهادتين. (¬2) أي: الصلاة؛ لأنها لا تجب في حال الحيض والنفاس. (¬3) أخرجه مسلم (21/ 34) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (2946) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) صحيح مسلم (21/ 35). (¬6) أخرجه الضياء في "المختارة" (1916)، وأبو داوود (2641)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 92) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

وليس في الأحاديث الثلاثة ذكر الصوم والحج، مع ذكرهما في حديث جبريل السابق والذي بعده، فيحتمل أن هذه الثلاثة كانت قبل فرضهما، وحينئذٍ فيُستفاد من ذَينِك الحديثين ضم الصوم والحج إلى ما في هذه الأحاديث، فيُعْطَيان حكمه من المقاتلة عليهما، والعصمة بفعلهما (¬1)، على أن لك أن تقول: إنهما داخلان في قوله في حديث أبي هريرة: "وبما جئت به" فإنه شاملٌ لذَيْنِك وغيرهما من جميع ما عُلِم من دينه صلى اللَّه عليه وسلم بالضرورة، وبهذا يزول ذلك التكلُّف، ويتضح الأمر. ثم رأيت المصنف رحمه اللَّه تعالى صرَّح بذلك فقال بعد الثلاثة المذكورة في حديث ابن عمر: (لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به صلى اللَّه عليه وسلم كما في رواية أبي هريرة: "ويؤمنوا بما جئت به") اهـ (¬2) ويحمل تعميمه على ما ذكرته من المعلوم من الدين بالضرورة (¬3)؛ لما مر في بحث الإيمان في حديث جبريل (¬4). وما حكي عن سفيان بن عيينة: أن حديث أبي هريرة كان أول الإسلام قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة. . يرده أن رواته إنما صحبوه صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة، بل لم يصحبه أبو هريرة إلا في فتح خيبر سنة سبع، على أن قوله: "عصموا مني. . . إلخ" صريحٌ في أنه كان مأمورًا بالقتال، وهو لم يؤمر به إلا بعد وصوله للمدينة وإقامته فيها نحو السنة. هذا ومن العجب أن حديث ابن عمر هذا الذي ساقه المصنف نصٌّ في قتال مانعي الزكاة ولم يبلِّغه أبا بكر وعمر رضي اللَّه تعالى عنهما مع تشاجرهما في قتالهم واختلاف رأيهما فيه، فاستدل أبو بكر بالحديث الثاني فقال: الزكاة من حقها، وبقياسها على ¬

_ (¬1) والمعتمد: أنه لا يُقاتَل على الصوم، وإنما هو يحبس ويمنع المأكل والمشرب، والحج لا يُقاتل عليه؛ لأنه على التراخي. اهـ "مدابغي" (¬2) شرح صحيح مسلم (1/ 207). (¬3) قوله: (ويحمل تعميمه) أي: قول الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى: (لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به صلى اللَّه عليه وسلم)، وقوله: (على ما ذكرته) متعلق بـ (يحمل) والمعنى: أن قول النووي رحمه اللَّه تعالى: (بجميع ما جاء به) يخص بالمعلوم بالدين بالضرورة وإن كان شاملًا له ولغيره، فتأمل! واحذر تحريف بعض النسخ: (يحمل) بـ (يحتمل) اهـ "مدابغي" (¬4) انظر (ص 157 - 159) من شرح الحديث الثاني.

الصلاة، وعمر بأنه اقتصر على قول: لا إله إلا اللَّه، وهم يقولونها؛ أي: مع الشهادة الأخرى؛ للقطع بأن تلك لا تكفي وحدها، أو أنهما لتلازمهما عبَّر بإحداهما عن الجميع، ولعل ابن عمر لم يعلم بما وقع بينهما لمرضٍ أو سفرٍ، أو كان ناسيًا إذ ذاك لمروِيِّه. ورواية ابن خزيمة في "صحيحه" وغيره: أن أبا بكر استدل بحديث ابن عمر (¬1)، قال أئمة الحفاظ: إنها خطأ، ولم يكن حديث ابن عمر عنده منه شيء؛ وإلَّا. . لم يحتج للاستنباط والقياس السابقَينِ. وبهذا يعلم جلالة علم أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه، ودقيق استنباطه وقياسه الصريح في أن قتال تارك الصلاة كان مجمعًا عليه بين الصحابة، وفي أن العموم الذي احتج به عمر يُخَصُّ بالقياس؛ فإنه فيهما وافق هذا النص دون عمر، مع ما علم من موافقاته الكثيرة للنصوص، ليمتاز عليه أبو بكر في أخص الأوصاف وأجلها، وهو العلم، وقد بسطت الكلام على علمه وموافقات عمر في كتابي "الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين والابتداع والضلال والزندقة" (¬2). هذا ولا بأس ببسط قضيتهما في ذلك؛ فإنه وقع فيها خبط، وحاصلها -كما قال الخطابي وغيره-: أنه صلى اللَّه عليه وسلم لما توفي واستُخْلِف أبو بكر بعده. . ارتد بعض العرب، ومنع الزكاة بعضهم، فعزم أبو بكر على قتال الجميع، فنازعه عمر في المانعين، واستدل كلٌّ منهما بما مر، وكان الحق مع أبي بكر كما تقرر. ثم المرتدون منهم من عاد إلى ما كان عليه من عبادة الأوثان، ومنهم من تابع مسيلمة في دعواه النبوة؛ كبني حنيفة وقبائل غيرهم، ومنهم من تابع الأسود العنسي في دعواه إياها باليمن، ولم يبقَ مسجدٌ يعبد اللَّه تعالى فيه في بسيط الأرض إلا مسجدا مكة والمدينة، ومسجدٌ بجُواثا من أرض البحرين به جمعٌ من الأزد محصورون إلى أن فتح اللَّه تعالى اليمامة بقتل مسيلمة اللعين. ومانعو الزكاة منهم من أنكر فرضها ووجوب أدائها إلى الإمام، وهم في الحقيقة ¬

_ (¬1) انظر "صحيح ابن خزيمة" (2247) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر (ص 35 و 99) منه وما بعدهما.

أهل بغيٍ ولم يُدْعَوا به حينئذٍ؛ لدخولهم في غمار أهل الردة، فأطلقت عليهم، ومن ثم لما انفرد البغاة في زمن علي كرم اللَّه وجهه. . سُمُّوا بغاة، ومنهم من سمح بها لأبي بكر إلا أن رؤساءهم منعوهم، وهؤلاء هم الذين وقعت فيهم المناظرة السابقة، ثم بان لعمر صواب رأي أبي بكر، فوافقه على قتالهم لا تقليدًا (¬1) -لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا- بل لِما اتضح عنده من الدليل الذي ذكره أبو بكر. وقد زعم من لا خلاق له ولا دين من الرافضة -وإنما رأس مالهم البهت والكذب- أن قتاله إياهم كان عسفًا وظلمًا، وأنه أول من سبى المسلمين مع وجود شُبَه قامت عندهم يعذرون بها، وترفع السيف عنهم، وهي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية، فالخطاب خاصٌّ به صلى اللَّه عليه وسلم، وليس لأحدٍ من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما له صلى اللَّه عليه وسلم. وهذا الزعم واضح البطلان؛ لما مر أن منهم من ارتد بدعائه إلى نبوة من مر، ومنهم من أنكر الشرائع كلها، فهؤلاء هم الذين رأى أبو بكر سبيهم، ووافقه أكثر الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، ومنهم علي كرم اللَّه وجهه الواجبُ العصمةِ عندهم؛ فإنه استولد جاريةً من سبي بني حنيفة وأولدها محمدَ ابن الحنفية الذي يزعم بعض الرافضة ألوهيته. قال الخطابي: (ثم لم ينقضِ عصرُ الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يُسبى) (¬2) أي: ومن ثم لما استخلف عمر. . ردَّ عليهم سبيهم، لكن أصبغَ -من أصحاب مالك- قائلٌ برأي أبي بكر من سبي أولاد المرتدين، وهو قياس قولِ مَنْ قال من أصحابنا: إنهم كالكفار الأصليين، فحكاية الخطابي الإجماع لم تتم له. وإنما أُضيفت الردة لمانعي الزكاة مع بقاء إيمانهم؛ إرادةً لمعناها اللغوي، أو لمشاركتهم أهلها في منع بعض حقوق الدين، وما ذكروه في الآية جهلٌ منهم؛ فإن خطاب القرآن إما عامٌّ نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وإما خاصٌّ به صلى اللَّه عليه ¬

_ (¬1) في (غ): (فوافقه على قتالهم اجتهادًا لا تقليدًا). (¬2) عالم السنن (2/ 138)، وانظر (2/ 136 - 137) منه.

وسلم، وهو ما صرح له فيه بذلك نحو: {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} , {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. فإن لم يصرح له فيه بذلك. . عَمَّ أمته نحو: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الآية، ومنه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية، فالإمام بعده مثله فيه. وفائدة خطابه: تعليم الأمة سلوك طريقته صلى اللَّه عليه وسلم، ومن هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآيةَ، فخُوطب بالنبوة خصوصًا، وبالحكم عمومًا، بل قد يُخاطَب ويُراد غيره نحو: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} الآيةَ (¬1). وما ذكروه من التطهير وغيره. . يُنال بطاعة اللَّه تعالى ورسوله صلى اللَّه عليه وسلم؛ إذ كل ثوابٍ مقيدٌ لعمل برٍّ كان في زمنه صلى اللَّه عليه وسلم. . باقٍ غيرُ منقطع. ويسن لآخذ الصدقة الدعاءُ لمؤدِّيها باليُمْنِ والبركة في ماله، ويرجى أن يستجيب اللَّه سبحانه وتعالى له. لا يقال: إنكار فرض الزكاة كفرٌ، فكيف مر أنهم بغاة؟! لأنا نقول هذا بالنسبة لزماننا؛ فإنها فيه صارت معلومةً من الدين بالضرورة، وكل ما هو كذلك. . إنكاره كفر، بخلافها ذلك الزمن؛ لقرب عهدهم بالإسلام مع جهلهم بالأحكام واحتمال النسخ، على أن إنكار المعلوم من الدين بالضرورة في زمننا من قريب العهد بالإسلام وممن لم يخالط المسلمين. . لا يكون كفرًا (¬2). وهذا أوجه من قول القاضي عياض: (إن منكري وجوبها من قسم المرتدين، إلا أن يريد ما قررناه في معنى ذلك، لكنه بعيدٌ من قوله: إن أبا بكر قاتلهم لكفرهم) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الإمام القرطبي" رحمه اللَّه تعالى (8/ 385). (¬2) انظر "معالم السنن" (2/ 138 - 140). (¬3) انظر "إكمال المعلم" (1/ 243 - 244).

تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه] استفيد مما مر عن عمر من موافقته أبا بكر على القتال والسبي، ثم ردِّه سبيهم إليهم لما استخلف: أن الإمام المجتهد العادل إذا أمر بأمرٍ، أو حكم بحكمٍ اعتقده صوابًا. . لزم المجتهدين -وإن رأوا خلاف رأيه- وغيرَهم موافقتُهُ، وأن عمر وافقه على القتال ظاهرًا وباطنًا، وعلى السبي ظاهرًا فقط؛ بدليل ردِّهِ بعدُ، ويحتمل أنه كان موافقًا عليه باطنًا أيضًا، ثم تغيَّر اجتهاده وإن سلَّمنا أنهم أجمعوا مع أبي بكر عليه بناءً على أن انقراض العصر شرطٌ في حجية الإجماع، على أن الذي صححه القرطبي: أنه لا إجماع على السبي ولا على عدمه (¬1)، وعليه فلا وجه لمنع تغير اجتهاد عمر بأنه يلزم عليه خرق إجماع الصحابة مع أبي بكر على السبي. * * * ¬

_ (¬1) انظر "المفهم" (1/ 187).

الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطع]

الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. . فَاجْتَنِبُوهُ, وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. . فَافْعَلُوا (¬1) مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلِكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ, وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬2). (عن أبي هريرة) جره هو الأصل، وصوَّبه جماعة؛ لأنه جزء العلم، واختار آخرون منعَ صرفه كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدِّثين وغيرهم؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة، واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الحال والأصل معًا في كلمةٍ واحدةٍ، بل في لفظ (هريرة) إذا وقعت فاعلًا مثلًا؛ فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظرًا للأصل، وتمنع من الصرف نظرًا للحال، ونظيرُه خفيٌّ. اهـ ويجاب بأن الممتنع رعايتهما من جهةٍ واحدةٍ لا من جهتين كما هنا، وكان الحامل عليه الخِفَّةُ، واشتهار هذه الكنية، حتى نُسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا كما سيأتي. وسبب تلقيبه بذلك: ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال: كنت أحمل يومًا هرةً في كمي، فرآني النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال لي: "ما هذه؟ " فقلت: هرة، فقال: "يا أبا هريرة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الهامش رقم (1) في الصفحة (273). (¬2) صحيح البخاري (7288)، وصحيح مسلم (1337) في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى اللَّه عليه وسلم. (¬3) انظر "الإستيعاب" (4/ 204).

وفي رواية ابن إسحاق: وجدت هرةً فحملتها في كمي، فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقيل لي: فأنت أبو هريرة (¬1)، ورجَّح بعضهم الأول. وقيل: كان يلعب بها وهو صغير، وقيل: كان يحسن إليها، وقيل: المكني له بذلك والده. واختُلف في اسمه واسم أبيه على خمسةٍ وثلاثين قولًا، أصحها -كما قاله المصنف-: ما ذكره هنا بقوله: (عبد الرحمن) روى ابن إسحاق عنه: أنه أُبدل به في الإسلام عن عبد شمس اسمه في الجاهلية (ابن صخر رضي اللَّه عنه) الدوسي. أسلم عام خيبر، وشهدها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم لازمه الملازمة التامة رغبةً في العلم، راضيًا بشبع بطنه، وكان يدور معه حيثما دار، ومن ثَمَّ كان أحفظَ الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، وقد شهد له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه حريصٌ على العلم والحديث، وقال: قلت: يا رسول اللَّه؛ إني سمعتُ منك حديثًا كثيرًا، وإني أخشى أن أنساه، فقال: "ابسط رداءك" فبسطته، فضرب بيده فيه ثم قال: "ضمه" فضممتُه، فما نسيتُ شيئًا بعده (¬2). قال البخاري: روى عنه أكثرُ من ثمان مئة ما بين صحابيٍّ وتابعيٍّ. استعمله عمر على البحرين، ثم عزله، ثم راوده على العمل فأبى، ولم يزل يسكن المدينة، وبها توفي سنة سبعٍ أو ثمانٍ أو تسع وخمسين عن ثمانٍ وسبعين سنة، ودُفن بالبقيع، وما اشتُهر أن قبره بقرب عسقلان لا أصل له، وإنما ذاك صحابيٌّ آخر اسمه جَنْدرة. روي له خمسة آلافٍ وثلاثُ مئةِ حديثٍ وأربعةٌ وسبعون حديثًا، اتفقا منها على ثلاث مئةٍ وخمسةٍ وعشرين، وانفرد البخاريُّ بثلاثةٍ وتسعين، ومسلمٌ بمئةٍ وتسعين. (قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: ما نهيتكم) هذا الخطاب ونحوه يختص لغةً بالموجودين عند نزوله، وشموله لمن بعدهم؛ لما هو معلومٌ من الدين بالضرورة أن هذه الشريعة عامةٌ إلى يوم القيامة. ¬

_ (¬1) انظر "الإستيعاب" (4/ 203). (¬2) أخرجه البخاري (119)، وهو عند مسلم (2492) بنحوه.

(عنه. . فاجتنبوه) دائمًا على كل تقديرٍ مما دام منهيًا عنه حتمًا في الحرام، وندبًا في المكروه؛ إذ لا يمتثل مقتضى النهي إلا بترك جمبع جزئياته، وإلَّا. . صدق عليه أنه عاصٍ، أو مخالفٌ. وأيضًا: فترك المنهي عنه هو استصحاب حال عدمه، أو الاستمرار على عدمه، وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى يسقط التكليف به، ونظر فيه بأن الداعي للمعصية قد يقوى حتى لا يستطاع الكف عنها، ويرد: بأن هذا نادرٌ، فلا يُعوَّل عليه وإن سُلِّم أنه يوجد كثيرًا مَنْ يجتهد في الطاعة ولا يقوى على ترك المعصية، فخرج نحو أكل الميتة للاضطرار، وشرب الخمر لإساغة اللقمة، أو لإكراهٍ، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه؛ لعدم النهي عن هذه حينئذٍ. (وما أمرتكم به. . فأتوا) (¬1) وجوبًا في الواجب، وندبًا في المندوب (منه ما استطعتم) أي: أطقتم؛ لأن فعله هو إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شرائط وأسباب؛ كالقدرة على الفعل ونحوها، وبعض ذلك يُستطاع وبعضه لا يُستطاع، فلا جرَمَ سقط التكليف بما لا يستطاع منه؛ لأن اللَّه تعالى أخبر أنه لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها (¬2). وأيضًا: يصدق عليه أنه امتثل الأمر المطلق مع الإتيان بالمستطاع الصادق عليه اسمه؛ كيوم، وركعتين، وأقل مُتَمَوَّل في: صُمْ، وصَلِّ، وتصدَّقْ، فإن قيَّد أو وصف. . لم يصدق الامتثال إلا بالإتيان به بجميع قيوده أو أوصافه، وإن كان من أشق التكاليف. وهذا من قواعد الإسلام المهمة، ومما أُوتيه صلى اللَّه عليه وسلم من جوامع الكلم؛ لأنه يدخل فيه ما لا يُحصى من الأحكام، وبه وبالآية الموافقة له يُخَصُّ عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. ¬

_ (¬1) قوله: (فأتوا) كذا في نسخ الشرح. وفي نسخ المتن و"صحيح مسلم": (فافعلوا) فليتنبه. (¬2) فإن قيل: ما الفرق بين المأمور به والمنهي عنه؛ حتى سقط التكليف بما لا يستطاع من الأول دون الثاني؟ قلنا: لأن الترك المنهي عنه عبارةٌ عن استصحاب حال عدمه أو الاستمرار على عدمه، وليس في ذلك ما لا يستطاع حتى يسقط التكليف به، بخلاف فعل المأمور به؛ فإنه عبارةٌ عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شروط وأسباب كالقدرة ونحوها، وبعضه يستطاع وبعضه لا يستطاع، فلا جرم يسقط التكليف به؛ لأن اللَّه عز وجل أخبر أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها. اهـ "مدابغي"

فإذا عجز عن ركنٍ أو شرطٍ لنحو وضوءٍ أو صلاةٍ، أو قدر على غسلِ أو مسحِ بعضِ أعضاء الوضوء أو التيمم، أو على ستر بعض العورة، أو على بعض الفطرة -لا عن الرقبة في الكفارة؛ لأن لها بدلًا- أو بعض (الفاتحة) أو إزالة بعض المنكر. . أتى بالممكن، وصحَّت عبادته مع وجوب القضاء تارةً، وعدمِهِ أخرى، كما هو مقرَّرٌ في الفروع. ويُؤخَذ من هذا القاعدةُ المشهورة: أن درء المفاسد أَولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مصلحةٌ ومفسدةٌ. . قدم دفعها؛ لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشدُّ منه بالمأمورات كما عُلِم مما تقرر، ومن ثمَّ سُومح في ترك الواجب بأدنى مشقة؛ كالقيام في فرض الصلاة، وفطر رمضان، والعدول إلى التيمم (¬1)، ولم يسامح في الإقدام على منهيٍّ، وخصوصًا الكبائر إلا إذا تحققت الضرورة (¬2). وقد تُراعى المصلحة لغلبتها على المفسدة؛ ومنه الصلاة مع اختلال بعض شروطها، فإن فيها مفسدةً هي الإخلال بإجلال اللَّه تعالى عن أن يُناجى إلا على أكمل الأحوال، ومع ذلك يجب فعلها تقديمًا لمصلحتها، وكالكذب للإصلاح، فإنه جائزٌ؛ لأن مصلحته حينئذٍ تربو على مفسدته، وهذا النوع راجع في الحقيقة إلى ارتكاب أخفِّ المفسدتين. ثم هذا الحديث موافقٌ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وأما: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} فقيل: منسوخ، والأصح، بل الصواب -وبه جزم المحققون-: أن تلك مُبيِّنةٌ لهذه، قاله المصنف (¬3). وإنما يتمُّ هذا على تفسير: {حَقَّ تُقَاتِهِ} بامتثال أمره، واجتناب نهيه، أما على المشهور من تفسيره: بأن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى. . فالأوجه: النسخ؛ ¬

_ (¬1) الذي اعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة" (2/ 23): أن الذي يبيح الجلوس في الفرض: أن تلحقه به مشقةٌ ظاهرةٌ أو شديدةٌ؛ بأن تكون بحيث لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم، قال: (واشتراط إباحتِه وجهٌ ضعيفٌ كما صرحوا به؛ كالاكتفاء بمجرد إذهاب الخشوع) واعتمد فيها (3/ 429): أن ضابط المرض الذي يبيح له الفطر: أن يجد به ضررًا شديدًا بحيث يبيح التيمم. (¬2) في بعض النسخ: (حُقَّت الضرورة). (¬3) شرح صحيح مسلم (9/ 102).

فإن هذه لمَّا نزلت. . تحرَّجت الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم منها، وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك، فنزلت تلك، ولتوقف المأمور به على فعل، بخلاف المنهي عنه، فإنه كفٌّ محضٌ، قال في ذاك: "فأتوا منه ما استطعتم"، وفي هذا: "فاجتنبوه". وعن أحمد رضي اللَّه تعالى عنه: أنه يؤخذ من الحديث أن النهي أشد من الأمر؛ لأنه لم يرخص في شي: منه، والأمر مقيدٌ بالاستطاعة، وقريبٌ من هذا قول بعضهم: أعمال البِرِّ يعملها البارُّ والفاجر، والمعاصي لا يتركها إلا صدِّيق. قيل: وتفضيل ترك المنهي على فعل الطاعة إنما أُريد به على نوافلها، وإلَّا. . فجنس الواجب لكون العمل فيه مطلوبًا لذاته أفضلُ من ترك المحرَّم؛ لأن المطلوب عدمه، ومن ثَمَّ لم يحتج لنيةٍ، ولذلك كان ترك الواجب قد يكون كفرًا كترك التوحيد، بخلاف ارتكاب المنهي؛ فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه. انتهى، وفيه نظر (¬1). (فإنما) وجه تفريع ما بعدها على ما قبلها: أن الأمر والنهي الصَّادرينِ منه صلى اللَّه عليه وسلم لما كانا مظِنَّةً لكثرة السؤال عنهما: هل يقتضيان التكرار مثلًا؟ وكان في كثرته كثرة الجواب، فيضاهي ذلك قصة بقرة بني إسرائيل التي أُمروا فيها بذبح بقرةٍ، فتعنَّتوا ولم يُبادروا إلى مقتضى اللفظ من ذبح أي بقرةٍ كانت، بل شدَّدوا على أنفسهم بكثرة تكرار السؤال، فشدَّد اللَّه عليهم بزيادة الأوصاف حتى لم يجدوا متصفًا بها إلا بقرةً واحدةً، فشروها بملء جلدها ذهبًا، فندموا على ذلك. . فخاف صلى اللَّه عليه وسلم على أمته من مثل ذلك، ومن ثم قال: (أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم) بالضم؛ لأنه أبلغ في ذم الاختلاف؛ إذ لا يتقيد حينئذ بـ (كثرة) بخلافه لو جُرَّ. (على أنبيائهم) استُفيد منه تحريم الاختلاف، وكثرة المسائل من غير ضرورة؛ لأنه توعَّد عليه بالهلاك، والوعيدُ على الشيء دليلٌ لتحريمه، بل لكونه كبيرةً على الخلاف فيه. ¬

_ (¬1) قوله: (وفيه نظر) قال شيخنا: لأن ارتكاب المنهي عنه قد يقتضي الكفر بنفسه كإلقاء المصحف في قاذورة، ولِمَا مر من أن المعاصي بريد الكفر. اهـ "مدابغي"

ووجهه فى الاختلاف: أنه سبب تفرُّقِ القلوب، ووهن الدين، كما جرى للخوارج حين تبرأ بعضهم من بعضٍ. . وهن أمرهم، وذلك حرامٌ، فسببه المؤدي إليه حرامٌ. وفي كثرة السؤال: أنه من غير ضرورة مشعرٌ بالتعنُّت، ومفضٍ إليه، وهو حرامٌ أيضًا، وقد نهى الشارع عن: قيل وقال، وكثرة السؤال (¬1)، وروى أحمد: أنه صلى اللَّه عليه وسلم (نهى عن الأغلوطات) (¬2) وهي صعاب المسائل. وورد: "سيكون أقوامٌ من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي" (¬3). وقال الحسن: (شرار عباد اللَّه الذين يتبعون شرار المسائل، يُعَمُّون بها عباد اللَّه) (¬4). وقال الأوزاعي: (إن اللَّه إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم. . ألقى على لسانه المغاليط؛ فلقد رأيتهم أقل الناس علمًا) (¬5). وكان أفاضل الصحابة رضي اللَّه عنهم كزيد بن ثابت وأُبيِّ بن كعب إذا سُئلوا عن شيءٍ. . قالوا: أَوَقَعَ؟ فإن قيل: نعم. . أفتوا فيها، أو ردوها إلى مَنْ يُفتي فيها، وإن قيل: لا. . قالوا: دعها حتى تقع (¬6)، وكانوا يكرهون السؤال عما لم يقع، بل لعن عمر رضي اللَّه عنه سائلًا عما لم يكن، وهذا الحكم يرجع إلى قوله تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (593) في كتاب الأقضية. وقوله: (وقد نهى الشارع. . . إلخ) قال المطرزي في "شرح مقامات الحريري": قيل: القال: السؤال، والقيل: الجواب، وأخبرني مولاي الصدر رحمه اللَّه عن فخر خوارزم أنه قال في قولهم: (نهى النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن قيل وقال): هو من قولهم: قيل كذا، وقال فلانٌ كذا، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيينِ متضمنين للضمير والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خِلْوينِ عن الضمير، ومنه قولهم: إنما الدنيا قيل وقال، وإدخال حرف التعريف عليهما لذلك في قولهم: ما يعرف القال من القيل. اهـ "مدابغي" (¬2) مسند الإمام أحمد (5/ 435). (¬3) أخرج نحوه الطبراني في "الكبير" (2/ 98)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (637) عن سيدنا ثوبان رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (638). (¬5) انظر "فتح الباري" (13/ 263)، و"فيض القدير" (6/ 301). (¬6) انظر "الفقيه والمتفقه" (622 - 624)، و"فيض القدير" (6/ 301).

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} , {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الآيتينِ ونحوهما. وبما تقرر: علم أنه لا يحتاج إلى قول من قال: إن كراهة المسائل وقتها مختصٌّ بزمنه صلى اللَّه عليه وسلم؛ لما يُخشى حينئذٍ من تحريمٍ أو إيجابٍ يحصل به مشقة، وهذا أُمن بوفاته صلى اللَّه عليه وسلم. واعلم: أن الناس انقسموا في هذا الباب: فمنهم مَنْ سدَّ بابها حتى قلَّ فهمه وعلمه بحدود ما أنزل اللَّه، وصار حامل فقهٍ غير فقيه، وهم من أتباع أهل الحديث. ومنهم من توسَّع في البحث عما لم يقع، واشتغلوا بتكلُّف الجواب عنه، وكثرة الخصومة فيه، والجدال عليه، حتى تفرقت قلوبهم، واستغرقها بسببه الأهواء والشحناء، والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيرًا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس إليهم، وهذا مما ذمَّه العلماء، ودلَّتِ السُّنَّةُ على قبحه وتحريمه كما مر. وأما فقهاء الحديث العاملون به. . فوجَّهوا همَّتهم إلى البحث عن معاني القرآن والسنة، وكلام الصحابة والتابعين، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السُّنة، والزهد والرقائق، ونحو ذلك مما فيه صفاء القلوب، والإخلاص لعلام الغيوب، جعلنا اللَّه تعالى منهم بمنه وكرمه (¬1). (رواه البخاري ومسلم) وهو حديث عظيم من قواعد الدين وأركان الإسلام، فينبغي حفظه والاعتناء به، لكن مسلم ذكره في بعض طرقه مطولًا؛ ولفظه: عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس؛ قد فرض اللَّه تعالى عليكم الحج فحُجُّوا" فقال رجلٌ: أكل عامٍ يا رسول اللَّه؟ فسكت حتى قالها مرارًا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "لو قلتُ: نعم. . لوجبتْ، ولما استطعتم" ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك ¬

_ (¬1) وممن اهتم بهذا الموضوع العلامة المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه اللَّه تعالى، فألف رسالة مفيدة في هذا الباب؛ سماها "منهج السلف في السؤال عن العلم في تعلم ما يقع وما لم يقع" فانظرها تغنم.

من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ. . فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ. . فدعوه" (¬1). ولكون هذا كالشارح للحديث الأول تكلَّم عليه جمعٌ من الشُّرَّاح بما حاصله: أن السائل هو الأقرع بن حابس، قيل: وفيه دليلٌ للقول الضعيف: إنه يتوقف في الأمر فيما زاد على مرةٍ على البيان، فلا يحكم باقتضائه ولا منعه؛ إذ لو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه. . لم يسأل الأقرع عن ذلك، ولقيل له: لا حاجة للسؤال، بل مطلقه محمولٌ على كذا. والأصح: أنه لا يقتضي التكرار (¬2)، ولا دلالة في الحديث للوقف؛ لاحتمال أن السؤال للاستظهار، أو للاحتياط؛ فإنه وإن لم يقتضِ التكرار قد يستعمل فيه، سيما والحج لغةً: قصدٌ فيه تكرارٌ يقوي احتمال التكرار عند السائل من هذه الحيثية أيضًا. وفي قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لو قلت: نعم. . لوجبت" دليلٌ لجواز الاجتهاد له، وهو الأصح (¬3)، و: "ذروني ما تركتكم" دليلٌ لعدم الحكم قبل ورود الشرع، وهو الأصح. ومعناه: لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تفيد بوجهٍ ما ظاهر وإن صلحت لغيره (¬4)، كما في: "فحجوا" فإنه وإن أمكن أن يراد به التكرار ينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ، وهو المرة الواحدة؛ فإنها مفهومةٌ من اللفظ قطعًا، وما زاد. . مشكوكٌ فيه، فيعرض عنه، ولا يكثر السؤال؛ لئلا يكثر الجواب، فيحصل التعنُّت والمشقة، كما مر عن بني إسرائيل، ومن ثم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا ¬

_ (¬1) مسلم (1337). (¬2) أي: والأصح: أن مطلق الأمر لا يقتضي التكرار. (¬3) قوله: (دليل لجواز الاجتهاد له) صلى اللَّه عليه وسلم؛ أي: في الحروب وغيرها، وهو الصحيح؛ وجه الدلالة منه: أنه علَّق الوجوب على قوله: (نعم)، وعدمه على سكوته، وهو إنما يكون بالاجتهاد، والحاصل: أنه صلى اللَّه عليه وسلم اجتهد فأدَّاه اجتهاده إلى أولوية السكوت تخفيفًا على الأمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} اهـ هامش (غ) (¬4) في هامش (غ): ("بوجه ما" أي: شيئًا هو ظاهر، أو شيئًا ظاهره كذا، فعلى النسختين لفظة "ما" مفعول "تفيد").

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآيةَ، نزلت -كما في "البخاري"- لمَّا أكثروا عليه صلى اللَّه عليه وسلم السؤال تعنتًا واستهزاءً، كقول بعضهم: مَنْ أبي؟ أين ضلَّت ناقتي؟ (¬1) وجاء من غير وجهٍ أنها نزلت لمَّا سألوه عن الحج وقالوا: أفي كل عام؟ (¬2) وفي روايةٍ: أنه صلى اللَّه عليه وسلم خرج وهو غضبان محمَرٌّ وجهُه، حتى صعِد المنبر، فقام إليه رجلٌ فقال: أين أبي؟ قال: "في النار" فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة" وكان الناس يسبونه وينسبونه لغيره، فجثا عمر على ركبتيه واعتذر عنهم حتى سكن غضبه (¬3)، فنزلت نهيًا لهم أن يسألوا -كما سألت النصارى في (المائدة) فأصبحوا بها كافرين- ومعلمةً لهم بأنهم ينتظرون نزول القرآن، فإنهم لا يسألون عن شيءٍ إلا وجدوا تِبيانه، قاله ابن عباس (¬4). ومعناه: أن جميع ما يحتاج إليه من الدين لا بد أن يبين في القرآن ابتداءً من غير مسألةٍ، وحينئذٍ فلا حاجة للسؤال، سيما عمَّا لم يقع، وإنما المحتاجُ إليه فهمُ ما أخبر اللَّه تعالى به ورسوله، ثم اتباعه والعمل به، كما أشار إليه صلى اللَّه عليه وسلم بقوله في حديث مسلم السابق: "إذا نهيتكم عن شيءٍ. . . إلخ" (¬5) بخلاف من صرف همته عند سماع الأمر والنهي إلى فرض ما قد يقع وقد لا، فإنه مما يثبط عن الجد (¬6) في امتثال الأمر والنهي. والحاصل: أنه لا مانع من تعدُّدِ سبب النزول، وأن منه ما يسوء السائل جوابه، مثل: هل هو في الجنة أو النار؟ وهل أبوه من ينسب إليه أو غيره؟ وما كان منه على وجه التعنت والعبث والاستهزاء، كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم، وما كان فيه سؤال آية واقتراحها على وجه التعنت، كما كان يسأله المشركون وأهل الكتاب. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4622) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه الترمذي (814)، وابن ماجه (2884) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (12806) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (12812). (¬5) تقدم تخريجه قريبًا (ص 278). (¬6) في بعض النسخ: (مما شط عن الحد).

وما كان سؤالًا عما أخفاه اللَّه تعالى كأمر الساعة والروح، أو عن كثيرٍ من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه، كهو عن الحج، هل يجب كل عام؟ ومن ثم صح: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا من سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته" (¬1). ولما سُئل صلى اللَّه عليه وسلم عن اللعان. . كره المسائل وعابها حتى ابتلي السائل عنه قبل وقوعه بذلك في أهله (¬2)، ولم يرخص في السؤال إلا لوفود الأعراب؛ لتألُّفِهم، بخلاف المقيمين عنده؛ لرسوخ الإيمان في قلوبهم. وصح عن النَّوَّاس بن سمعان: (أقمت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة سنةً ما يمنعني من المسألة إلا الهجرة، كان أحدُنا إذا هاجر. . لم يسأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم) (¬3). وعن أنس: (نُهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن شيءٍ، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع) (¬4). وروى أحمد: (أنهم رشوا أعرابيًا بُردًا (¬5) حتى يسأل لهم) (¬6). نعم؛ ربما سألوا عما لم يقع، نحو: (إنا لاقو العدوِّ غدًا، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقصب؟) (¬7). وسأل حذيفة عن الفتن وما يفعل فيها (¬8). وآثرَ (تركتكم) على (وَذَرْتُكم) ماضي (ذروني) لأن العرب لم تستعمله إلا في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7289) بلفظ: "إن أعظم المسلمين جرمًا" وهو في بعض النسخ، ومسلم (2358) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البخاري (4745)، ومسلم (1492) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه مسلم (2553/ 15). (¬4) أخرجه مسلم (12). (¬5) في بعض النسخ: (برداءٍ) وهي كذلك في "مسند الإمام أحمد" ولعل الصواب ما أثبت بدليل تتمة الحديث في "المسند"، وانظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 242). (¬6) مسند الإمام أحمد (5/ 266) عن سيدنا أبي أمامة الباهلي رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه البخاري (2488)، ومسلم (1968) عن سيدنا رافع بن خديج رضي اللَّه عنه. (¬8) انظر الحديث في "صحيح البخاري" (7084).

الشعر اغتناءً عنه بـ (تَرَكَ)، وكذا (ودع) ماضي (يدع). ومعنى "فرض اللَّه عليكم الحج": أوجبه، ومن ثَمَّ أجمعوا على وجوبه، وأنه مرةً في العمر بأصل الشرع، والأصح: أنه على التراخي؛ لأن الأمر لا يقتضي الفور على الأصح، ولأنه صلى اللَّه عليه وسلم أخَّره عن سَنَة إيجابه، ومن ثم قال القائلون بفوريته: يجوز تأخيره السنة والسنتين (¬1). وشرط وجوبه: التكليف اتفاقًا، والاستطاعة، وكذا الحرية عند الجمهور، والإسلام شرطٌ قيل: للوجوب، وقيل: للأداء (¬2)، والاستطاعة فسرت في حديثٍ: بالزاد والراحلة، لكن مرَّ أن منهم من صحَّحه ومنهم من ضعفه (¬3). ومن ثم اختلفوا فيهما، فقال مالك: من اعتاد السؤال ببلده. . لا يحتاج لوجود زاد، ومن قدر على المشي. . يلزمه وإن بعدت المسافة، واحتج بأنه يسمى مستطيعًا عرفًا، وخالفه الشافعي والأكثرون، فقالوا: لا يجب المشي على البعيد -وهو عندنا: مَنْ بينه وبين مكة مرحلتان وإن قدر- ولا السؤال مطلقًا، وقالوا: إنه لا يُسمَّى في العرف مستطيعًا إلا إن وجد الزادَ مطلقًا، والراحلةَ إن بَعُدَ عن مكة، فأصل اختلافهم في الحكم اختلافهم في العرف. واختلفوا أيضًا فيمن لم يستطع الحج بنفسه لعجزه عن الثبوت على المركوب، هل يخاطب بالحج فيُحَجُّ عنه في حياته بإذنه، وبعد موته من تركته أو لا؟ قال بالأول الأكثرون ومنهم الشافعي، وبالثاني مالك. ومآل اختلافهم هنا للعرف أيضًا؛ فإن الأولين يعدونه مستطيعًا بغيره ويقولون: الاستطاعة بالغير كهي بالنفس، ومالك يقول: غير مستطيع؛ لأن الاستطاعة حيث أُطلقت إنما تنصرف للاستطاعة بالنفس. وحديثُ الخثعمية وقولها: يا رسول اللَّه؛ إن فريضة اللَّه على عباده أدركت ¬

_ (¬1) بناءً على أنه فُرض في السنة الثامنة وأخَّره صلى اللَّه عليه وسلم إلى العاشرة. اهـ "مدابغي" (¬2) فعلى الأول: لا قضاء على الكافر إذا أسلم وهو المعتمد، وعلى الثاني: يجب عليه القضاء كالمرتد. اهـ هامش (غ) (¬3) في هامش (1): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة).

أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم" (¬1)، وفي روايةٍ: لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعير، وفي أُخرى: عليه فريضة اللَّه في الحج، وفي أخرى: "فحجي عنه" (¬2). . ظاهرٌ في الدلالة للأولين (¬3)، وتكلَّف المالكية للجواب عنه بما يأباه ظاهره، ومنه (¬4): أن ظاهر الاستطاعة في القرآن يخالفه، فقُدِّم لتواتره. ويجاب عنه بأنه مبنيٌّ على ما مر لهم أن المفهوم من الاستطاعة عرفًا: الاستطاعة بالنفس، ومرَّ أنه محل النزاع، وأنه يحتمل أن معنى (أدركتْهُ) أنه فرض وهو مريضٌ، وترده الرواية الأخيرة، وأن هذا ظنٌّ منها وليس مطابقًا للواقع، ويرد: بأن هذا مجرد دعوى، وإلَّا. . فسكوته صلى اللَّه عليه وسلم على سؤالها وإجابته عليه ظاهر في تقريره وصحته، وأنَّ أمرها بالحج إنما هو من باب التطوع وإيصال الخير للميت، بدليل قوله للأخرى لما قالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج، أفأحج عنها؟ قال: "حجي عنها، أرأيت لو كان على أمكِ دينٌ أكنت قاضيتَه عنها؟ " قالت: نعم (¬5). ويرد بأن الأصل في الأمر: الوجوب، وهو عندنا واجبٌ على وارثٍ خلَّف ميِّتُه تركةً، وقد مات وعليه حجة إسلامٍ، أو نذرٍ، فالأمر على قواعدنا باقي على حقيقته في الحديثينِ، وعلى قواعدهم مخرجٌ عنها، وإخراجه عنها يحتاج لدليلٍ يخرجه عنها، ومجردُ دعوى أنه من ذلك الباب ليس دليلًا، ودعوى اختصاصه بها، أو أنه مضطربٌ غيرُ مقبولة؛ إذ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والاضطرابُ على نحو ما في هذا الحديث غيرُ مؤثر. وفي الحديث ردٌّ على مَنْ منع حجَّ المرأة عن الرجل، والحج عن الغير مطلقًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) عند مسلم (1335) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) قوله: (ظاهرٌ في الدلالة) خبر لقوله: (وحديث الخثعمية). (¬4) أي: وممَّا يأباه ظاهره. (¬5) أخرجه البخاري (7315)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 335)، والطبراني في "الكبير" (12/ 40) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

وحكي عن مالك، والذي عليه الشافعيُّ وجمهور الفقهاء جوازُه عمَّن عليه فرضٌ ولو قضاءً أو نذرًا وإن لم يوصِ به، وعمن أوصى به ولو تطوعًا، وعن حيٍّ معضوبٍ بإذنه (¬1)، ويدل له خبر: "إن اللَّه تعالى يدخل بالحجة الواحدة الجنة ثلاثةً: الميت، والحاج، والمنفذ لذلك" (¬2) ولا يضر أن في إسناده أبا معشر، لأنه يحتج به؛ لأنه مع تضعيف الأكثرين له يُكتَب حديثه. وخبر: أنه صلى اللَّه عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: "من شبرمة؟ " قال: أخٌ لي، فقال: "حججتَ عن نفسكَ؟ " قال: لا، قال: "حج عن نفسك، ثم عن شبرمة" (¬3). والجمهور على كراهة إجارة الإنسان نفسه للحج، وينبغي حمله على مَنْ قصد الدنيا، أما مَنْ قصد الآخرة لاحتياجه للأجرة ليصرفها في واجبٍ أو مندوبٍ. . فلا كراهة في حقه. * * * ¬

_ (¬1) قوله: (عن معضوب) بضاد معجمة؛ أي: عاجز عن النسك بنفسه لكبرٍ أو غيره؛ كمشقةٍ شديدة بألَّا يستمسك على المركوب بلا مشقة شديدة. اهـ هامش (غ) (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 180) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬3) تقدم تخريجه (ص 129) في شرح الحديث الأول.

الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء, وأكل الحرام يمنعها]

الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء, وأكل الحرام يمنعها] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمنِينَ بمَا أَمَرَ بهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} "، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟! رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه تعالى طيبٌ) أي: طاهرٌ منزَّهٌ عن النقائص وكلِّ وصفٍ خلا عن الكمال المطلق، أو طيب الثناء، أو مستلَذُّ الأسماء عند العارفين بها، وعلى كلٍّ فهو من أسمائه الحسنى؛ لصحة الحديث به كالجميل (¬2). قيل: ومثلهما النظيف، ورُدَّ: بأن حديثه لم يصح؛ أي: وهو: "إن اللَّه طيبٌ يحب الطيب، نظيفٌ يحب النظافة، جوادٌ يحب الجواد" خرَّجه الترمذي، وفي إسناده مقال (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1015). (¬2) وهو حديث: "إن اللَّه جميل يحب الجمال" أخرجه مسلم (91)، وابن حبان (5466)، والحاكم (4/ 181) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن الترمذي (2799) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه.

(لا يقبل) من الأعمال والأموال (إلا طيبًا) أي: لا يثيب إلا على ما يعلمه طيبًا؛ أي: خالصًا من المفسدات كلها كالرياء والعجب، أو حلالًا، سواء أكان بالنسبة لعلمنا أم مشتبهًا، وأما الحرام عنده. . فلا يثيب عليه وإن كان حلالًا عندنا. نعم؛ القياس أن من تصدَّق بما يظنه حلالًا وهو حرامٌ باطنًا أنه يثاب على قصدِهِ الطاعةَ (¬1)، وبما قررته يندفع ما أطال به بعض الشُّراح هنا في معنى القبول، وإنما لم يقبل اللَّه الصدقة بالمال الحرام؛ لأن المتصدق تصرَّف فيه، وهو ممنوعٌ من التصرف فيه؛ لكونه مِلْكَ الغير، فلو قبل منه. . لزم أن يكون مأمورًا به منهيًا عنه من جهةٍ واحدةٍ، وهو محالٌ، وهذا معنى ما فهم من فحوى الحديث أن بين الطيب لذاته المقتضي للقبول، والخبيث لذاته المقتضي لعدمه تضادًا يحيل اجتماعهما. ثم الصدقة بالمال، الحرام إما أن تكون من نحو الغاصب عن نفسه، فهذا هو المراد من الأحاديث الكثيرة في ذلك، المصرحة بأنه لا يُقبَل منه، وأنه لا يُؤجَر عليه، بل يأثم به، ولا يحصل للمالك بذلك أجرٌ على ما قاله جمعٌ، ونقل عن ابن المسيب. وأما عن صاحبه إذا عجز عن ردِّه إليه وإلى ورثته. . فهذا جائزٌ عند أكثر العلماء، فيكون نفعه له في الآخرة حيث تعذَّر عليه الانتفاع به في الدنيا. وقال الفضيل في مالٍ حرامٍ لا يعرف أربابه: (يُتلف ويُلقى في البحر، وهو بعيد) (¬2). وقال الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: (يحفظ إلى وجود مستحقه إن رُجي) (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (يثاب على قصده الطاعة) أي: وإن لم يثب على نفس الطاعة التي هي الصدقة، فالصدقة لها جهتا استحقاقٍ للثواب: قصد الطاعة، ونفى الطاعة، وبِبُطلان أحدهما لا يبطل الآخر؛ كما إذا قصد المتصدق بالحلال الرياء. . فإنه يثاب على ذات الصدقة ولا يثاب على القصد، وهكذا في سائر الطاعات، كما صرح الفاضل العدوي في "النفحات" واللَّه تعالى أعلم. (محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ) (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 268) فقد ذكره وذكر قول الإمام الشافعي رحمه اللَّه. (¬3) قوله: (إن رجي) فإن لم يرجَ وجوده. . صرفه في المصالح، وإلَّا. . دفعه لمتولي بيت المال حيث كان عادلًا أمينًا. اهـ "مدابغي"

تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة] انتفاء القبول قد يُؤْذن بانتفاء الصحة؛ كما في: "لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" (¬1) ويفسر القبول حينئذٍ بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء (¬2)، وقد لا، كما في الآبق، ومَنْ سخط عليها زوجها، وآتي العرَّاف، وشارب الخمر لا تُقبل لهم صلاةٌ أربعين يومًا، ويُفسَّر القبول حينئذٍ بالثواب، ومنه خبر أحمد الآتي: "من صلَّى في ثوبٍ قيمته عشرة دراهم فيه درهم حرام. . لم يقبل اللَّه له صلاة" (¬3) ويميز بين هذينِ الاستعمالينِ بحسب الأدلة الخارجية (¬4). وأما القبول من حيث ذاتُهُ. . فلا يلزم من نفيه نفي الصحة وإن لزم من إثباته إثباتُها. قيل: (وللقبول معنًى ثالثٌ؛ وهو الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة، والمباهاة به) انتهى، وفيه نظر؛ لأن مرجع ذلك إلى المعنى الثاني وهو الثواب؛ إذ لا فائدة له إلا إعلام الملائكة بمرتبته ليخصُّوه بمزيد دعاءٍ واستغفارٍ، وهذه الجملة توطئةٌ وتأسيسٌ لما هو المقصود بالذات من سياق هذا الحديث، وهو طيب المطعم لحيازة الكمال المستلزم لإجابة الدعاء غالبًا. واستفيد مما قررته: أن الطيب يأتي بمعنى الطاهر، وبمعنى الحلال -وقد مرَّا- وبمعنى المستلذ طبعًا. (وإن اللَّه) تعالى (أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فسوَّى بينهم في الخطاب بوجوب أكل الحلال، وفيه أن الأصل: استواؤهم مع أممهم في الأحكام إلا ما قام الدليل على أنه مختصٌّ بهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (225) عن سيدنا أيي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء) كترتب سقوط الطلب على المكلف المطلوب منه الصلاة على الطهارة مثلًا. اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "مسند الإمام أحمد" (2/ 98) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، ولفظه فيه: "من اشترى ثوبًا" فليتنبه. (¬4) قوله: (هذين الاستعمالين) أي: القبول والثواب.

(فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}) أي: ملكناكم، وقد يأتي في بعض المواضع بمعنى نفعناكم، وهي جمع طيب؛ وهو: الحلال الخالص من الشُّبهة؛ لأن الشرع طيَّبه لآكله وإن لم يستلذه. وعن الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: أنه المستلذ؛ أي: شرعًا، وإلَّا. . فلذيذ الطعام غير المباح وبالٌ وخسار، فيكون طعامًا ذا غُصَّةٍ وعذابًا، فهو بمعنى ما قبله، خلافًا لمن فهم تغايرًا بينهما (¬1)، فاعترض الشافعي بأن الخنزير ألذ اللحم على الإطلاق، وهو حرامٌ إجماعًا، ونحو الصَّبِر لا لذة فيه، وهو حلالٌ إجماعًا. نعم؛ قد يراد بالطيب أخص من الحلال، وهو المستلذ طبعًا، وذلك في نحو قوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} على أنه كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون تأكيدًا، لكن التأسيس خيرٌ منه. وقد تشير هذه الآية إلى أن الحرام رزقٌ، وهو ما عليه أهل السنة، خلافًا للمعتزلة، ودليلنا من الكتاب: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، ومن السُّنة: "إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها" (¬2) فدل على أن جميع ما أكلته كلُّ نفسٍ رزقُها، حلالًا كان أو حرامًا، وإجماعُ الأمة أن اللَّه تعالى يرزق البهائمَ ما تأكله، والطفلَ ما يشربه من اللبن، وليس بمِلْكٍ لهما، فدلَّ على أن الرزق لا يشترط فيه الملك. قال أبو هريرة: (ثم) بعد ما سبق ذكره استطرد صلى اللَّه عليه وسلم الكلام حتى (ذكر الرجل يطيل السفر) صفة لـ (الرجل) لأن (أل) فيه جنسية، فيه إشارة إلى أن السفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، وبه يُصرِّح حديث أبي داوود والترمذي وابن ماجه: "ثلاث دعواتٍ مستجاباتٍ لا شك فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ¬

_ (¬1) أي: بين الحلال والمستلَذ. (¬2) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 4)، وابن ماجه (2144)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 265) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه بنحوه.

ودعوة الوالد لولده" (¬1) وطوله أقرب إلى الإجابة؛ لأنه مظِنَّة انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب الإجابة. (أشعث) أي: جعد الرأس (أكبر) أي: غيَّر الغبار لونه؛ لطول سفره في الطاعات؛ كحجٍّ، وجهادٍ، وزيارة رحمٍ، وكثرةِ عنائه ومشقته، ومع ذلك لا يُستجاب له؛ لما يأتي، فكيف بمن هو منهمكٌ في الغفلة والمعاصي؟! وفي هذا أيضًا إشارة إلى أن رثاثة الهيئة من أسباب الإجابة، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم: "رُبَّ أشعث أغبر، ذي طمرين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على اللَّه. . لأبره" (¬2)؛ ولأجل هذا نُدِب ذلك في الاستسقاء. (يمد) صفة رابعة بالاعتبار السابق (يديه) عند الدعاء (إلى السماء) قائلًا: (يا رب) أعطني كذا (يا رب) جنبني كذا، فيه رفع اليدين في الدعاء، وهو سنةٌ في غير الصلاة، وفيها في القنوت؛ اتباعًا له صلى اللَّه عليه وسلم، وفي الحديث: "إن اللَّه تعالى حيِيٌّ كريمٌ، يستحيي من عبده أن يرفع إليه كفيه ثم يردهما صِفْرًا خائبتين" رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجه (¬3). وحكمته: اعتياد العرب رفعَهما عند الخضوع في المسألة والذِّلة بين يدي المسؤول، وعند استعظام الآمر، والداعي جديرٌ بذلك؛ لتوجهه بين يدي أعظم العظماء، ومن ثم ندب الرفع عند تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول؛ إشعارًا للمصلي بأنه ينبغي له أن يستحضر عظمة مَنْ هو بين يديه، حتى يُقْبل بكلِّيَّته وظاهره وباطنه على ما هو فيه. ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (1536)، وسنن الترمذي (1905)، وابن ماجه (3862) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه مسلم (2622) والترمذي (3854) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أنس رضي اللَّه عنهما. وقوله: (لو أقسم على اللَّه. . لأبره) أي: لو حلف على وقوع شيء. . أوقعه اللَّه تعالى؛ إكرامًا بإجابة سؤاله وصيانته عن الحنث بيمينه، وهذا لعظم منزلته عند اللَّه وإن كان حقيرًا عند الناس، وقيل: معنى القسم هنا الدعاء، وإبراره إجابته. اهـ "مدابغى" (¬3) مسند الإمام أحمد (5/ 438)، وسنن أبي داوود (1488)، وسنن الترمذي (3556) عن سيدنا سلمان رضي اللَّه عنه. وقوله: (صِفْرًا) بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء وراء مهملة؛ أي: خاليتين خائبتين من عطائه.

وجاء: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان عند الرفع تارةً يجعل بطون يديه إلى السماء، وتارة يجعل ظهورهما إليها، وحملوا الأول على الدعاء بحصول مطلوبٍ أو دفع ما قد يقع به من البلاء، والثاني على الدعاء برفع ما وقع به من البلاء، وروى مسلم: أنه صلى اللَّه عليه وسلم فعل الثاني في الاستسقاء (¬1)، وأحمد: أنه صلى اللَّه عليه وسلم فعله وهو واقفٌ بعرفة (¬2). وجاء أيضًا: أنه رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه (¬3)، وورد عكس هذه في الاستسقاء أيضًا (¬4). وحكمة رفعهما إلى السماء: أنها قبلة الدعاء، ومن ثَمَّ كانت أفضل من الأرض على الأصح؛ لأنه لم يُعص اللَّه فيها (¬5)، وقيل: الأرض أفضل؛ لأنها مدفن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (¬6). وفيه أيضًا: الإشارة إلى عظيم جلال اللَّه وكبريائه، وأنه تعالى فوق كل موجودٍ مكانةً واستيلاءً، لا مكانًا وجهةً، تعالى اللَّه عمَّا يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا. وفي تكرير: (يا رب، يا رب) إشارة إلى أن من أسباب الإجابة، بل من أعظمها الإلحاح على اللَّه تعالى بثناءٍ حسن، وذكر فضل كرمه، وعظيم ربوبيته، ومن ثَمَّ خرَّج البزار مرفوعًا: "إذا قال العبد: يا رب، أربعًا. . قال اللَّه سبحانه وتعالى: لبيك عبدي، سل تعطه" (¬7)، وروى الطبراني وغيره أن قومًا شكوا إليه صلى اللَّه عليه وسلم ¬

_ (¬1) أخرج مسلم (896) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه: (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء). (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 13) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرج البخاري (1031)، ومسلم (895) ذلك عن سيدنا أنسٍ رضي اللَّه عه. (¬4) أخرجه أبو داوود في "سننه" (1171) عن سيدنا أنس رضي عنه. (¬5) أي: لم تستمر معصية فيها، فلا ينافي أن إبليس عصى فيها. اهـ هامش (ج) (¬6) انظر تفصيل السيد السمهودي رحمه اللَّه تعالى في "وفاء الوفا" (1/ 29). وقال البرهان اللقاني رحمه اللَّه تعالى: والخلاف في غير البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة صلى اللَّه عليه وسلم، أما هي. . فأفضل حتى من الجنة والعرش والكرسي. اهـ "مدابغي" (¬7) ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 162) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها، وعزاه للبزار.

قحوط المطر، فقال: "اجثوا على الرُّكَب وقولوا: يا رب، يا رب" ففعلوا فسُقُوا (¬1)؛ ولأجل ذلك كان غالب أدعية القرآن مفتتحًا بذكر الرب. (ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي) بضم أوله المعجم، وكسر ثانيه المعجم المخفف (بالحرام) أحوال؛ أي: أنه يطيل السفر في القُرَب، ويمد يديه إلى ربه يسأل منه، والحال أنه ملابسٌ للحرام أكلًا وغيره (فأنَّى يُستجاب لذلك) أي: فكيف، ومن أين يستجاب لمن هذه صفته، فهو استبعادٌ لإجابة دعائه، مع قبيح ماهو متلبِّسٌ به؛ لأنه ليس أهلًا لها حينئذ لاتصافه بقبيح المخالفات، وليس إحالة لها؛ لإمكانها مع ذلك تفضُّلًا وإنعامًا، فعُلم أن اجتناب الحرام في جميع ذلك شرطٌ لإجابة الدعاء، وأن تناوله مانعٌ لها غالبًا (¬2). وسرُّه: أن مبدأ إرادة الدعاء القلبُ، ثم تفيض تلك الإرادة على اللسان، فينطق به، وتناوُلُ الحرام مفسدٌ للقلب كما هو مُدرَكٌ بالوجدان، فيحرم الرِّقةَ والإخلاص، وتصير أعماله صورًا لا روح فيها، وبفساده يفسد البدن كلُّه كما مر، فيكون الدعاء فاسدًا؛ لأنه نتيجة فاسد. وأخرج الطبراني بإسنادٍ فيه نظرٌ عن ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما قال: تُلِيَتْ عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هذه الآيةُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} فقام سعد بن أبي وقاصٍ وقال: يا رسول اللَّه؛ ادع اللَّه أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "يا سعد؛ أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده؛ إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يومًا، وأيما عبد نبت لحمه من سحتٍ. . فالنار أَولى به" (¬3). ومن ثَمَّ قيل له: لِمَ تستجابُ دعوتُك من دون الصحابة؟ فقال: (ما رفعت إلى ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط (5978) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. (¬2) قال بعض السلف: لا تسبطئ الإجابة وقد سددتَ طرقها بالمعاصي، وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال: (من الخفيف) نحن ندعو الإلهَ في كلِّ كربٍ ... ثم ننساه عند كشفِ الكروبِ كيف نرجو إجابةَ لدعاءٍ ... قد سددنا طريقها بالذنوبِ (¬3) المعجم الأوسط (6491).

فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيئها، ومن أين خرجت) (¬1). وروى أحمد بإسنادٍ فيه نظر أيضًا: "من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام. . لم يقبل اللَّه له صلاةً ما كان عليه" (¬2). وفي حديثٍ فيه ضعيفٌ: "وإذا خرج -أي: الحاج- بالنفقة الخبيثة، فوضع رِجْله في الغرز -أي: الرِّكاب- فقال: لبيك. . ناداه ملكٌ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرامٌ، وراحلتك حرامٌ، وسعيك حرامٌ، وحجك غير مبرور" (¬3). وبقي للدعاء شروطٌ وآداب ذكرتها مستوعبةً في "شرح العباب" وغيره في أذكار الصلاة، فانظره فإنه مهمٌّ؛ لاشتماله على بيان انقسامه إلى ما هو كفرٌ وحرامٌ ومندوبٌ وعلى غير ذلك من النفائس التي لا يُستغنى عنها، ومن تلك الشروط: ألَّا يدعوَ بحرامٍ ولا بمُحالٍ ولو عادةً؛ لأن الدعاء بها (¬4) يشبه التحكم على القدرة القاضية بدوامها، وذلك سوء أدبٍ على اللَّه تعالى، قيل: (إلا بالاسم الأعظم، فيجوز؛ تأسيًا بالذي عنده علمٌ من الكتاب؛ إذ دعا بحضور عرش بلقيس فأُجيب) انتهى، وهو مبنيٌّ على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا، والأصح: خلافه. وأن يكون حاضر القلب موقنًا بالإجابة؛ لخبر: "ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن اللَّه تعالى لا يسمع دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ" (¬5) وألَّا يستبطئَ الإجابة (¬6)؛ ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/ 275). (¬2) مسند الإمام أحمد (2/ 98) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5224) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) قوله: (لأن الدعاء بها) صوابه: (به) أي: بالمحال عادة، تأمل. اهـ "مدابغي" (¬5) أخرجه الحاكم (1/ 493)، والترمذي (3479) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬6) واعلم: أن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارةً يقع المطلوب بعينه ولكن يتأخر لحكمةٍ فيه، وتارة تقع الإجابة بغير المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة، أو يكون في المطلوب مصلحة وفي ذلك الغير أصلح منها، على أن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما يدل عليه قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} فهو مقيدٌ لإطلاق الآيتين السابقتين، فالمعنى: ادعوني أستجب لكم إن شئت، وأجيب دعوة الداع إن شئت. اهـ "تحفة المريد على جوهرة الوحيد" (ص 255)

لخبر: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل" (¬1)؛ ولأنه استحثاثٌ للقدرة، وهو سوء أدب. وقد تأتي (أنى) لتعميم الأحوال والمكان والزمان، ومنه: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أي: محل الولد المشبه بمحل الحرث {أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف ومتى وحيث شئتم، لا يحظر عليكم في حالةٍ إلا ما استُثني شرعًا؛ كحيض أو وطء شبهة (¬2)، ولا في جهة، بل لكم إتيانهنَّ من أيِّ جهةٍ حيث كان محل الولد هو المأتيَّ. (رواه مسلم) من رواية فضيل بن مرزوق، وهو ثقةٌ وسطٌ وإن لم يخرج له البخاري، ولا يقدح فيه قول الترمذي: حسن غريب (¬3). وهو من الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام، ومباني الأحكام، وعليه العمدة في تناول الحلال وتجنُّب الحرام، وما أعم نفعه وأعظمه! وممَّا تضمنه: بيان حكم الدعاء، وشرطه الأهم، ومانعه؛ و"الدعاء -كما ورد- مخ العبادة" (¬4)؛ لأن الداعي إنما يدعو اللَّه عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، ولا عبادة فوقهما، فكان مخ العبادة من هذه الحيثية. واستفيد من الحديث الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالًا محضًا، وأن مريد الدعاء أَولى بالاعتناء بذلك مَنْ غيره، وأن مَنْ أراد الدعاء أو عبادةً غيره. . لزمه أن يعتني بالحلال في جميع ذلك حتى يُقبَل دعاؤه وعبادته، وأن المؤمن إنما يقبل منه إنفاقُ الطيِّب، فيزكو وينمو، ويبارك فيه. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (أو وطء شبهة) أي: فيما إذا وطئت زوجته بشبهةٍ، فيتجنبها إلى انقضاء عدتها، بل قال الرملي: يحرم عليه أن ينظر إليها أيضًا. اهـ "مدابغي" (¬3) سنن الترمذي (2989). (¬4) أخرجه الترمذي (3371) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشبه]

الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه] عَنْ أبي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سِبْطِ رَسُولِ اللَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَيْحَانَتِهِ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬1) (عن أبي محمد الحسن) كناه وسماه بذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (ابن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهما) وهو (سبط رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) أي: ابن بنته فاطمة الزهراء رضي اللَّه تعالى عنهما (ورَيحانته) كما جاء في الأحاديث (¬2)، شبَّهه لسروره وفرحه به وإقبال نفسه عليه بريحان طيب الرائحة، تهَشُّ إليه النفس وترتاح له، وكفاه فخرًا الحديث الصحيح: أنه رقى المنبر ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخطب, فأمسكه والتفت إلى الناس ثم قال: "إن ابني هذا سيدٌ، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (¬3) فكان كذلك؛ فإنه لما تُوفي أبوه رضي اللَّه تعالى عنه. . بايع الناس له، فصار خليفةً حقًا مدةَ ستة أشهر تكملةً للثلاثين سنةً التي أخبر النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنها مدة الخلافة، وبعدها تكون مُلكًا عضوضًا؛ أي: يعض الناس؛ لجور أهله، وعدم استقامتهم، فلما تمَّتْ تلك المدة. . اجتمع هو ومعاوية رضي اللَّه تعالى عنهما كل في جيشٍ عظيمٍ، فامتثل الحسن ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2518)، وسنن النسائي (8/ 327). (¬2) منها ما أخرجه البخاري (3753) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما: "هما ريحانتاي من الدنيا" أي: سيدنا الحسن والحسين رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه البخاري (2704) عن سيدنا أبي بكرة رضي اللَّه عنه.

إشارة جدِّه صلى اللَّه عليه وسلم ورغب عن الخلافة لمعاوية، فسلَّمها له طوعًا وزهدًا، وصيانةً لدماء المسلمين وأموالهم (¬1)، فإنه بايعه على الموت أكثر من أربعين ألفًا، وشرط على معاوية رضي اللَّه تعالى عنه شروطًا وفَّى له بمعظمها (¬2). ومناقبه كثيرةٌ، وفضائله جمَّةٌ، ومحبة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم له، ولأخيه الحسين، ولأبيهما وأمهما، وثناؤه عليهم، ونشره لغرر مآثرهم، وباهر مناقبهم. . من الشهرة عند مَنْ له أدنى ممارسة بالسُّنة بالمحل الأسنى، فإن أردت الوقوف على ذلك مبسوطًا مبينًا مستوعبًا. . فعليك بكتابي "الصواعق المحرقة" فإنه جمع فأوعى. ولد الحسن رضي اللَّه تعالى عنه منتصفَ رمضان سنة ثلاثٍ من الهجرة على الأصح، ومات مسمومًا من زوجته بإرشاءٍ من يزيد بن معاوية لها على ذلك على ما قيل سنةَ أربع، أو خمس، أو تسع وأربعين، أو خمسين، أو أحد وخمسين، أو ثمان وخمسين، ودفن بالبقيع، وقبره مشهورٌ فيه. وكان من الحكماء الكرماء الأسخياء، روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ثلاثة عشر حديثًا، روى له أصحاب "السنن" الأربعة، وروت عنه عائشة وغيرها. (قال: حفظت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: دع) أمر ندب؛ لما مر في (الحديث السادس) أن الأصح: ندب توقي الشبهات (¬3). (ما يريبك) بفتح أوله وضمه، والفتح أفصح وأشهر، من (راب وأراب)، بمعنى شكَّكَ، وقيل: (راب) لما يتيقن فيه الريبة، و (أراب) لما يتوهم منه. (إلى ما لا يريبك) أي: دع ما تشك فيه من الشُّبهات إلى ما لا تشك فيه من ¬

_ (¬1) وروي عن الشعبي: أنه قال: شهدت الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما حين صالحه معاوية، فقال له معاوية: (قم فأخبر الناس أنك تركت لي هذا الأمر) فقام الحسن، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فإن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وإن اللَّه هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن هذا الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية: إما أن يكون حقًا له فهو أحق به مني، وإما أن يكون حقًا هو لي فقد تركته له؛ إرادة صلاح الأمة وحقن دمائها، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) ثم نزل، وظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى اللَّه عليه وسلم في الحسن: "إن ابني هذا سيد" اهـ "مدابغي" (¬2) قوله: (ورغب عن الخلافة. . . إلخ) ومن هنا أخذ السراج البلقيني جواز النزول عن الوظائف ولو بمال. اهـ هامش (ج) (¬3) انظر ما تقدم (ص 233) وما بعدها.

الحلال البيِّن؛ لما مرَّ في (الحديث السادس): أن من اتَّقى الشُّبهات. . فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومر الكلام على ذلك بما هو شرحٌ لهذا أيضًا؛ لرجوعهما إلى شيءٍ واحد، وهو النهي التنزيهيُّ عن الوقوع في الشبهات. ومن ثم قيل: إنه يجب اجتنابها، وفصَّل آخرون فقالوا: تلحق الشبهة المحتملة الفاحشة بالحرام، بخلاف غيرها، فبيع نحو العِينة مشتبةٌ؛ لأنه حيلةٌ للربا، وهي فيه نافعةٌ عند قومٍ، وغير نافعة عند آخرين، فإن اللَّه تعالى لا تخفى عليه خافية، والأعمال بالنيات، وعليه قال بعضهم: نعم، إن اطلع اللَّه تعالى على نية فاعل ذلك أنها بريئةٌ من الحيلة، وأن قلبه لم ينطوِ على محرَّمٍ. . لم يعاقب، لكنه لم يستبرئ لدينه ولا لعرضه؛ لأنه يُظَنُّ به الربا، وتسوء فيه الظنون، فيطلب منه دفع هذا المريب إلى ما لا يريب. وورد: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس" (¬1). وقال أبو ذرٍّ رضي اللَّه تعالى عنه: (تمام التقوى: ترك بعض الحلال خوفًا أن يكون حرامًا) (¬2). وقيل لابن أدهم رضي اللَّه تعالى عنه: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال: (لو كان لي دلوٌ. . لشربت) (¬3) إشارة إلى أن الدلو من مال السلطان، وهو مشتبه. ومر أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال لمن أخبرته امرأة سوداء أنها أرضعته وزوجتَهُ: "كيف وقد قيل؟! " فطلقها ورعًا (¬4)، ولسودة: "احتجبي منه" (¬5) أي: من أخيها الملحق بأبيها شرعًا؛ لكونه فيه شَبَهٌ بيِّن بغيره، فلم تره ولم يرها ورعًا أيضًا، فعلم أن ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2451) , وابن ماجه (4215) عن سيدنا عطية السعدي رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 61)، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 48) نحوه، وانظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 209) لكن عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه، وسيذكره الشارح عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه (ص 352)، فيلتنبه. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الورع" (155). (¬4) تقدم تخريجه (ص 240). (¬5) تقدم تخريجه (ص 241).

الريبة تقع في العبادة، والمعاملة، والمناكحات، وسائر أبواب الأحكام، وأن ترك الرِّيبة في ذلك كلِّه إلى يقين الحل هو الورع، وهو عميم النفع، كثير الفائدة، عظيم الجدوى في الدنيا والأخرى، وأنه إذا تعارض شكٌّ ويقينٌ. . قُدِّمَ اليقينُ، وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ، يندرج تحتها ما لا يحصى، وتفاصيل ذلك وإن كثرت لكنها لا تخفى على مَنْ عرف الفقه والقاعدة فيها التي ذكرناها. (رواه) الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة (الترمذي) بكسر الفوقية والميم، وقيل: بضمهما، وقيل: بفتح ثم كسر، كلها مع إعجام الذال، نسبة لمدينةٍ قديمةٍ على طرف جيحون نهر ببلخ، وكان من أوعية الفقه والحديث، مات سنة تسعٍ وسبعين ومئتين، ورواه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" والحاكم (¬1). (و) الإمام أحمد بن شعيب (النسائي) الخراساني، ولد سنة خمس عشرة ومئتين، رحل واجتهد وأتقن إلى أن انفرد فقهًا وحديثًا وحفظًا وإمامة، واستوطن مصر، ومات بالرملة سنة ثلاث وثلاث مئة (¬2). (وقال الترمذي: حديث حسن صحيح) أي: ولا يضر توقف أحمد في أبي الحوراء راويه عن الحسن؛ فقد وثقه النسائي وابن حبان (¬3)، وبه يندفع قول بعضهم: إنه مجهولٌ لا يعرف. وهذا قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ فيه ذكر قنوت الوتر، وعند الترمذي وغيره زيادة فيه وهي: "فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة"، ولفظ ابن حبان: "فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة". وقد خرجه أحمد أيضًا عن أنس (¬4)، والطبراني عن ابن عمر مرفوعًا (¬5)، وبه يرد ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (722)، والمستدرك (2/ 13) عن سيدنا الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما. (¬2) في كثير من النسخ: تقديم الإمام النسائي على الإمام الترمذي رحمهما اللَّه تعالى، وفي بعضها اضطراب، وما أثبت من بعضها هو الصواب الموافق لمتن المؤلف رحمه اللَّه تعالى، واللَّه أعلم. (¬3) قال الإمام ابن حبان رحمه اللَّه تعالى في "الثقات" (2/ 135): (ربيعة بن شيبان السعدي، أبو الحوراء، يروي عن الحسن بن علي، عداده في أهل البصرة، روى عنه يزيد بن أبي مريم). وفي أكثر النسخ: (أبي الجوزاء) والصواب: ما أثبت، واللَّه أعلم. (¬4) مسند الإمام أحمد (3/ 112). (¬5) المعجم الصغير (1/ 102).

قول الدارقطني: إنما يُروى هذا من قول ابن عمر، ويُروى عن مالك من قوله. وروي بإسنادٍ ضعيفٍ عن أبي هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال لرجل: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" قال: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: "إذا أردت أمرًا. . فضع يدك على صدرك؛ فإن القلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، وإن المسلم الوَرِعَ يَدَعُ الصغيرة مخافةَ الكبيرة" زاد الطبراني: قيل له: فمن الوَرِع؟ قال: "الذي يقف عند الشبهة" (¬1). ثم هذا الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الدين، وأصلٌ في الورع الذي عليه مدار اليقين، ومنجٍ من ظُلَم الشكوك والأوهام المانعة لنور اليقين. ومن ثم تنزَّه يزيد بن زريع عن خمس مئة ألف من ميراث أبيه، فلم يأخذها، وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين، وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوَّت منه إلى أن مات. وقال الفضيل: (يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد عليَّ أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (¬2). وقال حسان بن أبي سنان: (ما شيءٌ أهون من الورع، إذا رابك شيءٌ. . فدعه) (¬3) وهذا إنما يَسهُل على مثله رضي اللَّه تعالى عنه. واحتكر المِسْوَر بن مخرمة طعامًا كثيرًا، فرأى سحابًا في الخريف فكرهه، ثم قال: أراني كرهت ما ينفع المسلمين، فآلى ألَّا يربحَ فيه شيئًا، فأخبر بذلك عمر رضي اللَّه تعالى عنه، فقال له: (جزاك اللَّه خيرًا) (¬4)؛ وفيه: أن المحتكر ينبغي له أن يتنزَّه عن ربح ما احتكره احتكارًا منهيًا عنه. وسُئلتْ عاشة رضي اللَّه تعالى عنها عن أكل الصيد للمحرم، فقالت: (إنما هي أيامٌ قلائل، فما رابك. . فدعه) (¬5) يعني: ما اشتبه عليك هل هو حلالٌ أو حرامٌ. . ¬

_ (¬1) المعجم الكبير (22/ 78) عن سيدنا واثلة بن الأسقع رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 432) نحوه. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الورع" (47). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (1140). (¬5) انظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 282).

فاتركه؛ فإن العلماء اختلفوا في إباحة الصيد للمحرم إذا لم يصده هو، ومن ثَمَّ كان الخروج من الخلاف أفضل؛ لأنه أبعد عن الشبهة. نعم؛ المحققون على أن ما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم فيه رخصةٌ ليس لها معارضٌ. . اتباعُها أَولى من اجتنابها وإن منعها من لم تبلغه (¬1)، أو لتأويلٍ بعيدٍ؛ مثاله: من تيقَّن الطهارة وشك في الحدث، فإنه صح أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال فيه: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا" (¬2) ولا سيما إن كان شكه في الصلاة، فإنه يحرم عليه قطعها وإن أوجبه بعضهم. نعم؛ قيل: ينبغي أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع، بخلاف المنهمك في المحرمات، ومن ثَمَّ قال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: (يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين!) قال: وسمعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا" (¬3). واستأذن رجلٌ أحمدَ أن يكتب من محبرته، فقال: (اكتب، هذا ورعٌ مظلم) (¬4)، وقال لآخر كذلك: (لن يبلغ ورعي ولا ورعك هذا) (¬5). * * * ¬

_ (¬1) ما ثبت من الرخصة فيه أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196) عن سيدنا أبي قتادة رضي اللَّه عنه. (¬2) تقدم تخريجه (ص 241). والمراد من الصوت والريح: التيقن والتحقق كما مر؛ فإنه قد يكون أصم فلا يسمع الصوت، وأخشم فلا يشم الريح؛ أي: الرائحة. اهـ هامش (غ) (¬3) أخرجه البخاري (5994)، والترمذي (3770)، والإمام أحمد (2/ 93). (¬4) أخرجه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص 157). (¬5) أخرجه السمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص 156).

الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (¬1): "مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" حَدِيثٌ حَسَنٌ, رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ هَكَذَا (¬2). (عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: من حسن) وجه الإتيان به أن ترك ما لا يعني ليس هو الإسلامَ، ولا جزأه، بل صفته وحسنه، وصفة الشيء ليست ذاته ولا جزأه؛ لأنه: الانقياد لغةً، والأركان الخمسة شرعًا، فهو كالجسم، وترك ما لا يعني كالشكل واللون له، كذا قيل، وفيه ما فيه؛ لأن الإسلام ليس شرعًا: الأركان الخمسة فقط، بل جميع الأعمال الظاهرة الشاملة للترك والفعل، فكان الترك جزءًا منه. فالوجه أن يقال: فائدة الإتيان به الإشارة إلى أنه لا عبرة بصور الأعمال فعلًا وتركًا إلا إذا اتصفت بالحسن؛ بأن وجدت شروط مكملاتها فضلًا عن مصححاتها، وجعَلَ تَرْكَ ما لا يعني من الحسن مبالغةً، مع الإشارة لما قررته. (إسلام المرء) آثره على الإيمان؛ لأنه كما مر: الأعمال الظاهرة (¬3)، والفعل والترك إنما يتعاقبان عليها؛ لأنها حركاتٌ اختياريةٌ يتعاقبان فيها اختيارًا، وأما الباطنة الراجعة للإيمان. . فهي اضطراريةٌ تابعةٌ لما يخلقه اللَّه تعالى في النفوس ويوقعه فيها. ¬

_ (¬1) في نسخ المتن: (قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) وكذا في "الترمذي". (¬2) سنن الترمذي (2317). (¬3) انظر ما تقدم (ص 144).

(تركه ما لا يعنيه) (¬1) بفتح أوله، من (عناه الأمر): إذا تعلَّقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته، والذي يعني الإنسان من الأمور: ما يتعلَّق بضرورة حياته في معاشه مما يشبعه من جوعٍ، ويُرويه من عطشٍ، ويستر عورته، ويُعف فرجه، ونحو ذلك مما يدفع الضرورة، دون ما فيه تلذذٌ واستمتاعٌ واستكثارٌ، وسلامتِهِ في معاده، وهو الإسلام والإيمان والإحسان على ما مر بيانه، وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإذا اقتصر على ما يعنيه. . سلم من سائر الآفات، وجميع الشرور والمخاصمات، وكان ذلك من الفوائد الدالة على حسن إسلامه، ورسوخ إيمانه، وحقيقة تقواه، ومجانبته لهواه؛ لاشتغاله بمصالحه الأخروية، وإعراضه عن أغراضه الدنيوية الشهَوية، من التوسع في الدنيا، وطلب المناصب والرياسات، وحب المحمدة والثناء، والفضول في الكلام والأفعال المباحة، وغير ذلك مما لا يعود عليه منه نفعٌ أُخروي؛ فإنه ضياعٌ للوقت النفيس، الذي لا يمكن أن يعوض فائته فيما لم يُخلَق لأجله. فمَنْ عبد اللَّه تعالى على استحضار قربه من اللَّه تعالى، أو قرب اللَّه تعالى منه، ومشاهدته ذلك بقلبه. . فقد حسن إسلامه كما مر، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه منه، ويتولَّد من هذين الاستحياءُ من اللَّه تعالى، وتركُ كل ما يستحيى منه. وروى الترمذي وغيره مرفوعا: "الاستحياء من اللَّه تعالى أن يحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى (¬2)، وليذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك. . فقد استحى من اللَّه تعالى حق الحياء" (¬3). ¬

_ (¬1) قوله: (من حسن إسلام المرء) خبرٌ مقدم، و (تركه ما لا يعنيه) مبتدأٌ مؤخر، وهذا من المواضع التي يجب فها تقديم الخبر؛ لئلا يعود الضمير فيه على المتأخر لفظًا ورتبةً، لما في المبتدأ من ضمير يعود على متعلق الخبر، فهو من باب: (على التمرة مثلها زبدًا) وقوله: (ولكن ملء عينٍ حبيبُها). اهـ "مدابغي" (¬2) المشهور: التعبير بـ (وعى) في الرأس، و (حوى) في البطن، وسيذكره أيضًا هكذا (ص 370 و 385)، فلعل ما هنا رواية أو سبق قلم، فراجعه. اهـ هامش (غ) (¬3) سنن الترمذي (2458) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه، ولفظه: "أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى" ولعل الشارح رحمه اللَّه تعالى تبع الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 289).

تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا] في الحديث إشارة إلى أن الشيء إما أن يعني الإنسان أو لا، وعلى كلٍّ إما أن يتركه أو يفعله، فالأقسام أربعة: فعل ما يعني، وترك ما لا يعني، وهما حسنان، وترك ما يعني، وفعل ما لا يعني، وهما قبيحان. (حديث حسن) بل أشار ابن عبد البر إلى أنه صحيح (رواه الترمذي وغيره) كابن ماجه (¬1) (هكذا) أي: موصولًا، ولا ينافيه رواية مالك له في "الموطأ" عن الزهري مرسلًا (¬2)؛ لأن للزهري فيه إسنادين، أحدهما مرسل، وهو ما رواه مالك، والآخر موصولٌ وصله عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو ما رواه الترمذي وغيره، والاتصال مقدَّمٌ على الإرسال، وبذلك يجاب عن قول أحمد والبخاري وابن معين والدارقطني: لا يصح إلا مرسلًا، على أن له طرقًا مرفوعة إذا اجتمعت. . أحدثت له قوة، ولعل هذا من أسباب تحسين المصنف له وإن ضعَّفه قومٌ ووثَّقه آخرون، ومن ثَمَّ قال ابن عبد البر: رواته ثقات. وهذا الحديث ربع الإسلام على ما قاله أبو داوود. وأقول: بل هو نصف الإسلام، بل هو الإسلام كله؛ لأنه لا يخلو عن فعل ما يعني، وترك ما لا يعني، فإن نظرنا لمنطوقه المصرح بالثاني. . كان نصفًا، وبهذا الاعتبار دخلت (من) التبعيضية في (مِنْ حُسْنِ) إشارةً إلى أن ترك ما لا يعني ليس هو الحسن كله، بل بعضه؛ أي: نصفه كما تقرر، وإن نظرنا لمفهومه أيضًا. . كان كلًّا. فتأمل ذلك؛ فإنه حسنٌ بالغ، وإن لم أَرَ من صرَّح به. ولجمعه جميع الإسلام كما قررته مع وجازة لفظه كان من بدائع جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم التي لم يصح نظيرها عن أحدٍ قبله صلى اللَّه عليه وسلم، وهو أصلٌ كبيرٌ في تأديب النفس وتهذيبها عن الرذائل والنقائص، وترك ما لا جدوى فيه ولا نفع. ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (3976) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) الموطأ (2/ 903).

وأما ما روي عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "في صحف إبراهيم: من عَدَّ كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه" (¬1). . فهو على تقدير صحته خاصٌّ بذم ما لا يعني من الكلام، وما مر عامٌّ كما قررناه في شرحه، مع أن لفظه أبلغ وأوجز. وروي: (أن رجلًا وقف على لقمان الحكيم وهو في حلقةٍ عظيمةٍ، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: فما الذي بلغ بك إلى ما أرى؟! قال: قدر اللَّه، وصدق الحديث، وتركي ما لا يعنيني) (¬2). وفي " الموطأ": (بلغني أنه قيل له: ما بلغ بك ما نرى؟ يريدون الفضل، قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني) (¬3). وعن الحسن: (من علامة إعراض اللَّه تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه) (¬4). ونقل ابن الصلاح عن ابن أبي زيد أنه قال: (جماع آداب الخير وأزِمَّتُهُ تتفرع من أربعة أحاديث: هذا، والذي بعده (¬5)، وخبر: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليقل خيرًا، أو ليصمت"، وخبر: "لا تغضب") (¬6). وفي "المسند": "من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه" (¬7). وفي "صحيح ابن حبان" مرفوعًا: "في صحف إبراهيم: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات: ساعةٌ يناجي فيها ربه، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه، وساعةٌ يتفكر فيها في صنع اللَّه تعالى، وساعةٌ يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألَّا يكون ساعيًا إلا لثلاثٍ: تزوُّدٍ لمعادٍ، أو مَرَمَّةٍ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (361) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (9/ 199)، وهو عند ابن أبي الدنيا في "الصمت" (116) بنحوه. (¬3) الموطأ (2/ 990). (¬4) ذكره الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد" (9/ 200). (¬5) أي: قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (¬6) انظر "صيانة صحيح مسلم" (ص 203). (¬7) مسند الإمام أحمد (1/ 201) عن سيدنا الحسين رضي اللَّه عنه.

لمعاشٍ (¬1)، أو لذَّةٍ في غير مُحرَّم، وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله. . قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه" (¬2) أي: لأن من لم يعدَّ كلامه من عمله. . جازف فيه ولا يتحرَّى. ومن ثَمَّ لما خفي ذلك على معاذٍ رضي اللَّه تعالى عنه. . قال: يا رسول اللَّه؛ أنؤاخذ بكل ما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم" (¬3). وروى الترمذي وغيره: "كل كلام ابن آدم عليه لا له (¬4) إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر اللَّه تعالى" (¬5). وأخرج الترمذي: أن رجلًا مات -أي: شهيدًا كما في رواية- فقال آخر: أبشر بالجنّة، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أو لا تدري، فلعله تكلَّم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه" (¬6). وأخرج العقيلي مرفوعًا: "أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه" (¬7). * * * ¬

_ (¬1) المرمة: الإصلاح، يقال: رمَّ الشيء: أصلحه. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا في الصفحة السابقة في الهامش رقم (1). (¬3) سيأتي تخريجه (ص 480) وهو الحديث التاسع والعشرون من أحاديثِ المتن. (¬4) سقطت لفظة (كل) من النسخ إلا من (غ) وهي موجودة في "سنن الترمذي". (¬5) سنن الترمذي (2412) عن أم المؤمنين سيدتنا أم حبيبة رضي اللَّه عنها. (¬6) أخرج الترمذي (2316) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه نحوه. وفي أكثر النسخ: (بما يعنيه). (¬7) الضعفاء (3/ 1117) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبك الخير للمسلمين]

الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين] عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي حمزة) بمهملة [فميم] فزاي، صح أنه صلى اللَّه عليه وسلم كناه بذلك ببقلةٍ كان يجتنيها (¬2) (أنس بن مالك رضي اللَّه عنه) الأنصاري الخزرجي النجاري (خادم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) كما صح عنه: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لما قدم المدينة. . كان عمره عشر سنين (¬3)، وأن أمه أمَّ سليم أتت به إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم؛ أي؛ في السنة الأولى من الهجرة، فقالت له: خذه غلامًا يخدمك، فقبله، وقد قالت له يومًا: يا رسول اللَّه؛ ادع اللَّه تعالى له، فقال: "اللهم؛ أكثر ماله وولده، وبارك له فيه، وأدخله الجنة" قال: فلقد رُزقت من صلبي سوى ولد ولدي مئة وخمسة وعشرين -أي ذكورًا، ولم يرزق إلا بنتين على ما قيل- وإنَّ أرضي لَتثمر في السنة مرتين، وأنا أرجو الثالثة (¬4). ومن بركة الثانية: أن قهرمانه جاءه (¬5) فقال له: عطشت أرضنا، فتوضأ وخرج ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (13)، وصحيح مسلم (45). (¬2) قال الأزهري رحمه اللَّه تعالى: البقلة التي كني بها أنس رضي اللَّه عنه كان في طعمها لذع فسميت (حمزة) بفعلها، يقال: رمانة حامزة؛ أي: فيها حموضة، ومنه حديث عمر: أنه شرب شرابًا فيه حمازة؛ أي: لذعة وحِدّة أو حموضة، وقوله: (كان يجتنيها). وفي نسخ: (كان يحبها) اهـ "مدابغي" (¬3) في بعض النسخ: (كان عمره عشر سنين، أو تسعة، أو ثمانية). (¬4) انظر "الإصابة" (1/ 84). (¬5) القهرمان: هو الوكيل والخازن والمتصرف.

إلى البرية، فصلى ركعتين ثم دعا فالْتَأَمت السحابة، ومطرت حتى ملأت جميع أرضه ولم تعْدُها إلا يسيرًا، وذلك في الصيف. وخرج مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى بدر، وإنما لم يُعدَّ في البدريين؛ لأنه لم يكن في سنِّ مَنْ يقاتل، وغزا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم ثمان غزوات، واستمر في خدمته صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن توفي وهو عنه راضٍ، فاستمر بالمدينة، وشهد الفتوح، ثم قطن بالبصرة، وكان آخر الصحابة بها موتًا سنة تسعين، أو أحدٍ أو ثلاثٍ وتسعين، عن مئة سنة إلا سنة، أو وسنة، أو وسبع سنين، أو وعشرين سنة، وأما آخر الصحابة موتًا مطلقًا. . فهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، توفي سنة مئة. وأوصى ثابتًا البناني أن يجعل تحت لسانه شعرة كانت عنده من شعر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ففعل. روى عنه أبو هريرة وغيره، وهو أحد المكثرين، روي له ألفان ومئتا حديثٍ وستةٌ وثمانون، اتفقا منها على مئة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحدٍ وسبعين. (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم) أي: الإيمان الكامل، ومر الكلام على (أحد) (¬1) (حتى يحب لأخيه) المسلم من الخير، كما في رواية أحمد والنسائي (¬2)، فاندفع قول بعضهم: هذا عامٌّ مخصوصٌ؛ فإن الإنسان يحب لنفسه وطء حليلته، ولا يجوز أن يحبه لأخيه حالَ كونها في عصمته؛ لأنه محرَّمٌ عليه، وليس له أن يحب لأخيه فعل محرمٍ عليه. اهـ وقول بعض آخر: لا بد أن يكون المعنى فيما يباح، وإلَّا. . فقد يكون غيره ممنوعًا منه وهو مباحٌ له. اهـ، وذلك كله غفلةٌ عن رواية النسائي. نعم؛ الظاهر: أن التعبير بـ (الأخ) هنا جَرْيٌ على الغالب؛ لأنه ينبغي لكل مسلمٍ أن يحب للكفار الإسلامَ وما يتفرَّعُ عليه من الكمالات. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في شرح الحديث الرابع (ص 199). (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 206)، وسنن النسائي (8/ 115) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

(ما) أي: مثل ما (يحب لنفسه) منه فيكون معه كالنفس الواحدة؛ كما حثَّ صلى اللَّه عليه وسلم على ذلك بقوله في الحديث الصحيح أيضًا: "المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ. . تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (¬1). قال ابن الصلاح: (وهذا قد يُعدُّ من الصعب الممتنع، وليس كذلك؛ إذ القيام بذلك يحصل بأن يحب له حصولَ مثل ذلك من جهةٍ لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهلٌ على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدَّغِل) اهـ (¬2) وبه يندفع قول غيره: يشبه أن هذه المحبة إنما هي من جهة العقل؛ أي: يحب له ذلك ويؤثره من هذه الجهة، أما التكليف بذلك من جهة الطبع. . فصعبٌ؛ إذ الإنسان مطبوعٌ على حب الاستئثار على غيره بالمصالح، بل على الغبطة والحسد لإخوانه، فلو كُلِّف أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه بطبعه. . لأفضى إلى ألَّا يكمل إيمان أحدٍ إلا نادرًا. اهـ ويؤيد ما قاله ابن الصلاح خبرُ الترمذي وابن ماجة: "أحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا" (¬3)، وخبر أحمد: "أفضل الإيمان أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك" (¬4)، وخبره أيضًا: "أتحب الجنة؟ " قلت: نعم، قال: "فأحبَّ لأخيك ما تحب لنفسك" (¬5)، وخبر مسلم: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تتولَّيَنَّ مال يتيم" (¬6). أما إذا انتفت تلك المحبة لنحو غشٍّ أوحسدٍ فلم يحب له مثل ما يحب لنفسه. . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما بنحوه. (¬2) انظر "صيانة صحيح مسلم" (ص 203). والقلب الدغِل: الفاسد. (¬3) سنن الترمذي (2305)، وسنن ابن ماجة (4217) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، ولفظ ابن ماجة: " تكن مؤمنًا". (¬4) مسند الإمام أحمد (5/ 247) عن سيدنا معاذ رضي اللَّه عنه. (¬5) مسند الإمام أحمد (4/ 70) عن سيدنا يزيد بن أسد رضي اللَّه عنهما. (¬6) صحيح مسلم (1826) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه.

فهو غير مؤمنٍ الإيمان الكامل، ومن ثَمَّ قيل: أفحش الأحوال أن يرى ضانًا على أخيه بأعمال الخير إن لم يوفق هو لها، كما جرى لابن آدم؛ فإنه قتل أخاه من أجل أن تَقَبَّلَ اللَّه تعالى قربانه دونه. والمراد بالمثلية هنا: مطلق المشاركة المستلزمة لكفِّ الأذى والمكروه عن الناس، وتحمل الإنسان على أنه كما يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته ينبغي له إذا كانت لأخيه عنده مظلمةٌ أو حقٌّ. . أن يبادر إلى إنصافه من نفسه، ويؤثر الحق وإن كان عليه فيه مشقة. وفي الحديث: "انظر ما تحب أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم" (¬1)، ومن ثَمَّ قيل للأحنف: (ممن تعلمت الحلم؟ قال: من نفسي، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا كرهت شيئًا من غيري. . لم أفعل بأحدٍ مثله) (¬2). فلا ينافي كون الإنسان يحب لنفسه أن يكون أفضل الناس، على أن الأكمل خلاف ذلك؛ فقد قال الفضيل بن عياض لسفيان بن عيينة: (إن كنت تودُّ أن يكون الناس مثلك. . فما أديت للَّه الكريم النصيحة، فكيف وأنت تودُّ أنهم دونك؟!) (¬3). (رواه البخاري ومسلم) لكن رواية مسلم فيها شك؛ إذ قال: "لأخيه أو جاره" بخلاف رواية البخاري، فإنه لا شك فيها، ولفظ مسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لأخيه، أو قال: لجاره ما يحبه لنفسه". ولفظ أحمد: "لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير" (¬4) وهو مبيِّنٌ لمعنى حديث "الصحيحين"، وأن المراد بنفي الإيمان: نفيُ بلوغ حقيقته ونهايته؛ فإنه كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته، كنفيه عن الزاني والسارق وشارب الخمر في الحديث المشهور (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج الطبراني في "الكبير" (19/ 440 - 441) عن سيدنا معن بن يزيد رضي اللَّه عنه نحوه. (¬2) انظر "فيض القدير" (1/ 65). (¬3) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (7909)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 418). (¬4) مسند الإمام أحمد (3/ 206). (¬5) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) عن سيدنا أبي هربرة رضي اللَّه عنه.

وذهب جمعٌ من السلف إلى أن مرتكب الكبيرة يُسمَّى مؤمنًا ناقص الإيمان، وآخرون إلى أنه يقال له: مسلم لا مؤمن، قيل: وهو المختار. ومقصود هذا الحديث -كما علم مما قررناه في معناه-: ائتلاف قلوب الناس، وانتظام أحوالهم، وهذا هو قاعدة الإسلام الكبرى التي أوصى اللَّه تعالى بها بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. وإيضاحه: أن كل أحدٍ من الناس إذا أحب لباقيهم أن يكونوا مثله في الخير. . أحسن إليهم، وأمسك أذاه عنهم، فيحبونه، فتسري بذلك المحبة بين الناس، فيسري الخير بينهم، ويرتفع الشر، فتنتظم أمور معاشهم ومعادهم، وتكون أحوالهم على غاية السداد، ونهاية الاستقامة، وهذا هو غاية المقصود من التكاليف الشرعية، والأعمال البدنية والقلبية. وهذا كله إنما يتولد من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد؛ فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحدٌ في خيرٍ أو يساويه فيه؛ لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله، والإيمان يقتضي أن يشاركوه كلهم فيما أُعطي من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء. نعم؛ ورد أنه لا حرج على من كره الامتياز بالجمال؛ فروى أحمد والحاكم في "صحيحه": أن مالك بن مرارة قال: يا رسول اللَّه؛ قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أُحبُّ أحدًا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي؟ فقال: "لا، ليس ذلك من البغي، ولكن البغي من بطر، أو قال: سَفِهَ الحقَّ" (¬1). ومن كمال الإيمان تمني مثل الفضائل الأخروية التي فاقه فيها غيره (¬2)؛ كما دلت عليه الأحاديث الشهيرة، وأما قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}. . فهو نهي عن الحسد؛ وهو: تمني انتقال نعمة الغير إليه. وما مر عن الفضيل مما يقتضي أن الأكمل محبةُ أن يكون الناس فوقه إنما هو من ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (1/ 385)، والمستدرك (4/ 182). (¬2) في بعض النسخ: (مثل فضائله الأخروية التي فاته فيها غيره).

جهة أن هذا هو أكمل درجات النصيحة (¬1)، وإلَّا. . فالمأمور به شرعًا إنما هو محبة أن يكونوا مثله، ومع هذا: فماذا فاقه أحدٌ في فضيلةٍ دينيةٍ. . اجتهد في لحاقه، وحزن على تقصيره، لا حسدًا بل منافسةً وغبطةً؛ ليزداد بذلك الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها، والنظر لنفسه بعين النقص، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه؛ فإنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله. * * * ¬

_ (¬1) تقدم قول الفضيل رحمه اللَّه تعالى وتخريجه قريبًا (ص 307).

الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تهدر]

الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر] عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإِحْدَى ثَلَاثٍ: الْثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالْتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم: لا يحل) أي: لا يجوز، فلا ينافي وجوب القتل بإحدى الثلاث الآتية؛ لأن الجائز يصدق بالواجب (دم) أصله دميٌ؛ أي: إراقة دمِ (امرئٍ) يقال فيه أيضًا: مَرْءٌ، وهو للذكر، وخص بالذِّكر هنا وفي نظائره؛ لشرفه وأصالته، وغلبة دوران الأحكام عليه، وإلَّا. . فالأنثى كذلك من حيث الحكم. (مسلم) وفي رواية: "يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه" وهو صفةٌ كاشفةٌ، وخرج به الكافر الحربي، فيحل دمه مطلقًا، لكن إن كان بالغًا عاقلًا؛ لأنه لا شيء يخرجه عما اقتضاه هذا المفهوم، بخلاف الذِّمِّي. (إلا بإحدى) خصالٍ (ثلاث) فيجب على الإمام القتل بها؛ لِمَا فيه من المصلحة العامة؛ وهي حفظ النفوس والأنساب والأديان. (الثيب) أي: خصلته المفهومة من السياق، وهي زِناهُ؛ لتعذُّر إبداله مما قبله بدون هذا التقدير، وكذا يُقدَّر فيما بعده، وهو المحصن (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6878)، وصحيح مسلم (1676). (¬2) قوله: (الثيب) بالجر بدل مما قبله، ولا بد فيه وفيما بعده من مضافٍ محذوفٍ تقديره: (خصلة الثيبِ، =

والمراد به في هذا الباب: الحر، البالغ، العاقل، الواطئ أو الموطوءة في القُبل، في نكاحٍ صحيحٍ وإن حرم لنحو عدةِ شُبهةٍ، فلا يحصل بوطء أمته، ولا بوطءٍ في نكاحٍ فاسدٍ، ولا يشترط لإحصانه الإسلام، وذِكْره في هذا الحديث لا ينافي ذلك كما هو ظاهرٌ للمتأمل، فيرجم ذميٌّ ومرتدٌّ أُحصِنا وإن لم يرضَ الذميُّ بحكمنا. نعم؛ إن أسلم قبل رجمه. . سقط (¬1). (الزاني) وهو: من أَوْلج أو أُولج فيه حشفة آدميٍّ أو قدرها في قُبل حرامٍ لعينه (¬2)، مشتهًى طبعًا، خالٍ عن شبهة الفاعل، والمحل، والطريق، وتفصيل ذلك مذكورٌ في الفروع (¬3). ووطء الدبر كالقبل بل أغلظ، لكن حد المفعول به غير حليلة الفاعل الجلدُ والتغريب ولو محصنًا؛ لأنه لا يتصور الإحصان المشترط في الرجم في الدبر المفعول فيه. والمراد بحل دم المحصن الزاني: أنه يجب رجمه بالحجارة حتى يموت، ولا يجوز قتله بغير ذلك إجماعًا (¬4). (والنفس) يجوز تذكيرها وتأنيثها (بالنفس) بشروطه المقررة في محلها. منها: أن يكون القتل عمدًا، محضًا، عدوانًا لذاته؛ بأن قصد آدميًا معينًا ولو بالعموم، بأن رمى إلى جماعةٍ قاصدًا أيَّ واحدٍ منهم -بخلاف قصد واحدٍ منهم مُبْهم؛ ¬

_ = وقصاص النفس بالنفس، وترك التارك لدينه) وبدون هذا التقدير يتعذَّر الإبدال؛ لأن الثيب وما بعده ليسوا نفس الخصال بل أصحاب الخصال، ويجوز منه على الخبر؛ أي: وهي، أو المبتدأ؛ أي: ومنها، والثاني أَولى، ويجوز نصبه على أنه مفعول لفعل محذوف كـ (أعني) اهـ "مدابغي". (¬1) اعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة" (9/ 114). قال العلامة الشرواني رحمه اللَّه تعالى في "حاشيته عليها" (9/ 114): (وفاقًا لـ "المغني"، وخلافًا لـ "النهاية" وعبارته: لم يسقط حده، وما ذكره المصنف في "الروضة" عن النص من سقوطه مفرعٌ على سقوط الحد بالتوبة، والأصح: خلافه. اهـ، وعبارة "سم": المعتمد عند شيخنا الشهاب الرملي: عدم السقوط). (¬2) خرج بقوله: (لعينه) الحرامُ لعارضٍ نحو حيضٍ ونفاسٍ، فلا يُحدُّ بوطء حليلته حالتئذٍ. (¬3) قوله: (خال عن شبهة الفاعل) كأن وطئ أجنبيةً يظنها زوجته أو أمته، و (المحل) كوطءِ الأمة المشتركة أو أمة ابنه (والطريق): بأن يكون حلالًا عند قومٍ حرامًا عند آخرين؛ كنكاح المتعة، والنكاح بلا ولي، فهي مسقطةٌ للحد. اهـ "مدابغي". (¬4) لأن القصد به: التنكيل بالرجم.

إذ لا عموم فيه- بما يَقتُلُ غالبًا جارحٍ أو مثقلٍ؛ للحديث الصحيح: أنه صلى اللَّه عليه وسلم (رضَّ رأس يهوديةٍ رضَّتْ رأس جاريةٍ بين حجرين) (¬1) لإقرارها بذلك، لا لنقض عهدها، وإلَّا. . لم يرضَّ رأسها، بل كان يتعيَّن السيف. ومنها: أن يكون القتيل معصومًا بإسلامٍ أو بأمان بذمةٍ أو غيرها، أو بضرب رِقٍّ على كافر. ومنها: أن يكون القاتل مكلفًا، ملتزمًا لأحكام الإسلام. ومنها: مكافأة المجني عليه للجاني من أول أجزاء الجناية رميًا أو جرحًا إلى الموت، فلا يقتل فاضلٌ بمفضول، بخلاف عكسه. والمؤثر من الفضائل: الإسلام، والحرية، والأصالة، والسيادة، فلا يقتل مسلمٌ بأي كافرٍ عندنا كأكثر العلماء؛ لخبر البخاري: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬2)، وخبرُ: أنه صلى اللَّه عليه وسلم (قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر). . منقطعٌ (¬3)، وغيره ضعيفٌ، ولا يصح في هذا غير خبر البخاري، فوجب الأخذ بعمومه؛ لأنه لم يعارضه شيء، ومن ثَمَّ قال كثيرون من أصحابنا: ينقض حكم حاكمٍ بقتله به. ولا حرٌّ بمن فيه رِقٌّ بأي نوعٍ كان عندنا كأكثر العلماء أيضًا (¬4)؛ لأنه مالٌ متقومٌ فألحق بسائر الأموال، وخبر: "من قتل عبده قتلناه" (¬5). . منقطع؛ فإن الحسن راويَهُ لم يسمع من سَمُرة إلا حديث العقيقة. ويقاد قِنٌّ بِقِنٍّ مطلقًا إلا ما ملكه؛ كمكاتبٍ بعبده ولو أباه، ويقاد فرعٌ بأصله، ومَحرَمٌ بمحرمه، لا أصلٌ بفرعه ولا له (¬6)؛ كقتل زوجة فرعه؛ لإرثه بعض القود ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2413)، إلا أن الذي فعل ذلك يهوديٌّ لا يهودية، والحديث عند مسلم (1672) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه بنحوه، وقد ذكره الشارح رحمه اللَّه تعالى في شرح الحديث السابع عشر، وفيه: أنه يهودي. انظر ما سيأتي (ص 344). (¬2) صحيح البخاري (111) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه أبو داوود في "المراسيل" (251). (¬4) قوله: (ولا حرٌّ) معطوف على قوله قبل أسطر: (فلا يقتل مسلم). (¬5) أخرجه أبو داوود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي (8/ 20) عن سيدنا سمرة رضي اللَّه عنه. (¬6) أي: لا يقتل الأصل بقتل فرعه، أو ما كان للفرع كالزوجة، فالضمير في (له) عائد على قوله: (بفرعِهِ). قال الشافعي رضي اللَّه عنه: لأنه كان سببًا في إيجاده، فلا يكون الولد سببًا في إعدامه. اهـ هامش (غ).

الذي على أبيه، فيسقط، وتفصيل هذه الجمل مذكورٌ في الفروع. (والتارك لدينه) وهو الإسلام؛ لأن الكلام في المسلم، على أنَّ في رواية لمسلم: "التارك للإسلام" (¬1) بأن يقطعه عمدًا أو استهزاءً بالدين، ويحصل باطنًا باعتقاده ما يوجب الكفر وإن لم يظهره، وظاهرًا إما بفعلٍ كالسجود لمخلوقٍ، أو ذبحٍ على اسمه تقربًا إليه، وطرح نحو قرآنٍ، أو حديثٍ، أو علمٍ شرعي على مستقذرٍ ولو طاهرًا كبزاق، أو طرح المستقذر عليه، وطرح فتوى علمٍ على أرضٍ مع قوله: (أي شيءٍ هذا الشرع؟!). وإما بقولٍ مع اعتقادٍ أو عنادٍ أو استهزاءٍ، وتفصيل ذلك في كتب الفروع، وقد استوفيتُه على المذاهب الأربعة في كتابي "الإعلام بما يقطع الإسلام" فانظره إن أردت أن تقف من هذا الباب على غرائب الفروع، وبدائع التحقيق والاستنباط. وإذا حكمنا بردَّته بواحدٍ من هذه المذكورات ونحوها. . حكمنا بها باطنًا وإن كان مُصدِّقًا بقلبه؛ لأن ملحظ الإكفار بها دلالتها: إما على عدم الانقياد الباطن، وإما على تكذيب الشرع، وكلاهما كفرٌ وإن وجد في القلب تصديق كما مر ذلك مستوفًى في بحث الإيمان (¬2). ولا يدخل في التارك لدينه انتقال الكافر من ملَّةٍ إلى أخرى؛ لأن الكلام في المسلم كما مر، ومن ثَمَّ كان الأصح عندنا: أنه لا يقتل، بل يبلغ مأمنه، ثم يصير كحربيٍّ، إن ظفرنا به. . قتلناه إن لم يسلم، أو يبذل جزية. وأفهم الحديث وجوب قتل المرتدة كالمرتد، وهو مذهب الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه وكثيرين، ويصرح به خبر: "من بدَّل دينه. . فاقتلوه" (¬3)، ودعوى تخصيصه بغيرها لا دليل عليها، ول انظر لكونها لا منعة فيها فلا يخشى منها إعانة الحربيين؛ لأنه منقوضٌ بنحو أعمى أو هَرِمٍ. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1676/ 26) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر ما تقدم (ص 153). (¬3) أخرجه البخاري (3017)، وأبو داوود (4351)، والترمذي (1458) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

(المفارق) بقلبه واعتقاده، أو ببدنه ولسانه (للجماعة) المعهودين، وهم جماعة المسلمين؛ إما بنحو بدعةٍ كالخوارج المتعرضين لنا، أو الممتنعين من إقامة الحق عليهم المقاتلين عليه، وإما بنحو بغيٍ، أو حرابةٍ، أو صيالٍ، أو عدم ظهور شعار الجماعة في الفرائض، فكل هؤلاء تحلُّ دماؤهم بمقاتلتهم من أجل أنهم تركوا دينهم كالمرتد، لكنهم يفارقونه: بأنه بدَّل كل الدين، وهؤلاء بدَّلوا بعضه وإن كان كلٌّ منه ومنهم مفارقًا للجماعة. فعُلم أن بين ترك الدين من أصله ومفارقة الجماعة عمومًا وخصوصًا مطلقًا؛ لأنه يلزم من الأول الثاني ولا عكس، وبين تركه لا من أصله ومفارقة الجماعة التساوي؛ لأنه يلزم من أحدهما الآخر، وأن هذا القسم الثالث؛ أعني التارك لدينه، المفارق للجماعة باعتبار ما قررناه فيه. . شاملٌ لِمَا عدا القسمين الأولين من كل من جاز قتله كتارك الصلاة، أو قتاله شرعًا بشروطه المقررة عند الفقهاء، وأن الحصر في الحديث حقيقيٌّ؛ إذ لا يشذُّ عنه شيءٌ بملاحظة ما قررناه، فاستفده ورُدَّ به على مَنْ زعم أن الحصر هنا غير حقيقيٍّ (¬1). فإن قلت: يَرِدُ عليه خبر: "اقتلوا الفاعل -أي: اللائط- والمفعول به" (¬2) وأخذ به كثيرٌ كمالك وأحمد، فقالوا: إن اللواط يوجب القتل بكل حالٍ على المحصن وغيره. قلت: لا يَرِدان؛ لدخولهما في الزاني؛ إذ حد الزنا شرعًا عندنا يشملهما كما يشمل الرجل والمرأة، وحينئذٍ فيستفاد من الحديث اشتراط الإحصان فيهما، ونحن نقول به في اللائط، وأما الملوط به. . فلا يقتل عندنا مطلقًا؛ إذ لا يتصور الإحصان منه بالفرج الملوط به؛ لاستحالة إباحته بنكاحٍ صحيحٍ. وذهابُ جمعٍ إلى قتل مَنْ تزوج زوجة أبيه ولو غير محصن، وقتل الساحر، ومن ¬

_ (¬1) في هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة مؤلفه بمكة المشرفة). (¬2) أخرجه أبو داوود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

وطئ بهيمةً، وشارب الخمر في المرة الرابعة، وغير ذلك. . لا يرد علينا (¬1)؛ لأنهم استندوا في ذلك إلى ما لا تقوم به الحجة من حديثٍ ضعيفٍ، أو منسوخٍ، أو محمولٍ على المُستحِلِّ، بدلائل أخر مقررة في محلها. و (لام) "لدينه" وما بعده مزيدة للتأكيد والتقوية؛ لِتعدي (تَرَكَ) و (فَارَقَ) ونحو اسم فاعلهما إلى المفعول بلا واسطة، واستثناء الأولين من المسلم ظاهرٌ؛ لأنهما حيث لم يستحلا. . لا ينافيان الإسلام، واستثناء الثالث المزيل للإسلام منه إنما هو باعتبار أنه كان مسلمًا قبلُ، ففيه الجمع بين حقيقته ومجازه، وهو جائز، وقُبلت توبته -خلافًا لجمع- دونهما؛ لأن قتلهما بجريمةٍ مضت، فلا يمكن تلافيها بخلافه؛ فإنه لوصفٍ قائمٍ به حالًا، وهو تركه لدينه، فَبِعَوْدِه إليه انتفى ذلك الوصف. (رواه البخاري ومسلم) وهو من القواعد الخطيرة؛ لتعلُّقه بأخطر الأشياء، وهو الدماء، وبيان ما يحلُّ منها وما لا يحل، وأن الأصل فيها: العصمة، وهو كذلك عقلًا؛ لأنه مجبولٌ على محبة بقاء الصور الإنسانية المخلوقة في أحسن تقويم، وشرعًا وهو ظاهرٌ ولو لم يكن من وعيد القاتل إلا قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "من أعان على قتل مسلمٍ بشطر كلمةٍ. . لقي اللَّه تعالى مكتوبًا بين عينيه: آيسٌ من رحمة اللَّه" (¬2). وقد أجمع المسلمون على القتل بكل واحدةٍ من هذه الخصال الثلاثة، ومر في خبر: "أُمرت أن أقاتل الناس. . . " أن هذا الحديث ميينٌ لحق الإسلام المذكور فيه (¬3)؛ لأن العصمة الثابتة لمن نطق بالشهادتين إنما تُراعى ما دامت لم تُهتك، وهتكها إنما يتحقَّق بأحد هذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث، ومر في شرح ذلك الحديث بيانُ دلالته على قتل تارك الصلاة كسلًا، ومر قريبًا أن القسم الثالث هنا يشمله وإن لم نقل بكفره، وهو ما عليه أكثر العلماء، فاندفع زعم أن هذا الحديث يفيد عدم قتله، وقال أقلهم بكفره، وأطال إسحاق في الانتصار له وإيرادِ الأدلة عليه بما يرده: أنها جميعها محمولةٌ على المستحِل؛ جمعًا بين الأحاديث. ¬

_ (¬1) قوله: (لا يرد) خبر قوله: (وذهاب جمع). (¬2) أخرجه ابن ماجه (2620)، والبيهقي (8/ 22)، وأبو يعلى في "مسنده" (5900) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) انظر ما تقدم (ص 259) وهو الحديث الثامن من أحاديث المتن.

ويؤيده: أنه صح في السُّنة إطلاق الكفر على معاصٍ كثيرةٍ؛ كإنكار النسب، وقتال المسلم (¬1)، واتفق الكل على تأويلها؛ لما ذكرناه، فكذا ما ورد في تارك الصلاة. وزَعْمُ امتيازها بخصوصياتٍ لا يمنع ما قلناه؛ لأن موجب التأويل الجمع بين الأدلة المتعارضة في الصلاة وغيرها، فلم يكن حينئذٍ لافتراقها عن غيرها معنًى يوجبه. وفي قتله إشكالٌ لإمام الحرمين ذكره بعض الشُّراح، وساق فيه ما لم يتحرر منه جواب، والإشكال: أنه لا يقتل إلا بعد خروج وقت الجمع، بأن يؤخِّر الظهر لما بعد الغروب، والمغرب لما بعد الفجر، وحينئذٍ يصير قضاء، وهو لا قتل به وإن تضيق (¬2). وجوابه: أن قولهم: (لا قتل بالقضاء) محلُّه في قضاءٍ لم يؤمر بأدائه في الوقت، فهذا لا يقتل وإن امتنع من القضاء المضيق؛ لأنه لم يتحقق منه مراغمةٌ تامّةٌ للشرع؛ لأن خروجها عن وقتها شبهة ما في التأخير، بخلاف ما إذا أُمر بها في الوقت فامتنع؛ فإنه لاشبهة له في التاخير بوجهٍ، فتحققت منه مراغمة الشرع بالكلية، فقتل بعد خروج الوقت ما لم يبادر ويصلي. وأجاب بعضهم بما لا يُجدي بل لا يصح؛ وهو أن العصمة في خبر: "أمرت. . . " السابق مشروطةٌ بثلاثة؛ منها إقامة الصلاة، ووجه عدم إجدائه: واضحٌ، وعدمِ صحته: أن الموقوفَ على الثلاثةِ المقاتلةُ، ولا يلزم من جوازها جواز القتل، ألا ترى أن مانعي الزكاة يقاتلون؟! بخلاف مَنْ تركها مِن غير قتال؛ فإنه لا يقتل. * * * ¬

_ (¬1) كحديث الترمذي (2634)، والنسائي (7/ 121) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه: "قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق". (¬2) أي: القضاء.

الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية] عَنْ أَبِي هُرَيرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ. . فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمَ الآخِرِ. . فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمنُ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. . فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: من كان يؤمن باللَّه) الإيمان الكامل، المنجي من عذابه، الموصل إلى رضاه، فالمتوقف على امتثال الأوامر الثلاثة الآتية كمالُ الإيمان لا حقيقته، أو هو على المبالغة في الاستجلاب إلى هذه الأفعال، كما يقول القائل لولده: إن كنت ابني. . فأطعني؛ تعريضًا وتهييجًا على الطاعة، والمبادرة إليها مع شهود حقوق الأبوة وما يجب لها، لا على أنه بانتفاء طاعته ينتفي أنه ابنه. (واليوم الآخر) وهو يوم القيامة الذي هو محل الجزاء على الأعمال حَسَنِها وقبيحها، ففي ذكره هنا -دون نحو الملائكة مما ذكر معه في الحديث الثاني- تنبيهٌ وإرشادٌ لما أشرت إليه مما يوقظ النفس، ويحرك الهمة للمبادرة إلى امتثال جزاء هذا الشرط، وهو (فليقل) هي (لام) الأمر هنا وفيما يأتي، ويجوز سكونها وكسرها حيث دخلت عليها الفاء أو الواو، بخلافها في: "ليسكت" (¬2) فإنها مكسورةٌ لا غير. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6018)، وصحيح مسلم (47). (¬2) صوابه: (في "ليصمت") لأنه الواقع في الحديث كما لا يخفى. اهـ "مدابغي".

(خيرًا) قال الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: (لكن بعد أن يتفكر فيما يريد أن يتكلم به، فإذا ظهر له أنه خيرٌ محقَّقٌ لا يترتب عليه مفسدة، ولا يجر إلى كلامٍ محرمٍ أو مكروهٍ. . أتى به) (¬1). (أو ليصمت) من (صمت، وأَصمَت) بمعناه، (يصمُت) بضم الميم، قاله المصنف رحمه اللَّه تعالى (¬2)، واعترض بأن المسموع والقياس كسرها؛ إذ قياس (فعَل) المفتوح العين (يفعِل) بكسرها، و (يفعُل) بضمها دخيلٌ فيه، كما نصَّ عليه ابن جنِّي، وإنما يتجه ذلك إن سبرت كتبُ اللغة فلم يُرَ ما قاله، وإلَّا. . فهو حجةٌ في النقل، وهو لم يقل هذا قياسًا حتى يعترض بما ذكر، وإنما قاله نقلًا كما هو ظاهرٌ من كلامه، فوجب قبوله؛ أي: ليسكت إن لم يظهر له ذلك، فيسن له الصمت حتى عن المباح؛ لأنه ربما أدَّى إلى محرَّمٍ أو مكروهٍ، وعلى فرض ألَّا يؤدي إليهما، ففيه ضياع الوقت فيما لا يعني، وقد مر: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬3). واختلفوا في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ} الآيةَ، فقيل: يشمل المباح فيكتب، وهو ظاهر الآية، وقيل: لا يكتب إلا ما فيه ثوابٌ أو عقابٌ، وإليه ذهب ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما وغيره (¬4). وورد أن في صحف إبراهيم على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام: "وعلى العبد أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله. . قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه" (¬5) وترك فضول الكلام مما لا يعني. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير" (2/ 331). (¬2) ذكر ذلك الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى آخر "الأربعين" في باب الإشارات إلى الألفاظ المشكلات انظر (ص 642) من هذا الكتاب، وانظر "شرح صحيح مسلم" (2/ 18). (¬3) انظر تخريجه فيما تقدم (ص 299) وهو الحديث الثاني عشر من أحاديث المتن. (¬4) أخرجه الحاكم (2/ 465) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬5) تقدم تخريجه (ص 302).

وفي الحديث: "ألا أنبئكم بأمرين خفيفين لم يُلْقَ اللَّه تعالى بمثلهما؟! الصمت، وحسن الخلق" (¬1). وفي "المسند" خبر: "لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (¬2). وروى الطبراني خبر: "لا يبلغ عبدٌ حقيقة التقوى حتى يحترز من لسانه" (¬3)، وخبر: "إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلمتَ. . كُتب لك أو عليك" (¬4). وأحمد والترمذي والنسائي: "إن أحدكم لَيتكلَّم بالكلمة من رضوان اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب اللَّه له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن أحَدكم لَيتكلَّم بالكلمة من سخط اللَّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب اللَّه تعالى عليه بها سخطه إلى يوم القيامة" (¬5). والأحاديث في ذلك كثيرةٌ جدًّا، ومن ثم قال وهب بن منبه: (أجمعت الحكماء على أنَّ رأسَ الحكمةِ الصمتُ) (¬6). وقال الفضيل: (لا حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان) (¬7). وقال لقمان لابنه: (لو كان الكلام من فضةٍ. . لكان السكوت من ذَهَبٍ. قال ابن المبارك: معناه: لو كان الكلام بطاعة اللَّه تعالى من فضةٍ. . لكان السكوت عن معصية اللَّه تعالى من ذهب) (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (27) عن سيدنا صفوان بن سليم رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 198) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) المعجم الأوسط (6559) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه، ولفظه: "حتى يَخْزِنَ من لسانه". (¬4) المعجم الكبير (20/ 73) عن سيدنا معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه. (¬5) مسند الإمام أحمد (3/ 469)، وسنن الترمذي (2319)، وسنن النسائي الكبرى (11769) عن سيدنا بلال بن الحارث رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه اين أبي الدنيا في "الصمت" (619). (¬7) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (651)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 110)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 423). (¬8) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (736).

وهو صريحٌ في أن الكفَّ عن المعصية أفضل من عمل الطاعة، وفي أن الصمت أفضل من الكلام، لكن ذهب جماعةٌ من السلف إلى تفضيل الكلام؛ لأن نفعه متعدٍّ، وسيأتي له مزيد بيان. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه اللَّه تعالى: (الصمت سلامة، وهو الأصل، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في وقته من أشرف الخصال، وسمعت أبا علي الدقاق يقول: من سكت عن الحق. . فهو شيطانٌ أخرس). قال: (فأما إيثار أهل المجاهدة السكوتَ. . فلِمَا عرفوا ما في الكلام من الآفات، ثم ما فيه من حظوظ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من الآفات، وذلك نعت أرباب الرياضة، وهذا أحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق) (¬1). وقال ذو النون: (أصون الناس لنفسه أملكهم للسانه) (¬2). وبالجملة: فاللائق بمن يؤمن باللَّه تعالى حقَّ إيمانه، وباليوم الآخر، ووقوع الجزاء فيه أن يستعدَّ له، ويجتهد فيما يدفع به أهواله ومكارهه، فيأتمر بأوامره، وينتهي عن مخالفته، ويعلم أن من أهمِّ ما عليه ضبط جوارحه؛ فإنها رعاياه، وهو مسؤولٌ عنها جارحة جارحة، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الْسَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسئُوَلًاْ}. وإن من أكثر المعاصي عددًا وأيسرها وقوعًا معاصي اللسان؛ إذ آفاته تزيد على العشرين، ومن ثَمَّ قال تعالى: {وَقُوْلُوْا قَوْلًا سَدِيِدًا}، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أمسك عليك لسانك" (¬3)، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! " (¬4)، وقال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 97 - 98). (¬2) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير" (2/ 197). (¬3) أخرجه الترمذي (2406) عن سيدنا عقبة بن عامر رضي اللَّه عنه. (¬4) سيأتي تخريجه (ص 480) وهو قطعة من الحديث التاسع والعشرين من أحاديث المتن.

سخط اللَّه تعالى لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا" (¬1). فمن آمن بذلك حق إيمانه. . اتقى اللَّه في لسانه، وقلَّل من كلامه ما استطاع، سيما فيما نُهي عن الكلام فيه، كبعد العِشاء ما لم يتعلق به مصلحةٌ دينيةٌ؛ كالإبلاع عن اللَّه تعالى وعن نبيه صلى اللَّه عليه وسلم، وتعليم العلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر عن علم (¬2)، والإصلاح بين الناس، وأن يقول التي هي أحسن، وأن يقول للناس حسنًا، ومن أفضل الكلمات كلمة حقٍّ عند من يخاف سطوته في ثباتٍ وسدادٍ، وكالكلام مع حليلته أو ضيفه. أو دنيوية (¬3)؛ كما يتعلق بضرورة الإنسان أو مصالحه. وأفاد الحديث: أن قول الخير خيرٌ من الصمت؛ لتقديمه عليه، ولأنه إنما أمر به عند عدم قول الخير، وأن الصمت خيرٌ من قول الشر، وأن قول الخير غنيمة، والسكوت عن الشر سلامة، وأن فوات الغنيمة والسلامة ينافي حال المؤمن، وما يقتضيه شرف الإيمان المشتق من الأمان، ولا أمان لمن فاتته الغنيمة والسلامة، وأن الإنسان إما أن يتكلم أو يسكت، فإن تكلَّم: فإما بخيرٍ وهو رِبحٌ، وإما بشرٍّ وهو خسارة، وإن سكت: فإما عن شرٍّ وهو ربح، وإما عن خيرٍ وهو خسارة، فله في كلامه وسكوته ربحان فينبغي أن يُحصِّلهما، وخسارتان ينبغي أن يجتنبهما. قيل: وهذا الأمر عامٌّ مخصوصٌ بما لو أُكره على قول شر، أو سكوتٍ عن خير، أو نسي، أو خاف على نفسه من قول الخير ونحوه؛ لخبر: "رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه" (¬4)، وخبر: "إذا أمرتكم بأمرٍ. . فأتوا منه ما استطعتم" (¬5) اهـ. ولا يحتاج لذلك؛ لأن رفع القلم عن الناسي والمكره من القواعد الشرعية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6478)، ومسلم (2988) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬2) يرجع للإبلاغ وما بعده. (¬3) معطوف على قوله قبل أسطر: (مصلحة دينية). (¬4) سيأتي تخريجه (ص 606)، وهو الحديث التاسع والثلاثون من أحاديث المتن. (¬5) تقدم تخريجه (ص 271) وهو الحديث التاسع من أحاديث المتن.

تنبيه [الصمت مطلقا منهي عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

المقررة، فجميع الأوامر والنواهي مخصوصةٌ بها في ذهن كل عالمٍ بذلك معتقدًا له، فلا خصوصية لهذا الحديث بها، على أن التعبير بالخير وبالسكوت في مقابلته الدال على أنه خيرٌ أيضًا دليلٌ على ذلك التخصيص؛ لأن المكره عليه منهما يصير خيرًا؛ أي: مباحًا، وعند النسيان هو خيرٌ أيضًا؛ لارتفاع العقاب، فلا يحتاج مع ذلك إلى دعوى تخصيص. تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت] التزام الصمت مطلقًا، واعتقاده قربة إما مطلقًا أو في بعض العبادات كالصوم والحج منهيٌّ عنه؛ ففي خبر أبي داوود: "لا صُمات يومٍ إلى الليل" (¬1)، وخرج الإسماعيلي النهي عنه في الاعتكاف، وروي أيضًا في الصوم. وآثر (يصمت) على (يسكت) لأنه أخص؛ إذ هو السكوت مع القدرة، وهذا هو المأمور به، وأما السكوت مع العجز لفساد آلة النطق. . فهو الخرس، أو لتوقفها. . فهو العِيُّ، وكلا هذين لا يحسن الأمر معه بالسكوت. (ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليكرم جاره) بالإحسان إليه، وكفِّ الأذى عنه، وتحمُّل ما يصدر منه، وبالبشر في وجهه (¬2)، وغير ذلك من وجوه الإكرام التي لا تحْفى رعايتها على الموفَّقين، قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} وهو -أعني الجار- عرفًا: من بينه وبينه دون أربعين دارًا من أيِّ جانبٍ كان من جوانب الدار. وفي (مراسيل الزهري): أن رجلًا أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم يشكو إليه جارًا له، فأمر صلى اللَّه عليه وسلم بعض أصحابه أن ينادي: "أَلَا إن أربعين دارًا جارٌ" (¬3) وبه أخذ جمعٌ من السلف. ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (2873) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬2) يقال: هو حسن البشر؛ أي: طلق الوجه، فالبشر: طلاقة الوجه. اهـ هامش (ب). (¬3) أخرجه أبو داوود في "المراسيل" (350)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 276) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.

وقيل: هو في المسجد مَنْ سمع الأذان أو الإقامة منه، فيقدر كذلك في الدور، وقيل: مَنْ ساكنك في محلةٍ أو بلدٍ. . فهو جارك، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوجة والقريب، وهو المراد بالجار ذي القربى في الآية، والجار الجنب فيها: الأجنبي، وقيل: الأول المسلم، والثاني الكافر، وقيل: الأول القريب المسكن منك، والثاني البعيد المسكن، وكأن قائله نظر لخبر عائشة: يا رسول اللَّه؛ إن لي جارينِ، فإلى أيِّهما أُهدي؟ قال: "إلى أقربهما منكِ بابًا" (¬1)، وقيل: الثاني الزوجة. "فالجيران ثلاثة: كافرٌ، فله حقٌّ واحدٌ بالجوار، ومسلمٌ، فله حقان: الجوار، والإسلام، ومسلم قريب، فله ثلاثة حقوق: الجوار، والإسلام، والقرابة"، وهذا حديثٌ له طرقٌ متصلةٌ ومرسلة، لكن لا تخلو كلها عن مقال (¬2). والأحاديث في حقوق الجار كثيرة؛ ففي "الصحيحين": "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" (¬3). وروى مسلم عن أبي ذرٍّ رضي اللَّه تعالى عنه قال: أوصاني خليلي صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا طبختَ مرقًا. . فأكثِرْ ماءه، ثم انظر إلى أهل بيتٍ من جيرانك فأصبهم منها بمعروف" (¬4)، وفي رواية: "فأكثر ماءها (¬5)، وتعاهد جيرانك" (¬6). وروى البخاري في "الأدب": "كم من جارٍ متعلقٌ بجاره يوم القيامة يقول: يا رب؛ هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه" (¬7). (ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليكرم ضيفه) الغنيَّ والفقيرَ بالبشر في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2259). (¬2) قوله: (وهذا حديث له) عائدٌ على قوله: (فالجيران ثلاثة: كافر. . .) وقد ذكره الحافظ الهيثمي رحمه اللَّه تعالى في "مجمع الزوائد" (8/ 167) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه بنحوه، وعزاه للبزار. (¬3) صحيح البخاري (6015)، وصحيح مسلم (2625) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) صحيح مسلم (2625/ 143). (¬5) يعني: لا تجعل ماء قِدرك قليلًا لتكون مرقك كثيرة اللذة؛ فإنك حينئذٍ لا تقدر على تعاهد جيرانك، بل اجعل ماء قِدرك كثيرًا؛ ليبلغ منه نصيبٌ إلى جيرانك وإن لم يكن لذيذًا. اهـ هامش (غ) (¬6) صحيح مسلم (2625/ 142). (¬7) الأدب المفرد (111) عن سيدنا أبن عمر رضي اللَّه عنهما.

وجهه، وطيب الحديث معه، وبالمبادرة بإحضار ما تيسَّر عنده من الطعام من غير كلفةٍ ولا إضرارٍ بأهله، إلا أن يرضوا وهم بالغون عاقلون، وقد بينتُ في الكتاب الآتي حديث الأنصاري المشهور (¬1)، الذي أثنى اللَّه ورسوله عليه وعلى امرأته بإيثارهما الضيف على أنفسهما وصبيانهما، حيث نَوَّمَتْهم بأمره حتى أكل الضيف (¬2). والجواب عما اقتضاه ظاهره من تقديمهما ما يحتاج إليه الصبيان: بأن الضيافة لتأكدها والاختلاف في وجوبها مقدمةٌ، وبأن الصبيان لم تشتد حاجتهم للأكل، وإنما خشيا أن الطعام لو جِيء به للضيف وهم مستيقظون. . لم يصبروا عن الأكل منه وإن كانوا شباعًا على عادة الصبيان، فيشوشوا على الضيف، فنُوِّموا لذلك (¬3)، وهذا ظاهرٌ، خلافًا لمن توقف فيه. والضيف لغةً: يشمل الواحد والجمع، مِن (أضفته وضَيَّفته): إذا أنزلته بك ضيفًا، و (ضِفته وتضيَّفته): إذا نزلت عليه ضيفًا. ومعنى الحديث: أن من التزم شرائع الإسلام. . تأكَّد عليه إكرام جاره وضيفه وبرهما لعظيم حقهما، كما أعلم به صلى اللَّه عليه وسلم، وأكَّد على عظيم رعايته في أحاديث كثيرة، بيَّنتُها في كتابي "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة" فإنه جمع في ذلك من الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية ما تقر به العيون، وينتفع به المتقون؛ إذ الصدقة لا سيما للجار والضيافة من مكارم أخلاق المؤمنين، ومن محاسن الدين، وسنن النبيين، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وقد مر، وفيه إشارة ما إلى ما بالغ به بعضُ الأئمة من إثبات الشُّفعة له. ورُوي: أن إبراهيم صلى اللَّه عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم كان يُسمَّى أبا الضيفان (¬4)، وكان يمشي الميل والميلين في طلب من يتغدَّى معه (¬5). ¬

_ (¬1) الكتاب الآتي هو: "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة"، انظر ذلك مفصلًا فيه (ص 151 - 152). (¬2) أخرجه البخاري (3798)، ومسلم (2054) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) هذا الجواب للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرح المهذب" (6/ 227) اهـ هامش (ب). (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 335)، والبيهقي في "الشعب" (9171)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (6/ 173) عن عكرمة رحمه اللَّه تعالى. (¬5) أخرجه البيهقي في "الشعب" (9173) عن عطاء رحمه اللَّه تعالى.

وقد قال أحمد بوجوب الضيافة؛ لأحاديث ظاهرة في ذلك، وفي أن الضيف يستقل بأخذ ما يكفيه من غير رضا من نزل عليه أو على نحو بستانه أو زرعه (¬1)، وقد بينتها مع تأويلها في ذلك الكتاب (¬2)، لكن خالفه الجمهور، وحملوا تلك الأحاديث على غير ظاهرها، كحمل الوجوب على أول الإسلام؛ فإنها كانت واجبةً حين إذ كانت المواساة واجبةً، فلما ارتفع وجوب المواساة. . ارتفع وجوب الضيافة، أو على التأكيد كما في: "غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم" (¬3) والاستقلال بالأخذ من غير رضا على المضطر، لكنه بعد ذلك يغرم بدل ما أكله، أو على مال أهل الذمة المشروط عليهم ضيافة مَنْ مرَّ بهم؛ لأدلة أخرى: منها: "لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفس" (¬4). ومنها: قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "جائزته يوم وليلة" (¬5)، والجائزة: الصلة والعطية المتطوع بها. وأيضًا: التعبير بالإكرام ظاهر في التطوع؛ إذ لا يستعمل في الواجب. ثم المخاطب بها عندنا أهل البادية والحضر، لكن في أحاديث بينتها ثَمَّ أيضًا أنها مختصَّةٌ بأهل البادية، وبها أخذ مالك؛ لتعذُّر ما يحتاج إليه المسافر في البادية، وتيسُّر الضيافة على أهلها غالبًا، بخلاف أهل الحضر؛ لتيسر مواضع النزول وبيع الأطعمة، قال القاضي: (وخبر: "الضيافة على أهل الوبر، وليست على أهل المدر". . موضوعٌ) انتهى (¬6)، وفيه ¬

_ (¬1) انظر "المغني" لابن قدامة (13/ 353). (¬2) أي: كتاب "حقائق الإناقة"، انظر (ص 63 - 71) منه. (¬3) أخرجه البخاري (858)، ومسلم (846) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 100)، والدارقطني في "سننه" (3/ 26)، وأبو يعلى في "مسنده" (1570) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البخاري (6135)، ومسلم (48/ 15) في كتاب اللقطة، باب الضيافة ونحوها، عن سيدنا أبي شريح العدوي رضي اللَّه عنه. (¬6) إكمال المعلم (1/ 286)، والحديث أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (284) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، وانظر "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي رحمه اللَّه تعالى (2/ 19)، و"الكامل في الضعفاء" للإمام ابن عدي رحمه اللَّه تعالى (1/ 273)، و"التمهيد" (21/ 44)، و"لسان الميزان" (1/ 306). ولفظ الحديث في النسخ كلها معكوس إلا في (خ) والمثبت منها من "إكمال المعلم" وسائر =

نظر، فقد ذكرت في ذلك الكتاب له طرقًا كثيرة (¬1). قيل: يحتمل تخصيص إكرام الجار والضيف بغير الفاسق والمبتدع والمؤذي ونحوهم، فهؤلاء لا يكرمون بل يُهانون ردعًا لهم عن فجورهم، ويحتمل جعلهم من ذوات الجهتين، فيكرمون من حيث الجوار والضيافة، ويهانون من حيث الفجور؛ لأن الكافر يُرْعَى حقُّ جواره ونحوه، فالمسلم على نحو فسقه أَولى، وجاء: "في كل كبد حرَّى أجر" (¬2) قال بعضهم: حتى نحو الحية والكلب العقور يطعم ويسقى إذا اضطر إلى ذلك، ثم يقتل. اهـ والوجه: هو الاحتمال الثاني كما يصرح به كلام أئمتنا (¬3)، ولا ينافيه قولهم: يحرم الجلوس مع الفسَّاق إيناسًا لهم؛ لأن هذا فيه إعانةٌ على فسقهم، كما يدل عليه تقييدهم القعودَ معهم بالإيناس؛ أي: من حيث الفسق، فأفهم أنه معهم لا للإيناس كذلك جائز، وما ذكره من إطعام العقور فيه نظر؛ لوجوب قتله فورًا (¬4)، فلا حاجة لإطعامه، كما يدل عليه قول أئمتنا: لو اسْتَطْعم من يُراد قتله بحقٍّ. . لم يطعم، بخلاف ما لو استسقى فإنه يُسقَى؛ لقلة زمنه. (رواه البخاري ومسلم) وهو من القواعد العميمة العظيمة؛ لأنه بيَّن فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلًا، فهو بهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه: إنه ثلث الإسلام؛ لأن العمل إما بالقلب، وإما بالجوارح، وإما باللسان، وهو ظاهرٌ وإن لم أَرَ من صرَّح به. ثم رأيت بعضهم قال: إن جميع آداب الخير تتفرع منه، وأشار فيه إلى سائر خصال البر والصلة والإحسان؛ لأن آكدها رعاية حق الجوار والضيف، وبهذا ¬

_ = المصادر. وفي بعض النسخ: (قال القاضي حسين) والصواب: أنه القاضي عياض رحمهما اللَّه تعالى؛ كما في هامش (ب) واللَّه أعلم. (¬1) انظر "حقائق الإناقة" (ص 64) فقد عزاه الشارح إلى القضاعي. (¬2) أخرجه ابن حبان (542)، وابن ماجة (3686)، والإمام أحمد (4/ 175) عن سيدنا سراقة بن جعشم رضي اللَّه عنه. (¬3) أي: جَعْلُهم من ذوات الجهتين. (¬4) المصرح به في كتب الفقه: أنه يسن قتله، ولعل كلام الشارح محمولٌ على ما إذا تعيَّن القتل طريقًا لدفع ضرره، فحينئذٍ يجب قتله فورًا. اهـ هامش (ج).

الاعتبار يصح أن يقال فيه: إنه نصف الإسلام؛ لأن الأحكام إما أن تتعلق بالحق، أو بالخلق، وهذا أفاد الثاني؛ لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية جميع حقوقهم، ومن ثَمَّ كان المقصود من الأمرين الأخيرين هو المقصود السابق في حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬1) من الألفة والاجتماع، وعدم التفرق والانقطاع؛ لأن الناس جيران بعضهم لبعض، فإذا اكرم كلٌّ منهم جاره. . ائتلفت القلوب، واتفقت الكلمة، وقويت شوكة الدين، واندحضت جهالات الملحدين، وإذا أهان كلٌّ جاره. . انعكس الحال، ووقعوا في هُوة الاختلاف والضلال، وكذلك غالب الناس؛ إما ضيف، أو مضيف، فإذا كرم بعضهم بعضًا. . وجد ما مر من الصلاح والائتلاف، وإذا أهان بعضهم بعضًا. . وجد الفساد والخلاف. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 304) وهو الحديث الثالث عشر من أحاديث المتن.

الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي؛ قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). (عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: أن رجلًا) يحتمل أنه أبو الدرداء؛ فقد أخرج الطبراني عنه: قلت: يا رسول اللَّه؛ دُلَّني على عملٍ يدخلني الجنة، قال: "لا تغضب ولك الجنة" (¬2)، أو جاريةُ بنُ قدامةَ عم الأحنف بن قيس؛ فقد أخرج أحمد عنه أنه قال: سألت النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه؛ قل لي قولًا وأَقْلِلْ عليَّ لعلِّي أعقله، قال: "لا تغضب" فأعدت عليه مرارًا كلَّ ذلك يقول: "لا تغضب" (¬3) لكن نازع في هذا يحيى القطان بأنهم يقولون: إن جارية تابعيٌّ لا صحابي. (قال للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب) يحتمل أنه أراد أمره بالأسباب التي توجب حُسْن الخلق: من الكرم، والسخاء، والحلم، والحياء، والتواضع، والاحتمال، وكف الأذى، والصفح، والعفو، وكظم الغيظ، والطلاقة، والبشر، وسائر الأخلاق الحسنة الجميلة؛ فإن النفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة. . اندفع عنها الغضب عند حصول أسبابه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6116). (¬2) المعجم الأوسط (2374) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه. (¬3) انظر "مسند الإمام أحمد" (3/ 484)، و"طبقات ابن سعد" (7/ 56)، وفيه: "أن رجلًا قال له: يا رسول اللَّه؛ قل لي قولًا. . . ".

أو أنه أراد: لا يعمل بمقتضى الغضب إذا حصل، بل يجاهد نفسه على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به؛ فإنه إذا ملك الإنسان. . كان في أسره وتحت أمره، ومن ثَمَّ قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} فمن لم يمتثل ما يأمره به غضبه وجاهد نفسه على ذلك. . اندفع عنه شر غضبه، وربما سكن وذهب عاجلًا، فكأنه لم يغضب، وإلى هذا الإشارةُ بقوله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} الآيةَ. وأخرج الشيخان: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (¬1)، ومسلم: "ما تعدون الصُّرَعة فيكم؟ " قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: "ليس ذاك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب" (¬2). (فردَّد) السائل عليه (مرارًا) يقول: أوصني يا رسول اللَّه؛ وكأنه لم يقنع بقوله: "لا تغضب" فطلب وصيةً أبلغ منها وأنفع، فلم يزده صلى اللَّه عليه وسلم عليها، وأعادها له حيث (قال) له ثانيًا وثالثًا: (لا تغضب) تنبيهًا له بتكرارها على عظيم نفعها وعمومه، فهو كما قال له العباس رضي اللَّه تعالى عنه: علِّمني دعاءً أدعو به يا رسول اللَّه، فقال: "سل اللَّه العافية" فعاوده مرارًا، فقال له: "يا عباس، يا عم رسول اللَّه؛ سل العافية في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أُعطيت العافية. . أُعطيت كل خير" (¬3). قيل: يحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلم علم من هذا الرجل كثرة الغضب فخصَّه بهذه الوصية، وفي بعض طرق الحديث: ما يبعدني من غضب اللَّه؟ قال: "لا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6114)، وصحيح مسلم (2609) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (ليس الشديد بالصُّرَعة) بضم الصاد المهملة وفتح الراء: الذي يصرع الناس كثيرًا بقوَّته -كما في الحديث الثاني- والهاء للمبالغة في الصفة؛ والصُّرْعة -بضم الصاد المهملة وسكون الراء- بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرًا. اهـ "مدابغي" (¬2) صحيح مسلم (2608) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرج نحوه الترمذي (3514)، والإمام أحمد (1/ 209) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وليس عندهما هنا قوله: "فإنك إذا أعطيت العافية. . . "، وهي عند الترمذي (3512) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أي الدعاء أفضل. . . إلخ.

تغضب" (¬1)، وفي طريق أخرى: أن رجلًا قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أوصني ولا تكثر عليَّ، أو قال: مُرْني بأمرٍ وأقلله عليَّ كي أعقله، قال: "لا تغضب" (¬2)، وفي أخرى: علِّمْني شيئًا أعيش به في الناس ولا تكثر عليَّ، قال: "لا تغضب"، وفي أخرى: قلت: يا رسول اللَّه؛ أوصني، قال: "لا تغضب" ففكرتُ حين قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كله (¬3). ومن ثَمَّ قال جعفر بن محمد رضي اللَّه تعالى عنهما: (الغضب مفتاح كل شر). وقيل لابن المبارك: (اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب) (¬4). وأخرج محمد بن نصر المروزي: أن رجلًا أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم من قِبَل وجهه، فقال: يا رسول اللَّه؛ أيُّ العمل أفضل؟ قال: "حسن الخلق" ثم أتاه عن يمينه وقال له ذلك، فقال كذلك، ثم عن شماله كذلك، ثم عن خلفه، فالتفت إليه فقال: "ما لك لا تفقه؟! حُسْنُ الخلق هو ألَّا تغضب إن استطعت" (¬5) وهو مرسل. (رواه البخاري) وهذا من بدائع جوامع كلمه التي خُصَّ بها صلى اللَّه عليه وسلم، وأما ما روي: أن رجلًا قال لسليمان صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم: أوصني، قال: (لا تغضب) قال: لا أقدر، قال: (فإن غضبت. . فأمسك لسانك ويدك)، وأنَّ يحيى قال لعيسى عليهما الصلاة والسلام: (أوصني، قال: لا تغضب، قال: لا أستطيع، قال: لا تقتني مالًا، قال: حسبي). . فلم يصح. فثبت أنه لا مشارك لنبينا صلى اللَّه عليه وسلم في هذه الكلمة المتضمنة لمجامع الخير، والمانعة عن قبائح الشر؛ فإن الغضبَ -وهو غليان دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو للانتقام ممن حصل منه الأذى بعد وقوعه- لا يحصى ما يترتب عليه من المفاسد الدنيوية والأخروية؛ لأن اللَّه تعالى خلقه من نار، وعجنه ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (7929) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (2/ 362) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 105)، والإمام أحمد (5/ 373)، ومعمر بن راشد في "الجامع" (20286) عن حميد بن عبد الرحمن رحمه اللَّه عن رجل من الصحابة رضي اللَّه عنهم. (¬4) ذكر الأثرين الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 363). (¬5) انظر "تعظيم قدر الصلاة" (878) عن أبي العلاء بن الشخير رحمه اللَّه تعالى.

بطينة الإنسان، فمهما نوزع في غرضٍ من أغراضه. . اشتعلت نار الغضب فيه، وفارت فورانًا يغلي منه دم القلب، وينتشر في العروق، فيرتفع إلى أعالي البدن ارتفاع الماء في القِدْر، ثم ينصبُّ في الوجه والعينين حتى يحمرَّا منه؛ إذ البشرة لصفائها كالزجاجة تحكي ما وراءها. هذا إذا غضب على مَنْ دونه، واستشعر القدرة عليه، فإن كان ممن فوقه، وأيس من الانتقام منه. . انقبض الدم إلى جوف القلب، وكمن فيه، وصار حزنًا، فاصفرَّ اللون، أو من مساويه، الذي يشك في القدرة عليه؛ يتردَّد الدم بين انبساطٍ وانقباض، فيصير لونه بين حمرةٍ وصفرةٍ، فالغضب فوران الدم وغليانه كما مر. وقيل: عَرَض يتبعه غليان دم القلب لإرادة الانتقام، ويؤيد الأول حديث أحمد والترمذي: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال في خطبته: " أَلَا إنَّ الغضب جمرةٌ تتوقَّدُ في قلب ابن آدم، أما ترون إلى انتفاخ أوداجه، واحمرار عينيه، فمن أحسَّ من ذلك شيئًا. . فليلزق بالأرض" (¬1). وفي رواية: "فإذا أحسَّ أحدكم من ذلك شيئًا. . فليجلس ولا يعدو به الغضب" (¬2) أي: فليحبسه في نفسه ولا يُعَدِّيه إلى غيره بإيذائه (¬3)، والانتقام منه، ولاستحالة هذا المعنى في حقه تعالى كان المراد بالغضب في حقه تعالى إرادة الانتقام، فيكون صفة ذات، أو الانتقام نفسه، فيكون صفة فعل. ومما يترتب على الغضب في حقنا من المفاسد تغيرُ ظاهر البدن بتغير لونه كما قررناه (¬4)، وشدة رِعْدة أطرافه، وخروج أفعاله عن حيز الاعتدال، واضطراب حركته وكلامه حتى تزبد أشداقه، وتنقلب مناخره، وتحمر أحداقه، وتستحيل خِلقته، حتى ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (3/ 19)، وسنن الترمذي (2191) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. والأوداج: جمع ودج، وهو: عِرق العنق. (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 365). (¬3) في بعض النسخ: (ولا يعدو به)، وفي أخرى: (ولا يعدُ به). (¬4) قوله: (تغير ظاهر البدن. . . إلخ) حاصل ما ذكره أربعة أشاء: تغير ظاهر البدن، وتغير اللسان، وتغير الجوارح، وتغير القلب، فقوله الآتي: (واللسانِ، والجوارحِ، والقلبِ) عطف على قوله: (ظاهر البدن) اهـ "مدابغي".

لو رأى نفسه. . لسكن غضبه حياءً من قبح صورته، ولو كُشِف له عن باطنه. . لرآه أقبح من ظاهره؛ فإنه عنوانه الناشئ عنه. واللسانِ بانطلاقه الناشئ عنه مع تخبط النظم، واضطراب اللفظ بالشتم والفحش وقبائح الكلمات التي يستحيي منها ذوو العقول والمروءات، حتى الغضبان إذا فتر غضبه. والجوارحِ بالبطش بها ضربًا وغيره إن تمكَّن من المغضوب عليه، وإلَّا. . رجع غضبه عليه، فيمزق ثوبه، ويلطم وجهه، وقد يضرب يده بالأرض، وما عنده من الصغار والدواب، ويعدو عَدْوَ الواله السكران، أو المجنون الحيران، وربما قويت عليه نار الغضب، فأطفأت بعض حرارته الغريزية، فيغشى عليه، أو أعدمتها، فيموت لوقته. والقلبِ بإكمان الحسد والحقد، وإضمار السوء والشماتة، وإفشاء السر، وهتك الستر، والاستهزاء، وغير ذلك من القبائح، وذلك كله حرامٌ يستوجب عليه عظيم العقوبة، وأليم العذاب. فانظر كم تحت هذه اللفظة النبوية وهي: "لا تغضب" من بدائع الحكم، وفوائد استجلاب المصالح، ودرء المفاسد مما لا يمكن عدُّه، ولا ينتهي حدُّه، واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته. كيف وقد تضمن أيضًا دفع أكثر الشرور عن الإنسان؛ لأنه في مدة حياته بين لذةٍ وألم، فاللذة سببها ثوران الشهوة لنحو أكلٍ أو جماعٍ، والألم سببه ثوران الغضب، ثم كلٌّ من اللذة والألم قد يباح تناوله أو دفعه كنكاح الزوجة، ودفع قاطع الطريق، وقد يحرم كالزنا، والقتل المحرم، فالشر إما عن شهوةٍ كالزنا، وإما عن غضبٍ كالقتل، فهما أصل الشرور ومبدؤها، فباجتناب الغضب يندفع نصف الشر بهذا الاعتبار، وأكثره في الحقيقة؛ فإن الغضب يتولَّد عنه القتل، والقذف، والطلاق، وهجر المسلم، والحقد عليه، والحسد له، وهتك ستره، والاستهزاء به، والحلف الموجب للحنث أو الندم؛ كما جاء في الحديث: "اليمين حنث أو ندم" (¬1) بل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (5587)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1181) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

والكفر كما كفر جبلة بن الأيهم حين غضب من لطمةٍ أُخذت منه قصاصًا (¬1). وبهذا التقرير يصح أن يقال في هذا الحديث: إنه ربع الإسلام؛ لأن أعمال الإنسان إما خيرٌ وإما شرٌّ، والشر إما أن ينشأ عن شهوة، أو عن غضب، وهذا الحديث متضمنٌ لنفي الغضب، فيتضمن نفي نصف الشر، وهو ربع المجموع، فكان هذا الحديث ربعًا من هذه الجهة، وهذا ظاهرٌ وإن لم أر من عرج عليه. ويدل على انحصار سبب الشر في الشهوة والغضب: أن الملائكة لما تجردوا عنهما. . تجردوا عن سائر الشرور جملةً وتفصيلًا. ثم الغضب له دواءٌ دافع، ودواءٌ رافع: فالدافع يحصل بذكر فضيلة الحلم وكظم الغيظ؛ نحو قوله تعالى: {وَالكَاظِمِيْنَ الْغَيْظَ} وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أشدكم من غلب على نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا بعد القدرة" (¬2)، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفذه. . دعاه اللَّه عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أيِّ الحور شاء" رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وقال الترمذي: حسن غريب (¬3)، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، والصُّرَعة: الذي يصرع الناس ويكثر منه ذلك. ومن ثَمَّ لما غضب عمر على مَنْ قال له: ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، واحمرَّ وجهه. . قيل له: يا أمير المؤمنين؛ ألم تسمع أن اللَّه تعالى يقول: {خُذِ الْعَفوَ وَأْمُرْ بالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَهِلِينِ} وهذا من الجاهلين؟! قال: (صدقت) فكأنما كان نارًا فأُطفئت (¬4). ¬

_ (¬1) آخر ملوك غسان بالشام، وهو الذي أسلم في خلافة سيدنا عمر رضي اللَّه عنه، ثم عاد إلى الروم وتنصَّر. اهـ هامش (غ) (¬2) ذكره الديلمي في "الفردوس" (850) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬3) مسند الإمام أحمد (3/ 440)، وسنن أبي داوود (4777)، وسنن الترمذي (2021) عن سيدنا معاذ بن أنس الجهني رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (4642)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 161) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما بنحوه.

وباستحضار خوف اللَّه تعالى (¬1)، كما حكي أن مَلِكًا كتب في ورقةٍ: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء -أي: أمره وسلطانه وملائكته- ويلٌ لسلطان الأرض من سلطان السماء، ويلٌ لحاكم الأرض من حاكم السماء، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. ثم دفعها إلى وزيره وقال: إذا غضبتُ. . فادفعها إليَّ، فكان كلما غضب. . دفعها إليه، فينظر فيها فيسكن غضبه. وبأن يستعيذ باللَّه من الشيطان الرجيم؛ كما جاء في الحديث الصحيح: إنه يذهبه، وسره: أنه جاء في الحديث: "إن الغضب من الشيطان" (¬2) لأنه الذي يحمل الإنسان عليه ليرديه ويغويه ويباعده من نِعَم اللَّه عز وجل؛ فالاستعاذة باللَّه تعالى من أقوى سلاح المؤمن على دفع كيد الشيطان ومكره، أعاذنا اللَّه تعالى منه بمنِّهِ وكرمه. وروى الشيخان: استبَّ رجلان عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأحدهما يسبُّ صاحبه مغضَبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "إني لأعلم كلمةً لو قالها. . لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: أما تسمع ما يقول النبي صلى اللَّه عليه وسلم؟! قال: إني لستُ بمجنون (¬3). والرافع يحصل بذلك أيضًا، وبتغيير الحالة التي هو عليها؛ كما ورد في حديث: "إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ. . فليقعد، وإذا غضب وهو قاعد. . فليضطجع" (¬4). وروى أحمد وأبو داوود: "إذا غضب أحدكم وهو قائم. . فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلَّا. . فليضطجع" (¬5)، وسرُّه: أن القائم متهيئٌ للانتقام، والجالس دونه، والمضطجع دونهما، ويؤيده الرواية السابقة: "فإذا أحسَّ أحدكم" والتي قبلها. وأخرج أحمد: "إذا غضب أحدكم. . فليسكت" (¬6) قالها ثلاثًا، وهذا أيضًا دواءٌ ¬

_ (¬1) عطف على قوله قبل قليل: (فالدافع يحمل بذكر فضيلة الحلم). (¬2) أخرجه أبو داوود (4784)، والإمام أحمد (4/ 226) عن سيدنا عطية السعدي رضي اللَّه عنه. (¬3) صجح البخاري (6115)، وصحيح مسلم (2610) عن سيدنا سليمان بن صرد رضي اللَّه عنه. (¬4) ذكر نحوه الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 320) وعزاه للبيهقي. (¬5) مسند الإمام أحمد (5/ 152)، وسنن أبي داوود (4782) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. (¬6) مسند الإمام أحمد (1/ 239) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

عظيم؛ لأن الغضب يصدر عنه من قبائح الأقوال ما يوجب الندم عليه عند زوال الغضب، فإذا سكت. . زال هذا المعنى، فإن لم يَزُل بما ذكر. . توضأ أو اغتسل بالماء البارد؛ فإن النار لا يطفئها إلا الماء؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا غضب أحدكم. . فليتوضأ بالماء، فإنما الغضب من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء"، وفي رواية: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلق من النار، وإنما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم. . فليتوضأ" (¬1). وروى أبو نعيم بإسناده عن أبي موسى الخولاني أنه كلَّم معاوية بشيءٍ وهو على المنبر، فغضب، ثم نزل فاغتسل، ثم عاد إلى المنبر، وقال: سمعتُ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، والنار تطفأ بالماء، فإذا غضب أحدكم. . فليغتسل" (¬2) والغرض أن يبعد عن هيئة الوثوب والمسارعة للانتقام ما أمكن؛ حسمًا لمادة المبادرة. وكان معاوية رضي اللَّه تعالى عنه من أحلم العرب، ومن ثم كان يقول: (ما غضبي على من أقدر عليه ومن لا أقدر عليه) أي: إن الغضب تعبٌ محضٌ لا فائدة فيه؛ لأن المؤذي لي إن قدرت عليه. . عاقبته إن شئت بلا غضب، وإلا. . كان مجرد الغضب محضَ تعبٍ؛ لأنه وحده لا يشفي، فلا فائدة فيه على كل تقدير. ثم المرادُ برفعه أو دفعه -مع أنه اضطراريٌّ كالخجل؛ لما مر أنه فوران دم القلب باطنًا، فهو كالرعاف ظاهرًا-: اندفاعُ آثاره، وما يترتب عليه من القبائح؛ فإن الإنسان بحسن الرياضة وتهذيب النفس عن ذميم الأخلاق ومعايب الأوصاف يأمن شرَّ غضبه وقبائحه المترتبة عليه، فهو وإن كان ضروريًا لا يمكن دفعه، إلا أن آثاره المترتبة عليه يمكن دفعها، فاندفع ما لبعضهم هنا من الإشكال، ثم رأيت بعضهم ذكر نحو هذا الذي ذكرته حيث قال: والتحقيق أن الغضبان إما مغلوبٌ للطبع الحيواني، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة. قال ابن رسلان: ورُوي في غير هذا الحديث الأمر بالاغتسال مكان الوضوء، فيحمل أمر الاغتسال على الحالة الشديدة التي يكون الغضب فيها أقوى وأغلب من الحالة التي أمر فيها بالوضوء. (علقمي) اهـ هامش (غ). (¬2) حلية الأولياء (2/ 130).

وهذا لا يمكنه دفعه وهو الغالب في الناس، وإما غالبٌ للطبع بالرياضة، فيمكنه دفعه، ولولا ذلك. . لكان قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا تغضب" تكليفًا بما لا يطاق. والحاصل: أن أقوى أسباب رفعه ودفعه التوحيد الحقيقي، وهو اعتقاد أنْ لا فاعل حقيقةً في الوجود إلا اللَّه تعالى، وأن الخلق آلاتٌ ووسائط: - كبرى وهي: مَنْ له عقلٌ واختيارٌ كالإنسان. - وصغرى وهي: مَنِ انتفيا عنه كالعصا المضروب بها. - ووسطى وهي: مَنْ فيها الثاني فقط كالدواب (¬1)، فمن توجَّه إليه مكروهٌ من غيره وشهد ذلك التوحيد الحقيقي بقلبه. . اندفع عنه غضبه؛ لأنه إما على الخالق وهو جراءةٌ تُنافي العبودية، أو على المخلوق وهو إشراكٌ ينافي التوحيد، ومن ثَمَّ خدم أنس رضي اللَّه تعالى عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عشر سنين، فما قال لشيءٍ فعله: لِمَ فعلته، ولا لشيءٍ تركه: لِمَ لمْ تفعله (¬2)، ولكن يقول: "قدَّر اللَّه ما شاء، وما شاء فعل"، أو: "لو قدر اللَّه. . لكان" (¬3)، وما ذاك إلا لكمال معرفته صلى اللَّه عليه وسلم بأَنْ لا فاعل ولا معطي ولا مانع إلا اللَّه تعالى، ولا ينافي ذلك (¬4) ما صح: أن موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضلُ الصلاة والسلام اغتسل عريانًا في خلوةٍ، ووضع ثيابه على حجرٍ، ففرَّ بها، فعدا وراءه يقول: (ثوبي حجر، ثوبي حجر) (¬5)، ويضربه بعصاه حتى أثَّرت فيه، فرآه بنو إسرائيل، وبطل كذبهم عليه بأنه إنما يختلي عنهم في الغسل لأُدْرَةٍ به (¬6)؛ لأنه لم يغضب عليه غضب انتقام، بل غضب تأديبٍ وزجر؛ لأن اللَّه تعالى خلق فيه حياة فصار كدابةٍ نفرت من راكبها. ¬

_ (¬1) الثاني: هو الاختيار؛ أي: أن الدواب لها اختيارٌ دون عقل. (¬2) أخرجه الإمام أحمد (3/ 197)، وعبد الرزاق في "المصنف" (17946). (¬3) أخرج ابن حبان (7179)، والضياء في "المختارة" (1834) نحوه. (¬4) أي: كون التوحيد الحقيقي أقوى أسباب دفع الغضب أو رفعه. (¬5) قوله: (ثوبي حجر ثوبي حجر): (ثوبي) منصوب بفعل مضمر، التقدير: أعطني ثوبي أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه، و (حجر) منادى مفرد محذوف منه حرف النداء؛ أي: يا حجر، فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء مَن يعقل؟ قلت: لأنه صدر منه فعل مَن يعقل. اهـ "الفتوحات الوهبية" (ص 165) (¬6) أخرجه البخاري (3404)، ومسلم (339) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. والأُدْرة: انتفاخ في الخصية.

تنبيه [الغضب لله محمود ولغيره مذموم]

ويحتمل على بُعدٍ أنه غلب عليه الطبع البشري فانتقم منه؛ كما حكي عنه أنه لما قيل له: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ}. . لفَّ كمه على يده وتناولها به، فقيل له: أرأيت لو أذن اللَّه تعالى فيما تحذر. . هل كان ينفعك كمك؟ فقال: (لا، ولكني ضعيف، ومن ضعف. . خاف) (¬1)، ويؤيد ذلك: ما ثبت أنه كان حديدًا، حتى كان إذا غضب. . خرج شعر جسده من مدرعته كسُلَّاء النخل (¬2)، ولهذا لما علم بما أحدثت قومه بعده. . أخذ برأس أخيه ولحيته يجرُّه إليه. وكذلك حُكي أن الخضر لما خرق السفينة. . غضب، وأخذ برجله ليلقيه في البحر، حتى ذكَّره يوشع عهده معه فخلاه (¬3). تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم] إنما يذم الغضب حيث لم يكن للَّه، وإلَّا. . فهو محمود، ومن ثَمَّ: (كان صلى اللَّه عليه وسلم يغضب إذا انتهكت حرمات اللَّه عز وجل) (¬4)، فحينئذٍ لا يقوم لغضبه شيءٌ حتى ينتصر للحق، وورد: (أنه كان إذا غضب. . أعرض وأشاح، وأنه كان بين عينيه عرق يُدِرُّه الغضب) (¬5). وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: (كان خلقه القرآن يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه) (¬6)، ولشدة حيائه صلى اللَّه عليه وسلم كان لا يواجه أحدًا بما يكرهه (¬7)، بل تعرف الكراهة في وجهه، ولما بلَّغه ابنُ مسعود قولَ القائل: هذه قسمةٌ ما أُريد بها وجه اللَّه. . شقَّ عليه وتغيَّر وجهه وغضب، ولم يزد على أن قال: "قد أُوذي موسى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (16892). (¬2) سُلَّاء النخل: شوكه، والمدرعة: ثوب كالدراعة، ولا تكون إلا من صوف. (¬3) فإن المؤمن إذا رأى المنكر. . لا يتمالك نفسه. (من فم شمويل الإمام أيده الملك العلام، من خط محمد طاهر، من خط محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ). (¬4) أخرجه البخاري (6786)، ومسلم (2327) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ 155)، والبيهقي في "الشعب" (1362) عن سيدنا هند بن أبي هالة رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه البيهقي في "الشعب" (1360). (¬7) أخرجه الإمام أحمد (3/ 133)، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (82) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

بأكثر من هذا فصبر" (¬1)، وكان من دعائه: "أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا" (¬2) وهذا عزيزٌ جدًّا؛ إذ أكثر الناس إذا غضب. . لا يتوقف فيما يقول. وأخرج الطبراني خبر: " ثلاثٌ من أخلاق الإيمان: مَنْ إذا غضب. . لم يُدخله غضبه في باطل، ومَنْ إذا رضي. . لم يخرجه رضاه من حق، ومَنْ إذا قدر. . لم يتعاط ما ليس له" (¬3). والأخبار الدالة على وقوع غضبه صلى اللَّه عليه وسلم للَّه تعالى وتكرره كثيرة، مع الإجماع على أنه كان أحلم الناس، وأكثرهم عفوًا وصفحًا واحتمالًا وتجاوزًا، ونهاية الكمال الغضب في موضعه، والحلم في موضعه. وأخرج أحمد: "ما تجرَّع عبدٌ جرعةً أفضل عند اللَّه تعالى من جرعة غيظٍ يكظمها ابتغاء وجه اللَّه تعالى" (¬4)، وأخرج: "ما من جرعةٍ أحب إلى اللَّه من جرعة غيظٍ يكظمها عبد، ما كظم عبدٌ جرعةَ غيظٍ للَّه تعالى إلا ملأ اللَّه تعالى جوفه إيمانًا" (¬5) وفي روايةٍ لأبي داوود: "ملأه اللَّه أمنًا وإيمانًا" (¬6). وليحذر الإنسان من الدعاء على نفسه أو أهله أو ماله عند الغضب؛ فإنه ربما يصادف ساعة إجابة فيستجاب له؛ كما يدل عليه خبر مسلم عن جابر رضي اللَّه تعالى عنه: سرنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في غزوةٍ ورجلٌ من الأنصار على ناضحٍ له، فتلدَّن عليه بعض التَّلدُّن، فقال له: سر لعنك اللَّه، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "انزل عنه، فلا يصحبنا ملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من اللَّه ساعةً يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم" (¬7)، وفي هذا أيضًا دليلٌ على رد ما نقل عن الفضيل: (ثلاثة لا يلامون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6100)، ومسلم (1062) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه النسائي (3/ 54) عن سيدنا عمار بن ياسر رضي اللَّه عنهما. (¬3) المعجم الصغير (1/ 61) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬4) مسند الإمام أحمد (2/ 128) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬5) مسند الإمام أحمد (1/ 327) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬6) سنن أبي داوود (4778) عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن أبيه رضي اللَّه عنه. (¬7) صحيح مسلم (3009). والناضح: البعير الذي يُستقَى عليه، والتَّلدُّن: التوقف والتلكؤ.

على غضب: الصائم، والمريض، والمسافر) (¬1). وعن الأحنف بن قيس: (يوحي اللَّه تعالى إلى الحافظَيْنِ: لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئًا) (¬2). وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا غضبت. . فاسكت" (¬3) يدل على تكليف الغضبان في حالة غضبه بالسكوت، فيؤاخذ بالكلام. وقد صح كما علم مما مر أنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين تكليفه بقطع الغضب، فكيف يقال: إنه غير مكلفٍ في حال غضبه بما يصدر منه. قيل: ومراد من أطلق من السلف أن من كان سبب غضبه مباحًا كالسفر أو طاعة كالصوم. . لا يلام عليه؛ أي: في نحو كلامه، لا نحو قتلٍ، أو ردةٍ، أو أخذ مال، أو إتلافه بغير حق، فهذا لا يشك مسلمٌ أن الغضبان مكلَّفٌ به وبنحو طلاقه وعتاقه بلا خلافٍ على ما قاله بعضهم، لكن نقل غيره فيه خلافًا، وقد يستشكل بأنه إن زال تمييزه. . فغير مكلفٍ، أو بقي. . فمكلفٌ، فما محل الخلاف؟! وصح عن ابن عباس وعائشة رضي اللَّه تعالى عنهم: أنه يقع طلاقه وعتاقه (¬4)، وأفتى به غير واحدٍ من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم، وبه يُردُّ على من فسَّر الإغلاق في خبر: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (¬5) بالغضب، بل الصواب: تفسيره بالإكراه. * * * ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 374) ورد عليه وعلى قول الأحنف بن قيس. (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (84). (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1320)، والإمام أحمد (1/ 283)، والبيهقي في "الشعب" (7935) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرج الدارقطني في "سننه" (4/ 13) عن مجاهد قال: جاء رجل من قريش إلى ابن عباسٍ فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان، فقال: (إن أبا عباس لا يستطيع أن يحل لك ما حرم عليك، عصيت ربك، وحرمت عليك امرأتك؛ إنك لم تتقِ اللَّه فيجعل لك مخرجًا. . .) وانظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 376). (¬5) أخرجه أبو داوود (2193)، وابن ماجة (2046)، والإمام أحمد (6/ 276) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.

الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان] عَنْ أَبِي يَعْلَى شدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ. . فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ. . فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي يعلى) ويقال: أبي عبد الرحمن (شداد بن أوس رضي اللَّه عنه) الأنصاري الخزرجي، ابن أخي حسان، قيل: وهو بدري، وهو غلط، وإنما البدري والده، قال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: (كان شداد ممن أوتي العلم والحلم) (¬2). سكن بيت المقدس، وأعقب بها، وتوفي سنة ثماني وخمسين، أو إحدى وأربعين، أو أربع وستين عن خمسٍ وسبعين سنة، ودُفن بها وقبره بظاهر باب الرحمة باقٍ إلى الآن. روي له خمسون حديثًا، خرَّج له البخاري حديثًا، ومسلم آخر (¬3). (عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: إن اللَّه كتب) أي: طلب وأوجب؛ إذ الوجوب هو موضوع (كتب) عند أكثر الفقهاء والأصوليين، لكن المراد هنا: مطلق الطلب؛ لأنه أعم فائدةً، فالإحسان الواجب: أن يأتي بما وجب عليه من فعلٍ أو تركٍ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1955). (¬2) ذكره الإمام ابن عبد البر رحمه اللَّه تعالى في "الإستيعاب" (2/ 134). (¬3) وهو هذا الحديث.

مستوفيًا لشروطه، والمندوب: أن يأتي بمكملات الواجب وبالمندوب مع معتبراته ومكملاته. (الإحسان) مصدر (أحسن) إذا أتى بالحسن؛ وهو: ما حسَّنه الشرع لا العقل، خلافًا للمعتزلة، كما هو مقررٌ في الأصول، والمراد به هنا: تحسين الأعمال المشروعة، لا مجرد الإنعام على الغير؛ لأن الأول أعم نفعًا، وأكثر فائدةً؛ لأن الإحسان في الفعل يعود منه نفع عليه وعلى غيره، فحق على من شرع في شيءٍ منها أن يأتي به على غاية كماله، ويحافظ على آدابه المصحِّحة والمكمِّلة له، وليحذر من أن تسوِّل له نفسُه أنه إذا فعل ذلك. . قلَّ عمله؛ لأنه وإن قلَّ يزيد به الثواب حتى يفوق مع قلَّته الكثير الذي لا إحسان فيه. (على) أي: في أو إلى (كل شيءٍ) يُستثنى منه القديم سبحانه وتعالى؛ فإنه لا حاجة به إلى إحسان أحد؛ لاستغنائه بذاته عما سواه، والأعراض والجمادات لا يتأتَّى الإحسان إليها، فبقي النباتُ والحيوانُ آدميًا وغيره -والإحسان إليهما مُتَأَتٍّ، أما الثاني. . فواضح، وأما الأول. . فلنموِّه- والملائكةُ والإحسان إليهم بإحسان عشرتهم، بألَّا يفعل بحضرة الحفظة ما يكرهون، ولا يأكل ما يتأذَّون بريحه؛ لتأذِّيهم بما يتأذَّى به بنو آدم؛ كما في الحديث (¬1)، والجنُّ بنحو نيتهم بالسلام من الصلاة؛ فإنه يسنُّ للمصلي أن ينوي به مَنْ على يمينه أو يساره من ملائكةٍ ومؤمني إنسٍ وجنٍّ. ويصل إليهم وإلى الملائكة إحسانٌ آخر من المصلي؛ فإنه إذا قال في التشهد: (وعلى عباد اللَّه الصالحين). . أصابتهما وغيرهما هذه الدعوة؛ كما في الحديث (¬2). والإحسان لشياطينهم وكفارهم بالدعاء لهم ككفار الإنس بالإسلام. قيل: ويخص من (كل شيءٍ) أيضًا: المؤذي من نحو الحشرات والسباع؛ فلا حظَّ لها في الإحسان. انتهى، وهو ممنوعٌ؛ إذ جواز قتلها، بل وجوبه، لا ينافي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (564)، وابن حبان (1644)، وابن خزيمة (1665) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه.

الإحسان إليها بإحسان القتلة، وبالإطعام إن لم يجب قتلها فورًا؛ فقد قال صلى اللَّه عليه وسلم: " في كل كبدٍ رطبة أجرٌ" (¬1). قيل: ويجوز أن تكون (على) على بابها، والمعنى: أنه سبق من اللَّه تعالى تعبُّدٌ لعبده بالإحسان على كل شيءٍ، حتى إذا ذبح بسكينٍ غيرِ كالَّةٍ. . لم يضيع اللَّه ذلك له. انتهى، ولم يظهر من هذا التقدير أنها على بابها؛ فإنها فيه بمعنى (في) أيضًا. نعم؛ يصح في تقريره أن يقال: المعنى: أن اللَّه تعالى طلب من عبده الإحسان حال كونه مستعليًا منه على كل شيءٍ أراد إيصاله إليه، فعبَّر عن مزيد الإحسان وعمومه للمحسن إليه باستعلائه عليه مبالغة في طلب كماله. ثم رأيت بعضهم قال في جعلها على بابها: والتقدير: كتب الإحسان في الولاية على كل شيء، وما ذكرته أبلغ وأنسب بسياق الحديث، فتأمله. ويصح في تقدير كونها على بابها أن يقال: المراد: أنه تعالى أوجب على كل شيءٍ أن يكون محسنًا؛ أي: بحسب ما يناسبه، كالتسبيح من الجماد. (فإذا قتلتم) إنما فرَّع صلى اللَّه عليه وسلم هذا والذي بعده على ما قبله، وخصَّهما بالذِّكر مع أن صور الإحسان لا تنحصر؛ لأنهما الغاية في إيذاء الحيوان، فإذا طلب الإحسان فيهما مع كونهما الغاية في الأَذى. . فما بالك بغير ذلك؟! فإنه أحرى أن يطلب فيه الإحسان. أو أن سبب التخصيص رَدَّ ما كانت الجاهلية عليه من التمثيل في القتل بجاع الأنوف، وقطع الآذان والأيدي والأرجل، ومن الذبح بالمُدَى الكالَّة ونحوها مما يعذب الحيوان، ومن أكلهم المنخنقة وما ذكر معها في آية (المائدة) فنهى عن ذلك بقوله: (فأحسنوا القتلة) هي بكسر القاف: الهيئة والحالة، كالجِلسة، بخلافها بالفتح؛ فإنها المصدر، وأفاد الأمر وجوب إحسان ذلك في كل قتلٍ جائز، ذبحًا كان، أو قَوَدًا، أو حدًّا، أو غيره، فيكون بآلةٍ غير كالَّةٍ، مع السرعة وعدم قصد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

التعذيب، فإن اقتص بآلةٍ كالَّة. . ضمن ما سرى منها؛ لتقصيره (¬1). نعم؛ يراعى في القاتل الهيئة والآلة التي قتل بها، فيفعل به حيث أمكنت؛ طلبًا للمماثلة المبني عليها القودُ ما أمكن. واحترزت بقولي: (حيث أمكنت) عن نحو القتل بلواطٍ وسحرٍ، فيعدل فيه إلى السيف؛ لتعذُّر المماثلة حينئذ. (وإذا ذبحتم) ما يحل ذبحه من البهائم (فأحسنوا الدبحة) فيها -كسرًا وفتحًا- ما مر في (القِتلة)، وفي رواية: "الذبح" وهي التي في أكثر نسخ "صحيح مسلم" (¬2)، وهو المصدر لا غير، وإحسانه هنا بنحو ما مر، وبأن يرفق بالبهيمة، فلا يصرعها بعنفٍ وغلظةٍ، ولا يجرها إلى موضع الذبح. جرًا عنيفًا، وبإحداد الآلة، وتوجيهها إلى القِبْلة، والتسمية، ونية التقريب بذبحها إلى اللَّه تعالى، وقطع الحلقوم والمريء والودجين، والاعتراف إلى اللَّه تعالى بالمنَّة والشكر له على هذه النعمة العظيمة؛ وهي إحلاله وتسخيره تعالى لنا ما لو شاء. . حرَّمهُ وسلَّطه علينا (¬3). ومن الإحسان إلى البهائم التي لا يراد ذبحها: عدم حسبها للقتل وغيره؛ فقد صح عنه صلى اللَّه عليه وسلم: (أنه نهى عن صبر البهائم) (¬4) وهو: أن تُحبس البهيمة ثم تُضرب بالنبل ونحوه حتى تموت، وصح عنه أيضًا النهي، عن أن تُتَّخذ غرضًا (¬5)، وأن من فعل ذلك. . فهو ملعون (¬6). ومن الإحسان إليها أيضًا: ألَّا تُحمَّل فوق طاقتها، ولا يستمر راكبها عليها وهي ¬

_ (¬1) قوله: (ضمن ما سرى منها لتقصيره) محله: في قصاص الأطراف، أما قصاص النفس. . فلا ضمان فيه؛ لأنه يستحق إزهاق روحه. اهـ "مدابغي". (¬2) انظر "شرح النووي على مسلم" (13/ 107). (¬3) قال المناوي: (وما ذكره من عدِّ نيةِ التقرب بها، وشكر اللَّه تعالى إذا اضطر على ذلك من أفراد إحسان الذبحة: هو ما وقع للشارح الهيتمي وليس بقويم؛ لأن الكلام في إحسان هيئة الذبح كما تقرر، فلا دخل للنية وشكر اللَّه تعالى في هيئته وإن كان شكر المنعم بذلك واجبًا كما هو جليٌّ) انتهى، وأيضًا نية التقريب بالذبح خاصة بنحو الهدي والأضحية. اهـ هامش (غ) (¬4) أخرجه البخاري (5513)، ومسلم (1956) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه مسلم (1957)، والترمذي (1475)، والنسائي (7/ 238) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬6) أخرجه البخاري (5515)، ومسلم (1958) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

واقفةٌ إلا لحاجة، ولا يحلب منها ما يضر ولدها، ولا يُشوى السمك والجراد حتى يموت. وقد حكى ابن حزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبحة. وأسهل وجوه قتل الآدمي ضرب عنقه بالسيف، وورد في تحريم المثلة أحاديث كثيرة؛ منها: "من مثَّل بذي روحٍ ثم لم يتُب. . مثَّل اللَّه به يوم القيامة" (¬1)، وهو مخصوصٌ بغير القاتل الممثل؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم (رضخ رأس يهوديٍّ بين حجرين) (¬2) لفعله ذلك بجارية من جواري المدينة. وعن جمعٍ من السلف: أنَّ مَنْ قُتل لكفرٍ أو ردةٍ يمثَّل به بالحرق بالنار، وروي عن أبي بكر وخالد بن الوليد رضي اللَّه عنهما وغيرهما شيء من ذلك (¬3)، وصح عن عليٍّ كرم اللَّه تعالى وجهه أنه حرَّق المرتدين، فأنكر ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عليه (¬4). وأصل ذلك: فعله صلى اللَّه عليه وسلم بالعرنيين حيث (قطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا) (¬5)، وفي رواية: (ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا) (¬6)، وفي أخرى: (وسُمِرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون) (¬7)؛ وذلك لأنهم قتلوا، وأخذوا المال، وارتدوا. وأجيب بأن هذا كان قبل تحريم المثلة، وبأن أعينهم إنما سملت؛ لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة؛ كما أخرجه مسلم (¬8)، وذكر ابن شهاب: أنهم قتلوا الراعي ومثلوا به، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (2/ 92) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (2413)، ومسلم (1672) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. وهذا يخالف ما قدمه في شرح الحديث الرابع عشر (ص 312) من أنها (يهودية) بالتأنيث، وما هنا من الذكير موافقٌ لما في "شرح المسعودي" و"المناوي" وغيرهما، وهو الصواب. اهـ هامش (غ) (¬3) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 314). (¬4) أخرجه ابن حبان (5606)، وأبو داوود (4351)، والترمذي (1458). (¬5) أخرجه مسلم (1671) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. والسمل: أن تفقأ العين بمسمارٍ محميٍّ بالنار، وبنفس المعنى: وسُمِرت أعينهم. (¬6) عند مسلم (10/ 1671) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬7) عند البخاري (233)، ومسلم (1671/ 11) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬8) صحيح مسلم (1671/ 14) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

وابن سعد: أنهم قطعوا يده ورجله، وغرسوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات (¬1). ويدل على النسخ أنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر بتحريق رجلين من قريش ثم قال: "كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا اللَّه تعالى، فإن وجدتموهما. . فاقتلوهما" رواه البخاري (¬2). (وليحد) بضم الياء مِن (أَحدَّ) السكين وحدَّدها واستحدَّها بمعنًى، وبفتحها مِن (حدَّ) (أحدكم شفرته) وجوبًا إن كانت كالَّةً بحيث يحصل للحيوان بها تعذيب، وإلَّا. . فندبًا، وهي السكين ونحوها مما يُذبح به، وشفرتُها: حدُّها، فسميت باسمه؛ تسميةً للشيء باسم جزئه. وينبغي حال حدها أن يواريها عنها؛ لأمره صلى اللَّه عليه وسلم بذلك. رواه أحمد وابن ماجة (¬3). (وليرح) بضم أوله من (أراح): إذا جلب الراحةَ (¬4)، أو كان له دخل في حصولها بأيِّ وجهٍ كان. (ذبيحته) بإمرار السكين عليها بسرعة، وبسقيها عند الذبح، وبالإمهال بسلخها حتى تبرد، وبألَّا يحد السكين بحضرتها كما مر. وروى الخلال والطبراني: أنه صلى اللَّه عليه وسلم مر برجلٍ واضع رجله على صفحة شاةٍ وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: "أفلا قبل هذا، أتريد أن تميتها موتتان؟! " (¬5). ولا يذبح أخرى قبالتها، وروى ابن ماجة: مر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى (2/ 93). (¬2) صحيح البخاري (3016) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وفي هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة). (¬3) مسند الإمام أحمد (2/ 108)، وسنن ابن ماجة (3172) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) في بعض النسخ: (حصلت له)، وفي أخرى: (حصل له)، وما أثبت قال عنه العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: (هكذا في صحاح النسخ). (¬5) المعجم الكبير (11/ 263) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

برجلٍ وهو يجرُّ شاةً بأذنها، فقال: "دع أذنها، وخذ بسالفتها" (¬1) أي: وهي مُقدَّم العنق. وأخرج عبد الرزاق: أن شاةً انفلتت من جزارٍ حتى جاءت النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فاتَّبعها فأخذها يسحبها برِجْلها، فقال لها النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "اصبرى لأمر اللَّه، وأنت يا جزار، فسُقْها للموت سوقًا رفيقًا" (¬2). وأخرج أحمد: يا رسول اللَّه؛ إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال: "إِنْ رحِمْتَها. . رحمك اللَّه" (¬3). وعطف هذا على ما قبله؛ لأنه لبيان فائدته؛ إذ الذبح بآلةٍ كالَّةٍ يعذب الذبيحة، فراحتها أن تذبح بآلةٍ ماضيةٍ موحيةٍ (¬4)، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم: "من ولي القضاء. . فقد ذُبح بغير سكين" (¬5) أي: فقد عرض نفسه لعذابٍ يجد فيه ألمًا كألم الذبح بغير سكين؛ أي: في أصل المشاركة؛ لظهور أن سائر عذاب الدنيا لا نسبة بينه وبين أدنى عذاب الآخرة. والذبيحة: فعيلة بمعنى مفعولة، وتاؤها للنقل من الوصفية إلى الاسمية؛ لأن العرب إذا وصفت بـ (فعيل) مؤنثًا. . قالت: امرأة قتيل، وعين كحيل، وشاة ذبيح، فإذا حذفوا الموصوف. . أثبتوا التاء وقالوا: قتيلة بني فلان، وذبيحتهم؛ لعدم دالٍّ على التأنيث حينئذٍ، ويعرب حينئذٍ اسمًا مفعولًا به أو نحوه، لا صفة، فاتضح أن التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية. (رواه مسلم) وهو قاعدة الدين العامة؛ فهو متضمنٌ لجميعه؛ لأن الإحسان في الفعل: هو إيقاعه على مقتضى الشرع كما مر، ثم ما يصدر عن الشخص من الأفعال إما أن يتعلَّق بمعاشه وهو سياسة نفسه، وبدنه، وأهله، وإخوانه، وملكه، وباقي ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (3171) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬2) مصنف عبد الرزاق (8609) عن الوضين بن عطاء رحمه اللَّه تعالى. (¬3) مسند الإمام أحمد (3/ 436) عن سيدنا قرة بن إياس رضي اللَّه عنه. (¬4) أي: مُسَرِّعة للموت. (¬5) أخرجه أبو داوود (3571)، والترمذي (1325) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

الناس، أو بمعاده وهو الإيمان الذي هو عمل القلب، والإسلام الذي هو عمل الجوارح، فمن أحسن في هذا كله، وأتى به على وفق السداد والشرع. . فقد فاز بكل خيرٍ، وسَلِم من كل ضير، ولكن دون ذلك خرط القتاد (¬1)، وبذل المُهَج وتقطُّع الأكباد. قال الخطابي: (ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، ومما ورثوه منهم تعليم الناس الإحسان، وكيفيته، والأمر به إلى كل شيءٍ. . ألهم اللَّه تعالى الأشياء الاستغفار للعلماء؛ مكافأةً لهم على ذلك؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "إن العالم ليستغفر له مَنْ في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف البحر") اهـ (¬2) * * * ¬

_ (¬1) الخرط: هو قشر العود بأن تضع يدك على أعلاه ثم تمرُّ بها عليه إلى أسفله، والقتاد: شجر له شوك كالإبر. وانظر "مجمع الأمثال" للميداني (1/ 634). (¬2) انظر "معالم السنن" (4/ 39). والحديث عند أبي داوود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه.

الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

الحديث الثامن عشر [حسن الخلق] عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُنْدَبِ بْنِ جُنَادَةَ، وَأَبِي عَبْدِ الْرَّحْمَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬1). (عن أبي ذر جندب بن جنادة) رضي اللَّه تعالى عنه بضم الجيم فيهما، وتثليث دال الأول، وقيل: برير بن جندب، وقيل: جندب بن عبد اللَّه، وقيل: جندب بن السكن، وهكذا اختلف في جده وأبي جده ومن فوقهما، وعلى كلٍّ: هو غفاري، يجتمع مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم في كنانة. روي عنه أنه قال: (أنا رابع الإسلام) (¬2)، ويقال: خامس الإسلام، أسلم بمكة قديمًا، ثم رجع إلى قومه، ثم هاجر إلى المدينة (¬3)، ووصفه صلى اللَّه عليه وسلم في عدة أحاديث بأنه أصدق الناس لهجةً، وفي رواية: "ما أظلَّتِ الخضراء -أي: السماء- ولا أقلَّتِ الغبراء -أي: حملت الأرض- أصدقَ لهجةً من أبي ذر" (¬4). وهو أول من حيَّا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بتحية الإسلام (¬5)، وقال عليٌّ في ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (1987). (¬2) أخرجه ابن حبان (7134). (¬3) انظر "الإستيعاب" (1/ 214 - 215). (¬4) تقدم تخريجه (ص 137) في شرح الحديث الأول. (¬5) أخرجه مسلم (2473)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1035)، والنسائي في "الكبرى" (10099) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه.

حقِّه: (وعاءٌ مُلِئ علمًا، ثم أوكي عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قبض) (¬1). روي له مئتا حديثٍ وأحدٌ وثمانون، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بسبعة عشر. مات بالرَّبَذة سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين. (وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل) الأنصاري، أسلم وعمره ثمان عشرة سنة، وشهد بدرًا والعقبة والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. روي له مئة حديث وسبعةٌ وخمسون، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث. وورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل" (¬2)، وأنه قال له: "يا معاذ؛ إني لأحبك" فقال: وأنا أحبك واللَّه يا رسول اللَّه، قال: "فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم؛ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬3)، وأنه قال: "يأتي معاذٌ يوم القيامة بين يدي العلماء رَتْوة" (¬4) أي: رمية بسهم، وقيل: بحجر، وقيل: بميل، وقيل: مد البصر. وأن ابن مسعود قال: (إن معاذًا كان أُمةً قانتا للَّه حنيفًا ولم يك من المشركين) قالوا: يا أبا عبد الرحمن؛ إن إبراهيم كان أمة! قال: (تسمعوني ذكرت إبراهيم؟! إنا كنَّا نُشُبِّه معاذًا بإبراهيم) (¬5). وقال مالكٌ: بلغني أنه قال: (يرحم اللَّه معاذ بن جبل، كان أمةً قانتًا للَّه) فقيل: يا أبا عبد الرحمن؛ إنما ذكر اللَّه بهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال ابن ¬

_ (¬1) ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (4/ 65) وعزاه لأبي داوود بسند جيد، وذكره أيضًا الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (2/ 60). (¬2) أخرجه ابن حبان (7131)، والترمذي (3790)، وابن ماجه (154) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (690)، وأبو داوود (1522)، والنسائي (3/ 53) عن سيدنا معاذ رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1833) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 59)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 349)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 230)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 419).

مسعود: (إن الأمةَ الَّذي يُعلِّم الناسَ الخير، وإن القانت هو المطيع) (¬1). وهو ممَّن جمع القرآن في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، مات بناحية الأُرْدُن في طاعون عَمَواس -وهو بفتح أَوَّلَيْهِ: قرية بين الرملة والقدس، نسب إليها؛ لأنه أول ما ظهر منها- سنةَ ثمان عشرة وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، وقيل: أربع، وقيل: ثمان وثلاثين سنة، وقبره بغور بيسان في شرقيه. (رضي اللَّه عنهما، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال) لأبي ذرٍّ كما سيأتي: (اتقِ اللَّه) من التقوى؛ وأصلها: اتخاذ وقايةٍ تقيك مما تخافه وتحذره، فتقوى العبد للَّه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية تقيه منه هي امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا على حدِّ: {اتَّقُوا اللَّهَ} أي: غضبه، وهو أعظم ما يتقى؛ إذ ينشأ عنه عقابه الدنيوي والأخروي، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، {هُوَ أَهْلُ التَّقوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وفسر ذلك صلى اللَّه عليه وسلم فقال: "قال اللَّه تعالى: أنا أهل أن أُتقَى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر. . فأنا أهلٌ أن أغفر له" (¬2). وقد تضاف التقوى إلى عقابه أو مكانه أو زمانه، نحو: {وَاتَّقُوا النَّارَ}، {وَاتَّقُوْا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}. (حيثما كنت) (¬3) أي: في أيِّ مكانٍ كنت فيه حيث يراك الناس وحيث لا يرونك؛ اكتفاءً بنظره تعالى؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ [الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ] إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم لأبي ذر: "أوصيك بتقوى اللَّه في سرِّ أمرك ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 272)، والطبراني في "الكبير" (10/ 59). (¬2) أخرجه الترمذي (3328)، وابن ماجه (4299)، والنسائي في "الكبرى" (11566) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) حذفت (ما) في أكثر النسخ، وهي في "سنن الترمذي". وقوله: (حيثما كنت) حيث: ظرف مكان يضاف للجمل، والمراد بها هنا: التعميم؛ أي: في أي مكانٍ وأي حالٍ كنت فيه، وقيل: إنها هنا ظرف زمان؛ أي: بناء على مجيئها للزمان؛ لأن التقوى في جميع الأزمنة أعم منها في جميع الأمكنة؛ لأن الثاني يصدق على ما إذا حصل منه تقوى ومعصية في المجلس الواحد، بخلاف الأول و (ما) زائدة بشهادة رواية حذفها. اهـ "مدابغي".

وعلانيته" (¬1)، وكان صلى اللَّه عليه وسلم يقول فرب دعائه: "أسألك خشيتك في الغيب والشهادة" (¬2)، وهي من المنجيات. وهذا من جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم؛ فإن التقوى وإن قلَّ لفظها إلا أنها كلمةٌ جامعةٌ لحقوقه تعالى، وهي أن يُتقى اللَّهُ حقَّ تقاته؛ أي: "بأن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يكفر" خرجه الحاكم مرفوعًا (¬3)، قيل: وهو منسوخ بـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وينبغي أن يقال: لا نسخ؛ إذ لا يصار إليه إلا بشروطٍ لم توجد كما يعلم من محله، فالأَوْلى أن يقال: المراد: أن يطاع فلا يعصى بحسب الاستطاعة، وكذا ما بعده. ولحقوق عباده بأسرها (¬4)، فمن ثَمَّ شملت خيري الدنيا والآخرة؛ إذ هي اجتناب كل منهيٍّ، وفعل كل مأمورٍ، فمن فعل ذلك. . فهو من المتقين الذين شرَّفهم اللَّه تعالى في كتابه بالمدح والثناء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وبالحفظ من الأعداء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، وبالتأييد والنصرة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وبالنجاة من الشدائد، والرزق من الحلال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، قال أبو ذر: قرأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هذه الآية ثم قال: "يا أبا ذر؛ لو أن الناس كلهم أخذوا بها. . لكفتهم" (¬5). وبإصلاح العمل وغفران الذنوب: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وبكفلين من الرحمة، وبالنور: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}، وبالقَبول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، وبالإكرام والإعزاز عند اللَّه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وبالنجاة من النار: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}، وبالخلود في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (5/ 181). (¬2) أخرجه ابن حبان (1971)، والحاكم (1/ 524) عن سيدنا عمار رضي اللَّه عنه. (¬3) انظر "المستدرك" (2/ 294) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) عطف على قوله: (لحقوقه تعالى). (¬5) أخرجه ابن حبان (6669)، والحاكم (2/ 492)، والنسائي في "الكبرى" (11539).

قال سفيان الثوري: (سُمُّوا بذلك؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتقى) (¬1)، وهو معنى قول الحسن: (ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام) (¬2). وقول أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه: (تمام التقوى أن العبد يتقي اللَّه حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكون حرامًا) (¬3). وليكون حجابًا بينه وبين الحرام، وأصل ذلك كله: حديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس" (¬4)، وحديث: "من اتقى الشبهات. . استبرأ لدينه وعرضه" (¬5). وبغاية ذلك كله القصوى وهي محبة اللَّه تعالى (¬6)، وموالاته، وانتفاء الخوف والحزن، وحصول البشارة في الدنيا والآخرة والفوز العظيم: {اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ولو لم يكن في التقوى سوى هذه الخصلة. . لكفت عما عداها. ثم حقيقتها متوقفة على العلم؛ إذ الجاهل لا يعلم كيف يتقي، لا من جانب الأمر، ولا من جانب النهي، وبهذا تظهر فضيلة العلم، وتميزه على سائر العبادات، والأحوال والمقامات؛ لتوقفها جميعها عليه، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما عُبدَ اللَّهُ بشيءٍ أفضل من فقهٍ في دين" (¬7)، وقال: "من يرُدِ اللَّه به خيرًا. . يفقهه في الدين، ويلهمه رشده" (¬8). ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 61) وعزاه لابن أبي الدنيا. (¬2) ذكره الإمام السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 61) وعزاه لابن أبي الدنيا. (¬3) تقدم تخريجه (ص 295). (¬4) تقدم تخريجه (ص 295). (¬5) تقدم تخريجه (ص 231) وهو الحديث السادس من أحاديث المتن. (¬6) أي: وشرَّفهم اللَّه في كتابه أيضًا بغاية ذلك كله القصوى. . . إلخ. (¬7) أخرجه الدارقطني في "سننه" (3/ 79)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (206)، والطبراني في "الأوسط" (6162) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬8) أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) عن سيدنا معاوية رضي اللَّه عنه؛ بدون زيادة: "ويلهمه رشده" وهي عند الطبراني في "الكبير" (19/ 340).

والمراد بالعلم المتوقف عليه ذلك: هو العلم العيني الذي لا رخصة لمكلفٍ في تركه، وهو تعلُّم ما أنت متلبِّسٌ به، فنحو الصلاة وشروطها وأركانها، والصوم وشروطه وأركانه يتعيَّن على كل مكلفٍ تعلُّمُ ظواهرها، وما يكثر وقوعه منها، وكذا الزكاة لمن له مال، والحج لمن استطاعه، ونحو البيع لمن أراد مباشرته، والنكاح لمن أراد الدخول فيه، ومعاشرة الزوجات لمن أراد تزوُّجَ امرأةٍ ثانيةٍ. فمن علم ما خُوطب به عينًا، أو أراد التلبس به، ثم اجتنب كل منهيٍّ، وفعل كل مأمورٍ. . فهو المتقي الكامل: (الذي لا يزال يتقرب إلى اللَّه تعالى بالنوافل حتى يحبه. . .) الحديث (¬1). ومن ثمَّ أخرج ابن حبان وغيره عن أبي ذر: قلت: يا رسول اللَّه؛ أوصني، قال: "أوصيك بتقوى اللَّه؛ فإنه رأس الأمر كله" (¬2)، وأبي سعيد الخدري قلت: يا رسول اللَّه؛ أوصني، قال: "أوصيك بتقوى اللَّه؛ فإنه رأس كل شيء" (¬3)، وفي رواية: "عليك بتقوى اللَّه؛ فإنها جماع كل خير" (¬4). والترمذي: عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: يا رسول اللَّه؛ إني سمعت منك حديثًا كثيرًا، فأخاف أن ينسيني أولَه آخرُه، فحدِّثني بكلمةٍ تكون جماعًا، قال: "اتق اللَّه فيما تعلم" (¬5). ثم لما كان العبد مأمورًا بتقوى اللَّه في سره وعلانيته كما مر، مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانًا تفريطٌ في التقوى؛ إما بترك بعض المأمورات، أو فعل بعض المنهيات، ومع ذلك لا ينافي وصفه بالتقوى كما دلَّ عليه نظم سياق آيات: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. . . إلى أن قال فى وصفهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ}. . . إلخ. . أمره بأن يفعل ما يمحو به ما فَرَط منه بقوله: (وأَتْبعِ السيئة) ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه (ص 596) وهو الحديث الثامن والثلاثون من أحاديث المتن. (¬2) صحيح ابن حبان (361). (¬3) أخرجه الإمام أحمد (3/ 82). (¬4) أخرجه أبو يعلى في مسنده (1000) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬5) سنن الترمذي (2683).

الصغيرة (الحسنة تمحها) كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} سبب نزولها: ما في "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عنه: أن رجلًا أصاب من امرأة قُبْلةً، ثم أتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فسكت النبي صلى اللَّه عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فدعاه، فقرأها عليه، فقال رجلٌ: هذا له خاصة؟ فقال: "بل للناس عامة" (¬1). وفيهما عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: كنت عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه؛ إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، قال: ولم يسأله عنه، فحضرتِ الصلاةُ فصلى مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى اللَّه عليه وسلم الصلاة. . قام إليه الرجل فقال: يا رسول اللَّه؛ إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، قال: "أليس قد صليت معنا؟! " قال: نعم، قال: "قد غفر اللَّه لك ذنبك" (¬2). وخرجه مسلم بمعناه من حديث أبي أمامة (¬3)، وخرجه ابن جرير من وجهٍ آخر عنه، وفي حديثه: "فإنك خرجت من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا تَعُدْ" وأنزل اللَّه تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآيةَ (¬4). وجاء: كنت جالسًا عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فجاءه رجلٌ فقال: يا رسول اللَّه؛ إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم كرَّر ذلك مرارًا وهو يعرض عنه، فقال: يا رسول اللَّه؛ إنه أتتني امرأة أجنبيةٌ تشتري منِّي تمرًا، فأدخلتها البيت، فأصبت منها ما يصيب الرجل من امرأته، غير أني لم أجامعها، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "توضأ وضوءًا حسنًا" فتوضأ وصلى مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي: عظة لمن اتعظ، فقال معاذ: يا رسول اللَّه؛ هذا له خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: "بل للناس عامة" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (526)، وصحيح مسلم (2763). (¬2) صحيح البخاري (6823)، وصحيح مسلم (2764). (¬3) صحيح مسلم (2765). (¬4) تفسير الطبري (18696). (¬5) أخرج نحوه النسائي في "الكبرى" (7281) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.

أي: فلا تعجزن أيها الإنسان إذا فرطت منك سيئة أن تُتبعها بحسنةٍ من نحو صلاةٍ، أو صدقةٍ وإن قلَّت، أو ذكرٍ؛ كالباقيات الصالحات: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر؛ فإنهنَّ أحب الكلام إلى اللَّه تعالى، وكـ (سبحان اللَّه وبحمده، سبحان اللَّه العظيم) فإنهما حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ ليزول عنك قبيح عارها، وتسلم من أليم نارها. وورد أيضًا عند مسلم (¬1): "ما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطّهور، ثم يَعْمِد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلا كتب اللَّه له بكل خطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحط عنه بها سيئة. . . " الحديث (¬2). وأخرج أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "ما من رجلٍ يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر اللَّه إلا غفر اللَّه تعالى له" ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (¬3). وظاهر قوله: "تمحها" وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أنها تُمحى حقيقةً من الصحيفة، وقيل: عبَّر به عن ترك المؤاخدة، فهي موجودةٌ فيها بلا محوٍ إلى يوم القيامة، وهذا تجوُّز يحتاج لدليلٍ وإن نقله القرطبي في "تذكرته" (¬4). وقال بعض المفسرين: إنه الصحيح عند المحققين، أما الكبيرة. . فلا يمحوها إلا التوبة بشروطها؛ وحينئذٍ يصح أن يراد بالسيئة الكبيرة أيضًا، وبالحسنة التوبة منها، ويؤيده: أن في طريقٍ مرسلٍ من طرق وصايا معاذٍ لمَّا بعثه إلى اليمن: "وإن أحدثت ذنبًا. . فأحدث عنده توبة، إن سرًا. . فسِرٌّ، وإن علانيةً. . فعلانيةٌ" (¬5). ثم ظاهر النصوص أن التوبة الصحيحة بشروطها تكفر الذنب قطعًا، كما يقطع ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: (عن مسلمٍ) ولعل الصواب ما أثبت، واللَّه أعلم. (¬2) صحيح مسلم (654/ 257) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) مسند الإمام أحمد (1/ 2)، وسنن أبي داوود (1521)، وسنن الترمذي (3006)، وسنن النسائي الكبرى (11012)، وابن ماجه (1395). (¬4) كتاب التذكرة (2/ 633). (¬5) أخرجه الييهقي في "الزهد" (957) عن محمد بن جبير رحمه اللَّه تعالى.

تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

بقبول إسلام الكافر، قيل: وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع (¬1)، أي: ومع تسليم ذلك. . فالأرجح: أنه ظنيٌّ، كما دلَّت عليه نصوصٌ أخر، لكن لقوة ذلك الظن أُجري مُجرى القطع في النصوص الأُخر. تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة] اختلفوا في مسألتين: إحداهما: أن الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر على الأصح (¬2)، بل المجمع عليه على ما قاله ابن عبد البر، وأما الكبائر. . فلا بد لها من التوبة؛ لإجماعهم على أنها فرضٌ، ويلزم من تكفير الكبائر بنحو الوضوء والصلاة بطلانُ فرضية التوبة، ويؤيده حديث "الصحيحين": "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفراتٌ لِمَا بينهنَّ ما اجتنب الكبائر" (¬3). حكى ابن عطية عن جمهور أهل السنة: (أن معناه: أن اجتناب الكبائر شرطٌ لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإن لم تجتنب. . لم تكفر شيئًا بالكلية، وعن الحذَّاق: أنها تكفر الصغائر ما لم يُصِرَّ عليها (¬4)، سواء فعل الكبائر أم لا، ولا تكفر شيئًا من الكبائر) (¬5). وروى مسلم: "ما من امرئٍ مسلمٍ يحضر صلاةً مكتوبةً، فيُحسن وضوءها، ¬

_ (¬1) انظر "التمهيد" (4/ 44) وما بعدها. (¬2) ما عدا المخصصات من الأعمال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة كبيرها وصغيرها، وقد صنف فيها العلامة ابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه تعالى كتابًا سماه "الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة" فإن أردت بيان المقولة. . فارجع إليه. (قبد الهركني) اهـ هامش (غ) وفي هامشها أيضًا: (وليس تكفير الأعمال الصالحة للصغائر عبارة عن إسقاط ثوابها في نظيرها كما قاله المعتزلة، بل هو عندنا عبارةٌ عن عدم المؤاخذة بها مع بقاء ثواب تلك الأعمال موفرًا على صاحبها) اهـ "شرح عبد السلام لجوهرة التوحيد" (ص 141). (¬3) صحيح مسلم (233/ 16) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، ولم نجده عند البخاري في "الصحيح"، وهو معلق عنده في "التاريخ الكبير" (6/ 140). (¬4) إلا أن تغلب طاعات المصرِّ معاصيه كما في كتب الفقه واللَّه أعلم، وكما في "حاشية ابن حجر على الإيضاح" انظر (ص 17) اهـ هامش (غ) (¬5) انظر "المحرر الوجيز" (3/ 213).

وخشوعها، وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرةً، وذلك الدهر كله" (¬1) والأحاديث بمعنى ذلك كثيرة. وقيل: إن الأعمال الصالحة تكفر الكبائر، وممن قال به ابنُ حزم، لكن أطال ابن عبد البر في الرد عليه (¬2)، ورده بعضهم بأنه إن أُريد أن مَنْ أتى بالأعمال وهو مُصِرٌّ على الكبائر تغفر له الكبائر قطعًا. . فهو باطلٌ قطعًا معلومٌ بطلانه من الدين بالضرورة، وإن أريد أن مَنْ لم يُصِرَّ عليها وحافظ على الفرائض من غير توبةٍ ولا ندمٍ كفَّرت بذلك. . فهو محتملٌ لظاهر آية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي: ما سلف منكم صغيرًا كان أو كبيرًا، ومع ذلك: الصحيح قول الجمهور: إن الكبائر لا تكفر بدون التوبة. نعم؛ إقامة الحد بمجرده كفارةٌ كما صرح به حديث مسلم (¬3)؛ أي: بالنسبة لذات الذنب، أما بالنسبة لترك التوبة منه. . فلا يكفرها الحد؛ لأنها معصية أخرى (¬4)، وعليه يحمل قول جمع: إن إقامته ليست كفارة، بل لا بد معها من التوبة، وقوله تعالى في المحاربين: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. . لا ينافي ذلك؛ لأنه ذكر عقوبتهم في الدارين، ولا يلزم اجتماعهما. ويؤيد ما تقرر: قول بعض المتأخرين: إن أُريد أن الكبائر تُمحى بمجرد العمل. . فهو باطلٌ، أو أنه قد يوازن يوم القيامة بينها وبين بعض الأعمال، فتُمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل، ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب. . فهذا قد يقع كما دلت عليه أحاديث؛ كحديث البزار والحاكم: "يؤتى بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (228) عن سيدنا عثمان رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر "التمهيد" (4/ 49) وما بعدها. (¬3) تنبيه: صحة التوبة إنما تتوقف على التمكين من الحد إن ثبت عليه مقتضى الحد، وكذا لو اشتهر عليه بين الناس؛ فإن لم يثبت ولا اشتهر. . صحت توبته بدون تمكين، بل الأفضل له: أن يستر على نفسه، ويكره تنزيهًا إظهاره، وحيث توقفت على التمكين ومكن فلم يحده الإمام ولا نائبه. . أثما دونه وصحت توبته. اهـ هامش (غ) (¬4) والحاصل: أن إثم الإقدام على شرب الخمر مثلًا وإثم تأخير التوبة منه لا يكفرهما الحد، وإنما يكفر إثم الذنب فقط. اهـ هامش (ج)

فيقص، أو يقضى بعضها من بعض، فإن بقيت له حسنة. . وسع له بها في الجنة" (¬1). فظاهره كغيره: وقوع المقاصَّة بين الحسنات والسيئات، وينظر إلى ما يفضل منها، وهذا يوافق قول من قال: إن رجحت حسناته على سيئاته بحسنةٍ واحدةٍ. . أُثيب عليها خاصة، وسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته، وقيل: يثاب بالجميع، وتسقط سيئاته كأنها لم تكن، هذا كله في الكبائر. أما الصغائر. . فإنها تُمحى بالعمل مع بقاء ثوابه؛ كما دلت عليه الآيات والأحاديث. ثم المغفرة والتكفير متقاربان؛ إذ المغفرة: ستر الذنوب، أو وقاية شره مع ستره، والتكفير: من (الكفر) وهو: الستر أيضًا. وقيل: هو محو أثر الذنب حتى كأنه لم يفعل، والمغفرة: ذلك مع إكرام العبد والإفضال عليه. وقيل: مغفرة الذنب بالعمل تقلبه حسنة، وتكفيره بالمكفر يمحوه فقط. وقيل: المغفرة: وقاية الذنب بالكلية، فلا مؤاخذة ولا عقوبة، والتكفير قد يقع بعد العقوبة؛ فإن المصائب الدنيوية مكفراتٌ وهي عقوبات، وكذا العفو والرحمة يقعان مع العقوبة ومع عدمها. وقيل: المكفر من العمل ما ينمحي به الذنب، فلا ثواب له غير ذلك، كاجتناب الكبائر، والعمل الذي يغفر به الذنب ما فيه ثوابٌ ومغفرةٌ كالذِّكر. وقد قال كثيرٌ من الصحابة وغيرهم: لا ثواب في المصائب الدنيوية غير التكفير للذنوب، وفسر المكفِّر في الحديث بإسباغ الوضوء في المكاره، ونقل الأقدام إلى الصلاة، وقال: "من فعل ذلك. . عاش بخيرٍ، ومات بخيرٍ، وخرج من خطيئته ¬

_ (¬1) المستدرك (4/ 252)، وذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 358) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وعزاه للبزار.

كيومَ ولدته أمه" (¬1) فهذا مع تكفيره للسيئات يرفع الدرجات. وسببه: أنه قد يجتمع في العمل شيئان: أحدهما رافعٌ، والآخر مكفِّرٌ، فالوضوء من حيث كونُه تعاطي عبادة رافعٌ للدرجات، ومن حيث مشقَّته وإيلامه للنفس مكفرٌ، وقس عليه، ومن ثَمَّ جاء: "إن إحدى خطوتي الماشي إلى المسجد ترفع له فى درجة، والأخرى تحط عنه خطيئة" (¬2). ثانيهما: الأصح: وجوب التوبة من الصغائر أيضًا، وقال بعض المعتزلة: لا تجب، وقال بعض المتأخرين: الواجب الإتيان بها أو ببعض المكفرات. (وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ) وجِماعُهُ -كما ذكره الترمذي وغيره-: ينحصر في طلاقة الوجه لهم، وكفِّ الأذى عنهم، وبذل المعروف لهم (¬3)، وهو معنى قول بعضهم: هو كظم الغيظ للَّه، وإظهار الطلاقة والبشر إلا لمبتدعٍ أو فاجرٍ، والعفو عن الزالِّين إلا تأديبًا وإقامةً للحد، وكفُّ الأذى عن كل مسلمٍ أو معاهدٍ إلا تغييرًا لمنكر، أو أخذًا بمظلمةٍ من غير تعدٍّ، وجمع بعضهم ذلك كله في قوله: هو أن تفعل معهم ما تحب أن يفعلوه معك، فتجتمع القلوب، ويتفق السر والعلانية، وحينئذ تأمن كل كيدٍ وشرٍّ، وذلك جماع الخير، وملاك الأمر إن شاء اللَّه تعالى. والأحاديث في مدح الخُلُق الحسن كثيرةٌ، بينتها في كتابي السابق ذكره في شرح (الخامس عشر) (¬4)؛ منها: "أثقل ما وضع في الميزان حسن الخلق" (¬5)، "خياركم أحاسنكم أخلاقًا" (¬6)، "إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" (¬7)، "أكمل ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3233)، والإمام أحمد (1/ 386)، وأبو يعلى (2608) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه مسلم (666)، وابن حبان (2044)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 62) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬3) سنن الترمذي (2005) عن عبد اللَّه بن المبارك رحمه اللَّه تعالى. (¬4) هو كتاب: "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة" انظر (ص 25 - 32) منه. (¬5) أخرجه ابن حبان (481)، وأبو داوود (4799)، والترمذي (2002) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬6) أخرجه البخاري (6053)، ومسلم (2321) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬7) أخرجه أبو داوود (4798)، والإمام أحمد (6/ 133) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.

المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" (¬1)، "أفضل ما أُعطي المرء المسلم الخلق الحسن" (¬2)، "ألا أخبركم بأحبكم إلى اللَّه وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟! " قالوا: بلى، قال: "أحسنكم خلقًا" (¬3)، "أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك" (¬4)، وفي رواية: (أن هذه الثلاثة أفضل -وفي رواية: أكرم- أخلاق أهل الدنيا والآخرة) (¬5). ثم الخلق وإن كان سجيةً في الأصل ومطبوعًا عليه العبد إلا أن الإنسان يمكنه أن يتخلَّق بغير خلقه حتى يتصف بالأخلاق الحسنة العلية، فمن ثم صح الأمر بتحصيله وبكسبه هنا وفي قوله صلى اللَّه عليه وسلم لمعاذ: "حَسِّن خلقك مع الناس" (¬6). فأفاد أن تحسينه من كسب العبد؛ لحصوله بنحو النظر في أخلاقه صلى اللَّه عليه وسلم، وما صدر عنه من أعاليها، مع التأسي به فيما يمكن أن يتأسَّى به فيه منها، ثم بصحبة أهل الأخلاق الحسنة والاقتداء بهم في ذلك، ثم بتصفية نفسه عن ذميم الأوصاف وقبيح الخصال، ثم برياضتها إلى أن تتحلَّى بجميل الأخلاق ومعالي الأحوال؛ فحينئذ يُثاب على تلك الأخلاق الحميدة؛ لأنها من كسبه، فهو نظير استعمال الشجاعة في محلها كملاقاة العدو؛ فإن الشجاع يثاب على هذا الاستعمال لا على نفس الشجاعة؛ لأنها من الأمور الجِبلِّيَّه التي لا تدخل تحت الاختيار، وإنما الذي يدخل تحته تَكَسُّبُ المعالي الموجبة لإيقاع تلك الغريزة في محلها. وما صرحت به من أن الخلق غريزةٌ هو المنقول عن ابن مسعود؛ فإنه جعله جِبلَّة كاللونِ وبعضِ أجزاء الجسم، وقال: (فرغ ربك من أربعة: الخَلْق، والخُلُق، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (479)، والحاكم (1/ 3)، وأبو داوود (4682) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن حبان (478)، وابن ماجه (3436) عن سيدنا أسامة بن شريك رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن حبان (485) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه الإمام أحمد (3/ 438)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1289)، والطبراني في "الكبير" (20/ 188) عن سيدنا معاذ بن أنس رضي اللَّه عنه. (¬5) الرواية الأولى عند الحاكم (4/ 161)، والطبراني في "الكبير" (17/ 269) عن سيدنا عقبة بن عامر رضي اللَّه عنه، والثانية عند البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 235) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 902) عن سيدنا معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه.

والرزق، والأجل) (¬1)، وعن الحسن؛ فإنه قال: من أُعطي حسن صورة، وخلقًا حسنًا، وزوجة صالحةً. . فقد أُعطي خيري الدنيا والآخرة، بل هو الوارد عنه صلى اللَّه عليه وسلم؛ لقوله: "إن اللَّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم" (¬2)، وقوله: "اللهم؛ كما حسَّنت خَلْقي، فحسِّن خُلُقي" (¬3). وأما قول جَمْعٍ: أخلاق العبد حسنها وسيئها إنما هي من كسبه واختياره، فيحمد ويثاب على جميلها، ويذم ويعاقب على سيئها، وإلا. . لبطل الأمر به في: "وخالق الناس بخلق حسن" لاستحالته في المطبوع عليه العبد كاستحالة أمر الأعمى بالإبصار. . فيرد بأن ذلك لا حجة فيه؛ لِمَا قررناه: أن أصله جِبِلِّيٌّ، وأما استعماله فيما أُمر به العبدُ وصرفه عمَّا نُهي عنه. . فاكتسابيٌّ. على أنه قد يقال: لا خلاف في المعنى، فمن قال: إنه جِبِلِّي. . نظر إلى أصله، ومن قال: إنه مكتسبٌ. . نظر إلى ما يستعمل فيه، وبذلك يجمع أيضًا بين الحديثين السابقين آنفًا الدالَّينِ على أنه جِبِلِّي، والحديث السابق قبلهما: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا"، و"إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" الدال على أنه مكتسب. ولا يستدل باكتسابه ولا بكونه جِبِلَّة على اكتساب الولاية والنبوة، ومن استدل بذلك على هذا. . فقد وهِم؛ لما بينهما من الفرق الواضح؛ لأن الاكتساب ثَمَّ له دخلٌ وإن قلنا: إنه غريزةٌ، وأما في هذين. . فلا دخل لاكتساب العبد فيهما بوجهٍ، فكم من عاملٍ لم ينل منهما شيئًا؛ لأنهما محض تولِّي الحق للولي أو النبي، وهذا التولِّي من جَعْله تعالى وإنعامه وفضله، فلا دخل لفعل العبد فيه بوجه، ومن ثم يكفر من قال: إن النبوة مكتسبة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 162)، والدارقطني (4/ 182). (¬2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (275)، والحاكم (1/ 33)، والإمام أحمد (1/ 387) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (163) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه، والبيهقي في "الشعب" (8184) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬4) عبارة "شرح الجوهرة" لمؤلفها: فإن قلت: فما حكم من جوز اكتساب النبوة؟ قلتُ: قال أبو حيان كما نقله =

ثم وجهُ إفرادِهِ بالذِّكر -مع أنه من خصال التقوى ولا تتم إلا به-: الردُّ على من يظن أنها القيام بحقوق اللَّه تعالى فقط؛ إذ كثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوقه والانعكاف على محبته وخشيته إهمالُ حقوق العباد بالكلية، أو التقصير فيها، وما دَرَى أن الجمع بين الحقَّيْن عزيزٌ جدًا، لا يقوى عليه إلا الكُمَّل من الأنبياء والصِّديقين. ومن ثم فسروا الصالح الذي يدعو له كل مُصلٍّ في تشهده بأنه القائم بهما، وفي ذلك مناسبةٌ تامةٌ لحال معاذ؛ فإنه وصَّاه بذلك عند بعثه إلى اليمن معلِّمًا لهم وقاضيًا، ومَنْ هو كذلك. . يضطر لمخالطة الناس بخلقٍ حسن، ويحتاج لذلك ما لا يحتاجه من لا يخالطهم. (رواه الترمذي) -بكسر الفوقية والميم، وقيل: بضمهما- في "جامعه" (وقال: حديث حسن) وقد قاله صلى اللَّه عليه وسلم لأبي ذر لما جاء إليه وهو مختفٍ بمكة، فأسلم وأراد المقام معه صلى اللَّه عليه وسلم، وحرص عليه، فعلم صلى اللَّه عليه وسلم أنه لا يقدر عليه، فأمره أن يلحق بقومه عسى أن ينفعهم اللَّه تعالى به، وقال له: "اتق اللَّه حيث كنت. . . " الحديث. ولمعاذ لمَّا بعثه إلى اليمن كما مر آنفًا، وقد امتثل رضي اللَّه عنه هذه الوصية، ومن ثم لما بعثه عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه على عمل. . قدم منه وليس معه شيء، فعاتبته امرأته، فقال لها: (كان لي ضاغط) أي: من يضيِّق عليَّ ويمنعني من أخذ شيءٍ، وأراد ربه عز وجل، فظنت امرأته أن عمر بعث معه رقيبًا، فقامت تشكوه إلى الناس (¬1). وهو جامعٌ لسائر أحكام الشريعة؛ إذ هي لا تخرج عن الأمر والنهي، فهو كل الإسلام؛ لأنه متضمنٌ لما تضمنه حديث جبريل من الإسلام والإيمان والإحسان، ولما تضمنه غيره من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام مما سبق ويأتي، على أن فيه ¬

_ = عنه بعض المتأخرين: ومن ذهَب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو أن الولي أفضل من النبي. . فهو زنديق يجب قتله، والزنديق أكفر من الكافر. اهـ "مدابغي" (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 434) عن سعيد بن المسيب رحمه اللَّه تعالى.

تفصيلًا بديعًا؛ فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام، كلٌّ منها جامعٌ في بابه، ومرتبٌ على ما قبله. أولها: يتعلق بحقوق اللَّه تعالى بالذات، وبغيرها بطريق التبع، وهو التقوى. وثانيها: يتعلق بحق المكلف كذلك. وثالثها: يتعلق بحقوق الناس كذلك. (وفي بعض النسخ) أي: نسخ "الجامع": (حسن صحيح) وهذه العبارة تقع للترمذي في "جامعه" كثيرًا، ولغيره كالبخاري قليلًا، واستشكل الجمع بينهما مع ما بينهما من التضاد: فإن الصحيح: هو الذي اتصل سنده، بأن يكون كلٌّ من رواته سمع ذلك المروي من شيخه، مع اتصاف كلٍّ منهم بالعدالة، وبالضبط، بأن يكون يقظًا متقنًا، ومع السلامة من الشذوذ، بألَّا يخالف الراوي في روايته مَنْ هو أرجحُ منه عند تعسُّر الجمع بين الروايتين، فمتى أثبت الراوي عن شيخه شيئًا فنفاه مَنْ هو أحفظ أو أكثر عددًا أو أكثر ملازمةً منه. . سُمي مرويُّهُ شاذًا، وفي قبول مثل هذا خلافٌ؛ فالفقهاء والأصوليون يقبلونه ويقولون: المثبِت مقدَّمٌ على النافي، والمحدثون ووافقهم الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه يردونه، ويقولون: الجماعة أولى بالحفظ من الواحد؛ أي: لأن تطرُّق السهو إليه أقرب من تطرُّقه إليهم؛ وحينئذٍ فَرَدُّ قولِ الجماعة بقول الواحد. . بعيدٌ. ومع السلامة من العلة القادحة (¬1)؛ كالإرسال الخفي والاضطراب. والحسن لذاته: يشترط فيه هذه الشروط الخمسة إلا في الشرط الثالث، وهو الضبط، فراوي الصحيح يشترط أن يكون موصوفًا بالضبط الكامل كما تقرر، وراوي الحسن لا يشترط أن يبلغ تلك الدرجة وإن كان ليس عَرِيًّا عن الضبط في الجملة. وأما مطلق الحسن: فهو الذي اتصل سنده بالصدوق الضابط المتقن غيرَ تامِّهما، أو بالضعيف بما عدا الكذب إذا اعتضد، مع خلو القسمين عن الشذوذ والعلة. ¬

_ (¬1) قوله: (ومع السلامة من العلة القادحة) عطفٌ على قوله: (ومع السلامة من الشذوذ).

إذا تقرر ذلك. . ظهر وجه استشكال الجمع، وقد أجاب المحدثون عنه بأجوبةٍ كلها مدخولة، كما هي مبينة في شروح "ألفية الحديث" وغيرها. وأقومها: أن ما قيل ذلك فيه: إن كان له سندان. . كان وصفه بالحسن من جهة أحدهما، وبالصحة من جهة الآخر، وحينئذٍ فما قيل فيه: (حسن صحيح) أقوى مما قيل فيه: (صحيح) لأن كثرة الطرق تقوِّيه. وإن كان له إسنادٌ واحدٌ. . كان وصفه بهما من حيث تردد أئمة الحديث في حال ناقله؛ لأن ذلك يحمل المجتهد على أنه لا يصفه بأحد الوصفين، بل يقول: حسن؛ أي: باعتبار وصف ناقله عند قوم، صحيحٌ باعتبار وصفه عند آخرين، وغايته أنه حذف منه حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول فيه: (حسن أو صحيح)، وعلى هذا: فما قيل فيه: (حسن صحيح) دون ما قيل فيه: (صحيح) لأن الجزم أقوى من التردد. وبهذا يعلم أن قول الترمذي كثيرًا: (هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه). . لا ينافي الجواب المذكور، خلافًا لمن زعمه؛ لما علمت أنه إذا قيل ذلك في ذي إسنادٍ واحدٍ. . كان باعتبار اختلاف الأئمة في حال ناقله، أو في ذي إسنادين. . كان باعتبارهما. وأشار المصنف رحمه اللَّه تعالى بقوله: (وفي بعض النسخ. . . إلخ) إلى أن نسخ "الترمذي" تختلف كثيرًا في التحسين والتصحيح، فقد يوجد عقب حديث في نسخةٍ (حسن) وفي أخرى: (حسن صحيح) وفي أخرى: (حسن غريب) وسبب ذلك: اختلاف الرواة عنه لكتابه والضابطين له. ثم تحسينه لهذا الحديث مقدَّمٌ على ترجيح الدارقطني إرسالَه (¬1)؛ للقاعدة المقررة: أن المسنِد لزيادة علمه مقدمٌ على المرسِل. وأما تصحيحه له في تلك النسخة. . فيوافقه قول الحاكم: (إنه على شرط الشيخين) لكن وُهِم بأن ميمونًا أحدَ رواته لم يخرج له البخاري شيئًا، ولم يصح سماعه من أحدٍ من الصحابة، فلم يوجد فيه شرط البخاري، ويؤيد تحسين الترمذي: ¬

_ (¬1) انظر "العلل" (6/ 72).

أنه ورد لهذا الحديث طرقٌ متعددةٌ عند أحمد، والبزار، والطبراني (¬1)، والحاكم، وابن عبد البر (¬2)، وغيرهم يفيد مجموعها حسنه (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في بعض النسخ زيادة: (والدارقطني) والحديث ذكره في "العلل" كما تقدم. (¬2) مسند الإمام أحمد (5/ 153)، ومسند البزار (4022)، والمعجم الكبير (20/ 145)، والمستدرك (1/ 54)، والتمهيد (24/ 84). (¬3) والحاصل: أنه من طريق سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه إسناده صحيح، ومن طريق سيدنا معاذ رضي اللَّه عنه إسناده حسن، ومن طريق سيدنا أنس رضي اللَّه عنه إسناده ضعيف، والمتن صحيح قطعًا، فلا نغترَّ بمن طعن فيه. اهـ "مدابغي"

الحديث التاسع عشر [نصيحة نبوية لترسيخ العقيدة الإسلامية]

الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية] عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: "يَا غُلَامُ؛ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ. . فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ. . فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ. . لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ. . لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬1). وَفَي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: "احْفَظِ اللَّه تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَاَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ: وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرَبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (¬2). (عن) حبر الأمة وبحر العلم أبي الخلفاء وترجمان القرآن (أبي العباس عبد اللَّه بن عباس) عم النبي صلى اللَّه عليه وسلم (رضي اللَّه عنهما) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب وبنو هاشم محصورون فيه قبل خروجهم منه بيسير، وتوفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل: ابن خمس عشرة، وصححه ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2516). (¬2) سيأتي تخريجها (ص 376).

أحمد، وقيل: ابن عشر، ويؤيد الأول: ما صح عنه من قوله في حجة الوداع: (وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام) (¬1). وصح عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "اللهم؛ فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل" (¬2)، "اللهم؛ علمه الحكمة، وتأويل القرآن" (¬3)، "اللهم؛ بارك فيه، وانشر منه، واجعله من عبادك الصالحين" (¬4)، "اللهم؛ زده علمًا وفقهًا" (¬5). وثبت عنه أنه قال: (رأيت جبريل مرتين) (¬6)، وهذا سبب عماه في آخر عمره؛ فإنه ورد أنه سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عمن رآه معه ولم يعرفه، فقال له: "ذاك جبريل، أما إنه سيفقد بصرك" (¬7). وكان عمر يقول: (ابن عباسٍ فتى الكهول، له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عقول) (¬8) وكان يحبه ويدنيه من مجلسه، ويدخله مع كبار الصحابة، ويستشيره، ويعُدُّه للمعضلات. وقال ابن مسعود: (نِعْم ترجمان القرآن ابن عباس، لو أدرك أسناننا. . ما عاشره منَّا أحد) (¬9). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (76)، ومسلم (504). (¬2) أخرجه ابن حبان (7055)، والحاكم (3/ 534)، والإمام أحمد (1/ 266) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه ابن ماجه (166)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 365) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 315)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 86) بدون قوله: "واجعله من. . . "، وذكره ابن عبد البر في "الإستيعاب" (2/ 344) هكذا، وأشار لصحته، والحديث عندهم عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬5) ذكره ابن عبد البر في "الإستيعاب" (2/ 344) وأشار لصحته. (¬6) أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 264). (¬7) أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 236 - 237)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 478)، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" (3/ 340) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬8) أخرجه الحاكم (3/ 539)، والطبراني في "الكبير" (10/ 265)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 318) بنحوه. (¬9) أخرجه الحاكم (3/ 537)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" وجعله خبرين (32883 - 32884). وفي هامش (ج): (أي: ما كان أحدٌ منا يصل إلى مرتبته، بل كان منفردًا لم يبلغ قدره أحدٌ منا).

وقال مسروق: (أدركت خمس مئةٍ من الصحابة إذا خالفوا ابن عباس. . لم يزل يقررهم حتى يرجعوا إلى ما قال، وقال: كنت إذا رأيتَه. . قلتَ: أحلم الناس، وإذا تكلَّم. . قلت: أفصح الناس، وإذا حدَّث. . قلت: أعلم الناس) (¬1). وقال عمرو بن دينار: (ما رأيت مجلسًا أجمع لكل خيرٍ من مجلس ابن عباس) (¬2). وروي: أنه لمَّا وُضِع ليُصلَّى عليه. . جاء طائر أبيض، فوقع على أكفانه ثم دخل، فالتُمس فلم يوجد، فلما سُوِّي عليه. . سُمع قائلٌ يقول: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} الآيةَ (¬3). روي له ألف حديثٍ وستُّ مئةٍ وستون، اتفقا منها على خمسةٍ وتسعين، وانفرد البخاري بثمانيةٍ وعشرين، ومسلم بتسعةٍ وأربعين. مات بالطائف ودفن بها سنة ثمان وستين في خلافة ابن الزبير رضي اللَّه تعالى عنهم، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة سبعين، وصلى عليه محمد ابن الحنفية، وقال: (مات ربانيُّ هذه الأمة) (¬4). ومناقبه رضي اللَّه تعالى عنه أكثر من أن تحصر، وأظهر من أن تشهر؛ لِمَا حفَّه من تلك الدعوات الباهرة، وظهر على غرر فضائله من الخصوصيات الظاهرة، المسبوقة بالتوفيق من الصغر، والمصحوبة بالفقه في الكبر؛ فقد استأذنه صلى اللَّه عليه وسلم وهو على يمينه حين شرب فقال: "أتأذن لي أن أُعطي الأشياخ؟ " أي: أبا بكر وعمر وغيرهما، فقال: واللَّه لا أُوثر بنصيبي منك أحدًا، فتلَّ القدح في يده (¬5). (قال: كنت خلف النبي صلى اللَّه عليه وسلم [يومًا]) (¬6) أي: على دابته؛ كما ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الإستيعاب" (2/ 345). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (1852). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 236)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 329) عن سعيد بن جبير رحمه اللَّه. (¬4) أخرجه الحاكم (3/ 535)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 368). (¬5) أخرجه البخاري (2366)، ومسلم (2030) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه، وقوله: (فتَلَّ القدح) أي: وضعه. (¬6) ما بين معكوفين ساقط من النسخ، ومثبت من نسخ المتن، ومن "الترمذي".

في روايةٍ (¬1)، ففيه جواز الإرداف على الدابة إن أطاقته. (فقال: يا غلامُ) بضم الميم؛ لأنه نكرةٌ مقصودةٌ؛ وهو الصبي من حين يفطم إلى تسع سنين، وسنُّه إذ ذاك كان نحو عشر سنين، وفي رواية: "يا غُلَيِّم" (¬2) وهو تصغير حُنوٍّ وترفُّقٍ أو تعظيمٍ باعتبار ما يؤول إليه حاله. (إني أعلمك كلمات) ينفعك اللَّه بهنَّ؛ كما في رواية أخرى؛ أي: تعلَّمْهن وعلِّمْهن، فيه ذكر العالم للمتعلم أنه يريد أن يعلمه وينبهه على ذلك قبل فعله؛ ليكون أوقع في نفسه، فيشتد تشوقه إليه، وتُقبل نفسه عليه، فهو مقدمةٌ استرعى بها سمعه؛ ليفهم ما يسمع، ويقع منه بموقع، وجاء بها بصيغة القلة (¬3)؛ ليؤذنه بأنها قليلة اللفظ فيسهل حفظها، وآذنه بعظيم خطرها، ورفعة محلها بتنوينها تنوين التعظيم (¬4). وتأهيلُهُ لهذه الوصايا الخطيرة القدر، الجامعة من الأحكام والحِكَم والمعارف ما يفوق الحصر. . دليلٌ أيُّ دليلٍ على أنه صلى اللَّه عليه وسلم عَلِمَ ما سيؤول إليه أمرُ ابن عباسٍ من العلم والمعرفة، وكمال الأخلاق والأحوال الباطنة والظاهرة. (احفظ اللَّه) بحفظ فرائضه وحدوده، وملازمة تقواه، واجتناب نهيه وما لا يرضاه. (يحفظك) في نفسك وأهلك ودنياك ودينك، سيما عند الموت؛ إذ الجزاء من جنس العمل، ومنه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}. وفي "الصحيحين": أنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر البراء بن عازب أن يقول عند منامه: "رب؛ إن قبضت نفسي. . فارحمها، وإن أرسلتها. . فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر "المستدرك" (3/ 541)، و"مسند الإمام أحمد" (1/ 303). (¬2) عند الإمام أحمد (1/ 307) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) قوله: (وجاء بها) أي: بالكلمات. (¬4) قوله: (بتنوينها) أي: بسبب تنوينها تنوين التعظيم. وفي أكثر النسخ: (فتنوينها) بالفاء، ولعله تحريف من النساخ، كما نبه عليه العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى. (¬5) انظر "صحيح البخاري" (6320)، و"صحيح مسلم" (2714) فالحديث بهذا اللفظ هو عن سيدنا =

وهذا من أبلغ العبارات وأوجزها، وأجمعها لسائر أحكام الشريعة قليلها وكثيرها، فهو من بدائع جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم التي اختصَّه اللَّه تعالى بها. وقد مدح اللَّه تعالى الحافظين لحدوده فقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}، وخُصَّت أعمالٌ بالتنصيص على حفظها اعتناءً بشأنها فمنها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآيات، وخبر: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (¬1)، وخبر: "احفظوا أيمانكم" أي: لكثرة الحنث فيها، وخبر: "الاستحياء من اللَّه حق الحياء: أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى" (¬2). (احفظ اللَّه) بما مر (تجده تُجاهَك) أصله: وُجاهك بضم واوه وكسرها، ثم قُلِبت تاءً؛ كما في (تراث) وهو بمعنى أمامك كما في الرواية الآتية؛ أي: تجده معك بالحفظ والإحاطة، والتأييد والإعانة حيثما كنت، فتأنس به وتستغني به عن خلقه، فهو تأكيدٌ لما قبله؛ إذ هو بمعناه المستنبط من الآيات السابقة، وهذا من المجاز البليغ؛ لاستحالة الجهة عليه تعالى، فهو على حدِّ: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فالمعية هنا معنويةٌ لا ظرفية (¬3). وخُصَّ الأمام من بين بقية الجهات الست؛ إشعارًا بشرف المقصد، وبأن الإنسان مسافرٌ إلى الآخرة غير قارٍّ في الدنيا (¬4)، والمسافر إنما يطلب أمامه لا غير، فكان المعنى: تجده حيثما توجهت وتيممت وقصدت من أمر الدين والدنيا. (إذا سألت) شيئًا، أي: أردت سؤاله (فاسأل اللَّه) أن يعطيك إياه: ¬

_ = أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وأما حديث سيدنا البراء رضي اللَّه عنه. . فلفظه مختلفٌ عن هذا، انظره عند البخاري (6311)، ومسلم (2710)، ولعل الشارح رحمه اللَّه تعالى تبع الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 468 - 469) واللَّه أعلم. (¬1) أخرجه ابن حبان (1037)، وابن ماجه (277) عن سيدنا ثوبان رضي اللَّه عنه. (¬2) تقدم تخريجه والكلام عليه (ص 300) في شرح الحديث الثاني عشر. (¬3) كتب بعض السلف إلى أخٍ له: أما بعد؛ فإن كان اللَّه معك. . فمن تخاف؟ وإن كان عليك. . فمن ترجو؟ وقال الحسن رحمه اللَّه تعالى في أهل المعاصي: (هانوا عليه فعصوه، ولو عزُّوا عليه. . لعصمهم). (¬4) في بعض النسخ: (غير ثاوٍ) وهما بمعنًى.

{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} ولا تسأل غيره؛ فإن خزائن الجود بيده، وأزِمَّتها إليه؛ إذ لا قادر ولا معطي ولا متفضِّل غيره، فهو أحق أن يقصد، سيما وقد قسم الرزق وقدَّره لكل أحدٍ بحسب ما أراده له، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه القديم الأزلي وإن كان قد يقع في ذلك تبديل في اللوح المحفوظ بحسب تعليق على شرط، ومن ثَمَّ كان للسؤال فائدة؛ لاحتمال أن يكون إعطاءُ المسؤول معلقًا على سؤاله. وروي: أنه لمَّا نزل قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ}. . قالت الملائكة: هلكت بنو آدم، أغضبوا الرب حتى أقسم لهم على أرزاقهم. وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "إن الروح الأمين ألقى في رُوعي: أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها، فاتقوا اللَّه، وأجملوا في الطلب" (¬1) أي: طلب الحلال، فمع النظر لذلك لا فائدة في سؤال الخلق مع التعويل عليهم؛ فإن قلوبهم كلها بيد اللَّه سبحانه وتعالى يصرفها على حسب إرادته، فوجب ألَّا يعتمد في أمرٍ من الأمور إلا عليه سبحانه وتعالى؛ فإنه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، له الخلق والأمر، وبيد قدرته النفع والضر، وهو على كل شيءٍ قدير، فبقدر ما يميل القلب إلى مخلوقٍ يبعد عن مولاه؛ لضعف يقينه، ووقوعه في هُوَّة الغفلة عن حقائق الأمور التي تيقظ لها أصحاب التوكل واليقين، فأعرضوا عمَّا سواه، وأنزلوا جميع حوائجهم بباب كرمه وجوده؛ لأنه المتكفل لكل متوكلٍ بما يحبه ويتمناه؛ كما قال عز قائلًا: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} مع علمهم بما طلبه اللَّه تعالى من عباده من سؤاله، والرغبة فيما عنده، مع تبشيرهم بالإجابة في قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، ومع ثنائه على مَنْ دعاه بغاية الذِّلة والخضوع والخشوع بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام الشافعي في "مسنده" (895)، والبيهقي في "الشعب" (1141) عن سيدنا المطلب بن حنطب رضي اللَّه عنه.

وفي الحديث: "من لا يسأل اللَّه يغضب عليه" (¬1)، "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شِسْعَ نعله إذا انقطع" (¬2). وخرج المحاملي وغيره: "قال اللَّه تعالى: من ذا الذي دعاني فلم أجبه، وسألني فلم أعطه، واستغفرني فلم أغفر له وأنا أرحم الراحمين؟! " (¬3). ومع محبته لإلحاح السائلين كما جاء في الحديث (¬4)، والمخلوق يغضب وينفر عند أدنى تكرار السؤال عليه، وقد قال تعالى لموسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم: (يا موسى؛ سلني في فى عائك -وجاء: في صلاتك- حتى ملحَ عجينك) (¬5). أللَّه يغضبُ إنْ تركتَ سؤالَهُ ... وبنيُّ آدم حين يسأل يغضبُ (¬6) فشتان ما بين هذين، وسُحقًا وطردًا لمن عَلِق بالأثر وأعرض عن العين. (وإذا استعنت) أي: طلبت الإعانة على أمرٍ من أمور الدنيا والآخرة (فاستعن باللَّه) لما علمت أنه القادر على كل شيء، وغيره عاجزٌ عن كل شيء، حتى عن جلب مصالح نفسه، ودفع مضارِّها، والاستعانةُ إنما تكون بقادرٍ على الإعانة، وأما من هو كَلٌّ على مولاه، لا قدرة له على إنفاذ ما يهواه لنفسه فضلًا عن غيره. . فكيف يُؤهَّل للاستعانة به، أو يستمسك بسببه؟! قال سبحانه وتعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قدَّم المعمول؛ ليفيد الحصر والاختصاص، فمن أعانه تعالى. . فهو المعان، ومن خذله. . فهو المخذول، ومن ثَمَّ كانت (لا حول ولا قوة إلا باللَّه) كنزًا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (658)، والترمذي (3373)، وأبو يعلى (6655) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن حبان (866) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. وفي هامش (ج): (الشِّسْع: الخيط الذي تربط به النعل ليثبت في الرِّجْل). (¬3) ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 480). (¬4) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1069)، والبيهقي في "الشعب" (1073)، والطبراني في "الدعاء" (20) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬5) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 39). (¬6) البيت من الكامل، وقبله: لا تسألنَّ بُني آدم حاجةً ... وسلِ الذي أبوابُهُ لا تُحجب

من كنوز الجنة (¬1)؛ لتضمُّنها براءةَ النفس من حولها وقوتها إلى حول اللَّه وقوته. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: (لا تستعن بغير اللَّه يكلك اللَّه إليه) (¬2). (واعلم أن الأمة) المراد بها هنا: سائر المخلوقين؛ كما صرَّحتْ به رواية أحمد الآتية، وأما مدلولها وضعًا. . فالجماعة، وأتباع الأنبياء، والرجل الجامع للخير المُقتدَى به، والدين، والملَّة؛ نحو: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} والزمان؛ نحو: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} والرجل المنفرد بدينه الذي لم يَشْرَكه أحدٌ فيه؛ كقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "يُبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمةً وحده" (¬3) والأمُّ؛ كـ (هذه أُمّة زيدٍ) أي: أم زيد. (لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ. . لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه) تعالى (لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ. . لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللَّه) تعالى (عليك) كما يشهد لذلك قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} الآيةَ، والمعنى: وحِّد اللَّه تعالى في لحوق الضُّرِّ والنفع؛ فهو الضارُّ النافع، ليس لأحدٍ معه في ذلك شيء؛ لِمَا تقرَّر: أن أَزِمَّة الموجودات بيده منعًا وإطلاقًا، فإذا أراد غيرُك ضرَّك بما لم يُكتَب عليك. . دفعه اللَّه تعالى عنك بصرف ذلك الغير عن مراده بعارضٍ من عوارض القدرة الباهرة مانعٍ من الفعل من أصله: كمرضٍ، أو نسيانٍ، أو صرف قلب، أو من تأثيره: ككسر قوسه، وفساد رميه، وخطأ سهمه. فعلم أن هذا تقريرٌ وتاكيدٌ لما قبله من الإيمان بالقَدَر خيره وشره، وتوحيده سبحانه وتعالى في لحوق الضُّرِّ والنفع على أبلغ برهان (¬4)، وأوضح بيان، وحثٌّ على التوكل والاعتماد على اللَّه سبحانه وتعالى في جميع الأمور. وعلى شهود أنه سبحانه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬2) ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 482). (¬3) أخرجه النسائي في "الكبرى" (8131)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (63/ 6) عن سيدنا عروة بن الزبير رضي اللَّه عنه. (¬4) في بعض النسخ: (بأبلغ برهان).

وتعالى وحده هو المؤثِّر في الوجود، النافع الضار، وغيره ليس له من النفع ولا من الضر شيء. وعلى الإعراض عما سواه (¬1)؛ إذ من تيقَّن ذلك. . لم يشهد ضره ونفعه إلا من مولاه، ولم ينزل حاجته إلا به سبحانه وتعالى، كما وقع لإبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام لمَّا أُلقي في المنجنيق ليُلقى في النار؛ فإن جبريل جاءه حينئذٍ وقال له: ألك حاجة؟ فقال: (أما إليك. . فلا) (¬2). ونعوذ باللَّه من اعتقاد نفعٍ أو ضرٍّ في غيره تعالى؛ فإن ذلك هو عين الشرك الأصغر بل الأكبر كما لا يخفى. وقوله: "كتبه اللَّه لك" و: "كتبه عليك" موافقٌ لما مر من قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد" (¬3). (رفعت الأقلام) أي: تركت الكتابة بها؛ لفراغ الأمر وانبرامه كما سيأتي. (وجفت) بالجيم (الصحف) أي: التي فيها مقادير الكائنات، كاللوح المحفوظ؛ أي: فرغ من الأمر، وجفت كتابته؛ لأن الصحيفة حالَ كتابتها لا بد أن تكون رطبةَ المداد أو بعضه، فلم يمكن بعد ذلك أن يكتب فيها تبديلٌ (¬4) أو نسخٌ لما كتب من ذلك واستقر؛ لمَا أنها أمور ثابتةٌ لا تبدَّل ولا تغيَّر عما هي عليه، فذلك كناية عن تقدُّم كتابة المقادير كلها، والفراغ منها من أمدٍ بعيدٍ، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها. وقد دل الكتاب والسُّنة على ذلك، فمن علم ذلك وشهده بعين بصيرته. . هان عليه التوكل على خالقه، والإعراض عما سواه، ويشهد لذلك الرفعِ والجفافِ: ما رواه ابن العربي بسنده: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "أول ما خلق اللَّه القلم، ثم خلق النون -وهي الدواة- وذلك قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} ثم قال له: اكتب، قال: ¬

_ (¬1) أي: وحث على الإعراض عما سواه. (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (24665) عن معتمر بن سليمان التيمي رحمه اللَّه عن بعض أصحابه. (¬3) انظر ما تقدم (ص 197) وهو قطعة من الحديث الرابع من أحاديث المتن. (¬4) في بعض النسخ: (أن يقع فيها تبديل).

وما أكتب؛ قال: ما كان وما هو كائنٌ إلى يوم القيامة؛ من عملٍ، أو أجلٍ، أو رزقٍ، أو أثرٍ، فجرى القلم بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، ثم ختم العمل، فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقًا أعجب إليَّ منك، وعزتي؛ لأكملنك فيمن أحببتُ، ولأنقصنك فيمن أبغضتُ، ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: أكمل الناس عقلًا أطوعهم للَّه سبحانه وتعالى وأعملهم بطاعته" (¬1). وروى مسلم: "إن اللَّه سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة" (¬2). وفيه أيضًا: يا رسول اللَّه؛ فيم العمل اليوم، أفيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: "بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير" قال: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا؛ فكلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلِق له" (¬3). وأخرج أحمد وأبو داوود والترمذي: "أول ما خلق اللَّه تعالى القلم، ثم قال له: اكتب، [فجرى] في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة" (¬4). قيل: وأول من كتب العربي وغيره آدم، وقيل: إسماعيل هو أول من كتب العربي، وقيل: غيرهما، ولم يصح في ذلك شيءٌ، وقولُ الكلبي: أول من وضع الخط نفرٌ من طيئ. . مردودٌ؛ لأنه لا يوثق بنقله. (رواه) جماعةٌ من عدة طرقٍ عن ابن عباس، وجاء: أنه صلى اللَّه عليه وسلم وصاه بذلك عن علي، وأبي سعيد، وسهل بن سعد (¬5)، وعبد اللَّه بن جعفر، وفي أسانيدها كلها ضعفٌ، قال ابن منده وغيره: وأصح الطرق كلها الطريق التي أخرجها (الترمذي، وقال: حسن صحيح). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (56/ 208)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 269) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح مسلم (2653) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬3) صحيح مسلم (2648) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما. (¬4) مسند الإمام أحمد (5/ 317)، وسنن أبي داوود (4700)، وسنن الترمذي (3319) عن سيدنا عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه. (¬5) في جميع النسخ إلا (و): (وسهل بن سعيد) والصواب ما أثبت، انظر "جامع العلوم والحكم" (1/ 461).

وهو باعتبار طريقيه حديثٌ عظيم الموقع، وأصلٌ كبيرٌ في رعاية حقوق اللَّه تعالى، والتفويض لأمره، والتوكل عليه، وشهود توحيده وتفرده، وعجز الخلق وافتقارهم إليه، وبهذا التقرير يصح أن يدعى في مثل هذا الحديث أنه نصف الإسلام، بل كله؛ لأن التكاليف إما أن تتعلق باللَّه سبحانه وتعالى أو بغيره، وهذا فيه بيانٌ لجميع ما يتعلق به تعالى صريحًا، وبغيره استلزامًا، على أن ذلك كله مفهومٌ من أول جملةٍ فيه، وهي: "احفظ اللَّه يحفظك". وفيه أيضًا: التصريح بجملٍ مستكثرةٍ مما يتعلق بحقوق الآدميين، أشير إليها بذكر الصبر وما بعده، ولذلك أفرد الكلام عليه بتصنيفٍ مستقلٍّ. (وفي رواية غير الترمذي) وهو عبد بن حُمَيْد في "مسنده" لكن بإسناد ضعيف (¬1)، ورواه أحمد، لكن بإسنادين منقطعين، ولفظه: "يا غلام، أو يا غُليم؛ ألا أعلمك كلماتٍ ينفعك اللَّه بهنَّ؟ " فقلت: بلى، فقال: "احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرَّف إلى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت. . فاسأل اللَّه، وإذا استعنت. . فاستعن باللَّه، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعًا أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقضه اللَّه. . لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيءٍ لم يكتبه اللَّه عليك. . لم يقدروا عليه، واعلم أن [في] الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا" (¬2). وهذا أتم من حديث عبد بن حميد الذي ذكره المصنف بقوله: (احفظ اللَّه تجده أمامك) ومر الكلام على ذلك. (تعرف) بتشديد الراء؛ أي: تحبَّب (إلى اللَّه في الرخاء) بالدأب في الطاعات، والإنفاق في وجوه القُرب والمثوبات؛ حتى تكون متصفًا عنده بذلك، معروفًا به. (يعرفك في الشدة) بتفريجها عنك، وجعله لك من كل ضيقٍ فرجًا، ومن كل همٍّ مخرجًا، بواسطة ما سلف منك من ذلك التعرف؛ كما وقع للثلاثة الذين أصابهم المطر، فأووا إلى غارٍ، فانحدرت صخرةٌ فانطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ماذا ¬

_ (¬1) مسند عبد بن حميد (636) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) مسند الإمام أحمد (1/ 307) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا اللَّه سبحانه وتعالى بها فإنه ينجيكم، فذكر كلٌّ منهم سابقةَ عملٍ صالحٍ سبق له مع ربه، فانحدرت الصخرة وخرجوا يمشون. رواه البخاري وغيره (¬1). وقيل: يجوز أن يكون على حذف مضاف؛ أي: تعرف لملائكته في الرخاء بالتزامك لطاعته، وإظهار عبادته يعرفك في الشدة بواسطة شفاعتهم عنده في تفريج كربك وغمك، ويدل لذلك ما في الحديث: (أن من له دعاء حال الرخاء إذا دعا به حال الشدة. . قالت الملائكة: ربنا؛ هذا صوتٌ نعرفه، وإذا لم يدعُ حال الرخاء ودعا حال الشدة. . قالوا: ربنا؛ هذا صوتٌ لم نعرفه) اهـ (¬2) وهذا تكلفٌ، والحديث بتقدير صحته لا يؤيده كما هو ظاهر، فالأَولى: ما تقرر أولًا. ثم كلٌّ من معرفة العبد وربه عامة وخاصة؛ فمعرفة العبد العامة: هي الإقرار بوحدانية اللَّه تعالى وربوبيته، والإيمان به، والخاصة: هي الانقطاع إليه، والأُنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، وشهوده في كل حال. ومعرفته سبحانه وتعالى العامة: هي علمه بعباده، واطلاعه على ما أسَرُّوه وأعلنوه، والخاصة: هي محبته لعبده، وتقريبه إليه سبحانه وتعالى، وإجابة دعائه، وإنجاؤه من الشدائد، فلا يظفر بهذه الخاصة إلا من تحلَّى بتلك الخاصة. (واعلم أن ما أخطأك) من المقادير فلم يصل إليك (لم يكن) مقدرًا عليك (ليصيبك) لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدَّرٌ على غيرك. (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدَّرًا على غيرك (ليخطئك) وإنما هو مقدرٌ عليك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك: أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خيرٍ أو شرٍ، فما إصابتُه لك محتومةٌ. . لا يمكن أن يخطئك، وما أخطأك. . فسلامتك منه محتومة، فلا يمكن أن يصيبك؛ لأنها سهامٌ صائبةٌ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2272) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) ذكر نحوًا منه الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 475) وجعله من كلام سيدنا سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه. وفي هامش (1): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة).

وُجِّهت من الأزل، فلا بد أن تقع مواقعها، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "إن لكل شيءٍ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه" رواه أحمد (¬1). ففي ذلك تقريرٌ وحضٌّ على تفويض الأمور كلها إلى اللَّه سبحانه وتعالى، مع شهود أنه الفاعل لما يشاء، وأن ما قضاه وأبرمه لا يمكن أن يتعدَّى حده المقدر له، وهذا راجعٌ لقوله سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الآيةَ، {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}. واستفيد من ذلك أن كل أمرٍ بالنسبة إلى كل إنسانٍ هو لذاته جائزٌ أن يصيبه وأن يخطئه على جهة الإمكان الخاص، وإنما يتعيَّن أحدهما بتعلق الإرادة والعلم الأزليين به. واختلف المتكلمون فيما إذا تعلق علم اللَّه سبحانه وتعالى بوقوع ممكنٍ أو عدمه؛ هل يبقى خلاف ما تعلق به مقدورًا؟ قيل: نعم، وقيل: لا. ثم مدار هذه الوصية كلها على هذا الأصل؛ إذ ما قبله وما بعده مفرَّعٌ عليه، وراجعٌ إليه؛ فإن من علم أنه لن يصيبه إلا ما كُتب له من خيرٍ وشرٍّ، ونفع وضرٍّ، وأن اجتهاد الخلق كلهم بخلاف المقدور لا يفيد شيئًا ألبتة. . عَلِم أن اللَّه سبحانه وتعالى وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأفْرَدَهُ بالطاعة، وحفظ حدوده، وخافه، ورجاه، وأحبه، وقدَّم طاعته على طاعة خلقه كلهم، وأفرَدَهُ بالاستعانة به، والسؤال له، والتضرع إليه، والرضا بقضائه في حال الشدة والرخاء. وفي رواية: "فإن استطعت أن تعمل للَّه سبحانه وتعالى بالرضا في اليقين. . فافعل، وإن لم تستطع. . فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا" (¬2). وفي أخرى بعد هذا: قلت: يا رسول اللَّه؛ كيف أصنع باليقين؟ قال: "أن ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (6/ 441) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجها هناد في "الزهد" (536) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك" فإذا أنت أحكمت باب اليقين؛ أي: إنَّ تيقُّن القلب بالقضاء المبرم يُعينه على الرضا بما أصابه، وهذا هو الكمال المطلق، فمن لم يصل إليه. . فليتجرَّعِ الصبر؛ فإن فيه خيرًا كثيرًا. وأخرج الترمذي: "أن اللَّه سبحانه وتعالى إذا أحبَّ قومًا. . ابتلاهم، فمن رضي. . فله الرضا، ومن سخط. . فله السخط" (¬1). (واعلم) تنبيهٌ على أن الإنسان في هذه الدار ولا سيما الصالحون معرَّضون للمحن والمصائب، وطروق المنغصات والمتاعب؛ قال اللَّه تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} الآيات، فينبغي للإنسان أن يصبر ويحتسب، ويرضى بالقضاء والقدر، وينتظر وعد اللَّه تعالى له بأن عليه صلوات من ربه ورحمة، وبأنه المهتدي. (أن النصر) من اللَّه سبحانه وتعالى للعبد على جميع أعداء دينه ودنياه إنما يوجد (مع الصبر) على طاعته وعن معصيته، فهو سببٌ للنصر؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ومن خيريَّته لهم كونه سببًا لنصرهم على أعدائهم ونفوسهم، ومن ثَمَّ كان الغالب على مَنِ انتصر لنفسه عدمَ النصر والظفر، وعلى مَنْ صبر ورضي بعلم اللَّه تعالى وحكمِه تعجيلَهما له كما هو المعهود من مزيد كرمه وإحسانه، وجاء في حديثٍ ضعيفٍ: "قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد لهواه" (¬2). (وأن الفَرَج) يحصل سريعًا (مع الكرب) فلا دوام للكرب، وحينئذٍ فيحسن لمن نزل به أن يكون صابرًا محتسبًا، راجيًا سرعة الفرج مما نزل به، حسَنَ الظن بمولاه في جميع أموره؛ فإنه سبحانه وتعالى أرحم به من كل راحمٍ حتى من أمه وأبيه؛ إذ هو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين. (وأن مع العسر يسرًا) كما نطق به قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2396) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 498) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه.

يُسْرًا}، ومن ثم ورد عن جمعٍ من الصحابة وعنه صلى اللَّه عليه وسلم: "لن يغلب عسرٌ يسرين" (¬1) أي: لأن النكرة إذا أُعيدت. . كانت غير الأُولى، والمعرفة إذا أُعيدت. . كانت عين الأُولى غالبًا فيهما، وفهم بعضهم أن الآية من غير الغالب، أو نظر إلى مقابل الأصح الذي تقرر (¬2)، فقال: هما عسران أيضًا: عسر الدنيا ومعه يسر، وعسر الآخرة ومعه يسر، وأخرج البزار وابن أبي حاتم واللفظ له: "لو جاء العسر فدخل هذا الحجر. . لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه" فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية (¬3). ولا ينافي وقوع العسر لنا كما صرحت به هذه الآية عدمَ وقوعه كما صرح به قوله تعالى في آية الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لاختلاف المراد بالعسرين، فالمثبت هو العسر في العوارض الدنيوية التي تطرق العبد مما لا يلائم النفس؛ كضيق الأرزاق، وتوالي المحن والفتن، وأخذ الأموال ظلمًا وجورًا، والمنفي هو العسر بالتكليف بالأحكام الشاقة؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وما تقرر في (مع) في محالِّها الثلاثة من أنها على بابها. . هو الظاهر؛ إذ أواخر أوقات الصبر والكرب والعسر هي أول أوقات النصر والفرج واليسر، فقد تحققت المقارنة بينهما، وتكلَّف بعضهم فقال: إن نظرنا إلى العلم الأزلي. . كانت (مع) على أصلها؛ لاقتران النصر والصبر مثلًا في تعلُّق العلم الأزلي بهما؛ لاستحالة تعلقه بأحدهما قبل الآخر؛ لأنه لا ترتُّب فيه، لكنه يتعلق بان أحدهما سيقع بعد الآخر، وإن نظرنا إلى الوجود الحقيقي؛ يعني وقوع النصر والصبر مثلًا. . كانت (مع) بمعنى (بعد) لأن بينهما تضادًا أو نحوه، فلا تتصور المقارنة بينهما. اهـ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (2/ 528)، والبيهقي في "الشعب" (9541) عن الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى مرسلًا. (¬2) قوله: (أو نظر إلى مقابل الأصح) يعني: أن من قال: هما عُسران أيضًا -أي: كما أن في الآية يسرين- إما لأنه فهم أن الآية من غير القاعدة الأغلبية، أو أنه نظر إلى مقابل الأصح: من أن المعرفة كالنكرة إذا أعيدت. . فهي غير الأول، تأمل. اهـ "مدابغي" (¬3) تفسير ابن أبي حاتم (19395) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه، وانظر "الدر المثور" (8/ 550) فقد عزاه الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى للبزار وغيره.

ويرد ما قاله مع ما فيه من التكلف والتمحُّل بأن النظر لتعلق العلم لا يحسن هنا؛ لأنه لا خصوصية لهذه الثلاثة (¬1)، بل تعلقه بجميع الموجودات تعلقٌ واحدٌ لا تقدم فيه لبعضها على بعضٍ، وعند النظر لهذا لا يكون في تخصيصه صلى اللَّه عليه وسلم المعية بهذه الثلاثة كبيرُ معنًى، وكلامه الشريف البالغ أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة بعد القرآن يجِلُّ عن ذلك. وأما النظر للوجود الحقيقي، وزعم أن (مع) حينئذٍ بمعنى (بعد) وأن المقارنة متعذرة؛ لما بينهما من التضاد أو شبهه. . فجميعه في محل المنع؛ لأنه مجرد دعوى لا دليل عليها؛ لما تُلِيَ عليك قبلُ من صحة كونها على بابها، وبيان وقوع المقارنة بينهما بالاعتبار السابق الدافع لدعوى تضادٍّ أو شبهةٍ بينهما. ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب وأليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتد وتناهى. . أَيِس العبد من جميع المخلوقين، وتعلَّق قلبه باللَّه سبحانه وتعالى وحده، وهذا هو حقيقة التوكل، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. * * * ¬

_ (¬1) في أكثر النسخ: (لهذه به).

الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان] عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرو الأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامَ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذاَ لَمْ تَسْتَحْي. . فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). (عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري) الخزرجي البجاري (¬2) (البدري رضي اللَّه عنه) نسبةً إلى بدرٍ سكنًا لا شهودًا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على الأصح الذي قال به الجمهور، لكن الذي ذهب إليه البخاري ومسلم وغيرهما أنه شهدها. نعم؛ شهد العقبة الثالثة مع السبعين، وكان أصغرَهم، وأُحُدًا وما بعدها من المشاهد، ونزل الكوفة وابتنى بها دارًا، وتوفي بالمدينة، وقيل: بالكوفة سنة إحدى أو اثنتين وأربعين، وقيل: في خلافة علي، وقيل: آخرَ خلافة معاوية. روي له مئة حديثٍ وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بسبعة. (قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى) أي: مما اتفقت عليه الشرائع؛ لأنه جاء في أولاها، ثم تتابعت بقيتها عليه، فالحياء لم يزل في شرائع الأنبياء الأولين ممدوحًا ومأمورًا به لم ينسخ في شرع، وفي حديث: "لم يدرك الناس من كلام النبوة الأولى إلا هذا" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6120). (¬2) نسبة إلى بني الأبجر بموحدة وجيم. اهـ هامش (ج) (¬3) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (1/ 497) وعزاه لحميد بن زنجويه.

(إذا لم تستحي) (¬1) من (حيي أو استحيى) فهو مستحْيٍ ومستحٍ (فاصنع ما شئت) أي: فإنك ستُجازى عليه، فهو أمر تهديدٍ ووعيدٍ لمن ترك الحياء، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، أو المراد به: الخبر، كقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "فليتبوأ مقعده من النار" (¬2). ومعناه: أن عدم الحياء يوجب الاستهتار والانهماك في هتك الأستار، أو المراد: ما لا يستحى من اللَّه ولا من الناس في فعله إذا ظهر. . فافعله، وإلَّا. . فلا، فهو أمر إباحة، والأول أَولى وأظهر، ولم يذكر أحدٌ في هذه الآية غيره فيما نعلم. فعلم أن الحياء من أشرف الخصال، وأكمل الأحوال، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم: "الحياء خيرٌ كله، الحياء لا يأتي إلا بخير" (¬3)، وجاء أنه صلى اللَّه عليه وسلم (كان أشد حياءً من البكر في خدرها) (¬4)، وصح: "إن الحياء شعبةٌ من الإيمان" (¬5). وفي حديثٍ ضعيفٍ: "إذا أراد اللَّه بعبدٍ هلاكًا. . نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء. . لم تلقه إلا مقيتًا مُمقَّتًا -وفي رواية: إلا بغيضًا مبغضًا- فإذا كان مقيتًا ممقَّتًا. . نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنًا مخونًا، فإذا كان خائنًا مخونًا. . نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا. . نزع منه ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع منه ربقة الإيمان من عنقه. . لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا ملعنًا" (¬6). لكن ينبغي أن يراعَى فيه القانون الشرعي؛ فإن منه ما يذم شرعًا؛ كالحياء المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود شروطه؛ فإن هذا جبنٌ لا حياء، ¬

_ (¬1) قوله: (لم تسحي) بحذف الياء وإثباتها، ويكون الجازم حذف الياء الثانية؛ لأنه من (استحيى) والأول من (استحى) ولعله نظر إلى أصل المادة، ثم إن الرواية: "لم تستحي" بإسكان الحاء وكسر الياء خلافًا لما يوهمه ظاهر كلام الشارح ملا علي قاري. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه البخاري (108)، ومسلم (2) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه البخاري (6117)، ومسلم (37) عن سيدنا عمران بن الحصين رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه البخاري (3562)، ومسلم (2320) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه ابن ماجه (4045) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما، والبيهقي في "الشعب" (7328) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما بالفاظ مقاربة. والرِّبقة: العروة، والمراد: العهد والميثاق.

ومثله الحياء في العلم المانع من سؤاله عن مهمات المسائل في الدين إذا أشكلت عليه، ومن ثَمَّ قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: (نِعْمَ النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهنَّ الحياء أن يسألن عن أمر دينهن) (¬1). وفي حديث: "إن ديننا هذا لا يصلح لمستحي -أي: حياء مذمومًا- ولا لمتكبر" (¬2). ثم الحياء بالمد: انقباضٌ وخشيةٌ يجدها الإنسان من نفسه عندما يُطَّلَع منه على قبيح، وحُدَّ أيضًا بأنه: خُلُقٌ يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وحدَّه إمام العارفين وسيد الطائفة أبو القاسم الجنيد قدس اللَّه روحه بأنه: (رؤية الآلاء -أي: النِّعم- ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى حياء) (¬3). وأصله غريزيٌّ، وتمامه مكتسبٌ -كما أفاده بعض الأحاديث السابقة- من معرفة اللَّه سبحانه وتعالى، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا هو الذي كُلِّفنا به، وهو من أعلى خصال الإيمان، بل من أعلى درجات الإحسان، وقد يتولَّد الحياء من اللَّه سبحانه وتعالى من مطالعة نعمه، ورؤية التقصير في شكرها، كما أشار إليه الجنيد بما قدمناه عنه آنفًا؛ بخلاف الأول (¬4)؛ لأنه ليس في الوسع، لكنه لكونه من أجلِّ الأخلاق التي يحبها اللَّه سبحانه وتعالى من العبد ويجبله عليها. . يحمل على المكتسب ويعين عليه، ولهذا قال صلى اللَّه عليه وسلم: "الحياء لا يأتي إلا بخير" أي: لأن من استحيى من الناس أن يروه يأتي بقبيحٍ. . دعاه ذلك إلى أن يكون أشد حياءً من ربه وخالقه عز وجل، فلا يضيع فريضة، ولا يرتكب معصية. ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم لمن رآه يعاتب أخاه في الحياء: "دعه؛ فإن الحياء من الإيمان" (¬5) أي: من أسباب أصل الإيمان وأخلاق أهله؛ لمنعه من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (332/ 61)، وأبو داوود (314)، وابن ماجه (642) بنحوه. (¬2) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير" (2/ 204). (¬3) أخرجه البيهقي في "الشعب" (7348)، وذكره الإمام القشيري رحمه اللَّه تعالى في "الرسالة" (ص 170). (¬4) في هامش (ج): (أي: الغريزي). (¬5) أخرجه البخاري (24)، ومسلم (36) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.

الفواحش وحمله على البِرِّ والخير كما يمنع الإيمان صاحبه من ذلك (¬1). فعلم أن أول الحياء وأولاه الحياء من اللَّه سبحانه وتعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، وأن كماله إنما ينشأ عن معرفته سبحانه وتعالى ومراقبته المعبر عنها بـ: "أن تعبد اللَّه كأنك تراه". ومن ثَمَّ روى الترمذي أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "استحيوا من اللَّه حق الحياء" قالوا: إنا نستحيي والحمد للَّه، فقال: "ليس ذاك، ولكن الاستحياء من اللَّه حقَّ الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى (¬2)، وأن تذكر الموت والبِلى، فمن فعل ذلك. . فقد استحيى من اللَّه حق الحياء" (¬3). وأهل المعرفة في ذلك يتفاوتون بحسب تفاوت أحوالهم، وقد جمع اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم كمال نَوْعيه، فكان في الحياء الغريزي أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها، وفي الكسبي واصلًا إلى أعلى غايته وذروتها. (رواه البخاري) (¬4) وبما تقرر في شرحه يُعلم أن عليه مدار الإسلام، وبيانه: أن فعل الإنسان إما أن يُستحيى منه، أو لا، فالأول: الحرام، والمكروه، والثاني: الواجب، والمندوب، والمباح، فقد تضمن الأحكام الخمسة ولم يشذَّ عنه منها شيءٌ. * * * ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (يمنعه من الفواحش ويحمله على. . .). (¬2) في النسخ جميعها إلا (د): (الرأس وما حوى، والبطن وما وعى)، والمثبت من (د) ومن "سنن الترمذي". (¬3) سنن الترمذي (2458) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، وانظر ما تقدم (ص 300). (¬4) قوله: (رواه البخاري) في (بني إسرائيل)، وقضية صنيع المؤلف: أنه رواه هكذا من غير زيادة ولا نقص، وأقره عليه جميع الشراح، وانه لشيء عجاب! فإن رواية البخاري ليس فيها ذكر لفظ (الأولى)، لكنها ثابتةٌ في رواية أحمد وأبي داوود وابن ماجه عن الصحابي المذكور، ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث حذيفة، والعجب من المؤلف مع جلالته وتبحره في علم السنة كيف وقع في ذلك؟! "مناوي على المتن" اهـ "مدابغي"

الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لب الإسلام]

الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام] عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقِيلَ: أَبِي عَمْرَةَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي عمرو) بالواو (وقيل: أبي عمرة) بالهاء (سفيان) بتثليث أوله (ابن عبد اللَّه الثقفي رضي اللَّه) تعالى (عنه) معدودٌ من أهل الطائف، وكان عاملًا لعمر رضي اللَّه تعالى عنه عليه حين عزل عنه عثمان بن أبي العاص. روى له مسلم هذا الحديث والترمذي والنسائي وابن ماجه (¬2). (قال: قلت: يا رسول اللَّه؛ قل لي في الإسلام) أي: في دينه وشريعته (قولًا) جامعًا لمعاني الدين، واضحًا في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأكتفي به بحيث (لا أسأل) أي: لا يُحوِجني؛ لما اشتمل عليه من بديع الإحاطة والشمول، ونهاية الإيضاح والظهور إلى أن أسأل (عنه أحدًا غيرك، قال: قل: آمنت باللَّه) أي: جدِّد إيمانك متذكرًا بقلبك، ذاكرًا بلسانك؛ لتستحضر تفاصيل معاني الإيمان الشرعي التي مرت في حديث جبريل. (ثم استقم) على عمل الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيءٍ من الاعوجاج؛ فإنها ضده، وهاتان الجملتان منتزعتان من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآيةَ؛ أي: آمنوا به ووحَّدوه مع ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (38). (¬2) سنن الترمذي (2410)، وسنن النسائي الكبرى (11425)، وسنن ابن ماجه (3972).

شهود ألوهيته وتربيته لهم، ثم استقاموا واعتدلوا على ذلك وعلى طاعته عقدًا وقولًا وفعلًا، وداموا على ذلك إلى أن يتوفَّاهم عليه. ويؤيد ذلك قول عمر رضي اللَّه عنه: (استقاموا واللَّه على طاعته ولم يروغوا روغان الثعالب) (¬1)، وقول أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه: (لم يشركوا باللَّه شيئًا (¬2)، ولم يلتفتوا إلى إلهٍ غيره) (¬3)، أو: استقاموا على أن اللَّه ربهم. وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: (استقاموا على شهادة أن لا إله إلا اللَّه) (¬4) وكذا قاله جماعة آخرون. والمراد بذلك كله (¬5): الاستقامة على التوحيد الكامل، وهو مستلزمٌ للتحقق بجميع ما قلناه أولًا، ويؤيده: أنه جاء عن أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه أنه فسَّرها أيضًا: بأنهم لم يلتفتوا إلى غير اللَّه تعالى، وهذا هو غاية الاستقامة ونهايتها. وجاء في حديثٍ آخر: "أيها الناس؛ إنكم لن تعملوا ولن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا" (¬6) والسداد: هو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، والإصابة في جميعها هي الاستقامة، فلو فعلوا ذلك. . لكانوا فعلوا ما أُمروا به كله، فالاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف والأحوال، وصفاء القلوب في الأعمال، وتنزيه العقائد عن سفاسف البدع والضلال (¬7). ومن ثَمَّ قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: (من لم يكن مستقيمًا في حاله. . ضاع سعيه، وخاب جده) (¬8). ونقل: (أنه لا يطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المألوفات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى على ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (601)، وابن المبارك في "الزهد" (325). (¬2) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (326). (¬3) أخرجه الحاكم (2/ 440). (¬4) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 322) وعزاه لعبد بن حميد. (¬5) في بعض النسخ: (وكذا قال جماعةٌ آخرون: المراد بذلك). (¬6) أخرجه أبو داوود (1096)، والإمام أحمد (4/ 212)، وأبو يعلى (6826) عن سيدنا الحكم بن حزن رضي اللَّه عنه. (¬7) قوله: (سفاسف البدع) قال الجوهري: والسفساف: الرديء من كل شيء، والأمر الحقير. اهـ "مدابغي" (¬8) الرسالة القشيرية (ص 160).

حقيقة الصدق) (¬1)؛ ولعزتها أخبر صلى اللَّه عليه وسلم أن الناس لن يطيقوها، فقد أخرج أحمد: "استقيموا ولن تطيقوا" (¬2). (رواه مسلم) وهو من بدائع جوامع الكلم التي اختصَّه اللَّه تعالى بها؛ فإنه صلى اللَّه عليه وسلم جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين جميع معاني الإيمان والإسلام اعتقادًا وقولًا وعملًا، كما أشرنا إلى ذلك كله في تقريرهما. وحاصله: أن الإسلام توحيدٌ وطاعةٌ، فالتوحيد حاصلٌ بالجملة الأولى، والطاعة بجميع أنواعها في ضمن الجملة الثانية؛ إذ الاستقامة: امتثال كل مأمورٍ، واجتناب كل منهيٍّ، ومن ثَمَّ قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما في قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}: (ما نزل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشدَّ ولا أشقَّ عليه من هذه الآية) (¬3) ولذلك قال صلى اللَّه عليه وسلم لأصحابه جمن قالوا له: قد أسرع إليك الشيب: "شيبتني هود وأخواتها" (¬4)، وأخرج ابن أبي حاتم: لما نزلت هذه الآية. . (شمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فما رُئي ضاحكًا) (¬5). وزاد الترمذي في هذا الحديث زيادةً مهمةً وقال: حسن صحيح، وهي: قلت: يا رسول اللَّه؛ ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: "هذا" (¬6) أي: تنبيهًا على أنَّ أعظمَ ما يُراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسانُ؛ فإنه ترجمان القلب، والمعبر به، ومن ثم أخرج أحمد: "لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (¬7). * * * ¬

_ (¬1) الرسالة القشيرية (ص 161). (¬2) مسند الإمام أحمد (5/ 276) عن سيدنا ثوبان رضي اللَّه عنه. (¬3) انظر "شرح الإمام النووي على مسلم" (2/ 9). (¬4) أخرجه أبو يعلى (880)، والطبراني في "الكبير" (17/ 286) عن سيدنا أبي جحفة رضي اللَّه عنه. (¬5) ذكره الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور" (4/ 480) وعزاه لابن أبي حاتم. (¬6) سنن الترمذي (2410) عن سيدنا سفيان بن عبد اللَّه الثقفي رضي اللَّه عنه. (¬7) مسند الإمام أحمد (3/ 198) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات] عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وَمَعْنَى: "حَرَّمْتُ الْحَرَامَ": اجْتَنَبْتُهُ، وَمَعْنَى: "أَحْلَلْتُ الْحَلَالَ": فَعَلْتُهُ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ، واللَّهُ أَعْلَمُ. (عن أبي عبد اللَّه) ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد (جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حرام بمهملتين (الأنصاري) الخزرجي السَّلَمي بفتح السين واللام (رضي اللَّه) تعالى (عنهما) فأبوه صحابي، شهد العقبة -وهو أحد النقباء الاثني عشر- وبدرًا، واستشهد بأُحد، وأمه صحابية. شهد جابر العقبة الثانية مع أبيه صغيرًا، رُوي عنه أنه قال: (لم أشهد بدرًا ولا أُحدًا، منعني أبي، فلمَّا قتل أبي بأُحد. . لم أتخلَّف عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في غزوةٍ قط) أخرجه مسلم (¬2)، ولا ينافيه قول البخاري: إنه كان ينقل الماء يوم بدر (¬3)، وجمع بأنه شهدها صغيرًا؛ فلذلك لم يعدَّ في البدريين، وكذا يقال فيمن قال: إنه شهد أُحدًا. استغفر له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم (¬4)، وحضر مع عليٍّ، وقدم الشام ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (15/ 18). (¬2) صحيح مسلم (1813). (¬3) التاريخ الكبير (2/ 207). (¬4) أخرجه الحاكم (3/ 565)، والترمذي (3852) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه قال: (استغفر لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ليلة البعير خمسة وعشرين مرة) أي: ليلة اشترى صلى اللَّه عليه وسلم منه البعير.

ومصر، ثم لازم المدينة، وهو من الحفَّاظ المكثرين في الرواية، وممَّن طال عمره حتى كثر الأخذ عنه، وعمي آخرَ عمره. وتوفي عن أربعٍ وتسعين سنةً، سنةَ ثلاثٍ وسبعين، وقيل: ثمان وستين (¬1)، يقال: إنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة. روي له ألفٌ وخمسُ مئة حديثٍ وأربعون حديثًا؛ اتفقا منها على ثمانيةٍ وخمسين، وانفرد البخاري بستةٍ وعشرين، ومسلم بمئةٍ وستةٍ وعشرين. (أن رجلًا) هو النعمان بن قوقل، بقافين مفتوحتين، بينهما واو ساكنة، وآخره لام، (سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أرأيت) من الرأي؛ أي: أترى وتُفتي بأني (إذا صليت المكتوبات) الخمس، من (كتب) بمعنى فرض وأوجب (وصمت رمضان) مر في شرح (الحديث الثاني) أن الأصح عندنا: أنه لا كراهة مطلقًا في ذكره عَرِيًّا عن الشهر كما هنا (¬2). (وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئًا) من التطوعات، وكأنه لم يذكر الزكاة والحج؛ لعدم فرضهما إذ ذاك، أو لكونه لم يخاطب بهما (أأدخل الجنة؟) (¬3) أي: من غير عقابٍ كما هو ظاهرٌ من السياق والقواعد، إذ مطلق دخولها إنما يتوقف على التوحيد فقط؛ كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأما ما ثبت في أحاديث صحيحةٍ أيضًا من أن بعض الكبائر يمنع دخولها، كقطع الرحم، والكِبْر، والدَّيْن حتى يُقضى. . فمعناها: لا يدخلونها مع الناجين؛ لما صح: أن المؤمنين إذا جازوا على الصراط. . حُبسوا على قنطرةٍ حتى يقتصَّ منهم مظالم كانت بينهم في الدنيا (¬4). (قال: نعم) تدخلها كذلك، فيه جواز ترك التطوعات رأسًا، وإن تمالأ عليه ¬

_ (¬1) كذا في النسخ، وفي وفاته رضي اللَّه عنه خلاف، انظر "الإستيعاب" (1/ 223)، و"الإصابة" (1/ 215)، و"تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 143). (¬2) انظر ما تقدم (ص 149). (¬3) في بعض النسخ: (أدخل الجنة) بحذف همزة الاستفهام. (¬4) أخرجه البخاري (2440) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.

أهل بلدٍ. . فلا يُقاتَلون، ومن قال: يقاتلون. . يحتاج لدليل، وكونه صلى اللَّه عليه وسلم (كان إذا سمع الأذان في بلدٍ. . لم يُغِرْ عليه، وإلَّا. . أغار) (¬1) لا يدل لذلك؛ لأن الأذان إذ ذاك كان علامةً على الإسلام، على أنه جرى لنا فيه قولٌ شهيرٌ: إنه فرض كفاية، فلو سُلِّم أن القتال كان على تركه. . لم يكن فيه دليلٌ على القتال على ترك السُّنة المتفق على كونها سنةً. نعم؛ في ترك التطوعات التي شُرعت لجبر نقص الفرائض، والزيادةِ المتقرب بها إلى اللَّه سبحانه وتعالى حتى يُحِب فاعلَها، فإذا أحبَّه. . كان سمعه الذي يسمع به. . . الحديث المشهور (¬2). . تفويتٌ لربحها العظيم، وثوابها الجسيم، وإسقاطٌ للمروءة، وردٌّ للشهادة؛ لأن مداومة تركها تدل على نوع تهاونٍ بالدِّين. نعم؛ إن قصد بتركها الاستخفافَ بها والرغبة عنها. . كفر، وإنما ترك صلى اللَّه عليه وسلم تنبيهَهُ عليها تيسيرًا وتسهيلًا عليه؛ لقرب عهده بالإسلام وخشيةً من نفرته لو أكثر عليه، مع العلم بأنه إذا تمكَّن الإسلام من قلبه. . شرح اللَّه تعالى صدره، ورغب فيما رغب فيه بقية الصحابة من مثابرتهم على التطوعات؛ كمثابرتهم على الفرائض اغتنامًا لما جاء من عظيم ثوابها. ونظير هذا: من سأله صلى اللَّه عليه وسلم عن الصلوات، فقال له: "خمس" فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" ثم سأله عن جملةٍ من الشرائع وهو يجيبه بالواجب فيقول: هل عليَّ غيرها؟ فيقول: "لا، إلا أن تطوع" فقال: واللَّه لا أتطوع شيئًا ولا أنقص مما فرض اللَّه تعالى عليَّ شيئًا (¬3)، وفي رواية: لا أزيد على هذا (¬4)؛ أي: شيئًا من التطوع، وليس مراده أنه لا يعمل بشيءٍ من شرائع الإسلام غير ما ذكر؛ بدليل الرواية السابقة: ولا أنقص، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أفلح إن صدق" (¬5)، وفي رواية: "إن تمسَّك بما أُمِر به. . دخل الجنة" (¬6) وسُمي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (382)، وابن خزيمة (400)، وابن حبان (4753) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬2) سيأتي تخريجه والكلام عليه (ص 596) وهو الحديث الثامن والثلاثون من أحاديث المتن. (¬3) أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11) عن سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجها البخاري (1397) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البخاري (1891) عن سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه. (¬6) عند مسلم (13) عن سيدنا أبي أيوب رضي اللَّه عنه.

مفلحًا؛ لأن المحافظة على الفرائض وحدها فلاحٌ أيُّ فلاح، وضم التطوع إليها إنما هو زيادةٌ في الفلاح. قيل: ومن المعلوم أن هذا ونحوه لا يسوغ لهم ترك الوتر، ولا ترك صلاة العيدين، ولا غير ذلك مما فعله النبي صلى اللَّه عليه وسلم في جماعةٍ من المسلمين. اهـ وهو مجرد دعوى قصد به الاستدلال على وجوب نحو صلاة العيد والوتر، ولا دليل فيه لذلك؛ إذ قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا، إلا أن تطوع". . صريحٌ في عدم وجوب الوتر والعيد وغيرهما، لا عينًا ولا كفاية، فمن ثَمَّ أخذ به الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه. (رواه مسلم) وهو جامعٌ للإسلام أصولًا وفروعًا؛ لأن أحكام الشريعة إما قلبيةٌ، أو بدنيةٌ، وعلى التقديرين: إما أصليةٌ، أو فرعيةٌ، فهي أربعةٌ بحسب القسمة، ثم جميعها إما مأذونٌ فيه وهو الحلال، أو ممنوعٌ منه وهو الحرام. و (اللام) في (الحلال) (¬1) -والمراد به: المأذون في فعله، واجبًا كان، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا- وفي (الحرام) للاستغراق، فإذا أحلَّ كلَّ حلالٍ وحرَّم كل حرامٍ. . فقد أتى بجميع وظائف الشرع، وذلك مستقلٌّ بدخول الجنة. (ومعنى) قوله: (حرمت الحرام: اجتنبته، ومعنى) قوله: (أحللت الحلال: فعلته معتقدًا حله [واللَّه أعلم]) (¬2) فيه نظر، وأوجه منه قول ابن الصلاح: (الظاهر: أنه قصد به اعتقاد حرمته، وألَّا يفعله، بخلاف تحليل الحلال؛ فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاد كونه حلالًا وإن لم يفعله) اهـ (¬3)، ويوجَّه بأنا لسنا مكلَّفين بفعل الحلال من حيث ذاته، بل لمصالح تترتب على فعله، فلم يكن فعله مشترطًا في دخول الجنة، بخلاف الحرام؛ فإنا مكلَّفون باجتنابه، وباعتقاد تحريمه لذاته فيهما من غير نظرٍ لما يترتب عليه. * * * ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (واللام في الحلال للجنس. . .). (¬2) ما بين معقوفين زيادة من نسخ المتن. (¬3) انظر "صيانة صحيح مسلم" (ص 145).

الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير] عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ تَمْلَآنِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبقُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي مالك الحارث) هذا أحد أقوال عشرة في اسمه (ابن عاصم) وفي نسخة: (عامر) وهما قولان، وفيه أقوال أخر غيرهما (الأشعري رضي اللَّه عنه) روى له مسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكذا البخاري، لكن على الشك (¬2)، وروى عنه جابر بن عبد اللَّه وغيره. مات في خلافة عمر رضي اللَّه تعالى عنهم بطعن (¬3)، هو ومعاذ، وأبو عبيدة، وشُرحبيل في يومٍ واحدٍ. (قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: الطهور) هو بالفتح للمبالغة كضروب، الأبلغ من ضارب، أو اسم آلةٍ لما يتطهر به كسحور، وبرود، وسنون، لما يتسحَّر به، أو يتبرَّد به، أو يستن به، وبالضم الفعل، كالوَضوء بالفتح للآلة، وبالضم للفعل، والمراد هنا: المضموم؛ إذ لا دخل لغيره في الشطرية الآتية إلا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (223). (¬2) حيث قال في الحديث (5590): (حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري. . .). (¬3) أي: بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة. اهـ هامش (غ)

بتكلُّفٍ، وهو -أعني المضموم كالطهارة، مصدران (¬1) - من (طهَر) بفتح هائه وضمها (يطهُر) بضمها لا غير، لغةً: التنزُّه عن الدنس الحسي والمعنوي، وشرعًا: فعل ما يترتب عليه زوال حدثٍ؛ كالغسلة الأولى في الوضوء والغسل، أو ثواب مجرد؛ كالغسلة الثانية والوضوء والغسل المسنونين. (شطر) أي: نصف (الإيمان) الكامل بالمعنى الأعم، المتركب من ثلاثة أجزاء: تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الأركان، وهو وإن كثرت خصاله وتعدَّدتْ أحكامه لكنها منحصرةٌ فيما ينبغي التنزُّه والتطهر عنه، وهو كل منهيٍّ عنه، وما ينبغي التلبس به، وهو كل مأمورٍ به، فهو شطران، والطهارة بالمعنى اللغوي الذي قررناه شاملةٌ لجميع الشطر الأول، فاتضح كون الطهور المرادف للطهارة شطرَ الإيمان، فهو نظير خبر: "الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر" (¬2). فإن قلت: هذا كله إنما يأتي بالنظر للمضموم كما تقرر، والضم لم يروه أحدٌ، وإنما المروي الفتح كما قاله القرطبي (¬3)، وهو إما للمبالغة أو الآلة، وعليهما فتشكل الشطرية. قلت: هذا النفي ممنوعٌ؛ كيف والضم هو المختار وقول الأكثرين كما قاله المصنف رحمه اللَّه تعالى؟! (¬4) وغاية ما فيه: أنهم جوزوا الفتح، فإما أن يكون المفتوح مصدرًا أيضًا كالمضموم، وهو رأي الخليل، وإما ألَّا يكون بمعناه، وهو الأصح، فيحمل على المضموم ويراد به: استعمالُ الطهور شطر الإيمان، فعلى كلٍّ لا تخالف هنا بين المفتوح والمضموم بالمعنى الذي قررناه. وأما حمل المصنف الطهور على معناه الشرعي وهو الوضوء. . فنظر فيه من وجهين (¬5): ¬

_ (¬1) قوله: (مصدران) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهما مصدران. اهـ هامش (ج) (¬2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (159)، والخرائطي في "فضيلة الشكر" (18) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) المفهم (1/ 475). (¬4) شرح صحيح مسلم (3/ 100). (¬5) انظر "شرح صحيح مسلم" (3/ 100 - 101).

أحدهما: أنه لا يتضح حينئذٍ معنى الشطرية إلا بادعاء أنه ينتهي تضعيف الأجر فيه إلى نصف الإيمان (¬1)، وهذا وإن قيل به إلا أنه يحتاج إلى دليل. ثانيهما: أن الطهور لا ينحصر في الوضوء، بل يعم الغسل والتيمم والطهارة من الخبث، وليس واحدٌ من هذينِ النَّظَرينِ في محله؛ كيف ورواية ابن ماجه وابن حبان في "صحيحه": "إسباغ الوضوء شطر الإيمان" (¬2)، ورواية الترمذي: "والوضوء شطر الإيمان" (¬3)؟ وحينئذٍ فيقال: يحتمل أن معناه: أنه تمام الشطر، لا أنه كل الشطر؛ لما مر. أو المراد بالوضوء فيه: معناه اللغوي، وهو يرجع لمعنى الطهارة الذي قررناه أولًا، لكن يُعَكِّر عليه رواية: "إسباغ الوضوء" فإنها نصٌّ في أن المراد به: الوضوء الشرعي، فإن حُمل الطهور على الوضوء، والوضوء على معناه الشرعي، والشطر على مطلق الجزء. . اتضح هذا المقام، وزال الإشكال. واستعمال الشطر في مطلق الجزء تجوزًا أَولى من إخراج الطهور والوضوء عن معناهما الشرعي الذي ذهب إليه الأكثرون، وفهمه منه مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم حيث خرَّجوه في أبواب الوضوء. فإن قلت: يُعَكِّر على تفسير الشطر بالخُمُس أو الجزء حديثُ أحمد: "والطهور نصف الإيمان" (¬4). قلت: النصف يطلق ويراد به أحد قسمي الشيء، فإن كل شيءٍ تحته نوعان، فأحدهما نصفٌ له وإن لم يتحد عددهما، ومنه حديث: "قسمت الصلاة -أي: قراءتها- بيني وبين عبدي نصفين" (¬5) أي: نصفٌ عبادةٌ إلى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو حق الرب، ونصفٌ مسألةٌ إلى آخرها، وهو حق العبد، فهما نصفان مع أن أحدهما أزيدُ كلماتٍ من الآخر. ¬

_ (¬1) يعني: أن أجر الوضوء يعدل بالتضعيف نصف أجر الإيمان. (¬2) سنن ابن ماجه (280)، وصحيح ابن حبان (844) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن الترمذي (3517) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬4) مسند الإمام أحمد (4/ 260) عن رجل من بني سليم. (¬5) أخرجه مسلم (395)، وابن خزيمة (502)، وابن حبان (1784) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

ومنه قول العرب: نصف السَّنة حضرٌ، ونصفها سفرٌ؛ أي: تنقسم لزمانين وإن تفاوتت مدتهما. وقول شريح وقد قيل له: (كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ونصف الناس عليَّ غضبان) يريد أنه بين محكومٍ له راضٍ، ومحكومٍ عليه غضبان، فهما جزآن مختلفان (¬1). وقول الشاعر: إذا مت كان الناسُ نصفين شامتٌ ... وآخر مُثْنٍ بالذي كنت أفعلُ أي: ينقسمون قسمين. وخبر: "إنها -أي: الفرائض، وهي قسمة المواريث- نصف العلم" (¬2) أي: أن أحكام المكلفين نوعان: نوعٌ يتعلق بالحياة، ونوعٌ يتعلق بالموت. وقول مجاهد: (المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء) (¬3) أي: أنه نوعان: نوعٌ يطهر بعض الباطن، ونوعٌ يطهر بعض الظاهر، وهو ما عداهما. فإن قلت: هل يصح أن يراد بالشطر هنا الخمس؛ فإنه صح استعماله له صلى اللَّه عليه وسلم فيه في حديث الإسراء في مراجعته لربه حين فرض الصلاة خمسين (¬4) وراجعه مرارًا متعددةً بقوله: "فوضع شطرها" ثلاثًا (¬5)؛ إذ لو كان المراد بالشطر فيه النصف. . لفرغت الخمسون في المرة الثانية، فتعيَّن أن المراد به: الخُمُس، ومن ثَمَّ جاء في رواياتٍ أخر: "فوضع عنِّي عشرًا" (¬6)؟ قلت: لا مانع من ذلك وإن كان مستغربًا، وعليه فيحتمل أن معناه أنه يثاب عليه كثواب خُمس الإيمان. ¬

_ (¬1) ذكر الخبر الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 9). (¬2) أخرجه الحاكم (4/ 332)، وابن ماجه (2719)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 206) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرج نحوه ابن أبي شيبة (283). (¬4) في (غ): (حين فرضت الصلوات الخمس خمسين). (¬5) أخرجه البخاري (349)، ومسلم (163) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. (¬6) عند البخاري (3887) عن سيدنا مالك بن صعصعة رضي اللَّه عنه.

وأما توجيه أن الطهارة الشرعية نصف الإيمان بأنها تكفِّر ما مضى كالإيمان يجبُّ ما قبله. . فمردودٌ بأنها حينئذٍ مثله لا شطره، على أن الصلاة ونحوها كذلك، فلا خصوصية للطهارة. وقيل: المراد بالإيمان: الصلاة، كما في: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، فلافتقارها للطهارة كانت كشطرها، قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وهذا أقرب الأقوال) (¬1) ورُدَّ: بأن شرط الشيء ليس شطره لغةً ولا اصطلاحًا، وفيه نظر؛ لأنه لم يدَّعِ أن الشرط شطرٌ، وإنما قال: كالشطر، وهو وإن لزم عليه أن فيه تجوزًا من قصر الإيمان على الصلاة (¬2)، وإخراج الشطر عن حقيقته إلى معنى المماثل للشطر. . لا يبعد اختياره؛ لتعذُّر الحقيقة باعتبار القواعد والاستقراء وإن جاز أن يختصَّ الوضوء من بين أمثاله بأن ثوابه نصف ثواب الإيمان؛ إذ للَّه سبحانه وتعالى أسرارٌ في العبادات يعجز عن إدراكها أكثر خلقه، فلو ذهب ذاهبٌ إلى أن الوضوء نصف الإيمان حقيقةً باعتبار الثواب. . لما لزمه شيء. وقيل: الإيمان شرطٌ باطنٌ لصحتها، والوضوء شرطٌ لها ظاهرٌ، فاقتسامهما إياها بالشرطية كأنه اقتسامٌ لها بالشطرية، ويرد بأنه بهذا التكلُّف شطرٌ لها لا للإيمان، وزعمُ أنها المرادة به يحتاج لدليل؛ لأن قصره عليها تجوَّز يحتاج لقرينةٍ كما قررناه. (والحمد للَّه) أي: هذا اللفظ وحده، أو هذه الكلمة وحدها، خلافًا لمن زعم أن المراد (الفاتحة). (تملأ) بالفوقية والتحتية (الميزان) أي: ثواب التلفُّظ بها مع استحضار معناها السابق أولَ الكتاب والإذعان له يملأ كفة الحسنات، التي هي مثل طباق السماوات والأرض، قيل: وسرُّ إملائه لها أن لامه للاستغراق (¬3)، وجنسُ الحمد الذي يجب للَّه سبحانه وتعالى ويستحقه يملأ الميزان، فكذا ثوابه. اهـ، وفيه نظر، وأيُّ دليل على ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (3/ 100). (¬2) في (غ): (أن فيه تجوزينِ: قصر الإيمان على. . .). (¬3) الأولى: أن يقول: (وسر مَلْئه، قال في "المصباح" في مادة (ملل): (وملأت الإناء ملأً من باب "نفع" فامتلأ) ولم يذكر (إملاءً) بهذا المعنى. اهـ هامش (غ)

ادعاء أن جنس ذلك الحمد يملأ الميزان عرِيًّا عن النظر لثوابه حتى يكون ثوابه مالئًا لها أيضًا؟! والأَولى أن يقال في حكمة ذلك: إن حمده سبحانه وتعالى فيه إثبات لسائر صفات كماله، فبسبب ذلك عظم ثوابه عظمةً حتى ملأ الميزان بتقدير تَجَسُّمِه، أو باعتبار صحيفته كما يأتي. وهو مفعال من الوزن (¬1)، قلبت واوه ياءً لانكسار ما قبلها؛ كميعاد. وفيه (¬2) -كالآيات والأحاديث الشهيرة- إثباتُ الميزان ذي الكفتين واللسان، ووزن الأعمال بها بعد أن تُجَسَّم، كما يؤتى بالموت في صورة كبشٍ يذبح بين الجنة والنار، وكما في حديث: "يأتي القرآن يوم القيامة تقدمه البقرة وآل عمران. . . " الحديث (¬3). أو توزن صحائفها فتثقل بالحسنات فضلًا، وتطيش بالسيئات عدلًا منه سبحانه وتعالى، وتكون الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة، والصُّنُج يومئذٍ مثاقيل الذرِّ والخردل (¬4)؛ تحقيقًا لتمام العدل، والكافر كالمؤمن في ذلك، ومعنى: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} أي: قدرًا، قيل: ولكل إنسانٍ ميزانٌ لظاهر: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. والأصح: أنه ليس إلا ميزانٌ واحدٌ، والجمع إما لتعظيم شأنها وتفخيمه على حد: {رَبِّ ارْجِعُونِ} تحذيرًا من السيئات، وتحريضًا على الحسنات؛ إذ لو لم يسمع العاقل من القرآن إلا آية: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ}. . لكان له فيها أبلغ زاجرٍ وواعظٍ؛ لاشتمالها على الوعيد التام لأهل السيئات، والوعد الجميل لأهل الحسنات، أو باعتبار الموزونات أو لكونه ذا أجزاء، على حد: شابت مفارقُه، مع أنه ليس للإنسان إلا مَفْرِقٌ واحد، لكنهم سموا كل محلٍّ من المفرق مفرقًا. ¬

_ (¬1) أي: مِوْزان. (¬2) أي: وفي الحديث. (¬3) أخرجه مسلم (805)، والترمذي (2883) بنحوه عن سيدنا النواس بن سمعان رضي اللَّه عنه. (¬4) الصنج -جمع صنجة-: وهي كفة الميزان.

قيل: والوزن أقسام: وزن الإيمان بجميع السيئات، والكفر بجميع الحسنات؛ ليخلد المؤمن في النعيم، والكافر في الجحيم. ووزن الأعمال بالمثاقيل؛ لظهور مقادير الجزاء؛ كما دل عليه آخر سورة (إذا زلزلت الأرض). ووزن مظالم العباد؛ لما صح: أنه يؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم بقدر حقه، فإن لم يكن له حسنات. . طرح عليه من سيئاته (¬1). وإنكار المعتزلة للميزان وحملها على مجازها من إقامة العدل في الحساب مِنْ تَقوُّلهم على الشريعة، وتصرُّفهم في نصوصها بصرفها عن ظواهرها بمجرد الحَزر والتخمين، على أن حديث: أين نجدك يا رسول اللَّه في القيامة؟ قال: "عند الحوض أو الصراط أو الميزان" (¬2). . مبطلٌ لتأويلهم، وقاضٍ بتضليلهم، نعوذ باللَّه تعالى من سَفْسافهم وضلالهم، ونسأل اللَّه سبحانه وتعالى السلامة من قبيح أقوالهم. (وسبحان اللَّه والحمد للَّه تملآن) بالفوقية باعتبار أنهما جملتان، وبالتحتية باعتبار أنهما لفظان (أو) شكٌّ من الراوي (¬3) (تملأ) بالفوقية -أي: هذه الكلمة، والجمل تسمى كلمة لغةً- وبالتحتية؛ أي: هذا اللفظ (ما بين السماوات والأرض) (¬4) وذلك لأن العبد إذا حمد مستحضرًا معنى الحمد السابق -وقولُ المصنف: (إنه مشتمل على التفويض إلى اللَّه سبحانه وتعالى) (¬5) أراد به أن ذلك ملزومٌ؛ لما دلت عليه صيغته من عموم الحمد له سبحانه وتعالى على كل حالٍ من السراء والضراء، وهذا هو غاية التفويض-. . امتلأت ميزانه من الحسنات (¬6)، فإذا أضاف إلى ذلك (سبحان اللَّه) الذي هو تنزيه اللَّه؛ أي: اعتقاد تنزيهه عما لا يليق به من النقائص والأوصاف الخالية ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2581)، وابن حبان (4411)، والترمذي (2418) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه الضياء في "المختارة" (2691)، والترمذي (2433) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (شك من الراوي) قال التفتازاني: (فائدته: التنبيه على غاية الاحتياط والتحفظ في النقل) اهـ "مدابغي" (¬4) في بعض نسخ المتن: "ما بين السماء والأرض" اهـ هامش (غ) (¬5) انظر "شرح صحيح مسلم" (3/ 101). (¬6) قوله: (امتلأت) جواب (إذا) في قوله قبل قليل: "لأن العبد إذا حمد".

عن الكمال المطلق. . ملأت حسناتُه وثوابُه زيادةً على ذلك ما بين السماوات والأرض؛ إذ الميزان مملوءٌ بثواب التحميد، فهذه الزيادة هي ثواب التسبيح، وثوابُ الحمد من ملئه للميزان باقي بحاله على كلٍّ من اللفظين المشكوك فيهما كما يتضح بما قررته فيهما، المندفع به قول بعضهم: هذا شكٌّ فيما يملأ ما بين السماء والأرض؛ هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ ورواية النسائي الآتية أشبه، وهل المراد: أنهما معًا يملآن ما بينهما، أو كلٌّ منهما يملؤه؟ هذا محتملٌ. اهـ وذكر السماوات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية (¬1)، والمراد: أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًا بحيث لو جُسِّم. . لملأ ما بين السماوات والأرض، وفي رواية النسائي وابن ماجه: "والتسبيح والتكبير ملء السماوات والأرض" (¬2)، وفي أخرى ضعيفة: "التسبيح نصف الميزان، والحمد للَّه تملؤه، ولا إله إلا اللَّه ليس لها دون اللَّه حجاب حتى تصل إليه" (¬3) أي: ليس لقبولها حجابٌ يحجبها عنه، وفي أخرى زيادة: "واللَّه أكبر ملء السماوات والأرض" (¬4)، وفي أخرى: "الحمد للَّه ملء الميزان، وسبحان اللَّه نصف الميزان، ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ملء السماوات والأرض وما بينهن" (¬5)، وفي أخرى: "كلمتان إحداهما من قالها لم يكن لها ناهية دون العرش، والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر" (¬6) فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام، وهي: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر. فأما (الحمد للَّه). . فقد اتفقت الأحديث كلها على أنه يملأ الميزان، فهو أفضل ¬

_ (¬1) الإغياء: ذكر الغاية، والمراد: المبالغة لا التحديد. (¬2) سنن النسائي (5/ 5)، وسنن ابن ماجه (280) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه الترمذي (3518) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (34/ 345) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 15) وعزاه لجعفر الفريابي في "كتاب الذكر" من حديث سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬6) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 15) وعزاه للفريابي من حديث سيدنا معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه.

من التسبيح، وسره: أن في التحميد إثبات سائر صفات الكمال، والتسبيح تنزيهٌ عن سائر النقص، والإثبات أكمل من السلب. واعلم: أن الميزان أوسع مما بين السماء والأرض، فما يملؤه أكثر مما يملؤهما، ويدل له حديث: "يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيها السماوات والأرض. . لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب؛ لمن يزن هذا؟ فيقول اللَّه تعالى: لمن شئتُ من خلقي، فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك" خرجه الحاكم مرفوعًا وصححه (¬1)، قيل: والموقوف أشهر (¬2). وبه يعلم أن (الحمد للَّه) أكثر ثوابًا من (لا إله إلا اللَّه) لما تقرر أن (الحمد للَّه) يملأ الميزان، وأنه أكثر مما يملأ السماوات والأرض، ومع ذلك لا يملؤه (لا إله إلا اللَّه) إلا مع ضم (اللَّه أكبر) إليها، وقد حكى ابن عبد البر وغيره خلافًا في ذلك (¬3)، قال النخعي: (كانوا يرون أن "الحمد للَّه" أكثر الكلام تضعيفًا) (¬4)، والثوري: (ليس يضاعف من الكلام مثل "الحمد للَّه") (¬5). وروى أحمد: "إن اللَّه سبحانه وتعالى اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، كان في كل من الثلاثة عشرين حسنة، وحط عشرين سيئة، وفي الحمد للَّه ثلاثين" (¬6). وحجة الآخرين: ما في حديث البطاقة المشهور عند أحمد والنسائي والترمذي: "إن لا إله إلا اللَّه لا يعدلها شيء في الميزان" (¬7) لكن عند أحمد: "ولا يثقل شيء بسم اللَّه الرحمن الرحيم" (¬8)، وروى أحمد: "لو أن السماوات السبع وعامرهن ¬

_ (¬1) المستدرك (4/ 586) عن سيدنا سلمان رضي اللَّه عنه. (¬2) كأن الظاهر: والوقف أشهر. اهـ هامش (غ) (¬3) انظر "التمهيد" (6/ 41 - 44). (¬4) أخرجه البيهقي في "الشعب" (4083)، وابن أبي الدنيا في "الشكر" (104). (¬5) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (7/ 56). (¬6) مسند الإمام أحمد (2/ 310) عن سيدنا أبي سعيد الخدري وسيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنهما. (¬7) مسند الإمام أحمد (2/ 213)، وسنن الترمذي (2639) عن سيدنا عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه. (¬8) مسند الإمام أحمد (2/ 213). والحاصل: أن الحمد أفضل من التسيح ومن التكبير ومن التهليل، وحديث: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه" محمولٌ على من أراد الخروج من الكفر إلى الإسلام بكلمة =

والأرَضين السبع في كفةٍ ولا إله إلا اللَّه في كفةٍ. . مالت بهن" عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه (¬1). (والصلاة) الجامعة لشروط مصححاتها ومكملاتها (نور) أي: ذات نور، أو مُنوِّرة، أو ذاتها نور، مبالغةً في التشبيه كزيد أسد، ومنه ما روي بإسنادين فيهما نظر: "الصلاة نور المؤمن" (¬2). وعلى كلٍّ: فهي تنور وجة صاحبها في الدنيا -كما هو مشاهدٌ، ويؤيده أنه جاء: "من صلى بالليل. . حسن وجهه بالنهار" (¬3) - وفي قبره، كما قال أبو الدرداء: (صلوا ركعتين في ظُلَم الليل لظلم القبر). وقلبَه (¬4)، لأنها تشرق فيه أنوار المعارف، ومكاشفات الحقائق، فيتفرغ فيها من كل شاغل، ويعرض عن كل زائل، ويقبل على اللَّه بكليته حتى يمنّ عليه بشهوده، وغاية قربه ومحبته، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم كما رواه أحمد والنسائي: "وجُعلتْ قرة عيني في الصلاة" (¬5)، وفي رواية: "الجائع يشبع، والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من حب الصلاة" (¬6). وأخرج أحمد عن ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما قال جبريل للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه قد حبَّب إليك الصلاة فخذ ما شئت" (¬7). ¬

_ = التوحيد، والأول -أعني تفضيل الحمد- لمن استقر الإيمان في قلبه، وأفضل المحامد أن يقال: الحمد للَّه حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده. اهـ "مدابغي" (¬1) أخرج نحوه الإمام أحمد (2/ 170) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، وابن حبان (6218)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (840) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن ماجه (4210)، وأبو يعلى (3655)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (144) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن ماجه (1333) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما، والصحيح: أنه من كلام شريك رحمه اللَّه تعالى. انظر "المقاصد الحسنة" (1169)، و"الكامل" لابن عدي (2/ 99)، و"تنزيه الشريعة" (2/ 106) (¬4) قوله: (وقلبه) بالنصب عطفًا على: (وجه صاحبها). اهـ "مدابغي" (¬5) مسند الإمام أحمد (3/ 128)، وسنن النسائي (7/ 61) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬6) دكره الديلمي في "مسند الفردوس" (2622) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬7) مسند الإمام أحمد (1/ 245).

وتريحه وتزيح همومه وغمومه (¬1)، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "يا بلال؛ أقم الصلاة وأرحنا بها" أخرجه أبو داوود (¬2). وتكون بين يديه يوم القيامة في تلك الظُّلَم وعلى الصراط؛ ففي "صحيح ابن حبان": أنه صلى اللَّه عليه وسلم ذكر الصلاة فقال: "من حافظ عليها. . كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها. . لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ" (¬3). وأخرج الطبراني بإسنادٍ فيه نظر: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "من صلى الصلوات الخمس في جماعةٍ. . جاز على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة السابقين، وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر" (¬4). واستُفيد من الحديث الأول: أن الصلاة تُسمَّى برهانًا أيضًا، ومنه خبر أحمد والترمذي: "الصلاة برهان" (¬5) وسيأتي معناه قريبا. وغرَّةَ وجهه يومئذ (¬6)؛ لخبر: "أمتي يوم القيامة غُرٌّ من السجود" (¬7). وتمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتَهدي إلى الصواب، كما أن النور يستضاء به، ويكون أجرها نورًا، وتشفع لصاحبها يوم القيامة؛ لما أخرجه الطبراني مرفوعًا: "إذا حافظ العبد على صلاته فأقام وضوءها وركوعها وسجودها والقراءة فيها. . قالت له: حفظك اللَّه كما حفظتني، فيُصْعَد بها إلى السماء ولها نورٌ حتى تنتهي إلى اللَّه عز وجل -أي: إلى محل قربه ورضاه- فتشفع لصاحبها" (¬8). ¬

_ (¬1) أي: تريح القلب وتزيح همومه وغمومه. (¬2) سنن أبي داوود (4985) عن سالم بن أبي الجعد رحمه اللَّه تعالى عن رجل من خزاعة. (¬3) صحيح ابن حبان (1467) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬4) المعجم الأوسط (6637) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهم. (¬5) مسند الإمام أحمد (5/ 344) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه، وسنن الترمذي (614) عن سيدنا كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه. (¬6) أي: وتكون الصلاة غرة وجهه. (¬7) أخرجه الترمذي (607)، والإمام أحمد (4/ 189) عن سيدنا عبد اللَّه بن بُسْر رضي اللَّه عنه. (¬8) المعجم الأوسط (3119) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

(والصدقة) أي: الزكاة كما في رواية ابن حبان (¬1)، ويصح بقاؤها على عمومها حتى تشمل سائر القُرَب المالية واجبها ومندوبها. (برهانٌ) هو لغةً: الشعاع الذي يلي وجه الشمس، ومنه خبر: "إن روح المؤمن تخرج من جسده ولها برهانٌ كبرهان الشمس" (¬2) ومنه سُميت الحجَّةُ القاطعة برهانًا؛ لوضوح دلالتها. واصطلاحًا: الدليل والمرشد، فهي يُفزَع إليها كما يُفزَع إلى البراهين؛ لأنه إذا سُئل يوم القيامة عن مصرف ماله فأجاب بـ (تصدقتُ). . كانت صدقاته براهين على صدق جوابه. ويجوز أن يوسم المتصدق بسيما يُعرف بها، فتكون برهانًا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله، أو هي حجةٌ ودليل على إيمان المتصدِّق؛ لأن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدَّق. . استُدِل بصدقته على صدق إيمانه، وعلى صحَّة محبته لمولاه، ولِمَا لديه من الثواب لبذله محبوبَهُ بالجِبلَّة والطبع رجاءَ ثوابه، فلولا صحة إيمانه. . لما بذل عاجلًا لآجلٍ، ومن ثَمَّ مدحه اللَّه تعالى بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ}، وقيل: الضمير للَّه. والأحاديث في فضل الصدقة أكثر من أن تحصر، وقد استوفيتُ منها جملةً مستكثرةً في كتابي الذي قدمت ذكره في (الخامس عشر) (¬3) وفيها أيضًا آياتٌ كثيرةٌ، نحو آية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}. ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (844) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه الحافظ أبو طاهر السلفي رحمه اللَّه تعالى في "معجم السفر" (333) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه؛ لكن بلفظ: "إن ذاكر اللَّه يجيء يوم القيامة وله نور كنور الشمس، أو برهان كبرهان الشمس"، وذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 23) من حديث سيدنا أبي موسى رضي اللَّه عنه بلفظه. (¬3) هو كتاب "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة"، انظر فيه (ص 72 - 98).

(والصبر) وهو لغة: الحبس، ومنه: قَتْلُ الصبرِ، وشرعًا: حبس النفس على العبادات ومشاقِّها والمصائب وحرارتها، وعن المنهيات والشهوات ولذاتها، وأفضل أنواعه الأخير (¬1)، فالأول؛ لخبر ابن أبي الدنيا وابن جرير، لكن بإسنادٍ ضعيفٍ: "إن الصبر على المصيبة يكتب به للعبد ثلاث مئة درجة، وإن الصبر على الطاعة يكتب به للعبد ست مئة درجة، وإن الصبر عن المعاصي يكتب له به تسع مئة درجة" (¬2). (ضياء) فيه ما في (نور) (¬3) ومنه: أن معنى كونه ضياء: أن صاحبه لا يزال مستضيئًا بنور الحق على سلوك سبيل الهداية والتوفيق، مستمرًا في مضايق اضطراب الآراء على تحري الصواب؛ لما عنده من ضياء المعارف والتحقيق، أو أنه يضيء طرق الأعمال، وعواقب ما يترتَّب عليها من الأحوال، فيكون على غايةٍ من الاستقامة والسداد، ونهايةٍ من الخلوص من الشوائب والاستعداد، فيظفر بمطلوبه، ويحصل من محبة اللَّه وقربه وجوده ولطفه على مرغوبه؛ كما قيل: [من البسيط] وقلَّ مَنْ جدَّ في أمرٍ يطالبه ... واستعمل الصبرَ إلا فاز بالظَّفرِ وللعارفين فيه عباراتٌ مآلها إلى معنًى واحد؛ نحو: الثبات على الكتاب والسنة، والوقوف مع البلاء بحسن الأدب، ألَّا يعترض على المقدور، فلا ينافيه إظهار البلاء لا على وجه الشكوى؛ قال اللَّه تعالى في أيوب صلَّى اللَّه على نبينا وعليه وسلَّم: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} مع أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}. فإن قلتَ: ما حكمة جعل الصلاةِ نورًا، والصبرِ ضياءً؟ وهلَّا انعكس الأمر؛ فإن الضياء أعلى من النور كما يدل عليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} مع ما هو مقررٌ: أن نوره مستمدٌّ من نورها، فلكونها أنورَ منه كما هو مشاهدٌ جُعلت ضياءً، ولكونه دونها جُعل نورًا، ولا شك أن الصلاة أفضل من الصبر؟ قلت: حكمة ذلك -واللَّه أعلم-: أن الصبر هو الأساس المبني عليه سائر ¬

_ (¬1) وهو الصبر عن المنهيات. (¬2) أخرج نحوه ابن أبي الدنيا في "الصبر" (24) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬3) أي: الأوجه الثلاثة في نحو: زيد عدل.

الأعمال؛ إذ لولا وجوده. . لم يكن صلاة ولا غيرها، فلكونه أصلها كغيرها ناسب أن يجعل ضياء، وهي نورًا نظيرَ ما تقرر في الشمس والقمر. وبهذا يُعلم أن كونها أفضلَ منه قابلٌ للمنع، ولا ينافيه قولهم: أفضل عبادات البدن الصلاة؛ لأن الصبر ليس من العبادات البدنية، وإنما هو من العبادات القلبية، وهي بأسرها أفضل من العبادات البدنية، كما هو ظاهر؛ لأنها بالنسبة إليها كالأصل بالنسبة للفرع. وبما قررته سؤالًا وجوابًا يندفع القول بأنه لا فرق بين الضياء والنور. وأيضًا (¬1): فالضوء فيه إحراقٌ، بخلاف النور؛ فإنه محض إشراق، كما هو مشاهَدٌ من ضوء الشمس، ونور القمر، ومن هنا وصف تعالى شريعة موسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء وسلم بأنها ضياءٌ بقوله عزَّ قائلًا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} وإن كان قد وصف التوراة بأنها نورٌ في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} لكن الغالب على شريعتهم الضياء؛ لما فيها من عظيم الآصار والأغلال والأثقال، ووصف شريعة نبينا صلى اللَّه عليه وسلم بأنها نورٌ فقط بقوله عزَّ قائلًا: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} لخلوها عن تلك المشاق، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}. فلِمَا كان في الصبر من المشاقِّ العظيمة المحرقة للنفوس وشهواتها ومراداتها كما علم مما قدمته فيه (¬2). . اختصَّ بكونه ضياءً، ولِمَا كان في الصلاة من مزيد الراحة وتوالي أنواع المعارف التي لا لذَّة وراءها، بل هي اللذة بالحقيقة كما آنفًا في تقرير ¬

_ (¬1) أي: وحكمة أخرى اقتضت تخصيص الصبر بالضياء، والصلاة بالنور هي. . . إلخ. اهـ هامش (ج) (¬2) قوله: (فلما كان في الصبر) الظاهر: قراءة (فلما) بكسر اللام وتخفيف الميم على أنه جارٌّ ومجرور، و (ما) اسم موصول، صلته: جملة (كان) والعائد فاعل (كان) وهي تامة بمعنى (وجد) و (في الصبر) متعلق بها، وقوله: (من المشاق) بيان لـ (ما) وهو علةٌ قُدِّمت على المعلول؛ الذي هو قوله: (اختص. . . إلخ) والمعنى: فاختص الصبر بكونه ضياءً للشيء الذي وجد فيه؛ وهو المشاق العظيمة المحرقة للنفوس، ومئله قوله: (ولما كان في الصلاة. . . إلخ). وأما قراءة (لما) بفتح اللام وتشديد الميم فيلزم عليه دعوى زيادة (من) في قوله: (من المشاق) وقوله: (من مزيد. . . إلخ) وهو بعيد، فتأمل. اهـ "مدابغي"

كونها نورًا. . اختصت باسم النور الذي هو محض إشراقٍ ولذةٍ، وبهذا يسقط الإشكال من أصله، ويندفع القول بأن المراد بالصبر الصوم، على أنه لا يحتاج لادِّعاء أن المراد ذلك؛ لأنه مصرحٌ به في رواية، بل وقع في بعض نسخ "صحيح مسلم" التعبير به بدل "الصبر" لكن عليها يشكل التعبير فيه بالضياء، وفي الصلاة بالنور. وقد يجاب بأن الصوم فيه نحو ما مر في الصبر من محق الشهوات وإحراقها؛ إذ هو مشتملٌ على أنواع الصبر الثلاثة السابقة؛ لأنه صبرٌ على طاعة اللَّه تعالى وعن معاصيه؛ إذ العبد يترك شهوته للَّه تعالى، ونفسه تنازعه عليها، ومن ثم جاء في الحديث الصحيح القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي" (¬1) وصبرٌ على ألم الجوع والعطش؛ ولذلك (كان صلى اللَّه عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر) (¬2). وفي رواية أحمد والترمذي في هذا الحديث: "والصوم نصف الصبر" (¬3) أي: معظمه، وقيل: يأتي فيه ما في: "الطهور نصف الإيمان" فلذلك كلِّه ناسبه التعبير عنه بـ (الضياء) الذي هو محرقٌ؛ بخلاف الصلاة كما تقرر، وبأنه لمَّا امتاز عليها بإضافته إلى اللَّه تعالى دون غيره من العبادات، وبتوليه تعالى الجزاء عليه المشعر ببلوغه من العظمة والكمال نهايتهما (¬4). . فلا بدع أن يتميز عليها بكونه أضوأ منها وأنور. وأيضًا: ففيه من تصفية النفس وتطهيرها من الكدورات المانعة لها عن مطالعة الغيوب ما ليس في الصلاة؛ فبهذا الاعتبار كان أضوأ منها وأنور، فاتضحت حكمة التغاير بينهما، وإيثاره عليها بكونه ضياء. ثم رأيت بعض الشارحين صرح بكثيرٍ مما ذكر وزيادة، مع أنه فاته محاسن ممَّا مر، فقال ما حاصله: (فإن قلت: لِمَ جعل الصبر ضياء والصلاة نورًا؟ وهل بينهما ¬

_ (¬1) أخرج البخاري (7492)، ومسلم (1151) نحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) كما في حديث النسائي (4/ 218) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) مسند الإمام أحمد (4/ 260)، وسنن الترمذي (3519) عن رجل من بني سليم. (¬4) الظاهر: أن جواب (لما) محذوف، تقديره: كان أحق بهذا الوصف، وحينئذٍ يكون قوله: (فلا بدع) تفريعًا على الجواب، فتامل. اهـ هامش (ج)

فرق؟ قلت: الفرق: ما قيل: إن الضياء أعظم وأبلغ من النور؛ بدليل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} وهي أعم وأعظم نورًا منه، ولذلك قال اللَّه تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: بضيائهم؛ لأن نفي الأعم أبلغ، وأورد عليه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ولم يقل: ضوؤها ولا ضياؤها، {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ولم يقل: بضيائه. وأجيب عن الأول بأن المعنى: اللَّه منوِّر السماوات والأرض، ولم يقل: مضيء؛ لأن النور أعم؛ لأنه ليلًا ونهارًا، والضوء ليس إلا نهارًا بالشمس، وأيضًا: المراد بنورهما: هداية أهلهما، والعادة لغةً وعرفًا أن يقال: نور الهداية لا ضوؤها، ومنه: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، {ومَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. وعن الثاني بأن الضوء كالوصف الزائد على النور، والمحتاج إليه هو النور الناقص المخلوق، وأما نور اللَّه سبحانه وتعالى. . فهو قديمٌ كاملٌ لذاته، منزَّهٌ عن الجسمية والعَرَضية، لا يحتاج إلى معنًى زائدٍ يضيء به. ويحتمل أن المعنى: وأشرقت بنور ملائكته، أو عَدْلِ ربها؛ إذ لو أشرق عليها ما أشرق على جبل الطور لمَّا تجلى له. . لتصدَّعت وتشقَّقت واندكَّت كما اندكَّ الجبل، ولا يلزم من نور الملائكة والعَدْل الضوءُ. وإنما جعل الصبر ضياءً، وهي نورًا؛ لأنه أخص منها لاشتماله عليها وعلى غيرها من الطاعات، أو تعلقه بذلك؛ إذ هو حبس النفس على الطاعة وعن المعصية، فكان الضياء الأخص من النور أَولى به؛ ولأنه تعالى قال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} والتقديم للأهم فالأهم، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} ولم يقل: لما صلوا، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما أُعطي أحدٌ خيرًا من الصبر، وأوسع عطاء من الصبر" (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ولم يرد ذلك لغيره) اهـ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.

(والقرآن) مر الكلام على اشتقاقه في الخطبة (¬1)؛ وهو هنا: اللفظ المنزل على محمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورةٍ منه. (حجةٌ لك) في تلك المواقف التي تُسأَل فيها عنه، كالقبر، وعند الميزان، وفي عقبات الصراط، إن امتثلت جميع أوامره، واهتديت بأنواره، وتحلَّيتَ بما فيه من معالي الأخلاق، وشرائف الأحوال. (أو) حجةٌ (عليك) في تلك المواقف، إن خضت غمرة شيءٍ من نواهيه، أو أعرضت عن القيام بما لَهُ من واجب الحقوق، كما أشار صلى اللَّه عليه وسلم إلى ذلك في حديث: "القرآن شافعٌ مُشفَّعٌ، وماحِلٌ مصدَّق (¬2)، من قدَّمه أمامه. . قادَهُ إلى الجنة، ومن جعله وراءه. . دفع في قفاه إلى النار" (¬3). وقيل: لك أو عليك في المباحث الشرعية، والوقائع الحكمية؛ لأنه المرجع عند التنازع وهذا مقتبسٌ من قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ومن ثم قال بعض السلف: ما جالس أحدٌ القرآنَ فقام عنه سالمًا، بل إما أن يربح، وإما أن يخسر، ثم تلا هذه الآية. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "يمثل القرآن يوم القيامة رجلًا، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيمثل له خصمًا، فيقول: يا رب؛ قد حمَّلته إياي، فبئس حاملٌ تعدَّى حدودي، وضيَّع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحُجَج حتى يقال له: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، قال: ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله، فيمثل له خصمًا دونه، فيقول: يا رب؛ حمَّلته إياي، فخير حاملٍ، حفظ حدودي، وعمل فرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما ¬

_ (¬1) انظر ذلك (ص 89). (¬2) الماحل: الخصم والمجادل، وكان القرآن يكيد من اتخذه وراء ظهره. (¬3) أخرجه البيهقي في "الشعب" (1855) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه، والطبراني في "الكبير" (10/ 198) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. وفي هامش (1): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة، ثم بلغ كذلك).

يزال يقذف له بالحُجج حتى يقال له: شأنك به فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يلبسه حُلَّة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر" (¬1). (كل الناس يغدو) أي: يصبح ويبكر ساعيًا في تحصيل أغراضه، مسرعًا في طلب نيل مقاصده. (فبائع نفسه) (¬2) من اللَّه عز وجل، ببذلها فيما يُخَلِّصها من سخطه وأليم عقابه، متوجهًا بقلبه وقالبه إلى الآخرة وأعمالها، مع الإعراض عن زخارف الدنيا وزينتها، ومتقيدًا بآداب الشرع قولًا وفعلًا، وامتثالًا واجتنابًا. (فمعتقها) (¬3) من رِقِّ الخطايا والمخالفات، ومن سخط اللَّه وأليم عقابه، كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}. . . إلى أن قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. وفي حديث "الصحيحين" المشهور: لما نزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش؛ اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا" ثم قال مثل ذلك لبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، ولعمته، وبنته، وغيرهم (¬4). وأخرج الطبراني والخرائطي: "من قال إذا أصبح: سبحان اللَّه وبحمده ألف مرة. . فقد اشترى نفسه من اللَّه، وكان من آخر يومه عتيقًا من النار" (¬5)، فاعجب من بيعٍ آيلٍ إلى عتقٍ وسيادة، ومتكفلٍ بالفوز بالحسنى وزيادة!! ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (30667). (¬2) قوله: (فبائع نفسه) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو باثع نفسه، والمبتدأ يكثر حذفه بعد فاء الجزاء. اهـ "الفتوحات الوهبية على الأربعين" (ص 208) (¬3) خبر آخر، أو بدل من قوله: (فبائع نفسه). (¬4) صحيح البخاري (2753)، وصحيح مسلم (206) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) ذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 116) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما وعزاه للطبراني في "الأوسط".

(أو) بائع نفسه من الشيطان، ببذلها فيما يرديها ويغويها، من مذموم أغراضه، وإيثار شهواته، فييو حينئذٍ (موبقها) أي: مهلكها بما أوقعها فيه من أليم العذاب، وكشف الحجاب (¬1). (رواه مسلم) وهو أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام؛ لاشتماله على مهماتٍ من قواعد الدين، بل على نصف الدين باعتبار ما قررناه في شطر الإيمان، بل على الدين جميعه باعتبار ما قررناه في الصبر، وفي (معتقها) و (موبقها). وفي رواية للترمذي: "التسبيح نصف الميزان، والحمد للَّه تملؤه، والتكبير بملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر" (¬2)، وفي رواية للبيهقي: "وسبحان اللَّه واللَّه أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والصوم جُنَّة، والصلاة نور" (¬3) ولا تعارض بين رواية مسلم السابقة ورواية الترمذي هذه؛ لأن كون التسبيح نصفَ الميزان و (الحمد للَّه) تملؤه باعتبار انفراد كل لا ينافي أنهما إذا اجتمعا. . ملآ ما بين السماوات والأرض زيادةً على ذلك. ولا بينها وبين رواية البيهقي؛ لأنها أفادت أن (اللَّه اكبر) يقوم مقام الحمد في أنها إذا اجتمعت مع التسبيح. . ملآ ما بين السماوات والأرض، لكن بين رواية الترمذي والبيهقي نوعُ تنافٍ؛ لأن الأُولى أفادت أن التكبير وحده يملأ ما بين السماوات والأرض، والثانية أفادت أنه لا يملأ ذلك إلا مع ضمِّ التسبيح إليه. وقد يجاب بأن ذلك يختلف باختلاف العاملين، أو أُخبر صلى اللَّه عليه وسلم بالثاني، فأَخبر به، ثم أُخبر بزيادة تفضُّلٍ من اللَّه تعالى في ثواب التكبير، فأَخبر به نظيرَ ما قالوه في خبر: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بخمس وعشرين درجة" (¬4)، وخبر: "بسبع وعشرين درجة" (¬5) وقس بهذا ما يرد عليك من نظائره. * * * ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (وكثيف الحجاب). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا (ص 407). (¬3) سنن البيهقي الكبرى (1/ 42) عن سيدنا أبي مالك الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (646) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه، ومسلم (649/ 247) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وفي النسخ كلها إلا (ب)؛ (تعدل) والمثبت منها ومن "صحيح البخاري". (¬5) أخرجه البخاري (643)، ومسلم (650) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

الحديث الرابع والعشرون [آلاء الله وفضله على عباده]

الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده] عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرويهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي؛ إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُم، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أَطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِر لَكُمْ، يَا عِبَادِيَ؛ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. . مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. . مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِركُمُ، وَإنْسَكُم وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ. . مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي؛ إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا. . فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ. . فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2577).

(عن أبي ذر رضي اللَّه) تعالى (عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم فيما يرويه) أي: روينا عنه أنه روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما يأتي حال كونه مندرجًا في جملة الأحاديث القدسية؛ وهي التي يرويها (عن ربه أنه) تعالى (قال: يا عبادي) هو كعبيد، وعُبْدان بضم أوله وكسره، وتخفيف الباء، وعِبِدَّان بكسر أوَّلَيْه وتشديد ثالثه، وعِبِدَّاء بمد وقصرٍ، ومَعْبوداء، وعُبُد كسُقُف، وأعابد، ومعبدة جمع لـ (عبد). وهو هنا وفيما يأتي وفي نظائر ذلك يتناول الأحرار والأرقَّاء من الذكور، وكذا من النساء إجماعًا، لكن لا وضعًا، بل بقرينة التكليف، وقد قال الأصوليون: إن خص الخطابُ الذكورَ كالرجال أو الإناث كالنساء. . فواضح، وإلَّا كـ (مَنْ، والأناسي، والناس). . يتناولهما، وفي نحو المسلمين والمؤمنين خلافٌ، والأشبه: أنه لا يتناول النساء وضعًا، بل بقرينةٍ أو عُرفٍ. (إني حرمت) من التحريم؛ وهو لغةً: المنع، فسمَّى تعالى تَقَدُّسَه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهته الممنوع في تحقق العلم. (الظلم) وهو لغةً: وضع الشي في غير محلِّه (على نفسي) أي: تعاليتُ عنه وتقدستُ؛ لاستحالته عليه تعالى؛ إذ هو: التصرُّف في حق الغير بغير حقٌّ، أو مجاوزةُ الحد، وكلاهما محالٌ؛ إذ لا ملك ولا حق لأحدٍ معه، بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم، وتفضَّل عليهم بها، وحدَّ لهم الحدود، وحرَّم وأحلَّ، فلا حاكم يتعقَّبه، ولا حق يترتب عليه، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وما ذكر من استحالة الظلم عليه تعالى هو قول الجمهور، وقيل: بل هو متصوَّر منه (¬1)، لكنه لا يفعله عدلًا منه، وتنزُّهًا عنه؛ لأنه تعالى تمدَّح بنفيه في قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: ظالم، والحكيم لا يتمدَّح إلا بما يصح منه، ألا ترى أن أعمًى لو تمدَّح بأنه ألا ينظر للمحرمات. . استُهزئ به؟! وأيضًا: قوله "حرمت الظلم على نفسي" حقيقته: أني منعتُ نفسي منه، ¬

_ (¬1) قوله: (متصور منه) أي: كما في تعذيب المطيع، وإثابة العاصي. اهـ هامش (ج)

وإنما يمنع الحكيم نفسه ممَّا يقدر على فعله، ألا ترى أن آدميًا لو قال: منعت نفسي من صعود السماء. . استُهزئ به؟! وأيضًا: فهو تعالى عامل عباده معاملة مستأجرٍ لأجرائه بقوله لأهل الكتاب: "هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ " قالوا: لا، قال: "فذلك فضلي أوتيه من أشاء" (¬1) والمستأجر يصح منه ظلم الأجراء. وأيضًا: ترك الظلم مع إمكانه والقدرة عليه أمدحُ من تركه مع استحالته والعجز عنه؛ كما أن ترك الفعل للزنا أمدح له بالعفاف من ترك الخصيِّ والعِنِّين له. اهـ وهو غير سديدٍ كان نقله بعض الشارحين وأقره؛ لِمَا تقرر أن حقيقة الظلم: وضعُ الشيء في غير محلِّه بالتصرف في ملك الغير، أو مجاوزةُ الحدِّ، ومع النظر لهذا يجزم كلُّ مَنْ له أدنى بصيرةٍ باستحالته عليه تعالى؛ إذ لا يُتَعَقَّلُ وقوع شيءٍ من تصرفه تعالى في غير محله، وكأن مدعي تصوره منه سبحانه وتعالى يفسره بما هو ظلمٌ عند العقل لو خُلِّي ونفسه من حيث عدمُ مطابقتِه لقضيته، فحينئذٍ يكون لكلامه نوعُ احتمال، بخلاف ما إذا فسره بالأول (¬2)؛ فإن دعوى تصوره منه حينئذٍ في غاية السقوط. ويجاب عمَّا احتج به من التمدُّح بنفيه ومنع نفسه منه بأن هذا خارجٌ عن قضية الخطاب العادي، المقصود به زجرُ عباده عنه، وإعلامهم بامتناعه عليهم بالأَولى، فهو على حدِّ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وهذا فنٌّ بليغٌ من أساليب البلاغة، لا ينكره إلا كل جامد الطبع، فامتنع قياسه على قول الأعمى: لا أبصر، والآدميِّ: منعت نفسي من صعود السماء، بل شتَّان ما بينهما؛ فإن كلًّا من هاتين المقالتين محض سَفْساف ولغو، بخلاف قوله تعالى: "إني حرمت الظلم على نفسي" الذي وطَّأ به لقوله تعالى: "وجعلته بينكم محرمًا" ثم وطَّأ بهما لقوله تعالى: "فلا تظالموا" فاتضح أن هذا السياق في غاية البلاغة، وأنه لا ينافي استحالة الظلم عليه تعالى، وأن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2268)، والترمذي (2871) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) الأول: هو قوله: (الظلم وضع الشيء في غير محله، أو مجاوزة الحد) والئاني: هو قوله: (بما هو ظلم عند العقل. . . إلخ) اهـ هامش (ج)

مَنْ فهم تنافيًا بينهه، وفسَّر الظلم بغير معناه المتعارف. . كان لكلامه أدنى احتمال، وإلَّا. . كان كلاما، بالهذيان أشبه، فتأمل ذلك؛ فإنه نفيسٌ، ثم رأيت بعضهم أجاب: (بأن للَّه تالالى في خلقه نصرُّفَين: ظاهرًا، وباطنًا، فتصرفه الظاهر ينهى عنه شرعًا، وتصرفه الباطن يقضي به ويخلقه حقيقة، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن) اهـ، وهذا صحيح، لكنه لا يدفع تلك الشُّبَه، بخلاف ما ذكرته؛ فإنه الذي يدفعها ويدحضها. وفسَّر بعضهم الظلم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} يؤيد قولي السابق: (وكأن مدعي تصؤُره منه تعالى يفسِّره بما هو ظلم عند العقل. . . إلخ) فقال: (الهضم: أن ينقص من أجر حسناته، والظلم: أن يعاقب بذنوب غيره، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، وهذا مما يدل على أن اللَّه تعالى قادرٌ على الظلم، ولكن لا يفعله فضلًا منه، وقد فسَّره كثيرون بأنه: وضع الشيء في غير موضحه، وأما من يفسره بالتصرف في ملك الغير. . فيقول: إنه مستحيلٌ عليه تعالى) اهـ (¬1) وهو صريحٌ فيه، ذكرته، وكونُه تعالى خالقًا لأفعال عباده وفيها الظلم لا يقتضي وصفَه تعالى به؛ لأنه إنما يوصف بما قام به من صفاته وأفعاله، ومنها خلق أفعالهم لا ذواتها، فلم يوصف بشيءٍ منها. قيل: وفيه منع سؤال اللَّه تعالى ألَّا يحكم له على خصمه إلا بالحق؛ لأنه الواقع، فلا فائدة لسؤاله، ورُدَّ بقوله تعالى: {قل رب احكم بالحق} (¬2) وهو تعالى لا يأمر بما لا يجوز الدعاء به، ولا فرق بين الحصر وغيره. وأُجيب بأن معناه: عاملهم بعَنلِك دون فضلك، فيكون دعاءً عليهم، قيل: وقريبٌ من هذا قول، بعضهم في {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. . . إلى {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: من الاعتداء بالدعاء التأمينُ عند قراءة هذه الآية؛ لأن اللَّه تعالى ¬

_ (¬1) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 35). (¬2) قرأ حفص عن عاصم رحمهما اللَّه تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، وقرأ الباقون {قُلْ رَبِّ} بغير ألف، والمراد: قل أنت يا محمد صلى اللَّه عليه وسلم. اهـ "الحجة للقراءة السبعة" (5/ 264)

قال: قد فعلت، بخلافه في: {وَاعْفُ عَنَّا}. . . إلخ؛ فإنه يؤمِّن. ورُدَّ: بأن الذي في "مسلم": أنه تعالى قال: "نعم" في الجميع (¬1). قيل: (وقضية هذا الحديث: جواز إطلاق النفس على اللَّه تعالى) انتهى، وهو ظاهرٌ حيث كان من باب المقابلة (¬2)؛ كما في: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وكما هنا (¬3)؛ فإن معناه: حرَّمته على نفسي، فنفوسكم بالأَولى، كما أفاده قوله: "وجعلته بينكم محرمًا". أما إطلاقه في محلٍّ لا مقابلة فيه. . فلا يظهر جوازه؛ لإيهامه حقيقة النفس وهي محالةٌ على اللَّه تعالى. فإن قلت: قد صح إطلاق الذات عليه تعالى في قول خبيب عند إرادة قتله: (وذلك في ذات الإله. . .) (¬4) والجنب في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} والنفس مثلهما. قلت: لا نسلِّم أنها مثلهما؛ لأن ذات الشيء حقيقته، فلا إشعار فيها بحدوثٍ ألبتة، وأما الجَنْب. . فالمراد به: الأمر؛ إذ التفريط إنما يكون فيه، فالإتيان بلفظهِ قرينةٌ ظاهرةٌ على أنه لم يرد بالجنب حقيقتَه، وأما النفس. . فإنها تُشعِر بالتنفُّس والحدوث، فامتنع إطلاقها عليه سبحانه وتعالى إلا في حيز المقابلة؛ إذ هو قرينةٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 98) في شرح المقدمة. (¬2) قال: الشيخ الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 210): (وقضية هذا الحديث: جواز إطلاق النفس على اللَّه تعالى على غير وجه المشاكلة، وهو الصحيح كما قال إمام الحرمين؛ بدليل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، وادعاء أنه مشاكلة تقديرية تكلُّفٌ، وقول أهل المعاني: إنها لا تطلق عليه إلا مشاكلة؛ كقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} غير صحيح كما قال السبكي، وجمع بعض المحققين بين القولين فقال: النفس لها معنيان: الذات، وهذا يصح إطلاقه من غير مشاكلة، والجسمُ، وهذا لا يطلق عليه إلا مشاكلة). (¬3) أي: فإن هذه مشاكلة تقديرية؛ لأنها إما تحقيقية كما في الآية، أو تقديرية كما هنا. اهـ هامش (ج) (¬4) هذا جزء من أحد بيتين له رضي اللَّه عنه؛ وهما بتمامهما: (من الطوبل) فلسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مسلمًا ... على أيِّ جنبٍ كان في اللَّهِ مصرعي وذلك في ذاتِ الإلهِ وإن يشأْ ... يباركْ على أَوْصال شِلْوٍ مُمَزَّعِ أخرجه البخاري (3989) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. والشِّلْوُ: مفرد أشلاء؛ وهي: أعضاء الجسم بعد بلائه، وممزَّع: مُقطَّع.

ظاهرةٌ على أن المراد بها في حقه تعالى غير حقيقتها وما يتبادر منها. وأيضًا: ففي إطلاقها عليه تعالى إيهامُ شمول قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} لذلك، تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا. ولقد بالغ بعض العلماء فجعل: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} راجعًا لعيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم، والأصل: ولا أعلم ما فيها، ثم أوقع الظاهر موقعَ المضمر، فصار معناه: ولا أعلم ما في مخلوقتك. اهـ، وهو وإن كان فيه تكلُّفٌ إلا أنه مُؤَيِّدٌ لما ذكرته، فتأمل ذلك؛ فإنه مهمٌّ كان لم أَرَ من عرَّج عليه. (وجعلته بينكم محرمًا) أي؛ حكمت بتحريمه عليكم، وهذا مجمعٌ عليه في كل ملةٍ؛ لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ الأنفس، فالأنساب، فالأعراض، فالعقول، فالأموال، والظلم قد يقع في هذه أو بعضها، وأعلاه الشرك؛ قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات؛ قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ثم تليه المعاصي على اختلاف أنواعها، وروى الشيخان: "الظلم ظلماتٌ يوم القيامة" (¬1)، ورويا أيضًا: "إن اللَّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه. . لم يفلته" ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} (¬2). وروى البخاري: "من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه (¬3). . فليتحلَّله منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا درهمٌ من، قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسناتٌ. . أُخذ من سيئات أخيه، فطُرحت عليه" (¬4). (فلا تظالموا) بتشديد الظاء كما روي، والأشهر: تخفيفها، وأصله: تتظالموا، أُدغم أحد المثلين في الآخر، أو حذف؛ أي: لا يظلمْ بعضكم بعضًا (¬5)؛ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2447)، وصحيح مسلم (2579) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) صحيح البخاري (4686)، وصحيح مسلم (2583) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬3) في النسخ كلها إلا (غ) و (و): (من كانت منه مظلمة. . .) والمثبت منهما ومن "صحيح البخاري". (¬4) صحيح البخاري (6534) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) قوله: (أدغم أحد المثلين) يعني الظاءين؛ أي: بعد إبدال التاء الثانية ظاءً، وفي بعض النسخ: (إحدى التاءين) ولا يستقيم مع قوله: (في الأخرى)، وفي قوله: (أو حذف) تسمُّحٌ؛ لأن الضمير إن رجع إلى أحد =

فإنه لا بد من اقتصاصه تعالى للمظلوم من ظالمه، كما استفيد من هذا السياق العجيب المومى إليه بقوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} أي: فيحب تعالى منه الجهر بذكر ما ظُلِم به ليُشاع، حتى إذا عُوقب الظالم. . عرف الناس أنه لم يوقع تعالى ذلك به إلا انتصارًا للمظلوم؛ لينكفَّ غيره عن الظلم، ويعلم أن مِن وراء الظالمين طالبًا لا يُردُّ بأسه، وقد يُمهل الظالم زيادةً في استدراجه؛ ليزداد عقابه {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} فإمهاله عين عقابه، وهذا أَولى وأظهر من القول بأن حكمة إمهاله: أن المظلوم لا يستحق على الظالم إلا أن يمكنه سيده، إذ الحكم في الجناية على العبد لسيده والخلق كلهم، وأُروش جنايتهم ملكٌ وحقٌّ للَّه تعالى، فله الإمهال، وله الاقتصاص. انتهى؛ لأن هذا وإن كان حقًا إلا أن الحكمة به لم تظهر. ولما ذكر تعالى ما أوجبه من العدل، وحرَّمه من الظلم على نفسه وعلى عباده. . أتبعه بذكر إحسانه إليهم، وغناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعةٍ لأنفسهم، ولا دفع مضرة عنهم إلا أن يكون هو الميسر لذلك، مشيرًا إلى ذلك الجلب والدفع إما في الدين، أو الدنيا، فصارت أربعة أقسام، وهي: الهداية، والمغفرة، وهما جلب منفعة، ودفع مضرة في الدين (¬1)، والإطعام، والكسوة، وهما جلب منفعةٍ، ودفع مضرةٍ في الدنيا. وأهم هذه الأقسام طلب الهداية؛ فلذا افتتح به فقال: (يا عبادي؛ كلكم ضالٌّ) أي: غافلٌ عن الشرائع قبل إرسال الرسل، فهو على حدِّ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: غافلًا عما سيوحيه إليك، فهداك إليه بالوحي، فهو على حدِّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، أو ضالٌّ عن الحق لو ترك وما يقتضيه طبعه من الراحة من التكاليف، وإهمال النظر المؤدي إلى معرفة اللَّه تعالى، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه (إلا من هديته) أي: وفَّقته للإيمان بما ¬

_ = المثلين -يعني الظاءين-. . لا يصح؛ لأن المحذوف إنما هو تاء من التاءين بلا إدغامها ظاءً، وإن رجع إلى إحدى التاءين. . كان صحيحًا إلا أنه لا يلائم ما قبله فتأمل، والمراد: أننا أبدلنا التاء الثانية ظاءً، وأدغمنا الظاء في الظاء، أو حذفنا إحدى التاءين. اهـ "مدابغي" (¬1) أي: في كل واحدة منهما جلب منفعة، ودفع مضرة. اهـ هاهش (ج)

جاءت به الرسل على المعنى الأول؛ قال اللَّه تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، أو للخروج عن مقتضى طبعه إلى النظر المؤدِّي إلى معرفة اللَّه تعالى، وامتثال ما جاء من عنده على المعنى الثاني. وبيانه: أنه في تعالى خلق النفوس بقواها وطباعها، وما أرصد لها من الأهواء والشياطين مائلةً إلى الضلال، فمن أراد ضلالَه. . أرسله على سجيته، وتخلَّى عنه، ومن أراد هدايته. . عارضه بأسباب الهدى، فصدَّه عن الضلال فاهتدى، فينبغي لمن رأى عنده آثار هدًى أن يعلم أنه من اللَّه تعالى؛ حتى يزداد شكره وحمده؛ ليزداد هداه بصادق وعد قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وعلى كِلا ذينكَ المعنيين: فلا ينافي ذلك قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "كل مولودٍ يولد على الفطرة" (¬1) لأن ذلك ضلالٌ طارئٌ على، الفطرة الأُولى، كما يرشد إليه ما روي: "خلق اللَّه تعالى الخلق على معرفته، فاغتالتهم الشياطين" (¬2). هذا واختلف، في المراد بالفطرة هنا، فقيل: هي ما أُخذ عليهم في أصلاب آبائهم، فتقع الولادة عليها حتى يحصل التغيير بالأبوين، وقيل: ما قضي على المولود من سعادةٍ أو شقاوةٍ، فيصير إليها، وبه صرح ابن المبارك فقال: يولد على ما يصير إليه من له سعادة أو شقاوة، فمن علم اللَّهُ تعالى أنه يصير مسلمًا. . ولد على فطرة الإسلام، ومن علم أنه يصير كافرًا. . ولد على الكفر، وقيل: معرفة اللَّه تعالى والإقرار به وإن عبد معه غيره. والأصح: أن معناه: أن كل مولودٍ يولد متهيئًا للإسلام، فمن كان أبواه أو أحدهما مسلمًا. . استمرَّ عليه في أحكام الدنيا والآخرة، وإن كانا كافرين. . جرى عليه حكمهما، فيتبعهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى قوله: "فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه" أي: يحكم له بحكمهما في الدنيا، فإذا بلغ مستمرًا على الكفر. . حكم له به (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج نحوه ابن حبان في "صحيحه" (653)، والإمام أحمد (4/ 162) عن سيدنا عياض بن حمار رضي اللَّه عنه. (¬3) كذلك بأن يصداق، عمَّا وُلد عليه، ويُزَيِّنان له الملَّة المبدلة، ولا ينافيه: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لأنه خبرٌ بمعنى النهي. اهـ هامش (غ)

تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

واختُلِف فيمن مات صغيرًا؛ والأصح: أنه في الجنة؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. والحاصل: أن الإنسان مفطور على قبول الإسلام والتهيؤ له بالقوة، لكن لا بد من أن يتعلَّمه بالفعل؛ فإنه قبل التعلُّمِ جاهلٌ؛ كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فمَنْ هداهُ. . سبَّبَ له مَنْ يُعلمه الهدى، فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان مهديًا بالقوة، ومن خذَلَهُ -والعياذ باللَّه-. . قيَّض له مَنْ يعلمه ما يغير فطرته، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه. تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم] أنكر بعض فقهاء العراق الدعاء للعاطس (¬1) بـ (يهديكم اللَّه) ظنًا منهم أن الدعاء بالهداية للمسلم تحصيلٌ للحاصل، وليس كما زعموا، سيما والسُّنة الصحيحة آمِرةٌ بذلك، وأمر صلى اللَّه عليه وسلم عليًا رضي اللَّه تعالى عنه أن يسأل اللَّه السَّداد والهدى (¬2)، وعلَّم الحسن أن يقول في القنوت: "اللهم؛ اهدني فيمن هديت" (¬3)، وكان صلى اللَّه عليه وسلم يقول في دعائه بالليل: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ" (¬4) وليس المراد بالهداية هنا الهداية لِمَا هو متلبسٌ به من الإسلام والإيمان، بل لمعرفة تفاصيل أجزائهما ومتمماتهما، وإعانته على فعل ذلك، وهذا كل مؤمنٍ محتاجٌ إليه ليلًا ونهارًا، ومن ثَمَّ أمر اللَّه تعالى عباده أن يسألوه ذلك في كل ركعةٍ من صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. قيل: وفي هذه الجملة دليل لقول أهل الحق: إن الهداية والضلال من خَلْق اللَّه تعالى وإيجاده، لا دخل للعبد في واحدٍ منهما، خلافًا للمعتزلة؛ قال تعالى: ¬

_ (¬1) الظاهر: أن (اللام) بمعنى (من) أي: الدعاء من العاطس لمن يقول له: "يرحمك اللَّه" بقوله له: "آمين، يهديكم اللَّه. . . إلخ" اهـ هامش (ج) (¬2) أخرجه مسلم (2725)، وأبو داوود (4225)، والنسائي (8/ 177) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن حبان (945)، وأبو داوود (1425)، والترمذي (464) عن سيدنا الحسن رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه مسلم (770)، وأبو داوود (767)، والترمذي (3420) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. وأصرحُ من ذلك في إبطال مذهبهم الفاسد أنه تعالى أراد هداية الجميع. . قولُه تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعمَّ الدعوة، وخصَّ الهداية، وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وإنما أُضيفت السيئة للنفس في: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، وفي قوله صلى اللَّه عليه وسلم في بعض أدعية الافتتاح: "والشر ليس إليك" (¬1) تعليمًا للأدب أنه لا يضاف إليه تعالى المحقرات، كما لا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالق كل شيء. (فاستهدونى) أي: اطلبوا مني الهداية، بمعنى الدلالة على طُرُق الحق، والإيصال إليها معتقدين أنها لا تكون إلا من فضلي وبأمري (أهدكم) أي: أنصِب لكم أدلة ذلك الواضحة، أو أُوصل من شئتُ إيصاله في سابق العلم القديم الأزلي. وحكمة طلبه تعالى منا سؤاله الهداية: إظهار الافتقار والإذعان، والإعلام بأنه لو هداه قبل أن يسأله. . لربما قال: إنما أُوتيتُه على علمٍ عندي، فيضل بذلك، فإذا سأل ربه. . فقد اعترفا على نفسه بالعبودية، ولمولاه بالربوبية، وهذا مقامٌ شريفٌ، وشهودٌ منيف، لا يتفطَّن له إلا الموفَّقون، ولا يعلم قدر عظمته إلا العارفون. (يا عبادي؛ كلكم جائعٌ إلا من أطعمته) وذلك لأن الناس كلهم عبيدٌ لا ملك لهم في الحقيقة، وخزائن الرزق بيده تعالى، فمن لا يطعمه بفضله. . بقي جائعًا بعدله؛ إذ ليس عليه إطعام أحدٍ، فقولُه تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}. . التزامٌ منه تفضلًا؛ لا أنه عليه واجبٌ بالأصالة، فهو نظير: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآيةَ؛ أي: قبولها، واجبٌ منه تفضلًا التزامًا، لا عليه لزومًا. ولا يمنع نسبة الإطعام إليه تعالى ما يشاهد من ترتب الأرزاق على أسبابها الظاهرة؛ كالحِرَف، والصنائع، وأنواع الاكتساب؛ لأنه تعالى المقدّر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوبٌ بالظاهر عن الباطن، والعارف ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (771)، وأبو داوود (760)، والترمذي (3422) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه.

الكامل لا يحجبه ظاهرٌ عن باطنٍ، ولا باطنٌ عن ظاهرٍ، بل يعطي كل مقامٍ حقه، وكل حالٍ وَفْقَه. (فاستطعموني) أي: سلوني واطلبوا مني الطعام، ولا يغرَّنَّ ذا الكثرة ما في يده؛ فإنه ليس بحوله وقوته، بل اللَّه تعالى هو المتفضِّل به عليه، فينبغي له مع ذلك ألَّا يغفل عن سؤال اللَّه تعالى إدامةَ نعمته عليه؛ لئلَّا تنفر عنه فلا تعود إليه؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما نفرت النعمة عن قومٍ فعادت إليهم" (¬1). (أُطْعمكم) أي: أُيسِّر لكم أسباب تحصيله؛ لأن العالمَ جمادَه وحيوانَه مطيعٌ للَّه تعالى طاعةَ العبد لسيده، فيُسخِّر السحابَ لبعض الأماكن، ويحرك قلب فلانٍ لإعطاء فلان، ويحوج فلانًا لفلانٍ بوجهٍ من الوجوه؛ لينال منه نفعًا، فتصرفاته تعالى في هذا العالم عجيبةٌ لمن تدبرها: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، وفيه إشارة إلى تأديب الفقراء، وكأنه قال لهم: لا تطلبوا الطُّعْمة من غيري؛ فإن مَنْ تستطعمونهم أنا الذي أطعمهم، فاستطعموني أطعمكم. (يا عبادي؛ كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم) {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، وفي هذا جميعِه أوفى تنبيهٍ، وأظهر تقريرٍ على افتقار سائر خلقه تعالى إليه، وعجزهم عن جلب منافعهم، ودفع مضارِّهم إلا أن ييسر لهم ما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، فلا حول ولا قوة إلا به، ولا استمساك إلا بسببه. وممَّا نُقل عن حِكَمِ عيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم: (ابنَ آدم؛ أنت أسوأ بربك ظنًا حين كنت أكمل عقلًا؛ لأنك تركت الحرص حين كنت جنينًا محمولًا، ورضيعًا مكفولًا، ثم ادَّرَعتَهُ عاقلًا قد أصبت رشدك، وبلغت أشدك) (¬2). (يا عبادي؛ إنكم تخطئون) ضبط بفتح أوله وثالثه، من (خَطِئَ يَخْطَأ)، إذا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3353) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. وفي هامش (ج): وأَحْسَنَ مَنْ قال: (من المتقارب) إذا كنتَ في نعمة فارعَها ... فإنَّ المعاصي تزيلُ النِّعَمْ وداوِمْ عليها بشكر الإلهْ ... فإنَّ الإله سريعُ النقمْ (¬2) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير" (4/ 477). ومعنى ادَّرَعه: لبسه كما يلبس الدرع.

فعل عن قصد، كعلم يعلم، ومنه: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ولا يصح مِن (أخطأ) الرباعي؛ لأنه الفعل عن غير قصد، وهو لا إثم فيه بالنص، والكلام إنما هو فيما فيه إثمٌ، بدليل: "فاستغفروني" انتهى، وفيه نظر، ولا نُسلِّم أن (أخطأ) منحصرٌ في الفعل عن غير قصدٍ، بل يأتي بمعنى الثلاثي أيضًا؛ أي: فعل الخطيئة عمدًا، فصح ما هو المحفوظ في، الحديث من ضم الأول وكسر الثالث، ثم رأيت المصنف صرَّح بما ذكرته فقال: (المشهور: ضم التاء، وروي بفتحها، يقال: خَطِئَ إذا فعل ما يأثم به فهو خاطئٌ، ومنه: {إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} ويقال في الإثم أيضًا: أخطأ، فهما صحيحتان) اهـ (¬1) (بالليل والنهار) (¬2) هذا من باب المقابلة؛ لاستحالة وقوع الخطأ من كلٍّ منهم ليلًا ونهارًا، لكن عادة (¬3)، على أن المعصومين غير داخلين في هذا. (وأنا أغفر الذنوب جميعًا) ما عدا الشرك وما لا يشاء مغفرته؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وكذا يخص به قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وفي اعتراض هذه الجملة مع التأكيد فيها بشيئين: (أل) الاستغراقية و (جميعًا) المفيدِ كلٌّ منهما العمومَ غايةُ الرجاء للمذنبين حتى لا يقنط أحدٌ منهم من رحمة اللَّه تعالى لعظيم ذنبه. (فاستغفروني أغفر لكم) ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "لولا تذنبون وتستغفرون. . لذهب اللَّه بكم وجاء بقومٍ غيركم، فيذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" (¬4)، وأخر لح الترمذي وابن ماجه: "كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (16/ 133 - 134). (¬2) قوله: (بالليل والنهار) قدَّم اليل لشرفه وأصالته، لأنه وقت العبادة والخلوة، ولأن الظلمة هي الأصل، والنور طارئٌ عليها بسترها؛ ولأن الشهور خيرها الليالي. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (هذا من باب المقابلة) أي: لا يقال: معنى قوله: (إنكم تخطئون. . . إلخ): أن الخطأ يقع من كلٍّ منكم ليلًا ونهارًا، وهذا مستحيلٌ عادة؛ لأنه من باب المقابلة؛ أي: مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: يصدر منكم الخطأ لا دائمًا، بل من بعضكم ليلًا، ومن بعضكم نهارًا؛ إذ الغالب أن العبد لا يستغرق الدهر كلَّه في الخطايا، ووجه كون قوله: (بالليل والنهار) في معنى الجمع: أن معناه في جميع الأوقات والساعات. اهـ "مدابغي" (¬4) أخرجه مسلم (2749) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه.

التوابون" (¬1)، والبخاري: "واللَّه؛ إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (¬2)، والنسائي وابن ماجه: "إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه كل يوم مئة مرة" (¬3)، ومسلم: "يا أيها الناس؛ توبوا إلى ربكم واستغفروه؛ فإني أتوب إلى اللَّه وأستغفره كل يومٍ مئة مرة" (¬4)، والنسائي: "ما أصبحت غداةً قطُّ إلا أستغفر اللَّه مئة مرة" (¬5)، وأحمد وأصحاب "السنن الأربعة": إن كنا لنعدُّ لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة يقول: "رب؛ اغفر لي، وتُبْ عليَّ؛ إنك أنت التواب الرحيم" (¬6). وأصل الغفر: الستر، فغَفْرُ الذنب: سَتْرُهُ ومحوُ أثره، وأمنُ عاقبته، وحكمة التوطئة لما بعد (الفاء) بما قبلها (¬7): بيان أن غير المعصوم والمحفوظ لا ينفك غالبًا عن المعصية، فحينئذٍ يلزمه أن يجدد لكل ذنبٍ ولو صغيرًا توبةً، وهي المرادة هنا من الاستغفار؛ إذ ليس فيه مع عدمها كبير فائدة، وشتَّان بين ما يمحوه بالكلية وهو التوبة النَّصوح، وبين ما يُخفِّف عقوبته أو يؤخرها إلى أجلٍ وهو مجرد الاستغفار، وفي هذا من التوبيخ ما يستحيي منه كل مؤمن؛ لأنه إذا لمح أنه تعالى خلق الليل ليطاع فيه سرًا ويسلم من الرياء. . استحيى أن ينفق أوقاته إلا في ذلك، وأن يصرف ذرةً منها للمعصية، كما أنه يستحيي بالجِبِلَّة والطبع أن يصرف شيئًا من النهار حيث يراه الناس للمعصية. (يا عبادي؛ إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) لما أنه قد قام الإجماع والبرهان على أنه تعالى منزةٌ مقدسٌ غنيٌّ بذاته، لا يمكن أن يلحقه ضررٌ ولا نفعٌ، فهو تعالى كان أحسن إلى عباده بغاية وجوه الإحسان التي ذكرها من ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2499)، وسنن ابن ماجه (4251) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح البخاري (6307) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن النسائي الكبرى (10195)، وسنن ابن ماجه (3815) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) صحيح مسلم (2702/ 42) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬5) السنن الكبرى (10202) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬6) مسند الإمام أحمد (2/ 21)، وسنن أبي داوود (1516)، وسنن الترمذي (3434)، وسنن النسائي الكبرى (10219)، وسنن ابن ماجه (3814) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬7) ما بعد الفاء هو قوله: (استغفِروني أغفر لكم)، وما قبلها قوله: (يا عبادي إنكم تخطئون. . .).

إجابة دعائهم، وهدايته لهم، وإطعامهم، وكسوتهم، وغفر ذنوبهم. . غيرُ محتاجٍ إلى مكافأتهم بجله ب نفعٍ أو دفع ضرٍّ، ومن ثم قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي: أن اللَّه تعالى يحب من عباده أن يطيعوه؛ ويكره منهم أن يعصوه؛ ولهذا يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا مع غناه المطلق عن طاعات عباده، وأن نفعها إنما يعود إليهم، ولكن هذا من كمال رأفته بهم، ومحبته لنفعهم ودفع ضررهم. وما اقتضاه ظاهر الحديث أن لضره ونفعه غاية لكن لا تبلغها العباد. . متروكٌ بما دلَّ عليه الإجماع والبرهان من غناه المطلق، أو من باب: (على لاحِبٍ -أي: طريق- لا يهتدي لمناره) (¬1) أي: لا منار له فيهتدي به. فالمعنى هنا: لا يتعلق بي ضرٌّ ولا نفعٌ فتضروني أو تنفعوني؛ لأنه تعالى غنيٌّ مطلق، والعبد فقيرٌ مطلق: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} والفقير المطلق لا يملك ضرًا ولا نفعًا، خصوصًا للغنيِّ المطلق. (يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم. . ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ) منكم (. . ما نقص ذلك من ملكي شيئًا) لأنه مرتبطٌ بقدرته وإرادته، وهما دائمان لا انقطاع لهما، فكذا ما ارتبط بهما، وإنما غاية التقوى والفجور عود نفع أو ضرٍّ على أهلهما، وفي ذلك كلَّه إشارةٌ إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفة البِرِّ والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم؛ لأنه تعالى الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه كاملٌ لا نقدس فيه بوجهٍ، بل لا يتصور وجود أكملَ منه على ما أشار إليه حجة ¬

_ (¬1) صدر بيت لامرئ القيس؛ وهو: (سن الطويل) على لاحِب لايهتدي لمناره ... إذاسافَهُ العَوْد النباطيُّ جَرْجَرا وسافه: شمه، والعَوْد: الجمل المسن، والنباطي: الضخم، وجرجر: رغا. انظر "الديوان" (ص 95).

الإسلام الغزالي قدس اللَّه روحه بقوله: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) (¬1) أي: تمَّ وتعلَّقتِ القدرة الباهرة بإيجاده على أكمل الأحوال وأتقنها وأكملها، وما فيه من الشر. . فهو إضافيٌّ بالنسبة لبعض الأشياء، وليس شرًا مطلقًا بحيث يكون عدمه خيرًا من وجوده، بل وجوده مع ذلك خيرٌ من عدمه، ويصح أن يراد هذا من خبر (¬2): "والشر ليس إليك" أي: الشر المحض الذي عدمه خيرٌ من وجوده ليس موجودًا في ملكك. (يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد) أي: أرضٍ واحدةٍ ومقامٍ واحدٍ (¬3) (فسألوني، فأعطيت كل واحدٍ مسألته (¬4). . ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط) هو بكسرٍ فسكونٍ ففتحٍ: الإبرة (إذا أُدخل البحر) أي: وهو في رأي العين لا ينقص من البحر شيئًا، فكذلك الإعطاء من الخزائن الإلهية لا يَنقُصها شيئًا ألبتة؛ إذ لأنهاية لها، والنقص مما لا يتناهى محال، بخلافه مما يتناهى كالبحر وإن جلَّ وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يوجد العطاء الكثير من المتناهي ولا يَنْقُصه؛ كالنار والعِلْم؛ يُقتبَس منهما ما شاء اللَّه تعالى ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على الإعطاء. فعلم أن قوله هنا: "إلا كما. . . إلخ" وقول الخضر لموسى صلى اللَّه على نبينا وعليهما وسلم: (ما نقص علمي وعلمك من علم اللَّه إلا كما نقص هذا العصفور -أي: الذي رأياه يشرب- من هذا البحر) (¬5)، وزَعْمُ بعضهم فرقًا بين هذينِ، وأن العصفور ينقص منه، بخلاف المخيط إذا دخل فيه. . ممنوعٌ؛ إذ الإبرة إذا دخلت في ¬

_ (¬1) أي: ليس في الوجود أبدع مما تم. . . إلخ، فأبدعيةُ غيرِه مستحليةٌ كما قال الشارح فيما، بل لا يتصور وجود أكمل منه؛ لعدم تعلق القدرة به، ولا يستلزم العجز؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالممكن، والفرض أن هذا مستحيل فلا تتعلق به القدرة، قاله شيخنا. اهـ "مدابغي" (¬2) قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى في "حاشيته": (في صحاح النسخ: "خبر" بالخاء المعجمة والباء الموحدة، والمعنى: أن هذا التقدير الذي ذكره الشارح من أن ما فيه من الشر إضافي. . . إلخ. . مأخوذ من هذا الخبر، والتفسير بذلك فتأمل تجده صحيحًا، دون ما في بعض النسخ من ضبطه بالحاء المهملة والمثناة التحتية والزاي). (¬3) قال القاضي: (قيد السؤال بالاجتماع في مقامٍ واحدِ؛ لأن تزاحم السُّؤَّال مما يذهل المسؤول ويبهته، ويعسر عليه إنجاح مآربهم، والاسعاف بمطالبهم) اهـ هامش (غ) (¬4) كذا في نسخ الشرح، وفي نسخ القن: (كل إنسان مسألته) وكذا في "صحيح مسلم"، فليتنبه. (¬5) أخرجه البخاري (122)، مسلم (2380) عن سيدنا أُبي رضي اللَّه عنه.

الماء يتعلَّق بها منه شيءٌ وإن لطف، وإنكار ذلك غباوةٌ ظاهرةٌ. . ليس المراد بهما حقيقتهما (¬1)، وإنما بها كلٌّ منهما مَثَلٌ تقريبيٌّ للإفهام (¬2)؛ ليعلم منه أنه لا نقص في تلك الخزائن ولافي علم اللَّه ألبتة، لا لعدم نقص ماء البحر من غرز المخيط ونقرة العصفور. فالجامع بين إدخال المخيط في البحر والإعطاء من تلك الخزائن عدمُ النقص من حيث المشاهدةُ الصورية فيهما كان افترقا في أنَّا إذا نظرنا إليهما بعين الحقيقة. . وجدنا البحر ينقص بهذا الشيء القليل المأخوذ منه الذي لا يكاد يُدرك، وتلك الخزائن لا تنقص شيئًا مما أفاضه اللَّه تعالى منها من حين خلق السماوات والأرض إلى انقضاء هذا العالم، ثم من حين بعثه إلى ما لا نهاية له؛ لما تقرر من استحالة نقص ما لا يتناهى. ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "يمين اللَّه -أي: إعطاؤه وإفاضته على عباده من تلك الخزائن- سحَّاءُ الليلَ والنهارَ -أي: دائمة فيهما لا يَغيضها ولا ينقصها شيء- أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، لم يَغِضْ ما في يمينه؟! " (¬3) أي: لم ينقص شيئًا مما في خزائن قدرته؛ لأن عطاءه تعالى بين (الكاف) و (النون): {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وحديث ابن ماجه الآتي قريبًا مصرِّحٌ بهذه العِلَّة، وليس المراد أن هناك قولًا يتوقف عليه الإيجاد، وإنما هو كنايةٌ عن وجوده في أسرع وقت عقب تعلق الإرادة به، فعبَّر عن تلك السرعة بزمن (كن) إذ لا يمكن أقل منه في العقول (¬4)، فقدرته تعالى صالحةٌ للإيجاد دائمًا، لا يعتريها عجزٌ ولا قصورٌ، ولا ملَلٌ ولا فتورٌ. وحكمة ضرب المثل هنا بما ذكر: أنه غاية ما يضرب به المثل في القلة؛ إذ البحر من أعظم ما يعاين، والإبرة من أصغره، مع أنها صقيلةٌ لا يتعلَّق بها ماءٌ إلا ما لا يمكن إدراكه كما، وفي هذا تنبيهٌ أيُّ تنبيهٍ للخلق على إدامتهم لسؤاله تعالى مع ¬

_ (¬1) قوله: (ليس المراد بهما) خبر (أن) في قوله قبل قليل: (فعلم أن قوله هنا. . .). (¬2) فهو تشبيهٌ على طريقةٍ أريد به نفي النقص أصلًا؛ لعدم الاعتداد بما يتعلق بالمخيط لقلَّته جدًا. اهـ هامش (غ) (¬3) أخرجه البخاري (7411)، ومسلم (993) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬4) في بعض النسخ: (أقل منه في القول).

إعظام الرغبة وتوسيع المسألة، فلا يختصر سائلٌ، ولا يقتصر طالبٌ؛ لما تقرر أن خزائن الرحمة سحَّاء الليل والنهار، لا يَغيضها الإعطاء وإن جلَّ وعظم. وقيل: إن ذلك إشارة للنعمة المخلوقة، وهي يُتصوَّر فيها النقص كالبحر (¬1). و (نقص) يستعمل لازمًا كنقص المال، ومتعديًا كما هنا؛ إذ مفعول الماضي والمضارع محذوفٌ بدليل السياق. (يا عبادي؛ إنما هي أعمالكم أُحصيها) أي: أضبطها (لكم) بعلمي وملائكتي الحفظة، واحتيج لهم معه لا لنقصه عن الإحصاء، بل ليكونوا شهداء بين الخالق وخلقه، وقد ينضم إليهم شهادة الأعضاء زيادة في العدل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}. لا يقال: قضية (إنما) انحصارُ فائدة الناس في معادهم في ثواب أعمالهم ونفيُ المزيد مع ثبوت النص والإجماع به في نحو: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} لأنَّا نقول: الحصر إنما هو بالنسبة لجزاء الأعمال (¬2)؛ أي: لا جزاء ينقسم إلى خيرٍ وغيره إلا عن عملٍ يكون سببًا له، وأما الزيادة على ذلك. . فلم يتعرَّض لها بنفيٍ ولا إثباتٍ، وقد صحَّت فيها نصوصٌ أُخرى لا معارض لها، فوجب الأخذ بها. (ثم أُوفِّيكم إياها) أي: جزاءها في الآخرة، على حدِّ: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فلما حذف المضاف. . انقلب المجرور منصوبًا منفصلًا، أو في الدنيا أيضًا؛ لما روي: أنه صلى اللَّه عليه وسلم فسَّر ذلك بأن المؤمنين يُجازَون بسيئاتهم في الدنيا، ويدخلون الجنة بحسناتهم، والكافر يُجازَى بحسناته في الدنيا، ويدخل النار بسيئاته. ¬

_ (¬1) قوله: (وقيل. . . إلخ) هذا مقابل ما تقدَّم من جعل الحديث من باب ضرب المثل؛ يعني إما أن يجعل الحديث من باب ضرب المثل، وليس المراد به حقيقته كقول الخضر السابق، أو يبقى الحديث على ظاهره، ويحمل على حقيقته، ويكون مفروضًا في النعمة المخلوقة، وهي يتصور فيها النقص لتناهيها، تأمل. اهـ "مدابغي" (¬2) قوله: (الحصر إنما هو بالنسبة لجزاء الأعمال) أي: لا مسبب للجزاء إلا العمل، فالمراد: حصر سببية الجزاء في الأعمال، وليس في الحديث أنه لا يحصل للإنسان في المعاد إلا الثواب بقدر العمل دون الزيادة، وحينئذٍ فالزيادة مسكوتٌ عنها في هذا الحديث، لم يتعرض لها بنفى ولا إثباتٍ، وإنما الدليل عليها نصوص أخرى من الكتاب والسنة. اهـ "مدابغي"

(فمن وجد خيرًا) أي: ثوابًا ونعيمًا، بأن وُفِّق لأسبابهما، أو حياةً طيبةً هنيئةً مريئةً؛ كما قال اللَّه تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. (فليحمد اللَّه) تعالى على توفيقه للطاعات التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلًا منه تعالى ورحمة، وعلى إسدائه ما وصل إليه من عظيم المبرَّات؛ إذ لا يجب عليه شيءٌ لأحدٍ من خلقه (¬1)، فعلم أنه إن أُريد بذلك الآخرة فقط. . كان الأمر بذلك بمعنى الإخبار بأن من وجد خيرًا فيها. . حمد اللَّه تعالى عليه، ومن وجد غيره. . لام نفسه حين لا ينفعها اللوم. وجاء في آياتٍ الإخبارُ عن أهل الجنة بأنهم يحمدون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}، {لْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ}، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} الآيات. وعن أهل النار بأنهم يلومون أنفسهم: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآيتينِ. وأخرج الترمذي: "ما من ميتٍ يموت إلا ندم، فإن كان محسنًا. . ندم ألَّا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا. . ندم ألَّا يكون استعتب" (¬2). (ومن وجد غير ذلك) أي: شرًا، ولم يذكره بلفظه؛ تعليمًا لنا كيفيةَ الأدب في النطق بالكناية عمَّا يؤذي، ومثله ما يُستقبح أو يُستحيى من ذكره، أو إشارةً إلى أنه إذا اجتنب لفظه. . فَكيف بالوقوع فيه؟! أو إلى أنه سبحانه وتعالى حييٌّ كريمٌ يحب الستر ويغفر الذنب، فلا يعاجل بالعقوبة، ولا يهتك الستر. ثم رأيت بعضهم أجاب بجوابٍ آخر (¬3)، فقال: ولم يقل: شرًا؛ إشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه. . فكيف الوقوع فيه؟! ¬

_ (¬1) سقطت هذه الجملة من بعض النسخ وجُعلت بعد حديث الترمذي الآتي وقبل المتن. (¬2) سنن الترمذي بنحوه (2403) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وفي هامش (ج): (أي: عتب على نفسه ولامها). (¬3) قوله: (ثم رأيت بعضهم أجاب بجوابٍ آخر) لعل نسخة الشارح ليس فيها: (أنه إذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع =

(فلا يلومنَّ إلا نفسه) فإنها آثرت شهواتها ومستلذاتها على رضا خالقها ورازقها، فكفرت بأنعُمِ اللَّه، ولم تُذْعن لأحكامه وحكمه، فاستحقَّتْ أن يعاملها بمظهر عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، نسأل اللَّه تعالى العافية من ذلك، وأن يمنَّ علينا بالسلامة من خوض غمرة هذه المهالك، إلى أن نلقاه مُبشَّرين بقربه ورضاه، آمين. واحتيج هنا للتأكيد بالنون؛ تحذيرًا أَن يخطر في قلب عاملٍ أن مستحق اللوم غيرُ نفسه، وليس كذلك؛ لأن اللَّه تعالى أوضح وأعذر حتى لم يُبقِ حجةً لأحدٍ، وفيه إيماء إلى ذم ابن آدم وقلة إنصافه؛ فإنه يحسب طاعته من عمله لنفسه ولا يسندها إلى التوفيق، ويتبرأ من معاصيه ويسندها إلى الأقدار؛ فإن كان لا تصرُّفَ له كما يزعم. . فهلَّا كان ذلك في الأمرين؟! كان كان له تصرُّف. . فلِمَ ينفيه عن أحدهما؟! ووجهُ ختم هذا الحديث بهذه الجملة: التنبيهُ على أن عدم الاستقلال بنحو الإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارةً وبالترك أخرى؛ لأنَّا وإن علمنا أنَّا لا نستقل، لكننا نحسُّ بوجدان الفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش، والاختيارية كحركة السليم، وهذه التفرقة راجعةٌ إلى تمكُّن محسوس مشاهد، وأمرٍ معتاد، يوجد مع الاختيار دون الاضطرار، وهذا هو مورد التكليف المعبَّر عنه بالكسب، فلا تناقض ولا تعسُّف. والحاصل: أن المعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر وإن كانت بقدرة اللَّه تعالى وخذلانه. . فهي بكسب العبد، فلْيَلُمْ نفسَه؛ لتفريطه بالكسب القبيح، وأن قول القدرية: هذا حجةٌ لنا؛ لأن لوم العبد نفسَه على سوء العاقبة يقتضي أنه الخالق لأفعاله، وأن قوله: "فلا يلومن إلا نفسه" تنصُّلٌ من المعصية، وأنه ليس له فيها تأثير بخلق فعل ولا تقديره. . باطلٌ بنص قوله تعالى (¬1): {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، والآيات في نحو هذا المعنى كثيرة، وقد قدمت منها جملةً في شرح قوله: "كلكم ضال إلا من هديته". ¬

_ = فيه؟!) فيكون من زيادة النساخ؛ وإلا. . كان هذا أحد الأجوبة التي ذكرها لا جوابًا آخر، وقوله: (ثم رأيت بعضهم) غير به إلى السراج ابن الملقن. اهـ "مدابغي" (¬1) قوله: (باطل) هذا خبر (أن) في قوله: (وأن قول القدرية. . . إلخ) اهـ هامش (ج)

ثم يلزمهم أن مَنْ وجد خيرًا لا يحمد اللَّه تعالى؛ لأنه لا أثر له على ما زعموه، بل يحمد الإنسان نفسه؛ لأنه الخالق لطاعته، الموجد لسلامته، وهذا مراغمةٌ للنص المذكور وغيره، وقد أخبر اللَّه تعالى عن أهل الجنة بأنهم يقولون فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}. (رواه مسلم) وهو حديثٌ عظيمٌ ربانيٌّ، مشتملٌ على قواعد عظيمةٍ في أصول الدين، وفروعه، وآدابه، ولطائف القلوب، وغيرها، وقد ساقه المصنف رحمه اللَّه تعالى في "أذكاره" بإسناده وختم به، وفيه: (عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، عن جبريل، عن اللَّه سبحانه تعالى) ثم نقل أن أبا إدريس راويَهُ عن أبي ذرٍّ كان إذا حدَّث به. . جثا على ركبتيه تعظيمًا له وإجلالًا. ورجال إسناده دمشقيون، قال أحمد: (ليس لأهل الشام حديثٌ أشرف منه) (¬1). وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه بزيادة: "يا عبادي؛ كلكم مذنبٌ إلا من عافيت، فاسألوني المغفرة أغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرةٍ على المغفرة فاستغفرني بقدرتي،. . غفرت له ولا أبالي، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فاسألوني أرزقكم، فلو أن حيَّكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا فسألوني فكانوا على قلب أتقى عبدٍ من عبادي. . لم يزد في ملكي جناح بعوضة، ولو اجتمعوا فكانوا على قلب أشقى عبدٍ من عبادي. . لم ينقص من ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم واخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا فسأل كل سائلٍ منهم ما بلغت أمنيته. . ما نقص من ملكي إلا كما لو كان أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرةً ثم نزعها، ذلك بأني جوادٌ ماجدٌ، أفعل ما أُريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن، فيكون" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "الأذكار" (ص 660 - 662). (¬2) مسند الإمام أحمد (5/ 154)، وسنن الترمذي (2495)، وسنن ابن ماجه (4257) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه.

فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام الله تعالى]

فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى] يعم نفعها ويعظم وقعها في الفرق بين الوحي المتلو وهو القرآن، والوحي المروي عنه صلى اللَّه عليه وسلم عن ربه عز وجل، وهو ما ورد من الأحاديث الإلهية، وتسمى القدسية، وهي اكثر من مئة، وقد جمعها بعضهم في جزءٍ كبيرٍ، وحديث أبي ذرٍّ هذا من أجلِّها. اعلم أن الكلام المضاف إليه تعالى أقسامٌ ثلاثة: أولها -وهو أشرفها-: القرآن؛ لتميزه عن البقية بإعجازه من أوجهٍ قدمناها أولَ الكتاب (¬1)، وكونِه معجزةً باقيةً على ممر الدهر، محفوظةً من التغيير والتبديل، وبحرمة مسِّه للمحدث، وتلاوته لنحو الجُنب، وروايته بالمعنى، وبتعيُّنه في الصلاة، وبتسميته قرآنًا، وبأن كل حرفٍ منه بعشر حسنات، وبامتناع بيعه في روايةٍ عند أحمد، وكراهته عندنا، وبتسمية الجملة منه آية وسورة. وغيرُه من بقية الكتب والأحاديث القدسية لا يثبت لها شيءٌ من ذلك، فيجوز مسُّه، وتلاوته لمن ذكر، وروايته بالمعنى، ولا يجزئ في الصلاة، بل يبطلها، ولا يُسمى قرآنًا، ولا يُعطى قارئه بكل حرفٍ عشرًا، ولا يُمنع بيعه، ولا يُكره اتفاقًا، ولا يُسمى بعضه آية ولا سورة اتفاقًا أيضًا. ثانيها: كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل تغييرها وتبديلها. ثالثها: بقية الأحاديث القدسية، وهي ما نُقل إلينا آحادًا عنه صلى اللَّه عليه وسلم مع إسناده لها عن ربه، فهي من كلامه تعالى، فتضاف إليه، وهو الأغلب، ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء؛ لأنه المتكلم بها أولًا، وقد تضاف إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم؛ لأنه المخبر بها عن اللَّه تعالى، بخلاف القرآن؛ فإنه لا يضاف إلا إليه تعالى، فيقال فيه: قال اللَّه تعالى، وفيها: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيما يروي عن ربه. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 91).

واختلف في بقية السُّنَّة؛ هل هو كله بوحي أو لا؟ وآية: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} تؤيد الأول، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه" (¬1). ولا تنحصر تلك الأحاديث القدسية في كيفيةٍ من كيفيات الوحي، بل يجوز أن تنزل بأي كيفيةٍ من كيفياته؛ كرؤيا النوم، والإلقاء في الرُّوع، وعلى لسان المَلَك، ولراويها صيغتان: إحداهما: أن يقول: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيما يروي عن ربه، وهي عبارة السلف، ومن ثم آثرها المصنف فيما مر. ثانيتهما: أن يقول: قال اللَّه تعالى فيما رواه عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، والمعنى واحد. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داوود (4604) عن سيدنا المقدام بن معدي كرب رضي اللَّه عنه.

الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذكر]

الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر] عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَيْضًا: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالوا لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ ذَهبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: "أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟! إِنَّ بكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ. . كَانَ لَهُ أَجْرٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي ذر رضي اللَّه) تعالى (عنه أيضًا: أن ناسًا من أصحاب) (¬2) هو كصحابة -بفتح أوله وقد يكسر- وصُحْبان، وصِحَاب، جمع صاحبٍ بمعنى الصحابي؛ وهو: من اجتمع بمحمدٍ صلى اللَّه عليه وسلم بعد النبوة وقبل وفاته مؤمنًا به، ومات على ذلك وإن لم يره؛ ليدخل الأعمى نحو ابن أم مكتوم، كان لم يروِ عنه وإن لم يجتمع به إلا لحظة، سواء كان من الإنس أو من غيرهم، وتُعرف الصُّحبة بنحو استفاضةٍ، وقولِ صحابيٍّ آخر، وكذا بقوله نفسه إذا كان عدلًا (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1006). (¬2) سقطت كلمة: (أيضًا) من النسخ كلها إلا من (ح) وهي موجودةٌ في نسخ المتن. (¬3) كمحمود بن الربيع رضي اللَّه عنه؛ فإنه مجَّ في وجهه رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم -وهو ابن خمس سنين- مجةً من ماءٍ من دلوٍ يمازحه بها، فكان محمود يذكر ذلك، فعُدَّ به من الصحابة. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ)

والتابعي: هو الذي رأى صحابيًا وجالسه، والفرق: أن اجتماع لحظةٍ معه صلى اللَّه عليه وسام تُفيد مَنْ حصلت له مِن انشراح الصدر، وحقائق القرب، وغرائب العلم والحكمة؛ كما هو مشاهدٌ في الصحابة ما لا يفيد عُشْرَ معشارها صحبةُ غيره -وإن جلَّ قدره واتسع علمه- سنين. واعلم: أن الذي عليه معظم أهل الحق والسُّنة أن الصحابة كلَّهم عدولٌ، لأن اللَّه تعالى زكَّاهم وشهد لهم بالصدق والنجاة في آيٍ كثيرةٍ من كتابه العزيز، وقد بسطتُ ذلك بأدلته الواضحة الجلية في كتابي "الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين والابتداع والضلال والزندقة" فانظره؛ فإنه مهمٌّ، وما أظن أنه صُنِّف مثله في بابه من إثبات حقيَّه خلافة الصديق رضي اللَّه تعالى عنه وفروعها من خلافة عمر، ثم عثمان، وإمارة علي (¬1)، ثم الحسن رضي اللَّه تعالى عنهم، وإثبات فضائلهم على هذا الترتيب، واستقصاء ما ورد منها، ثم فضائل أهل البيت، وما اختصوا به، وما امتُحِنوا به، مستقصاةً أتم استقصاءٍ، ثم فضائل الصحابة، وحكم ما جرى بينهم، واختلاف الناس في يزيد، وما يتعلَّق بأطراف ذلك مما ينشرح له الصدر، وتقرُّ به العين، أسأل اللَّه تعالى قبوله، آمين. (رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قالوا للنبي) بالهمز من (النبأ) وهو الخبر؛ لأن النبي مخبرٌ عن اللَّه تعالى (¬2)، وبتركه من (النبا) مسهَّلًا (¬3)، أو من (النَّبْوَة)، وهي الرفعة؛ لأن النبي مرفوع الرتبة على غيره، والنبوة أعم من الرسالة، والرسالة أفضل منها، كما مرَّ تحقيق ذلك أول الكتاب (¬4). (صلى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه؛ ذهب أهل الدثور) بضم الدال وبالمثلثة، ¬

_ (¬1) في (غ): (وخلافة علي) وقال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: قوله: (وإمارة علي) الظاهر: أن التعبير بالإمارة بعد الخلافة تفنن، فليتأمل. (¬2) قوله: (مخبِر) بكسر الباء: اسم فاعل، أو مخبَر بفتحها اسم مفعول؛ لأنه أخبره جبريل. اهـ هامش (ج) (¬3) قال الشيخ الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 219): (ونهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن المهموز بقوله: "لا تقولوا: يا نبيء اللَّه -بالهمز- بل قولوا: يا نبي اللَّه" أي: بلا همز؛ لأنه قد يرى بمعنى الطريق، فخشي صلى اللَّه عليه وسلم في الابتداء سبق هذا المعنى إلى بعض الأذهان، فنهاهم عنه، فلما قوي إسلامهم، وتواترت به القراءات. . نُسخ النهي عنه؛ لزوال سببه). (¬4) انظر ما تقدم (ص 84).

جمع (دَثْر) بفتح فسكون؛ وهو: المال الكثير، يقال: مال دَثْر، ومالان دَثْر، وأموال دَثْر. (بالأجور) الكثيرة لكثرة أعمالهم؛ فإنهم (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم) أي: بأموالهم الفاضلة عن كفايتهم، وقيَّدوا بذلك؛ بيانًا لفضل الصدقة؛ فينها بغير الفاضل عن الكفاية إما مكروهةٌ، أو محرمةٌ، على التفصيل المقرر فيها في الفقه (¬1)، وقولهم ما ذُكر ليس حسدًا، بل غبطةً وطلبًا للمنافسة فيما يتنافس فيه المتنافسون من طلب مزيد الخير ومنتهاه؛ لشدة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوة رغبتهم في الخير؛ قال اللَّه تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}. ولمَّا فهم منهم صلى اللَّه عليه وسلم ذلك. . (قال) لهم جوابًا وتطمينًا لخاطرهم وتقريرًا؛ لأنهم ربما ساووا الأغنياء: (أَوَليس) أي: أتقولون ذلك؟! أي: لا تقولوه؛ فإنه (قد جعل اللَّه) سبحانه وتعالى (لكم ما تصَّدَّقون) بتشديد الصاد، كما هو الروابة؛ أي: تتصدقون به، أُدغمت إحدى التاءين بعد قلبها صادًا في الصاد، وقد تحذف إحداهما فتخفف الصاد. (إن) لكم (¬2) (بكل تسبيحةٍ) أي: قول: سبحان اللَّه؛ أي: بسببها؛ كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولا ينافيه خبر: "لن يدخل أحدكم -وفي رواية: أحدٌ منكم- الجنة بعمله. . . " الحديث (¬3): ¬

_ (¬1) وهو أنها مكروهةٌ في حق من صبر، ومحرمةٌ في حق من لم يصبر. اهـ "مدابغى" (¬2) قوله: (إن لكم) قال الشيخ المناوي: هكذا قدَّره الشارح الهيتمي، وظاهره: أن الفضل المرتب على الأذكار الآتية يخصُّ لفقراء دون غيرهم من الأغنياء، واغتر في ذلك ببعض المتكلمين عليه "البخاري"، وما درى أنه قد تكفَّل بعض المحققين بردِّه، وقال: إنه غفلةٌ عن قوله في نفس حديث البخاري: (إلا من صنع مثل ما صنعتم) فجعل الفضل لقائله كائنًا من كان، فالأولى: تقدير ما يناسب العموم. انتهى بحروفه، وإنما كان ظاهره ما ذكر؛ لأن الفرض أن (لكم) خبر (إن) مقدمًا، و (صدقة) اسمها مؤخرًا، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الاختصاص والحصر، والمعنى: لكم لا لغيركم، تأمل. ثم قرأت عبارة المناوي على شيخنا فقال: الخبر هنا حقه التقديم لدفع توهم الصفة فلا يفيد الحصر، فليراجع. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه.

إما لأن الآية فرب نيل الدرجات، فهي بسبب الأعمال وتفاوتها، والحديث في أصل دخول الجنة، فهم بمحض الفضل؛ إذ لا يكافئه عملٌ. وإما لأن الإسلام هو المتكفِّل بدخول الجنة، وهو محمل الآية، وبقية الأعمال سببٌ في نيل درجاتها لا في دخولها، وهو محمل الحديث. وإما لأن واحدًا منهما ليس سببًا لدخولٍ ولا نيلٍ لذاته، وهو محمل الخبر، بل لتفضل اللَّه تعالى علينا بجعله سببًا، وهو محمل الآية. (صدقة) اسمها (¬1) و (بكل) متعلق الخبر المحذوف، وليس بخبر؛ لعدم الفائدة. (وكل تكبيرة) (¬2) أي: قول: اللَّه أكبر (صدقة) برفعه كالذي بعده استئنافًا، وبنصبه عطفًا على (صدقة). (وكلِّ) بكسر اللام (تحميدة) أي: قول: الحمد للَّه (صدقة، وكل تهليلة) أي: قول: لا إله إلا اللَّه (صدقة، وأمرٌ) سوغ الابتداء به عمله في الظرف، وكذا (نهيٌ) ونُكِّرا إيذانًا بأن كل فردٍ من أفرادهما صدقة، ولو عُرِّفا. . لاحتمل أن المراد جنسهما، أو معهودٌ منهما، فلا يفيد النص على ذلك. (بالمعروف) عرَّفه إشارةً إلى تقرُّره وثبوته، وأنه مالوفٌ معهودٌ (صدقة، ونهيٌ عن منكرٍ) نكَّره إشارة إلى أنه في حيز المعدوم أو المجهول الذي لا إلف للنفس به (صدقة) بشروطه المقررة في الفقه؛ ومنها: أن يكون مجمعًا على وجوبه أو تحريمه، أو أن يَعلم مِن الفاعل اعتقادَ ذلك حال ارتكابه بخلافه (¬3)، وأن يقدر على إزالته إما بيده أو إبلسانه، بأن لم يخش ترتب مفسدةٍ عليه، أو لحوق ضررٍ له في نحو نفسه أو ماله. ¬

_ (¬1) أي: اسم (إن). (¬2) في النسخ كلها إلا في (ح): (وبكل تكبيرة) والمثبت منها ومن نسخ المتن. (¬3) قوله: (بخلافه) أي: بخلاف نفس الآمر أو الناهي؛ يعني: أن العبرة حيث اختلف اعتقادهما باعقاد المأمور أو المنهي، فيجب الإنكار على معتقد التحريم وان اعتقد المنكِر إباحته؛ لأنه يعتقد حرمته بالنسبة لفاعله باعتبار عقيدته. اهـ "مدابغي"

وتسميته ما ذكر وما يأتي صدقة من مجاز المشابهة (¬1)؛ أي: أن لهذه الأشياء أجرًا كأجر الصدقة في الجنس؛ لأن الجميع صادرٌ عن رضا اللَّه تعالى مكافأةً على طاعته، إما في القَدْر أو الصفة (¬2)، فيتفاوت بتفاوت مقادير الأعمال وصفاتها وغاياتها وثمراتها، وقيل: معناه: أنها صدقةٌ على نفسه. وفيه فضل هذه الأذكار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتأخيرهما عنها من باب الترقي (¬3)؛ لوجوبهما عينًا أو كفايةً، بخلافها، ولا شك أن الواجب بقسميه أفضل من النفل (¬4)؛ لحديث البخاري: "ما تقرَّب إليَّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم" (¬5) بل نقل إمام الحرمين أن ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل بسبعين درجة، واستأنسوا له بحديث، وقد بينتُ ذلك وما فيه في "شرح الإرشاد" (¬6) وحقيقة الصدقة موجودةٌ فيهما؛ لنفعهما باقي الناس بإسقاط الحرج عنهم، ومن ثم قال جماعةٌ من أئمتنا: إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأن نفعه يخص الفاعل، ونفع فرض الكفاية يعم الأمة؛ لسقوط حرجه عنهم. وفيه إيماءٌ إلى أن الصدقة للقادر عليها أفضل من هذه الأذكار، ويؤيده: أن العمل المتعدي أفضل من القاصر غالبًا، وإلى أن تلك الأذكارَ إذا حسنت النية فيها. . ربما يساوي أجرها أجر الصدقة، سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ¬

_ (¬1) أي: من التشبيه البليغ المحذوف منه أداة التشبيه. (¬2) قوله: (لأن الجميع) أي: أجر كل واحدٍ من هذه الأشياء وأجر الصدقة صادرٌ من اللَّه تعالى عن رضاه؛ مكافأة على طاعة العبد إياه، فقوله: (إن بكل تسبيحة صدقة) تقديره: إن بكل تسبيحة أجرًا كاجر الصدقة، حذف كاف التشبيه للمبالغة، ثم حذف (أجرًا) فبقي: (أجر صدقة) ثم حذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وأُعرب بإعرابه، ذكره الأكمل. انتهى "مناوي"، ثم التشبيه بالنسبة للجنس لا القدر والصفة كما قاله الشارح وغيره. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (وتأخيرهما عنها. . . إلخ) استئناف بياني في جواب سؤال مقدر. اهـ هامش (ج) (¬4) الفرض أفضل من النفل، وما درى أنها قاعدة أغلبية؛ فقد استثنوا منها مسائل؛ منها: إبراء المعسر؛ فإنه أفضل من إنظاره وإنظاره واجب، وإبراؤه مندوب، ومنها: ابتداء السلام؛ فإنه سُنةٌ والرد واجب، والابتداء أفضل كما أفتى به القاضي حسين، ومنها: الوضوء قبل الوقت سنة وهو أفضل منه في الوقت،"شرح الشمائل" لعبد الرؤوف المناوي. اهـ هامش (غ) (¬5) صحيح البخاري (6502) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬6) في بعض النسخ: (شرح الإرشاد الصغير).

(وفي بُضع) بضم فسكون؛ أي: فرج أو جماع (أحدكم) (¬1) لحليلته (صدقة) أي: إذا قارنته نيةٌ صالحةٌ؛ كإعفاف نفسه أو زوجته عن نحو نظرٍ أو فكرٍ أو همٍّ محرم، أو قضاء حقها من معاشرتها بالمعروف المأمور به، أو طلب ولدٍ يوحِّد اللَّه تعالى، أو يتكثَّر به المسلمون، أو يكون له فرطًا إذا مات؛ لصبره على مصيبته. فعلم أن المباح يصير طاعةً بالنية الصالحة، وأن منها ما يُصَيِّر المباضعة صدقةً على المسلمين باعتبار ما ينشأ عنها من وجود ولدٍ صالحٍ يحمي بيضة الإسلام، أو يقوم ببيان العلوم والأحكام، وأنه لا حجة فيه للكعبي من المعتزلة على أن المباح مأمورٌ به؛ لأنه إما محمولٌ على ما قررناه وهو الأظهر، أو يقال: إنما الذي دلَّ عليه أن جماع الحليلة قربةٌ وإن لم ينو، فلا دلالة فيه على أن مطلق المباح مأمورٌ به بوجهٍ. ووجه إعراض الأئمة عن ظاهره المذكور: ما تقرر عندهم أن النكاح من حيث ذاته إنما هو من باب المباحات؛ لِمَا للنفس فيه من الشهوة النفسانية، لا من باب العبادات إلا بالنية. و (ق) هنا بمعنى (باء) السببية، ونظيره خبر: "في النفس المؤمنة مئةٌ من الإبل" (¬2) أو باقيةٌ على ظرفيتها، لكن بتجوُّزٍ؛ كأنَّ البضع لمَّا ترتب عليه ذلك الثواب بشرطه. . صار كالظرف له، وعلى كلٍّ يستفاد منه أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان صدقةٌ، ويوافقه خبر مسلم: "كل معروف صدقةٌ" (¬3). وقوله صلى اللَّه عليه وسلم في القصر: "صدقة تصدَّق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬4). وفي حديث: "من نام عن ورده. . كتب اللَّه له أجر صلاته، وكان نومه صدقةً من اللَّه تصدَّق بها عليه" أخرجه النسائي وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) وإنما أضاف البضع إلى الأحد؛ إشارة إلى أن البضع لا بد أن يكون منفعةً مملوكةً لأحدهم، وإلا. . كان زنًا محرَّمًا. اهـ هامش (ج) (¬2) أخرجه الطبراني في "الأحاديث الطوال" (56) عن سيدنا عمرو بن حزم رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح مسلم (1005) عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه مسلم (686)، وأبو داوود (1199)، والترمذي (3034) عن سيدنا يعلى بن أمية رضي اللَّه عنهما. (¬5) سنن النسائي (3/ 257) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.

وأخرج ابن ماجه والبزار: "ما من يومٍ ولا ليلةٍ ولا ساعةٍ إلا للَّه فيها صدقة يمنُّ بها على من يشاء من عباده، وما مَنَّ اللَّه على عبده مثلَ أن يلهمه ذكره" (¬1). (قالوا: يا رسول اللَّه؛ أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!) استبعدوا حصوله بفعلٍ مستلَذٍّ نظرًا إلى أنه إنما يحصل غالبًا في عبادةٍ شاقةٍ على النفس مخالِفةٍ لهواها. (قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه وزر؟!) أي: إثم (فكذلك إذا وضعها في الحلال؛ كان له أجرٌ) بالرفع، وروي بنصبه، وهما ظاهران. وظاهر إطلاقه: أن الإنسان يؤجر في جماع حليلته مطلقًا، وبه قال بعضهم، لكن حديث أحمد الآتي قريبًا ظاهرٌ في تقييد ذلك بنية طلب ولدٍ يُربِّيه ويؤدِّبه ويحتسبه عند موته، وكنيَّتِهِ نيةُ إعفاف فرجه، ويؤيد هذا: أنه جاء في رواياتٍ كثيرةٍ: أن نفقة الرجل على أهله -زوجته وعياله- صدقة (¬2)، لكنه قيَّد في رواية مسلم بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "وهو يحتسبها" فدل على أن شرط ثواب الصدقة احتسابها، وإذا كان هذا في الإنفاق الواجب. . فأَولى الجماع المباح. وفي روايةٍ في "الصحيحين": "إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه اللَّه إلا أُجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك" (¬3) فيه دليلٌ لجواز القياس، سيما قياس العكس المذكور فيه؛ وهو: إثبات ضد الحكم لضد الأصل، كإثبات الوزر المضاد للصدقة للزنا المضاد للوطء المباح (¬4)؛ أي: كما يأثم في ارتكاب الحرام يؤجر في فعل الحلال، ومنه قول ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "من مات لا يشرك باللَّه شيئًا. . دخل الجنة" وأنا أقول: من مات يشرك باللَّه شيئًا. . دخل النار (¬5). ¬

_ (¬1) مسند البزار (3890) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (5351)، ومسلم (1002) عن سيدنا أبي مسعود البدري رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح البخاري (56)، وصحيح مسلم (1628) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه. (¬4) قوله: (كإثبات الوزر. . . إلخ) الظاهر: أن هذا مثالٌ لإثبات ضد الحكم لضد الأصل، والحاصل: أن المثبت أولًا حكم لشيءٍ؛ وهو الوزر للزنا، والمفرَّع عليه إئبات ضد هذا الحكم؛ وهو الأجر لضد هذا الأصل؛ وهو الوطء المباح، تأمل. اهـ "مدابغي" (¬5) أخرجه البخاري (1238)، ومسلم (92) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه، واللفظ الذي ذكره الشارح =

ويقابله قياس الطرد؛ وهو: إثبات مثل حكم الأصل للفرع إما بالأولى، أو المساواة، أو الأدْوَنية، ومخالفةُ بعض الأصوليين في قياس العكس ضعيفٌ، وأهلِ الظاهر في القياس من أصله، أو في غير الجلي منه. . مخالفٌ لما أطبق عليه العلماء كافةً من جوازه مطلقًا بشروطه المقررة في الأصول، فلا يعتد بخلافهم على عادتهم، وما نقل عن التابعين من ذمه محمولٌ على قياسٍ معارضٍ للنص، أو فُقِد فيه بعض تلك الشروط. وفيه أيضًا: أنه ينبغي قرن النية الصالحة بالمباح، لِتقْلبَهُ طاعةً، وأنه لا بأس بذكر المفتي بعضَ الأدل لا الخفية، لكن يراعى الاختصار ما أمكن، وأنه لا بأس بسؤاله عن الدليل الخفي إذا علم منه أنه لا يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب. (رواه مسلم) وهو حديثٌ عظيمٌ؛ لاشتماله على قواعد نفيسةٍ من قواعد الدين كما يعلم ممَّا ذكرناه وسنذكره. وظاهر سياقه: أن الغني الشاكر -وهو من لا يبقي ممَّا يدخل عليه من ماله إلا ما يحتاج إليه حالًا أو ما يُرصده لأحوج أو نحوه- أفضلُ من الفقير الصابر، وهو الأصح كما بينته في أدلته وما فيه من الخلاف الطويل في "شرح العباب" وفي الكتاب السابق ذكره في (شرح الخامس عشر) (¬1). ووَجْه أن ذلك ظاهره: أن الفقراء ذكروا له صلى اللَّه عليه وسلم ما يقتضي فضل الأغنياء عليهم بالتصدُّق، فأقرَّهم ولم يجبهم بأنهم أفضلُ منهم، أو مساوون لهم، وإنما علَّمهم ما يشاركهم الأغنياء فيه مع امتيازهم بما لا يشاركهم الفقراء فيه، وهو التصدُّق بفضول أموالهم. ومن ثم لمَّا أشار الفقراء إلى هذا التمييز عليهم. . قال لهم صلى اللَّه عليه وسلم: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء" وحملُه على أنه أراد به إنكم فضلتم الأغنياء، أو ¬

_ = رحمه اللَّه تعالى بعكس لفظ "الصحيحين" فهو فيهما: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "من مات يشرك. . . دخل النار" وقال ابن مسعود رضي اللَّه عنه: وقلت أنا: من مات لا يشرك باللَّه شيئًا. . دخل الجنة، فليتنبه. وفي هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة، ثم بلغ كذلك). (¬1) وهو كتاب: "حقائق الإنافة في الصدقة والضيافة"؛ انظر منه (ص 149).

ساويتموهم وإن لم تكن لكم قُرَبٌ ماليةٌ وذلك فضل اللَّه عليكم. . خلافُ ظاهر الحديث فلا يعوَّل عليه. ولفظه في "الصحيحين": إن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟! " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: "تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين مرة" قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء" (¬1). فعلم أن الذي دل عليه ظاهره إنما هو أفضلية غنى شارك الفقير في عبادته وزاد عليه بقُرَبٍ ماليةٍ، وهذا لا شك فيه كما قاله شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، وإنما الذي يتردَّد النظر فيه إذا تساويا في أداء الواجب فقط، وزاد الفقيرُ بنوافل الأذكار، والغنيُّ بنوافل الصدقات. وقاعدة أن العمل المتعدي أفضل من القاصر غالبًا. . تشهد لأفضلية الغني هنا أيضًا (¬2)، لكن وردت ظواهر تخالف ذلك، وتقتضي تفضيل الذِّكر على الصدقة بالمال؛ كحديث أحمد والترمذي: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟! " قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: " ذكر اللَّه عز وجل" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (843)، وصحيح مسلم (595) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عه. (¬2) قيد بالغلبة؛ إذ قد يكون القاصر أفضل كالإيمان؛ فإنه أفضل من نحو الجهاد، صرح به الشارح رحمه اللَّه تعالى في "تحفة المحتاج" (2/ 233). (عيمكي) اهـ هامش (غ) (¬3) مسند الإمام أحمد (5/ 195)، وسنن الترمذي (3377) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عه.

وخبر "الصحيحين": "من قال: لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي، ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير في يومٍ مئة مرة. . كانت له عدل عشر رقاب، وكُتب له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومَه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك" (¬1). وكحديث أحمد والترمذي: أيُّ العباد أفضل عند اللَّه يوم القيامة؟ قال: "الذَّاكرون اللَّه كثيرًا" قلتُ: يا رسول اللَّه؛ ومِنَ الغازي في سبيل اللَّه؟ قال: "لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دمًا. . لكان الذاكرون اللَّه أفضل منه درجة" (¬2). وحديث الطبراني: "لو أن رجلًا في حجره دراهم يقسمها، وآخر يذكر اللَّه. . كان الذاكر للَّه أفضل" (¬3) لكن قال بعضهم: الصحيح: أن هذا موقوفٌ (¬4). وحديثه أيضًا: "من كبَّر مئةً، وسبَّح مئةً، وهلَّل مئةً. . كانت له خيرًا من عشر رقابٍ يعتقها، وكان سبع بدناتٍ ينحرها" (¬5). وأخذ بقضية هذه الأحاديث جماعة من الصحابة والتابعين فقالوا: إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال، ويدل له أيضا حديث أحمد والنسائي: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال لأم هانئٍ: "سبِّحي اللَّه تعالى مئة تسبيحةٍ؛ فإنها تعدل مئة رقبةٍ من وُلْدِ إسماعيل، واحمدي اللَّه تعالى مئة تحميدةٍ؛ فإنها تعدل مئة فرسٍ ملجمةٍ مسرجةٍ تحملين عليها في سبيل اللَّه، وكبِّري اللَّه مئة تكبيرةٍ؛ فإنها تعدل لك مئة بدنةٍ مقلَّدةٍ متقبَّلةٍ، وهلِّلي اللَّه مئة تهليلة -ولا أحسبه إلا قال-: تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يرفع يومئذٍ لأحدٍ مثل عملك إلا أن يأتي بمثل ما أتيتِ به" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3293)، وصحيح مسلم (2691) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 75)، وسنن الترمذي (3376) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬3) المعجم الأوسط (5966) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬4) انظر "جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى (2/ 68). (¬5) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 68 - 69) وعزاه لجعفر الفريابي. (¬6) مسند الإمام أحمد (6/ 344)، وسنن النسائي الكبرى (10613).

ولا يعكر على ما من أفضلية الغني ما امتاز به الفقير من تطهر أخلاقه، وحسن رياضته بصبره على فقره؛ لأن المفضول قد يمتاز على الفاضل بفضيلةٍ -بل فضائل- يخلو عنها الفاضل، على أن لك أن تمنع هذا التميز بأن الغني عنده أيضًا رياضةٌ أيُّ رياضةٍ بالشكر، وتطهير أيُّ تطهر لأخلاقه من الشح، والإمساك، والتفاخر بالدنيا وجمعها، وغير ذلك من آفاتها العجيبة، التي لو طرقت واحدةٌ منها الفقيرَ. . لربما أذهبت طهارة أخلاقه وحلاوة إملاقه. فاندفع بهذا الذي قررته -وإن لم أَرَ من سبَقني إليه- توجيهُ ما ذهب إليه جمهور الصوفية من تفضيل الفقير الصابر بأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغِنى. ووجه اندفاعه: ما ذكرته من منع الأكثرية، بل التهذيب والرياضة في الغني أتم منهما في الفقير، لما علمت، ويؤيده: أن الفقر مع الصبر هو أوائل أحواله صلى اللَّه عليه وسلم، والغِنى مع الشكرِ هو آخرها، وعادةُ اللَّه تعالى الجاريةُ مع أنبيائه ورسله: أنه لا يختم لهم إلا بأفضل الأحوال والمقامات، فختمه لأفضل خلقه بالغِنى مع الشكر دليلٌ أيُّ دليل على أنه أفضل من الفقر مع الصبر (¬1). فإن قلت: فقره صلى اللَّه عليه وسلم إنما كان مع الرضا، وهو أفضل من ذينك. قلت: الرضا موجودٌ معه صلى اللَّه عليه وسلم في حالتي الفقر والغنى، فيسقط النظر إليه، ويبقى فيما بينهما تضادٌّ، وهما الفقر مع الصبر، والغنى مع الشكر، وهذا هو الذي ختم اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه صلى اللَّه عليه وسلم به، فكان أفضل من غيره. وتحسُّر الفقراء على فوات ما ينفقونه لا يلحقهم بمن أنفق بالفعل؛ لأن ما بالقوة دون ما بالفعل، وخبر: "نية المؤمن أبلغ من عمله" (¬2) إنما هو في نيةٍ قابلت عملًا ¬

_ (¬1) تتمة: مذهب الجمهور -واختاره العسقلاني والسيوطي-: أن الغني الشاكر وهو من لا يبقي ممَّا يدخل عليه من المال الحلال إلا ما يحتاج إليه وما يرصده لأحوج أو نحوه. . أفضل من الفقير الصابر، ومحل الخلاف: فيمن إذا افتقر. . قام بجميع وظائف الفقر؛ كالرضا والصبر والقناعة، كان استغنى. . قام بجميع وظائف الغنى من الفضل والإحسان والمواساة وأداء حقوقٍ وشكر الملك الديان. "هداية المريد" اهـ هامش (غ) (¬2) تقدم تخريجه (ص 127) في شرح الحديث الأول.

خلا عن نيةٍ، وليس كلامنا فيه؛ إذ الشكر يستلزم وجود أكمل النيات وأفضلها؛ فقد حصل للغني الشاكر عملٌ ونيةٌ، وللفقير الصابر نيةٌ فقط، ولا شك أن الأول أفضل؛ لأن تلك النية قد تعمل عملها عند القدرة، وقد لا، فلسنا على يقينٍ من وجود عملٍ معها، بخلافها مكان الشاكر؛ فإنَّا على يقينٍ من وجوده معها، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: " اللهم؛ اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا" (¬1) لا شاهد فيه لترجيح الفقر مع الصبر؛ لأنه لا ينافي الغنى مع الشكر؛ لأن شكر الغنيِّ يستلزم أن رزقه كفافٌ وقوت، كما علم مما مر في تفسيره، فاندفع بهذا الذي قررته -مع أني لم أر من سبقني إليه أيضًا- ما للقرطبي وغيره هنا. فتأمل ذلك كله؛ فإنه نفيسٌ. وقد تفضُل الصدقة المتعدية بغير المال الصدقةَ به؛ كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، وإزالة الأذى عن الطريق، والدعاء للمسلمين، وفي حديثٍ ضعيفٍ: "أفضلُ الصدقةِ اللسانُ" قيل: يا رسول اللَّه؛ وما صدقة اللسان؟ قال: "الشفاعة تفك بها الأسير، وتحقن بها الدم، وتجرُّ بها المعروف والإحسان إلى أخيك، وتدفع عنه الكريهة" (¬2). وأخرج ابن حبان في "صحيحه": "ليس من نفسِ ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يومٍ طلعت فيه الشمس" قيل: يا رسول اللَّه؛ ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟! قال: "إن أبواب الجنة لكثيرةٌ: التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتُسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة" (¬3). وأخرجه أحمد بنحوه وزاد: "ولك في جِماعك زوجتك أجرٌ" قلتُ: كيف يكون لي أجرٌ في شهوتي؟! فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "أرأيت لو كان لك ولدٌ فأدرك ورجوت خيره فمات، أكنت تحتسب به؟! " قلت: نعم، قال: "فأنت خلقته؟ " ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6460)، ومسلم (1055) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1279) عن سيدنا سمرة بن جندب رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح ابن حبان (3377) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه.

قلت: بل اللَّه خلقه، قال: "فأنت هديته؟ " قلت: بل اللَّه هداه، قال: "فأنت كنت ترزقه؟ " قلت: بل اللَّه كان يرزقه، قال: "كذلك فضعه في حلاله، وجنبه حرامه؛ فإن شاء اللَّه. . أحياه، وإن شاء. . أماته ولك أجر" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 168) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه.

الحديث السادس والعشرون [كثرة طرق الخير وتعدد أنواع الصدقات]

الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي هريرة) جرُّه هو الأصل، وصوَّبه جماعةٌ؛ لأنه جزءُ علمٍ، واختار آخرون منع صرفه، كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة، واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معًا في كلمةٍ، بل في لفظة (هريرة) إذا وقعت فاعلًا مثلًا؛ فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظرًا للأصل، وتمنع من الصرف نظرًا للحال، ونظيره خفيٌّ. اهـ ويجاب بأن الممتنع رعايتهما من جهةٍ واحدةٍ، لا من جهتين كما هنا، وكأن الحامل عليه الخفَّة واشتهار هذه الكنية حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا كما مر (¬2). (رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: كل سلامى) هي -بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم: مفرد سلامَيَات بفتح الميم وتخفيف ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (2989)، وصحيح مسلم (1009). وفي نسخ المتن: (يعدل، ويعين. . . إلخ) بالياء لا بالتاء وهي موافقة للبخاري، وما هنا موافق لرواية الحميدي في "الجمع ين الصحيحين" (2443). (¬2) تقدم هذا الكلام على لفظة (هريرة) بحروفه في أول الحديث التاسع؛ ولذلك حذف من بعض النسخ هنا، وذكر هناك الاختلاف في اسم سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، انظر (ص 271).

الياء، وقيل: جمع (¬1) - عظام الكف والأصابع والأرجل، وأُريد بها هنا جميع عظام الجسد ومفاصله بقرينة خبر مسلم الآتي وغيره: "خلق الإنسان على ستين وثلاث مئة مَفْصِل" ففي كل مَفصِلٍ صدقةٌ. (من الناس عليه) ذكَّره وإن كان السلامى مؤنثة باعتبار العضو أو المَفصِل، لا لرجوعه لكلٍّ كما قيل به؛ لأنها بحسب ما تضاف إليه، وهي هنا أُضيفت لمؤنث، فلو رجع إليها. . لأُنِّث. (صدقة (¬2)، كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس) في مقابلة ما أنعم اللَّه تعالى به على الإنسان في خلق تلك السلاميات من باهر النَّعم ودوامها، الذي هو نعمةٌ أخرى أشير إليها بقوله: "كل يوم. . . إلخ". ومما يزيد العبد تيقظًا لنعمة الدوام عليه: استحضاره أنه تعالى قادرٌ على سلب نعمة الأعضاء عن عبده في كل يوم، وهو في ذلك عادلٌ في حكمه، فعفوه عن ذلك وإدامة العافية عليه صدقة توجب الشكر دائمًا بدوامها (¬3). ومما يزيده تيقظًا أيضا لتلك النِّعم حتى يبالغ في أداء شكرها: أنه ينظر في خَلْق نفسه وما انطوى عليه من العجائب؛ فإنه حينئذٍ يظهر له أنه لو فقد عظمًا واحدًا منها. . اختلَّت عليه حياته كما لو زاد، وأنه لا صنع له في شيءٍ من ذلك، وأنها ما بين طويلٍ وقصيرٍ، ودقيقٍ وغليظٍ، وأنه لو غُيِّرَ واحدٌ منها عمَّا هو عليه. . لاختلَّ نفعه، فإذا أصبح وقد أعطي لين الحركة؛ لما أتقن فيه من تركيب العظام، وجعلها جسمًا صلبًا لا يضعف منه أنبوب ساقيه عن حمل بدن نفسه وبقية جملة البدن، ولا عظم زنده عن إقلال ما يرفعه بيده (¬4)، ولا عظام أضلاعه عن وقاية حشاه، ولا عظم يافوخه عن ¬

_ (¬1) قوله: (وقبل: جمعٌ) بالتنوين، أي: إن سلامى مفردٌ، وجمعه سلاميات، وقيل: سلامى جمعٌ؛ أي: ومفرد، فهو مما استوى واحده وجمعه. اهـ "مدابغي" (¬2) قال العلماء: المراد: صدقة ندبٍ وترغيب، لا إيجاب والتزام. اهـ هامش (غ) (¬3) قال بعض السلف: النِّعم وحشية فقيدوها بالشكر، وفي الخبر: (ما عظمت نعمة اللَّه على عبدٍ إلا كثرت حوائج الناس إليه، فمن تهاون بهم. . عرَّض نلك النعمة للزوال) اهـ هامش (غ) (¬4) الزند: مفصل طرف الذراع كان الكف، وهما زندان: الكوع والكرسوع. اهـ هامش (غ)

صيانة دماغه (¬1). . تعيَّن أن يشكر بالتصدُّق بما يأتي وغيره مَنْ أنعمَ عليه بذلك مقابلةً لتلك النِّعم. وأيضًا: فالصدقة تدفع البلاء، فبوجودها عن أعضائه يرجى اندفاع البلاء عنها. ثم من مزيد لطف اللَّه تعالى بعبده وتفضُّله عليه: تسمية ذلك صدقة إجراءً له مجرى ما يتطوع به. وظاهر قوله: "عليه صدقة كل يوم" وجوب الشكر بهذه الصدقة كل يوم، لكن في حديث "الصحيحين": "فإن لم يفعل. . فليمسك عن الشر؛ فإنه له صدقة" (¬2) وهو يدل على أنه يكفيه ألَّا يفعل شيئًا من الشر، ويلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب وهو كافٍ في شكر هذه النعم وغيرها (¬3). وأما الشكر المستحبُّ. . فهو أن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار، والمتعدية كالعدل والإعانة، وهذا هو المراد من هذا الحديث وأمثاله السابقة والآتية، مع أنه ذكر فيه بعض الواجبات. وإذ قد تقرر أن للَّه سبحانه وتعالى على الإنسان في كل عضو ومفصلٍ نعمةً، وأن كلًّا من تلك النعم يستدعي مزيد الشكر عليه، وأن ذلك الشكر حقٌّ للَّه تعالى على عباده، وأنه تفضل عليهم فسماه صدقةً. . زاد في ذلك التفضُّل عليهم فوهب ذلك الشكر لهم صدقةً عليهم، فكأنه قال: اجعل شكر نعمتي في أعضائك أن تعين بها عبادي وتتصدَّق عليهم بذلك؛ كما أشار صلى اللَّه عليه وسلم إلى ذلك بتعقيبه طلبَ الشكر على تلك النِّعم المسمى صدقةً زيادةً في التلطُّف والإنعام بقوله مشيرًا إلى أن ¬

_ (¬1) اليافوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس وعظم مؤخره، وهو المكان الذي يكون لينًا في رأس الطفل، والمراد بها: عظام الرأس كلها. (¬2) صحيح البخاري (1445)، ومسلم (1008) عن سيدنا عبد اللَّه بن قيس رضي اللَّه عنه. (¬3) دخل سفيان الثوري على أبي عبد اللَّه جعفر بن محمد الصادق رضي اللَّه تعالى عنهما فقال: علمني يا بن رسول اللَّه مما علمك اللَّه، فقال: إذا تظاهرت الذنوب. . فعليك بالاستغفار، وإذا تظاهرت النِّعم. . فعيك بالشكر، وإذا تظاهرت الغموم. . فقل: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فخرج سفيان وهو يقول. ثلاثٌ وأيُّ ثلاثٍ. اهـ هامش (غ)

الصدقة لا تنحصر في المال: (تعدل) أي: أن تعدل؛ أي: تصلح؛ لأنه في محل مبتدأ مخبَرٍ عنه بـ (صدقة) أو أوقع فيه الفعل موقع المصدر؛ أي: مع قطع النظر عن (أن) ونظيره: تسمع بالمُعَيْدي خيرٌ من أن تراه (¬1)؛ أي: أن تسمع، أو سماعك. (بين الاثنين) المتهاجرينِ أو المتخاصمينِ أو المتحاكمينِ، بأن تحملهما لكونك حاكمًا أو مُحَكَّمًا أو مُصلِحًا بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول أو الفعل على الصلح الجائز، وفسَّره صلى اللَّه عليه وسلم بأنه الذي لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا (¬2). (صدقة) عليهما؛ لوقايتهما مما يترتمب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح، كما أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله عزَّ قائلًا: {أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين الناس. (وتعين) فيه وما بعده ما في "تعدل" (الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) عليه (والكلمة الطيبة صدقة) وهي كل ذكر، ودعاء للنفس والغير، وسلام عليه، ورده، وثناء عليه بحق، ونحو ذلك مما فيه سرور السامع، واجتماع القلوب وتألفها، وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ" (¬3). (وبكل خطوة) (¬4) هي بفتح الخاء: المرة الواحدة، وبضمها: ما بين القدمين (تمشيها إلى الصلاة صدقة) فيه مزيد الحث والتأكيد على حضور الجماعات والمشي إليها، وعمارة المساجد بها؛ إذ لو صلى في بيته. . فاته ذلك. ¬

_ (¬1) انظر "مجمع الأمثال" (1/ 342). (¬2) أخرجه الترمذي (1352)، وابن ماجه (2353) عن سيدنا عمرو بن عوف رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه مسلم (2626)، والترمذي (1833) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬4) قوله: (وبكل خطوة) مبتدأ والباء زائدة؛ أي: وكل خطوة تمشيها، وفي رواية: "تخطوها إلى الصلاة" أي: إلى المسجد لاعتكافٍ وكذا لنحو طوافٍ وغير ذلك من وجوه القُرَب التي تفعل به مما هو معروفٌ صدقة، "مناوي". اهـ هامش (غ)

(وتميط) بضم أوله (¬1)؛ أي: تنحي (الأذى) أي: ما يؤذي المارَّة من نحو حَجَرٍ أو شوكٍ أو نجسٍ (عن الطريق) يؤنث ويذكر (صدقة) على المسلمين، وأخرت هذه؛ لأنها أدون مما قبلها، كما يشير إليه خبر: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق" قيل: وتسن كلمة التوحيد عند إماطته؛ ليجمع بين أعلى الإيمان وأدناه. وحملُ الأذى على أذى المظالم ونحوها، والطريقِ على طريقه تعالى وهو شرعه وأحكامه. . تكلفٌ بعيدٌ، بل رواية: "وأدناها" المذكورة صريحةٌ في ردِّه؛ لأن الإماطة بهذا المعنى من أفضل الشعب لا من أدناها. ثم شرطُ الثواب على هذه الأعمال خلوصُ النية فيها وفعلها للَّه تعالى وحده كما دلَّ عليه حديث "صحيح ابن حبان" فإنه صلى اللَّه عليه وسلم ذكر فيه خصالًا؛ كالتصدقِ، وقولِ المعروف، وإعانةِ الضعيف، وتركِ الأذى، ثم قال: "والذي نفسي بيده؛ ما من عبدٍ يعمل بخصلةٍ منها يريد بها ما عند اللَّه إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة" (¬2) وهو مستمدٌ من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. وبهذا يرد ما روي عن الحسن وابن سيرين: (أن فعل المعروف يؤجر عليه وإن لم تكن فيه نية)، بل روى حميد بن زنجويه عن الحسن: (أن من أعطى آخرَ شيئًا حياءً منه له فيه أجر) (¬3)، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن سيرين: (أن من تبع جنازةً حياءً من أهلها له أجر؛ لصلته الحي) (¬4). (رواه البخاري ومسلم) وفي بعض طرق مسلم: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ¬

_ (¬1) قوله: (وتميط بضم أوله) أي: وفتحه؛ أي: تنحي وتزيل، يقال: ماط الشيء وأماطه بمعنى: أزاله حقيقة أو حكمًا؛ بأن يترك إلقاءه في الطريق. اهـ هامش (غ) (¬2) صحيح ابن حبان (373) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. (¬3) ذكر الخبرين الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 89). (¬4) حلية الأولياء (2/ 264).

ركعتان يركعهما من الضحى" (¬1) أي: يكفي من هذه الصدقات كلها عن هذه الأعضاء ركعتان من الضحى؛ لأن الصلاة عملٌ بجميع الأعضاء، فإذا صلَّى العبد. . فقد قام كل عضوٍ منه بوظيفته، وأدَّى شكر نعمته. وقد قال سهل بن عبد اللَّه التستري رضي اللَّه تعالى عنه: في الإنسان ثلاث مئة وستون عرقًا، مئة وثمانون ساكنة، ومئة وثمانون متحركة، فلو تحرك ساكنٌ، أو سكن متحركٌ. . لمنعه النوم. نسأل اللَّه تعالى أن يرزقنا شكر ما أنعم به علينا. وذكر علماء الطب: أن جميع عظام البدن مئتان وثمانية وأربعون عظمًا سوى السمسمانيات، وبعضهم يقول: ثلاث مئة وستون عظمًا، يظهر منها للحِسِّ مئتان وخمسة وستون عظمًا، والبقية صغارٌ لا تظهر تسمى السمسمانيات. ويؤيد هذا القول أحاديث كثيرة، وأخرج البزار: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "الإنسان ثلاث مئةٍ وستون عظمًا وستة وثلاثون سلامى، عليه في كل يومٍ صدقة" قالوا: فمن لم يجد؟ قال: "يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر" قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: "يرفع عظمًا عن الطريق" قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: "فليعن ضعيفًا" قالوا: فمن لم يستطع ذلك؟ قال: "فليدع الناس من شره"، وورد معنى هذا الأخير في "الصحيحين" وغيرهما (¬2)، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "وستة وثلاثون سلامى" لعله عبَّر بها عن تلك العظام الصغار؛ إذ السلامى في الأصل: اسمٌ لأصغر ما في البعير من العظام، ثم عبَّر بها عن مطلق العظم من الآدمي وغيره. وأخرج مسلم: "خُلِق ابن آدم على ستين وثلاث مئة مفصل، فمن كبَّر اللَّه، وحمد اللَّه، وهلَّل اللَّه، وسبَّح اللَّه، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكةً، أو عزل عظمًا، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاث ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (720). وقوله: (وبجزئ) ضُبط (يَجزِي) بفتح أوله بغير همزٍ في آخره، وبضم أوله بهمز في آخره، فالفتح من (جزى يَجزي) أي: كفى، والضم من الإجزاء. اهـ هامش (غ) (¬2) ذكره الحافظ أبو بكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 107 - 108) وقال: (هو في الصحيح باختصار، رواه كله البزار ورجاله رجال الصحيح). وأخرجه البيهقي في "الشعب" (10649) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

مئة السلامى. . أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار" (¬1). وأخرج أحمد وأبو داوود: "في الإنسان ثلاث مئة وستون مفصلًا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصلٍ منه بصدقةٍ" قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي اللَّه؟! قال: "النخاعة في المسجد يدفنها، والشيء يُنَحِّيه عن الطريق، فإن لم يجد. . فركعتا الضحى تجزئه" (¬2)، وروايةُ: "في ابن آدم ست مئة وستون عظمًا" مردودةٌ؛ فإنها غلطٌ. وكأن وجه تخصيص الضحى بذلك من بين ركعتي الفجر وغيرهما من الرواتب مع أنها أفضل من ركعتي الضحى. . تمحُّضُها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرةً لنقص غيرها، بخلاف سائر الرواتب؛ فإنها شرعت جابرةً لنقص متبوعها، فلم يتمحَّض فيها القيام بشكر تلك النِّعم الباهرة، والضحى لمَّا لم يكن فيها ذلك. . تمحَّضت للقيام بذلك، على أنها مناسبةٌ لما أُشير إليه بقوله: "تطلع فيه الشمس" من أن اليوم قد يعبَّر به عن المدة الطويلة المشتملة على الأيام الكثيرة؛ كما يقال: يوم صفين، وكان مدة أيام، وعن مطلق الوقت؛ كما في: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} فلو لم يقيد بـ: (تطلع فيه الشمس) لتوهم أن المراد به أحد هذين، وأنه لا يطلب منه شكر تلك النعم كل يوم، فقيد بذلك ليفيد تكرر الطلب ودوامه بتكرر طلوع الشمس ودوامها، فإذا تأمل الإنسان ذلك. . أوجد له عند شهود طلوعها تيقظًا للشكر، وأفضل العبادات حينئذٍ صلاة الضحى (¬3)، فناسب تخصيصها بذلك دون غيرها. وأخرج البزار وابن حبان في "صحيحه" وغيرهما: "على كل مِيسَمٍ من ابن آدم صدقة كل يوم" فقال رجلٌ: ومن يطيق هذا؟! قال: "أمر بمعروف صدقة. . . " الحديث (¬4)، قال بعضهم: أراد بالميسم كل عضوٍ على حدةٍ، من الوسم، وهو ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1007) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬2) مسند الإمام أحمد (5/ 354)، وسنن أبي داوود (5242) عن سيدنا بريدة بن الحصيب رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (وأفضل العبادات حينئذٍ) أي: بعد طلوع الشمس (صلاة الضحى) قال المناوي: والوجه -كما قاله الحافظ العراقي-: أن الاختصاص بالضحى لخصوصيةٍ فيها وسرٍّ لا يعلمه إلا اللَّه ورسوله صلى اللَّه عليه وسلم. اهـ هامش (غ) (¬4) صحيح ابن حبان (299) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما، وعزاه الحافظ السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 84) إلى البزار وغيره.

العلامة؛ إذ ما من عِرْقٍ ولا عظمٍ ولا عصبٍ إلا وهو علامة على عظيم صنعه تعالى ومنَّته، حيث خلقه سويًا صحيحًا. ومن ثم كان معنى هذه الأحاديث: أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نِعَم اللَّه تعالى على عبده، فيحتاج كل عظبم منها إلى تصدُّقٍ عنه بخصوصه؛ ليتم شكر نعمته، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} الآيةَ. ومن ثَمَّ قال أبو الدرداء: (الصحة غنى الجسد) (¬1)، وقال وهب: (مكتوبٌ في حكمة آل داوود: العافية الملك الخفي) (¬2) أي: فهي النعيم المسؤول عنه يوم القيامة، كما قال ابن مسعود: (النعيم الأمن والصحة) (¬3). وأخرج الترمذي وابن حبان: "إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة فيقول اللَّه له: ألم نصحَّ لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟! " (¬4). وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: (النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل اللَّه العباد فيم استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}) (¬5). وأخرج الطبراني بسندٍ فيه ضعف: "من قال: سبحان اللَّه وبحمده. . كتب له مئة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل: كيف يهلك بعد هذا يا رسول اللَّه؛! قال: "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بما لو وضع على جبلٍ. . لا يُقِلُّه، فتقوم النعمة من نِعَم اللَّه، فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول اللَّه تعالى برحمته" (¬6). وابن أبي الدنيا بسندٍ فيه ضعف أيضًا: "يؤتى بالنِّعم يوم القيامة وبالحسنات ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (102). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (122). (¬3) أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" (2547)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 612) وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الشعب". (¬4) سنن الترمذي (3358)، وصحيح ابن حبان (7364) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. قوله: (ونرويك) كأن الظاهر: (ونروك) بحذف الياء؛ لعطفه على (نصح) المجزوم بـ (ألم) ولعله جاء على لغية، فراجعه. اهـ "مدابغي" (¬5) أخرجه البيهقي في "الشعب" (4293). (¬6) المعجم الكبير (12/ 333) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما.

والسيئات، فيقول اللَّه تعالى لنعمةٍ من نعمه: خذي حقك من حسناته، فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها" (¬1). وأخرج أبو داوود والنسائي: "من قال حين يصبح: اللهم؛ ما أصبح بي من نعمةٍ، أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر. . فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومن قال حين يمسي. . فقد أدَّى شكر ليلته" (¬2). وأخرج الحاكم: "ما أنعم اللَّه على عبدٍ نعمةً فعلم أنها من عنده إلا كتب اللَّه له شكرها قبل أن يشكر. . . " الحديث (¬3). وابن ماجه: "ما أنعم اللَّه على عبدٍ نعمةً فقال: الحمد للَّه إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ" (¬4)، وأخذ منه بعض العلماء أن الحمد أفضل من النعم، ونقل ابن أبي الدنيا أن بعض العلماء صوَّب ذلك، وعن ابن عيينة أنه خطَّا قائله، وقال: (لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب) (¬5). وأُجيب: بأن التصويب في محله؛ إذ المراد بالنعمِ: الدنيويةُ؛ كالعافية، والرزق، والحمدُ من النعم الدينية، وكلاهما نعمةٌ من اللَّه تعالى، لكن نعمة اللَّه تعالى على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده؛ فإن هذه إن لم يقترن بها شكرٌ. . كانت بليةً، فإذا وفَّقَ اللَّه تعالى عبده للشكر عليها بالحمد أو غيره. . كانت نعمة الشكر أتم وأكمل. وعلم مما قررناه (¬6): أنه ليس المراد من الحديث حصر أنواع الصدقة بالمعنى الأعم فيما ذكر فيه، بل التنبيه به على ما بقي منها، ويجمعها: كل ما فيه نفع للنفس أو الغير؛ لخبر: "في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ" (¬7)، وخبر: "إن اللَّه تعالى كتب الإحسان ¬

_ (¬1) كتاب الشكر (24) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬2) سنن أبي داوود (5073)، وسنن النسائي الكبرى (9750) عن سيدنا عبد اللَّه بن غنام البياضي رضي اللَّه عنه. (¬3) المستدرك (1/ 514) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬4) سنن ابن ماجه (3805) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬5) انظر كتاب "الشكر" (111). (¬6) أي: من أن المطلوب شكر تلك النعم؛ أي: بأي أنواع الشكر كصلاة الضحى. اهـ هامش (غ) (¬7) تقدم تخريجه (ص 342).

على كل شيء" وقد مر (¬1)، وخبر: "الخلق عيال اللَّه، وأحب الناس إلى اللَّه أشفقهم على عياله" (¬2). وبتصدقِ كلٍّ عن أعضائه بنحو ما مر يحصل مقصود ما مر من خبر: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وخبر: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليكرم جاره. . . " الحديث، ومرَّ فيهما أن المقصود منهما: جمع القلوب وائتلافها، وإقامة كلمة الحق، وقوة شوكة الإسلام، وفي ذلك من النفع العائد على المتصدق والإسلام والمسلمين ما لا يخفى عظيم موقعه، فعلم عظم موقع هذا الحديث وما جمعه وما أشار إليه من الأحكام والحكم العامة والخاصة (¬3). ومن ثم كان المقصود منه يرجع إلى قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وإلى قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشد بعضه بعضًا" (¬4)، وقوله: "المؤمن كثير بأخيه" (¬5)، وقوله: "المؤمن مرآة المؤمن" (¬6) أي: يبصِّره من نفسه ما لا يراه بدونه، وقوله: "انصر أخاك ظالمًا -أي: بالأخذ على يده وكفه عن ظلمه- أو مظلومًا" (¬7) أي: بإعانته على ظالمه وتخليصه منه، وقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد. . . " الحديث (¬8)، ونحو ذلك كثيرٌ في القرآن والسنة. * * * ¬

_ (¬1) انظر تخريجه فيما تقدم (ص 340) وهو الحديث السابع عشر من أحاديث المتن. (¬2) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (3315)، والبيهقي في "الشعب" (7045) بنحوه عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬3) انظر ما تقدم (ص 326 - 327) من شرح الحديث الخامس عشر. (¬4) أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (186) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، وابن أبي الدنيا في "الإخوان" (24) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه أبو داوود (4918)، وهو عند الترمذي (1929) بنحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه البخاري (2443)، والترمذي (2255) عن سيدنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه. (¬8) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما.

الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم] عَنِ النَّوَّاس بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ؛ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ فِي "مُسْنَدَي" الإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ ابْنِ حَنْبَلٍ وَالدَّارِميِّ بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ (¬2). وهو في الحقيقة حديثان، لكنهما لما تواردا على معنًى واحدٍ. . كانا كالحديث الواحد، فجعل الثاني كالشاهد للأول. (عن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (ابن سمعان) بكسر المهملة وفتحها (¬3)، الكلابي (رضي اللَّه) تعالى (عنه) كان ينبغي (عنهما) لأن لأبيه وفادة، تزوَّج صلى اللَّه عليه وسلم أخت النواس، وهي المتعوذة. روي له سبعة عشر حديثًا، اقتصر مسلم منها على ثلاثة، وروى له أصحاب ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2553). (¬2) مسند الإمام أحمد (4/ 228)، ومسند الدارمي (2575) وقد أشار الشارح (ص 465 و 467) أنه في نسخ: (حديث حسن)، (والدارمي بإسناد حسن) وهي كذلك في نسخ المتن، فليتنبه. (¬3) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالي في "الفتوحات الوهبية" (ص 227): (واقتصار ابن الأثير على الكسر يدل على أنه أرجح).

"السنن الأربعة" ووقع في "مسلم" أنه أنصاري، وحمل على أنه حليفٌ لهم، قال: (أقمت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة -أي: العود إلى الوطن- إلا المسألة) (¬1) أي: التي كانت تَرِد عليه صلى اللَّه عليه وسلم من بعض أصحابه، فإقامته تلك السنة كانت مع عزمه على العود إلى وطنه، لكنه أحب أن يتفقَّه في الدين تلك المدة بسماع تلك الأسئلة التي ترد عليه صلى اللَّه عليه وسلم وأجوبتها؛ لما مر أن المهاجرين والقاطنين بالمدينة لما أكثروا الأسئلة عليه صلى اللَّه عليه وسلم ونُهوا عن ذلك. . كانوا يحبون أن يأتي أهل البادية ويسألوا حتى يسمعوا فيتعلموا. قيل: وفيما ذكره دلالةٌ على أن الهجرة لم تكن واجبةً على غير أهل مكة. انتهى، وفيه نظر؛ لأنه إن أُريد نفي الوجوب عن غير أهل مكة قبل الفتح. . لم يكن في عزمه على الرجوع لوطنه دلالة على ذلك؛ لاحتمال أنه بعد الفتح، وعلى التنزل وأنه قبله فيحتمل أنه إنما مُكِّن من العود لوطنه؛ لأن له ثَمَّ عشيرة تحميه، ومَنْ له عشيرة كذلك. . لا تلزمه الهجرة، أو بعده لم يكن في ذلك خصوصية لغير أهل مكة، بل أهلها ارتفع الوجوب عنهم بعد الفتح. (عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: البِرُّ) أي: معظمه، فالحصر فيه مجازيٌّ نظير ما مر في: "الدين النصيحة" (¬2) وضده الفجور والإثم، ولذلك قابله به، وهو بهذا المعنى: عبارةٌ عمَّا اقتضاه الشرع وجوبًا أو ندبًا، كما أن الإثم: عبارةٌ عمَّا نهى الشرع عنه، وتارة يقابَل البرُّ بالعقوق، فيكون عبارة عن الإحسان، كما أن العقوق عبارة عن الإساءة، من بَرِرْت فلانًا بالكسر أَبَرُّه بِرًا فأنا بَرٌّ بفتح أوله وبارٌّ به، وجمع الأول: أبرار، والثاني: بررة. (حسن الخلق) أي: التخلُّق (¬3)، والمراد به هنا: المعروف، وهو كما مر: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 280) في شرح الحديث التاسع. (¬2) انظر ما تقدم (ص 253) وهو الحديث السابع من أحاديث المتن. (¬3) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 228): (وقد روى الحسن عن أبي الحسن عن جد الحسن بسندٍ حسن: "إن أحسن الحسن الخلق الحسن" رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وقال اين عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما: الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد، والخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل. وقال معاذ بن جبل: آخر ما أوصاني به رسول اللَّه صلى اللَّه =

طلاقة الوجه، وكفُّ الأذى، وبذل الندى، وأن يحب للناس ما يحب لنفسه، وهذا يرجع إلى تفسير بعضهم له: بأنه الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان في اليسر، والإيثار في العسر، وغير ذلك من الصفات الحميدة. ومن ثم قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى الصدق، وبمعنى اللطف، والمبرَّة، وحسن العشرة، والصحبة، ولين الجانب، واحتمال الأذى، وبمعنى الطاعة بسائر أنواعها، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}. . . إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهذه الأمور كلها هي مجامع حسن الخلق. وقد أشار تعالى إليها في آياتٍ من كتابه العزيز؛ نحو: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}. . . إلى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}. . . إلى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. . . إلى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}. . . إلى آخر السورة. فمن أشكل عليه حاله. . فليَعرضْ نفسه على هذه الآيات، فوجودُ جميع ما فيها من الأوصاف علامةٌ على حسن الخلق، وفقده علامةٌ على سوء الخلق، ووجود بعضه علامة على أن فيه من الحسن بحسب ما عنده، ومن السوء بحسب ما فقده، فليعتنِ بتحصيله؛ ليفوز بسعادة الدارين. وإذا قرن البر بالتقوى كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. . فسَّر البِرَّ بمعاملة الخلق بالإحسان، والتقوى بمعاملة الحق، أو البر بفعل الواجبات، والتقوى باجتناب المحرمات. ¬

_ = عليه وسلم حين جعلت رجلي في الغرز -يعني الركاب- أن قال: "حسِّن خلقك مع الناس يا معاذ". وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أنها قالت: إن حسن الخلق، وحسن الجوار، وصلة الرحم تعمر الديار، وتزيد في الأعمار ولو كان القوم فجارًا. . .) إلا أن الحديث ليس عند الترمذي بل رواه القضاعي في "مسند الشهاب" (986) عن الحسن عن الحسن عن الحسن بن أبي الحسن عن الحسن، الأول: ابن سهل، والثاني: ابن دينار، والثالث: البصري، والرابع: ابن سيدنا علي رضي اللَّه عنهم.

(والإثم) (¬1) أي: (الذنب حرَّاز القلوب) كما في رواية (¬2)، وهو بتشديد الزاي بمعنى قوله في هذه الرواية: (ما حاك) أي: رسخ وأثَّر (في النفس) (¬3) اضطرابًا وقلقًا ونفورًا وكراهة؛ لعدم طمأنينتها إليه، ومن ثم لم ترض بالاطلاع عليه، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) أي: وجوههم وأماثلهم الذين يستحيى منهم، وقولُ بعضهم: هذا ليس بشيءٍ وحملُه على العموم أولى. . هو الذي ليس بشيء. والمراد بالكراهة هنا: الدينية الخارمة (¬4)، فخرجت العادية؛ كمن يكره أن يُرى آكلًا لحياءٍ أو بخلٍ، وغير الخارمة؛ كمن يكره أن يركب بين مشاةٍ لتواضعٍ أو نحوه؛ فإنه لو رئي كذلك. . لم يبال. وقد استفيد من هذا السياق أن للإثم علامتين، وسببهما: أن النفس لها -كما يأتي التصريح به في رواية- شعور من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته وما لا تحمد عاقبته، ولكن غلبت عليها الشهوة حتى أوجبت لها الإقدام على ما يضرها، كما غلبت على السارق والزاني مثلًا فأوجبت لهما الحد، إذا عرفت ذلك. . اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم؛ لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوء عاقبته. ووجه كون كراهة اطلاع الناس على الشيء يدل على أنه إثمٌ: لأن النفس بطبعها تحب اطلاع الناس على خيرها وبرها، وتكره ضد ذلك، ومن ثم أهلك الرياء أكثر الناس، فبكراهتها اطلاع الناس على فعلها يعلم أنه شرٌّ وإثمٌ. ثم هل هاتان العلامتان كلٌّ منهما مستقلٌّ بكونه علامة على الإثم من غير احتياجٍ إلى الأخرى، أو غير مستقلٍّ بذلك، بل هو جزء علامة، والعلامة الحقيقية مركبةٌ منهما؟ ¬

_ (¬1) في هامش (غ): والإثم: يطلق ويراد به الذنب بسائر أنواعه، وهو المراد هنا، ويطلق ويراد به خصوص الخمر، ومنه قوله: [من الوافر] شربت الخمر حتى ضلَّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 149) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. وقوله: (حزاز القلوب) أي: مؤثر فيها كما يؤثر الحز في الشيء؛ فهو بمعنى قوله هنا: (ما حاك في النفس) وفي نسخ أخرى -وهي رواية الطبراني-: (حوَّاز) بتشديد الواو من (حاز، يحوز) أي: غلَّاب على القلوب. اهـ "مدابغي" بتصرف (¬3) كذا في النسخ، واللفظ في نسخ المتن وفي "صحيح مسلم": (في نفسك). (¬4) في بعض النسخ: (الجازمة) بدل (الخارمة) في الموضعين.

كلٌّ محتملٌ، لكن قضية الرواية الآتية المقتصرة على الأولى: الأول، ومقتضى العطف بواو الجمع هنا: الثاني، وعليه فالفعل إن وجد فيه الأمران كالزنا والربا. . فهو إثمٌ قطعًا، وإن انتفيا عنه فبِرٌّ قطعًا؛ كالعبادة، ونحو الأكل (¬1). وإن وجد فيه أحدهما. . احتمل البر والإثم فيكون من المشتبه، على حد ما مر في خبر: "الحلال بينٌ، والحرام بينٌ، وبينهما مشتبهات. . . " الحديث (¬2)، والذي يتجه: أنهما متلازمان؛ لأن تردد النفس (¬3) يستلزم كراهة اطلاع الناس وعكسه. وقضية عموم الحديث: أن مجرد خطورِ المعصيةِ والهمِّ بها إثمٌ؛ لوجود العلامتين فيه، لكنه مخصوصٌ بغير ذلك؛ لخبر: "إن اللَّه تجاوز لأمتي عمَّا وسوست به نفوسها ما لم تعمل به أو تَكَلَّم" (¬4). بل ربما يثاب نظير ما قيل له صلى اللَّه عليه وسلم: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن ينطق به، فقال: "ذاك صريح الإيمان" (¬5) فكذلك من همَّ بزنًا مثلًا وحاك في نفسه، فنفرت منه لضربٍ من التقوى. . أُثيب على ذلك؛ لأنه حينئذٍ يصير من باب قوله تعالى في الحديث القدسي: "اكتبوها له حسنة؛ إنما تركها من أجلي" (¬6). أما العزم. . فهو إثمٌ؛ لوجود العلامتين فيه ولا مخصص يخرجه من عموم الحديث، بل خبر: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول اللَّه؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" (¬7). . ظاهرٌ في ذلك؛ إذ ذلك الحرص المعلل الدخول به وحده مع قطع النظر عن الفعل المقترن به عزمٌ مجرَّد. (رواه مسلم) وهو من جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم، بل من أوجزها؛ إذ ¬

_ (¬1) في (ز) و (غ) زيادة: (ونحو الأكل بنية الإعانة على الطاعة). (¬2) انظر ما تقدم (ص 231) وهو الحديث السادس من أحاديث المتن. (¬3) في بعض النسخ: (لأن كراهة النفس). (¬4) أخرجه البخاري (6664)، ومسلم (127) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه مسلم (132) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه البخاري (7501)، ومسلم (128) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه البخاري (31)، ومسلم (2888) عن سيدنا أبي بكرة رضي اللَّه عنه.

البر: كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الخير وخصال المعروف، والإثم: كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الشر والقبائح كبيرها وصغيرها، كما علم مما قررته فيهما، ولهذا السبب قابل صلى اللَّه عليه وسلم بينهما وجعلهما ضدين. (وعن وابصة) بموحدة مكسورة فمهملة (ابن معبد رضي اللَّه) تعالى (عنه) قَدِم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في عشرة رَهْطٍ من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا، ورجع إلى بلاده، ثم نزل الجزيرة، وسكن الرقة ودمشق، ومات بالرقة، ودفن عند منارة جامعها. (قال: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم) ففيه معجزةٌ كبرى له صلى اللَّه عليه وسلم؛ حيث أخبره بما في نفسه قبل أن يتكلَّم به، وأبرزه في حيز الاستفهام التقريري مبالغةً في إيضاح اطلاعه عليه وإحاطته به. وفي روايةٍ لأحمد: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا لا أريد أن أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألت عنه، فقال لي: "ادنُ يا وابصة" فدنوت حتى مسَّت ركبتي ركبته، فقال: "يا وابصة؛ أخبرك بما جئت تسأل عنه أو تسألني؟! " قلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني، قال: "جئت تسأل عن البر والإثم؟ " قلت: نعم، قال: فجمع أصابعه الثلاث، فجعل ينكتُ بها في صدري ويقول: "يا وابصة؛ استفتِ نفسك. . . " الحديث (¬1). (قال: استفت قلبك) وفي رواية: "نفسك" أي: عوِّل على ما فيه؛ لما مر أن للنفس شعورًا بما تُحمد عاقبته فيه أو تُذم. ثم ذكر له ضابطًا يميز به الجائز عن غيره بقوله: (البر ما اطمأنت) (¬2) أي: سكنت (عليه) وفي رواية: "إليه" (النفس واطمأن إليه القلب) لأنه تعالى فطر عباده ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (4/ 228) عن سيدنا وابصة بن معبد رضي اللَّه عنه. (¬2) قال العلامة المدابغي نقلًا عن العلامة المناوي رحمهما اللَّه تعالي: (قوله: "ما" أي: شيء، أو الذي "اطمأنت" كذا في نسخ هذه الأربعين، وسلَّمه شراحها وأقروه، والذي وقفت عليه في أصولها الصحيحة: "سكنت").

على معرفة الحق، والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبته، ومن ثم جاء "كل مولودٍ يولد على الفطرة. . . " الحديث، قال أبو هريرة: (اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}) (¬1). وأخبر تعالى أن قلب المؤمن يطمئن بذكره، ويسكن إليه؛ لما أنه انشرح وانفسح بنور الإيمان؛ فلذا رُجِع إليه عند الاشتباه، فما سكن إليه. . فهو البر، وما لا. . فهو الإثم، والجمع بينه وبين النفس للتأكيد؛ لِمَا أن طمأنينة القلب من طمأنينة النفس، وهذا مطابقٌ لقوله أولًا: "البر حسن الخلق" لأن حسنه تطمئن إليه النفس والقلب؛ ولأنه قد يُراد به التخلُّق بأخلاق الشريعة، والتأدُّب بآدابها. ومن ثم قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: (كان خلقه صلى اللَّه عليه وسلم القرآن) (¬2) يعني: أنه يتأدَّب بآدابه، فيفعل أوامره، ويجتنب نواهيه، فصار له العمل به خلقًا كالجِبِلَّة والطبيعة، وهذا أكمل الأخلاق، وقد قيل: إن الدين كله خُلُقٌ. (والإثم ما حاك في النفس وتردَّد في الصدر) أي: القلب، كما مر، والجمع بين هذينِ تأكيدٌ أيضًا، وبه عُلم ضابط الإثم والبر، وأن القلب يطمئن للعمل الصالح طمأنينةً تبشِّره بأمن العاقبة، ولا يطمئن للإثم، بل يورثه تندمًا ونفرةً وحزازةً؛ لأن الشرع لا يقرُّ عليه، وإنما يكون على وجهٍ يشذ، أو تأويل محتمل، لكن يظهر معياره بما مر من أنه الذي يكره اطلاع الناس عليه، ولم يزل هذا ظاهرًا معروفًا، ومن ثم قال زهير: [من الكامل] أَلسِّتر دونَ الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من سِتْرِ (وإنْ) غايةٌ لِمُقَدَّر دلَّ عليه ما قبله؛ أي: فالتزم العمل بما في قلبك وإن (أفتاك الناس) أي: علماؤهم، كما في رواية: "وإن أفتاك المفتون" (¬3) (وأفتوك) (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658). (¬2) أخرجه مسلم (746). (¬3) عند الطبراني في "الكبير" (22/ 78) عن سيدنا واثلة بن الأسقع رضي اللَّه عنه. (¬4) قوله: (وإن أفتاك الناس وأفتوك) الجمع للتأكيد؛ يعني أن الفعل الثاني عين الأول لفظًا ومعنًى، والفرق بينهما: إنما هو أن فاعل الأول ظاهر، وفاعل الثاني ضميرٌ، فالجمع بينهما للتأكيد على حدِّ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ}، فالفعل الثاني تأكيدٌ للأول، فهو من التأكيد اللفظي لزبادة تقرير الكلام. اهـ هامش (غ)

بخلافه؛ لأنهم إنما يعولون على ظواهر الأمور دون بواطنها. أو المراد: قد أعطيتك علامة الإثم فاعتبرها في اجتنابه، ولا تُقلِّد من أفتاك بمقارفته، ومحل ذلك: إن كان المستنكر ممن شرح اللَّه صدره وأفتاه غيره بمجرد ظنٍّ أو ميلٍ إلى هوًى من غير دليلٍ شرعيٍّ، وإلَّا. . لزمه اتباعه وإن لم ينشرح له صدره، ومن ثم كره صلى اللَّه عليه وسلم امتناع قومٍ أمرهم بالفطر في السفر؛ إذ ما ورد به النص. . ليس للمؤمن فيه إلا طاعة اللَّه تعالى ورسوله، فليقبله بانشراح صدرٍ؛ قال تعالى: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. وأما ما لا نص فيه منه صلى اللَّه عليه وسلم ولا ممن يُقتدى بقوله؛ فإذا وقع منه شيءٌ في قلبٍ منشرحٍ بنور المعرفة واليقين مع تردُّدٍ، ولم يجد من يفتي فيه إلا من يخبر عن رأيه وهو غير أهلٍ لذلك. . رجع لما أفتاه به قلبه وإن أفتاه هذا وأمثاله بخلافه. والظاهر: أن هذا ليس من الإلهام المختلف في حجيَّته؛ لأنه شيءٌ يقع في القلب من غير قرينةٍ ولا استعدادٍ، فيثلُج له الصدر، وأما ما هنا. . فهو ترددٌ منشؤه قرائن خفيةٌ أو ظاهرةٌ؛ لأن الفرض أن الأمر مشتبهٌ، وأن القلب مال إلى أنه إثمٌ، فليرجع إليه فيه؛ كما دلَّت عليه النصوص النبوية، وفتاوى الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم. وإنما وحَّد الفعل الأول لإسناده إلى ظاهر، وجمع الثاني لإسناده إلى ضمير، والأصل فيه: أن الفعل إنما يكون له فاعل واحد، فإن كان ظاهرًا. . امتنع اتصال ضميره بالفعل، وأما: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}. . فمن باب البدل من الضمير، لا من باب تعدُّد الفاعل؛ لامتناعه إلا في لغةٍ ضعيفةٍ، وإن لم يكن ظاهرًا. . وجب إضماره؛ لئلا يتجرَّدَ الفعل عن الفاعل وهو غير جائز. قيل: بين هذا وبين ما مر من حديث: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن" تعارضٌ؛ لاقتضاء هذا أن المشتبه إثمٌ؛ لأنه يتردَّد في النفس، ومرَّ أن ذلك يقتضي أنه غيرُ إثمٍ. وجوابه: حمل هذا على ما تردد في الصدر لقوة الشبهة (¬1)، ويكون من باب ترك ¬

_ (¬1) قوله: (وجوابه. . . إلخ) حاصله: أن يحمل هذا الحديث الدال على أن ما تردد في القلب إثمٌ على ما قويت فيه الشبهة، ويحمل الحديث السابق الدال على أن ما تردد ليس إثمًا على ما ضعفت يه الشبهة، تأمل. اهـ "مدابغي"

أصل الحِل لظاهرٍ قويٍّ، ومرَّ مثله في شرح ذلك الحديث، وذاك على ما ضعفت فيه الشبهة, فيبنى على أصل الحل، ويجتنب محل الشبهة ورعًا، وأُجيب بغير ذلك مما لا يصح، فاجتنبه. وفي جوابه صلى اللَّه عليه وسلم لوابصة بهذا إشارةٌ إلى متانة فهمه، وقوة ذكائه، وتنوير قلبه؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم أحاله على الإدراك القلبي، وعلم أنه يدرك ذلك من نفسه؛ إذ لا يدرك ذلك إلا مَنْ هو كذلك، وأما الغليظ الطبع، الضعيف الإدراك. . فلا يجاب بذلك؛ لأنه لا يتحصَّل منه على شيء، وإنما يُفصِّل له ما يحتاج إليه من الأوامر والنواهي الشرعية، وهذا من جميل عادته صلى اللَّه عليه وسلم مع أصحابه؛ فإنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يخاطبهم على قدر عقولهم، ومن ثم قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: (أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم) (¬1). هذا (حديث صحيح) وفي نسخةٍ (حسن) (رويناه) بسندنا المتصل حال كونه (في مسندي الإمامين) الجليلين حديثًا وفقهًا وغيرَهما أبي عبد اللَّه (أحمد ابن حنبل) أحد الفقهاء المجتهدين، والأئمة المتبوعين، روى عن أممٍ، وعنه أممٌ؛ كالبخاري ومسلم وأبي داوود وابنيه (¬2). مات في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين عن سبعٍ وسبعين سنة. و"مسنده" فيه أربعون الف حديث، وقيل: ثلاثون تكرر منها عشرة (¬3)، جمعه من سبع مئة ألف وخمسين ألف حديث، وقال: جعلته حجةً بيني وبين اللَّه تعالى، وقال: ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. . فارجعوا إليه؛ فإن وجدتموه فيه؛ وإلَّا. . فليس بحجةٍ، وهذا يدل على إحاطته بالسُّنة، واطلاعه عليها، ومن ثم قال في المحنة: كيف أقول ما لم يُقَلْ؟! فلم يجزم بأن ذلك لم يُقَلْ إلا بعد اطلاعه على السنة وأقوال الأئمة. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (4826). (¬2) أي: ابني الإمام أحمد ابن حنبل؛ وهما عبد اللَّه وصالح رحمهم اللَّه أجمعين. اهـ هامش (غ) (¬3) أي: عشرة آلاف، فمن قال: أربعون. . عد المكرر، ومن قال: ثلاثون. . لم يعده. اهـ "مدابغي"

نعم؛ لم يلتزم رضي اللَّه تعالى عنه الصحة في "مسنده" وإنما أخرج فيه ما لم يُجْمِع الناس على تركه، وأما قول بعضهم: إن كل ما فيه صحيحٌ. . فمردودٌ، بل الحق أن فيه أحاديثَ كثيرةً ضعيفةً، وبعضها أشد في الضعف من بعض، حتى إن ابن الجوزي أدخل كثيرًا منها في "موضوعاته" ولكن قد تعقَّبه في بعضها -بل في سائرها- شيخُ الإسلام العسقلاني، وحقَّق نفي الوضع عن جميع أحاديثه، وأنه أحسنُ انتقاءً وتحريرًا من الكتب التي لم تلتزم الصحة في جمعها، قال: وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في "الصحيحين" بأكثر ضعفًا من الأحاديث الزائدة في "سنن أبي داوود" والترمذي عليهما. اهـ (¬1) ويقاربه شهرةً وكثرةً "مسند إسحاق"، و"ابن أبي شيبة" و"مصنفه"، و"مسند البزار" و"أبي يعلى" متقاربان في التوسط، و"مسند الحُمَيْدي" و"الدارمي" متقاربان في الاختصار. ومصنفو الأحاديث منهم من رتَّبها على مسانيد الصحابة كهؤلاء، ومنهم من رتبها على أبواب الأحكام كـ "الصحيحين" و"السنن" وفي كلِّ فائدةٌ وحكمةٌ، فجزاهم اللَّه تعالى خيرًا. (و) أبي محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن (الدارمي) التميمي السمرقندي الحافظ، من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، روى عنه أئمةٌ؛ كمسلم، وأبي داوود، والترمذي، وأبي زرعة، قال أبو حاتم: هو إمام أهل زمنه. ولد سنة إحدى وثمانين ومئة، ومات يوم التروية سنة خمسٍ وخمسين ومئتين، والغالب على "مسنده" الصحة، ولمَّا بلغ البخاري نعيه. . بكى وأنشد: [من الكامل] إن تبقَ تُفْجَعْ في الأحبةِ كلِّهم ... وفناءُ نفسِك لا أبا لك أفْجَعُ (¬2) ¬

_ (¬1) قال الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "تدريب الراوي" (1/ 188): (وقد الف شيخ الإسلام كتابًا في رد ذلك سماه: "القول المسدد في الذب عن المسند". . . سرد الأحاديث التي جمعها العراقي وهي تسعة، وأضاف إليها خمسة عشر حديثًا، أوردها ابن الجوزي في "الموضوعات"، وهي فيه، وأجاب عنها حديثًا حديثًا. قلت: وقد فاته أحاديث أخر أوردها ابن الجوزي، وهي فيه، وجمعتها في جزءٍ سميته "الذيل الممهد" مع الذب عنها، وعدتها أربعة عشر حديثًا. . .). (¬2) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 318).

وذكر الترمذي: أنه سمع البخاري يحدث عنه بحديث: "من شيع جنازة"، وابن عدي: أن النسائي حدث عنه. (بإسناد جيد) وفي نسخة (حسن)، فإن قلت: ما حكمة قول المصنف أولًا: (حديث صحيح) وقوله هنا: (بإسناد جيد)؟ قلت: حكمته: أنه لا يلزم من كون الحديث في "المسندين" المذكورين أن يكون صحيحًا كما يأتي، فبيَّن أولًا أنه صحيحٌ، وثانيًا أن سبب صحته أن إسناد هذين الإمامين اللذين أخرجاه له صحيحٌ أيضًا. وله حكمةٌ أخرى حديثيةٌ: وهي ما صرحوا به أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن؛ فقد يصح السند أو يحسن؛ لاستجماع شروطه: من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن؛ لشذوذٍ فيه، أو علَّةٍ، فنص المصنف أولًا على صحة المتن بقوله: (هذا حديث صحيح) وثانيًا على صحة السند بقوله: (بإسناد جيد). فإن قلت: صرحوا بأن قولهم: (هذا حديث صحيح) مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعًا. اهـ، فعليه: لِمَ لَمْ يكتفِ المصنف أولًا بقوله: (هذا حديث صحيح) عن قوله هنا: (بإسناد جيد)؟ قلت: هم وإن أرادوا ذلك إلا أنه لا يلزم منه الحكم على كل فردٍ من أسانيد ذلك الحديث بالصحة، ومع ذلك هو أقوى من تقييد الصحة بالإسناد (¬1)؛ كما في قول المصنف: (بإسناد جيد) لأنه حينئذٍ لا يبقى صريحًا في صحة المتن ولا ضعفه. فعلم أن الحكم بالصحة أو الحسن للإسناد أحطُّ رتبةً عن الحكم بأحدهما للحديث، ومع ذلك لو أَطلقَ الحكم بأحدهما للإسناد مَنْ عُرفَ منه باطِّراد أنه لا يفرق بين الحكم بأحدهما له وللمتن. . كان ذلك حكمًا للمتن بأحدهما أيضًا. واعترض تصحيح المصنف أو تحسينه لحديث أحمد بأنه أخرجه من طريقين، إحداهما فيها علتان: ضعف، وانقطاع، وأخرى فيها مجهول. وجوابه: أن أحمد خرجه من طريقٍ أخرى عن أبي أمامة قال: قال رجلٌ: ¬

_ (¬1) أي: قولهم: (هذا حديث صحيح) أقوى من اقتصارهم على (بإسناد صحيح) اهـ هامش (غ)

تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديث من كتب السنة]

يا رسول اللَّه؛ ما الإثم؟ قال: "إذا حاك في صدرك شيء. . فدعه" (¬1) وسند هذا جيدٌ على شرط مسلم. وزعمُ ابن معين أن فيه انقطاعًا. . رَدَّه أحمد، ومن طريق أخرى عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني ما يحلُّ لي ويحرم عليَّ، قال: "البر ما سكنت إليه النفس. . . " الحديث (¬2)، وسندها جيدٌ أيضًا. وخرجه الطبراني بسندٍ ضعيفٍ عن واثلة: قلت للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: أفتني عن أمرٍ لا أسال عنه أحدًا بعدك، قال: "استفت نفسك" قلت: كيف لي بذلك؟ قال: "تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون" قلت: كيف لي بذلك؟ قال: "فضع يدك على قلبك؛ فإن الفؤاد يسكن للحلال ما لا يسكن للحرام" (¬3). تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة] من أراد الاحتجاج بحديثٍ من "السنن" كـ"أبي داوود" و"الترمذي" و"النسائي" و"ابن ماجه" و"الموطأ" وغيرها، لا سيما "ابن ماجه" و"مصنف ابن أبي شيبة" و"عبد الرزاق" ونحوها مما يكثر فيه الضعيف وغيره، أو بحديث من "المسانيد"؛ فإن تأهَّل لتمييز الصحيح من غيره. . امتنع عليه أن يحتجَّ بحديثٍ من ذلك حتى ينظر في اتصال إسناده وحال رواته، وإن لم يتأهل له. . نَظَر؛ فإن وجد إمامًا صحَّح أو حسَّن شيئًا. . قلَّده، وإلَّا. . لم يجز له الاحتجاج به؛ لئلا يقع في الباطل وهو لا يشعر. وإنما سوينا بين "السنن" و"المسانيد" في ذلك؛ لأن أصحابها لم يلتزموا الصحيح ولا الحسن خاصةً، بل أدخلوا فيها الضعيف وغيره. * * * ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 252). (¬2) مسند الإمام أحمد (4/ 194). (¬3) تقدم تخريجه (297) في شرح الحديث الحادي عشر.

الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة] عَنْ أَبِي نَجِيحٍ العِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ, وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ. . فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬1). (عن أبي نجيح العِرباض) بعينٍ مهملةٍ مكسورةٍ، وباءٍ موحدةٍ، وأصله: الطويل (ابن سارية) بسينٍ مهملةٍ وتحتية، السُّلَمي من أهل الصُّفَّة، وهو أحد البكَّائين (¬2)، وكان يقول: (إنه رابع الإسلام) (¬3). (رضي اللَّه) تعالى (عنه) نزل الشام، وسكن حمص، مات في فتنة ابن الزبير رضي اللَّه تعالي عنهما، ويقال: سنة خمس وسبعين، روى له أصحاب "السنن الأربعة". (قال: وعظنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) أي: بعد صلاة الصبح، كما في ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (4607)، وسنن الترمذي (2676). (¬2) الذين نزل فيهم قوله تعالي: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآيةَ، وكان من المشتاقين إلى اللَّه تعالي يحب أن يقبض إليه، يقول في دعائه: (اللهم؛ كبرت سني، ووهن عظمي، فاقبضني إليك) اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "الإصابة" (2/ 466).

الرواية الآتية، وكان صلى اللَّه عليه وسلم يقع ذلك منه أحيانًا لا دائمًا؛ كما في "الصحيحين" مخافة سآمتهم ومللهم (¬1)، ومن ثم كان ابن مسعود يُذكِّر كل يوم خميس، فاستزيد فاعتلَّ بذلك (¬2). (موعظةً) من الوعظ؛ وهو النُّصح والتذكير بالعواقب، وتنوينها للتعظيم؛ أي: موعظة جليلة، كما يدل عليه رواية: "موعظة بليغة" (¬3) أي: بلغت إلينا، وأثَّرت في قلوبنا حتى (وجِلت) أي: خافت، وكأنه كان مقام تخويف ووعيد (منها) أي: من أجلها، ويصح أن تكون لابتداء الغاية. (القلوب) مر الكلام على القلب في شرح (السادس) (¬4). (وذرفت) بالمعجمة وفتح الراء؛ أي: سالت (منها) فيها ما مر (العيون) أي: دموعها، وأخَّر هذا عما قبله؛ لأنه إنما ينشأ غالبًا عنه، وفيه أنه ينبغي للعالم أن يَعِظَ أصحابه، ويذكرهم، ويخوفهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولا يقتصر لهم على مجرد معرفة الأحكام والحدود والرسوم (¬5)، وأنه ينبغي المبالغة في الموعظة؛ لترقيق القلوب، فيكون أسرع إلى الإجابة؛ قال تعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. ومن ثم (كان صلى اللَّه عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة. . اشتدَّ غضبه، وعلا صوته، واحمرَّت عيناه، وانتفخت أوداجه كأنه منذر جيشٍ يقول: صبَّحكم مسَّاكم) (¬6). وإنما طُلبت بلاغة الخطبة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها؛ إذ البلاغة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (68)، وصحيح مسلم (2821) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) لما سُئل رضي اللَّه عنه الاستزادة -كما أخرجه البخاري (70)، ومسلم (2821/ 83) -. . قال: (أَمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا). (¬3) أخرجها أبو داوود (4607)، وابن ماجه (42). (¬4) انظر ما تقدم (ص 248). (¬5) الرسوم: أي التعاريف. (¬6) أخرجه مسلم (867) عن سيدنا جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما.

هنا: المبالغة في التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإدخالها قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها، وأحلاها للأسماع، وأوقعها في القلوب، وكان صلى اللَّه عليه وسلم لا يطيل خُطبته، بل يُبْلِغ ويوجز. وفي خبر مسلم: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئِنَّةٌ من فقهه (¬1)، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة؛ فإن من البيان لسحرًا" (¬2). (فقلنا: يا رسول اللَّه؛ كأنها موعظة مودع) كأن وجه فهمهم لذلك مزيد مبالغته صلى اللَّه عليه وسلم في تخويفهم وتحذيرهم على ما كانوا يألفونه منه قبل، فظنوا أن ذلك لقرب وفاته ومفارقته لهم؛ فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل. وفيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد عليها في بعض الأحوال؛ لأنهم إنما فهموا توديعه إياهم بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة كما تقرر. واحتمالُ أنه أشار إلى توديعهم ففهموا ما سألوه منه نظيرَ ما وقع في حجة الوداع. . بعيدٌ، بدليل قولهم: (كأنها). (فأوصنا) أي: وصيةً جامعةً كافيةً؛ فإنهم لما فهموا أنه مودعٌ. . استوصوه وصيةً تنفعهم ويُتَمَسَّك بها بعده، ويكون فيها كفاية لمن يتمسك بها، وسعادة له في الدارين. ويؤخذ منه: أنه ينبغي لتلامذة العالم أن يسألوه في مزيد وعظهم وتخويفهم ونصحهم، ثم رأيت بعضهم صرَّح به فقال: فيه استحبابُ استدعاءِ الوصية والوعظ من أهلهما، واغتنام أوقات أهل الدين والخير قبل فراقهم (¬3). (قال: أوصيكم بتقوى اللَّه) تعالى، جمع في ذلك كل ما يُحتاج إليه من أمور الآخرة؛ لما مر أن التقوى: امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك، وأصلها: وِقْوَى بكسر أوله وقد يفتح، من الوقاية -أبدلت تاءً ¬

_ (¬1) مئنة -بكسر الهمزة وتشديد النون-: العَلَامة والدلالة؛ أي: علامة يتحقق بها فقهه. اهـ هامش (غ) (¬2) صحيح مسلم (869) عن سيدنا عمار بن ياسر رضي اللَّه عنهما. (¬3) في بعض النسخ: (قبل فواتهم).

كتراث وتخمة- وهي: ما يستر الرأس، فالمتقي جعل بينه وبين المعاصي وقايةً تحول بينه وبينها من قوة عزمه على تركها، واستحضار علمه بقبحها. والوصية بالتقوى هي وصية اللَّه تعالى للأولين والآخرين؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ومر الكلام على التقوى بمزيد في وصيته صلى اللَّه عليه وسلم معاذًا بها (¬1). (والسمع والطاعة) جمع بينهما تأكيدًا للاعتناء بهذا المقام، ومن ثم خصه بالذِّكر عاطفًا له على ما يشمله وغيره وهو تقوى اللَّه تعالى، فهو من عطف الخاص على العام؛ لمزيد التأكيد والاعتناء بشأنه، ويصح أن يكون عطفَ مغايرٍ، من حيث إنَّ أظْهَرَ مقاصد التقوى انتظامُ الأمورِ الأخرويةِ، وأظهرَ مقاصد هذا انتظامُ الأمور الدنيوية، ومن ثم قال علي كرم اللَّه وجهه: (إن الناس لا يصلحهم إلا إمامٌ بَرٌّ أو فاجرٌ) (¬2)، وقال الحسن: (ما يصلح اللَّه تعالى به أكثر مما يفسده) (¬3). (وإن تأمَّر عليكم عبدٌ) هذا إما من باب ضرب المثل بغير الواقع على طريق التقدير والفرض، وإلَّا. . فهو لا تصح ولايته، ونظيره: "من بنى للَّه مسجدًا ولو كَمَفْحَصِ قطاةٍ. . بنى اللَّه له بيتًا في الجنة" (¬4)، وإما من باب الإخبار بالغيب، وأن نظام الشريعة يختل حتى توضع الولايات في غير أهلها، والأمر بالطاعة حينئذٍ إيثارٌ لأهون الضررين؛ إذ الصبر على ولاية مَنْ لا يجوز ولايته أهون من إثارة الفتنة التي لا دواء لها ولا خلاص منها. ويرشد إلى هذا تعقيب ذلك بقوله: (فإنه من يعش منكم. . فسيرى اختلافًا ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 350). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (38409). (¬3) ذكر الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 117) قول الحسن بتمامه؛ وهو: (هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، واللَّهِ؛ ما يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، واللهِ؛ لَمَا يصلح اللَّه بهم أكثر مما يفسدون؛ مع أن -واللَّه- إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر). (¬4) أخرجه ابن حبان (1610)، والطبراني في "الصغير" (2/ 120)، والطيالسي في "مسنده" (461) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. والقطاة: طائر يشبه الحمامة، والمفص -وزان جعفر-: المكان الذي تضع فيه بيضها.

كثيرًا) (¬1) فيه من معجزاته صلى اللَّه عليه وسلم: الإخبار بما يقع بعده من كثرة الاختلاف وغلبة المنكر، وقد كان صلى اللَّه عليه وسلم عالمًا به جملةً وتفصيلًا؛ لِمَا صح أنه كُشف له عمَّا يكون إلى أن يدخل أهل الجنة والنار منازلهم، ولم يكن يبينه لكل أحدٍ، وإنما كان يحذِّر منه على العموم، ثم يلقي التفصيل إلى الآحاد؛ كحذيفة وأبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنهما. (فعليكم) أي: الزموا حينئذٍ التمسك (بسنتي) أي: طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها مما أصَّلْتُه لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية، الواجبة والمندوبة، وغيرهما. وما فسَّرتُ به السُّنةَ من أنها: الطريقة القويمة الجارية على السنن وهو السبيل الواضح. . هو مما وافَقَتْ فيه اللغةُ الشرعَ؛ لاستعمالها فيهما بهذا المعنى، وتخصيصهم لها بما طُلِبَ طلبًا غيرَ جازم اصطلاحٌ طارئٌ قصدوا به التمييزَ بينها وبين الفرض، ويشهد له حديث: "من صلى ثنتي عشرة ركعة من السنة. . بنى اللَّه له بيتًا في الجنة" (¬2) على أن التمييز بينهما كان معروفًا عند الجاهلية أيضًا، أَلَا ترى إلى قول ذي الأصبع العدواني: [من الهزج] ومنهم مَنْ يجيز النا ... سَ بالسُّنَّة والفرضِ فهو ما تأصَّل التزامه للخلق، كأنه قطع عليهم التردد فيه، من (فَرَض) أي: قَطَع، وإليه يرجع التقدير؛ لأن ما قدر قد قطع عما كان مشترِكًا معه (¬3). (وسنة) أي: طريقة (الخلفاء الراشدين المهديين) (¬4) وهم: أبو بكر، فعمر، ¬

_ (¬1) قوله: (وإنه) أي: الشأن (من يعش) بالجزم، وفي نسخ: (من يعيش) بالرفع. وقال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 234): (وإتيانه بالسين في قوله: "فسيري" دون "سوف" يدل علي قرب الرؤية، وكان الأمر كذلك، فظهرت فتة سيدنا عثمان، وواقعة الجمل، ومحاربة سيدنا معاوية لسيدنا علي رضي اللَّه عنهما على الإمارة، ومحاربته لسيدنا الحسن فسلم الأمر إليه؛ لأجل إطفاء نار الفتنة، ثم ظهر أعظم الفتن قتل سيدنا الحسين رضي اللَّه عنه). (¬2) أخرجه الترمذي (414)، وابن ماجه (1140) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها بنحوه. (¬3) قوله: (لأن ما قدر قد قطع عمَّا كان مشتركًا معه) كالصلوات الخمس فرض؛ لأنها قطعت عما كان مشتركًا معها وهو النافلة في مطلق الصلاة، وبهذا يعلم أن (مشترِكًا) بالكسر اسم فاعل كما قرره شيخنا. اهـ هامش (غ) (¬4) قال الإمام التوربشتي رحمه اللَّه تعالي: وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته؛ لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما =

فعثمان، فعلي، فالحسن رضي اللَّه تعالى عنهم وعن بقية الصحابة؛ فإن ما عرف عن هؤلاء أو عن بعضهم أَولى بالاتباع من بقية الصحابة إذا وقع بينهم الخلاف فيه. ومن ثم قال بعض العلماء: يقدم ما أجمع عليه الأربعة، ثم ما أجمع عليه أبو بكر وعمر؛ للخبر الصحيح: "اقتدوا باللَّذَينِ من بعدي: أبي بكر، وعمر" (¬1) وهذا في حق المقلِّد الصِّرف في تلك الأزمنة القريبة من زمن الصحابة. أما في زمننا. . فقال بعض أئمتنا: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة (¬2): الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد ابن حنبل رضوان اللَّه تعالى عليهم؛ لأن هؤلاء قد عُرفتْ قواعد مذاهبهم، واستقرت أحكامها، وخدمها تابعوهم وحرروها فرعًا فرعًا، وحكمًا حكمًا، فعزَّ أن يوجد حكمٌ إلا وهو منصوصٌ لهم إجمالًا أو تفصيلًا، بخلاف غيرهم؛ فإن مذاهبهم لم تحرر وتدوَّن كذلك، فلا تعرف لها قواعد تتخرج عليها أحكامها، فلم يجز تقليدهم فيما حفظ عنهم منها؛ لأنه قد يكون مشترطًا بشروطٍ أخرى وكلوها إلى فهمها من قواعدهم، فَقَلَّتِ الثقةُ بخلو ما حفظ عنهم من قيدٍ أو شرطٍ، فلم يجز التقليد حينئذ. والدلائل على اتصاف أولئك الخلفاء بالرشاد -وهو ضدُّ الضلالِ- والهدايةِ لأقوم طريقٍ وأصوبه. . كثيرةٌ مشهورة؛ منها: قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} الآيةَ، ثم خص صلى اللَّه عليه وسلم منهم اثنين بقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" ثم خصَّ منهما أجلهم وأكملهم، بل أجل واكمل مَنْ عدا الأنبياء من سائر الأمم بقوله لمن سألَتْه وأمرها أن ترجع إليه فقالت له: إن لم أجدك؟ تريد الموت، فقال: "ائتي أبا بكر" (¬3) فهذا خصوصُ خصوصِ الخصوص. ¬

_ = يستخرجونه ويستنبطونه من سنته بالاجهاد، ولأنه عرف أن بعض سنته لا يشتهر إلا في زمانهم فأضافها إليهم؛ لبيان أن مَنْ ذهب إلى ردِّ تلك السُّنة مخطئٌ، فأطلق القول باتباع سنتهم سدًا للباب. اهـ "مدابغي" (¬1) أخرجه الترمذي (3662)، وابن ماجه (97)، والإمام أحمد (5/ 382) عن سيدنا حذيفة رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة) حتى أكابر الصحابة؛ لما قاله من أن مذاهبهم لم تدوَّن ولم تضبط، لكن حمله السبكي وغيره على الإفتاء والقضاء، أما في عمل الإنسان لنفسه فما عُلمت نسبته لذلك المجتهد إذا جمع شروطه عنده. . فجائز. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه البخاري (3659)، ومسلم (2386) عن سيدنا جبير بن مطعم رضي اللَّه عنه.

وقد بينتُ ذلك وغيره من كل ما جاء في فضائلهم ومآثرهم واستحقاقهم للخلافة على الترتيب المذكور في كتابي: "الصواعق المحرقة" فانظر ذلك منه؛ فإنه مهمٌّ، كيف وقد أحرق جميع شُبَهِ المبتدعة القادحة فيهم أو في بعضهم، ودعاويهم الباطلة، وأقاويلهم الكاذبة، قاتلهم اللَّه أنى يؤفكون (¬1). (عضوا عليها بالنواجذ) (¬2) بالمعجمة جمع ناجذ؛ وهو آخر الأضراس -الذي يدل نباته على الحلم- من فوقُ وأسفلُ من كلٍّ من الجانبين، فللإنسان أربعٌ، هذا ما مشى عليه جمعٌ من الشارحين، وقال بعضهم: هي الأنياب، وقيل: آخر الأضراس المذكورة. والمعنى على كلٍّ من القولين: عضوا عليها بجميع الفم؛ احترازًا من النهش، وهو الأخذ بأطراف الأسنان، فهو إما مجازٌ بليغٌ؛ إذ فيه تشبيه المعقول بالمحسوس، ومنه: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الآيةَ؛ إذ نوره تعالى معقولٌ لا محسوسٌ، أو كناية عن شدة التمسُّك بالسنة والجد في لزومها، كفعلِ مَنْ أمسك الشيء بنواجذه وعض عليه؛ لئلا ينزع منه؛ لأن النواجذ محددةٌ، فإذا عضت على شيءٍ. . نشبت فيه فلا يتخلص، وكذلك، بقال: هذا الشيء تعقد عليه الخناصر، وتلوى عليه الأنامل. وقيل: يحتمل أن يكون معناه الأمر بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات اللَّه عز وجل (¬3)، كما يفعله المتألم مما أصابه من الألم. (وإياكم ومحدَثاتِ الأمور) كلاهما منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ؛ أي: باعدوا واحذروا الأخذ بالأمور المُحدَثة في الدين، واتباع غير سنن الخلفاء الراشدين (فإن) ذلك بدعة، وإن (كل بدعة) وهي لغةً: ما كان مخترعًا على غير مثالٍ سابقٍ، ومنه: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: موجدهما على غير مثالٍ سبق. ¬

_ (¬1) في هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرفة، ثم بُلِّغ كذلك). (¬2) أمرٌ مِن (عض يعَض) وهو بفتح العين، وضمُّها لحنٌ، وكذا تقول: بِرَّ أمك ولا تقول بُرَّ أمك بضم الباء، فاحذر أن تضم العين كما وقع لبعض المدعين الزاعم أنه المجتهد المطلق في الدين، ثم إن العض بالضاد لِمَا كان بجارحة، وبالظاء المشالة لما كان بغيرها كعظ الزمان. اهـ هامش (غ) (¬3) المضض: وجع المصيبة.

وشرعًا: ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص أو العام. (ضلالة) لأن الحق في ما جاء به الشرع، فما لا يرجع إليه يكون ضلالة؛ إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، ومر في شرح (الخامس) الكلام على ذلك مستوفًى (¬1)، وأن المراد بالمحدَث الذي هو بدعة وضلالة: ما ليس له أصلٌ في الشرع، وإنما الحامل عليه مجرد الشهوة أو الإرادة، فهذا باطلٌ قطعًا، بخلاف محدَثٍ له أصلٌ في الشرع إما بحمل النظير على النظير، أو بغير ذلك؛ فإنه حسنٌ؛ إذ هو سنة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين. ومن ثم قال عمر رضي اللَّه تعالى عنه في التراويح: (نعمت البدعة هي) (¬2) فليس ذلك مذمومًا بمجرد لفظ: محدث، أو: بدعة؛ فإن القرآن باعتبار لفظه وإنزاله وصف بالمحدث أولَ (سورة الأنبياء) (¬3) وإنما منشأ الذم ما اقترن به من مخالفته للسنة ودعايته إلى الضلالة. فالحاصل: أن البدعة منقسمةٌ إلى الأحكام الخمسة؛ لأنها إذا عرضت على القواعد الشرعية. . لم تخل عن واحدٍ من تلك الأحكام. فمِنَ البدع الواجبة على الكفاية: الاشتغالُ بالعلوم العربية المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة؛ كالنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، واللغة -بخلاف العروض والقوافي ونحوهما (¬4) - وبالجرح والتعديل، وتمييز صحيح الأحاديث من سقيمها، وتدوين نحو الفقه وأصوله وآلاته، والرد على نحو القدرية، والجبرية، والمرجئة، والمجسِّمة، ومحل بسطه كتب أصول الدين؛ لأن حفظ الشريعة فرض كفايةٍ فيما زاد على المتعين؛ كما دلت عليه القواعد الشرعية، ولا يتأتى حفظها إلا بذلك؛ ولأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به. . واجبٌ. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 221). (¬2) تقدم تخريجه (ص 223). (¬3) وهي قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}. (¬4) قوله: (بخلاف العروض) ذكر شيخ مشايخنا السندوبي: أن تعلُّم العروض والقوافي فرض كفاية أيضًا إن توقف فهم كلام العرب عليه. اهـ "مدابغي"

ومن البدع المحرمة: مذاهب سائر أهل البدع المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. ومن المندوبة: إحداث نحو الرُّبط، والمدارس، وكل إحسانٍ لم يعهد في العصر الأول، والكلام في دقائق التصوف، والجدل، وجمع المحافل، والاستدلال في المسائل العلمية إن قصد بذلك وجه اللَّه تعالى. ومن المكروهة: زخرفة المساجد، وتزويق المصاحف. ومن المباحة: التوسع في لذيذ المآكل والمشارب والملابس، وتوسيع الأكمام، وقد يختلف العلماء في ذلك فيجعله بعضهم مكروهًا، وبعضهم سنة، وكذا المصافحة عقب العصر والصبح على ما قاله ابن عبد السلام (¬1)، لكن قيده المصنف بما إذا صافح من هو معه قبلهما، أما من ليس معه قبلهما. . فمصافحته مندوبة؛ لأنها عند اللقاء سنةٌ إجماعًا، وكونه خصَّصها ببعض الأحوال وفرط في أكثرها لا يخرج ذلك البعض عن كونها مشروعة فيه (¬2). وبما تقرر علم أن قوله: "ومحدثات الأمور" عامٌّ أُريد به خاصٌّ؛ إذ سنة الخلفاء الراشدين منها، مع أنَّا أُمرنا باتباعها؛ لرجوعها إلى أصلٍ شرعيٍّ، وكذلك سنتهم؛ عام أُريد به خاص؛ إذ لو فرض خليفةٌ راشدٌ في عامة أمره سَنَّ سنةً لا يعضدها دليلٌ شرعيُّ. . امتنع اتباعها، ولا ينافي ذلك رشده؛ لأنه قد يخطئ المصيب، ويزيغ المستقيم يومًا ما، وفي الحديث: "لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة" (¬3). واعلم: أن الكلام إما عامٌّ أريد به عامٌّ؛ نحو: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أو خاصٌّ أريد به خاصٌّ؛ نحو: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} أو عامٌّ أريد به خاصٌّ؛ ¬

_ (¬1) القواعد الكبرى (2/ 339). (¬2) قوله: (كونه) أي: المصافح (خصصها) أي: المصافحة (ببعض الأحوال) كعقب العصر والصبح (وفرط في أكثرها) أي: أكثر الأحوال فلم يصافح فيها (لا يخرج) هذا التخصيص (ذلك البعض) المخصص فيه (عن كونها) أي: المصافحة (مشروعة فيه) هكذا قرره شيخنا. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه الترمذي (2033)، والإمام أحمد (3/ 8) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.

قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

نحو: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ}، أو خاصٌّ أُريد به عامٌّ؛ نحو: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أي: لا تؤذهما بشيءٍ من أنواع الإيذاء. قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم] كل حكمٍ أجازه الشارع أو منعه أو أمكن رده إلى أحدهما. . فهو واضحٌ، فإن أجازه مرةً ومنعه أخرى. . فالثاني ناسخٌ للأول، وإن لم ترِدْ عنه إجازته ولا منعه ولا أمكن رده إليه بوجهٍ. . ففيه الخلاف قبل ورود الشرع، والأصح: أن لا حكم، فلا تكليف فيها بشيءٍ، وقيل: يرجع فيه إلى المصلحة والسياسة، فما وافقها منه. . أُخذ، وما لا. . تُرك. (رواه) أحمد وابن ماجه و (أبو داوود) وأبو نعيم، وقال: حديثٌ جيدٌ من صحيح حديث الشاميين (¬1) (والترمذي وقال: حديث حسن) وفي نسخة: حسن صحيح، هكذا هو في "كتاب الأربعين". ولفظ أبي داوود: قال: صلى بنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغةً، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائلٌ: يا رسول اللَّه؛ كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى اللَّه والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا؛ فإنه من يعش منكم بعدي. . فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور: فإن كل محدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ". ولفظ الترمذي نحو هذا، لكن فيه: بعد صلاة الغداة، وفيه: "وإن عبدٌ حبشيٌّ" (¬2) وفيه: "وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (4/ 126)، وسنن ابن ماجه (42)، والمسند المستخرج على صحيح مسلم (2). (¬2) قوله: (وفيه: "وإن عبدٌ حبشيٌّ") بالرفع على حذف (كان) مع خبرها وبقاء اسمها؛ أي: وإن كان عبدٌ حبشيٍّ مولى عليكم، وهو قليل. اهـ "مدابغي"

منكم. . فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ". وفي بعض الطرق: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، فلا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم. . فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" (¬1). وفي بعضها: "فإن كل محدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ، وكل ضلالةٍ في النار" وهو قياسٌ مركبٌ متصلٌ من الشكل الأول، ينتج: كل محدثةٍ في النار؛ يعني صاحبها من فاعلٍ ومتَّبِع. وزاد ابن ماجه آخر الحديث: "فإنما المؤمن كالجمل الأَنِف؛ حيثما قِيد. . انقاد" (¬2) لكن أنكر جمعٌ من الحُفَّاظ هذه الزيادة وقالوا: إنها مدرجة. وأجيب بأن ابن ماجه أخرجه من طريقٍ إسناده جيدٌ متصل، ورواته ثقات مشهورون، وقد صرح فيه بسماع يحيى راويه من العرباض، وبه صرح البخاري في "تاريخه" (¬3) أي: وإن أنكره حفاظ أهل الشام، وقيل: إن البخاري في "تاريخه" تقع له أوهام في أخبار أهل الشام، وهم أعرف بشيوخهم. * * * ¬

_ (¬1) عند ابن ماجه (43) عن سيدنا العرباض بن سارية رضي اللَّه عنه. (¬2) تقدم تخريجه في الهامش السابق. وقوله: (كالجمل الأنف) أي: المأنوف؛ وهو الذي عقر الخشاشُ أنفَه، فهو لا يمتنع على قائده؛ للوجع الذي به، وكان الأصل أن يقال: مأنوف؛ لأنه اسم مفعول كما يقال: مصدور ومبطون للذي اشتكى صدره وبطنه، وإنما جاء هذا شاذًا، ويروى: (كالجمل الآنِف) بالمد وهو بمعناه. اهـ "مدابغي" (¬3) انظر "سنن ابن ماجه" (42) حيث قال في سنده: (حدثني يحيى بن أبي المطاع، قال: سمعت العرباض بن سارية)، وانظر: "التاريخ الكبير" (8/ 306)، وانظر تفصيل الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 110 - 111).

الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة] عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَخْبِرْنِي بعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللَّهَ لا تُشْرِكُ بهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ" ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟! الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ" ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}. . . حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟! " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ" ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟! " قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا" قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ؛ وَإنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بهِ؟! فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟! " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (¬1). (عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني بعمل يدخلُني الجنة، ويباعدني من النار) (¬2) فيه عظيم فصاحته؛ فإنه أوجز وأبلغ، ومن ثم ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2616). (¬2) في النسخ كلها إلا (خ): (عن النار) والمثت منها ومن نسخ المتن و"سنن الترمذي".

حمد صلي اللَّه عليه وسلم مسألته، وعجب من فصاحته حيث (قال) له: (لقد سألت عن عظيم) أي: عن عملٍ عظيمٍ؛ إما لأن عظم المسبب يستدعي عظم السبب، ودخول الجنة والتباعد عن النار أمرٌ عظيمٌ، سببه: امتثال كل مأمور، واجتناب كل محظور، وذلك عظيمٌ صعبٌ قطعًا، ولولا ذلك. . لما قال اللَّه تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}. وإما من حيث صعوبته على النفوس وعدم وفائها غالبًا بما يطلب له، وفيه من الوسائل والمقاصد الواجبة والمندوبة، وأجلُّها الإخلاص؛ إذ هو روح العمل وأُسُّه المقوِّم له، وأنى به؟! فإنه لا يوجد كماله إلا للشاذِّ النادر من العاملين، ولعزته كان مما استأثر اللَّه تعالى به؛ فإنه لم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا. وليس المراد استعظام جزائه ونتيجته فقط؛ بدليل قوله: (وإنه ليسير على من يسَّره اللَّه تعالى عليه) (¬1) بتوفيقه إلى القيام بالطاعات على ما ينبغي، وشَرْحِ اللَّه تعالى صدره إلي السعي فيما يكمله ويقربه من ربه تعالى مع تهيئة أسباب ذلك له: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وهدايته إلى صفاء نفسه عن كدوراتها، فعزبت عن سائر مألوفاتها وشهواتها، وطمحت إلى أعلى أحوالها ومقاماتها، وترقَّت عن سفساف أخلاقها، وحضيض أوصافها إلى غايات الكمال، ونهايات الجلال. ثم فسر ذلك العمل العظيم بقوله: (تعبد اللَّه) تعالى؛ أي: توحِّده في حال كونك (لا تشرك به شيئًا) أو تأتي بجميع أنواع العبادة في حال كونك مخلصًا له؛ بأن تقصد بها، وجهه تعالى وحده؛ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. (وتقيمُ الصلاة) هو وما بعده من عطف المغاير على المعنى الأول (¬2)، وعليه فيكون قد ذكر له التوحيد وأعمال الإسلام، والخاص على العام على المعنى الثاني (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخ (على من سهله) والمثبت من هامش (خ) وأشار لها بنسخة، وهي كذلك في نسخ المتن، وفي "سنن الترمذي". (¬2) قول: (على المعنى الأول) في (تَعْبُدُ) المذكور بقوله: (أي: توحده). (¬3) قول: (والخاص) أي: ومن عطف الخاص على المعنى الثاني المذكور بقوله: (أو تأتي بجميع أنواع العبادة. . .) اهـ هامش (غ)

(وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) مر الكلام على ذلك مستوفًى في شرح (الحديث الثاني) و (الثالث) (¬1). (ثم قال) له صلى اللَّه عليه وسلم: (ألا أدلك) عرضٌ؛ نحو: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} الآية؛ أي: عرضت ذلك عليك، فهل تحبه؟ وفيه غاية التشويق إلى ما سيذكره له؛ ليكون أوقعَ في نفسه، وأبلغَ في ملازمته، وأحثَّ على تفرغها لاستفادته. (على أبواب الخير) فيه زيادة ذلك التشويق، والمراد بالخير هنا: ضد الشر. ثم الإضافة إن كانت بيانية. . كان المراد به الأعمال الصالحة التي يتوصل بها إلى أعمال أخرى أكمل منها كما استفيد من تسميتها أبوابًا، فهو من المجاز البليغ؛ لما فيه من تشبيه المعقول بالمحسوس (¬2)، نظيرَ ما مر آنفًا. وأُوثر فيها جمع القلة إشارةً إلى تسهيل الأمر على السامع؛ ليزيد نشاطه وإقباله. هذا ما ظهر لي، وهو أولى من قول بعضهم: إنما أوثر؛ لأنه ليس له جمع كثرة كآذان، وأقلام، وأقسام. وإن كانت بمعنى (اللام). . كان المراد به الجزاء العظيم، والثواب الجسيم، وبها سائر الأعمال الصالحة. ويدل للثاني: رواية ابن ماجه: "ألا أدلك على أبواب الجنة؟! " (¬3)، وللأول: تخصيصه بعضَ الأعمال بالذكر بقوله: (الصوم) أي: الإكثار من نفله؛ لأن فرضه مر ذكره قريبًا (جُنَّة) بضم الجيم، من (جنَّ) إذا استتر؛ أي: هو مِجَنٌّ وسترٌ ووقايةٌ لك من النار في الآجل، ومن استيلاء الشهوات والغفلات عليك في العاجل، وذلك باب أيُّ باب، ووسيلة أيُّ وسيلة إلى صفاء الأحوال، ووقوع أفضل الأعمال، على ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 148) من الحديث الثاني، و (ص 191) من الحديث الثالث. (¬2) قوله: (تشبيه المعقول) أي: الخير (بالمحسوس) أي: بالمكان الذي له أبواب. (¬3) سنن ابن ماجه (4108) من نسخة جمعية المكنز الإسلامي، والحديث في نسخة العلامة محمد فؤاد عبد الباقي رحمه اللَّه تعالى برقم (3973) إلا أنه بلفظ "الخير" بدل "الجنة".

نهاية الكمال، ومن ثم قال تعالى: "الصوم لي وأنا أجزي به" (¬1)، وقال تعالى: "يدع طعامه وشرابه من أجلي فأنا أجزي به" (¬2). وفي الكتاب العزيز: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والصائمون منهم؛ إذ الصوم: الصبر عن ملاذِّ الشهوات والمألوفات. (والصدقة) أي: نفلها، لأن فرضها مرَّ قريبًا أيضًا (تُطفئ) أي: تمحو، استعار له لفظ الإطفاء؛ لمقابلته بقوله: (كما. . . إلخ) (¬3)، أو أن الخطيئة يترتب عليها العقاب الذي هو أثر الغضب المستعمل فيه الإطفاء، يقال: أطفأ غضبه؛ لما مر أنه فوران دم القلب عن غلبة الحرارة. (الخطيئة) أي: الصغيرة المتعلقة بحق اللَّه تعالى؛ لما علم من القواعد: أن الكبيرة لا يطفئها إلا التوبة، والمتعلقة بحق الآدمي لا يطفئها إلا رضا صاحبها. (كما يطفئ الماء النار) قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وخصت الصدقة بذلك؛ كأنه لتعدي نفعها، ولأن الخلق عيال اللَّه تعالى، وهي إحسانٌ إليهم، والعادة أن الإحسان إلى عيال الشخص يطفئ غضبه. وسبب إطفاء الماء النارَ: أن بينهما غاية التضاد؛ إذ هي حارةٌ يابسةٌ، وهو باردٌ رطبٌ، فقد ضادَّها بكيفيتيه جميعًا، والضد يقمع الضد ويعدمه. وبإطفاء الخطايا يتنور القلب، وتصفو الأعمال، فلذلك كانت الصدقة بابًا عظيمًا لغيرها من الأعمال الفاضلة، ومر أنها برهان؛ أي: حجة على صدق إيمان ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7492)، ومسلم (1151) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 310)، والبيهقي (4/ 304) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (استعار له لفظ الإطفاء) أي: في قوله: (تطفئ) استعارة تصريحية تبعية، شبه المحو بالإطفاء، وأطلقه عليه، ثم اشتق من الإطفاء (تطفئ). وقال الطيبي: قوله: "الصدقة تطفئ الخطيئة" أصله: تذهب الخطيئة، كقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ثم في الدرجة الثانية تمحو الخطيئة؛ كخبر: "وأتبع الحسنة السيئة تمحها" أي: السيئة المثبتة في صحيفة الكرام الكاتبين، وإنما قدرت الصحيفة بقرينة (تمحو) ثم قي الدرجة الثالثة تطفئ الخطيئة لمقام الحكاية عن المباعدة عن النار، فلما وضع الخطيئة موضع النار على الاستعارة المكنية. . أثبت لها على الاشعارة التخييلية ما يلائم النار من الإطفاء؛ ليكون قرينة مانعة لها من إرادة الحقيقة، وأما: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}. . فمن إطلاق اسم المسبب على السبب. اهـ هامش (غ)

صاحبها، وفضائلها كثيرةٌ شهيرةٌ، بينتها في كتابٍ مستقل مع ما يتعلَّق بها ويلائمها من الأحكام وغيرها (¬1). (وصلاة الرجل) (¬2) خص بالذِّكر؛ لأن السائل رجلٌ، أو لأن الخير غالبٌ في الرجال؛ إذ أكثر أهل النار النساء، لا للاحتراز عن المرأة؛ لأنها مثله في ذلك. (من) أي: (في) وبها عبَّر في بعض النسخ، ويحتمل كونها لابتداء الغاية -أي: الجوف مبدأ للصلاة- وللتبعيض؛ أي: صلاته بعض الجوف؛ أي: فيه. (جوف الليل) إذ هي فيه مطلقًا أفضل منها في النهار؛ لأن الخشوع والتفرغ فيه أسهل وأكمل، ومن ثم كانت بابًا عظيمًا من أبواب الخير؛ لأنه يتوصَّل بها إلى صفاء السِّر، ودوام الشهود والذِّكر، ثم هي فيه بعد النوم أفضل منها فيه قبله، ويحصل فضل قيامه بصلاة ركعتين؛ لخبر: "من قام من الليل قدر حَلَبِ شاة. . كتب من قُوَّام الليل" (¬3). واختلفوا في أفضل أجزائه، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة: ما ذهب إليه الإمام الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه من أنه إن جزَّأه نصفين. . فالنصف الثاني أفضل، أو أثلاثًا. . فالثلث الأخير أفضل، أو أسداسًا. . فالسدس الرابع والخامس أفضل، وهذا هو الأكمل على الإطلاق؛ لأنه الذي واظب عليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقال فيه: "أفضل الصلاة صلاة أخي داوود؛ كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه" (¬4). ¬

_ (¬1) وهو كتاب: "فضائل الصدقة وأحكامها وأنواعها". (¬2) قوله: (وصلاة الرجل) قال البيضاوي: هو مبتدأ، خبره محذوف؛ أي: كذلك يطفئ الخطيئة، أو: هي من أبواب الخير، والأول أظهر؛ لاستشهاده صلى اللَّه عليه وسلم بالآية، وهي متضمنةٌ للصلاة والإنفاق. نقله الطيبي، ثم قال: والأظهر: أن يقدر الخبر: (شعار الصالحين) كما في "جامع الأصول"، ويفيد فائدة مطلوبة زائدة على القرينتين؛ وهي أنهما كما أفادتا المباعدة عن النار فتفيد هذه الإدخال في الجنة؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} اهـ "شبرخيتي" (ص 242) (¬3) أخرج الطبراني في "الأوسط" (4128) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لا تدعَنَّ صلاة الليل ولو حلب شاةٍ". (¬4) أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159/ 189) بنحوه عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما.

(ثم تلا) صلى اللَّه عليه وسلم احتجاجًا على فضل صلاة الليل قوله تعالى: ({تَتَجَافَى}) أي: تتنحَّى وترتفع ({جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}) أي: مواضع الاضطجاع للنوم (حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ}) قيل: وهذا كنايةٌ عن الصلاة بين المغرب والعشاء، وقيل: عن انتظار العشاء؛ لأنها كانت تؤخَّر إلى نحو ثلث الليل، وقيل: عن صلاة العشاء والصبح في جماعة. والجمهور: على أنه كنايةٌ عن صلاة النوافل من الليل، وهو الذي دلَّ عليه سياق هذا الحديث، بل والآية؛ حيث قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآيةَ؛ فإنه دالٌّ على أنهم أخفوا عملهم فجُوزُوا بما أُخفي لهم من قرة الأعين، وإنما يتم إخفاؤه بالصلاة في جوف الليل المصرَّح به في هذا الحديث؛ لأن المصلي حينئذٍ ترك نومه ولذته وآثر ما يرجوه من ربه عليهما، فحُقَّ له أن يُجازى بذلك الجزاء العظيم. وفي خبر "الصحيحين": "يقول اللَّه تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} " (¬1). وقد جاء: أن اللَّه تعالى يباهي بقُوَّام الليل في الظلام الملائكةَ يقول: "انظروا إلى عبادي؛ قد قاموا في ظلم الليل حيث لا يراهم أحدٌ غيري، أُشهدكم أَني قد أبحتهم دار كرامتي" (¬2). (ثم قال) صلى اللَّه عليه وسلم: (ألا أخبرك برأس الأمر) أي: العبادة، أو الأمر الذي سألت عنه (وعموده وذروة) بضم أوله وكسره، قيل: والقياس جواز فتحه أيضًا (سَنامه) فيه من التشويق المرة بعد المرة (¬3) نظيرَ ما مر آنفًا (¬4) (الجهاد) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (3244)، وصحيح مسلم (2824) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) ذكره الديلمي في "الفردوس" (4030) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬3) في (غ): (جواز فتحه أيضًا "سنامه، قلت: بلى با رسول اللَّه، قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه" فيه من التشويق. . .) وبها يكون الكلام تامًا. (¬4) أي: فإنه شوقه أولًا بقوله له: "لقد سألت عن عظيم" وثانيًا بقوله: "ألا أدلك على أبواب الخير. . . إلخ" اهـ هامش (ج)

سقط منه شطرٌ ثابتٌ في أصل "الترمذي" لا يتم الكلام بدونه، ومع ذلك لم يتنبه له أكثر الشراح، وكأنه انتقل نظره من "سنامه" إلي "سنامه" إذ لفظ الترمذي بعد "سنامه" المذكور: قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذورة سنامه الجهاد" وقد وقع له ذلك في "الأذكار" أيضًا (¬1)، وكأنه قلَّد فيه الحافظ ابن الصلاح، فإنه لمَّا ذكر الأحاديث التي قيل: إنها أصول الإسلام أو الدين، أو التي عليها مدارهما أو مدار العلم، ذكر من جملتها هذا الحديث بالإسقاط المذكور، لكن عذره أن ابن ماجه ذكره كذلك (¬2)، فلا اعتراض عليه؛ لأنه لم يلتزم رواية شخصٍ بخصوصها، بخلاف المصنف؛ فإنه هنا إنما ساق لفظ الترمذي كما سيذكره (¬3)، ولفظه كما عرفت ليس فيه الإسقاط المذكور، ويقع في بعض نسخ المتن ذكر ذلك الإسقاط، فيحتمل أن المصنف تنبه له بعدُ فالحقه، ويحتمل أنه من فعل بعض تلامذته أو غيرهم (¬4). وفي قوله: "رأس الأمر الإسلام. . . إلخ" استعارة بالكناية يتبعها استعارة ترشيحية؛ لأنه شبَّه الأمر المذكور بفحل الإبل وبالبيت القائم على عمد، وأضمر هذا التشبيه في النفس، ثم ذكر ما يلائم المشبَّه به وهو الرأس والسنام والعمود. ووجه إيثار الإبل بالذكر: أنها خيار أموالهم، ومن ثم كانوا يشبهون بها رؤساءهم، وإنما كان الإسلام المراد به الإيمان هو الرأس؛ لأنه لا حياة لشيءٍ من الأعمال بدونه، كما أن الحيوان لا حياة له بدون رأسه، والصلاة هي العمود؛ لأنه الذي يقيم البيت ويرفعه ويهيئه للانتفاع به، والصلاة هي التي تقيم الدين وترفعه وتهيِّئُ فاعلها لِتَحلِّيه بمعالي القرب، واستغراقِهِ في أنوار الشهود. ¬

_ (¬1) انظر "الأذكار" (1002) إلا أن الساقط من الحديث هنا ثابت فيه، فليتنبه. (¬2) سن ابن ماجه (3973). (¬3) قوله: (بخلاف المصنف؛ فإنه هنا إنما ساق. . . إلخ) أقول: قضية ذكر ابن ماجه له كذلك، وتعليل ابن الصلاح له أن معناه تام في نفسه؛ وحينئذٍ فلا اعتراض على المصنف حيث اقتصر من كلام الترمذي على ذلك إشارة إلى أنه لا يتوقف المعنى على ذكر الزيادة، وأنه يصح الإخبار بالجهاد عن الجميع؛ إذِ المجاهد لا يكون إلا مسلمًا مصليًا. فاجتمع فيه تلك الأمور، فليتأمل. اهـ "مدابغي" (¬4) ويحتمل أن الإسقاط من بعض النُّسَّاخ، أو أنها سقطت من أصل المصنف من "الترمذي" اهـ "مدابغي"

والجهاد هو ذروة السنام؛ لأن ذورة الشيء أعلاه، والجهاد أعلى أنواع الطاعات؛ من حيث إن به يظهر الإسلام، ويعلو على سائر الأديان، وليس ذلك لغيره من العبادات، فهو أعلاها بهذا الاعتبار وإن كان فيها ما هو أفضل منه، وعلى هذا يحمل قول بعض الشراح: الجهاد لا يقاومه شيءٌ من الأعمال، ويؤيد ما ذكرته خبر: (أنه يوزن مداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة، فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء) (¬1)، ومعلوم أن أعلى ما للشهيد دمه، وأدنى ما للعالم مداده، فإذا لم يف دم الشهداء بمداد العلماء. . كان غير الدم من سائر فنون الجهاد كَلَا شيءٍ بالإضافة إلى ما فوق المداد من فنون العلم. واعلم: أنه صح أنه صلى اللَّه عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال تارةً: "الصلاة لأول وقتها" (¬2)، وتارةً: "الجهاد" (¬3)، وتارةً: "بر الوالدين" (¬4) وحمل على اختلاف أحوال السائلين، فأجاب كلًّا بما هو الأفضل بالنسبة لحاله. وأما الأفضل على الإطلاق بعد الشهادتين. . فهو الصلاة عندنا؛ فنفلها أفضل النوافل، وفرضها أفضل الفروض؛ لما صح من قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع" (¬5)، وفي روايةٍ صحيحةٍ أيضًا: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" (¬6) وقيل: أفضلها الجهاد؛ لهذا الحديث، وحديث: أنهم قالوا: يا رسول اللَّه؛ ما يعدل الجهاد؟ فقال: "لا تطيقونه" ثم ذكروا سؤالهم فقال: "لا تطيقونه" ثم قال: "أيستطيع أحدكم أن يدخل بيتًا فيصوم ولا يفطر، ويصلي ولا يفتر؟ " فقالوا: ¬

_ (¬1) ذكره الديلمي في "الفردوس" (8840) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬2) أخرجه أبو داوود (426)، والترمذي (170) عن سيدتنا أم فروة رضي اللَّه عنها. (¬3) أخرجه ابن منده في "الإيمان" (455)، وابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 449)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (63/ 276) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬4) انظر "فتح الباري" (5/ 149). (¬5) أخرجه الطبراني في "الأوسط" (245) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (خير موضوع) أي: خير شيءٍ وضعه الشارع ليتعبد به. انتهى شيخنا، وهو بالإضافة؛ ليظهر به الاستدلال على فضل الصلاة على غيرها، وأما ترك الاضافة وإن صح. . فلا يحصل معه المقصود؛ لأن ذلك موجودٌ في كل قربة. اهـ "فتوحات الوهاب على فتح الوهاب" (1/ 493) (¬6) أخرجه ابن حبان (1037)، وابن ماجه (277) عن سيدنا ثوبان رضي اللَّه عنه.

لا، فقال: "إنما مثل المجاهد كمثل الصائم القائم الذي لايفتر من صلاة ولا صيام" (¬1). ويرد: بأن الحديث الذي نحن فيه لا شاهد فيه للأفضلية المطلقة؛ لِمَا تقرر في معناه، وإلَّا. . لزم أن الجهاد أفضل من الإسلام؛ لأن ذروة السنام أعلى من الرأس، ولا قائل به، وإنما غاية الأمر: أن المفضول قد يشتمل على مزيةٍ، بل مزايا لا توجد في الفاضل. وأما الخبر الثاني. . فهو شاهدٌ لأفضلية الصلاة والصوم على الجهاد؛ لأن المشبَّه به أعلى من المشبه. ووجه رواية ابن ماجه السابقة: أن الجهاد مقرونٌ بالهداية؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} والهداية محصلةٌ لمقصود هذا السائل؛ إذ يلزمها دخول الجنة والمباعدة من النار، فكان الجهاد رأس أمر السائل وعموده وذروة سنامه. والكلام في المفاضلة بين فرضي عينٍ أو كفايةٍ، أو نفلينِ، لا بين فرضٍ ونفلٍ؛ لأن فرض المفضول أفضل من نفل الفاضل، وهذا محمل قول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: (الاشتغال بالعلم أفضل من صلاة النافلة) (¬2). والكلام أيضًا في عملينِ متقاربينِ في المشقة؛ كما يدل عليه قول أئمتنا: المراد: أن جنس الصلاة أفضل من جنس الصوم، أو صرف أكثر الزمن إليها أفضل من صرف أكثره إليه، لا أن صلاة ركعتين أفضلُ من صوم يوم. (ثم قال) صلى اللَّه عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك) بفتح الميم وكسرها (¬3) (ذلك كله) أي: بمقصوده وجماعه، أو بما يقوم به؛ بمعنى: أنه إذا وجد. . كانت تلك الأعمال كلها على غايةٍ من الكمال، ونهايةٍ من صفاء الأحوال؛ لأنها غنيمةٌ، وكفُّ اللسان عن المحارم سلامةٌ، وهي في نظر العقلاء مُقدَّمةٌ على الغنيمة، وفي هذا إشارةٌ إلى أن جهاد النفس بقمعها عن الكلام فيما يُردِيها ويؤذيها أشقُّ عليها من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1878)، والترمذي (1619) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر: "مسند الإمام الشافعي" رحمه اللَّه تعالى (ص 337). (¬3) إلا أن الرواية بكسر الميم فقط؛ كما نقله العلامة المدابغي عن الإمام المناوي رحمهما اللَّه تعالى.

جهاد الكفار، وأن هذا هو الجهاد الأصغر، وذاك هو الجهاد الأكبر؛ إذ منعها هواها من أجلِّ ما اقتناه الإنسان، ومن أعظم آدابها الصمتُ وترك الكلام فيما لا يعني، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "من صمت. . نجا" (¬1). (قلت: بلى يا رسول اللَّه، فأخذ) صلى اللَّه عليه وسلم (بلسانه) أي: أمسك لسان نفسه، وهو يُذكَّر ويؤنَّث، وقد يطلق على نفس الكلام مجازًا؛ كما في قوله تعالى: {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي: بلغتهم. (ثم قال: كُفَّ عليك) أي: عنك، أو ضُمِّن (كف) معنى (احبس) (هذا) أي: عن الشر؛ للخبر السابق: "فليقل خيرًا، أو ليصمت" (¬2) وجمع بين إمساكه وقوله ذلك؛ مع أنه كان يمكنه أن يقول: كف عليك لسانك؛ لأن النفس بالحسيات آلفُ منها بالعقلبات؛ لتأخُّر زمن إدراك هذه عن زمن إدراك تلك، فكان ذكر المعنى العقلي الجلي ثم تعقيبه بالتمثيل الحسي أبلغَ وأوقعَ في النفس؛ لما فيه من زيادة القوة بنقله من الخفاء إلى الظهور على أكمل وجهٍ وأبلغه؛ وهذا هو السبب في قول إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: ليزداد قوةً يقينية بمشاهدة المعقول عيانًا؛ إذ عين اليقين أقوى من مجرد علمه. ومن ثم كان قولك: هذا الماء والنار كيف يجتمعان أبلغ من قولك: الماء والنار كيف يجتمعان؛ لأن الإشارة إليهما أوجبت للعقل زيادة شعورٍ واستحضارٍ لهما لا يوجد عند مجرد ذكرهما من غير إشارة. (قلت: يا نبي اللَّه (¬3)؛ وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟!) استفهامُ استثباتٍ وتعجبٍ واستغرابٍ، ولا ينافي خفاء هذا عليه قوله صلى اللَّه عليه وسلم في حقه: "أَعْلمُكُم بالحلال والحرام معاذ" (¬4) لأنه إنما صار أعلَمَهُمْ بالحلال والحرام بعد هذا ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2501)، والدارمي (2755)، والإمام أحمد (2/ 159) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬2) تقدم تخريجه والكلام عليه (ص 317) وهو الحديث الخامس عشر من أحاديث المتن. (¬3) في النسخ كلها إلا (غ): (يا رسول اللَّه) والمثبت منها، ومن نسخ المتن، ومن "سنن الترمذي". (¬4) أخرجه الترمذي (3791) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

السؤال وأمثاله من أنواع التعلُّم والاستفهام (¬1)، أو المراد بالحلال والحرام: المعاملات الظاهرة بين الناس، وهذا في معاملة العبد مع ربه. (فقال: ثكلتك) أي: فقدتك (أمك) لفقدك إدراك المؤاخذة بذلك مع ظهورها، وهذا مما غلب جريانه على السنتهم في المحاورات؛ للتحريض على الشيء والتهييج إليه من غير إرادة حقيقة معناه من الدعاء على المخاطب بموته، كـ (حَلْقَى عَقْرَى)، (تربت يمينك) (¬2). (وهل) استفهام إنكارٍ بمعنى النفي؛ أي: ما (يَكُب) بضم الكاف من النوادر؛ لتعديه ثلاثيًا كـ (كببت الشيء) وقصوره رباعيًا كـ (أكب) هو. (الناس) أي: أكثرهم؛ أي: يلقيهم (في النار على وجوههم، أو) قال: (على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) أي: ما تكلمت به من الإثم، جمع (حصيدة) بمعنى محصودة، شبَّه ما تكسبه الألسنة من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب والجمع، وشبَّه اللسان في تكلُّمه بذلك بحدِّ المنجل الذي يحصد به الناس الزرع، ففيه استعارةٌ بالكناية من حيث تشبيه ذلك الكلام بالزرع المحصود واللسان بالمنجل، تتبعها استعارة ترشيحية؛ لأن الحصاد يلائم المشبه به دون المشبه. والحصر في ذلك إضافيٌّ؛ إذ من الناس مَنْ يكبه في النار عملُه لا كلامه، لكن ذلك خرج مخرج المبالغة في تعظيم جرائم اللسان: كـ "الحج عرفة" (¬3) أي: معظمه ذلك، كما أن معظم أسباب النار الكلام؛ كالكفر والغيبة والنميمة ونحوها، ولأن الأعمال يقارنها الكلام غالبًا، فله حصةٌ في ترتب الجزاء عليه عقابًا وثوابًا؛ ففي الحديث الصحيح: "من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه. . أضمن له الجنة" (¬4)؛ وفيه: "إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان اللَّه لا يُلْقي لها بالًا يكتب له رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط اللَّه لا يعلم أنها تقع حيث تقع فيكتب ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (من أنواع التعلم والاستفادة)، وفي (و) جمع بينهما. (¬2) قوله: (تربت يمينك) يقال: ترب الرجل إذا افتقر؛ أي: لصق بالتراب، وهذه الجملة جاريةٌ على السنة العرب، ولا يريدون بها الدعاء. اهـ "النهاية في غريب الحديث" (1/ 184) (¬3) تقدم تخريجه (ص 254) في شرح الحديث السابع. (¬4) أخرجه البخاري (6474) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه.

له بها سخطه إلى يوم يلقاه -أو قال-: يهوي بها في النار سبعين خريفًا" (¬1). وفي الحكمة: لسانك أسدك، إن أطلقته. . فرسك، وإن أمسكته. . حرسك. ومن ثم كان أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه وكرم وجهه يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) (¬2). (رواه الترمذي) في "جامعه" (وقال: حديث حسن صحيح) لكن في "الجامع" زيادة على ما ذكره المصنف هنا، ولفظه: عن معاذٍ قال: كنتُ مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم في سفرٍ، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول اللَّه؛ أخبرني بعمل يدخلني الجنة. . . وذكره. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6478) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬2) أخرجه أبو يعلى (5)، والبزار (84)، والبيهقي في "الشعب" (4596).

الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع] عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ جُرْثُومِ بْنِ نَاشِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عَنْهَا" حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاه الدَّارَقُطْنِيُّ وغَيرُهُ (¬1). (عن أبي ثعلبة الخشني) بمعجمةٍ مضمومةٍ، فمفتوحةٍ، فنونٍ، نسبةً إلى خُشينة قبيلة معروفة (جُرثوم) بجيم مضمومة فراء فمثلثة (ابن ناشر) وفي اسمه واسم أبيه أقوالٌ غير ذلك نحو أربعين قولًا (رضي اللَّه) تعالى (عنه) كان ممن بايع تحت الشجرة، وضرب له صلى اللَّه عليه وسلم بسهمه يوم خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا. نزل الشام ومات أولَ إمرة معاوية، وقيل: في إمرة يزيد، وقيل: في إمرة عبد الملك سنة خمس وتسعين (¬2)، روى له الجماعة. (عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: إن اللَّه تعالى فرض فرائض) أي: أوجبها وحتم العمل بها (فلا تضيعوها) بالترك أو التهاون فيها حتى يخرج وقتها، بل قوموا بها كما فرض عليكم. وقد يستنبط منه الدلالة لمذهبنا: أن الفرض والواجب مترادفان؛ لأن النهي عن ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني (4/ 183). (¬2) وكان رضي اللَّه عنه يقول: (إني أرجو الَّا يخنقني اللَّه كما أراكم تخنقون عند الموت) فبينما هو يصلي. . قُبض وهو ساجد. اهـ "الفتوحات الوهبية" (ص 246)

التضييع لا يختص بالفرض عند غيرنا؛ وهو ما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ، بل يعم الواجب عنده أيضًا؛ وهو ما ثبت بدليلٍ ظنيٍّ، فتفريع: "فلا تضيعوها" على ما قبله ظاهرٌ في شموله للقسمين. (وحدَّ حدودًا) جمع حدٍّ؛ وهو لغةً: الحاجز بين الشيئين، وشرعًا: عقوبةٌ مقدرةٌ من الشارع تزجر عن المعصية؛ أي: جعل لكم حواجز وزواجر مقدرةً تحجزكم وتزجركم عما لا يرضاه. وإنما حملنا الحدود هنا على الزواجر المذكورة دون الوقوف عند النواهي والأوامر؛ لأنها حينئذٍ تكون مكررةً مع ما قبلها وما بعدها؛ إذ الفرائض المفروضة حدودٌ محدودةٌ بهذا المعنى؛ لأنها مقدرةٌ محصورةٌ يجب الوقوف عند تقدير الشرع فيها، وكذلك المحرمات؛ وحينئذ فمعنى: (فلا تعتدوها) أي: لا تزيدوا عليها عمَّا أمر به الشرع، وجَلْدُ عمرَ رضي اللَّه تعالى عنه في الخمر ثمانين ليس فيه زيادةٌ محظورةٌ وإن اقتصر صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر فيه على أربعين؛ لأن الناس لمَّا أكثروا من الشرب زمنَه ما لم يكثروه قبله. . استحقوا أن يزيد في جلدهم تنكيلًا وزجرًا، فكانت الزيادة اجتهادًا منه بمعنى صحيح مسوغٍ لها، ومن ثم قال علي كرم اللَّه وجهه: (إن كلًّا من الزيادة وعدمها سنة) (¬1) أي: لأنه صلى اللَّه عليه وسلم أمر بالاقتداء بعمر خصوصًا بقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وعمومًا بقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين. . . " الحديث السابق (¬2). ولا يعارض قول علىٍّ هذا قوله أيضًا: (لا يموت أحدٌ في حدٍّ يقع في نفسي منه شيءٌ إلا شارب الخمر؛ فإنه لو مات. . وديته؛ وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يسنَّه) (¬3) لأن معنى قوله: (لم يسنَّه) أي: بقولٍ أو فعلٍ. ومعنى أنه سنَّه: أن حكم عمر به مجتهدًا فيه مراعيًا فيه المصلحة سنةٌ أيضًا، لحثِّه صلى اللَّه عليه وسلم على الاقتداء بسنة عمر كما تقرر، فكانت بمنزلة ما سنَّهُ صلى اللَّه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1707)، وأبو داوود (4480)، وابن ماجه (2571) بنحوه. (¬2) وهو الحديث الثامن والعشرون، وهو قبل السابق، انظر (ص 469). (¬3) أخرجه البخاري (6778)، ومسلم (1707/ 39).

عليه وسلم على ما مر في شرح قوله: "وسنة الخلفاء الراشدين". ويصح حمل الحدود هنا على الوقوف عند الأوامر والنواهي، ومنه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} الآيةَ، وآياتٍ أخر، ويكون ما قبله وما بعده من باب ذكر العام بعد الخاص وعكسه، وحينئذٍ فمعنى "لا تعتدوها": لا تتجاوزوا ما حدَّ لكم بمخالفة المأمور، وارتكاب المحظور. (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) أي: لا تتناولوها ولا تقربوها (¬1) (وسكت عن أشياء رحمة لكم) أي: لأجلكم (¬2) حالَ كون السكوت عنها (غير نسيان) لأحكامها: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (فلا تبحثوا عنها) لخبر: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرم فحُرِّم لأجل مسألته" (¬3) دل على أن ثم أشياء الأصل فيها الإباحة وقد يعرض لها التحريم بوسائط. وقولُ بعضهم: دلَّ على أن ثم أشياء لم تذكر أحكامها ولا أحكام لها. . فيه نظر، فتأمله. وقد مر الكلام على معنى: "فلا تبحثوا عنها" مستوفًى مبسوطًا في شرح (الحديث التاسع) فانظره (¬4). ثم النهي يحتمل اختصاصه بزمنه صلى اللَّه عليه وسلم؛ لأن كثرة البحث والسؤال حينئذٍ عما لم يذكر قد يكون سببًا لنزول التشديد فيه بإيجابٍ أو تحريمٍ، ويحتمل بقاؤه على عمومه؛ لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات قد يوهم اعتقاد إيجابه أو تحريمه، وصح: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا (¬5)، والمتنطع: البحَّاث عمَّا لا يعنيه، أو: الذي يدقق نظره في الفروق البعيدة، فيفرق بها بين متماثلين بمجرد فرقٍ لا يظهر أثره في الشرع مع وجود الأوصاف المقتضية ¬

_ (¬1) وحكي عن بعض السلف أنه قال: (رأيت المعاصي تزري تركتها مروءة فصارت ديانة) اهـ "الفتوحات الوهبية" (ص 246) (¬2) قوله: (لأجلكم) هو على حذف مضاف تقديره: لأجل رحمتكم. (¬3) تقدم تخريجه (ص 280) في شرح الحديث التاسع. (¬4) انظر ما تقدم (ص 278). (¬5) أخرجه مسلم (2670)، وأبو داوود (4608) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه.

للجمع، أو يجمع بين متفرقين بمجرد وصفٍ طردي غير مناسب مع أنه لم يدل لتأثيره دليلٌ شرعيٌّ. فهذا النظر والبحث غير مرضيٍّ ولا محمودٍ وإن وقع فيه طوائف، ومن ثم قال ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: (إياكم والتنطُّع، إياكم والتعمُّق، وعليكم بالعتيق) (¬1) يعني: ما كان عليه الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم. ومن كلام بعض أئمتنا: لا ينبغي لنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق كدأب أصحاب الرأي، ومتى كان اجتماع الشيئين أظهر في الظن من افتراقهما. . وجب القضاء باجتماعهما وإن انقدح فرق على بُعْدٍ. ومن البحث عما لا يعني: البحث عن أمور الغيب التي أُمرنا بالإيمان بها ولم تتبين كيفيتها؛ لأنه قد يوجب الحيرة والشك، ويرتقي إلى التكذيب، ومن ثم قال إسحاق: (لا يجوز التفكر في الخالق ولا في المخلوق بما لم يسمعوه فيه، كأن يقال في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}: كيف يسبِّح الجماد؛ لأنه تعالى أخبر به، فيجعله كيف شاء كما شاء) اهـ (¬2) وفي "الصحيحين" ما يؤيد حرمة التفكر في الخالق؛ كخبر البخاري: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه. . فليستعذ باللَّه ولْيَنْتَهِ" (¬3). وأخرج مسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا اللَّه خلق الخلق، فمن خلق اللَّه؟ فمن وجد من ذلك شيئًا. . فليقل: آمنت باللَّه" (¬4). ومعنى سكوته تعالى عنها: أنه لم يُنزل حكمها على نبيه، لا أنه سكت عنها حقيقةً؛ لاستحالة ذلك عليه تعالى؛ إذ الكلام من صفاته النفسية القديمة الذاتية التي لا ينفك تعالى عنها. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي (144)، والطبراني في "الكبير" (9/ 170). (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 172). (¬3) صحيح البخاري (3276) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) صحيح مسلم (134) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

ويفهم من سكوته عنها رحمةً لنا مع النهي عن البحث عنها أنه لا حكم قبل ورود الشرع، وهو الأصح، وقيل: الأصل: الحظر، ونسب للشافعي وأكثر المتكلمين، ولعل ذلك قولٌ مرجوحٌ للشافعي، وإلَّا. . فالأصح عند أئمتنا ما مر، وقيل: الإباحة. ومحل الاستدلال على ذلك كتب الأصول والفقه. وعلي أن الأصل في الأشياء بعد ورود الشرع الإباحة (¬1)، وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك، وغلَّطوا من سوَّى بين المسألتين وجعل حكمهما واحدًا (¬2). ومعنى كون السكوت رحمة لنا: أنها لم تُحرَّم فيعاقب على فعلها، ولم تجب فيعاقب على تركها، بل هي عفوٌ لا حرج في فعلها ولا في تركها. (حديث حسن) بل صحَّحه ابن الصلاح، وممَّن حسَّنه أيضًا الحافظ أبو بكر بن السمعاني في "أماليه"، وقول الذهبي: إن راويه مكحولًا لم يدرك أبا ثعلبة تبع فيه إنكار أبي مُسْهِر لسماعه منه، ووافقه أبو زرعة وأبو حاتم فقال: دخل عليه ولم يسمع منه، لكن خالفهم ابن معين فقال: إنه سمع منه، والقاعدة الأصولية: أن الإثبات مقدَّمٌ على النفي تُرجِّح ما قاله ابن معين؛ فلذا اعتمده المصنف وغيره. ويؤيده: أنه معاصرٌ له بالسِّنِّ والبلد، فاحتمال سماعه منه أقرب من عدمه، وكونه مدلِّسًا لا ينافي حسن حديثه ولا صحته؛ كما هو مقررٌ في محله. ويحتمل أن تحسين المصنف له؛ لكونه رُوي من طرقٍ بعضها ضعيفٌ وبعضها منقطعٌ، فإذا انضم بعضها إلى بعضٍ. . قَوِيت فيكون حسنًا لغيره لا لذاته، وأن تصحيح ابن الصلاح أخذه من قول البزارِ في روايته: إسنادها صالح، والحاكمِ فيها: إنها صحيحة الإسناد؛ ولفظها: عن أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه: "ما أحلَّ اللَّه في كتابه. . فهو حلالٌ، وما حرَّم. . فهو حرامٌ، وما سكت عنه. . فهو عفوٌ، فاقبلوا من اللَّه عافيته؛ فإن اللَّه لم يكن ينسى شيئًا، ثم تلا هذه الآيةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ ¬

_ (¬1) قوله: (وعلى أن الأصل) أي: ودل على أن الأصل؛ فهو معطوف على قوله سابقًا قبل ورقة (ص 412): (دل على أن ثم أشياء الأصل فيها. . . إلخ). (¬2) قوله: (بين المسألين) هما: أن الأصل في الأشياء بعد ورود الشرع الإباحة، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع. اهـ "مدابغي" =

نَسِيًّا} " (¬1)، ومن زعم وقفه على أبي ثعلبة. . فقد أبعد، ومن ثم قال الدارقطني: (الأشبه بالصواب: المرفوع، وهو الأشهر) اهـ (¬2) (رواه الدارقطني) نسبة إلى دار القطن، محلَّةٌ ببغداد كما مر في الخطبة (وغيره) أي: كأبي نعيم، ولفظ روايته: عن أبي الدرداء يرفعه: "ما أحلَّ اللَّه في كتابه. . فهو حلال، وما حرم. . فهو حرام، وما سكت عنه. . عافية؛ فاقبلوا من اللَّه عافيته" (¬3). وفي روايةٍ أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "اتركوني ما تركتكم، فإذا حدثتكم. . فخذوا عنِّي، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم" (¬4). وإن اللَّه سبحانه لمَّا أرسل رسوله وأنزل عليه كتابه وأمره بتبليغه إلى الأمة. . قال صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه تبارك وتعالى أمركم بأشياء فامتثلوها، ونهاكم عن أشياء فاجتنبوها، وسكت لكم عن أشياء رحمةً منه فلا تسألوا عنها" وذلك كله على معنى الرفق بالخلق ونفي الحرج عنهم إلا أن ينزل بالعبد نازلةٌ، فحينئذٍ يتعيَّن عليه السؤال عنها. ومن ثم كفَّ الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم عن إكثار الأسئلة عليه صلى اللَّه عليه وسلم، حتى كان يعجبهم أن تأتي الأعراب يسألونه فيجيبهم فيسمعون ويعون، ولأجل ذلك بالغ قومٌ فقالوا: لا يجوز سؤال العلماء في نازلةٍ إلا بعد وقوعها، وتمسَّك الظاهرية بهذا الحديث لمذهبهم الفاسد من الاقتصار على ظواهر النصوص، ورَدِّ القياس بأنواعه الثلاثة، أو إلا الجلي؛ لأن القياس في حكمٍ بحثٌ عنه، وقد نُهينا عن البحث عما سكت عنه. ويرد: بأن سبب النهي ما كان وقع من بعض الصحابة تعنتًا وامتحانًا له صلى اللَّه ¬

_ (¬1) انظر "المستدرك" (2/ 375)، و"الدر المنثور" (5/ 531) فقد عزاه للبزار وغيره. (¬2) انظر "العلل" (6/ 324). (¬3) سنن الدارقطني (2/ 137). (¬4) أخرجه الترمذي (2679) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

عليه وسلم، كما مر في شرح (التاسع) مبسوطًا (¬1)، فاختص النهي ببحثٍ يؤدي إلى محظور، وأما القياس. . فلا محظور فيه بوجهٍ، فكيف يُنهى عنه؟! على أن أدلة جوازه، بل وجوبه قطعيةٌ، فلا تعارض بمثل هذا الظن المحتمل. وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم الموجزة البليغة، بل قال بعضهم: ليس في الأحاديث حديثٌ واحدٌ أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه منه؛ أي: لأنه قسَّم فيه أحكام اللَّه إلى أربعة أقسام: فرائض، ومحارم، وحدود، ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكام الدين كلها. ومن ثم قال ابن السمعاني: (من عمل به. . فقد حاز الثواب، وأمن العقاب؛ لأن من أدَّى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك البحث عما غاب عنه. . فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين؛ لأن الشرائع لا تخرج عن الأنواع المذكورة فيه) (¬2). أي: لتضمنه جميع قواعد الشرع وأحكامه وآدابه؛ إذ الحكم الشرعي إما مسكوتٌ عنه، أو مُتكلَّمٌ به؛ وهو إما مأمورٌ به وجوبًا أو ندبًا، أو منهيٌّ عنه تحريمًا أو كراهةً، أو مباحٌ، فالواجب حقه ألَّا يضيع، والحرام حقه ألَّا يقارب، والحدود -وهي الزواجر الشرعية كحد الردة والزنا والسرقة والشرب- حقُّها أن تقام على أهلها من غير محاباةٍ ولا عدوان، وورد: "حدٌّ يقام في الأرض خيرٌ من مطر أربعين صباحًا" (¬3). وقد تطلق الحدود على المحارم فقط، ومنه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}، وخبر الطبراني والبزار: "إني آخذٌ بحجزكم، اتقوا النار، اتقوا الحدود" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 279 - 280). (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 153). (¬3) أخرجه ابن حبان (4398)، وأبو يعلى (6111) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) المعجم الكبير (11/ 28) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. وقوله: (بحجزكم) جمع حجزة، وحجزة الإزار: معقده، وحجزة السراويل: مجمع شدِّه، ومنها: التكة.

الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته] عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ دُلَّنِي عَلَي عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ, فَقَالَ: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ, وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ" حَدِيثٌ حَسَنٌ, رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ (¬1). (عن أبي العباس) وقيل: أبي يحيى (سهل) وقيل: سعد (بن سعد الساعدي) الأنصاري الخزرجي المدني، كان يوم موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم ابن خمس عشرة سنة (¬2)، ومات سنة ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين بالمدينة، وهو آخر من مات بها من الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم على قول، وقيل: جابر كما مر. وأحصن سبعين امرأةً، وشهد قضاء النبي صلى اللَّه عليه وسلم بين المتلاعنين. وكان اسمه حزنًا فسماه النبي صلى اللَّه عليه وسلم سهلًا (¬3). (رضي اللَّه) تعالى (عنه) ينبغي (عنهما) لأن أباه صحابي، روي له مئة حديثٍ وثمانية وثمانون، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر. (قال جاء رجلٌ إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه؛ دُلَّني على عملٍ إذا عملته. . أحبني اللَّه وأحبني الناس، فقال: ازهد) من الزهد بضم أوله، وقد ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (4102). (¬2) أخرجه الحاكم (3/ 571 - 572). (¬3) أخرجه الحاكم (3/ 571).

يفتح؛ وهو لغةً: الإعراض عن الشيء احتقارًا له، من قولهم: شيءٌ زهيد؛ أي: قليل، وفي خبر: "إنك لزهيد" (¬1)، وفي آخر: "أفضل الناس مؤمنٌ مُزْهَد" (¬2) أي: قليل المال، وزهيد الأكل: قليله. وشرعًا: أخذ قدر الضرورة من الحلال المتيقن الحل, فهو أخص من الورع؛ إذ هو ترك المشتبه، وفيهما أقوال أخر، وهذا هو زهد العارفين، وهو المراد هنا، وأعلى منه زهد المقربين؛ وهو الزهد فيما سوى اللَّه من دنيا وجنة وغيرهما؛ إذ ليس لصاحب هذا الزهد مقصدٌ إلا الوصول إليه تعالى والقرب منه، ويندرج فيه كل مقصودٍ لغيرهم (كل الصيد في جوف الفرا) (¬3). وأما الزهد في الحرام. . فواجبٌ عامٌّ، وفي المشتبه فمندوبٌ عام، وقيل: واجب؛ كما مر ذلك مبسوطًا بأدلته مع بيان الرد على من اعتمد الوجوب. (في الدنيا) باستصغار جملتها، واحتقار جميع شأنها؛ لتصغير اللَّه تعالى لها، وتحقيره إياها، وتحذيره من غرورها في آيٍ كثيرةٍ من كتابه العزيز؛ نحو: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ}. . . إلى {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} لأن استصغارها واحتقارها كذلك يستلزم إهانتها، وترك ما لا قربة فيه من لذَّاتها، والإعراض عن شهواتها ورَاحاتها، والاقتصار على أدنى ما يقيم نفسه، اللهم إلا زائدًا نُدِب أخذه؛ كاتخاذ ثوبٍ ثانٍ لنحو جمعةٍ أو عيدٍ بقصد إظهار النعمة؛ لأنه تعالى يحب إظهار أثر نعمته على عبده كما في الحديث، أو راحة نُدِب فعلها كنوم القيلولة؛ للاستعانة به على قيام الليل. فالزاهد: المستصغر المحتقر للدنيا كما تقرر، فلا يفرح بشيءٍ منها، ولا يحزن على فقده، ولا يأخذ منها إلا ما يُعينه على طاعة ربه، أو ما أُمِر بأخذه، مع دوام الذكر والمراقبة والتفكر في الآخرة، وهذا أرفع أحوال الزهد؛ إذ مَنْ وصل إليه. . ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (6941)، والترمذي (3300) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه. (¬2) ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه في "فيض القدير" (2/ 50). وقوله: (مزهد) بضم الميم وسكون الزاي وفتح الهاء: قليل المال. (¬3) تقدم تخريجه (ص 93).

إنما هو في الدنيا بشخصه فقط، وأما بمعناه. . فهو مع اللَّه تعالى بالمراقبة والمشاهدة لا ينفك عنه. واعلم: أن العلماء فسروا الدنيا بأنها ما حواه الليل والنهار، وأظلته السماء، وأقلته الأرض، واختلفوا في المزهود فيه منها، فقيل: الدينار والدرهم، وقيل: المطعم، والمشرب، والملبس، والمنكح، والمسكن، وقيل: الحياة. والوجه كما علم مما مر: أنه كل لذةٍ وشهوةٍ ملائمةٍ للنفس مما ذكر وغيره، حتى الكلام بين مستمعين له ما لم يقصد به وجه اللَّه تعالى، وفي حديث مرفوع خرجه الترمذي وقال: غريب، وفي إسناده مَنْ هو منكر الحديث، وابن ماجه: "الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا: ألَّا تكون بما في يديك أوثق مما في يد اللَّه، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أُصبتَ بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك" (¬1) ولا يعارض ما مر في تفسير الزهد؛ لأن الترمذي قال: إنه غريبٌ، وفي سنده مَنْ هو منكر الحديث. ولأن أحمد رواه موقوفًا على أبي مسلم الخولاني بزيادة: (وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء) (¬2) وهو الصحيح، وقد اشتمل على تفسير الزهد في الدنيا بثلاثة أمورٍ كلها من أعمال القلب دون الجوارح، ومن ثم كان أبو سليمان يقول: لا تشهد لأحدٍ بالزهد؛ لأنه في القلب. ومنشأ أول تلك الثلاثة (¬3): من صحة اليقين وقوته، فإنه تعالى تكفَّل بأرزاق عباده كما في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه، وفي حديثٍ مرفوع: "من سرَّه أن يكون أغنى الناس. . فليكن بما في يد اللَّه أوثق منه بما في يده" (¬4). وقال الفضيل: (أصل الزهد الرضا عن اللَّه عز وجل) (¬5). ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2340)، وسنن ابن ماجه (4100) عن سيدنا أبي ذر رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (10289)، وانظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 179 - 180). (¬3) وهي: ألَّا يكون بما في يده أوثق مما في يد اللَّه، وأن يكون مادحه وذامه في الحق سواء. . . إلخ. اهـ هامش. (غ) (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (5) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬5) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 399).

والقنوع هو الزهد، وهو الغنى، فمن حقَّق اليقين. . وثق في أموره كلها باللَّه تعالى، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن التعلُّق بالمخلوقين رجاءً وخوفًا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ومن كان كذلك. . كان زاهدًا في الدنيا حقيقةً، وكان من أغنى الناس وإن لم يكن له شيءٌ من الدنيا. ومنشأ ثانيها: من كمال اليقين، ومن ثم روي: أن من دعائه صلى اللَّه عليه وسلم: "اللهم، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا" (¬1). ومن كلام الإمام علي كرم اللَّه وجهه: (من زهد في الدنيا. . هانت عليه المصائب) (¬2). ومنشأ ثالثها: من سقوط منزلة المخلوقين من القلب، وامتلائه من محبة الحق، وإيثار رضاه على رضا غيره، وألَّا يرى لنفسه قدرًا بوجهٍ، ومن ثم كان الزاهد حقيقةً هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها؛ ولهذا قيل: الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، وقيل لبعض السلف: من معه مالٌ هل هو زاهدٌ؟ فقال: نعم إن لم يفرح بزيادته، ولم يحزن بنقصه. وقال سفيان الثوري: (الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء) (¬3)، ومن دعائه: (اللهم، زهِّدنا في الدنيا، ووسِّع علينا منها، ولا تَزْوِها عنا فترغبنا فيها) (¬4). وقال أحمد: هو قصر الأمل، واليأس مما في أيدي الناس؛ أي: لأن قصره يوجب محبة لقاء اللَّه تعالى بالخروج من الدنيا، وهذا نهاية الزهد فيها، والإعراض عنها. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3502) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (348) عن سيدنا علي رضي اللَّه عنه مرفوعًا، فليتنبه. (¬3) أخرجه البيهقي في "الزهد" (466)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 386). (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (60)، إلا أنه قال: عن سفيان الثوري رحمه اللَّه تعالى قال: (كان من دعائهم: اللهم. . .) فليتنبه

وفي حديث مرسل: يا رسول اللَّه، مَنْ أزهدُ الناس؟ فقال: "من لم ينس القبر والبلى، وترك أفضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدَّ غدًا من أيامه، وعدَّ نفسه من الموتى" (¬1). وقد قسَّم كثيرٌ من السلف الزهد إلى ثلاثة أقسام: زهد فرض؛ وهو اتقاء الشرك الأكبر ثم الأصغر، وهو أن يراد بشيءٍ من العمل قولًا أو فعلًا غير اللَّه تعالى، ثم اتقاء جميع المعاصي. وعلى هذا: الزاهد في الحرام فقط قيل: يسمى زاهدًا، وعليه الزهري وابن عيينة وغيرهما، وقيل: لا يسماه إلا إن ضم لذلك الزهد بنوعيه الآخرين، وهما ترك الشبهات رأسًا، وفضول الحلال، ومن ثم قال بعضهم: لا زهد اليوم، لفقد المباح المحض. وقد جمع أبو سليمان الداراني أنواع الزهد كلها في كلمةٍ واحدةٍ فقال: (هو ترك ما شغلك عن اللَّه عز وجل) (¬2). واعلم: أن الذم الوارد في الكتاب والسنة في الدنيا ليس راجعًا لزمانها وهو الليل والنهار؛ فإن اللَّه تعالى جعلهما خِلْفةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، ولا لمكانها وهو الأرض؛ لأن اللَّه تعالى جعلها لنا مهادًا، ولا إلى ما أودعه تعالى فيها من الجمادات والحيوانات؛ لأن ذلك كله من نعمه تعالى على عباده، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وإنما هو راجعٌ إلى الاشتغال بما فيها عما خُلقنا لأجله من عبادته تعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. ثم من بني آدم مَنْ أنكر المعاد، وهؤلاء هم أهل التمتع بالدنيا، على أن منهم من كان يأمر بالزهد فيها، ويرى أن كثرتها توجب الهمَّ والغمَّ، ومن ثم قال أصحابنا: لا يكفي الخطيبَ عن الوصية بالتقوى الاقتصارُ على ذم الدنيا؛ لأن ذمها معلومٌ لكل أحدٍ حتى لمنكري المعاد، وبقيتهم يقرُّون بالمعاد، لكنهم منقسمون إلى ظالمٍ لنفسه، ومقتصدٍ، وسابقٍ بالخيرات: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الشعب" (10081). (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 258).

فالأول -وهم الأكثرون-: هم الذين وقفوا مع زهرة الدنيا بأخذها من غير وجهها، واستعمالها في غير وجهها، فصارت أكبر همهم، وهؤلاء هم أهل اللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكل هؤلاء لم يعرف المقصود منها، ولا أنها منزل سفرٍ يُتَزَوَّد منها إلى دار الإقامة وإن آمن به مجملًا. والثاني: أخذها من وجهها، لكنه توسَّع في مباحاتها، وتلذَّذ بشهواتها المباحة، وهو وإن لم يعاقب عليه لكنه ينقص من درجاته في الآخرة بقدر توسُّعِهِ في الدنيا. وصح عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: (لا يصيب أحدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند اللَّه وإن كان عليه كريمًا) (¬1). وروى الترمذي: "إن اللَّه إذا أحبَّ عبدًا. . حماه الدنيا كما يَظَلُّ أحدكم يحمي سقيمه الماء" (¬2). والحاكم: "إن اللَّه ليحمي عبده الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه" (¬3). ومسلم: "الدنيا سجن المؤمن -أي: بالنسبة لما أمامه من النعيم الأخروي المقيم- وجنة الكافر" (¬4) أي: بالنسبة لما أمامه من العذاب الأليم الدائم المقيم. والثالث: هم الذين فهموا المراد من الدنيا، وأن اللَّه سبحانه وتعالى إنما أسكن عباده فيها، وأظهر لهم لذَّاتها ونضرتها، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا، كما نصَّ على ذلك في غير آية، قال بعض السلف: يعني مَنْ هو أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة. ولمَّا بيَّن تعالى أنه جعل ما على الأرض زينةً لها، ليبلوهم أيهم أحسن عملًا. . بيَّن انقطاع ذلك ونفاده بقوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} فمن فهم أن هذا هو مآلها. . جعل همه التزود منها لدار القرار، واكتفى من الدنيا بما يكتفي به المسافر في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (35771). (¬2) سنن الترمذي (2036) عن سيدنا قتادة بن النعمان رضي اللَّه عنه. (¬3) المستدرك (4/ 208) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬4) صحيح مسلم (2956) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

سفره، كما كان صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكبٍ قال في ظل شجرةٍ ثم راح وتركها" (¬1). ثم من أهل هذا القسم مَنِ اقتصر من الدنيا على سدِّ رمقه فقط، وهو حال كثيرٍ من الزُّهَّاد، ومنهم من فسح لنفسه أحيانًا في تناول بعض مباحاتها، لتقوى النفس به وتنشط للعمل، ومنه خبر أحمد والنسائي: "حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب" (¬2)، وخبر أحمد عن عائشة: (كان صلى اللَّه عليه وسلم يحب من الدنيا النساء والطيب والطعام، فأصاب من النساء والطيب ولم يصب من الطعام) (¬3). وتناولُ الشهوات المباحة بقصد التقوي على الطاعة يصيِّرها طاعات، فلا تكون من الدنيا، ومن ثم صح على ما قاله الحاكم: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "نعمت الدار الدنيا لمن تزوَّد منها لآخرته حتى يرضي ربه، وبئست الدار لمن صدَّت به عن آخرته وقصرت به عن رضا ربه، وإذا قال العبد: قبَّح اللَّه الدنيا. . قالت الدنيا: قبَّح اللَّه أعصانا لربه" (¬4). ثم الحامل على الزهد أشياء: منها: استحضار الآخرة ووقوفه بين يدي مولاه، فحينئذٍ يغلب شيطانَه وهواهُ، ويصرف نفسه عن لذات الدنيا ونعيمها، وشاهده: أن حارثة رضي اللَّه تعالى عنه لمَّا قال للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: أصبحت مؤمنًا حقًا. . قال له: "إن لكل حقٍّ حقيقةً، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي حجرها ومدرها، وكأنِّي انظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني انظر إلى أهل الجنة في الجنة يتنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون، قال: "يا حارثة، عرفت فالزم" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2377)، والإمام أحمد (1/ 441) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. قوله. (وقال): من القيلولة، وهي النوم في الظهيرة. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 128)، وسنن النسائي (7/ 61) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) مسند الإمام أحمد (6/ 72). (¬4) المستدرك (4/ 312) عن سيدنا طارق بن أشيم رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البيهقي في "الشعب" (10106) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه بنحوه.

ومثل هذا هو الذي تكون الدنيا سجنه، كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر". ومن ثم قال أئمتنا: لو أوصى لأعقل الناس. . صُرف للزهاد؛ أي: لأنه لا أعقل منهم، حيث آثروا الباقي على الفاني. ومنها: استحضار أن لذاتها شاغلةٌ للقلوب عن اللَّه تعالى، ومنقصةٌ للدرجات عنده، وموجبةٌ لطول الحبس والوقوف في ذلك الموقف العظيم للحساب، والسؤال عن شكر نعيمها. ومنها: كثرة التعب والذُّل في تحصيلها، وكثرة غبونها، وسرعة تقلُّبها وفنائها، ومزاحمة الأراذل في طلبها، وحقارتها عند اللَّه تعالى، ومن ثم قال الفضيل: (لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت عليَّ حلالًا لا أُحاسب عليها. . لتقَدَّرتها كما تُتَقَذَّر الجيفة) (¬1). ومنها: استحضار أنها وما فيها ملعونةٌ، كما في الحديث الحسن: "الدنيا ملعونةٌ (¬2)، ملعونٌ ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه، وعالمٌ، أو متعلِّم" (¬3)، وفي رواية: "إلا ما ابتُغِيَ به وجه اللَّه تعالى" (¬4) أي: أنها وما فيها مبعدٌ عن اللَّه تعالى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 89)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 414). وكان سيدنا علي رضي اللَّه عنه يقول: (الدنيا جيفة، فمن أراد شيئًا منها. . فليصبر على مخالطة الكلاب) قلت: والمراد بالدنيا: ما زادت على الحاجة الشرعية، بخلاف ما دعت الضرورة إليه. اهـ هامش (غ) (¬2) لأنها غرت النفوس بزهوتها ولذتها، وأمالتها عن العبودية إلى الهوى حتى سلكت غير طريق الهدى، أخرج أبو نعيم في "الحلية" (1/ 84 - 85) عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية رضي اللَّه عنه فقال له: صف لي عليًا، فقال: أَوَتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، فأخذ يصف سيدنا عليًّا رضي اللَّه عنه، ومما قاله: فأشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، ويتململُ تململَ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: (يا ربنا يا ربنا -يتضرع إليه- ثم يقول للدنيا: إليَّ تغررتِ، إليَّ تشوفتِ، هيهات هيهات، غرِّي غيري، قد بتتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آه من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق) فوكفت دموع معاوية رضي اللَّه عنه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: (كذا كان أبو الحسن رحمه اللَّه. . .). (¬3) أخرجه الترمذي (2322)، وابن ماجه (4112) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) عند الطبراني في (مسند الشاميين) (612) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه.

إلا العلم النافع الدال على اللَّه تعالى وعلى معرفته وطلب قربه، وذكر اللَّه وما والاه مما يقرب إليه تعالى، فهذا هو المقصود منها. وقد حلف طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد فيها من هذه العبادات أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم؛ لأنه حظ العبد، ومن ثم قال كثيرٌ من المفسرين في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا}: إن الحسنة (لا إله إلا اللَّه) وليس شيءٌ خيرًا منها، ففيه تقديمٌ وتأخيرٌ؛ أي: فله منها؛ أي: بسببها ولأجلها خير. والصواب: إطلاق ما جاءت به النصوص أن الآخرة خيرٌ من الدنيا مطلقًا؛ لخبر الحاكم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما إذا أدخل أحدكم إصبعه في اليمِّ، فما خرج منه. . فهو الدنيا" (¬1) فهذا نصٌّ بتفضيل الآخرة على الدنيا وما فيها من الأعمال، إذ كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، فالعلم يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله العلم باللَّه تعالى وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عِيانًا، والمعرفة باللَّه تعالى رؤية له ومشاهدة. والعمل البدني القصد به: إما اشتغال الجوارح بالطاعة وكدها بالعبادة، وهذا مرفوعٌ عن أهل الجنة، وإما اتصال القلوب باللَّه تعالى وتنزيهها بذكره، وهذا حاصلٌ لأهل الجنة على أكمل الوجوه، بل لا نسبة لما حصل لقلوبهم في الدنيا من القُرْب والأُنس إلى ما يحصل لها في الجنة من المشاهدة عِيانًا، والتمتع بسماع الكلام، لا سيما في أوقات الصلوات في الدنيا، والمقربون منهم يحصل لهم ذلك مرتين بكرةً وعشيًا: وقت صلاة الصبح والعصر، ولهذا لما ذكر صلى اللَّه عليه وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم. . حضَّ عقبه على المحافظة على صلاة الصبح والعصر، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة القرآن لا ينقطع عنهم أبدًا، فيُلهمون التسبيح كما يُلهمون النَّفَس، ويقال لقارئهم: (اقرأ وارقَ) (¬2) فبان بذلك أن قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} على ظاهره؛ فإن ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في ¬

_ (¬1) المستدرك (4/ 319) عن سيدنا المستورد رضي اللَّه عنه. (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داوود (1464)، والترمذي (2914) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما.

الجنة على ما يختصون به من تفاصيل العلم باللَّه تعالى، وأسمائه، وصفاته، وقربه، ورؤيته، ولذة ذكره، وغير ذلك مما لا يمكن التعبير عنه. ومنها: استحضار أن تركها موجبٌ لرفع الدرجات، وحلول الرضوان الأكبر منه تعالى في دار الكرامات. ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: (يحبك) بفتح آخره؛ لأنه لما كان مجزومًا جوابًا لـ (ازهد) وأُريد إدغامه. . سكنت باؤه الأولى بنقل حركتها إلى الساكن قبلها، فاجتمع ساكنان، فحرّك الأول (¬1) لالتقائهما بالفتح تخفيفًا. (اللَّه) لأنه تعالى يحب من أطاعه، ومحبته مع محبة الدنيا مما لا يجتمع كما دلَّتْ عليه النصوصُ والتجربةُ والتواترُ، ومن ثَمَّ قال صلى اللَّه عليه وسلم: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" (¬2)، واللَّه لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأنها لهوٌ ولعبٌ واللَّه لا يحبهما، ولأن القلب بيت الرب لا شريك له، فلا يحب أن يَشْرَكه في بيته حب دنيا ولا غيره. والحاصل: أنَّا نقطع بأن محبَّ الدنيا مبغوضٌ عند اللَّه تعالى، فالزاهد فيها محبوبٌ له تعالى، ومحبتها الممنوعة: هي إيثارها لنيل الشهوات واللذات؛ لأن ذلك يشغل عن اللَّه تعالى. أما محبتها لفعل الخير والتقرب به إلى اللَّه تعالى. . فهو محمودٌ؛ لخبر: "نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح، يصل به رحمًا، ويصنع به معروفًا" (¬3). وفي أثرٍ: إذا كان يوم القيامة. . جمع اللَّه الذهب والفضة كالجبلين العظيمين، ثم يقول: (هذا مالنا عاد إلينا، سعد به قومٌ، وشقي به آخرون) (¬4). ثم المحبةُ -لاستحالة حقيقتها عليه تعالى من الميل النفسي منه، وهو واضحٌ، أو ¬

_ (¬1) كذا في النسخ إلا (ح) ففيها: (فحرك الآخر)، وفي هامش (خ): (صوابه: الثاني). (¬2) أخرجه البيهقي في "الشعب" (10019) عن الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى مرسلًا، وذكر في "جامع العلوم والحكم" (2/ 203) أنه من كلام سيدنا جندب بن عبد اللَّه الصحابي رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه ابن حبان (3210)، والبخاري في "الأدب المفرد" (299)، والإمام أحمد (4/ 197) بنحوه عن سيدنا عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه. (¬4) في هامش (أ): (بلغ مقابلة على نسخة المؤلف بمكة المشرقة).

إليه؛ لأنها إن فسرت بإرادتنا. . فهي حادثةٌ، والحادث لا يتعلَّق بالقديم، وإن فسرت بما يتعلق بمستلَذٍّ محسوسٍ. . فاللَّه تعالى منزهٌ عن ذلك- المرادُ بها في حقه تعالى (¬1): غايتها من إرادة الثواب، فتكون صفة ذاتٍ، أو الإثابةِ فتكون صفة فعلٍ، وفي حقنا طاعة اللَّه تعالى وتعظيمنا إياه، وموافقته على جميع مراداته، مع رجاء أن يثيبنا على امتثال أمره، واجتناب نهيه، وينعم علينا بنعمه التي لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}. ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "أحبوا اللَّه لما يغذوكم به من نِعَمه" (¬2) فلا منعم غيره، ولا محسن إلا إياه، إذ هو الخالق للمحسن وإحسانه، فكان هو الحقيق بالمحبة؛ كما أشار لذلك صلى اللَّه عليه وسلم بقوله: "جُبلت القلوب على حبِّ مَنْ أحسن إليها" (¬3)، ومن محبته تعالى محبة مَنْ أحبه من نحو نبيٍّ أو ملكٍ أو ولي. وبيَّن الأستاذ أبو القاسم القشيري قسميها المذكورين بكلامٍ نفيسٍ (¬4)، حاصله: (أنها منه تعالى للعبد: إرادته لإنعامٍ مخصوصٍ عليه، كما أن رحمته إرادته مطلق الإنعام، فالمحبة أخص من الرحمة، وهي أخص من الإرادة، فإرادته تعالى وإن كانت صفةً واحدةً إلا أنها تتفاوت بحسب تفاوت متعلقاتها، فعند تعلقها بالعقوبة تسمى غضبًا، وبعموم النعم رحمةً، وبخصوصها محبةً. ومن العبد له تعالى: حالةٌ يجدها في قلبه تلطف عن العبارة (¬5)، وقد تحمله تلك الحالة على تعظيمه، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه، مع الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه، وليست ميلًا ولا اختلاطًا، كيف وحقيقة الصمدية مقدسةٌ عن اللحوق والإحاطة، والمحب بوصف الاستهلاك في المحبوب أَولى منه بوصف الاختلاط؟! وليس لها وصفٌ ولا حدٌّ أوضح ولا أقرب للفهم من لفظ المحبة) اهـ (¬6) ¬

_ (¬1) قوله: (المراد) خبر لقوله: (المحبة. . .). (¬2) أخرجه الحاكم (3/ 149) والترمذي (3789) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه القضاعي في "مسنده" (599) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) أي: محبة اللَّه تعالى لعبده، أو محبة العبد لربه تعالى. (¬5) لأن الوجدانيات إنما تعرف بالوجدان لا بالحدود والتعاريف. (¬6) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 247) وما بعدها.

ولما نقل القرطبي هذا. . ذكر معه عن بعض أرباب القلوب أنه لم يتأول محبة العبد للَّه تعالى، حيث فسَّرها بأنها الميل الدائم بالقلب الهائم، ثم قال: فهؤلاء قد صرحوا بأن محبة العبد للَّه تعالى ميلٌ من العبد وتوقان، وحالٌ يجدها من نفسه من نوع ما يجده من محبوباته المعتادة له، وهو صحيحٌ؛ لأن النفوس مجبولةٌ على الميل إلى الحسن والجمال والكمال، فبقدر ما ينكشف من ذلك يكون الميل والتعلق، حتى ربما يفضي إلى استيلاء ذلك المعنى عليه فلا يصبر عنه، ولا يشتغل بغيره. ثم ذلك الحسن إما محسوسٌ كالصورة الجميلة المشتهاة لنيل لذَّةٍ جسمانيةٍ، وهذا قطعي الاستحالة في حق اللَّه تعالى، وإما معنويٌّ كمن اتصف بالعلم والكرم والخلق الحسن، فهذا تميل إليه النفوس الفاضلة، والقلوب الكاملة ميلًا عظيمًا فترتاح لذكره، وتهتز لسماع أحواله، وتتشوق لمشاهدته، وتلتذُّ لذلك لذةً روحانيةً لا جسمانية، كما نجد عند ذكر الأنبياء والعلماء والكرماء من الميل واللذة والرقة والأنس وإن لم نعرف صورهم المحسوسة، بل وإن عرفنا قبحها، ولا ينكر ذلك إلا أبله أو مكابر. ويتضاعف ذلك الميل بوصول برٍّ وإحسان من المتَّصف بذلك الجمال المعنوي إلى أن يستغرق فيه، ويذهل عن جميع أشغاله وأحواله، وإذا كان هذا في حق من جماله وكماله مشوبٌ بالنقص، ومعرضٌ للزوال. . كان مَنْ لا يشاب ذلك منه بنقصٍ، ولا يعرض لزوال، مع إنعامه الذي لا يحصى. . أولى بذلك الميل، وأحقَّ بذلك الحب، وليس ذلك إلا له تعالى وحده، ثم من خصَّه بالكمال المطلق على سائر خلقه، وهو محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فمن تحقق بذلك. . كان اللَّه ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، فتأهب للقائهما، واتصف بما يرضيهما، وجانب ما يسخطهما، فأقبل عليهما، وأعرض عما سواهما إلا بإذنهما. انتهى ملخصًا، قال غيره: وهذا كلامٌ لا يرده منصفٌ، ولا ينكره إلا متعسف. (وازهد فيما عند الناس يحبك) بفتح آخره نظير ما مر (الناس) أي: لأن قلوب غالبهم مجبولةٌ مطبوعةٌ على حب الدنيا، ومن نازع إنسانًا في محبوبه. . كرهه وقلاه، ومن لم يعارضه فيه. . أحبه واصطفاه، ومن ثم قال إمام الأئمة الشافعي رضي اللَّه

تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلَّبه ومثواه: [من الطويل] ومن يَذُقِ الدنيا فإنِّي طَعِمْتها ... وسِيقَ إلينا عذبُها وعذابُها فما هي إلا جيفةٌ مستحيلةٌ ... عليها كلابٌ همُّهُنَّ اجتذابها فإن تجتنِبْها كنت سِلْمًا لأهلها ... وإن تجتذِبْها نازعتك كلابُها (¬1) قال بعضهم: ولا يبعد عندي أن الزاهد في الدنيا يحبه الإنس والجن، أخذًا بعموم لفظ (الناس) إذ كان يطلق لغةً على الجن والإنس. وأخرج الطبراني وغيره خبر: "ازهد فيما في أيدي الناس تكن غنيًا" (¬2). وقال الحسن: (لا يزال الرجل كريمًا على الناس ما لم يطمع فيما في أيديهم، فحينئذٍ يستخفُّون به، ويكرهون حديثه، ويبغضونه) (¬3). وقال أيوب السختياني: (لا يَنْبُل الرجل حتى يعفَّ عما في أيدي الناس، ويتجاوز عما يكون منهم) (¬4). وكان عمر يقول في خطبته: (إن الطمع فقرٌ، وإن اليأس غنى) (¬5). وسأل ابن سلامٍ كعبًا بحضرة عمر رضي اللَّه تعالى عنهم: ما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه؟ قال: يذهبه الطمع وشره النفس، وتَطَلُّبُ الحاجات إلى الناس، قال: (صدقت) (¬6). وقد تكاثرت الأحاديث بالاستعفاف عن مسألة الناس، إذ مَنْ سألهم ما بأيديهم. . كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوبٌ لنفوسهم، بل لا أحبَّ إليها منه، ومن طلب محبوبك منك. . كرهته، وأما من زهد فيما بأيديهم. . فإنهم يحبونه ويكرمونه ويسودونه، كما قال أعرابيٌّ لأهل البصرة: (من سيدكم؟ قالوا: الحسن، قال: بِمَ ¬

_ (¬1) انظر "ديوان الإمام الشافعي" رحمه اللَّه تعالى (ص 32). (¬2) انظر "المعجم الأوسط" (4424) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 20) بنحوه. (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس" (34). (¬5) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 50). (¬6) ذكره الحافظ في "الإصابة" (3/ 299) وعزاه لابن أبي الدنيا، وأخرجه الدارمي (595، 604) بنحوه، وفيه أن السائل عمر رضي اللَّه عنه.

سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم، فقال: ما أحسن هذا!) (¬1). (حديث حسنٌ، رواه) أبو عبد اللَّه محمد بن يزيد (ابن ماجه) القزويني صاحب "السنن" ولد سنة تسع ومئتين، ومات سنة ثلاث وسبعين ومئتين. واعترض تحسينه رواية ابن ماجه بأن في سندها من قال أحمد فيه: إنه منكر الحديث ليس بثقة، وابن معين: ليس حديثه بشيءٍ، والبخاري وأبو زرعة: منكر الحديث، وأبو حاتم: متروك ضعيف، وابن عدي وغيره: وضَّاع، وابن حبان في "الضعفاء": كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات، لا يحل الاحتجاج بخبره (¬2). ويجاب بأن ابن حبان ذكره في كتاب "الثقات" ولو سُلِّم أنه ضعيفٌ. . فهو لم ينفرد به، بل رواه آخرون غيره، فالتحسين إنما جاء من ذلك وإن قيل: إن هؤلاء كلهم ضعفاء، إذ غاية الأمر أنه حسنٌ لغيره لا لذاته، وكلاهما يحتج به، بل بعض رواته هؤلاء وثَّقه كثيرون من الحفَّاظ. (وغيره) كالعقيلي، وابن عدي، وابن أبي حاتم، والخطيب (بأسانيد حسنة) لغيرها لا لذاتها بالنظر لما قررته (¬3). وهو أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام، وقد مرت (¬4). وفي روايةٍ مرسلةٍ: أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه، دلني على عملٍ يحبني اللَّه عليه ويحبني الناس عليه، فقال: "أما العمل الذي يحبك اللَّه عليه. . فالزهد في الدنيا، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه. . فانظر هذا الحطام فانبذه إليهم" أي: لا تأخذه، كناية عن ترك مالهم جملةً، وخرَّجها ابن أبي الدنيا أيضًا (¬5). وقد تضمن الحديث الحثَّ على التقليل من الدنيا، والآيات المشيرة إلى ذمها ¬

_ (¬1) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 206)، و"فيض القدير" (1/ 481). (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 174 - 175) فقد فصَّل الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى ذلك أتم التفصيل. (¬3) انظر "ضعفاء العقيلي" (2/ 357)، و"الكامل في الضعفاء" (3/ 31). (¬4) تقدم الكلام عنها (ص 302) ولم يُذْكَر هناك أن هذا الحديث منها، فليتنبه. (¬5) أخرجه ابن منده في "مسند إبراهيم بن أدهم رحمه اللَّه" (17)، وابن أبي الدنيا في "مداراة الناس" (33).

وطلب التقليل منها كثيرةٌ جدًا، ومن ثم ورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (¬1). وروي مرفوعًا وموقوفًا، متصلًا ومرسلًا: "حب الدنيا رأس كل خطيئة" (¬2)، وفي "المسند"، و"صحيح ابن حبان": أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "من أحبَّ دنياه. . أضرَّ بآخرته، ومن أحب آخرته. . أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى (¬3). وقد ذمَّ اللَّه تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة بقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)}، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي: المال {لَشَدِيدٌ}، وذمُّ محبتها مستلزمٌ لمدح بغضها. ونقل غير واحدٍ من الشراح عن "الأربعين الودعانية" -زاد بعض محققيهم قوله: "الموضوعة"- خبر: "ارغب فيما عند اللَّه يحبك اللَّه، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس، إن الزاهد في الدنيا يريح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، والراغب في الدنيا يتعب قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة، ليجيئنَّ أقوالم يوم القيامة لهم حسنات كأمثال الجبال، فيؤمر بهم إلى النار" قيل: يا رسول اللَّه، أَوَ يصلون؟ قال: "كانوا يصلون، ويصومون، ويأخذون وهَنًا من الليل، لكنهم كانوا إذا لاح لهم شيءٌ من الدنيا. . وثبوا عليه". ونقل بعضهم خبر: "أيها الناس، اتقوا اللَّه حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وأيقنوا من الدنيا بالفناء، ومن الآخرة بالبقاء، واعملوا لما بعد الموت، فكأنكم بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل، أَلَا وإن من في الدنيا ضيفٌ، وكل ما فيها عاريةٌ، وإن الضيف مرتحل، والعارية مردودة، والدنيا عرضٌ حاضرٌ، يأكل منها البَرُّ والفاجر، والدنيا مبغَّضةٌ لأولياء اللَّه تعالى، محبَّبةٌ لأهلها، فمن شاركهم في محبوبهم. . أبغضوه". ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه (ص 612) وهو الحديث الأربعون من أحاديث المتن. (¬2) تقدم تخريجه (ص 508). (¬3) مسند الإمام أحمد (4/ 412)، وصحيح ابن حبان (709) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه.

وخبر أحمد والترمذي وابن ماجه: "من كانت الآخرة همه. . جمع اللَّه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتَتْه الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه. . شتت اللَّه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" (¬1). وروى الترمذي: "لو كانت الدنيا تعدِلُ عند اللَّه جناح بعوضةٍ. . ما سقى كافرًا منها شربة ماء" (¬2). واعلم: أن من أهل الزهد في الدنيا مَنْ يحصل له بعض فضولها، فيمسكها ليتقرب بها إلى اللَّه تعالى، ومن ثم قال أبو سليمان: (كان عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تعالى عنهما خزانتين من خزائن اللَّه تعالى في أرضه، ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما للَّه بقلوبهما وعلومهما) (¬3). ومنهم مَنْ لا يمسكها اختيارًا أو مع مجاهدة للنفس (¬4). وفضل ابن السماك والجنيد الأول، لتحقق يقينه بمقام السخاء والزهد، وابنُ عطاء الثاني؛ لأن له عملًا ومجاهدةً. ومنهم مَنْ لا يحصل له شيءٌ من الفضول، وهو زاهدٌ في تحصيله مع القدرة أو بدونها، والأول أفضل، ولهذا قال كثيرٌ من السلف: (إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس) (¬5). واختلف العلماء أيما أفضل، طلبها لفعل الخير، أو تركها؟ فرجَّحت طائفةٌ الأولَ، وطائفةٌ الثاني (¬6). * * * ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 183)، وسنن ابن ماجه (4105) عن سيدنا زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه، وسنن الترمذي (2465) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬2) سنن الترمذي (2320) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 262). (¬4) في كثير من النسخ: (ومنهم من لا يمسكه). (¬5) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 272). (¬6) انظر تفصيل ذلك في "جامع الحلوم والحكم" (2/ 196).

الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار] عنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بنِ مَالِك بنِ سِنَانٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ" حَدِيْثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَالدَّارَقطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي "المُوَطَّأِ" مُرْسَلًا عَنْ عَمْرو بنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيْهِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيْدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّيْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ (¬1). (عن أبي سعيد سعد) وقيل: سنان (بن مالك بن سنان) الأنصاري الخزرجي (الخدري) بالدال المهملة (رضي اللَّه) تعالى (عنه) ينبغي (عنهما) لأن أباه كان صحابيًا أيضًا من شهداء أُحدٍ (¬2)، وكان أبو سعيد هذا من نجباء الأنصار وفضلائهم، ومن حفَّاظ الصحابة وعلمائهم، حفظ عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم سُننًا كثيرة. روي له ألفٌ ومئةٌ وسبعون حديثًا، اتفقا منها على ستةٍ وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين، روى عنه جماعةٌ من الصحابة والتابعين. توفي بالمدينة سنة أربع وسبعين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع وتسعين. (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: لا ضرر ولا ضرار) بكسر أوله، من (ضره وضاره) بمعنًى (¬3)، وهو خلاف النفع، كذا قاله الجوهري، فالجمع بينهما ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (2340) و (2341)، وسنن الدارقطني (3/ 77)، والموطأ (2/ 745). (¬2) في النسخ كلها إلا (أ): (ممن شهد أحدًا) وأثبت العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى ما أثبتنا، وأشار إلى بعض النسخ بأن فيها: (ممن شهد أحدًا) ثم قال: (والأُولى أَولى، لنصها على موته بها، بخلاف الثانية؛ فإنها لا تفيده، تأمل). (¬3) قوله: (بمعنى) خبر مبتدأ محذوف، تقديره: (وهما بمعنى) أي: الضرر والضرار معناهما واحد، فقوله: =

للتأكيد، والمشهور: أن بينهما فرقًا، ثم قيل: الأول: إلحاق مفسدةٍ بالغير مطلقًا، والثاني: إلحاق مفسدةٍ بالغير على وجه المقابلة؛ أي: كلٌّ منهما يقصد ضرر صاحبه من غير جهة الاعتداء بالمثل والانتصار بالحق. وقال ابن حبيب: الضرر عند أهل العربية الاسم، والضرار الفعل، فمعنى الأول: لا تُدخل على أخيك ضررًا لم يدخله على نفسه، ومعنى الثاني: لا يضار أحدٌ بأحدٍ، وهذا قريبٌ مما قبله. وقيل: المعنى: أن الضرر نفسه مُنْتَفٍ في الشرع، وإدخاله بغير حقٍّ كذلك. وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يُدْخِل على غيره ضررًا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجَّح هذا طائفةٌ منهم ابن عبد البر وابن الصلاح (¬1). وقيل: الأول: ما لك فيه منفعةٌ وعلى جارك فيه مضرةٌ، والثاني: ما لا منفعة فيه لك وعلى جارك فيه مضرة، وهو مجرد تحكُّم بلا دليلٍ وإن قال غير واحد: إن هذا وجهٌ حسن المعنى في الحديث. وفي رواية: "ولا إضرار" من (أضرَّ به إضرارًا) إذا ألحق به ضررًا، قال ابن الصلاح: وهي على ألسنة كثيرٍ من الفقهاء والمحدثين، ولا صحة لها، ولذا أنكرها آخرون، وانتصر لها بعضهم بأنها جاءت في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني وفي بعض نسخ "الموطأ" قال: وقد أثبتها بعضهم وقال: يقال: ضرَّ وأضرَّ بمعنًى (¬2). وخبر (لا) محذوف؛ أي: في ديننا، أو شريعتنا. وظاهر الحديث: تحريم سائر أنواع الضرر إلا لدليل؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم إلا في نحو: لا رجلٌ في الدار، بالرفع؛ لأنك تقول: بل رجلان، ولا تقول ذلك مع الفتح، وإلَّا في سلب الحكم عن العموم، نحو: ما كل عددٍ زوجٌ، أي: ليست الكلية صادقة، فهو سلب النفي عن العموم ردًا على من قال: كل عددٍ زوجٌ، ¬

_ = (بمعنًى) راجع للمتن بدليل قوله: (فالجمع بينهما للتأكيد) اهـ هامش (ج) (¬1) انظر "التمهيد" (20/ 158). (¬2) انظر تفصيل الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 207 - 211).

لا حكم بالسلب على العموم، وإلَّا. . لم يكن زوج، وهو باطل. وفيه حذفٌ ثانٍ أيضًا، إذ أصله: لا لحوق أو إلحاق، أو لا فعل ضررٍ أو ضرار بأحدٍ في ديننا؛ أي لا لحوق له شرعًا إلا لموجبٍ خاصٍّ بمخصصٍ (¬1). وقيدنا النفي بالشرع؛ لأنه بحكم القدر الإلهي لا ينتفي (¬2)، واستثناء ما ذكر؛ لأن الحدود والعقوبات ضررٌ وهو مشروعٌ إجماعًا، وإنما انتفى الضرر فيما عدا ما استثني، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقوله صلى اللَّه عليه وسلم في الحديث الصحيح: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة" (¬3) ونحو ذلك من النصوص المُصرِّحة بوضع الدين على تحصيل النفع والمصلحة، فلو لم يكن الضرر والإضرار منفيًا شرعًا. . لزم وقوع الخلف في الأخبار الشرعية المذكورة، وهو محالٌ. وأيضًا فقد صحح: "حرَّم اللَّه من المؤمن دمَه ومالَه وعرضَه، وألَّا يظن به إلا خيرًا" (¬4)، وقد صحح أيضًا: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم" (¬5) أي: بعضكم على بعض. وكل ما جاء في تحريم الظلم من الآيات والأحاديث دليلٌ على تحريم الضرر؛ لأنه نوعٌ من الظلم، فعلم أن معنى الحديث: ما مر من نفي سائر أنواع الضرر والمفاسد شرعًا إلا ما خصَّه الدليل، وأن المصالح تُراعى إثباتًا، والمفاسد تُراعى نفيًا؛ لأن الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع. . لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة؛ لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما. وهذا مبنيٌّ على قاعدة أصوليةٍ، وهي: أن أفعال اللَّه تعالى هل تعلل؟ فقيل: ¬

_ (¬1) أي: سبب خاص كالزنا والسرقة وشرب الخمر بالنسبة للحدود؛ فإنها أسباب خرجت من عموم: (لا ضرر ولا ضرار) اهـ هامش (غ) (¬2) أي إن قوله: (لا ضرر) معناه: أي لا وجود ضرر شرعًا، فلا ينافي وقوع الضرر بالفعل؛ لأنه بحكم القَدَر الإلهي، فلا يلزم الخلف في خبر الصادق المصدوق، تأمل. اهـ "مدابغي" (¬3) تقدم تخريجه (ص 96). (¬4) أخرجه ابن ماجه (3932) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما بنحوه. وقوله: (وألا يظن) لعل معناه: وأوجب ألا يظن به إلا خيرًا، أو أن (لا) زائدة، كما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ}. (¬5) أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) عن سيدنا أبي بكرة رضي اللَّه عنه.

نعم؛ لأن فعلًا لا علة له عبثٌ، واللَّه تعالى منزهٌ عنه، ولأن القرآن مملوءٌ من تعليل أنعاله تعالى، نحو: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}. وقيل: لا؛ لأن كل مَنْ فعل فعلًا لعلةٍ كان مستكملًا بها ما لم يكن له قبلها، فيكون ناقصًا بذاته، كاملًا بغيره، والنقص على اللَّه تعالى محالٌ، ورُدَّ بمنع الكلية، وأن ذلك لا يلزم إلا في حق المخلوقين. والتحقيق: أن أفعاله تعالى معللةٌ بحكم غايتها، تعود لنفع المكلفين وكمالهم، لا لنفع اللَّه تعالى وكماله، لاستغنائه بذاته عما سواه، فتلك العِلل حكم موضحةٌ لأفعاله، لا أغراض باعثة عليها؛ لأنه تعالى منزهٌ عن أن يبعثه شيءٌ على شيءٍ. وعلم أيضًا: أنه لو ورد دليلٌ خاصٌّ بضررٍ خاصٍّ. . خصص به هذا العموم على القاعدة الأصولية من تقديم الخاص على العام، ولا نظر حينئذٍ إلى رعاية المصالح؛ لأن الشارع أدرى بذلك من غيره في العبادات والعادات والمعاملات. ولبعض الشُّرَّاح هنا تفصيلٌ في ذلك بكلامٍ طويلٍ مُمِلٍّ خارجٍ عن المقصود؛ فلذا أعرضتُ عنه وإن كان فيه أنظار شتى ينبغي التفطُّن لها. ثم رعاية المصالح إنما هي تفضُّلٌ منه تعالى على خلقه من غير وجوبٍ عليه، خلافًا للمعتزلة؛ لأنه متصرفٌ فيهم بالملك، فلم يجب لهم عليه شيءٌ، واحتجاجهم -أعني: المعتزلة- بأنه تعالى كلَّفهم فوجب رعاية مصالحهم؛ وإلَّا. . كان من التكليف بما لا يطاق. . مبنيٌّ على مذهبهم الباطل أيضًا من اعتبار تحسين العقل وتقبيحه. ووقع ترددٌ في أن الشرع حيث راعى مصالح الخلق هل راعى مطلقها في جميع محالها، أو أوسطها في ذلك، أو مطلقها في بعضٍ، وأكملها في بعضٍ، وأوسطها في بعضٍ، نظرًا في كل محلٍّ لما يصلحهم وينتظم به حالهم؟ قيل: والأقسام كلها ممكنةٌ، وأشبهها الأخير. ودليل رعايتها الكتابُ؛ نحو: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وذلك كثير، بل ما من آيةٍ إلا وهي مشتملةٌ على مصلحةٍ أو مصالح.

تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره"]

والسنةُ؛ نحو: "لا يبع حاضرٌ لبادٍ" (¬1)، و"لا تُنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك. . قطعتم أرحامكم" (¬2). والإجماعُ -إلا ممن لا يعتد به من الظاهرية- على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد، وأشدهم في ذلك مالكٌ رضي اللَّه تعالى عنه وعنهم حيث قال بالمصالح المرسلة، وفي الحقيقة لم يختص بها، بل الجميع قائلون بها غير أنه قال بها أكثر منهم. وجاء في القرآن والسنة النهي عن المضارة في صورٍ خاصةٍ: منها: الوصية، ومن ثم أخرج الترمذي وغيره: "إن العبد ليعمل بطاعة اللَّه ستين سنة، ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فيدخل النار" ثم تلا قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلى قوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} (¬3) أي: فالمضارة فيها باطلةٌ وإن لم يقصدها. ومنها: الرجعة، قال تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا}، ومن ثم ذهب مالك إلى أن من راجع ثم طلَّق قبل الوطء. . استؤنفتِ العدة إلا إذا قصد مضارتها بتطويل العدة فتبني، وقال الأكثرون: تبني مطلقًا. ومنها: الإيلاء، وأحكامه مبسوطةٌ في الفروع. ومنها: الرضاع، قال تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} ومسائل الضرر في الأحكام كثيرةٌ جدًا. تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره"] اختلفوا في قوله صلى اللَّه عليه وسلم في الخبر الصحيح: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خَشَبَهُ في جداره" (¬4) فأباح جماعةٌ منهم الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه في القديم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2150)، ومسلم (52/ 1413) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج نحوه البخاري (5110)، ومسلم (1408)، والترمذي (1126) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن الترمذي (2117) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه البخاري (2463)، ومسلم (1609) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وفي بعض النسخ: (خشبة) وهي رواية الإمام مسلم رحمه اللَّه تعالى.

للجار أن يضع جذوعه على جدار جاره كرهًا عليه، لهذا الحديث، وقال الشافعي في الجديد: ليس له ذلك، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار"، مع حديث: "لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفس" (¬1)، وحديث: "وأموالكم عليكم حرام" (¬2). فإن قلت: هذا يشكل على ما قدمته من تخصيص عموم: "لا ضرر" بما مر، فلِمَ لم يخص بخبر: "لا يمنع أحدكم جاره" لأنه خاصٌّ. قلت: كان القياس ذلك لو سَلِم مما اشتمل عليه من احتمال أن الضمير في "جداره" راجعٌ للجار؛ أي: لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خَشَبَهُ في جدار نفسه، ومع هذا الاحتمال لا يقوى على التخصيص (¬3)، فأخذنا بعموم: "لا ضرر"، و"لا يحل مال امرئٍ مسلم" وغيرهما؛ لأنها أقوى منه. وخبر: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل وضع خَشَبه في جدار جاره" (¬4). . ضعيفٌ، ففيه جابر الجُعفي فقد ذمَّه ابن عيينة، وحكى من سوء مذهبه ما يسقط روايته، وتبعه على ذلك أصحابه ابن معين، وعلي بن المديني وغيرهما، ولم يعتدوا بثناء الثوري وشعبة عليه. نعم؛ اختلفت أنظار المجتهدين في تصرُّف الإنسان في ملكه بما يضر بجاره، كفتح كوة، وتعلية بناءٍ مشرفٍ وغيرهما، فأباحه الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه إن أضر بالمالك، ومنعه إن أضر بالملك، والفرق: أن الأول يحتمل عادةً ويمكن الاحتراز عنه بجعل ساترٍ لعياله يمنعهم من النظر، بخلاف الثاني. ومنعهما غير الشافعي أخذًا بعموم حديث: "لا ضرر"، ويؤيد ما ذهب إليه الشافعي القاعدة الأصولية: أنه يستنبط من النص معنًى يخصصه، ويؤيده أيضًا: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 100)، والدارقطني في "سننه" (3/ 26) عن سيدنا أبي حرة الرقاشي عن عمه. (¬2) أخرجه البخاري (1741) عن سيدنا أبي بكرة رضي اللَّه عنه. (¬3) لأن الدليل إذا تطرَّق إليه الاحتمال. . كساه ثوب الإجمال، وسقط به الاستدلال، وحينئذٍ لا يختص به عموم: "لا ضرر ولا ضرار" اهـ هامش (غ) (¬4) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 158) عن سيدنا ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما، وبعد أن تكلم على السند قال: (ولهذا قلت: إن هذا الحديث لا يستند من وجه صحيح، واللَّه أعلم).

اتفاقهم على جواز صورٍ من الضرر (¬1)؛ كوضع آلات البناء بالشارع زمن العمارة، وكنفض أوعية ترابٍ أو جصٍّ عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى عنه مع قِلَّته. وظاهرُ حديث: "لا ضرر ولا ضرار" امتناعُ الضرر ولو لمن أضرك، لكن يخص من ذلك الصائل ونحوه ممن يجوز دفعه ولو بقتله، ومن ثم كان حديث: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" (¬2) محمولًا عند أهل العلم على أن معناه: لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك، إذ من عاقب بمثل ما عُوقب به وأخذ حقه. . ليس بخائن، وإنما الخائن مَنْ أخذ ما ليس له أو أكثر مما له. ومن ثم أجاز الشافعي، رضي اللَّه تعالى عنه لدائنٍ ظفر بمالِ مدينه أن يأخذ منه قدر حقه بشرطه وإن أدَّى إلى كسر بابٍ أو نقب جدارٍ، ولا نظر إلى ما فيه من الضرر؛ لأن المدين بنحو جحده مُهْدِرٌ لحقه، ويؤيده: (إذنه صلى اللَّه عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان رضي اللَّه تعالى، عنهما لمَّا شكت إليه صلى اللَّه عليه وسلم أنه ممسكٌ، وأنه لا ينفقها وولدها ما يكفيهما مع يساره. . بأن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف" (¬3). والحاصل: أنه ليس لأحدٍ أن يَضر بغيره وإن أضر به قبل إلا إن كان على وجه الانتصار منه بمثل ما اىتدى به عليه على الوجه الشرعي، فإنه حينئذٍ ليس اعتداءً ولا ظلمًا ولا ضررًا. (حديث حسن رواه ابن ماجه) من حديث ابن عباس، وعبادة بن الصامت رضي اللَّه تعالى عنهم (¬4)، وفي إسناديهما ضعفٌ وانقطاعٌ. (والدارقطني) من طريق ضعيفة عن ابن عباس، وأخرى كذلك عن عائشة، وأخرى كذلك عن أبي هريرة، لكن مع شكٍّ فيهما (¬5). ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (على جواز ضرب من الضرر). (¬2) أخرجه أبو داوود (3535)، والترمذي (1264) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه البخاري (5364)، وابن ماجه (2293) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬4) سنن ابن ماجه (2340) و (2341). (¬5) سنن الدارقطني (4/ 227) و (4/ 228)، وعنده طريق أخرى عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه (3/ 77).

(وغيرهما) كالحاكم في "المستدرك" وقال: صحيحٌ على شرط مسلم (¬1)، والبيهقي من حديث أبي سعيد (¬2)، والطبراني مرسلًا، وابن عبد البر من طريق كثير بن عبد اللَّه، وكثيرٌ هذا يُصَحِّح حديثَه الترمذيُّ، ويقول البخاري في بعض أحاديثه: هو أصح حديثٍ في الباب، وحسَّن حديثه الحِزامي وقال: هو خير من مراسيل ابن المسيب، وكذلك حسَّنه ابن أبي عاصم. (مسندًا) وهو: المتصل الذي لم يحذف من إسناده أحد. (ورواه) الإمام الأعظم أبو عبد اللَّه (مالك) بن أنس الأصبحي، وقد أفردت ترجمته بالتأليف، ولد سنة ثلاث وتسعين، ومات في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة. (في "الموطأ" مرسلًا عن عمرو بن يحيى عن أبيه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فأسقط أبا سعيد) الخدري، قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله، ولا يسند من وجهٍ صحيحٍ؛ أي: عنه، لا مطلقًا، لما مر عن الحاكم، ولما يأتي. فعلم أن المرسل: ما حُذف من إسناده الصحابي، وهذا عند المحدثين، وأما عند الأصوليين. . فهو ما حذف منه أيُّ راوٍ كان. (وله طرق) ضعيفة، لكنه (يَقوَى بعضُها ببعضٍ) (¬3) كما صرح به ابن الصلاح حيث قال: (أسنده الدارقطني من وجوه متصلًا وقال: حديثٌ حسنٌ، وقال مرة: أسنده من وجوهٍ ومجموعها يقويه ويحسنه، وقد نقله جماهير أهل العلم واحتجوا به؛ فقد قال أبو داوود: الفقه يدور على خمسة أحاديث، وعدَّ هذا منها، فهو عنده غير ضعيف) انتهى ملخصًا (¬4). وممن استدل به أحمد وقال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "لا ضرر ¬

_ (¬1) المستدرك (2/ 57). (¬2) السنن الكبرى (6/ 69). (¬3) في نسخ عديدة: (يقوِّي بعضُها بعضًا) وهي في بعض نسخ المتن. (¬4) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 210).

ولا ضرار" (¬1)، وقال البيهقي في بعض أحاديث كثيرٍ السابقِ: (إذا انضمت إلى غيرها من التي فيها ضعفٌ. . قويت) (¬2). وبذلك عُلم أنه حسنٌ لغيره؛ لأن ما في بعض طرقه من اللين يُجبرَ بغيره ويقوَى، فهو مرجحٌ وعاضدٌ؛ إذ الحديث اللين أو الضعيف من جهة الضبط قد يقْوَى بالشواهد المنفصلة حتى يبلغ درجة ما يجب العمل به، كالمجهول إذا وجد مزكيًا. . صار عدلًا تقبل شهادته وروايته. ثم ذلك الشاهد قد يكون قرآنًا، كأن يضعف الحديث فيوافقه ظاهر آية أو عموم فيقوى بها، ويتعاضدان على صيرورتهما دليلًا، وقد يكون سنةً عن راوي ذلك الحديث أو غيره، ومن الأمثال: ضعيفان يغلبان قويًا، فكذلك الأسانيد اللينة؛ إذا اجتمعت. . حصل منها إسنادٌ قويٌّ (¬3)، كما قال الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه في قُلَّتينِ نجستين: إذا انضمت إحداهما إلى الأخرى. . صارتا طاهرتين، ولذلك نظائر. وأما تضعيف ابن حزم له وقوله فيه: (إنه واهٍ). . فمردودٌ عليه؛ لما علمت من مخالفته لاصطلاح أئمة الحديث، واحتجاج العلماء به. وجاء في بعض طرقه المسندة من طريق عمرو بن يحيى بعد: "لا ضرر ولا ضرار": "من ضارَّ. . ضارَّ اللَّه به، ومن شاقَّ. . شاقَّ اللَّه عليه"، وفي رواية "من ضارَّ. . ضرَّه اللَّه، ومن شاقَّ. . شقَّ اللَّه عليه" (¬4)، وفي رواية: أنه صلى اللَّه عليه وسلم (لعن من ضارَّ مسلمًا أو ماكره)، وفي أخرى عن أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه وكرم وجهه: "ملعونٌ من ضارَّ مؤمنًا أو مكر به" (¬5) قال ابن عبد البر: (وسندها وإن ضعف لكنه يخاف عقوبة ما جاء فيه، فإنه موافقٌ للقواعد) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 313) عن سيدنا ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما. (¬2) انظر "السنن الكبرى" (6/ 65). (¬3) قال بعضهم: (من الخفيف) لا تخاصم بواحدٍ أهل بيتٍ ... فضعيفان يغلبان قويا (¬4) عند البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 69)، والدارقطني في "سننه" (3/ 77). (¬5) عند البزار في "مسنده" (43)، وأبي يعلى في "مسنده" (96) بنحوه مرفوعًا. (¬6) انظر "التمهيد" (20/ 162) ففيه الكلام، وتخريج الحديث بسنده.

وبعد أن تقرر هذا الحديث والكلام عليه فلنتكلم على ما أخذه أئمتنا منه، وهو القاعدة المشهورة: أن الضرر يزال، وينبني عليها كثيرٌ من أبواب الفقه، كالرد بالعيب، وجميع أنواع الخيار من إخلاف الوصف المشروط، والتغرير (¬1)، وإفلاس المشتري، وغير ذلك، والحجر بأنواعه، والشفعة؛ لأنها شُرِعت لدفع ضرر القسمة، والقصاص، والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، ونصب الأئمة والقضاة، ودفع الصائل، وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار والقسمة. ومما يندرج في سلكها قول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: إذا ضاق الأمر. . اتسع، وقد أجاب بها فيما إذا فقدت المرأة وليها في السفر فولَّت أمرها رجلًا يزوجها، وفي أنه هل يجوز الوضوء من أواني الخزف المعمولة بالسرجين؟ وفيما إذا جلس الذباب على غائطٍ ثم وقع على الثوب. ولهم عكسها وهو: إذا اتسع الأمر. . ضاق؛ ككثير العمل في الصلاة؛ فإنه لما لم يُحْتَجْ إليه. . لم يسامح به، بخلاف قليله، فإنه لما اضطر إليه. . سومح به. ويتعلق بقاعدة: أن الضرر يزال قواعدُ: - الأولى: الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصها عنها، ومن ثم جاز أكل الميتة للمضطر، وإساغة اللقمة بالخمر، وغصب خيطٍ لخياطة جرحِ محترم، والتلفظ بكلمة الكفر، وإتلاف المال للإكراه، ودفع الصائل وإن أدَّى إلى قتله، ولو عمَّ الحرام قطرًا بحيث لم يوجد فيه حلالٌ إلا نادرًا. . جاز استعمال ما يحتاج له وإن زاد على قدر الضرورة، ولا يرتقي إلى التبسط وأكل الملاذ، قال ابن عبد السلام: (ومحله: حيث توقع معرفة صاحب المال، وإلَّا. . كان فيئًا للمصالح؛ لأن من جملة أموال بيت المال ما جُهِل مالكُه) (¬2). ¬

_ (¬1) أي: الذي لا يمكن الوقوف عليه، بخلاف ما إذا أمكن كلطخ ثياب الرقيق بمدادٍ تخييلًا لكتابته فإنه لا يثبت الخيار؛ لإمكان الوقوف على معرفة كتابته بالامتحان. اهـ هامش (ج) (¬2) انظر "القواعد الكبرى" (1/ 116 - 117).

فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

وخرج بـ (نقصها عنها) مَيْتَةُ النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فإنه لا يحل للمضطر أكلها؛ لأن حرمته أعظم في نظر الشرع من مهجة المضطر، والزنا والقتلُ (¬1)، فإنهما لا يباحان بالإكراه؛ لأن مفسدتهما تقابل حفظ مهجة المكره أو تزيد عليها. - الثانية: ما أُبيح للضرورة يقدر بقدرها، كالمضطرِ لا يأكل من الميتة إلا بقدر سد الرمق، ومن أمكنه الصد عن نحو خاطبٍ بالتعريض بعيبه لا يجوز له التصريح به (¬2)، وأخذ نبات الحرم: يباح أخذه للعلف لا لبيعه ممن يعلف به. ويجب على امرأةٍ فصدت ألَّا تكشف من ذراعها إلا ما لا بدَّ منه مما يتوقف الفصد عليه. ويباح تعدُّد الجمعة لعسر الاجتماع بمحلٍّ واحدٍ، فإذا اندفع بجمعتين. . لم تجز ثالثةٌ كما صرَّح به الإمام، وجزم به السبكي والإسنوي. ويباح اقتناء الكلب للصيد، لكن لا يجوز اقتناء زيادة على القدر الذي يصاد به. وخرج عن هذا الأصل نحو العرايا، فإنها أبيحت للفقراء، ثم جازت للأغنياء، والخلع رخص فيه مع الزوجة، ثم جاز مع الأجنبي. فائدة [في بيان مراتب الضرورات] المراتب خمسة: ضرورةٌ: وهي بلوغه حدًا إن لم يتناول الممنوع. . حصل له ضررٌ يبيح التيمم، وهي تبيح تناول الحرام، وحاجة: وهي ما فيه مجرد جهدٍ ومشقةٍ، ولا تبيح الحرام، ومنفعةٌ: كشهوة خبز البُرِّ، وزينةٌ: كشهوة الحلوى، وفضولٌ: وهو التوسع بأكل الحرام والشُّبه. - الثالثة: الضرر لا يزال بالضرر، قال ابن السبكي: وهي مقيدةٌ لقاعدة: الضرر يزال؛ أي: يزال ولكن لا بضرر، وإلا. . لما صدق: الضرر يزال. ¬

_ (¬1) معطوفان على قوله: (مَيْتة النبي. . .). (¬2) أي: بصد المخطوب عن الخاطب، بأن يقول له: لا تعطه ابنتك مثلًا، ومثل ذلك يقال فيما لو صد الخاطب عن المخطوب؛ بأن قال له: لا تأخذ منه ولا تقاربه. اهـ هامش (ج)

ومن فروعها: عدم لزوم الشريك بالعمارة على الجديد، وعدم إجبار الجار على وضع الجذوع، وعدم إجبار السيد على إنكاح قِنِّه، ولا يأكل مضطرٌّ طعام مضطرٍّ آخر. ولو مال حائط لشارعٍ أو ملك غيره. . لم يلزمه إصلاحه، ولو سقطت جرةٌ ولم تندفع عنه إلا بكسرها. . ضمنها (¬1)، ولو وقع دينارٌ بمحبرةٍ ولم يخرج إلا بكسرها. . كسرت وعلى صاحبه الأرش ما لم يقع بفعل صاحبها. ولو أدخلت بهيمةٌ رأسها في قِدْرٍ ولم تخرج إلا بكسرها. . فيكسر لغير المأكولة، وعلى صاحب البهيمة إن كان معها الأرشُ؛ لتفريطه ما لم يكن بتفريط صاحب القِدر، وفي ذبح المأكولة وجهان. ولو سقط على جريحٍ إن استمر قتله، وإن انتقل قتل غيره. . فقيل: يستمر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، وقيل: يتخير، وقال الإمام: لا حكم (¬2). ولو تعذَّر الوطء إلا بالإفضاء. . امتنع. ويستثنى من ذلك ما لو كان أحدهما أعظم ضررًا، ولهذا شرعت الحدود، ودفع الصائل، والفسخ بالعيب، والإجبار على قضاء الدَّين، وأخذ المضطر طعامَ غير المضطر، وقتاله عليه، وقطع شجرة غيرٍ تدلت في هواء داره (¬3)، وشق بطن ميتٍ بلع مالًا، أو كان ببطنها ولدٌ ترجى حياته، ورمي كفار تترَّسوا بأسرى مسلمين، والانتقال من نارٍ مهلكةٍ إلى ماءٍ مغرقٍ رآه أهون من الصبر على لفحاتها. - الرابعة: إذا تعارض مفسدتان. . رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفِّهما. ¬

_ (¬1) نعم، إن كانت موضوعةً بمحل أو حال تضمن به كأن وضعت بروشن أو على معتدل لكنها مائلة. . هدرت. اهـ "شرح منهج" (4/ 239) اهـ هامش (ج) (¬2) لأن الإذن له في الاستمرار والانتقال أو أحدهما يؤدي إلى القتل المحرم، والمنع منهما لا قدرة على امتثالهما، قال: (ومع استمرار عصيانه) ببقاء ما تسبب فيه من الضرر بسقوطه إن كان باختياره، وإلا. . فلا عصيان. "جوامع" (1/ 169) اهـ هامش (غ) (¬3) في بعص النسخ: (وقطع شجرة غيره حصلت في هواء داره).

- الخامسة: وهي نظيرة التي قبلها: درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح، ومر الكلام عليها مبسوطًا في شرح (التاسع) (¬1). - السادسة: الحاجة العامة أو الخاصة تنزل منزلة الضرورة، فمن الأُولى: جواز نحو الإجارةِ مع أن المنافع معدومة، والجعالةِ مع ما فيها من الجهالة، والحوالةِ مع ما فيها من بيع الدين بالدين، وضمانِ الدرك مع عدم دين يضمن. والثاني: كالتضبيب بضبة فضةٍ كبيرةٍ لحاجةٍ كإصلاحِ محلِّ كسرٍ، وشدٍّ وتوثقٍ، ولا يعتبر العجز عن غير الفضة؛ لأنه يبيح أصل النقدين، وكالأكل من الغنيمة بدار الحرب؛ يجوز للحاجة وإن كان معه طعام لنفسه. * * * ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 274).

الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام] عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ. . لادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَومٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ هَكَذَا، وَبَعْضُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" (¬1). (عن ابن عباس رضي اللَّه) تعالى (عنهما: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: لو) حرف امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يقتضي امتناع الجواب لامتناع الشرط؛ كما عليه جمهور النحاة (¬2)، أو لما كان سيقع لوقوع غيره، كما دلَّ عليه كلام إمامهم سيبويه، وعليه فلا إشكال؛ لأن دعوى رجال أموال قومٍ كان سيقع لو وقع إعطاء الناس بدعاويهم، وكذا لا إشكال على الأول أيضًا وإن وقع دعوى بعض الناس مالَ بعض، سواء أُعطوا بدعاويهم أم لا؛ لأن المراد بدعوى الرجال أموالَ قوم: إعطاؤهم إياها ودفعها إليهم (¬3)؛ أي: لو يُعطى الناس بدعواهم. . لأخذ رجالٌ أموال قومٍ وسفكوا دماءهم، فوضع الدعوى موضعَ الأخذ؛ لأنها سببه (¬4)، ولا شك أن أخذ مال المدعى عليه ممتنعٌ، لامتناع إعطاء المدعي بمجرد دعواه، وكذلك أخذه كان سيقع لو ¬

_ (¬1) سنن البيهقي الكبرى (10/ 252)، وانظر "البخاري" (4552)، و"مسلم" (1711). (¬2) وجه الإشكال: أن (لو) حرف امتناعٍ لامتناعٍ؛ أي: يمتنع جوابها لامتناع شرطها، مع أن الجواب -الذي هو الدعوى- ليس بممتنع هنا، وحينئذٍ حصل إشكال في هذه القاعدة، فأجاب الشارح عنه بأنه لا إشكال؛ لأن المراد بالدعوى الأخذ، ولا شك أن الأخذ ممتنعٌ، فصدقت قاعدة (لو) من أنها حرف امتناع لامتناع، فتأمل. اهـ هامش (خ) (¬3) قوله: (إعطاؤهم إياها ودفعها إليهم) كان الأَولى أن يقول: (أخذهم إياها) بدليل ما بعده. اهـ "مدابغي" (¬4) أي: ويكون من إقامة السبب مقام المسبب. اهـ هامش (ج)

وقع إعطاء المدعي بدعواه، ولا يقع بدون ذلك، فصح معنى (لو) هنا على القولين. (يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال) (¬1) هم ذكور بني آدم، أو البالغون منهم، فإن قُوبل بهم النساءُ. . أُريد الأول، أو الصبيانُ. . أُريد الثاني، ولا يختص ذلك بهم على كلٍّ من هذين، وإنما ذكروا؛ لأن ذلك من شأنهم فحسب، ويؤيد ذلك رواية: "لادَّعى ناس" (¬2). (أموال قوم) قيل: يخص الرجال، لقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} فذِكْرهُنَّ دليلٌ ظاهرٌ على أن القوم لم يشملهنَّ، وبه صرح زهير في قوله: [من الوافر] وما أدري ولستُ إخال أدري ... أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ وقيل: يعم الفريقين، إذ هما المراد في نحو: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} "ليس بأرض قومي" (¬3)، ورُدَّ: بأن دخولهنَّ هنا ليس لغة، بل لقرينة نحو التكليف في الآية. وحكمة التعبير بـ (رجال) ثم (قوم) بناء على أنه يعمهما: أن الغالب في المدَّعي أن يكون رجلًا، والمدَّعى عليه يكون رجلًا وامرأةً، فراعى في التغاير بينهما الغالبَ فيهما، وعلى ترادفهما فالمغايرة للتفنُّن في العبارة. (ودماءهم) قُدمت الأموال عليها ذكرًا في هذه الرواية مع أنها -أعني الدماء- أهمُّ وأعظم خطرًا، ولذا ورد: أنها أول ما يُقضى بين الناس فيه (¬4)؛ لأن الخصومات في الأموال أكثر، إذ أخذها أيسر، وامتداد الأيدي إليها أسهل، ومن ثَمَّ ترى العصاة بالتعدي فيها أضعافَ العصاة بالقتل. (لكن) هي هنا وإن لم تأت لفظًا على قانونها من وقوعها بين نفيٍ وإثباتٍ حتى ¬

_ (¬1) قوله: (يعطى الناس) المفعول الثاني محذوف؛ أي: الأموال والدماءَ. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجها مسلم (1711) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) أي: الضب، والحديث عند البخاري (5391)، ومسلم (1946) عن سيدنا خالد بن الوليد رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (6533)، ومسلم (1678) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.

يصح معنى الاستدراك الذي هو مؤدَّاها. . جاريةٌ عليه تقديرًا، إذ المعنى: لا يعطى الناس بدعواهم المجردة، لكن بالبينة، وهي على المدعي. (البينه على المدعي) وهو مَنْ يذكر أمرًا خفيًا يخالف الظاهر، والمدَّعَى عليه عكسه، فصُدِّق بيمينه؛ لقوة جانبه. نعم؛ لو أسلم زوجان قبل الدخول فقال: أسلمنا معًا. . فالنكاح باقٍ، وقالت: بل مرتبًا. . كان هو المدعي، لندرة المقارنة (¬1)، ويُصدَّق بيمينه أيضًا نحو الوديع في دعوى الرد على من ائتمنه، ولا يُكلَّف بينة، لقوة جانبه، وقد يكون كلٌّ من المتنازعين مدعيًا ومدعًى عليه كما في التحالف. وشرطهما: التكليف، والالتزام (¬2)، وشرط سماع الدعوى: أن تكون ملزمة، فإذا ادَّعى مِلْك عينٍ بنحو بيعٍ، أو هبةٍ، أو استحقاق دين. . لم تسمع حتى يقول الرشيد: وأنه يلزمه التسليم إليَّ، والسفيه: وأنه يلزمه التسليم إلى وليي، أو أنه ممتنعٌ من الأداء اللازم له. نعم؛ إن أراد المدعي قطع النزاع فقط. . لم يجب ذكر لزوم التسليم، ويكفيه: هذا لي وهو يمنعنيه عدوانًا وإن لم يقل: وهو في يده، فإن قاله وزاد: يلزمه تسليمه إليَّ. . سأله القاضي عن سببه. ولو حَلَّ بعض دينٍ مؤجل فادَّعاه وثبت. . ثبت المؤجل تبعًا، ولو قصد بدعواه تصحيح عقدٍ كسَلَمٍ ولو مؤجلًا. . سُمعت. وشرط سماعها أيضًا: أن يكون المدعى به معلومًا بنحو ذكر جنسه ونوعه وقدره، وكذا صفته إن اختلف بها غرضٌ صحيحٌ، ولذلك كله تفصيلٌ محله كتب الفروع. ¬

_ (¬1) والمعتمد عند الرملي: أنها في هذه الصورة مدعية وهو مدعًى عليه، فيصدق بيمينه ويدوم النكاح؛ لأن القاعدة: أن المدعي من لو سكت. . لخُلِّي، والمدعى عليه من لو سكت. . لم يخلَّ وهو مدعًى عليه؛ لأنه لو سكت. . لم يخل، بل يُؤخذ منه نصف المهر. اهـ هامش (ج) (¬2) وقد جمع بعضهم شروط الدعوى بقوله: (من البسيط) لكلِّ دعوى شروطٌ ستةٌ جمعت ... تفصيلها مَعَ إلزامٍ وتعيينِ ألَّا يناقضها دعوى تُغايرها ... تكليف كلٍّ، ونفي الحرب للدِّينِ

(واليمين على من) عبَّر بها هنا دون الأول مع أنه كان يمكن أن يؤتى باسم الفاعل فيهما أو بـ (من) فيهما، لما تقرر أن المدعي: هو من يذكر أمرًا خفيًا، والمدعى عليه: هو من يذكر أمرًا ظاهرًا، ولا شك أن الموصول لاشتراط كون صلته معهودة أظهر من المعرف، فأعطي الخفي للخفي، والظاهر للظاهر، وهذا عند التأمل أَوجَهُ مما ذكره بعض الشُّرَّاح، فاعلمه. وزَعْمُ أن ذلك سؤالٌ دوري غيرُ صحيح. (أنكر) لأن الأصل براءة ذمته عما طُلب منه وهو متمسكٌ به، لكن لما أمكن أن يكون قد شغلها بما طلب منه. . دفع ذلك الاحتمال عن نفسه باليمين. ثم الحالف: هو كل من توجهت عليه دعوى لو أقر بمضمونها. . لزمته اليمين ما لم تجر إلى فساد (¬1)، وحينئذٍ فيدَّعي على وصيٍّ وقيمٍ لإقامة بينة (¬2)، لا لتحليفهما إذا أنكرا ما على الميت، لعدم صحة إقرارهما عليه. ولا تحليف في دعوى عقوبة للَّه تعالى، ولا في محض حقه تعالى، كلزمتك كفارة قتل، ولا يُحلَّف قاضٍ وإن عزل (¬3)، ولا شاهدٌ فيما حَكَم أو شهد به (¬4)؛ لأن ذلك يجر إلى فساد، ولا مَنِ ادعى بلوغًا ممكنًا بإمناءٍ أو حيضٍ، ولا منكر بلوغ ممكن إلا مسبيًا نبت شعر عانته وادعى أنه بالمعالجة فيحلف حتمًا، لوجود دليل بلوغه، فإن نكل. . فكأسيرٍ كامل، فيتخير الإمام فيه بين القتل وغيره. ولا يحلف مَنْ أقام بينةً على حاضرٍ إلا إن قال له: اعتمدْتُ ببينتِك الظاهرَ، وأنت ¬

_ (¬1) قوله: (لو أقر بمضمونها. . لزمته اليمين) هكذا في كثير من النسخ، وفيه حذف، والتقدير: لو أقر بمضمونها. . لزمه؛ أي: ذلك المضمون الذي أقر به، فلو أنكر. . لزمته اليمين. . . إلخ، ويوجد هكذا في بعض النسخ. اهـ "مدابغي" (¬2) وذلك كأن يقول: أدعي على هذا الوصي أن لي على مَن أقامه -أعني وهو الميت- كذا، فيقال للمدعي حينئذ: أقم البينة على ما تدعيه، ولا يصح أن يحلف الوصي عن الميت أنه ليس للمدعي عليه ما يدعيه، لعدم صحة إقرار الوصي على الميت، ومثل ذلك يقال في القيم، فتأمل. اهـ هامش (ج) (¬3) في بعض النسخ: (كلزمتك كفارة، قيل: ولا يحلف قاضٍ. . .). وفي هامش (ك): (وكذا الإمام ذكره في "بيان ابن مظفر" رحمه اللَّه). (¬4) قوله: (فيما حكم) راجعٌ للقاضي، وقوله: (أو شهد) راجع للشاهد، وقوله: (به) متعلق بكلٍّ من الفعلين. اهـ "مدابغي"

تعلم أن ما ادعيتَهُ ملكي، فيُحلِّفه أنه لا يعلمه، أو ادعى علمه بجرح بينته، فيحلفه أنه لا يعلمه حال الأداء ولا قبله بدون سنة، ولو قال المدعي: لي بينة لكن لا أقيمها وأريد تحليفه. . أجيب إليه. ويشترط أن يكون اليمين بطلب الخصم، فإن لم يطلب ولم يترك الخصومة. . لم يُحلِّفْه القاضي، فإن عاد وطلبها، فإن كان أُبرئ منها. . احتاج إلى استئناف دعوى، وإلَّا. . فلا ولو بعد امتناعه من تحليف المنكر. وأن يكون بتحليف القاضي، فإن حلَّفه خصمه أو نحو أميرٍ. . لغا. وأن تتوالى كلماتها عرفًا، وأن تطابق الإنكار، فإن ادعى عليه نحو إتلافٍ أو إقراضٍ فأجاب بنفيه أو بـ (لا يلزمني شيء). . حلف كجوابه، وكذا لو أجاب بنفي نحو غصب أو شراءٍ ادُّعِيَ عليه، ولا يحلف هنا على نفي اللزوم أو الاستحقاق. وعلم مما مر: أن قوله: "اليمين على من أنكر" عامٌّ مخصوصٌ، لاستثناء صورٍ منه ثبتت بالنص يكون فيها الحلف على المدعي (¬1)؛ كما في القسامة، واليمين مع الشاهد، ويمين أمين ادعى نحو تلفٍ أو ردٍّ على مَن ائتمنه. ويجب الحلف على البتِّ في يمين الرد، وفيما إذا حلف لنفي فعله أو إثباته، أو لإثبات فعل غيره، وفعل قِنِّه وبهيمته حيث ضمن متلفها كفعل نفسه على المعتمد. وإن حلف لنفي فعل غيره. . فعلى نفي علمه، فإن حلَّفه القاضي بتًّا. . أساء وأجزأه؛ لأنه آكد، ويجوز بَتُّ اليمين بظنٍّ مؤكَّدٍ كخطه وخط مورثه الثقة، وإخبار عدلين. ومن حلَّفه القاضي أو نائبه باللَّه تعالى. . اعتبرت نية القاضي واعتقاده، فلا تنفعه التورية ولا التأويل، ولا تدفع عنه إثم اليمين الغموس، وكذا لو وصلها باستثناءٍ أو شرط. ولا يجوز لشافعيٍّ ادُّعِيَ عليه عند حنفيٍّ بشفعة الجوار أن يحلف على نفيها اعتبارًا باعتقاده؛ لما تقرر أن العبرة باعتقاد القاضي، ومن ثَمَّ نفذ حكمه بها عليه ظاهرًا وباطنًا. ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (يحلف فيها المدعي).

ومن حلَّفه القاضي بغير اللَّه تعالى، أو حلف بنفسه، أو حلَّفه خصمه، أو نحو أميرٍ. . اعتبرت نية الحالف، فتنفعه التورية والاستثناء إن نواه قبل تمام يمينه. وليس لقاضٍ تحليفٌ بطلاقٍ أو عتقٍ، فإن فعل. . عزله الإمام. وإذا حلف المنكر أو نكل المدعي عن اليمين المردودة. . انقطع النزاع، فللمدعي بعد ذلك إقامة البينة (¬1)، ويحكم له بها وإن كان قد قال: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، أو كلُّ بينةٍ لي كاذبةٌ. وبقي للكلام على صفة اليمين والنكول وما يتعلَّق بهما تفصيلٌ طويلٌ محله كتب الفروع. واستفيد من الحديث: أنه لا يُقبَل قول الإنسان فيما يدعيه بمحض دعواه وإن غلب على الظن صدقه، بل يحتاج إلى بينة أو تصديق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه. . فله ذلك، وقد بيَّن صلى اللَّه عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه بأنه لو أُعطي بمجردها. . لادَّعى قومٌ دماءَ قوم وأموالهم واستبيحت؛ إذ لا يمكن المدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي. . فيمكنه صيانتهما بالبينة. فعلم أن حكمة كون البينة على المدعي واليمين على من أنكر: هي ضعف جانب المدعي؛ لدعواه خلافَ الأصل، وجانب المنكر قوي؛ لموافقته أصل براءة الذمة، والبينة حجةٌ قويةٌ، لبعدها عن التهمة، واليمين حجةٌ ضعيفةٌ، لقربها منها (¬2)، فجعلت الحجة القوية في الجانب الضعيف، والحجة الضعيفة في الجانب القوي، ليتعادلا. واستفيد منه أيضًا: الدلالة الظاهرة لمذهبنا ومذهب الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن اليمين تتوجه على كل من ادُّعِيَ عليه حقٌّ سواءٌ أكان بينه وبين المدَّعِي اختلاطٌ أم لا (¬3). ¬

_ (¬1) في النسخ كلها إلا (غ): (وإلا فللمدعي. . . إلخ) والمثبت منها، وهو الصواب الذي رجحه ونبَّه عليه العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى. (¬2) قوله: (لقربها) أي: اليمين (منها) أي: من التهمة. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (سواء أكان بينه) أي: المدعى عليه المذكور في قوله: (على كل من ادعي عليه حق) وقوله: (بين =

وقالت طائفةٌ منهم مالك كفقهاء المدينة السبعة رضي اللَّه تعالى عنهم (¬1): لا تتوجه إلا إن وجد بينهما اختلاطٌ؛ لئلا تَبْتَذِلَ السفهاءُ الأكابرَ بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد. ورُدَّ: بأنه لا أصل لاشتراطها في كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماعٍ، وفيه تحاملٌ؛ لأن رعاية المصالح ودرء المفاسد لهما أصلٌ أصيلٌ في ذلك، وإنما وجه الرد: أن ما فيه من المفسدة لا يقابل ما فيه من مصلحة الاحتياط لحق المدعي الممكن الثبوت، فقدمت هذه المصلحة على تلك المفسدة. وأنه لا عبرة بقول المريض في الدماء خلافًا لمالك؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم قد سوَّى بين الدماء والأموال في أن المدعي لا يُسمَع قوله فيها، وإذا لم يُسمَع قول المدعي في مرضه: لي عند فلان درهم. . كان أحرى وأولى ألَّا يسمع قوله: دمي عند فلان، لحرمة الدماء. وأُجيب بأن مالكًا لم يجعل قوله ذلك دليلًا لقَوَدٍ ولا ديةٍ، بل قرينة لَوْث مرجحة لجانب المدعي حتى تكون اليمين في جهته؛ لأن المريض قادمٌ على اللَّه تعالى فيبعد في حقه كلَّ البعد الكذبُ وإن كان من أشر الفُسَّاق. ويردُّ بأنه متهمٌ، سيما إن كان له عدو، وتلك القرينة لم يعوِّلوا عليها في إقرار المريض لوارثه؛ فإنه باطلٌ عندهم مع وجود ذلك المعنى فيه، فإذا أبطلوه ثَمَّ مع كون الشبهة أضعف فيه. . فليكن باطلًا هنا بالأَولى. قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: (في مذهب مالك وأصحابه تصرفاتٌ بالتخصيصات لهذا العموم المذكور في الحديث، منها: اشتراط الخلطة، وأن من ¬

_ = المدعِي) بكسر العين (اختلاط. . . إلخ) هكذا في صحاح النسخ. وفي بعض النسخ: (سواء كان بينه وبين المدعى عليه) وهي غير صحيحة، فتأمل. اهـ "مدابغي" (¬1) وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين، وقد جمعهم الشاعر بقوله: (من الطويل) ألا إن من لا يقتدي بأئمةٍ ... فقسمته ضيزى عن الحقِّ خارجةْ فخذهم عبيد اللَّه عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجةْ

ادعى شيئًا من أسباب القصاص. . لم يجب به يمين إلا أن يقيم عليه شاهدًا (¬1)، وأن من ادعى على امرأةٍ نكاحًا. . لم يلزمها يمينٌ له. وقال سحنون منهم: إلا أن يكونا طارئين، وأن بعض الأُمَناء ممن القول قوله لا يمين عليه، وأن من ادعت على زوجها طلاقًا لا يلزمه لها يمينٌ، وكل من خالفهم في شيءٍ من هذا يستدل بعموم هذا الحديث) اهـ (¬2) وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، لكن قال غيره: اختلف الفقهاء؛ هل يستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه، أو لا يستحلف إلا فيما يقضى فيه بالنكول كرواية عن أحمد، أو لا يستحلف إلا فيما يصح بذله كما هو المشهور عن أحمد، أو لا يستحلف إلا في كل دعوى لا يُحتاج فيها إلى شاهدين كما حكي عن مالك؟. وأما حقوق اللَّه تعالى. . فقال جمعٌ: لا يستحلف فيها بحالٍ، وقال آخرون منهم الشافعي: إذا اتهم. . استحلف. وأجمعوا على استحلاف المدعى عليه في الأموال، واختلفوا في غيرها، فذهب الإمام الشافعي كما علم مما مر وأحمد وغيرهما إلى وجوبها على كل مدعًى عليه في حدٍّ أو طلاقٍ أو نكاحٍ أو عتقٍ، أخذًا بظاهر عموم الحديث، فإن نكل. . حلف المدعي وتثبت دعواه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يحلف على النكاح والطلاق والعتق فإن نكل. . لزمه ذلك كله، وقال آخرون: لا يستحلف في الحدود والسرقة. وذهب أبو حنيفة وطوائف من الفقهاء والمحدثين إلى أن اليمين على المدعى عليه أبدًا حتى في القسامة، ورأوا أن لا حكم بشاهدٍ ويمينٍ، وأن اليمين لا ترد على المدعي. ¬

_ (¬1) أي: على المدعى عليه، والحاصل: أنا نوافقهم فيما إذا أقام المدعي شاهدًا واحدًا، فيحلف حينئذٍ المدعى عليه، ونخالفهم فيما إذا لم يكن له شاهد. . فعندنا يحلف المدعى عليه أيضًا، وعندهم لا يحلف، وأما إذا أقام شاهدين. . ثبت الحق ولا حلف أيضًا. اهـ هامش (ج) (¬2) انظر "إحكام الأحكام" (ص 921 - 922).

فائدة [فصل الخطاب]

وحجتنا: أن كلًّا من هذه الثلاثة ثبت في كون اليمين فيها على المدعي حديثٌ صحيح (¬1) خُصَّ به عمومُ حديث: "واليمين على المدعى عليه"، والرواية في قصة خيبر المعارضة لذلك في القسامة ردها الحفاظ (¬2). فائدة [فصل الخطاب] قال بعض العلماء: إن فصل الخطاب في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} هو: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. (حديث حسن) أو صحيح، كما عبَّر به في مواضع أخر، وكلام أحمد وأبي عبيد ظاهرٌ في أنه صحيحٌ عندهما يحتج به. (رواه) بإسنادٍ حسنٍ الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين (البيهقي) صاحب التصانيف الجليلة، كيف وقد حاز بها ما لم يَحُزْه شافعيٌّ؟! حتى قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه المِنَّة إلا البيهقي، فإن له المِنَّةَ؛ أي: لأنه الذي بيَّن أن مذهبه طبق السنة الصحيحة، وتصدَّى للرد على مخالفيه. ولد سنة أربعٍ وثمانين وثلاث مئة، ومات سنة ثمانٍ وخمسين وأربع مئة. (وغيره هكذا) أي: بهذا اللفظ المذكور (وبعضه في "الصحيحين") إذ لفظهما كما في "الجمع بينهما" للحميدي: عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: "لو يُعطى الناس بدعواهم. . لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬3)، وفي روايةٍ لهما قال ابن أبي مُليكة: كتب ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما: (أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه) (¬4). وقول الأصيلي: لا يصح مرفوعًا. . مردودٌ بتصريحهما بالرفع فيه من رواية ابن ¬

_ (¬1) قوله: (أن كلًّا من هذه الثلاثة) أي: القسامة، واليمين مع الشاهد، واليمين المردودة. اهـ "مدابغي" (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 231 - 233). (¬3) انظر "الجمع بين الصحيحين" (996). (¬4) صحيح البخاري (2514)، وصحيح مسلم (1711/ 2).

جريج (¬1)، ورفعه أيضًا أبو داوود والترمذي وغيرهما (¬2)، قال المصنف: (وإذا صح رفعه بشهادة البخاري ومسلم وغيرهما. . لم يضره مَنْ وقفه، ولا يكون ذلك تعارضًا ولا اضطرابًا، فإن الراوي قد يعرض له ما يوجب السكوت عن الرفع من نحو نسيانٍ أو اكتفاءٍ بعلم السامع والرافعُ عدلٌ ثبتٌ، فلا يلتفت إلى الوقف إلا في الترجيح عند التعارض كما هو مبينٌ في الأصول) (¬3). وخرجه الإسماعيلي في "صحيحه" بلفظ: "لو يعطى الناس بدعواهم. . لادعى رجالٌ دماء قومٍ وأموالهم، ولكن البينة على الطالب، واليمين على المطلوب" (¬4). وأخرج الترمذي أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال في خطبته: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه" (¬5) ولكن في سنده ضعيف من جهة حفظه. والدارقطني: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة" وفيه ضعيف مع أنه مرسل، وفي رواية له: "المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة" وله عنده طرقٌ متعددةٌ لكنها ضعيفة (¬6). وفي رواية: أن امرأتين كانتا تخرزان في بيتٍ أو حجرة، فخرجت إحداهما وقد أُنْفِذَت الإشفى -وهي: حديدة تخرز بها- في كفِّها، فادعت على الأخرى، فرُفِعَ ذلك لابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما فقال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم. . لذهبت دماؤهم وأموالهم" ذكِّروها باللَّه واقرؤوا عليها: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} الآية، فذكَّروها فاعترفت، فقال ابن عباس: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه" (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (4552)، وصحيح مسلم (1711). (¬2) سنن أبي داوود (3619)، وسنن الترمذي (1342). (¬3) انظر كلام الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرح مسلم" (12/ 2 - 3) فهو قريب من هذا الكلام. (¬4) أخرجه البيهقي (10/ 252) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬5) سنن الترمذي (1341) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬6) سنن الدارقطني (4/ 218 - 219) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬7) أخرجه البخاري (4552).

ثم هذا الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الشرع، وأصلٌ من أصول الأحكام، وأعظم مرجعٍ عند التنازع والخصام، كيف وقد علم منه أنه لا يُحكَم لأحدٍ بدعواه وإن كان فاضلًا شريفًا في حقٍّ من الحقوق وإن كان محتقرًا يسيرًا حتى يستند المدعي إلى ما يُقوِّي دعواه؟! وإلَّا. . فالدعاوى متكافئة، والأصل: براءة الذِّمم من الحقوق، فلا بد من دالٍّ على تعلُّق الحق بالذمة حتى تترجح به الدعوى. * * *

الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رِسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا. . فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. . فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. . فَبِقَلْبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ" (¬1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. (عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من رأى) أي: علم، إذ لا يشترط في الوجوب الآتي رؤية البصر، بل المدار على العلم أبصر أم لا، أو (رأى) مستعملة في حقيقتها من الإبصار، ويكون حكم المعلوم غير المبصر مقيسًا على حكم المبصر بجامع أن القصدَ دفعُ مفسدة المنكر مطلقًا. نعم؛ مَن علمَ اختلاءَ جماعةٍ بمنكرٍ، فإن كان نحو قتلٍ أو زنًا ممَّا لا يستدرك. . لزمه الهجوم لإزالته وإن كان فيه تسوُّر جدارٍ، وإن كان غير ذلك. . فلا؛ لأنه تجسُّسٌ وقد نُهينا عنه. (منكم) أي: معشر المكلفين القادرين من المسلمين (¬2)، فهو خطابٌ لجميع الأمة حاضرها حينئذٍ بالمشافهة، وغائبها بطريق التبع، أو لأن حُكمه صلى اللَّه عليه وسلم على الواحد حكمٌ على الجماعة كما قال. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (49). (¬2) قوله: (من المسلمين) الأَولى: إسقاطه، فإن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، معاقبون على تركها. اهـ "مدابغي"

(منكرًا) وهو: ترك واجب، أو فعل حرام (¬1)، صغيرةً كان أو كبيرةً، خلافًا لما قد يتوهم من كلام الإمام الآتي. (فليغيره) وجوبًا بالشرع لا بالعقل -خلافًا للمعتزلة- على الكفاية إن علم به أكثرُ من واحدٍ، وإلَّا. . فهو فرض عينٍ، وذلك للكتاب والسنة والإجماع أيضًا (¬2)، ومخالفةُ بعض الرافضة فيه لا يعتدُّ بها قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} والآيات في هذا كثيرة. وصح أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليعمَّنَّكم اللَّه بعذابٍ من عنده" (¬3). وفي حديثٍ آخر: "إن اللَّه لا يُعذِّب العامة بعمل الخاصة، ولكن إذا عُمل المنكر جهارًا. . استحقوا العقوبة كلهم" (¬4) والأحاديث في ذلك كثيرةٌ أيضًا. (بيده) إن توقَّف تغييره عليها؛ ككسر أواني الخمر وآلات اللهو بشرطه الآتي، وكمنع ظالمٍ من نحو ضربٍ. (فإن لم يستطع) الإنكار بيده بأن خشي إلحاق ضررٍ ببدنه أو أخذ مالٍ له، وليس من عدم الاستطاعة مجرد الهيبة، وعلى ذلك حمل خبر الترمذي وغيره: "ألَا لا يمنعنَّ رجلًا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه" (¬5) وسيأتي لذلك مزيد. ¬

_ (¬1) قوله: (أو فعل حرام) وإن لم يأثم فاعله، كأن رأى صبيًا يزني بصبيةٍ أو يلوط بصبيٍّ؛ أي: يقع منه صورة الزنا واللواط، فيؤمر بالكف نهيًا عن المنكر وإن كان الفاعل لا يتعلَّق به تكليف. قال الأستاذ البكري في "شرح العباب" في شروط الصلاة: وظاهر أن هذا في صبي له نوع تمييز، وأن المجنون مثله. اهـ، فلا يشترط في النهي عن المنكر أن يكون المتلبس به عاصيًا، فيشتمل ما مر، ونحوه كقتال الباغي المتأول، وقتل الصائل من صبي أو مجنون إذا لم يمكن دفعهما إلا بالقتل، فتأمل. اهـ "مدابغي" (¬2) سقطت كلمة: (والسنة) من النسخ جميعها إلا من (غ). (¬3) أخرجه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (330). والمعنى: واللَّهِ، لا بد من حصول أحد هذين الأمرين إما أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر، وإما أن يعمكم اللَّه تعالى بعذاب من عنده، وفي رواية: "أو ليسلطنَّ اللَّه تعالى عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" اهـ هامش (غ) (¬4) أخرجه الإمام أحمد (4/ 192)، والطبراني في "الكبير" (17/ 138) بنحوه عن سيدنا العرس بن عميرة رضي اللَّه عنه. (¬5) سنن الترمذي (2191) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.

(فبلسانه) أي: بقوله المرتجَى نفعُهُ (¬1) من نحو صياحٍ، واستغاثةٍ، وأمر من يفعل ذلك، وتوبيخٍ، وتذكيرٍ باللَّه تعالى وأليم عقابه، مع لينٍ أو إغلاظٍ حسب ما يكون أنفع، وقد يبلغ بالرفق والسياسة ما لا يبلغ بالسيف والرياسة (¬2). فعلم أنه يجب التغيير بنفسه أو بإعانة غيره إن عجز، سواء أكان الآمر ممتثلًا ما أمر به أو نهى عنه أم لا. نعم؛ صح (¬3): (أنه صلى اللَّه عليه وسلم رأى في النار قومًا يدورون كما تدور الرحى، فسأل جبريل عنهم فقال: كانوا يأمرون بالمعروف ولا يفعلونه، وينهون عن المنكر ويفعلونه) (¬4). وصح أيضًا: "يُلقى العالم في النار فتندلق أقتابه، فيقال: لِمَ ذلك؟ فيقول: كنتُ آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله" (¬5). وسواء أعلِمَ عادةً أن كلامه لا يؤثر أم لا؛ على ما في "الروضة" للمصنف (¬6)، لكن خالفه كثيرون فقالوا أخذًا من أحاديث مصرحةٍ بذلك: إذا علم ذلك. . سقط الوجوب عنه، ونقل الإمام عليه الإجماع، لكنة ليس في محله، بل ظاهر كلام المصنف: أن الإجماع على الأول (¬7)؛ فإنه نقله عن العلماء، وهذه الصيغة تفيد ¬

_ (¬1) وسيأتي من كلامه [قريبًا، انظر هامش 7] ما يرد هذا القول، وأنه لا فرق بين أن يرجى نفعه أو لا. اهـ "مدابغي". (¬2) وحكى التاج السبكي عن أبيه: أنه كان يجتمع ببعض الأمراء وكان الأمير يلازم الحرير، فقال: يا أمير؛ بكم الذِّراع من هذا؟ فقال: بدينار، فقال: في الصوف ما يساوي كل ذراع منه دنانير، ومماليكك وخدمك يشاركونك في لبس الحرير، ولا يليق بشهامتك أن يساووك، فاعدل إلى الصوف؛ فإنه أعلى وأغلى مع ما فيه من السلامة من العقاب الأخروي، فاستحن كلامه، ولو قال له ابتداءً: هذا حرام. . لم يفد. اهـ "مدابغي" (¬3) قوله: (نعم؛ صح. . . إلخ) قصد بهذا الاستدراكِ دفْعَ ما يتوهم مما قبله أنه لا إثم على الآمر الذي لم يمتثل ما أمر به، والناهي الذي لم ينته عما نهى عنه، ولو قال: ولا يعارض هدا العموم ما صح. . . إلخ؛ لأن تعذيبهم إنما هو على فعل المنكر لا على إنكاره، كما عبَّر به غيره من الشُّراح. . لكان أولى. اهـ "مدابغي" (¬4) أخرج ابن حبان في "صحيحه" (53)، وأبو يعلى (3992) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي رجالًا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك؛ يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون؟! ". (¬5) أخرجه البخاري (3267)، ومسلم (2989) عن سيدنا أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما بنحوه. والأقتاب: الأمعاء والأحشاء. (¬6) روضة الطالبين (10/ 219). (¬7) اعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة" (9/ 217) حيث قال: (وإن ظن أنه لا يمتثل كما في "الروضة" وإن نوزع بنقل الإجماع على خلافه).

الإجماع أو الأكثر منهم، وقد صرح بعض أئمة الحنابلة بنقله عن أكثر العلماء. وسواءٌ أكان الفاعل أباه أم غيره، وسواءٌ هلا أكان الآمر والناهي واليًا أم غيره إجماعًا؛ أخذًا بعموم (مَن) الشامل لذلك جميعه. نعم؛ إن خشي من عدم استئذان الإمام مفسدةً راجحةً أو مساويةً من انحرافه عليه بأنه افتأت عليه. . لم يبعد وجوب استئذانه حينئذٍ. ويشترط لجوازه ألَّا يؤدي إلى شهر سلاح، ومن ثم قال إمام الحرمين: (ويسوغ لآحاد الرعية أن يصدَّ مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتالٍ وشهر سلاحٍ، فإن انتهى إلى ذلك. . رُبِط بالسلطان، قال: وإذا جار والي الوقت وظهر ظلمه ولم ينزجر حين زُجر عن سوء صنيعه بالقول. . فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه. انتهى، قال المصنف: وما ذكره من خلعه غريبٌ، ومع هذا فهو محمولٌ على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدةٍ أعظم منه) (¬1). ولوجوبه تارةً وجوازه أخرى: ألَّا يخاف على نَفْسٍ (¬2)، أو نحو عضوٍ، أو مالٍ له أو لغيره وإن قلَّ مفسدةً فوق مفسدة المنكر الواقع. وإيجابُ بعض العلماء الإنكار بكل حالٍ وإن قُتل المنكِرُ ونيل منه. . غلوٌّ مخالفٌ لظاهر هذا الحديث وغيره، ولا حجة لهم في خبر: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول اللَّه تعالى له: ما منعك إذا رأيتَ كذا وكذا أن تنكره؟ فيقول: يا رب؛ خشيتُ الناس، فيقول اللَّه تعالى: أنا كنت أحق أن تخشى" (¬3)؛ لأن المراد بالخشية فيه: مجرد رعايتهم مع القدرة؛ إذ لو وجب الإنكار مطلقًا. . لم يتأتَّ قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "فإن لم يستطع"، وإذا جاز التلفظ بالكفر عند الخوف والإكراه كما في الآية. . فليجز ترك الإنكار لذلك بالأَولى؛ لأن الترك دون الفعل في القبح. وألَّا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد فيما هو فيه عنادًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (2/ 25). (¬2) أي: يشترط ألَّا يخاف على نفس. . . إلخ. (¬3) أخرجه الإمام أحمد (3/ 30)، وابن ماجه (4008) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬4) قوله: (وألا يغلب) أي: ويشترط ألا يغلب.

ثم إن كان المأمور به أو المنهي عنه ظاهرًا كالصلاة والشرب. . لم يختصَّ بالعلماء، وإلَّا. . اختص بهم أو بمن علمه منهم، وأن يكون المُنكَر مجمعًا عليه، أو يعتقد فاعله تحريمه، أو حله وضعفت شبهته جدًا كنكاح المتعة؛ أي: ولا يعلم ذلك إلا بإخباره عن نفسه فيما يظهر، فمن رأى شخصًا يعلم أن مذهبه شافعي يشرب نبيذًا. . لم يجز له أن ينكر عليه؛ لاحتمال أنه قلَّد أبا حنيفة في شربه، ويحتمل خلافه تعويلًا على ظاهر حاله وأصل بقائه على مذهبه المعهود له قبل ذلك. ويؤيد الأول عموم قول المصنف وغيره: (لا إنكار في المختلف فيه؛ لأن كل مجتهدٍ مصيبٌ على المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى الأصح أن المصيب واحدٌ، والمخطئ غير متعينٍ لنا والإثم موضوعٌ عنه) (¬1). وعبارة القرطبي: (ما صار إليه إمامٌ وله وجهٌ ما في الشرع لا يجوز لمن رأى خلافه أن ينكره، وهذا لا يختلف فيه) اهـ (¬2) وإنما لم ينكر على الحنفي ذلك بالقول مع حدِّنا له به؛ لأن حده ليس من باب إنكار المنكر، بل لأن الحاكم يلزمه الحكم بما يراه، وأيضًا فأدلة تحليل النبيذ واهيةٌ جدًا، بخلاف نكاحه بلا وليٍّ، ومن ثم لم نحدَّه به، وهذا أَولى من جوابٍ لابن عبد السلام عن ذلك كما بينته في "شرح الإرشاد". والأَوْلى أمرُ أو نهيُ فاعلِ مختلَفٍ فيه يَرَى إباحته برفقٍ وتلطُّفٍ على وجه النصيحة؛ لأن الخروج من الخلاف سنة اتفاقًا إن لم يقع في خلافٍ آخر، أو يترك سنةً ثابتةً. فعلم أن الأمر بالمعروف في المستحب مستحبٌّ، لكن بشرط كونه برفقٍ على وجه الإرشاد والنُّصح. وعلى الإمام أن ينصب محتسبًا يأمر وينهى وإن لم يختص ذلك به، فيتعيَّن عليه ذلك دون غيره بالولاية، سواء أتمحَّض حقًا للَّه تعالى عامًا -كإقامة الجمعة بشروطه، ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (2/ 23). (¬2) انظر "المفهم" (1/ 232 - 233).

وليس له على الأصح حمل الناس على مذهبه مجتهدًا كان أو مقلدًا، فلم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا يُنكِر أحدٌ على غيره مجتَهَدًا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصًا أو إجماعًا أو قياسًا جليًا، ويأمر الناس حتمًا كما في "الروضة" وإن خالف فيه كثيرون بصلاة نحو العيد (¬1) - أم غير عامٍّ، فمن فوَّت صلاةً وقال: نسيانًا. . أمره بالمراقبة، ولا يعترض على من أخَّرها ما دام من الوقت ما يسعها جميعها، وينهى أئمة المساجد المطروقة عن التطويل، وينهى أيضًا عن تغيير هيئة عبادة، كجهرٍ بسريةٍ أو عكسه، وعن تصدُّرٍ لتدريسٍ أو وعظٍ بلا أهلية، والقضاة عن تعطيل الأحكام، والخونة عن معاملة النساء. أم كان محض حق آدمي عامًا فيأمر أهل المكنة إن تعذَّر بيت المال بنحو بناء سورٍ احتيج إليه، وإعانة أبناء السبيل المجتازين. أو خاصًا فينهى مدينًا موسرًا عن مطله، وجارًا عن تعدٍّ في جدار جاره، ويأمر بالحق بطلب مستحقه ولا ضرب له ولا حبس. أم اجتمع فيه الحقَّانِ فيأمر بإنكاح الأكفاء، وإيفاء العُدد، والرفق بالمماليك، وينهى عن كشف عورته بحمامٍ ويأمر بسترها، ومَنْ رآه واقفًا مع امرأةٍ بشارعٍ غير مطروقٍ بالذهاب عنها، ويقول له: إن كانت أجنبيةً. . فاتقِ اللَّه تعالى، وإن كانت محرمك. . فصُنْها عن مواقف التُّهَم. ويرفق بجاهلٍ أو ظالمٍ خاف من أمره أو نهيه، ويحرم التجسُّس والبحث واقتحام الدور بالظنون ما لم يغلب على ظنه بنحو إخبار ثقةٍ خلوةَ جماعةٍ أو واحدٍ بمنكرٍ لا يتدارك، كقتلٍ أو زنًا، فلا يحرم، بل يلزم ذلك مَنْ أمِن على نفسه وماله. واعلم: أن فرض الكفاية إذا لم يقم به أحدٌ. . أثم كل من علم به وتمكَّن منه، وكذا من جهله وكان يمكنه البحث عنه لقربه منه فتركه؛ إذ يلزمه البحث بما يليق به، ويختلف بكبر البلد وصغرها. وإذا قام الكل بفرض الكفاية ولو مرتبًا. . كان كلٌّ منهم مثابا عليه، فلا مزية ¬

_ (¬1) روضة الطالبين (10/ 217).

لبعضهم على بعض، والقيام به مع عدم تعيُّنه أفضل منه مع تعيُّنه. نعم؛ القيام بفرض عينٍ لذاته أفضل منه بفرض الكفاية ما لم يتعيَّن على خلافٍ فيه، ولا ينافي ما تقرر من الوجوب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآيةَ؛ لأنه صلى اللَّه عليه وسلم سُئِل عنها فقال: "ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرةً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، ورأيت أمرًا لا يد لك به. . فعليك بنفسك. . ." الحديث (¬1). ففيه تصريحٌ بأن الآية محمولةٌ على ما إذا عجز المنكِر عن إزالة المنكَر، ولا شك في سقوط الوجوب حينئذٍ، على أن معناها عند المحققين: إنكم إذا فعلتم ما كُلِّفتم به. . لا يضركم تقصير غيركم، نحو: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ومما كُلِّفنا به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يمتثلهما المخاطب. . فلا عتب حينئذ؛ لأن الواجب الأمر والنهي لا القبول. (فإن لم يستطع) الإنكار بلسانه. . (فبقلبه) (¬2) ينكر بأن يكره ذلك به، ويعزم أنه لو قدر عليه بقولٍ أو فعلٍ. . أزاله؛ لأنه يجب كراهة المعصية، فالراضي بها شريكٌ لفاعلها، فإن كان رضاه بها لاستحلالها. . كفر إن أُجمع عليها وعُلمت من الدين بالضرورة، أو لغلبة الهوى والشهوة. . فسق ولم يكفر، وهذا واجبٌ عينًا على كل أحد، لقدرة كل أحدٍ عليه، بخلاف اللَّذَيْنِ قبله. فعلم من الحديث وما قررته فيه أنه يجب تغيير المنكر بكل طريقٍ أمكنه، فلا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته بيده، ولا كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان. ويرفق في التغيير بمن يخاف شره وبالجاهل، فإن ذلك أدعى إلى حصول المقصود، ومن ثم سُنَّ أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل، وقد قال ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (385)، وأبو داوود (4341)، والترمذي (3058) عن سيدنا أبي ثعلبة الخشني رضي اللَّه عنه. وشرائط الأمر بالمعروف ثلاثة: صحة النية من إعلاء كلمة اللَّه وإعلاء كلمة الدين، والثاني: معرفة الحجة، والثالث: الصبر على ما يصيبه من المكروه. اهـ هامش (غ) (¬2) تنبيه: ظاهر كلامهم أن الأمر والنهي بالقلب من فروض الكفاية، وفيه نظرٌ ظاهر، بل الوجه: أنه فرض عين؛ لأن المراد منهما الكراهة والإنكار به، وهذا لا يتصور قيه أن يكون إلا فرض عين، فتأمله، فإنه مهم نفيس. اهـ هامش (غ)

الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: (من وعظ أخاه سرًا. . فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانيةً. . فقد فضحه وشانه) (¬1). ويستعين عليه بغيره إن لم يخف فتنةً من إظهار سلاح وحرب ولم يمكنه الاستقلال، فإن عجز. . رفعه للوالي، فإن عجز. . أنكره بقلبه، ومن قدر على إراقة خمرٍ غير محترمةٍ لمسلمٍ. . لزمه إراقتها، وكذا كل نبيذٍ مسكرٍ، ولا يجوز كسر الإناء إلا إذا لم تمكنِ الإراقة إلا به، أو ضاق الإناء وخاف إدراك الفسقة ومنعه أو ضاع به وقته وتعطَّل شغله، وللولاة كسرها مطلقًا زجرًا وتأديبًا، ولا يجوز إراقة خمر ذميٍّ لم يظهر شربها ولا بيعها بين أظهرنا، بل يجب ردها عليه ولو بمؤنة، وكذا المحترمة لمسلم، وهي التي عصرت بقصد الخَلِّيَّة أو لا مع قصدٍ على الأصح. ويجب كسر نحو آلة لهوٍ لكن بتفصيلها لتعود كما كانت قبل الصنعة، فإن رضَّها أو أحرقها. . ضمن ما فوق المشروع إلا إن تعذَّر المشروع لنحو دفع مَنْ بيده أو غيره مما مر في إناء الخمر، وإذا أمكن المحتسب إلزام مالكه. . كسره، فينبغي أن يأمره به ولا يباشره، لعسر الوقوف على المشروع. وللصبي إزالة المنكر ويثاب عليه كالبالغ، وليس ذلك لكافرٍ، وللولاة كسره مطلقًا زجرًا. (وذلك) أي: الإنكار بالقلب للعجز عنه بغيره (أضعف الإيمان) أي: خصاله، فالمراد به: الإسلام أو آثاره ومقتضياته وثمراته، فالمراد به: حقيقته من التصديق بما مر في حديث جبريل (¬2)، وفي رواية: "وهو أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (¬3)، وكون ذلك أضعفه: أنه لم يبق وراء هذه المرتبة مرتبةٌ أخرى، ومنه يُستفاد: أن عدم إنكار القلب للمسلم دليلٌ على ذهاب الإيمان منه. ومن ثم قال ابن مسعود: (هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر) (¬4) أي: ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 140). (¬2) انظر ما تقدم (ص 150 - 151) من شرح الحديث الثاني. (¬3) عند مسلم (50) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 107).

لأن ذلك فرضٌ لا يسقط عن أحدٍ بحال، والرضا به من أقبح المحرمات، أو أن ذلك أقل ثمرة. قال المصنف رحمه اللَّه تعالى: (وقد ضُيِّع الإنكار من أزمان متطاولة، ولم يبقَ منه في هذه الأزمنة إلا رسومٌ قليلةٌ جدًا، وهو بابٌ عظيمٌ به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث. . عمَّ العقابُ الصالحَ والطالحَ، وإذا لم يأخذوا على أيدي الظالم. . يوشك أن يعمهم اللَّه تعالى بعقابه -أي: كما قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيِّروا فلا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب" رواه أبو داوود (¬1)، وفي روايةٍ: "إلا أصابهم اللَّه بعقابٍ قبل أن يموتوا" (¬2)، وفي أخرى: "إلا عمهم اللَّه بعقاب" (¬3)، وفي أخرى: "فإذا فعلوا ذلك -أي: عدم الإنكار مع القدرة عليه-. . عذب الخاصة والعامة" (¬4) - {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. فينبغي لطالب الآخرة والساعي في رضا اللَّه تعالى أن يعتني بهذا الباب؛ فإن نفعه عظيم، ولا يهاب من ينكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإنه تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} والأجر على قدر النصب، ولا يحابي نحو صديقٍ؛ فإن حقَّ الصديق أن ينصح صديقه ويهديه إلى مصالح آخرته، ويُنقذه من مضارِّها، ويسعى في عمارة آخرته وإن نقصت دنياه، بخلاف العدو، فإنه الذي يسعى في فساد الآخرة وإن حصل به صورة نفعٍ دنيوي؛ ولذا كانت الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم أولياء المؤمنين، وإبليس لعنه اللَّه تعالى عدوهم. ومما يتساهل فيه الناس أنهم يرون من يبيع المعيب فلا يبينونه للمشتري ولا ينكرونه على البائع، وهم مسؤولون عنه، والدين النصيحة، ومن لم ينصح. . فقد غشَّ، وقد نصَّ العلماء على أنه يجب على مَنْ علم ذلك أن ينكر على البائع ويعرِّف المشتري. ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (4338) عن سيدنا أبي بكر رضي اللَّه عنه. (¬2) سنن أبي داوود (4339) عن سيدنا جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجها الإمام أحمد (4/ 364)، وابن ماجه (4009) عن سيدنا جرير بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجها الإمام أحمد (4/ 192)، وابن المبارك في "الزهد" (1352) عن سيدنا عدي بن عميرة رضي اللَّه عنه.

وإنما أطلت الكلام في هذا الباب؛ لعظم فائدته، وكثرة الحاجة إليه، وكونه من أعظم قواعد الإسلام) انتهى ملخصًا (¬1). وهو حسنٌ نافعٌ، لكن أين الآن من يقبل النصيحة وقد اتُّبِع الهوى، وغلب الشح، وأُعجب كل ذي رأيٍ برأيه؟! فإنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم، وإذا أردت بالناس فتنةً. . فاقبضنا إليك غير مفتونين، واحفظ علينا الإيمان إلى أن نلقاك وأنت راضٍ عنا بكرمك، إنك رؤوف رحيم، وهَّاب كريم. (رواه مسلم) بسنده عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد مروان، فقام إليه رجلٌ فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا. . فقد قضى ما عليه، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا. . فليغيره بيده. . ." الحديث. وبه يعلم بطلان ما نقل: أن عثمان أو عمر فعل ذلك، لتصريحه بحضرة جمعٍ من الصحابة بأنه منكر، المستلزمِ أنه لم يعمل به أحدٌ قبل مروان، وإلَّا لو سبقه إليه أحد ذينك الإمامينِ. . لم يسمِّه أبو سعيد منكرًا، ومن ثم حكى بعضهم الإجماع على تقديم الصلاة على الخطبة يوم العيد، ولم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول. وإنما تأخر عن تغييره حتى أنكره ذلك الرجل، لاحتمال أنه لم يحضر أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة، ثم دخل وهما في الكلام، أو أنه كان حاضرًا، لكنه خاف على نحو نفسه أو غيره فتنةً لو أنكر، ولم يخف ذلك الرجل لنحو قوة عشيرته أو خاف وخاطر، وذلك جائزٌ، بل مندوبٌ، أو أن أبا سعيدٍ همَّ بالإنكار فبدره ذلك الرجل فعضده أبو سعيد. ولا تعارض روايةَ مسلم تلك روايتُه كالبخاري: أن أبا سعيد هو الذي أخذ بيد مروان حين رآه يصعد المنبر وكانا جاءا معًا، فردَّ عليه مروان بمثل ما ردَّ هنا على ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (2/ 24 - 26).

الرجل (¬1)؛ لاحتمال أنهما قضيتان، إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد. وأقولُ: سلَّمنا أن القضية واحدةٌ، لكنه يحتمل أن أبا سعيد لمَّا أخذ بيد مروان وردَّ عليه. . قام إليه ذلك الرجل وعضده بقوله: الصلاة قبل الخطبة، فرد عليه مروان بمثل ما ردَّ به على أبي سعيد، فعضده أبو سعيد ثانيًا بسياقه الحديث. قال القرطبي بعد أن ذكر نحو ما تقرر في قضية مروان: (فيه أن سنن الإسلام لا يجوز تغيير شيءٍ منها ولا من ترتيبها، وأن ذلك منكرٌ يجب تغييره بإنكاره ولو على الملوك إذا قدر عليه ولم يَدْعُ إلى منكرٍ أكثر منه) اهـ (¬2) وهذا الحديث يصلح أن يكون ثلث الإسلام؛ لأن الأحكام ستة: الواجب، والمندوب، والمباح، وخلاف الأَوْلى، والمكروه، والحرام. والمستفاد منه حكم الأول، وهو أنه يجب الأمر به، والأخير، وهو أنه يجب النهي عنه. وعبَّر بعضهم بأنه نصفٌ، وبيَّنه بأن أعمال الشريعة إما معروفٌ يجب الأمر به، أو منكرٌ يجب النهي عنه؛ أي: وهو إنما بيَّن الثاني، وهو غير سديدٍ؛ لأن ما عدا الأول والأخير مما ذكر لا يجب الأمر به ولا النهي عنه كما مر، على أنه كما بيَّنَ الثاني؛ أعني: وجوب النهي عن المنكر. . بيَّنَ الأول؛ لأن المنكر يشمل ترك الواجب، وفعل الحرام كما مر، فتغيير الأول بالأمر بالواجب، والثاني بالنهي عن الحرام، فعليه: كان المناسب أن يقال: إنه كل الإسلام لا نصفه. * * * ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (956)، وصحيح مسلم (889). (¬2) المفهم (1/ 232).

الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم] عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَراتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (¬1). (عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضًا، وأصله بتاءين، حُذفت إحداهما تخفيفًا، وكذا فيما بعده، وهل هي تاء المضارعة أو تاء الكلمة؟ فيه خلاف، وقد أجمع الناس من المشرعين وغيرهم على تحريم الحسد وقُبحه، ونصوص الشرع الواردة بذلك كثيرةٌ في الكتاب والسنة، منها: "إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب -أو قال-: العشب" رواه أبو داوود والحاكم وغيرهما (¬2). وأخرج أحمد والترمذي: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدِّين لا حالقة الشَّعر، والذي نفسي بيده، لا تؤمنوا حتى تحابوا. . ." الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2564). (¬2) سنن أبي داوود (4903) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) مسند الإمام أحمد (1/ 164)، وسنن الترمذي (2510) عن سيدنا الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه، ورواية الترمذي: (الحسد والبغضاء هي الحالقة) وهي في عدة نسخ.

وهو لغةً وشرعًا: تمني زوال نعمة المحسود وعودها إليك، من: (حسد يحسُد) بضم عين مضارعه وكسرها حَسْدًا وحَسَدًا -بالتحريك- وحسادة، يتعدَّى بنفسه وبـ (على). وأما قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين. . . " الحديث (¬1). . فليس إباحةً للحسد فيهما؛ لأنه لا يباح بوجهٍ من الوجوه، وإنما المراد به: الغبطة؛ أي: ليس شيءٌ من الدنيا حقيقًا بالغبطة عليه إلا هاتان الخصلتان: العلم، وإنفاق المال في سبيل اللَّه تعالى (¬2)، وفارقت الحسد بأن فيه مع تمني مثل ما للغير تمني زواله عنه، وهي ليس فيها إلا تمني الأول فقط. ووجه ذمه وقبحه: أنه اعتراضٌ على الحق ومعاندة له؛ حيث أنعم على غيره، مع محاولته نقض فعله تعالى وإزالة فضله، ومن ثم قال أبو الطيب: [من الطويل] وأظلمُ أهلِ الأرضِ مَنْ كان حاسدًا ... لمن بات في نعمائه يتقلَّبُ (¬3) ومن الحكمة: أن الحسود لا يسود. ولقد أُنشد: [من البسيط] دعِ الحسودَ وما يلقاهُ من كمدِهْ ... كفاكَ منهُ لهيبُ النَّارِ في كبدِهْ إن لُمتَ ذا حسدٍ نفَّستَ كربتَهُ ... وإن سكتَّ فقد عذبتَهُ بيدِهْ ومما يوضح ظلمه: أنه يلزمه أن يحبَّ لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لها زوال نعمتها، فقد أسقط حقَّ محسوده عليه، وأن في الحسد تعبَ النفس وحزنها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (73)، ومسلم (816) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) فالمراد بالحسد: الغبطة التي هي تمني مثل ما للغير، وليس المراد به حقيقته التي هي تمني زوال النعمة عن الغير؛ سواء تمنَّى انتقالها لنفسه أو لغيره، فإن قلتَ: ما وجه الحصر في هاتين الخصلتين مع أن كل خيرٍ مثله؟. . أجيب بأن الحصر عير مرادٍ، وإنما المراد: قابلة ما في طباع الشخص بالضدِّ؛ فإن طبع الإنسان إذا رأى غيره يجمع المال. . يحسده؛ ليكون مثله، فإذا رأى غيره يعطي أحدًا. . يذمه؛ ليكون مثله، فالطباع تحسد بجمع المال وتذم ببذله؛ أي: إعطائه، فبين الشرع عكس الطبع، فكأنه قال: لا حسد إلا فيما تذمون عليه، ولا مذمة إلا فيما تحسدون عليه. ووجه الجمع للخصلتين اللتين في الحديث: أن المال يزيد بالإنفاق ولا ينقص، قال تعالى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "ما نقص مالٌ من صدقة"، والعلم المعبَّر عنه بالحكمة يريد أيضًا بالإنفاق منه؛ أي: بتعليمه. اهـ هامش (غ) (¬3) انظر "شرح ديوانه" للعكبري (1/ 185).

من غير فائدةٍ وبطريق محرمٍ، فهو تصرفٌ رديءٌ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآيةَ. ثم الحسد -وإن ركز في الطبع البشري؛ إذ الإنسان بطبعه يودُّ ألَّا يفوقه أحدٌ من جنسه في شيءٍ من الفضائل- ينقسم أهله إلى أقسام: فمنهم من يسعى بقوله وفعله في نقل نعمة المحسود إلى نفسه، أو في مطلق نقلها، وهو شرهما وأخبثهما. ومنهم من لم يعمل بمقتضى حسده ولم يسعَ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ، وعن الحسن أن هذا غير آثمٍ، ورُوي مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة (¬1). وظاهرٌ أن محله إن عجز عن إزالته من نفسه وجاهدها في تركه ما استطاع، بخلاف من يحدِّث به نفسه اختيارًا مع تمني زوال نعمة المحسود، فهذا لا شك في تأثيمه، بل تفسيقه وإن قال بعضهم: هذا شبيهٌ بالعزم المصمم، وفي العقاب به خلافٌ بين العلماء. ومنهم من إذا حسد. . لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، فإن كانت دنيويةً. . فلا خير فيه، أو دينيةً. . فهو حسنٌ، وقد تمنَّى صلى اللَّه عليه وسلم الشهادة في سبيل اللَّه عز وجل. (ولا تناجشوا) أي: لا ينجُش بعضكم على بعضٍ بأن يزيد في المبيع لا لرغبةٍ فيه بل ليخدع غيره (¬2)، من: (نجشت الصيد) إذا أثرتَه، كأن الناجش يثير كثرة الثمن بنجشه، وحرم إجماعًا على العالِمِ بالنهي، سواءٌ أكان بمواطأة البائع أم لا؛ لأنه غشٌّ وخداعٌ، وهما محرمان: "من غشَّنا -وفي رواية: من غش-. . فليس منا" (¬3) ولأنه ترك النصح الواجب. ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الزهد" للإمام هناد رحمه اللَّه تعالى (1393 - 1394). (¬2) قوله: (بل ليخدع غيره) هذه علة غاية، وإلَّا. . فلا فرق بين أن يقصد خديعة غيره أو لا، ولا فرق بين أن يقصد نفع البائع أو لا، ولا فرق بين أن تكون السلعة ليتيمٍ أو لا، وحينئذٍ: فالمدار على زيادته في ثمن السلعة لا لرغبةٍ في شرائها. اهـ هامش (ج) (¬3) عند مسلم (101)، (102) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

ثم النهي هنا قيل: للبطلان بناءً على أنه يقتضي الفساد مطلقًا، والأصح عندنا: خلافه؛ لأن الأصح في الأصول: أن النهي إن كان لذات المنهي عنه أو لوصفه اللازم كالركن والشرط. . اقتضى الفساد في العبادة والمعاملة، وإن كان لأمرٍ خارجٍ أو وصفٍ غير لازم. . فلا فيهما (¬1)، ولا خيار للمشتري عندنا؛ لتقصيره بموافقة الناجش على الزيادة مع عدم الخبرة، فهو كالمغبون (¬2)، ولا خيار له عندنا أيضًا؛ كمن اشترى زجاجةً يظنها جوهرةً، وفارق خياره في التصرية بأنه لا تقصير يُنسَب إليه بوجهٍ. ويصح أن يفسَّر النجش هنا بما هو أعم من ذلك؛ لأن النجش لغةً: إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة، وحينئذٍ فالمعنى: لا تتخادعوا، ولا يعامل بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه؛ قال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}. وفي حديث: "من غشنا. . فليس منا، والمكر والخداع في النار" (¬3). وروى الترمذي: "ملعونٌ من ضارَّ مسلمًا أو مكر به" (¬4)، فعُلِم أنه يدخل في التناجش المنهي عنه هنا جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه؛ كتدليس العيوب وكتمها، وخلط الجيد بالرديء (¬5). وما أحسن قول أبي العتاهية: [من الخفيف] ليس دنيا إلا بدينٍ وليس الد ... ين إلا مكارم الأخلاق إنما المكر والخديعة في النا ... ر هما من خصال أهل النفاق نعم؛ يجوز المكر بمن يحل أذاه وهو الحربي، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "الحرب خدعة" (¬6). ¬

_ (¬1) في (غ): (فلا فساد فيهما). (¬2) أي: بغير النجش، فلا يرِد أنه مغبون أيضًا. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه ابن حبان (567) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) سنن الترمذي (1941) عن سيدنا أبي بكر رضي اللَّه عنه. (¬5) والتدليس: كتمان عيب السلعة عن المشتري، ومنه التدليس في الإسناد؛ وهو أن يُحدِّث عن الشيخ الأكبر ولعله ما رآه وإنما سمعه ممن هو دونه أو ممن سمعه، ونحو ذلك فعله جماعاتٌ من الثقات. اهـ هامش (غ) (¬6) تقدم تخريجه (ص 94) في شرح المقدمة.

(ولا تباغضوا) أي: لا يُبْغِض بعضكم بعضًا؛ أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأنه قهريٌّ كالحُبِّ لا قدرة للإنسان على اكتسابه، ولا يملك التصرف فيه؛ كما قال صلى اللَّه عليه وسلم لما كان يقسم بين نسائه ويعدل: "اللهم؛ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" يعني القلب أو الحب والبغض، رواه أبو داوود والترمذي والنسائي (¬1)؛ وهو: النفرة من الشيء لمعنًى فيه مستقبح، ويرادفه الكراهة. ثم هو بين اثنين إما من جانبيهما، أو من جانب أحدهما، وعلى كلٍّ فهو لغير اللَّه تعالى حرامٌ، وهو محمل الحديث، وله واجبٌ أو مندوبٌ (¬2)، قال تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "من أحب للَّه وأبغض للَّه وأعطى للَّه. . فقد استكمل الإيمان" (¬3). قال بعضهم: ويثاب المتباغضان للَّه على غَيرتهما له وتعظيم حقه وإن كان أحدهما مخطئًا؛ لأن الفرْض أن كلًّا منهما أدَّاه اجتهاده إلى اعتقادٍ أو عملٍ ينافي اجتهادَ الآخر، فيبغضه على ذلك، وهو معذورٌ عند اللَّه تعالى بخروجه عن عهدة التكليف بالاجتهاد، وأرجو أن غالب طوائف الأمة وفِرَقَها من هذا الباب ما لم يتضمن رأيُ بعضها كفرًا أو فسقًا بواحًا؛ إذ أكثر العقائد المختلف فيها بين الأمة اجتهاديٌّ أو ملحقٌ به. اهـ والذي يتجه: أن من علم أن مخالفة غيره له إنما نشأت عن اجتهادٍ لكونه من أهله. . لا يجوز له بغضه؛ لأنه حينئذ ليس للَّه؛ إذ الذي له هو ما يكون لأجل المعصية ولا معصية هنا؛ لأن المجتهد مأجورٌ وإن أخطأ. وعلى ما قررته يحمل قول بعضهم: (لمَّا كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم. . كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكلٌّ منهم يظهر أنه يبغض للَّه، وقد ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (2134)، وسنن الترمذي (1140)، وسنن النسائي (7/ 63) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬2) أي: البغض لأجل اللَّه تعالى منه ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب. (¬3) أخرجه أبو داوود (4681) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه.

يعذر في نفس الأمر وقد لا يعذر؛ لاتباعه لهواه وتقصيره في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض لذلك إنما يقع ممن يظن أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، وهذا الظن خطأٌ قطعًا، فإن أراد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه. . فهذا الظن قد يخطئ وقد يصيب؛ إذ قد يحمله على الميل إليه مجرد هوًى أو إلفٍ أو عادةٍ، فالواجب عليه أن ينصح نفسه ويتحرَّز غاية التحرز، وما أشكل منه. . فليجتنبه خشية أن يقع فيما نُهي عنه من البغض المحرم. وهاهنا دسيسةٌ ينبغي التفطُّن لها، وهي أن المجتهد بحقٍّ قد يرى رأيًا مرجوحًا، فهو وإن أُثيب عليه قد لا يكون المنتصر لقوله كذلك، وهو ما إذا قصد بانتصاره له أنه من أقوال متبوعه، ولو كان من أقوال غيره. . لم ينتصر له؛ لأن انتصاره حينئذٍ مشوبٌ بإرادة علوِّ متبوعه وظهور كلمته وألَّا ينسب إلى الخطأ، وهذا كله قادحٌ في قصد الانتصار للحق، فافهم ذلك؛ فإنه مهمٌّ ويخفى على كثيرين) (¬1). وفي خبر مسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا" (¬2). وقد بيَّن تعالى من يوقع بيننا العداوة والبغضاء، فقال عز قائلًا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، وامتنَّ تعالى على عباده إذ ألَّف بين قلوبهم فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}. ومن ثم كانت النميمة من أفحش الكبائر؛ لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وجاز الكذب للإصلاح. (ولا تدابروا) أي: لا يُدْبر بعضكم عن بعض (¬3)؛ أي: لا يعرض عما يجب له ¬

_ (¬1) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 267 - 268). (¬2) صحيح مسلم (54) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) وأنشد بعضهم: (من المنسرح) هجرك لي يا سيدي مظلمةْ ... فاستفتِ فيه ابن أبي خيثمةْ =

عليه من حقوق الإسلام؛ كالإعانة، والنصر، وعدم الهجران في الكلام أكثر من ثلاثة أيام إلا لعذرٍ شرعي؛ كرجاء صلاح أحدهما، ووجه مغايرته لما قبله: أن الشخص قد يبغض صاحبه عادةً ويوفيه حقوقه، وقد يعرض عنه لنحو تهمةٍ أو تأديبٍ وهو يحبه. (ولا يبع) نهي تحريمٍ عندنا وعند جمهور العلماء، وفي اقتضائه البطلان ما مر في النجش كما يأتي. (بعضكم) أي: معشر المكلفين من المسلمين والذميين، والتقييد بالمسلم في الأخبار جريٌ على الغالب (¬1)، خلافًا لمن أخذ بمفهومه. (على بيع بعض) فلا يجوز لأحدٍ بغير إذن البائع -كما في رواية "الصحيحين" (¬2) - أن يقول لمشتري سلعةٍ في زمن الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه، وذلك لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض، ومن ثم ورد في نحو ذلك: "إنكم إذا فعلتم ذلك. . قطعتم أرحامكم" (¬3). ومثله الشراء على الشراء بغير إذن المشتري بأن يقول آخر للبائع في زمن الخيار: افسخه وأنا اشتريه منك بأغلى، أما بعد انقضاء زمن الخيار. . فلا تحريم، خلافًا لجمعٍ من الحنابلة؛ إذ لا مقتضي له. وَزَعْمُ أنه قد يلح عليه حتى يُقيله فيؤدي إلى ضرره (¬4). . يُرَدُّ بأنه متمكنٌ من عدم الرد، فإن اختاره. . كان هو المضر بنفسه، والإلحاح إنما يقتضي تحريم ذاته؛ لأنه إضرارٌ بالملحوح عليه. ¬

_ = فإنه يرويه عن جدِّهِ ... وجدُّه يرويه عن عكرمةْ عن ابن عباسٍ عن المصطفى ... نبينا المبعوث بالمرحمةْ إن صدود الخِلِّ عن خِلِّه ... فوق ثلاثٍ ربُّنا حرَّمهْ وأنت مذ شهرٍ لنا هاجرٌ ... فما تخاف اللَّه فينا فمهْ (¬1) في بعض النسخ: (في الأخبار للغالب). (¬2) صحيح البخارى (5142)، وصحيح مسلم (1412/ 50) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 266 - 267) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما، لكنه في النهي عن أن تُزوَّج المرأة على العمة وعلى الخالة، فليتنبه. (¬4) قوله (وزعم أنه) أي: البائع أو المشتري (قد يلح عليه) أي: الآخر بسبب ما قيل له (حتى يُقيله) الآخر بضم أوله من الإقالة (فيؤدي إلى ضرره، يرد. . . إلخ) خبر زعم. اهـ "مدابغي"

وكذلك يحرم السوم على سوم غيره؛ كما في رواية مسلم (¬1)، والخِطبة على خِطبة الغير؛ كما في رواية "الصحيحين" (¬2) وكل ما في معنى ذلك مما ينفر القلوب ويورث التباغض إلا أن يرضى من له الحق؛ لأنه حقه فله تركه، ولزوال علة التنافر حينئذ. والسوم المحرم: هو أن يزيد في الثمن بعد استقراره صريحًا، أو يعرض على المشتري أرخص منه، وتحريمه بعد البيع وقبل لزومه الذي هو البيع على البيع أو الشراء على الشراء كما تقرر. . أشد، وقولُ ابن كج من أصحابنا: يجوز ذلك إن رآه مغبونًا. . ضعيفٌ، والأوجه: الحرمة مطلقًا. وبيعُ رجلٍ قبل اللزوم من المشتري عينًا مثل المشتراة بأقل. . كالبيع على البيع، وطلبها قبله أيضًا من المشتري بأكثر. . كالشراء على الشراء. وشرطُ التحريم هنا وفي النجش: علمُ النهي، والبيع والشراء هنا صحيحٌ أيضًا وإن حرم؛ لأن التحريم لمعنًى خارجٍ عن الذات ولازمها نظير ما مر، وتجوز الزيادة في الثمن قبل استقراره. (وكونوا عباد اللَّه) أي: يا عباد اللَّه (إخوانًا) أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما سبق ذكره وغيره من فعل المؤلِّف، وترك المنفِّر بأن تتعاملوا وتتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة، والرفق، والشفقة، والملاطفة، والتعاون في الخير، مع صفاء القلوب، والنصيحة بكل حال، فعُلم أن هذا كالتعليل لما قبله، وكأنه قال: إذا تركتم التحاسد وما بعده. . كنتم إخوانًا، وإلَّا. . كنتم أعداء. وفي قوله: (عباد اللَّه) إشارة إلى أنكم عبيده، فحقكم أن تطيعوه بأن تكونوا كالإخوان فيما مر، ووجه طاعة اللَّه تعالى في كونهم إخوانًا: التعاضد على إقامة دينه وإظهار شعائره؛ إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتمُّ ذلك؛ كما يفيده قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الآيةَ. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1408/ 38) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح البخاري (2140)، وصحيح مسلم (1408/ 38).

وعُلم أيضًا أن هذا فيه أمرٌ باكتساب ما يصير به المسلمون إخوانًا على الإطلاق من أداء حقوق المسلم على المسلم؛ كردِّ السلام وابتدائه، وتشميتِ العاطس، وعيادةِ المريض، وتشييعِ الجنائز، وإجابةِ الدعوى، والنصحِ (¬1). وروى الترمذي: "تهادوا؛ فإن الهدية تُذْهب وَحَر الصدر" (¬2)، وفي رواية: "تهادوا تحابوا" (¬3)، والبزار: "تهادوا؛ فإن الهدية تسلُّ السخيمة" (¬4)، وروي: "تصافحوا؛ فإنه يذهب الشحناء وتهادوا" (¬5). ويدل على أن هذا الذي تقرر هو المراد من ذلك قولُه صلى اللَّه عليه وسلم عقبه على جهة التأكيد والبيان له والاستعطاف المفهوم منه: (المسلم أخو المسلم) أي: لأنه يجمعهما دينٌ واحدٌ، ومن ثَمَّ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فهو كالأُخُوَّةِ الحقيقية؛ وهي أن تجمع الشخصين ولادةٌ من صلبٍ أو رحمٍ أو منهما، بل الأخوة الدينية أعظم من الأخوة الحقيقية؛ لأن ثمرة هذه دنيوية، وثمرة تلك أخروية، وفي "الصحيحين": "مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ. . تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (¬6). وروى أبو داوود: "المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكفُّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه" (¬7). والترمذي: "إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذًى. . فليمطه عنه" (¬8). (لا يظلمه) أي: لا يُدخِل عليه ضررًا في نحو نفسه، أو دينه، أو عرضه، أو ¬

_ (¬1) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية" (ص 264): (وقد قيل لخالد بن صفوان: أي الإخوان أحب إليك؟ قال: الذي يغفر زللي، ويسد خللي، ويَقبل عِلَلي). (¬2) سنن الترمذي (2130) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. والوَحَر: الحقد والغيظ. (¬3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 169) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه الطبراني (1526). والسخيمة: الحقد. (¬5) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (53/ 44) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬6) صحيح البخاري (6011)، ومسلم (2586) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما. (¬7) سنن أبي داوود (4918) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬8) سنن الترمذي (1929) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

ماله بغير إذنٍ شرعيٍّ؛ لأن ذلك قطيعةٌ محرمةٌ تنافي أخوة الإسلام، بل الظلم حرامٌ حتى للذمي، فالمسلم أَولى (¬1). (ولا يخذُله) أي: لا يترك نصرته المشروعة، سيما مع الاحتياج أو الاضطرار إليها، لأن من حقوق أخوة الإسلام التناصر؛ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "انصر أخاك ظالمًا -أي: بأن تكفَّه عن ظلمه؛ كما في رواية البخاري- أو مظلومًا" (¬2) أي: بأن تدفع عنه من يظلمه، فالخذلان محرمٌ شديد التحريم، دنيويًا كان مثل أن يقدر على دفع عدوٍّ يريد أن يبطش به فلا يدفعه، أو دينيًا مثل أن يقدر على نصحه عن غيِّه بنحو وعظٍ فيترك. وروى أبو داوود: "ما من امرئٍ مسلمٍ يخذل امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهك فيه حرمته، ويُنتقَص فيه من عرضه إلا خذله اللَّه في موضعٍ يحب فيه نصرته" (¬3). وأحمد: "من أُذِلَّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره. . أذلَّه اللَّه على رؤوس الخلائق يوم القيامة" (¬4). والبزار: "من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره. . نصره اللَّه في الدنيا والآخرة" (¬5). (ولا يكذبه) بضم أوله وإسكان ثانيه؛ كما ضبطه المصنف (¬6)؛ أي: لا يخبره بأمرٍ على خلاف الواقع لغير مصلحة تألُّفِ وصيانةِ نحوِ نفسٍ أو مالٍ؛ لأنه لغير ما ذُكِر ¬

_ (¬1) قال بعضهم: (من البسيط) لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا ... فالظلم آخره يأتيك بالنَّدمِ نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ ... يدعو عليك وعين اللَّه لم تنمِ (¬2) صحيح البخاري (2444) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن أبي داوود (4884) عن سيدنا جابر وسيدنا أبي طلحة رضي اللَّه عنهما. (¬4) مسند الإمام أحمد (3/ 487) عن سيدنا سهل بن حنيف رضي اللَّه عنه. (¬5) مسند البزار (3544) عن سيدنا عمران بن الحصين رضي اللَّه عنهما. (¬6) إنما ضبطه المصنف في (باب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات) من آخر "الأربعين": بفتح الياء وسكون الكاف، انظر (ص 646) آخر هذا الكتاب، وهذا الضبط هو الذي اقتصر عليه الحافظ العراقي في "شرح الترمذي"، ولعل ما وقع للشارح وللعلامة الشبرخيتي والمدابغي رحمهم اللَّه تعالى سبق قلم.

غشٌّ وخيانةٌ، ومن ثم كان أشدَّ الأشياء ضررًا، والصدق أشدَّها نفعًا؛ ولهذا علَتْ مرتبته على مرتبة الإيمان؛ لأنه إيمانٌ وزيادة؛ قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}؛ ولأنه يرادف التقوى بدليل: {الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهي أخص من الإيمان، فكذا رديفها. وبالجملة: فقُبْحُ الكذب مشهورٌ معلومٌ لكل ذي لبٍّ مستقيم؛ إذ ترك الفواحش كلها بتركه، وفعلها بفعله، فموضعه من القبح كموضع الصدق من الحسن؛ ولذا أجمعوا على تحريمه إلا لضرورةٍ أو مصلحةٍ (¬1). (ولا يحقره) بفتح أوله وبالمهملة والقاف؛ أي: لا يستصغر شأنه ويضع من قدره؛ لأن اللَّه تعالى لمَّا خلقه. . لم يحقره، بل رفعه وخاطبه وكلَّفه، فاحتقاره تجاوزٌ لحدِّ الربوبية في الكبرياء، وهو ذنبٌ عظيم، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "بحسب امرئٍ من الشر. . . إلخ". ورُوي بضم أوله وبالمعجمة والفاء (¬2)؛ أي: لا يغدر عهده، ولا ينقض أمانته، قال عياض: (والصواب المعروف هو الأول، وهو الموجود في غير "كتاب مسلم") (¬3) ويؤيده رواية: "ولا يحتقره". ومعنى هذه الجمل: أن من حقِّ الإسلام وأُخُوَّتِه ألَّا يَظلم المسلم أخاه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، وللإسلام حقوقٌ أُخر ذُكرتْ في غير هذا الحديث، وقد جمعت في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". ¬

_ (¬1) قال التادلي: الكذب خمسة: واجبٌ: لإنقاذ مال مسلم أو نفسه، وحرامٌ: وهو الكذب لغير منفعة شرعية، ومندوبٌ: وهو الكذب للكفار أن المسلمين أخذوا في أهبة الحرب إذا قصد بذلك إرهابهم، ومكروهٌ: وهو الكذب للزوجة تطييبًا لنفسها، ومباحٌ: وهو الكذب للإصلاح بين الناس، وتعقَّبَ ابن ناجي القسم الرابع بأن السُّنة جوزت الكذب فيه. اهـ، وقال قومٌ: الكذب كله قبيح؛ فقد سئل مالك رضي اللَّه عنه: عن الرجل يكذب لزوجته وابنه تطييبًا؟ فقال: لا خير في الكذب. ولقد أحسن القائل: [من الرجز] الصدق في أقوالنا أقوى لنا ... والكِذْب في أفعالنا أفعى لنا فهمْ يقولون: همُ أشياخُنا ... فما لهم قد يفعلوا أشياخنا؟! اهـ "شبرخيتي" (ص 265) (¬2) أي: (ولا يُخفره). (¬3) انظر "إكمال المعلم" (8/ 31).

فالاحتقار ناشئٌ عن الكِبر، لخبر مسلم: "الكبر بطر الحق وغمص الناس" (¬1) بمعجمة ثم مهملة، وفي روايةٍ لأحمد: "الكبر سفه الحق وازدراء الناس" (¬2)، وفي روايةٍ: "لا يعد الناس، فلا يراهم شيئًا" أي: لأن المتكبر ينظر لنفسه بعين الكمال، ولغيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا لأن يقوم بحقوقهم. وتخصيص ذلك بالمسلم لمزيد حرمته، لا للاختصاص به من كل وجه؛ لأن الذمي يشاركه في حرمة ظلمه وخذلانه بنحو ترك دفع عدوه عنه، والكذب عليه، واحتقاره. نعم؛ احتقاره من حيث الكفرُ القائم به جائزٌ؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}. (التقوى) وهي: اجتناب عذاب اللَّه تعالى بفعل المأمور وترك المحظور (ههنا، ويشيرُ) بيديه (إلى صدره ثلاث مرات) أي: محل مادَّتها من الخوف الحامل عليها القلبُ الذي هو عند الصدر؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فلا عبرة بظواهر الصور، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" (¬3) أي: أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة اللَّه تعالى وخشيته ومراقبته، فمن ثم كان نظر اللَّه تعالى بمعنى مجازاته ومحاسبته على ما في القلب من خيرٍ وشرٍّ دون الصور الظاهرة؛ إذ الاعتبار في هذا كلِّه بالقلب؛ كما أفاده قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أَلَا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت. . صلح الجسد كله، وإذا فسدت. . فسد الجسد كله، أَلَا وهي القلب" (¬4). وفي الحديث دليلٌ على أن العقل في القلب دون الرأس، ومرَّ ما في ذلك مستوفًى، ووجه مناسبة هذا لما قبله: الإعلامُ بأن كرم الخلق عند اللَّه تعالى إنما هو ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (91) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬2) مسند الإمام أحمد (1/ 399) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح مسلم (2564/ 33) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) تقدم تخريجه (ص 231) وهو الحديث السادس من أحاديث المتن.

بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فَرُبَّ حقيرٍ أعظم قدرًا عند اللَّه عز وجل من كثيرين من عظماء الدنيا، وسئل صلى اللَّه عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم للَّه عز وجل" (¬1)، وفي حديث آخر: "الكرم التقوى" (¬2). وفي "الصحيحين": "أَلَا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ متضعِّفٍ لو أقسم على اللَّه. . لأبره، أَلَا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جوَّاظ مستكبر" (¬3). وروى أحمد: "أما أهل الجنة. . فكل ضعيفٍ مستضعفٍ أشعث ذي طمرين لو أقسم على اللَّه. . لأبره. . . " الحديث (¬4). وفي "الصحيحين": "تحاجَّتِ الجنة والنار، فقالت النار: أنا أُوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطهم، فقال تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أُعذِّب بك من أشاء من عبادي" (¬5). وروى أحمد: "افتخرتِ الجنةُ والنار، فقالت النار: يا رب؛ يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف، وقالت الجنة: يا رب؛ يدخلني الفقراء والضعفاء والمساكين. . . " وذكر الحديث (¬6). وروى البخاري: مرَّ رجلٌ على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال لرجلٍ عنده جالسٍ: "ما رأيك في هذا؟ " فقال: رجلٌ من أشراف الناس، هذا واللَّه؛ حريٌّ إن خطب. . أن ينكح، وإن شفع. . أن يشفَّع، فسكت صلى اللَّه عليه وسلم، ثم مرَّ رجلٌ آخر، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "ما رأيك في هذا؟ " قال: يا رسول اللَّه؛ هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب. . ألَّا ينكح، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2378) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه الترمذي (3271)، وابن ماجه (4219) عن سيدنا سمرة بن جندب رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح البخاري (4918)، وصحيح مسلم (2853) عن سيدنا حارثة بن وهب رضي اللَّه عنه. والعُتُلُّ الغليظ الجافي، والجواظ: الفظُّ المختال في مشيته. (¬4) مسند الإمام أحمد (3/ 145). (¬5) صحيح البخاري (4850)، وصحيح مسلم (2846) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬6) مسند الإمام أحمد (3/ 13) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.

وإن شفع. . ألَّا يشفَّع، وإن قال. . ألَّا يسمع لقوله، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذاك" (¬1). (بحَسْب) بإسكان السين (امرئٍ من الشر) أي: يكفيه منه في أخلاقه ومعاشه ومعاده (أن يحقر أخاه المسلمَ) (¬2) كرره لتأكيد حرمة المسلم، ففيه تحذيرٌ أيُّ تحذيرٍ من احتقاره؛ لما مر أن اللَّه تعالى لم يحتقره؛ إذ أحسن تقويم خلقه، وسخَّر ما في السماوات والأرض كلَّه لأجله. ومشاركة غيره له فيه إنما هي بطريق التبع، وسماه مسلمًا ومؤمنًا وعبدًا، وجعل الأنبياء الذين هم أفضل المخلوقات من جنسه، فكان احتقاره احتقارًا لما عظَّمه اللَّه تعالى وشرَّفه، وهو من أعظم الذنوب والجرائم، ومن ثم قال صلى اللَّه عليه وسلم: "لا يدخل الجنة مَنْ في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْرٍ" رواه مسلم (¬3). ومنه ألَّا يبدأه بالسلام احتقارًا له، أو لا يرده عليه، وليس من ذلك تقديم العالم على الجاهل، والعدل على الفاسق؛ لأنه ليس لذات المسلم، بل لوصفه المذموم، حتى لو زال عنه. . عاد إليه التعظيم والإجلال والاعتناء به والاحتفال. (كل) مبتدأ (المسلم) فيه ردٌّ على من زعم أن (كلًّا) لا تضاف إلا إلى نكرة (على المسلم حرامٌ) خبره، ويبدل منه (دمه وماله وعرضه) أي: حسبه، وهو مفاخره ومفاخر آبائه, وقد يراد به النفس؛ كأكرمت عنه عرضي؛ أي: صُنتُ عنه نفسي، وفلانٌ نقي العرض؛ أي: بريءٌ من أن يُشتَم أو يُعاب، وحمله هنا على المعنى الثاني يلزمه تكرار؛ إذ هو حينئذٍ مرادفٌ للدم الذي هو عبارة عن النفس. وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورةٌ في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا نطيل بها، وجعلُها كلَّ المسلم وحقيقتَه؛ لشدة اضطراره إليها، أما الدم. . فلأن به حياته ومادته، والمال. . فهو مادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6447) عن سيدنا سهل بن سعد رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (بحسب امرئٍ) مبتدأ والباء فيه زائدة، وقوله: (أن يحقر. . . إلخ) خبره، و (المسلم) بالنصب صفة لـ (أخاه) اهـ هامش (غ) (¬3) صحيح مسلم (91) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه.

واقتصر عليها؛ لأن ما سواها فرعٌ عليها، وراجعٌ إليها؛ لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية. . فلا حاجة إلى غير ذلك، وقيامهما بتلك الثلاثة لا غير، ولكون حرمتها هي الأصل والغالب لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض ما يبيحها شرعًا كالقتل قودًا، وأخذ مال المرتد فيئًا، وتوبيخ المسلم تعزيرًا، ونحو ذلك. وقوله في رواية: "إلا بحقها" لمزيد الإيضاح والبيان، وأخذ بعضُ الصحابةِ حبلَ آخرٍ، ففزع، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: "لا يحل لمسلمٍ أن يروع مسلمًا" رواه أبو داوود (¬1). وروى أحمد وأبو داوود والترمذي: "لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبًا جادًا" (¬2) أي: لا يأخذ متاعه ليغيظه؛ لأنه حينئذٍ وإن كان لاعبًا في مذهب السرقة هو جادٌّ في إدخال الأذى والروع عليه. وفي "الصحيحين" وغيرهما: "لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإنه يحزنه" (¬3) وفي رواية: "فإن ذلك يؤذي المؤمن واللَّه يكره أذى المؤمن" (¬4). وروى أحمد: "لا تؤذوا عباد اللَّه، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم؛ فإن من طلب عورة أخيه المسلم. . طلب اللَّه عز وجل عورته حتى يفضحه في بيته" (¬5). (رواه مسلم) وهو حديثٌ كثير الفوائد، عظيم العوائد، مشيرٌ إلى جُلِّ المبادئ والمقاصد، بل هو عند تأمل معناه وفهم مغزاه حاوٍ لجميع أحكام الإسلام منطوقًا ومفهومًا، ومشتملٌ على جميع الآداب أيضًا إيماءً وتحقيقًا. وقول ابن المديني: في بعض رواته مجهولٌ. . غيرُ مسلَّمٍ له، أو أراد أنه مجهول الاسم؛ فإنه لا يعرف إلا بكنيته، ومن ثم وهم فيه الثوري. ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (5004) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه اللَّه، عن أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وسلم. (¬2) مسند الإمام أحمد (4/ 221)، وسنن أبي داوود (5003)، وسنن الترمذي (2160) عن سيدنا يزيد بن السائب رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح البخاري (6290)، وصحيح مسلم (2184) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬4) عند الترمذي (2825) عن سيدنا ابن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬5) مسند الإمام أحمد (5/ 279) عن سيدنا ثوبان رضي اللَّه عنه.

ورواه الترمذي بلفظ: "المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئٍ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم" (¬1). وخرجاه في "الصحيحين" بلفظ: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانًا" (¬2) وله طرقٌ أخرى عظيمة كثيرة. * * * ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (1927) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح البخاري (6066) , وصحيح مسلم (2563) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا. . نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ. . يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا. . سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا. . سَهَلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، ومَنْ بَطَّأَ بهِ عَمَلُهُ. . لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ (¬1). (عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه، عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: من نفَّس) أي: أزال وفرَّج، من تنفيس الخناق؛ أي: إرخائه حتى يأخذ له نفسًا (عن مؤمن) أُوثر لمزيد شرفه وحرمته، والثواب فيما يفعل معه من الإحسان، وإلَّا. . فالذمي كذلك هنا وفيما يأتي من حيث أصل الثواب؛ للخبر السابق: "إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيءٍ" (¬2)، وخبر: "في كل كبدٍ حرَّى أجر" (¬3). ويلي الذمي المستأمن، ثم الحربي، فالثواب في كلٍّ أضعف مما قبله؛ لأنه تابعٌ لمزيد الشرف والاحترام. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2699). (¬2) تقدم تخريجه (ص 340) وهو الحديث السابع عشر من أحاديث المتن. (¬3) تقدم تخريجه (ص 326).

(كربةً) هي: ما أهمَّ النفس وغمَّ القلب؛ كأنها مشتقةٌ من (كرب) التي للمفاجأة؛ لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس، فكأنها لشدة غمِّها عطَّلت محالَّ التنفس منه، وبه يعلم حكمة إيثار (نفَّس) على رديفه من (أزال) أو (فرَّج) وقال بعضهم: التفريج أعظم من التنفيس؛ لأنه إزالتها بالكلية، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، ومن ثم جمع بينهما في رواية الطبراني (¬1). (من كرب الدنيا. . نفس اللَّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة) (¬2) وفي رواية للطبراني: "نفَّس اللَّه عنه كربةً يوم القيامة، ومن ستر على مؤمنٍ عورته. . ستر اللَّه عورته، ومن فرَّج عن مؤمنٍ كربةً. . فرَّج اللَّه عنه كربته" (¬3)، فعُلم عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسَّر من علمٍ، أو مالٍ، أو جاهٍ، أو إشارةٍ، أو نصحٍ، أو دلالةٍ على خيرٍ، أو إعانةٍ بنفسه، أو سفارته ووساطته، أو شفاعته، أو دعائه له بظهر الغيب. ومما يعلمك بعظيم الفضل في هذا وما بعده أن الخلق عيال اللَّه، وتنفيس الكرب إحسانٌ إليهم، والعادة أن السيد والمالك يحب الإحسان لعياله وحاشيته، وفي الأثر: "الخلق عيال اللَّه، وأحبهم إلى اللَّه تعالى أرفقهم بعياله" (¬4). وعبَّر هنا بـ (مؤمن) على ما في أكثر النسخ، وفيما يأتي بـ (مسلم) إما للتفنُّن، أو لأن الكربة تتعلق بالباطن كما علم مما مر في تفسيرها، فناسب الإيمان المتعلق به أيضًا، والستر يتعلق بالظاهر غالبًا، فناسب الإسلام المتعلق به. وخصَّ الجزاء هنا بكُرَبِ القيامة وعمَّمَ في الستر الآتي؛ لأن الدنيا لما كانت محل العورات والمعاصي والعارُ فيهما أكثر منه في الكرب الدنيوية. . احتيج إلى الستر فيها فذُكِرا ثَمَّ. ¬

_ (¬1) وهي التي سيذكرها الشارح بعد المتن الآتي. (¬2) التنكير في (كربة) الأُولى للتحقير، وفي الثانية للتعظيم؛ أي: من نفَّس كربةً حقيرةً في الدنيا. . نفس اللَّه عنه كربةً شديدة من كرب الآخرة. اهـ هامش (غ) (¬3) انظر "المعجم الكبير" (19/ 158) عن سيدنا كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (3315) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه مرفوعًا.

وأيضًا: فالدنيا وإن كانت محلًّا للكرب أيضًا، لكن لا نسبة لكربها إلى كرب الآخرة حتى تذكر معها، فاقتصر هنا عليها. نعم؛ من أعظم كرب الدنيا الإعسارُ، بل هو أعظمها؛ فلذلك أُلحق بالستر، فلم يخص جزاؤه بالآخرة، بل عمَّم في الدنيا أيضًا، وأيضًا: فالكرب الشدائد العظيمة، وليس كل أحدٍ يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة للستر؛ فإن أحدًا لا يكاد أن يخلو في الدنيا منها ولو بتعسر بعض الحاجات المهمة. قيل: ولأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء، فادَّخر اللَّه تعالى جزاء تنفيس الكرب عنده؛ لينفس به كرب الآخرة ولو لم يكن منها إلا دنو الشمس من رؤوس الخلائق وإلجام العرق لهم، ففي "الصحيحين": "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا -أو قال: باعًا- وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس وإلى آذانهم" (¬1). وروى مسلم أيضًا: "تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميلٍ أو ميلين، فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يُلْجمه إلجامًا" (¬2). (ومن يسَّر على معسر) بإبراءٍ، أو هبةٍ، أو صدقةٍ، أو نَظِرَةٍ إلى ميسرةٍ بنفسه، أو وساطته، ويصح شموله لإفتاء العامي في ضائقةٍ وقع فيها بما يخلصه منها؛ لأنه معسرٌ بالنسبة للعالم. (يسَّر اللَّه) تعالى (عليه) أموره ومطالبه (في الدنيا والآخرة) فيه عظيم فضل التيسير على معسر، والأحاديث فيه كثيرة؛ منها: خبر مسلم: "من سرَّه أن ينجيه اللَّه من كرب يوم القيامة. . فلينفس عن معسرٍ أو يضع عنه" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6532)، وصحيح مسلم (2863) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح مسلم (2864) عن سيدنا المقداد بن الأسود رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح مسلم (1563) عن سيدنا أبي قتادة رضي اللَّه عنه.

وخبره أيضًا: "من انظر معسرًا أو وضع عنه. . أظلَّه اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله" (¬1). وخبر أحمد: "من أراد أن تُستجاب دعوته، وتنكشف كربته. . فليفرج عن معسر" (¬2). (ومن ستر مسلمًا) من ذوي الهيئات ونحوهم (¬3) ممن لم يعرف بأذًى أو فسادٍ بأن علم منه وقوع معصيةٍ فيما مضى فلم يخبر بها حاكمًا ولا غيره، وهذا للندب؛ إذ لو لم يستره بأن رفعه لحاكمٍ. . لم يأثم إجماعًا، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروهًا. وخرج برفعه لحاكمٍ كشفُها وهتكُها بالتحدُّث بها، وهذا غيبةٌ محرمةٌ شديدةُ الإثم والوزر؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، ومن ثَمَّ يندب لمن جاءه تائبٌ نادمٌ وأقر بحدٍّ ولم يفسِّره ألَّا يستفسره، بل يأمره بستر نفسه كما أمر صلى اللَّه عليه وسلم ماعزًا والغامدية، وكما لم يستفسر من قال له: أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ، وكذا يندب لمن ظهرت له جريمةٌ ولم تبلغ الإمام أن يشفع له حتى لا تصل إليه؛ لقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" خرجه أبو داوود والنسائي (¬4). ومن ثم قال أصحابنا: لا يُعزَّر ذو الهيئة على هفوةٍ أو زلةٍ صدرت منه. أو المراد بستر المسلم: ستر عورته الحسية أو المعنوية بإعانته على ستر دينه؛ كأن يكون محتاجًا لنكاحٍ فيتوصل له في التزوج، أو لكسب فيتوصل له إلى بضاعةٍ يتَّجر فيها، أو بنحو ذلك. وفي رواية للطبراني: "ومن ستر على مؤمنٍ عورته. . ستر اللَّه عورته" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (3006) عن سيدنا أبي اليَسَر كعب بن عمرو رضي اللَّه عنه. (¬2) مسند الإمام أحمد (2/ 23) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) قوله: (ونحوهم) كالعلماء، والحاصل: أنه يسن ستر الزَّلة بشروط أربعة: أحدها: أن تكون حقًا للَّه تعالى، الثاني: أن تكون مضت، الثالث: أن تكون من نحو ذوي الهيئات، الرابع: ألا يكون شاهدًا أو راويًا، أو أمينًا على نحو يتيم. اهـ "مدابغي" (¬4) سنن أبي داوود (4375)، وسنن النسائي الكبرى (7253) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬5) تقدم تخريجه قريبًا (ص 567). تنبيه: إظهار السِّر كإظهار العورة، فكما يحرم كشفها. . يحرم إفشاؤه، =

(ستره اللَّه في الدنيا) بالمعنيين المذكورين (¬1) (والآخرة) بألَّا يعاقبه على ما فرط منه؛ لما مر (¬2)، ولأن اللَّه حيٌّ كريمٌ سِتِّيرٌ، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلُّقٌ بخلق اللَّه تعالى، واللَّه تعالى يحب التخلق بأخلاقه. وأخرج ابن ماجه: "من ستر عورة أخيه المسلم. . ستر اللَّه عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم. . كشف اللَّه عورته حتى يَفْضَحه بها في بيته" (¬3). وأخرج أحمد وأبو داوود والترمذي: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه؛ لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عوراتهم. . تتبع اللَّه عورته، ومن تتبع اللَّه عورته. . يفضحه في بيته" (¬4). وخرج على المعنى الأول بنحو ذوي الهيئات المعروفُ بالأذى والفساد (¬5)، فيندب، بل قد يجب ألَّا يستر عليه، بل يظهر حاله للناس حتى يتوقَّوه، أو يرفعه لولي الأمر حتى يقيم عليه واجبه من حدٍّ أو تعزيرٍ ما لم يخش مفسدةً؛ لأن الستر عليه يطمعه في مزيد الأذى والفساد. وبوقوعها فيما مضى معصيةٌ رآه عليها وهو بعد متلبسٌ بها، فتلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر، وإلَّا. . فيرفعه للحاكم؛ كما مر ما لم يترتب عليه مفسدة، والكلام في غير نحو الرواة والشهود والأمناء على نحو صدقةٍ أو وقفٍ أو يتيمٍ؛ فيجب بالإجماع جرحهم على من علم قادحًا فيهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من ¬

_ = وكتمان الأسرار قد تطابقت على الأمر به المللُ، وقد قالوا: صدور الأحرار قبور الأسرار، وقيل: قلب الأحمق في فيه، ولسان العاقل في قلبه، وقيل لبعضهم: كيف أنت في كتم السر؟ فقال: أستره وأستر أني أستره. اهـ هامش (غ) (¬1) وهما ستر زلته، وستر عورته الحسية أو المعنوية. (¬2) قوله (لما مر) أي: من أن الخلق عيال اللَّه وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. (¬3) سنن ابن ماجه (2546) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬4) مسند الأمام أحمد (4/ 420)، وسنن أبي داوود (4880) عن سيدنا أبي برزة الأسلمي رضي اللَّه عنه، والترمذي (2032) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬5) قوله: (وخرج على المعنى الأول) أي: للستر، وهو أن يعلم من ذوي الهئية وقوع معصية، فيندب أن يستره فلا يخبر بها حاكمًا ولا غيره، لا الستر بالمعنى الثاني، وهو قوله: (أو المراد بستر المسلم ستر عورته الحسية أو المعنوية. . .) فإن هذا لا يتوقف على ذي الهئية ولا غيره، بل يندب في حق كل أحد. اهـ "مدابغي"

النصيحة الواجبة، وكذا لا تحرم غيبة المتجاهر بفسقه، وهو المعلن به الذي لا يبالي بما ارتكب من أنواعه ولا بما يقال له، وهذا لا ينبغي أن يشفع له، بل يترك حتى يحد؛ كما نصَّ عليه مالكٌ رضي اللَّه تعالى عنه، وإنما كره أحمد رضي اللَّه تعالى عنه رفع الفُسَّاق إلى السلطان بكل حال؛ لأنهم غالبًا لا يقيمون الحد، وإن أقاموه. . تجاوزوا فيه، ولهذا قال: إن علمت أنه يقيم الحد. . فارفعه، ثم ذكر أنهم ضربوا رجلًا فمات، يعني لم يكن قتله جائزًا. (واللَّه) تعالى (في عون العبد ما كان العبد) أي: مدة دوام كونه (في عون أخيه) بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها (¬1)، قيل: وهذا إجمالٌ لا يسع بيانه الطروس (¬2)؛ فإنه مطلقٌ في سائر الأحوال والأزمان، ومنه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه. . فينبغي له ألَّا يجبن عن إنفاذ قوله وصدءعه بالحق إيمانًا بأن اللَّه تعالى في عونه، وتأمل دوام هذه الإعانة؛ فإنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يقيدها بحالةٍ خاصةٍ، بل أخبر بأنها دائمةٌ بدوام كون العبد في عون أخيه، وروى أحمد: "ومن كان في حاجة أخيه. . كان اللَّه تعالى في حاجته" (¬3). والطبراني: "أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، فكسوتَ عورته، أو أشبعتَ جوعته، أو قضيتَ له حاجته" (¬4). وورد: "من سعى في حاجة أخيه المسلم قُضيتْ له أو لم تُقضَ. . غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان براءة من النار، وبراءة من النفاق" (¬5). وأمر الحسن ثابتًا البُناني بالمشي في حاجةٍ، فقال: أنا معتكفٌ، فقال له: (يا أعمش؛ أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حجةٍ بعد حجةٍ؟!) (¬6). ¬

_ (¬1) قوله: (أو غيرها) كجاهه، وما أحسن قول بعضهم: (من الكامل) فرضت عليَّ زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا (¬2) أي: الأوراق. (¬3) مسند الإمام أحمد (2/ 91) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) ذكره في "مجمع الزوائد" (3/ 133) وعزاه للطبراني في "الأوسط" عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. (¬5) سقطت من النسخة (غ) كلمة: (براءتان). (¬6) أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" (103).

وروى أحمد: أن خبَّاب بن الأرتِّ خرج في سرية (فكان صلى اللَّه عليه وسلم يحلب عنزًا لعياله فتملأ الجفنة حتى تفيض زيادة على حِلابها، فلما قدم وحلبها. . عاد إلى ما كان) (¬1). وكان أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف. . قيل: الآن لا يحلبها، فقال: (بلى، وإني لأرجو ألَّا يغيرني ما دخلت فيه عن شيءٍ كنت أفعله) (¬2)؛ وذلك لأن العرب كانوا يستقبحون حلب النساء، بل روي خبر: "لا تسقوني حلب امرأة" (¬3). وكان عمر رضي اللَّه تعالى عنه يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماء بالليل، ورآه طلحة داخلًا بيت امرأة ليلًا، فدخل لها نهارًا فإذا هي عجوزٌ عمياء مقعدة، فقال لها: (ما يصنع هذا الرجل عندك؟) فقالت له: منذ كذا يتعاهدني بما يقوم بي من البِرِّ وما يصلح لي شأني، ويخرج عني الأذى، ويُقمُّ لي بيتي، فقال طلحة لنفسه: (ثكلتك أمك يا طلحة، أعثراتِ عمرَ تتبع) (¬4). (ومن سلك طريقًا) فعيلًا من الطَّرْق؛ لأن الأرجل ونحوها تطرقه وتطلبه وتسعى فيه، ويصح أن يراد به هنا ما يشمل طرقه المعنوية؛ كحفظه، ومذاكرته، ومطالعته، وتفهمه، وكل ما يتوصل به إليه. (يلتمس) أي: يطلب (فيه) أي: في غايته أو بسببه أو فيه حقيقة، لكنه نادرٌ جدًا، فلا يحمل الحديث عليه. (علمًا) شرعيًا أو آلةً له قاصدًا به وجه اللَّه تعالى، قيل: وهذا وإن اشترط في كل عبادة، لكن عادة العلماء تقييد هذه المسألة به؛ لأن بعض الناس قد يتساهل فيه أو يغفل عنه. اهـ ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (5/ 111). (¬2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 186)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (30/ 323) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها، وعبيد السعدي رحمه اللَّه تعالى. (¬3) ذكره الديلمي في "الفردوس" (8217) عن سيدنا أبي شيخ أُبَيْ بن ثابت الأنصاري شقيق سيدنا حسان رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 47 - 48).

وكأنه يريد: إنَّ تطرُّقَ الرياء للعلم أكثرُ من تطرقه لسائر العبادات، فاحتيج للتنبيه فيه على الإخلاص اعتناءً بشأنه. ومن آلات الشرعي من تفسيرٍ وحديثٍ وفقهٍ المنطقُ الذي بأيدي الناس اليوم؛ فإنه علمٌ مفيدٌ لا محذور فيه بوجهٍ، وإنما المحذور فيما كان يُخلط به قبل من الفلسفيات المنابذة للشرائع، ولأنه نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، ولأنه كالعربية في أنه من مواد أصول الفقه، ولأن الحكم الشرعي لا بد من تصورِه والتصديقِ به إثباتًا أو نفيًا، والمنطق هو المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق، فوجب كونه علمًا شرعيًا؛ إذ هو: ما صدر عن الشرع أو يتوقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجوب؛ كعلم الكلام، أو توقف كمال؛ كعلم العربية والمنطق، وهذا هو موجب مدح الغزالي له وقوله: (لا ثقة بفقه من لم يتمنطق) أي: من لا تكون قواعد المنطق مركوزةً بالطبع في ذهنه كالمجتهدين في العصر الأول، أو بالتعلم. وممن أثنى عليه أيضًا الفخر الرازي، والسيف الآمدي، وابن الحاجب، وشُرَّاح كتابه، وغيرهم من الأئمة. وقول ابن الصلاح وغيره بتحريمه محمولٌ على ما كان في زمنهما من المخلوط بالفلسفة وفروعها من الإلهي والطبيعي والرياضي، على أن الحليمي وغيره صرحوا بجواز تعلُّم هذه؛ ليردَّ على أهلها، ويدفع شرهم عن الشريعة، فيكون من باب إعداد العدة. (سهل اللَّه له [به] طريقًا إلى الجنة) أي: أن طلبه وتحصيله يرشد إلى طلب الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة (¬1)، وذلك ليس إلا بتسهيله تعالى، وإلَّا. . فبدون لطفه وتوفيقه لا ينفع علم ولا غيره، أو أنه يُجازى على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بألَّا يرى من مشاقِّ الموقف ما يراه غيره، وهذا أقرب لظاهر الحديث. واستفيد منه مع ما قبله ومع قوله تعالى: {جَزَآءً وِفَاقًا} أن الجزاء يكون من جنس ¬

_ (¬1) فيكون قد استعار اسم الطريق للهداية بجامع أن كلًّا منهما -أي: الهداية والطريق الحسي- موصلٌ، وذلك على طريق الاستعارة التحقيقية. "شبشيري"، وكان ينبغي للشارح ألَّا يقحم لفظ (طلب) في قوله: (يرشد إلى طلب. . . إلخ) فتأمل. اهـ "مدابغي"

العمل ثوابًا وعقابًا؛ كالتنفيس بالتنفيس، والتيسير بالتيسير، والستر بالستر، والعون بالعون، والطريق بالطريق، ونظائر ذلك كثيرةٌ في أحكام الدنيا والآخرة، وكان قياس ذلك قطع فرج الزاني؛ إذ هو محل الجناية، لكن لما كان آلةً للتناسل الحافظ للنوع الإنساني. . كانت مراعاة بقائه أصلح. وهذا مؤذنٌ بعظيم فضل السعي في طلب العلم، ويلزم منه عظيم فضل الاشتغال به، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأظهر من أن تشهر. ثم المراد بتسهيل تلك الطريق: تسهيل العلم الذي طلبه وتيسيره عليه؛ لأن العلم طريقٌ موصلٌ إلى الجنة، أو تسهيل الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته ودخول الجنة، أو تسهيل علومٍ أُخر توصله للجنة، ومنه: "مَنْ عمل بما علم. . أورثه اللَّه علم ما لم يعلم" (¬1). أو تسهيل طريق الجنة الحسِّي يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال؛ فإن العلم يدل على اللَّه تعالى من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقه ولم يعرج عنه. . وصل إلى اللَّه تعالى وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فسهلت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة في الدنيا والآخرة؛ إذ لا طريق إلى معرفته ورضاه إلا بالعلم النافع، وهو العلم باللَّه تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله المقتضي لخشيته وإجلاله ومحبته ورجائه. وهذا أول علم يرفع كما قاله عبادة بن الصامت رضي اللَّه تعالى عنه (¬2)، وبعده يبقى علم اللسان حجة، فيتهاون الناس به حتى حملته، ثم يذهب هذا أيضًا، لكن ¬

_ (¬1) ذكره في "الدر المنثور" (2/ 123) وعزاه لأبي نعيم في "الحلية" عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرج الحاكم (1/ 99)، والترمذي (2653) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: "هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء" قال: فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول اللَّه؛ وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فواللَّه؛ لنقرأنه ولنُقرئنه نساءنا وأبناءنا؟! فقال: "ثكلتك أمك يا زياد؛ إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟! "قال جبير -أحد رواة الحديث-: فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ وأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثك بأول علم يرفع من الناس: الخشوعُ، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا.

بذهاب حملته؛ كما في حديث "الصحيحين" (¬1)، ولا يبقى إلا القرآن في المصاحف لا يعرف الناس منه شيئًا، ثم يرفع، ثم تقوم الساعة على شرار الناس، وليس منهم من يقول: اللَّه، اللَّه؛ كما في الحديث (¬2). (وما اجتمع قوم) هم الرجال فقط، أو مع النساء على ما مر فيه من الخلاف، وعلى كلا القولين فالظاهر: أن المراد هنا الثاني؛ لِمَا استقر من اشتراك الفريقين في التكليف، فيحصل لهنَّ الجزاء الآتي باجتماعهن لا بحضرة أجانب لذكرٍ أو تلاوةٍ، ويصح أن يراد الأول؛ لأن هذا الاجتماع بالهيئة الآتية في المسجد -بناء على أن ذكره في الحديث للتقييد، لكن التحقيق خلافه- لا يشرع للنساء. وحكمة التنكير هنا: إفادة حصول الثواب لكل قومٍ اجتمعوا كذلك من غير اشتراط وصفٍ خاصٍّ فيهم؛ كزهدٍ، أو صلاحٍ، أو علمٍ. (في بيت من بيوت اللَّه) (¬3) أي: مسجد، وألحق به نحو رباطٍ ومدرسةٍ؛ لإطلاق الاجتماع في حديث آخر، فيتناول سائر المواضع، وحينئذٍ فالتقييد بالمسجد للغالب سيما في ذلك الزمان، فلا يعمل بمفهومه. (يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم) (¬4) فيه فضيلة الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر في المسجد (¬5)، وهو مذهب الجمهور، ويدل له خبر "الصحيحين": ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (100)، و"مسلم" (2673) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه مسلم (148) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) في بعض النسخ زيادة فى المتن كلمة: (تعالى). (¬4) أي: حق تلاوته: بألَّا يشتمل على لحنٍ، ولا على ترك بعض أحكامه التجويدية، وبشرط ألَّا يشمل مجلسهم على نحو غيبةٍ؛ كنميمةٍ وسبٍّ ونحو ذلك، وألَّا يشتمل على ذكر الدنيا، ولا فرق بين من كان يفهم المعنى أو لا، بخلاف سائر الأذكار فإنه لا بد في حصول الثواب فيها من فهم المعنى، وسيأتي ذلك في الحديث الآتي. اهـ هامش (ج) (¬5) سئل ابن حجر رحمه اللَّه عن حلق الذكر في المسجد هل هو مكروه أم لا؟ فأجاب: بأنه لا كراهة فيه، ثم إن بعض الأحاديث دالٌّ على أن الجهر بالذكر أفضل من السر، وبعضها بالعكس، وجمع بينهما كما جمع النووي بين أحاديث الجهر والسر في القراءة بأنه إن خاف نحو رياءٍ أو تأذَّى به نحو مصلٍّ أو نائمٍ. . فالسر أفضل، وإلَّا. . فالجهر أفضل؛ لأنه يوقظ قلبه، ويجمع همه، ويصرف سمعه إليه، ويطرد نومه، ويزيد نشاطه، وينتفع به السامعون، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أجيب عنه بأن الآية مكية، وتفسير الاعتداء في: =

"إن للَّه تعالى ملائكةً يطوفون في الطُّرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون اللَّه. . تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. . . " الحديث بطوله، وفي آخره: "فيقول اللَّه تعالى لملائكته: أشهدكم أنِّي قد غفرتُ لهم، فيقول مَلَكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" (¬1). وخبر مسلم: أنه صلى اللَّه عليه وسلم خرج على حلقةٍ من أصحابه فقال: "ما يجلسكم؟ " قالوا: جلسنا نذكر اللَّه عز وجل ونحمده لما هدانا للإسلام ومنَّ علينا به، فقال: "آللَّه؛ ما أجلسكم إلا ذلك؟ " قالوا: واللَّه؛ ما أجلسنا إلا ذلك، قال: "أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم؛ إني أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن اللَّه عز وجل يباهي بكم الملائكة" (¬2). وخبر الحاكم: عن سلمان أنه كان في عصابةٍ يذكرون اللَّه تعالى، فمرَّ بهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: "ما كنتم تقولون؛ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها؟ " (¬3). وخبر البزار: "إن للَّه سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم. . حفوا بهم. . . " الحديث، وفيه: "فيقولون: ربنا؛ أتينا على عبادٍ من عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويُصلُّون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم برحمتي، فيقولون: رب؛ إن فيهم فلانًا الخطَّاء، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم برحمتي" (¬4). وخبر: "ما من قومٍ صلوا صلاة الغداة ثم قعدوا في مصلاهم يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه إلا وكَّل اللَّه تعالى بهم ملائكته يستغفرون لهم حتى يخوضوا في حديثٍ ¬

_ = {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بالجهر بالدعاء مردودٌ بأن الراجح في تفسيره المجاوزة عن المأمور به كأن سأل رتبة الأنبياء. اهـ "فتاوى ابن حجر" (1/ 176) (¬1) صحيح البخاري (6408)، وصحيح مسلم (2689) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) صحيح مسلم (2701) عن سيدنا معاوية رضي اللَّه عنه. (¬3) المستدرك (1/ 122). (¬4) ذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 80) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه، وعزاه للبزار.

غيره" (¬1) وهو وإن كان في سنده ضعفٌ يُعمَل به في الفضائل. وذكر حرب الكرماني أنه رأى أهل دمشق وحمص ومكة والبصرة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آياتٍ والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشرًا حتى يفرغوا، وقول مالك بكراهته تأوله بعض أصحابه بما إذا كانوا يقرؤونه جماعة دون ما (¬2) إذا كان كلٌّ يقرأ أو يذكر لنفسه على انفراده، وحمل الحديث عليه، وفيه بُعْدٌ؛ إذ لا اجتماع حينئذٍ؛ ففي حمل الحديث عليه استنباط معنًى من النص يعود عليه بالبطلان وهو ممتنعٌ. وفي روايةٍ: "ما جلس قومٌ يذكرون اللَّه" (¬3) وهي تعم كل ذكرٍ، خلافًا لمن زعم أن المراد هنا: ما ينصرف إلى الحمد والثناء (¬4). ويصح على بُعْدٍ حمل الحديث على تعلُّم القرآن وتعليمه، ولا خلاف في ندبه، وأخرج البخاري: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه" (¬5)، وقد كان صلى اللَّه عليه وسلم أحيانًا يأمر من يقرأ القرآن في المسجد ليسمع قراءته، وكان عمر يأمر من يقرؤه عليه وعلى أصحابه وهم يسمعون. (إلا نزلت عليهم السكينة) فعيلةٌ من السكون للمبالغة، والمراد بها هنا: الوقار والطمأنينة: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: تسكن وترضى بجميع أقضية الحق كما يأتي، لا ضد الحركة، وفي حديثٍ مرسلٍ: أنه صلى اللَّه عليه وسلم كان في مجلسٍ فرفع بصره إلى السماء ثم طأطأ بصره، ثم رفعه فسُئل عن ذلك فقال: "إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون اللَّه تعالى -يعني: أهل مجلسٍ أمامه- فنزلت عليهم ¬

_ (¬1) ذكره الديلمي في "الفردوس" (6117) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (كانوا يقرؤونه جماعة دون ما) زيادة من النسخة (غ)، وقال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: (هكذا في نسخة صحيحة). (¬3) عند ابن حبان (855) عن سيدنا أبي سعيد وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما. (¬4) قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "التبيان" (ص 45): (واعلم: أن المذهب المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، واللَّه أعلم). وقال أيضًا في "المجموع" (8/ 48): (فقراءة القرآن أفضل من الذكر إلا الذكر المأثور في مواضعه وأوقاته؛ فإن فِعْلَ المنصوص عليه حينئذٍ أفضل؛ ولهذا أمر بالذكر في الركوع والسجود، ونهي عن القراءة فيهما). (¬5) صحيح البخاري (5027) عن سيدنا عثمان رضي اللَّه عنه.

السكينة تحملها الملائكة كالقُبَّة، فلما دنت منهم. . تكلَّم رجلٌ منهم بباطلٍ فرُفعت عنهم" (¬1). ويصح إرادة هذا بالسكينة هنا، وهي في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إما ريحٌ لها وجه إنسان، أو رأسان، أو رأس هرة وجناحان وذَنَب، أو طست من ذهب، أو رَوْح من اللَّه تعالى تبين لهم ما يختلفون فيه (¬2). واختيار القاضي عياض أنها هنا الرحمة. . مردودٌ (¬3)؛ لعطفها عليها المقتضي للمغايرة في قوله: (وغشيتهم الرحمة) أي: شملتهم من كل جهةٍ لاستيعابها ذنوبهم؛ إذ الغشيان لغةً: إنما يستعمل فيما يشمل المغشي من جميع أجزائه وجوانبه، فتجوَّز به عما ذُكر مبالغةً فيه (¬4)، ومر تفسيرها بأنها إرادة التفضل والإنعام، أو الإنعام نفسه. والمراد هنا: الأثر المترتب عليه؛ إذ هو الذي يوصف بالغشيان، فهي إحسانٌ نشأ عن إحسان الذاكر بذكره، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهذا الغشيان في حالة الذكر سببٌ لتنزل تلك السكينة من اللَّه تعالى على الذاكرين، فلا ينزعجون لطارقٍ من طوارق الدنيا؛ لعلمهم بإحاطة قدرة مذكورهم له، فسكنوا واطمأنت قلوبهم بموعود الأجر؛ لقوة رجائهم بحصوله لما وُفِّقوا إلى الاشتغال باللَّه تعالى عن كل ما سواه. (وحفَّتهم الملائكة) أي: أحاطت بهم ملائكة الرحمة والبركة إلى السماء الدنيا كما في رواية "الصحيحين" (¬5)، وفي روايةٍ لأحمد: "علا بعضهم على بعضٍ حتى يبلغوا العرش" (¬6)، كل ذلك لاستماع الذكر تعظيمًا للمذكور، وإعظامًا للذاكرين على غايةٍ من القرب والملاصقة بهم بحيث لم يدَعوا للشيطان فرجةً يتوصل منها للذاكرين. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 401). (¬2) انظر تفصيل هذه الأقوال في "الدر المنثور" (1/ 757) وما بعدها. (¬3) انظر "إكمال المعلم" (8/ 195). (¬4) قوله: (فتجوَّز به) أي: الغشيان (عمَّا ذُكر) أي: عن استيعاب الذنوب، فيكون شبه استيعاب الرحمة لذنوبهم بالغشيان بجامع مطلق الإخفاء والستر، وأطلق الغشيان على الاستيعاب، واشتق من الغشيان (غشي) فيكون استعارة مصرحة تبعية. اهـ "مدابغي" (¬5) تقدم تخريجه قريبًا (ص 576). (¬6) مسند الإمام أحمد (2/ 358) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

وأخرج الخلَّال: "إن للَّه ملائكةً يسيحون بين السماء والأرض يلتمسون الذكر، فإذا سمعوا قومًا يذكرون اللَّه عز وجل. . قالوا: رويدًا، زادكم اللَّه (¬1)، فينشرون أجنحتهم حولهم حتى يصعد كلامهم إلى العرش" (¬2). (وذكرهم اللَّه) أي: أثنى عليهم أو أثبتهم؛ كـ (اذكرني في كتابك)، والأول هو المتبادر؛ قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. (فيمن عنده) من الأنبياء وكرام الملائكة؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسه. . ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ. . ذكرته في ملأ خيرٍ منهم" (¬3) فالعِندِيَّة هنا عنديةُ شرفٍ ومكانةٍ، لا عندية مكان؛ لاستحالتها عليه تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا. ونظيرُ هذا الخبرِ في إفادة أن للذاكرين هذه الأربعة خبرُ مسلمٍ أيضًا: "إن لأهل ذكر اللَّه تعالى أربعًا: تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفُّ بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده" (¬4). (ومن بطَّأ) من البطء نقيض السرعة؛ أي: من قصَّر (به عمله) حتى أخَّره عن رتب الكمال؛ لفقد بعض شروط الصحة أو الكمال منه (لم يسرع به نسبه) أي: لم يلحقه برتب أصحاب الأعمال الكاملة؛ لأن المسارعة إلى السعادة إنما هي بالأعمال لا بالأجساد، وما أحسن قول القائل (¬5): [من الطويل] وما الفخر بالعظم الرميمِ وإنَّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه وقال ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: (يأمر اللَّه تعالى بالصراط فيضرب على ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (زيدوا زادكم اللَّه). (¬2) ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم" (2/ 306) وعزاه للخلال في كتاب "السنة" مرسلًا عن خالد بن معدان رحمه اللَّه تعالى. (¬3) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن أبي الدنيا كما عزاه إليه الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور" (1/ 363 - 364) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أبي سعيد رضي اللَّه عنهما، وأما رواية مسلم عنهما (2700). . فهي: "لا يقعد قوم يذكرون اللَّه عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكنية، وذكرهم اللَّه فيمن عنده". (¬5) قوله: (وما أحسن قول القائل) زيادة من (غ).

جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، وحتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه (¬1)، فيقول: يا رب؛ لِمَ بطَّأْتَ بي؟ فيقول: إني لم أُبْطئ بك، إنما أبطأ بك عملك) (¬2). وفي "الصحيحين": لمَّا نزل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}. . قال صلى اللَّه عليه وسلم: "يا معشر قريش، يا بني عبد المطلب، يا عباس، يا صفية عمة رسول اللَّه، يا فاطمة بنت محمد؛ اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا" (¬3) وفي روايةٍ: "إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم" (¬4). وأخرج ابن أبي الدنيا: "إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسبٌ أقربَ من نسبٍ، يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون: يا محمد، يا محمد، فأقول هكذا وهكذا" وأعرض عن عطفيه (¬5)، وأخرجه البزار والحاكم وأحمد ولفظه: "إن أولى الناس بي المتقون من كانوا" (¬6)، زاد الطبراني: "إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك؛ إن أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا" (¬7). ويشهد لذلك كلِّه خبرُ "الصحيحين": "إن آل أبي فلانٍ ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي اللَّه وصالح المؤمنين" (¬8). ¬

_ (¬1) أي: يضطجع ويتمرغ على بطنه. اهـ هامش (غ) (¬2) أخرجه هنَّاد في "الزهد" (322). (¬3) أخرج البخاري (2753)، ومسلم نحوه (206) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وقد ذكره الشارح رحمه اللَّه تعالى هنا مختصرًا. (¬4) أخرج نحوه أبو يعلى (1579)، وعزاه الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور" (2/ 238) لابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء رحمه اللَّه تعالى مرسلًا. (¬5) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (897) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (وأعرض عن عطفيه) كناية عن إعراضه عنهم لقلة أعمالهم، إلا أن الرواية: (وأعرض في كلا عطفيه). (¬6) انظر "مسند الإمام أحمد" (5/ 235) عن سيدنا معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه. (¬7) المعجم الكبير (2/ 120) عن سيدنا معاذ رضي اللَّه عنه. (¬8) صحيح البخاري (5990)، وصحيح مسلم (215) عن سيدنا عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه.

فليحذر كل عاقلٍ غاية الحذر من أن يتَّكِل على شرف نسبه وفضيلة آبائه ويقصِّر في العمل؛ فإن ذلك يورثه غاية النقص والانحطاط عن معاليهم، ونهاية الحسرة والندامة على التخلف عن كمالهم، ومن ثم كان التفاخر بالآباء من أخلاق الجاهلية؛ قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}، وقال صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّه عز وجل، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّه عز وجل، كلهم بنو آدم وخلق اللَّه آدم من تراب" (¬1)، وقال: "ائتوني بأعمالكم لا تأتوني بأنسابكم". وقال لمن تعلَّم الأنساب: "علمٌ لا ينفع، وجهالةٌ لا تضر" (¬2)، وقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) (¬3). على أن في التفاخر بالآباء غاية العداوة؛ إذ كلٌّ يظهر مثالب الآخر فيؤدي إلى الهرج والفساد. (رواه مسلم بهذا اللفظ) واعتُرض عليه في سنده بما هو مردودٌ غير مقبول. وهو حديثٌ عظيمٌ جليلٌ جامعٌ لأنواع من العلوم والقواعد، والآداب والفضائل، والأحكام والفوائد، وفيه إشارات إلى أن الجزاء من جنس العمل، والنصوص في ذلك كثيرة؛ نحو: "إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء" (¬4). وأخرج الترمذي: "أيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع. . أطعمه اللَّه يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمنًا على ظمأ. . سقاه اللَّه يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمنًا على عري. . كساه اللَّه من خضْر الجنة" (¬5). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (3270) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. وعُبِّيَّة الجاهلية: تكبرها وفخرها. (¬2) ذكره الديلمي في "الفردوس" (6968) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬3) أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (3202)، والبخاري في "الأدب المفرد" (72)، وانظر ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "فتح الباري" (6/ 527). (¬4) أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923) عن سيدنا أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما. (¬5) سنن الترمذي (2449) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه.

الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف الله تعالى بعباده وفضله عليهم]

الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا. . كَتبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا. . كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافِ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا. . كَتبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا. . كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً" (¬1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا" بِهَذِهِ الْحُرُوفِ (¬2)، فَانْظُرْ يَا أَخِي وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إِلَى عَظِيمِ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الأَلْفَاظَ، وَقَوْلُهُ: "عِنْدهُ" إِشَارَةٌ إِلَى الاعْتِنَاءِ بِهَا، وَقَوْلُهُ: "كَامِلَةً" لِلتَّأْكِيدِ وَشِدَّةِ الاعْتِنَاءِ بِهَا، وَقَالَ فِي السَّيِّئَةِ الَّتِي هَمَّ بِهَا ثُمَّ تَرَكَهَا: "كَتَبَهَا اللَّهُ حَسَنَةً كَامِلَةً" (¬3) فَأَكَّدَهَا بِـ (كَامِلَةً) وَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، فَأَكَّدَ تَقْلِيلَهَا بِـ (وَاحِدَةً) وَلَمْ يُؤَكِّدْهَا بِـ (كَامِلَةً) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، سُبْحَانَهُ لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. (عن ابن عباس رضي اللَّه) تعالى (عنهما، عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه) (¬4) ظاهره أنه من الأحاديث القدسية، وأن اللَّه سبحانه وتعالى تكلَّم ¬

_ (¬1) ما أُثبت هنا هو الموجود في نسخ متن "الأربعين" وفي "البخاري"، و"مسلم"، والذي عند الشارح كما سننبه عليه في مكانه (ص 588): (كُتِبتْ سيئة واحدة). (¬2) صحيح البخاري (6491)، وصحيح مسلم (131). (¬3) في هامش نسخة من نسخ المتن: (كتبها اللَّه عنده) وأشار لها بنسخة. (¬4) في نسخ المتن: (فيما يروي عن ربه).

بجميع ما فيه، قيل: وليس المراد ذلك، إنما المراد: فيما يحكيه عن فضل ربه، أو حكمه، أو نحو ذلك. اهـ والجزمُ بذلك النفي فيه نظر؛ لأن كلا الأمرين محتملٌ، بل الأول أقرب إلى السياق وإلى الاصطلاح الذي قدمناه من قول المصنف في الحديث السابق: (فيما يرويه عن ربه) (¬1) ثم رأيت في بعض طرق هذا الحديث في "الصحيحين" ما هو صريحٌ في الأول، وهو: "يقول اللَّه عز وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً. . فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها. . فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي. . فاكتبوها له حسنةً، وإن أراد أن يعمل حسنةً فلم يعملها. . فاكتبوها له حسنةً، وإن عملها. . فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإذا تحدَّث بأن يعمل سيئةً. . فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها. . فأنا أكتبها له بمثلها" (¬2). (تبارك) أي: تعاظم (وتعالى) أي: تنزَّه عن كل ما لا يليق بعلياء كماله الأقدس (¬3). (قال: إن اللَّه تعالى كتب الحسنات والسيئات) (¬4) أي: أمر الحفظة بكتابتهما، أو كتبهما في علمه على وفق الواقع منهما، أو قدر مبالغ تضعيفهما. (ثم بيَّن) أي: اللَّه تعالى، وجَعْلُ الضمير له صلى اللَّه عليه وسلم مبنيٌّ على ما مر أن المراد بـ (عن ربه): عن حكمه أو فضله، ومرَّ بما فيه. (ذلك) للكتبة من الملائكة حتى عرفوه واستغنوا به عن أن يستفسروا في كل وقتٍ كيف يكتبونه؛ لأنه تعالى شرع لهم ما يعملون بحسبه، وبالغ في رحمة هذه الأمة حيث أخلف عليها قصر أعمارها بتضعيف أعمالها. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 432) في شرح الحديث الرابع والعشرين. (¬2) انظر "صحيح البخاري" (7501)، و"صحيح مسلم" (129) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (تبارك) تفاعل فعل ماض مطاوع (بارك) فلا يتصرف، فلا يجيء منه مضارع ولا اسم فاعل ولا اسم مصدر، ومعناه: تعاظم وتقدس، وهو جامع لأنواع الخير ومخصوص بالباري كـ (سبحان) فيحرم استعماله في غيره، ولا يكفر به. وفي بعض النسخ: (عز وجل) بدل (تبارك وتعالى) اهـ "مدابغي" (¬4) قال في "الفتح" (11/ 324): (يحتمل أن يكون هذا من كلام اللَّه، فيكون التقدير: قال اللَّه تعالى: "إن اللَّه كتب. . . " ويحتمل أنه من كلام النبي صلى اللَّه عليه وسلم يحكيه عن اللَّه).

(فمن هم بحسنة) أي: أرادها وترجَّح عنده فعلها، فعُلم منه بالأولى حكم العزم، وهو الجزم بفعلها والتصميم عليه (فلم يعملها. . كتبها اللَّه عنده) هذه عِنْدِيَّة شرفٍ ومكانةٍ؛ لتنزهه تعالى عن عندية المكان (حسنةً) لأن الهمَّ بالحسنة سببٌ إلى عملها، وسبب الخير خيرٌ، فالهمُّ بها خيرٌ، وفي رواية لمسلم: "إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنة. . فأنا أكتبها له حسنة" (¬1)، وظاهرٌ أن المراد بالتحدث: الهمُّ، ويؤيده الخبر الآخر: "من هم بحسنةٍ فلم يعملها، فعلم اللَّه تعالى أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها. . كتبت له حسنة" (¬2)، فالحرص عليها مستلزمٌ للعزم الذي هو ترجيح الوقوع كما مر، ومخرج للخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزمٍ ولا تصميم. واستفيد من ذكر الحسنة هنا والمضاعفة فيما يأتي: اختصاص المضاعفة بمن عمل دون مَنْ نوى، فهما في الأصل سواءٌ وإن اختص العامل بالتضعيف (¬3)، وعلى هذا يحمل حديث أحمد والترمذي وابن ماجه: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللَّه تعالى مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم للَّه فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، فيقول: لو أن لي مالًا. . لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه اللَّه تعالى مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علمٍ، لا يتقي فيه ربه تعالى، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم للَّه حقًا فيه، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا. . لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء" (¬4). (كاملة) ذكره؛ لئلا يظن أن كونها مجردَ همٍّ ينقص ثوابها (وإن هم بها فعملها. . كتبها اللَّه عنده عشر حسنات) لأنه أخرجها من الهم إلى ديوان العمل، فكُتِب له بالهَمِّ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (129). (¬2) أخرجه الإمام أحمد (4/ 345) عن سيدنا خريم بن فاتك رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (وإن اختص العامل بالتضيف) ولو مرَّ عليه أزمنة متعددة وهو يحدث نفسه بعمل تلك الحسنة. . فإن اللَّه تعالى يكتب له حسنات بعدد تلك الأزمنة. اهـ "شبرخيتي" (ص 274) (¬4) مسند الإمام أحمد (4/ 231)، وسنن الترمذي (2325)، وسنن ابن ماجه (4228) عن سيدنا أبي كبشة الأنماري رضي اللَّه عنه.

حسنة، ثم ضُوعفت فصارت عشرًا، وهذا التضعيف ملازمٌ لكل حسنةٍ؛ كما دلَّ عليه قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ثم ضُوعفت لمن يشاء اللَّه تعالى، واللَّه يضاعف لمن يشاء مضاعفةً أخرى (إلى سبع مئة ضعف) على حسب ما قد اقترن بها من إخلاص النية وإيقاعها في محالِّها التي هي بها أَولى وأَحرى. قال بعضهم: وحكمة ذلك (¬1): أن العرب كانوا ينتهون في التكثير من عدد الآحاد إلى سبعة، حتى إذا أتوا بالثمانية. . عطفوها بـ (الواو) (¬2) إشارة إلى الخروج من عدد القلة إلى عدد الكثرة؛ كما في قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآيةَ عطف فيها: {وَالنَّاهُونَ} بـ (الواو) لمجاوزته السبعة، وكذا في: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وفي: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لأنها ثمانية. فإذا ضربت السبعة في عشرة، ثم الحاصل -وهو سبعون- في عشرة كانت سبع مئة، وفي رواية في "الصحيحين" أيضًا بعد: "إلى سبع مئة ضعفٍ": "إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به" (¬3) وفيه دليلٌ على أن الصوم لا يَعلم قدرَ مضاعفة ثوابه إلا اللَّه تعالى؛ لأنه أفضل أنواع الصبر، وإنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب. (إلى أضعافٍ كثيرة) قيل: يعلم منه أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} أي: بعد سبع مئة ضعف. اهـ وفيه نظر؛ لأنه يلزم عليه أن التضعيف للسبع مئة واقعٌ لكل أحدٍ، فينافي: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} إلا أن يقال: إن التضعيف للسبع مئة تفضُّل ثانٍ بعد التفضل الأول بالتضعيف إلى عشرة، نظير ما قيل في خبر: "صلاة الجماعة تعدل صلاة الفذِّ بخمسٍ وعشرين" وفي روايةٍ: "بسبعٍ وعشرين" (¬4). ثم رأيت المصنف جزم بما ذكرته أولًا: (أن التضعيف لعشرةٍ لا بد منه بفضل اللَّه ¬

_ (¬1) قوله: (وحكمة ذلك) أي: تخصيص هذا العدد؛ أعني سبع مئة. وفي نسخ عديدة: (وحكمة ذكره). (¬2) وقد سماها بعضهم واو الثمانية. (¬3) صحيح البخاري (1904)، وصحيح مسلم (1151/ 164) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه، واللفظ لمسلم، وقد تقدم نحوه (ص 407). (¬4) تقدم تخريج الحديث (ص 411).

تعالى ورحمته ووعده الذي لا يخلفه، والتضعيف لسبع مئة فأكثر إنما يحصل لبعض الناس على حسب مشيئته سبحانه وتعالى) (¬1). قال بعضهم: و (كثيرة) هذه وإن كانت نكرةً إلا أنها أشمل من المعرفة، فيقتضي هذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يمكن. وبيانه: أن من تصدَّق بحبة برٍّ مثلًا فحسب له في فضل اللَّه تعالى أنه لو بذرها في أزكى أرضٍ مع غاية الرِّي والتعهُّد، ثم حصدت وبذر حاصلها في أزكى أرض كذلك. . . وهكذا إلى يوم القيامة. . جاءت تلك الحبة كأمثال الجبال الرواسي، وكذا يقال في مثقال ذرة من نقد، فيقدر أنه اشترى بها أربح شيءٍ وبيع في أنفق سوقٍ، وهكذا إلى يوم القيامة. . جاءت تلك الذرة بقدر الدنيا، وهكذا جميع أعمال البِرِّ (¬2). ومن الفضل: المضاعفةُ بالتحويل؛ كمن تصدَّق على فقيرٍ بدرهم، فتصدَّق به الفقير على ثانٍ، وهو على ثالث، وهو على رابع. . . وهكذا، فيحسب للأول عن درهمه عشرة، وله مثل أجر الثاني؛ لأن من سنَّ سنةً حسنة. . فله أجرها وأجر من يعمل بها، وأجر الثاني عشرة، فكان للأول مثلها وهي عشرة دراهم، وكل درهمٍ بعشرة؛ فيكون له مئة، فإذا تصدَّق به الثاني. . صار له مئة (¬3)؛ لِمَا تقرَّر في الأول، وصارت مئة الأول ألفًا بنظير ما تقرر أيضًا (¬4)، فإذا تصدَّق به الثالث. . صار له مئة، وللثاني ألفٌ، وللأول عشرة آلاف، فإذا تصدَّق به الرابع. . صار له مئة، وللثالث ألفٌ، وللثاني عشرة آلاف، وللأول مئة ألفٍ. . . وهكذا إلى ما لا يعلم قدره إلا اللَّه تعالى. ومن الفضل أيضًا: أنه تعالى إذا حاسب مَنْ له حسنات متفاوتة المقادير. . جازاه ¬

_ (¬1) انظر "شرح صحيح مسلم" (17/ 12). (¬2) في (ط) و (غ): (أنواع البر). (¬3) أي: بعد تصدق الثالث به كما يدل عليه قوله: (لما تقرر في الأول) وإلا. . فهو مشكلٌ، ومثله ما بعده في الثالث والرابع. اهـ "مدابغي" (¬4) أي: المئة التي صارت إليه الآن عند تصدق الثالث، لا المئة السابقة، وهكذا، واللَّه تعالى أعلم. اهـ هامش (غ)

بسعرِ أرفعِها؛ كـ (لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . إلخ) إذا قيلت في سوقٍ مع رفع الصوت. . فإن فيها ألف ألف حسنة، ومحْوَ ألف ألف سيئة مع بناء بيت في الجنة لقائلها كما ورد، فإذا كانت في حسنات عبدٍ. . جُوزي على سائر حسناته بسعرها؛ كما قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهذا بحسب مقدار معرفتنا، وإلَّا. . ففضله تعالى لا يمكن أحدًا أن يحصره. اهـ وأخرج ابن حبان في "صحيحه": لمَّا نزل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} الآيةَ. . قال صلى اللَّه عليه وسلم: "رَبِّ؛ زد أمتي" فنزل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} فقال: "رَبِّ؛ زد أمتي" فنزل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). وأحمد: "إن اللَّه ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" ثم تلا أبو هريرة راويه: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال: إذا قال: {أَجْرًا عَظِيمًا}. . فمن يقدر قدره؟! (¬2) وابن أبي حاتم: "من أرسل نفقةً في سبيل اللَّه وأقام في بيته. . فله بكل درهمٍ سبع مئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل اللَّه. . فله بكل درهمٍ سبعة آلاف درهم" (¬3). وأبو داوود: "إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل اللَّه بسبع مئة ضعف" (¬4). والترمذي: "من دخل السوق فقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير. . كتب اللَّه له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة" وفي سنده ضعف (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح ابن حبان (4648) عن سيدنا ابن عمر رضي عنهما. (¬2) مسند الإمام أحمد (2/ 521). (¬3) تفسير ابن أبي حاتم (2730) عن سيدنا عمران بن الحصين رضي اللَّه عنهما. (¬4) سنن أبي داوود (2498) عن سيدنا معاذ رضي اللَّه عنه. (¬5) سنن الترمذي (3428) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

وفي حديثٍ ضعيفٍ أيضًا: "من قال: سبحان اللَّه وبحمده. . كُتب له مئة ألف حسنة، وأربعة وعشرون ألف حسنة" (¬1). (وإن هم بسيئةٍ فلم يعملها) بأن ترك فعلها أو التلفظ بها لوجهه تعالى كما في الرواية التي قدمتها، لا لنحو حياءٍ أو خوفِ ذي شوكة أو عجزٍ أو رياءٍ (¬2)، بل قيل: يأثم حينئذ؛ لأن تقديم خوف المخلوق على خوف اللَّه تعالى محرمٌ، وكذلك الرياء، وذكر جماعةٌ أن من سعى في معصيةٍ ما أمكنه، ثم حال بينه وبينها قَدَرٌ. . كُتبت عليه. (كتبها اللَّه عنده حسنه) لأن رجوعه عن العزم عليها خيرٌ أيُّ خير، فجوزي في مقابلته بحسنة، وأكدت بقوله: (كاملة) إشارة إلى نظير ما مر في (كاملة) في الهم بالحسنة، لا يقال: نظير ما مر ثَمَّ من أن الهم بالحسنة يكتب فيه حسنة أن يكون الهم بالسيئة يكتب فيه سيئة؛ لأن الهم بالشر من أعمال القلوب؛ لأنا نقول: قد تقرر أن الكف عنها خيرٌ أيُّ خير، وهو متأخرٌ عن ذلك الهم، فكان ناسخًا له: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. وقد جاء في الحديث: "إنما تركها مِن جَرَّايَ" أي: من أجلي (¬3)، وفي حديث البخاري "على كل مسلمٍ صدقة" قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: "فليمسك عن الشر؛ فإنه صدقة" (¬4). (وإن هم بها فعملها. . كتبت سيئة واحدة) (¬5) زاد أحمد: "ولم تضاعف عليه" (¬6) ويدل له: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/ 334) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) قوله: (لا لنحو حياءٍ. . . إلخ) كأن يذهب إلى امرأةٍ ليزني بها فيجد الباب مغلقًا ويتعسر عليه فتحه فلا تكتب له حسنة، ومثله من يتمكن من الزنا فلم ينتشر، أو طرقه من يخاف أذاه، وأشار بقوله: (أو عجزٍ) إلى أن التارك لا يسمى تاركًا إلا مع القدرة على الفعل، فلو تركها لواحدةٍ مما ذكر. . لم تكتب له حسنة، والحاصل: أنه إن ترك السيئة امتثالًا. . كُتبت له حسنة، وإلَّا. . فلا. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه مسلم (129) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (من جراي) قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "شرح مسلم" (2/ 148): (هو بفتح الجيم وتشديد الراء، وبالمد والقصر لغتان). (¬4) صحيح البخاري (6022) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬5) هكذا في النسخ، ولفظه في نسخ المتن وفي "البخاري"، و"مسلم": "وإن هم بها فعملها. . كتبها اللَّه سيئة واحدة". (¬6) مسند الإمام أحمد (4/ 345) عن سيدنا خريم بن فاتك رضي اللَّه عنه.

نعم؛ قد تعظم بنحو شرف زمانٍ أو مكانٍ؛ قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في الأشهر الحرم، قال قتادة: الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا، وسبقه إلى ذلك ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (¬1). وفي حديثين ضعيفين: أن السيئة تضاعف في رمضان (¬2)، وقال مجاهد: (تضاعف السيئة بمكة كما تضاعف الحسنة)، وقال ابن جريج: (بلغني أن الخطيئة بها بمئة خطيئة في غيرها) (¬3)، وقيل لأحمد: في شيءٍ من الحديث أن السيئة تكتب بأكثر من واحدة؟ قال: (لا، ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد) (¬4)، وكذا قال إسحاق. وينبغي حمل المضاعفة هنا على عظم جرم السيئة ومزيد العذاب عليها (¬5)؛ حتى لا ينافي هذا حديثَ أحمد السابق: "ولم تضاعف عليه" وحديثَ الباب، وقولَه تعالى: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}. نعم؛ يدل على المضاعفة: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} إلا أن تحمل المضاعفة هنا على ما ذكرته (¬6)، وبه يعلم أن السيئة تعظم أيضًا بشرف فاعلها وقوة معرفته باللَّه تعالى وقربه منه؛ فإن من عصى السلطان على بساطه أعظم جرمًا ممن عصاه على بعد. ثم قوله: (وإن هم. . . إلخ) فيه دليلٌ على أن العزم لا يكتب معها، لكن مفهوم الحديث الآتي خلافه، واعتمده قاضي القضاة التقي ابن رزين من أئمتنا، فإنه أفتى بأن ¬

_ (¬1) انظر "الدر المنثور" (4/ 186 - 187). ونقل ذلك عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما حيث قال: (ما لي وبلد تضاعف فيها السيئات كما تضاعف فيها الحسنات) اهـ "مدابغي" (¬2) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 317). (¬3) انظر هذه الأقوال في "جامع العلوم والحكم" (2/ 318). (¬4) انظر "فتح الباري" (11/ 329). (¬5) هو المعتمد، يعني: أن هذا محمولٌ على زيادة عذاب السيئة في الكيف، لا في الكمِّ، واللَّه أعلم. اهـ هامش (غ) (¬6) قوله: (بفاحشة مبينة) أي: ظاهر قبحها، وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما: (هي النشوز وسوء الخلق وإيلام قلبه الشريف)، وقوله: (على ما ذكرته) أي: من عظم جرم السيئة، أو لأنه ورد تعظيمًا لحق المصطفى صلى اللَّه عليه وسلم؛ لأن وقوع ذلك من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة وهو أذاه صلى اللَّه عليه وسلم. اهـ "مدابغي"

من عزم عليها ففعلها ولم يتب منها. . أُوخذ بعزمه؛ لأنه إصرارٌ، وتناقض فيه كلام السبكي، ورجَّح ولده ما يوافق كلام ابن رزين. وبيان ذلك: أن السبكي قال في "حلبياته" ما حاصله: (ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس؛ وهو ما يلقى فيها، ثم جريانه فيها، وهو الخاطر، ثم حديث النفس؛ وهو ما يقع فيها من التردد: هل يفعل أو لا؟ ثم الهم؛ وهو ترجيح قصد الفعل، ثم العزم، وهو قوة ذلك القصد والجزم به (¬1). فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعًا؛ لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيءٌ طرقه قهرًا عليه، وما بعده من الخاطر وحديث النفس وإن قدر على دفعهما لكنهما مرفوعان بالحديث الصحيح، أي: وهو قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تتكلم به -أي: في المعاصي القولية- أو تعمل" (¬2) أي: في المعاصي الفعلية؛ لأن حديثها إذا ارتفع. . فما قبله أَولى، وهذه المراتب الثلاث لا أجر فيها في الحسنات أيضًا؛ لعدم القصد. وأما الهم. . فقد بيَّن الحديث الصحيح أنه بالحسنة يكتب حسنة، وبالسيئة لا يكتب سيئة، ثم ينظر؛ فإن تركها للَّه تعالى. . كتبت حسنة، وإن فعلها. . كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه: أنه يكتب عليه الفعل وحده، وهو معنى قوله: "واحدة" وأن الهم مرفوعٌ، ومن هذا يُعلم أن قوله في حديث النفس: "ما لم تتكلم أو تعمل به" ليس له مفهوم حتى يقال: إنها إذا تكلمت أو عملت. . يكتب عليها حديث النفس؛ لأنه إذا كان الهم لا يكتب؛ أي: كما استفيد من قوله: "واحدة" فحديث النفس أولى) اهـ ¬

_ (¬1) قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: وقد نظمت حاصل ما ذكر فقلت: (من البسيط) مراتب القصدِ خمسٌ: هاجس ذكروا ... فخاطر، فحديث النفس، فاستمعا يليه همٌّ، فعزمٌ كلها رُفعتْ ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا (¬2) أخرجه أبو يعلى (639)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1114) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

والأصح الذي ذكره خالفه في "شرح المنهاج" فقال: إنه ظهر له المؤاخذة من إطلاق قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "أو تعمل" ولم يقل: أو تعمله، قال: فيؤخذ منه تحريم المشي إلى معصيةٍ وإن كان المشي في نفسه مباحًا؛ لانضمام قصد الحرام إليه وإن كان كلٌّ من المشي والقصد لا يحرم عند انفراده؛ لأنهما إذا اجتمعا. . كان مع الهم عملًا لما هو من أسباب المهموم به، فاقتضى إطلاق: "أو تعمل" المؤاخذة به. وتبعه ولده؛ فإنه قال في "منع الموانع": هنا دقيقةٌ نبهنا عليها في "جمع الجوامع" وهي أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهم ليس مطلقًا، بل بشرط عدم التكلم والعمل، حتى إذا عمل. . يؤاخذ بشيئين: همه وعمله، ولا يكون همه مغفورًا وحديث نفسه إلا إذا لم يعقبه العمل؛ كما هو ظاهر الحديث. ثم حكى كلامَيْ أبيه السابقين (¬1)، ورجح المؤاخذة، وخالفه غيره فرجح عدمها، قال: وإلَّا. . لزم أن يعاقب على المعصية عقوبتين، وفيه نظر، ولا يلزم عليه ذلك؛ لأن الهم حينئذٍ صار معصيةً أخرى. ثم قال في "الحلبيات": (وأما العزم. . فالمحققون على أنه يؤاخذ به، وخالف بعضهم -أي: ونسب إلى الشافعي وابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهم- وقال: إنه من الهم المرفوع تمسكًا بقول اللغويين: همَّ بالشيء عزم عليه). وهو تمسكٌ غير سديد؛ لأن اللغوي لا يتنزل إلى هذه الدقائق، واحتج الأولون بحديث (¬2): "إذا التقى المسلمان بسيفيهما. . فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول اللَّه؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" (¬3) فعلَّل بالحرص. وبالإجماع على المؤاخذة بأعمال القلوب (¬4)؛ كالحسد، والكبر، والعجب، ¬

_ (¬1) أي: الذي في "شرح المنهاج"، والذي في "الحلبيات" اهـ هامش (غ) (¬2) أي: المحققون القائلون بأن العزم يؤاخذ به. (¬3) أخرجه البخاري (31)، ومسلم (2888) عن سيدنا أبي بكرة رضي اللَّه عنه. (¬4) قوله: (وبالإجماع) عطف على قوله: (واحتج الأولون بحديث)، ومثله قوله. (وبقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ} الآيةَ) اهـ هامش (غ)

تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وهم بها}]

ومحبة ما يبغضه اللَّه تعالى وعكسه ونحو ذلك؛ أي: وعليه حمل ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (¬1): {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أي: كعامة السلف من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، كما قاله القاضي عياض. وبقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} الآيةَ على تفسير الإلحاد بالمعصية. قال: ثم إن التوبة واجبةٌ فورًا، ومن ضرورتها العزم على عدم العود، فمتى عزم عليه قبل أن يتوب منها. . فذلك مضادٌّ للتوبة فيؤاخذ به بلا إشكال، وهو الذي قاله ابن رزين. ثم قال في آخر جوابه: والعزم على الكبيرة وإن كان سيئة فهو دون الكبيرة المعزوم عليها، ولا ينافي ما تقرر ما روي عن الحسن في الحسد، وسفيان في سوء الظن بالمسلم أنه إذا لم يصحبه قولٌ أو فعلٌ. . فهو معفوٌ (¬2)؛ لأن ذلك محمولٌ على ما يجده الشخص من نفسه بالجِبلة مع كراهته له ودفعه عن نفسه ما أمكنه. وأغفل السبكي قولًا ثالثًا، وهو أنه يؤاخذ بالهم بالمعصية في حرم مكة دون غيرها، وروي عن ابن مسعود من قوله موقوفًا مرةً ومرفوعًا أخرى، قيل: والموقوف أصح، ونقله بعض أصحاب أحمد عنه. تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}] لم يقع من يوسف صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم همٌّ بمعصيةٍ على ما قاله ابن أبي حاتم ومن وافقه، ومعنى الآية عندهم: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أي: لولا رؤية البرهان. . لهَمَّ، لكنه لم يَهُمَّ؛ لأنه رآه، وعلى المشهور في الآية: فالهمُّ الواقع منه بمعنى حديث النفس المغفور. ¬

_ (¬1) أي: على العزم والتصميم. اهـ هامش (ج) (¬2) في بعض النسخ: (فهو مغفورٌ).

(رواه البخاري ومسلم [في "صحيحيهما"] بهذه الحروف) (¬1) وفي رواية لمسلم بعد (واحدة): "ومحاها اللَّه، ولا يهلك على اللَّه إلا هالك" (¬2) أي: لا يهلك بعد هذا الفضل العظيم بتلك المضاعفة وبذلك التجاوز إلا من ألقى بيده إلى التهلكة، وتجرَّأ على السيئات، وأعرض عن الحسنات؛ ولهذا قال ابن مسعود: (ويلٌ لمن غلبت وَحَداته عشراته) وجاء مرفوعًا: "هلك من غلب واحده عشرًا" (¬3). وأخرج أحمد: "لا يدع أحدكم أن يعمل للَّه ألف حسنة حين يصبح، يقول: سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة؛ فإنها ألف حسنة، فإنه لن يعمل إن شاء اللَّه مثل ذلك في يومه من الذنوب ويكون ما عمل من خيرٍ سوى ذلك وافرًا" (¬4). ثم هذا الحديث حديثٌ شريفٌ عظيمٌ، جامعٌ لأصناف الخير ومقادير الحسنات والسيئات، بيَّن فيه صلى اللَّه عليه وسلم عن ربه ما تفضَّل اللَّه تعالى به على عبيده بما سبق تقريره، وفيه تصحيحٌ للقول بأن الحفظة تكتب ما يَهُمُّ العبد به من حسنةٍ أو سيئة، وأنهم يعلمون منه ذلك، وردٌّ على من زعم أنهم إنما يكتبون ما ظهر من عملٍ أو قولٍ، واستدلوا له بشيءٍ رُوي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها. والصواب: ما صح عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنهم يكتبون الهم، واطلاعهم عليه إما بإلهامٍ أو بكشفٍ عن القلب وما يحدث فيه، كما يقع لبعض الأولياء، أو بريحٍ يظهر لهم من القلب (¬5). (فانظر) من النظر بمعنى إعمال الفكر، ومزيد التدبر والتأمل. (يا أخي) نداءُ تعطُّفٍ وشفقة؛ ليكون أدعى إلى الامتثال والقبول؛ قال اللَّه تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقط من نسخ الشرح، وهو مثبت من نسخ المتن. (¬2) صحيح مسلم (131/ 208) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 328). (¬4) مسند الإمام أحمد (5/ 199) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه. (¬5) قوله: (أو بريح يظهر لهم من القلب) فريح الحسنة طيبةٌ، وريح السيئة خبيثةٌ تمتاز بها، ويظهر أن الريح مختلف الأنواع، وأن لكل معصية ريحًا خبيثة تمتاز بها وكذلك الحسنات. اهـ "مدابغي"

(وفقنا اللَّه) أي: أقدرنا اللَّه تعالى على الطاعة بخلق قدرتها فينا (وإياك) بدأ بنفسه عملًا بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "ابدأ بنفسك" (¬1) ثم أدرج معه من هو كنفسه من أحبابه وأصدقائه، فالنون للجمع، أو للعظمة مشيرة إلى تعظيم ما أنعم اللَّه تعالى به عليه، لا لعظمة نفسه من حيث هي. (إلى عظيم لطف) أي: رفق (اللَّه تعالى) بعبيده حيث أعظم التفضل عليهم بأن جعل الهم بالحسنة وإن لم تعمل حسنةً كاملة، وبالسيئة إذا تركت كذلك، وإلَّا. . فواحدة، والحسنة إذا عملت عشرًا إلى ما لا قدرة لمخلوقٍ على حصره؛ كما مر. (وتأمل هذه الألفاظ) النبوية الصادرة من ينبوع الحكمة، ومادة الحياة الأبدية. (و) من جملة ما ينبغي تأمله: (قوله) في الحسنة: كتبها اللَّه (عنده) فإنه (إشارة إلى) مزيد (الاعتناء بها) لما مر أنها عندية شرفٍ ومكانةٍ. (و) من جملة ذلك أيضًا: (قوله) في الأول: حسنة (كاملة) فإنه (للتأكيد) ردًا لما يتوهم مما مر (وشدة الاعتناء بها، وقال في السيئة التي همَّ بها ثم تركها: كتبها اللَّه حسنة كاملة، فأكدها بكاملة) ردًا لنظير ما مر. (و) قال: (إن عملها. . كتبها اللَّه سيئةً واحدةً، فأكَّد تقليلها بواحدة، ولم يؤكدها بكاملة) إشارة إلى مزيد العناية بعبيده، والإنعام عليهم بغايات التفضُّل ونهايات الرفق والمسامحة، وإلى أن مقام الفضل أوسع من مقام العدل؛ كما دلَّ عليه قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إن اللَّه تعالى كتب كتابًا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" (¬2)، "ولا يهلك على اللَّه إلا هالكٌ" أي: أن من سمع بهذا الفضل العظيم منه تعالى لعباده، ثم جبن عن متاجرته أو شحَّ عن الإنفاق في سبيله. . فإنه هالكٌ غير معذور، أو المراد: لا يعاقب مع هذه المسامحة العظيمة إلا مفرطٌ غاية التفريط. (فلله) دون غيره (الحمد) على هذا الفضل العظيم (والمنَّة) أي: النعمة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (997) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البخاري (3194)، ومسلم (2751) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

الثقيلة بما منحه لعبيده من آثار ذلك الفضل العظيم، وحباهم به من عدم معاملتهم بظاهر العدل. (سبحانه) أي: أُنزهه -بمعنى أعتقد تنزيهه- عن كل وصفٍ لا يليق بعلياء كماله الأعظم (لا نحصي) معشر الخلق (ثناءً عليه) في مقابلة نعمةٍ واحدةٍ من نعمه؛ لما يقترن بها من النعم التي لا تُحصى (¬1)، والألطاف التي لا تستقصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} وإذا عجزنا عن إحصاء نعمه. . فنحن عن الثناء عليها أعجز. (وباللَّه) تعالى لا بغيره (التوفيق) إلى مرضاته، وفهم حكمه وأسراره، وإدامة الثناء عليه بما هو أهله، ومن ثم ورد في: "يا ربنا؛ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك" ما معناه: أن اللَّه تعالى يقول للملائكة: دعوا لي كتابة هذا؛ فإنكم تعجزون عن إحصاء ما يقابلها (¬2). * * * ¬

_ (¬1) في (غ): (لما تقرر من النعم التي. . .)، وسقطت كلمة: (بها) من أكثر النسخ. (¬2) أخرجه ابن ماجه (3801) عن سيدنا ابن عمر رضي اللَّه عنهما.

الحديث الثامن والثلاثون [محبة الله لأوليائه وبيان طريق الولاية]

الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا. . فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ. . كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيَ بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي. . لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي. . لأُعِيذَنَّهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). (عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن اللَّه تعالى قال) علم به أن هذا من الأحاديث القدسية، ومر الكلام عليها مستوفى فراجعه (¬2). (من عادى) من المعاداة ضد الموالاة، والعدو ضد الولي، والأنثى عدوة، وهو من النوادر؛ إذ فعول بمعنى فاعل لا تلحقه تاء؛ لاستواء المذكر والمؤنث فيه كصبور، وجمعه: عُدى بضم أوله وكسره، وعُداة بالضم لا غير. وفي رواية: "من أهان" (¬3) (لي) متعلق بقوله: (وليًا) وهو: مَنْ تولَّى اللَّهَ بالطاعة والتقوى فتولاه اللَّهُ بالحفظ والنصرة، من الوَلْي؛ وهو القرب والدنو. فالولي هنا: القريب من اللَّه تعالى؛ لتقربه إليه باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6502). (¬2) انظر (ص 432). (¬3) عند الطبراني في "الكبير" (8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه.

والإكثار من نوافل العبادات، مع كونه لا يفتر عن ذكره، ولا يرى بقلبه غيره؛ لاستغراقه في نور معرفته، فلا يرى إلا دلائل قدرته، ولا يسمع إلا آياته، ولا ينطق إلا بالثناء عليه، ولا يتحرك إلا في طاعته، وهذا هو المتقي؛ قال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ}. (فقد آذنته بالحرب) أي: أعلمته بأني محاربٌ له، ونظيره: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، ويقرب منه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيةَ، ومَنْ حاربه اللَّه تعالى -أي: عامله معاملة المحارب من التجلي عليه بمظاهر القهر والجلال والعدل والانتقام-. . لا يفلح أبدًا، وهذا من التهديد في الغاية القصوى؛ إذ غاية تلك المحاربة الإهلاك، فهي من المجاز البليغ (¬1)، وكأن المعْنيَّ فيه: ما اشتملت عليه تلك المعاداة من المعاندة للَّه بكراهة محبوبه. ومن ثم لما وقع ذلك لإبليس حين أبى عن السجود المأمور به لآدم. . أهلكه اللَّه هلاكًا لا شفاء له أبدًا، وفي ذلك إنذارٌ إلى كل من عادى وليًا له بأنه محاربه، فإذا أخذه على غرةٍ. . كان ذلك بعد الإعذار بتقديم الإنذار. وفي رواية بدل هذا: "فقد استحلَّ محارمي" (¬2)، وفي أخرى: "فقد استحلَّ محاربتي" (¬3)، وفي أخرى: "فقد بارزني بالمحاربة" (¬4)، وفي أخرى: "فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه. . يوشك أن يأخذه" والكلام فيمن عادى وليًا من أجل ولايته وقربه من اللَّه تعالى، لا مطلقًا، فلا تدخل منازعته في محاكمةٍ أو خصومةٍ راجعةٍ لاستخراج حقٍّ أو كشف غامضٍ؛ لجريان نوعٍ ما من الخصومة بين أبي بكر وعمر، وعلي والعباس، وكثير من الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم، مع أن الكل أولياء اللَّه تعالى. ¬

_ (¬1) فاندفع به الاعتراض بأن المحاربة مفاعلة من الجانبين مع أن المخلوق في أسر الخالق، فكيف يحارب خالقه؟! وحاصل الجواب أمران: الأول: أن تلك المحاربة مجازية، فالمراد: المعاملة معاملة الحرب. الثاني: أن المراد بها: غايتها؛ وهو الإهلاك، فاطلق الحرب وأراد به لازمه مجازًا أيضًا، فهو على الأول من الاستعارة التمثيلية، وعلى الثاني مجاز مرسل. اهـ هامش (غ) (¬2) عند القضاعي في "مسند الشهاب" (1457) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) عند الإمام أحمد (6/ 256) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬4) عند القضاعي في "مسند الشهاب" (1456) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

تنبيه [اقتراف المعصية محاربة لله عز وجل]

ومعنى معاداته من أجل ولايته: إيذاء من ظهرت عليه أمارات الولاية من قيامه بحقوق اللَّه تعالى وحقوق عباده؛ إما بإنكارها عنادًا أو حسدًا، أو بعدم الجري على ما ينبغي له من التأدب معه، أو بنحو سبِّه أو شتمه أو نحو ذلك من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعًا مع علم متعاطيها بذلك، وإذا علم ما في معاداة الولي من عظيم الوعيد والتهديد. . علم ما في موالاته من جسيم الثواب وباهر التوفيق والهداية والقرب والتأييد. تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل] جميع المعاصي محاربة للَّه عز وجل، ومن ثم قال الحسن: (يا بن آدم؛ هل لك بمحاربة اللَّه من طاقة؛ فإن من عصى اللَّه. . فقد حاربه؟!) (¬1). ولكن كلما كان الذنب أقبح. . كان أشد محاربة للَّه تعالى؛ ولهذا سُمي أكَلة الربا وقطَّاع الطريق محاربين للَّه ورسوله؛ لعظم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده. (وما تقرب إليَّ عبدي) (¬2) في الإضافة ما يأتي (بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه) أي: من أدائه عينًا كان أو كفايةً؛ كالصلاة، وأداء الحقوق إلى أربابها، وبر الوالدين، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحِرَف والصنائع، وغير ذلك من سائر المفروضات؛ لأن الأمر بها جازمٌ، فيتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النوافل، فلذلك كانت الفرائض أكملَ وأحبَّ إلى اللَّه تعالى وأشدَّ تقريبًا، وروي: أن ثواب الفرض يعدل ثواب النفل بسبعين درجة. وبالجملة: فالفرض كالأساس، والنفل كالبناء على ذلك الأساس. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 134). (¬2) قوله: (وما تقرب إليَّ) بتشديد الياء؛ أي: طلب القرب مني، من (التقرب) وهو طلب القرب من غير تخلل معصية، قال الإمام القشيري رحمه اللَّه: قرب العبد من ربه يقع أولًا بإيمانه، ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجود لطف امتنانه، ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده عن الخلق. اهـ "شبرخيتي" (ص 278)

وفي رواية بدل هذا: "ابن آدم؛ لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك" (¬1)، وفي أخرى زيادة: "وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفُّه عنه؛ لا يدخله عجبٌ فيفسده" (¬2). (ولا يزال عبدي) (¬3) الإضافة فيه هنا للتشريف المُؤْذِن بمزيد رفعته وتأهيله إلى المقام الآتي. (يتقرب) وفي رواية: "يتحبب" (¬4)، وفي أخرى: "يتنفل" (¬5) (إليَّ بالنوافل) أي: التطوعات من جميع أصناف العبادات؛ ظاهرها: كتلاوة القرآن؛ إذ هو من أعظم ما يتقرب به، ومن ثم روى الترمذي: "ما تقرب العباد إلى اللَّه تعالى بمثل ما خرج منه" (¬6) يعني: القرآن. وقال عثمان رضي اللَّه تعالى عنه: (لو طهرت قلوبكم. . ما شبعتم من كلام ربكم) (¬7). وقال بعض العارفين لمريد: (أتحفظ القرآن؟ قال: لا، فقال: واغوثاه باللَّه! مريدٌ لا يحفظ القرآن؟! فبم يتنعم؟! فبم يترنم؟! فبم يناجي ربه عز وجل؟!) (¬8). وكالذكر (¬9)؛ أخرج البزار عن معاذ: قلت: أخبرني يا رسول اللَّه بأفضل الأعمال وأقربها إلى اللَّه عز وجل، قال: "أن تموت ولسانك رطبٌ بذكر اللَّه" (¬10). وكفى بشرفه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وصح: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه ¬

_ (¬1) عند الطبراني في "الكبير" (8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه. (¬2) عند أبي نعيم في "الحلية" (8/ 318) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬3) في نسخ المتن: (وما زال) وكذا في "صحيح البخاري". (¬4) عند الطبراني في "الكبير" (8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه. (¬5) عند ابن أبي الدنيا في "الأولياء" (1)، وأبي نعيم في "الحلية" (8/ 318) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬6) سنن الترمذي (2911) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه. (¬7) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (7/ 300). (¬8) ذكره أبو نعيم في "الحلية" (10/ 224). (¬9) معطوف على قوله قبل قليل: (كتلاوة القرآن). (¬10) أخرجه ابن حبان (818)، والطبراني في "الكبير" (20/ 93)، وعزاه الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 77) للبزار بإسناد حسن.

حيث يذكرني" (¬1)، وفي رواية: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" (¬2). وباطنها (¬3): كالزهد، والورع، والتوكل، والرضا (¬4)، وغيرها من سائر أحوال العارفين، سيما محبة أولياء اللَّه تعالى وأحبابه فيه، ومعاداة أعدائه فيه. وأخرج أبو داوود: "إن للَّه تعالى لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من اللَّه تعالى" قالوا: يا رسول اللَّه؛ من هم؟ قال: "هم قومٌ تحابوا بروح اللَّه على غير أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطَونها، فواللَّه؛ إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم تلا هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬5). وأخرج أحمد: "لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب للَّه، ويبغض للَّه، فإذا أحب للَّه، وأبغض للَّه. . فقد استحقَّ الولاية من اللَّه تعالى" (¬6). (حتى أحبه) بضم أوله وفتح ثالثه (¬7)، فعلم أن إدامة النوافل -بعد أداء الفرائض؛ إذ قبل أدائها لا يعتد بالنوافل كما يشير إليه تأخير هذه وتقديم تلك- تفضي إلى محبة اللَّه تعالى للعبد، وصيرورته من جملة أوليائه الذين يحبهم ويحبونه كما هو معلومٌ من الشاهد؛ فإن من داوم خدمة سلطان ومهاداته. . أحبَّه وقرَّبه. ويؤخذ من سياق الحديث أن الولي إما متقربٌ بالفرائض؛ بألَّا يترك واجبًا ولا يفعل محرمًا، أو بها مع النوافل، وهذا أكمل وأفضل، ولهذا خُصَّ بالمحبة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن ماجه (3792)، والإمام أحمد (2/ 540) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) قوله: (وباطنها) معطوف على قوله قبل قليل: (ظاهرها كتلاوة القرآن). (¬4) قوله: (كالزهد والورع والتوكل والرضا) قال ملا علي القاري رحمه اللَّه تعالى: ولقد أغرب (حج) -أي: الشارح رحمه اللَّه تعالى- حيث عدَّ التوكل والرضا من التطوعات الباطنة، وغفل عن كلام الأكابر من الأئمة: أنهما من الفرائض العينية المتعينة على كل أحدٍ من سالكي الطريق الأخروية. اهـ "مدابغي" (¬5) سنن أبي داوود (3527) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه. (¬6) مسند الإمام أحمد (3/ 430) عن سيدنا عمرو بن الجموح رضي اللَّه عنه. (¬7) قوله: (وفتح ثالثه) فيه مسامحةٌ من وجهين: الأول: تعبيره بالفتح مع أن الكلام في الإعراب؛ فالمناسب النصب، والثاني: تعبيره بالثالث مع أن الباء المفتوحة رابعةُ الحروف؛ لأن الحرف المشدد بحرفين. اهـ "مدابغي"

السابقة والصيرورة الآتية، وأنه لا طريق إلى اللَّه تعالى وولايته ومحبته سوى طاعته التي جاء بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وما عداها باطلٌ. ومر في شرح (الحادي والثلاثين) بسط الكلام على معنى محبة اللَّه لخلقه ومحبتهم له (¬1). (فإذا أحببته) لتقربه إليَّ بما ذكر حتى امتلأ قلبه من نور معرفتي، وأشرقت عليه أنوار ولايتي (كنت) أي: صرت حينئذٍ (سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش) بفتح أوله وكسر ثالثه أو ضمه (بها) ومنه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. (ورجله التي يمشي بها) وفي رواية: "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلَّم به" (¬2)، وفي أخرى: "ومن أحببته. . كنت له سمعًا وبصرًا، ويدًا ومؤيدًا، دعاني فأجبته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحت له، وإن من عبادي مَنْ لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته. . لأفسده ذلك" وذكر مثل ذلك في الفقر والصحة والسقم وقال: "إني أُدبِّر عبادي؛ لعلمي بما في قلوبهم، إني عليمُ خبيرٌ" (¬3). ثم قيل: المراد بهذه الصيرورة: لازمها من حفظ هذه المذكورات عن أن تستعمل في معصية، أو المراد بسمعه: مسموعه؛ أي: لا يسمع إلا ذكري، ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي، ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي الدالة على وجودي وصفاتي، ولا يبطش ولا يمشي إلا لما فيه رضاي (¬4). والتحقيق: أنه مجازٌ وكنايةٌ عن نصرة اللَّه تعالى لعبده المتقرب إليه بما ذكر، وتأييده وإعانته، وتولِّيه في جميع أموره حتى كأنه تعالى نزل نفسه من عبده منزلة الآلات والجوارح التي بها يدرك ويستعين، ولهذا جاء في رواية أخرى: "فبي ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 508 - 509). (¬2) أخرجه أبو يعلى (7087) عن أم المؤمنين سيدتنا ميمونة رضي اللَّه عنها بنحوه. (¬3) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الأولياء" (1)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 318) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬4) ذكر العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى تفصيل المراد بسمعه وبصره في "الفتوحات الوهبية" (ص 289).

يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" (¬1) أي: أنا الذي أقدرته على هذه الأفعال وخلقتها فيه، فأنا الفاعل لذلك، لا أنه يخلق أفعال نفسه؛ أي: سواء الجزئيات والكليات، خلافًا لما زعمته المعتزلة من خلقه للجزئيات، وهذا الحديث يرد عليهم. وزَعْمُ الاتحاديةِ والحلولية بقاء هذا الكلام على حقيقته، وأنه تعالى عَيْنُ عبده أو حالٌّ فيه. . ضلالٌ وكفرٌ إجماعًا، فاحذرهم؛ فإنهم ربما لبَّسوا على ضعفاء العقول فاستهووهم وأضلوهم؛ لتَزَيِّيهم بزي الصوفية، والصوفية بريئون منهم، فقاتلهم اللَّه أنى يؤفكون. نعم؛ ربما ظن مَنْ لا معرفة له باصطلاحهم من بعض عباراتهم ذلك، وهو فهمٌ باطلٌ عليهم، حاشاهم اللَّه تعالى من ذلك، وطهر أسرارهم من أن تزل بها قدم المحبة في سائر المسالك (¬2). وحاصل ما تقرر: أن من اجتهد بالتقرب إلى اللَّه تعالى بالفرائض ثم بالنوافل. . قرَّبه اللَّه تعالى إليه ورقَّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد اللَّه تعالى على الحضور والشوق إليه حتى يصير ما في قلبه من المعرفة مشاهدًا له بعين البصيرة فكأنه يراه، فحينئذٍ يمتلئ قلبه بمعرفته، ومحبته، وعظمته، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، ثم لا تزال محبته تتزايد حتى لا يبقى في قلبه غيرها، فلا تستطيع جوارحه أن تعبث إلا بموافقة ما في قلبه (¬3)، وهذا هو الذي يقال فيه: لا يبقى في قلبه إلا اللَّه تعالى؛ أي: معرفته ومحبته وذكره. وفي الخبر الإسرائيلي المشهور: "ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن" (¬4)، وإلى هذا أشار صلى اللَّه عليه وسلم لمَّا قدم المدينة فقال: "أحبوا اللَّه من كل قلوبكم" رواه ابن إسحاق. ¬

_ (¬1) ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (1/ 71) في الأصل الحادي والخمسين، وانظر "فتح الباري" (11/ 344). (¬2) في بعض النسخ: (أن تزل بها قدم المحنة. . .). (¬3) قوله: (أن تعبث) أي تتحرك. وفي نسخ: (تنبعث). (¬4) انظر "فيض القدير" (2/ 496). وقوله: (وفي الخبر الإسرائيلي) قال الشارح في "فتاويه": وهو باطل من وضع الملاحدة -كما قاله الزركشي- وذكرُ الصوفية له يريدون أن قلبه يسع الإيمان به ومحبته وذكره. اهـ "مدابغي".

وعند امتلاء القلب بمعرفته تعالى ينمحي منه كل ما سواه، فلا ينطق إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق. . نطق باللَّه (¬1)، وإن سمع. . سمع به، وإن نظر. . نظر به، وإن بطش. . بطش به، ومن هنا قال علي كرم اللَّه وجهه: (إنا كنا لنرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره بالخطيئة) (¬2) وهذا هو التوحيد الأكمل؛ إذ مَنْ تحقَّق به. . لم يبقَ فيه محبةٌ لغير اللَّه تعالى بوجهٍ، وفي الحديث: "من أصبح وهمه غير اللَّه. . فليس من اللَّه"! (¬3) أي: لا حظَّ له في قربه ومحبته ورضاه. (ولئن سألني. . لأعطينه) (¬4) كما وقع لكثيرٍ من السلف وغيرهم، وقد استوفى كثيرًا منهم بعضُ الشراح فلا نطيل بذكرهم (¬5). (ولئن استعاذني) بالنون أو الباء الموحدة (¬6) (لأعيذنه) أي: مما يخاف، وهذا حال الحبيب مع محبوبه، وفي روايةٍ زيادة: "وإذا استنصرني. . نصرته" (¬7)، وفي هذا الوعد المحقق المؤكد بالقسم إيذانٌ بأن من تقرَّب بما مر. . لا يُردُّ دعاؤه، وبأن الكُمَّل يطلب منهم الدعاء كغيرهم، خلافًا لمن زعم أن الأَولى تركه رضًا بما سبق من اختيار الحق، وكفاه ردًا عليه نصوص الكتاب والسنة بطلب الدعاء ومزيد فضله والحث عليه، وهي كثيرةٌ شهيرةٌ، وقد سأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام العافية والرزق والولد. ولِمَا فيه من إظهار الذِّلة والافتقار إلى اللَّه تعالى وكونه صلى اللَّه عليه وسلم لم يأمر أحدًا بتركه، وإنما الذي، أمر به الصبر، وهو لا ينافي الدعاء، فقد دعا أيوب -صلى اللَّه على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلَّم- بكشف ضره مع قوله تعالى في حقه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. ¬

_ (¬1) أي: بما يرضي اللَّه، ومثله يقال فيما بعده. اهـ هامش (ج). (¬2) أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" (711)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 110). (¬3) أخرجه الحاكم (4/ 320). (¬4) في نسخ المتن: (وإن سألني. . أعطيته)، وما أُثبت من نسخ الشرح موافقٌ لما في "البخاري" لكن في "البخاري": (وإن). (¬5) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 348) وما بعدها. (¬6) أي: استعاذ بي. (¬7) عند الطبراني في "الكبير" (8/ 221) عن سيدنا أبي أمامة رضي اللَّه عنه.

وكان كثيرٌ من السلف مجابَ الدعوة، ومع ذلك صبروا على البلاء، منهم سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه، لما عمي. . قيل له: لو دعوت اللَّه تعالى؟ فقال: (قضاء اللَّه تعالى أحبُّ إليَّ من بصري) (¬1). وقيل لمن ابتُلي بالجذام وهو يعرف الاسم الأعظم: لو دعوت اللَّه تعالى؟ فقال: هو الذي ابتلاني، وأنا اكره أن أُرادِدَه، وقيل ذلك لإبراهيم التيمي وهو في سجن الحجاج، فقال: أكره أن أدعوه أن يفرج عنِّي ما لي فيه أجر، وصبر سعيد بن جبير على أذى الحجاج حتى قتله، مع أنه كان مجاب الدعوة (¬2). وقد لا يُجاب الولي إلى سؤاله؛ لعلم اللَّه تعالى أن الخير له في غيره، مع تعويضه له خيرًا منه؛ إما في الدنيا، أو الآخرة (¬3)، ومر خبر: "إن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفه عنه؛ لا يدخله عجبٌ فيفسده" (¬4). (رواه البخاري) لكن بزيادة بعد (لأعيذنه): "وما ترددتُ عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا اكره مساءته" (¬5) والتكلم في بعض رواته غيرُ مقبولٍ، ورُوي من وجوهٍ أُخَر سبقت الإشارة إليها، لكن لا تخلو كلها من مقال. نعم؛ له طريقٌ إسنادها جيدٌ، لكنه غريبٌ جدًّا، وهي أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "إن اللَّه تعالى أوحى إليَّ: يا أخا المرسلين، ويا أخا المنذرين؛ أنذر قومك ألَّا يدخلوا بيتًا من بيوتي ولأحدٍ عندهم مظلمة؛ فإني ألعنه ما دام قائمًا بين يديَّ يصلي حتى يؤدي تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي ¬

_ (¬1) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 354). (¬2) قوله: (مع أنه كان مجاب الدعوة) فقد دعا على الحجاج عند قتله بقوله: اللهم، لا تسلطه على أحدٍ غيري، فمات بعد قتله بنحو سبعة عشر يومًا. اهـ "مدابغي". (¬3) قوله: (وقد لا يجاب الولي إلى سؤاله) هذا جواب سؤالٍ مقدر يَرِد على قوله في الحديث الشريف: "ولئن سألني. . لأعطينه" وعبارة غيره: وقد استشكل بأن جماعةً من العبَّاد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب: إن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب؛ حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة، أو أصلح منها. اهـ "مدابغي" (¬4) تقدم تخريجه (ص 599). (¬5) صحح البخاري (6502) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة" (¬1). قال ابن الصلاح: وليس المراد بالتردد هنا حقيقته المعروفة منا، بل أنه يفعل به كفعل المتردد الكاره؛ أي: فهو لمحبته له يكره مساءته بالموت؛ لأنه أعظم آلام الدنيا إلا على قليلين وإن كان لا بد له منه كما في رواية؛ لما سبق من محتوم قضائه وقدره: أن كل نفسٍ ذائقة الموت (¬2)، وفيه إشعار بأنه لا يفعل به ذلك مريدًا إهانته، بل رفعتَه؛ إذ هو طريقٌ إلى انتقاله إلى دار الكرامة والنعيم. وهذا الحديث أصلٌ في السلوك إلى اللَّه تعالى والوصول إلى محبته ومعرفته وطريقه؛ إذ المفروضات إما باطنٌ كالإيمان، أو ظاهرٌ كالإسلام، أو مركبٌ منهما وهو الإحسان فيهما كما مر، والإحسان هو المتضمن لمقامات السالكين؛ كالتوكل، والزهد، والإخلاص، والتوبة، والمراقبة، ونحوها، وهو كثيرٌ، فقد جمع هذا الحديث الحقيقة والشريعة. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 116) عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنهما. (¬2) في (غ): (إذ كل نفسٍ).

الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" حدِيثٌ حسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمَا (¬1). (عن ابن عباس رضي اللَّه) تعالى (عنهما: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: إن اللَّه تجاوز) من (جازه) إذا تعدَّاه وعَبَر عليه، وهو هنا بمعنى: ترك، أو رفع (لي) أي: لأجلي (عن أمتي الخطأ) يحتمل عن حكمه، أو عن إثمه، أو عنهما جميعًا، وهذا هو الأشبه؛ إذ لا مرجح لأحدهما، فأُبْقي الحديث على تناولهما، وتخصيصه بالثاني يحتاج لدليلٍ كما يأتي، ولا ينافي ما قلناه ضمانُ نحو المخطئ للأموال والديات، ووجوب الإعادة على مَنْ صلَّى محدثًا أو بنجسٍ مثلًا ناسيًا، وإثم المكره على القتل؛ لأن ذلك خرج عن حكم هذا الحديث بدليلٍ آخر منفصل، فأُبْقي على تناوله للأمرين -فيما عدا ما خرج لدليل- هنا. والمراد بالخطأ هنا: ضد العمد؛ وهو: أن يقصِد بفعله شيئًا فيصادف غير ما قصد، لا ضد الصواب، خلافًا لمن زعمه؛ لأن تعمُّد المعصية يسمَّى خطأً بالمعنى الثاني، وهو غير ممكن الإرادة هنا (¬2). ولفظه يمد ويقصر، ويطلق على الذنب أيضًا من (خطئ وأخطأ) بمعنًى على ¬

_ (¬1) سنن ابن ماجه (2045)، وسنن البيهقي الكبرى (7/ 356). (¬2) قوله: (لأن تعمد المعصية) أي: الإتيان بها عمدًا (يسمى خطأً بالمعنى الثاني) وهو ضد الصواب (وهو غير ممكن الإرادة هنا) لأنه لا تجاوز عنه ولا صفح. اهـ "مدابغي".

ما قاله أبو عبيد (¬1)، وقال غيره: المخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطئ: من تعمد ما لا ينبغي، وفي رواية: "إن اللَّه تجاوز لأمتي عن الخطأ" (¬2) وهي أظهر؛ إذ لا يحتاج فيها إلى تضمين (تجاوز) لغيره بخلاف الأُولى كما تقرر. (والنسيان) بكسر النون، وهو ضد الذُّكر والحفظ، وقد يطلق على الترك من حيث هو (¬3)، ومنه: {نَسُوْا اللَّه فَنَسِيَهُمْ}، {وَلَا تَنسَوْا الْفَضِلَ بَيْنَكُمْ}. (وما استكرهوا عليه) من (أكرهته على كذا) إذا حملتَهُ عليه قهرًا، والكره -بالضم-: المشقة، وبالفتح: الإكراه، وقال الكسائي: هما لغتان. (حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما) كابن حبان في "صحيحه" والدارقطني بإسنادٍ صحيح (¬4)، بل كل رجاله يحتج بهم في "الصحيحين"، ومن ثم قال الحاكم: صحيح على شرطهما (¬5)، لكن أُعلَّ بالإرسال، وممَّن أنكر وصله أحمد وأبو حاتم الرازي، بل قال: وصْلُه موضوعٌ، وحكى البيهقي عن محمد بن نصر المروزي أنه قال: ليس لهذا الحديث إسنادٌ يحتج به. وكل ذلك مردودٌ؛ للقاعدة المشهورة: أنه إذا تعارض وصلٌ وإرسالٌ. . فالحكم للأول؛ لأن مع صاحبه زيادة علم، وعلى التنزل فقد روي مرفوعًا من وجوهٍ أخر يفيد مجموعها أنه حسن، فلذا قال المصنف: إنه حسن. وهو عامُّ النفع؛ لوقوع الثلاثة في سائر أبواب الفقه، عظيم الوقع، يصلح أن يسمى نصف الشريعة؛ لأن فعل الإنسان الشامل لقوله إما أن يصدر عن قصدٍ واختيارٍ ¬

_ (¬1) هو الإمام العلامة أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، صاحب الإمام الأزهري رحمهما اللَّه تعالى، وذكر هذا الكلام في كتابه "الغريبين في القرآن والحديث" (2/ 567)، وهو متوفى سنة (401 هـ). وهو غير القاسم بن سلام الهروي الإمام اللغوي صاحب "غريب الحديث" فإنه توفي سنة (224 هـ) رحمه اللَّه تعالى. (¬2) أخرجها الطبراني في "الكبير" (11/ 108 - 109) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬3) النسيان والخطأ على قسمين: قسم لا يمكن التحرز عنه، وهو مرفوعٌ ومعفوٌ عنه، وهو ما لم يستند إلى تقصيرٍ من المكلف؛ كما إذا لم ير على ثوبه نجاسةً فصلى معه، وقسم يستند إلى تقصيره ومباشرته الأسباب المؤدية إليه؛ مثل ترك التحفظ عنه والإعراض عن أسباب التذكر، فإنه لا يكون معذورًا ومعفوًا عنه؛ كمن ترك دراسة القرآن وتكراره حتى نسيه، فإنه يكون مقصرًا وملومًا. (زاده من خط محمد طاهر بخط محمد علي الجوخي) اهـ هامش (غ) (¬4) صحيح ابن حبان (7219)، وسنن الدارقطني (4/ 170) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬5) المستدرك (2/ 198) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما.

وهو العمد مع الذكر اختيارًا، أو لا عن قصدٍ واختيارٍ وهو الخطأ أو النسيان، أو الإكراه، وقد علم من هذا الحديث صريحًا: أن هذا القسم معفوٌّ عنه، ومفهومًا: أن الأولى مؤاخذٌ به، فهو نصف الشريعة باعتبار منطوقه، وكلها باعتباره مع مفهومه، ثم العفو عن ذلك هو مقتضى الحكمة والنظر، مع أنه تعالى لو واخَذَ بها. . لكان عادلًا، وذلك لأن فائدة التكليف وغايته: تمييزُ الطائع من العاصي {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، وكلٌّ من الطاعة والمعصية يستدعي قصدًا ليرتبط به ثوابٌ أو عقابٌ، وهؤلاء الثلاثة لا قصد لهم، أما الأولان. . فظاهرٌ، وأما الثالث. . فلأن القصد لمُكرهه لا له؛ إذ هو كالآلة، ومن ثم ذهب أكثر الأصوليين إلى عدم تكليفهم. فعلم أن في هذا الحديث دليلًا لأظهر قولي الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: إن الناسي للمحلوف عليه ولو بطلاقٍ أو عتاقٍ والجاهل به لا يحنثان، لكن لا تنحل اليمين على الأصح (¬1)؛ لأنا إذا لم نُحَنِّثْهُ. . لم نجعل يمينه متناولةً لما وجد؛ إذ لو تناولته. . لحنث، كما لو قال: لا أفعله جاهلًا ولا ناسيًا، وقال مالك: يحنثان؛ لأن المرفوع إنما هو إثم الخطأ والنسيان لا ذاتهما، وهو تقديرٌ يحتاج لدليل، وأن من تكلَّم في صلاته كلامًا قليلًا ناسيًا، أو أكل ولو كثيرًا في صومه، أو جامع فيه أو في نسكه. . لا شيء عليه، والفرق: أن الصلاة لها هيئةٌ مُذكِّرةٌ دون الصوم، فكان الإكثار مع النسيان عذرًا فيه دونها. وفيه دليلٌ لما عليه جمهور العلماء: أن جميع أقوال المكرَه لغوٌ لا يترتب عليها مقتضاها، سواء العقود والفسوخ وغيرها، والأصح عندنا كالجمهور: أن المكره لا يحنث أيضًا، واستدل له الشافعي فقال: قال اللَّه جل ثناؤه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. وللكفر أحكامٌ، فلما وضع اللَّه تعالى الإثم. . سقطت أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس. . سقط ما هو الأصغر منه، ثم استدل بهذا ¬

_ (¬1) أي: لأنها إنما تنحل بفعل المحلوف عليه، والمفعول مع النسيان والجهل ليس محلوفًا عليه؛ كما قاله الشارح. اهـ "مدابغي".

الحديث، وأسند عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" (¬1) أي: إكراه، وهو مذهب عمر وابنه وابن الزبير رضي اللَّه تعالى عنهم، وتزوج ثابت بن الأحنف أم ولدٍ لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فأكره بالسياط والتخويف على طلاقها في خلافة ابن الزبير، فقال له ابن عمر: (لم تَطْلُقْ عليك، ارجع إلى أهلك) وكان ابن الزبير بمكة، وكتب له إلى عامله على المدينة -وهو جابر بن الأسود- أن يردَّ إليه زوجته، وأن يعاقب عبد الرحمن مولاها المذكور، فجهزتها له صفية زوجة عبد اللَّه بن عمر، وحضر عبد اللَّه عرسه (¬2). وقال أبو حنيفة ومالك رضي اللَّه عنهما: يحنث المكره (¬3)؛ لأن صورة المحلوف عليه قد وجدت، والكفارة لا تسقط بالأعذار، أَلَا ترى أنه يلزمه أن يحنث نفسه ومع ذلك تلزمه الكفارة؟! وجوابه: أن التعليل بوجود صورة المحلوف عليه لم يقم عليه دليلٌ، بل قام الدليل على أنه يخص منه وجودها مع خطأ أو نسيان أو إكراه، وكون الكفارة لا تسقط بالأعذار لا ينافي ما ذكرناه؛ لأن من لزمه الحنث له مندوحةٌ عنه من غير أذًى بدنيٍّ يلحقه (¬4)، فلم يسمَّ مكرهًا حتى يرتفع عنه وجوبها، بخلاف المكره. ويدل لما ذكرناه أنه لو حلف مكرهًا. . لا تنعقد يمينه، فكذا إذا فعل المحلوف عليه مكرهًا، فقد أثر الإكراه في أحد سببي وجوب الكفارة، ومر أن الإكراه لو قارن كلمة الكفر. . لم يتعلق بها حكمها، فكذا إذا قارن سبب الكفارة، وما نقل عن مالكٍ رضي اللَّه عنه قد ينافيه ما حكي عنه أنه ضُرِب سبعين سوطًا على أن يفتي بانعقاد يمين ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2046)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 357). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 587)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 358). (¬3) المعتمد في مذهب مالك: أن المكره على الطلاق لا يقع عليه طلاق، واستدل بهذا الحديث، وبخبر: "لا طلاق في إغلاق" أي: إكراه، فيكون مذهبه موافقًا لمذهبنا في ذلك، ولعل ما نقله عنه الشارح هنا وجه ضعيف عنده، فتأمل. اهـ هامش (ج). (¬4) قوله: (مندوحة) وهي ألَّا يدخل نفسه في الحلف من أصله، ومع ذلك لا يلحقه ضررٌ أصلًا؛ كمن حلف لا يصلي الظهر مثلًا؛ فإنه يجب عليه الصلاة ومع ذلك يحنث، مع أنه كان له مندوحة، وهي ألَّا يدخل نفسه في هذا اليمين. اهـ هامش (ج).

فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة"]

المكره فلم يفعل (¬1)، إلا أن يجاب بأنه يرى أن الإكراه يؤثر في الانعقاد دون الحنث، وهو ما يدل عليه كلام بعضهم. واعلم: أنهم أجمعوا على أن مَنْ أُكره على الكفر. . لزمه الإتيان بالمعاريض وبما يوهم أنه كفرٌ ما لم يُكره على التصريح بخصوصه، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقدٍ لما يقوله، ولو صبر حتى قتل. . كان أفضل. قال بعض أئمتنا: ولا يتصور الإكراه على الجماع؛ لأنه متعلقٌ بالشهوة، والأصح: تصوُّره؛ لأنها عند مشاهدة أسبابها قهريةٌ على الإنسان. ولا يباح القتل بالإكراه إجماعًا وكذا الزنا، وما عداهما من المعاصي يباح به. نعم؛ المكره الذي لا اختيار له بالكلية كمن حُمل كرهًا وضرب به غيره حتى مات، أو ربطت فزُني بها ولا قدرة لهما على الامتناع بوجهٍ. . لا يأثمان إجماعًا. وكذا لا يحنث عند جمهور العلماء من حُمل كرهًا وأدخل محلًّا حلف لا يدخله، ولا يعارض ما مر خبرُ: "لا تشركوا باللَّه شيئًا وإن قُطِّعتم وحُرِّقتم" (¬2)؛ لأن المرادَ: النهيُ عن الشرك بالقلب، والكلام في الإكراه بغير حقٍّ، أما به. . فهو غير مانعٍ من لزوم ما أكره عليه، ومن ثم لو أكره حربيٌّ على الإسلام. . صحَّ إسلامه. فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة"] لما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}. . شقَّ ذلك على الصحابة، فجاء جماعة منهم للنبي صلى اللَّه عليه وسلم وقالوا: كُلِّفنا من العمل ما لا نطيق؛ إن أحدنا ليحدِّث نفسه بما لايحب أن يثبت في قلبه وأن له الدنيا، فقال لهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا" فقالوا ذلك، فلما دارت بها ¬

_ (¬1) قوله: (وما نقل. . . إلخ) هذا السؤال، والجواب مبنيٌّ على غير المشهور من مذهب مالك، وإلا. . فالمشهور منه: أنه لا يتعلق به حكم لا في الانعقاد ولا في الحنث إلا في صيغة الحنث؛ نحو: (لأفعلن كذا) فلا بد من فعله؛ حتى لو أكره على عدم الفعل. . حنث. اهـ "مدابغي" (¬2) أخرجه ابن ماجه (4034) عن سيدنا أبي الدرداء رضي اللَّه عنه بنحوه.

فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

ألسنتهم واطمأنت إليها نفوسهم. . أنزل اللَّه تعالى بعد عام الفرَجَ والرحمةَ بقوله جلَّ ثناؤه نسخًا لتلك: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} إلى آخر السورة، فلما قالوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. . قال: قد فعلت (¬1)، وكذا في كل مما بعدها إلى: {مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، ومر عن بعضهم أنه لا يؤمَّن عند هذه الثلاث؛ لأن اللَّه تعالى قال: قد فعلت، بل عند قوله: {وَاغْفِرْ لَنَا} إلى آخر السورة، والأصح: أنه يؤمَّن. فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية] زعم الشيعة وغيرهم -قبَّحهم اللَّه- أن مبايعة عليٍّ أبا بكر رضي اللَّه تعالى عنهما إنما كانت تَقِيَّةً، واستدلوا على جواز التَّقِيَّة بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطمَئِنُّ بِالْإِيمَانِ}، وقوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوْا مِنهُمْ تُقَاةً} وقرئ: {تَقِيَّةً}، وبحديث: أنه صلى اللَّه عليه وسلم استأذن عليه رجلٌ فقال: "بئس أخو العشيرة" فلما دخل. . ألَانَ له القول، وضحك إليه، فسُئل عن ذلك فقال: "إن شر الناس مَنْ أكرمه الناس اتقاء شره" (¬2). وجوابه: أنه لا مبالاة بإثبات التَّقِيَّة في غير محل النزاع، وإنما كره العلماء لفظها (¬3)؛ لكونها من مستندات الشيعة، وإلَّا. . فالعالَم مطبقون على استعمالها، وبعضهم يسميها مداراةً، وبعضهم مصانعةً، وبعضهم عقلًا معيشيًا، وعليها أدلة الشرع السابقة وغيرها، وإنما النزاع في إثباتها لعلي وحاشاه اللَّه منها، كما بينتُ ذلك وبسطتُ الكلام عليه في مواضع عديدةٍ في كتابي "الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين والضلال والابتداع والزندقة" فانظر ذلك منه؛ فإنه مهمٌّ، وقد صرَّح جمعٌ من أكابر أهل البيت بنفيها عن علي رضي اللَّه تعالى عنه وكرم اللَّه وجهه؛ كما بينته ثَم وأطلتُ الكلام فيه أيضًا. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 98) في شرح المقدمة. (¬2) أخرجه البخاري (6032)، ومسلم (2591) عن أم المؤمين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) قوله: (كره العلماء) أي: ترك وبغض، وليس المراد أن التلفظ بها مكروه. اهـ هامش (ج).

الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة] عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: "كُنْ فِي الْدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ. . فَلَا تَنْتَظِرِ الْصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ. . فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمن حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). (عن ابن عمر رضي اللَّه) تعالى (عنهما قال: أخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمنكبي) هو بفتح الميم وكسر الكاف: مجمع العضد والكتف، ويروى بالإفراد والتثنية، وفيه: مسُّ المعلم أو الواعظ بعضَ أعضاء المتعلم أو الموعوظ عند التعلم أو الوعظ، ونظيره: قول ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: (علمني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم التشهد كفِّي بين كفيه) (¬2). وحكمة ذلك: ما فيه من التأنيس والتنبيه والتذكير؛ إذ محالٌ عادةً أن ينسى مَنْ فُعِلَ معه ذلك ما يقال له معه، وهذا لا يفعل غالبًا إلا مع من يميل إليه الفاعل، ففيه دليلٌ على محبته صلى اللَّه عليه وسلم لهما. (فقال: كلن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) (¬3) زاد الترمذي: "وعدَّ نفسك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (6416). (¬2) أخرجه البخاري (6265)، ومسلم (402/ 59). (¬3) قوله: (كن في الدنيا) على حذف مضافين؛ أي: مدة إقامتك في الدنيا، وقوله: (كأنك غريب) في محل نصب خبر (كن) أي: كن مشبهًا بالغريب، قوله: (أو عابر سبيل) معطوف على (غريب) عطف خاصٍّ على عامٍّ، و (أو) فيه ليست للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن كما قاله الطيبي: أن تكون بمعنى (بل) وفيها معنى الترقي؛ لأن الغريب؛ أي: الذي قد أقام قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل؛ فإنه من شأنه ألَّا =

من أهل القبور" (¬1)، وأحمد والنسائي أولَهُ: "اعبد اللَّه كأنك تراه، وكن في الدنيا. . . " إلى آخره (¬2). ثم هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذها وطنًا ومسكنًا، بل ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح سفر؛ يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم عليهم الصلاة والسلام. وفيه: الابتداءُ بالنصيحة، والإرشادُ لمن لم يطلب ذلك، وحرصُه صلى اللَّه عليه وسلم على أصل الخير لأمته؛ لأن هذا لا يخص ابن عمر، بل يعم جميع الأمة، والحضُّ على ترك الدنيا والزهد فيها، وألَّا يأخذ منها إلا مقدار الضرورة المعينة على الآخرة؛ إذ الغريب المقيم ببلد الغربة متوحشٌ لا يجد من يستأنس به، ولا مقصد له إلا الخروج عن غربته إلى وطنه من غير أن ينافس أحدًا في مجلسٍ أو غيره، أو يتأثر بنحو لبسه لغير لائقٍ به. وكذلك عابر السبيل -أي: المار على الطريق، وهو المسافر- إذ لا أرب له إلا فيما يُبَلِّغه إلى وطنه واجتماعه بأهله، فلا يتخذ في بعض المراحل نحو دارٍ ولا بستانٍ؛ لعلمه بقلَّة إقامته، وأنه لو أمكنه الطيران. . فَعَلَه ولا يُعرِّج على غير سبب الوصول، فمن ثَمَّ أوصى صلى اللَّه عليه وسلم ابن عمر أن يكون على أحد هذين الحالين؛ يُنَزِّل نفسه منزلةَ غريبٍ، فلا يعلِّق قلبه ببلد الغربة، بل بوطنه الذي يرجع إليه؛ إذ إقامته إنما هي لبعض مؤنة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، أو منزلةَ مسافر ليله ونهاره إلى مقصده، فلا همة له إلا في تحصيل زاد السفر دون الاستكثار من أمتعة أخرى. ومن ثم أوصى صلى اللَّه عليه وسلم جماعةً من أصحابه بأن يكون بلاغهم من الدنيا ¬

_ = يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، وأنشد بعضهم: (من الطويل) أيا من له في باطن الأرض حفرة ... أتأنس بالدنيا وأنت غريبُ وما الدهر إلا كد يومٍ وليلةٍ ... وما الموت إلا نازلٌ وقريبُ (¬1) سنن الترمذي (2333). (¬2) مسند الإمام أحمد (2/ 132)، وسنن النسائي الكبرى (11803).

كزاد الراكب (¬1)، وذلك لأن الإنسان إنما أُوجد ليمتحن بالطاعة فيثاب، وبالمعصية فيعاقب: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، فهو كعبدٍ أرسله سيده في حاجةٍ، فهو إما غريبٌ، أو عابر سبيل، فشأنه أن يبادر بقضائها ثم يرجع لوطنه. فكل هذه الأحوال ينبغي لطالب الآخرة أن يكون متلبسًا بها؛ ليحوز ما أعده اللَّه تعالى له من النعيم المقيم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيْكٍ مُّقْتَدِرٍ} وفقنا اللَّه تعالى لذلك بمنِّه وكرمه. (وكان ابن عمر رضي اللَّه) تعالى (عنهما يقول: إذا أمسيت. . فلا تنتظر) بأعمال الليل (الصباح، وإذا أصبحت. . فلا تنتظر) بأعمال الصباح (المساء) لأن لكلٍّ منهما عملًا يخصه، فإذا أُخِّر عنه. . فات ولم يُستدرك كمالُه وإن شُرِع قضاؤه، فطلبت المبادرة بعمل كلٍّ في وقته. أو المراد: إذا أمسيت. . فلا تحدِّث نفسك بالبقاء إلى الصباح، وإذا أصبحت. . فلا تحدث نفسك بالبقاء إلى المساء، بل انتظر الموت في كل وقتٍ، واجعله نصب عينيك (¬2). وعقَّب به المصنف ما قبله؛ لأن ذلك للحضِّ على ترك الدنيا والزهد فيها، وهذا للحض على تقصير الأمل، فذاك متوقفٌ على هذا؛ لأنه المصلح للعمل، والمنجي من آفات التراخي والكسل؛ فإنه من طال أمله. . ساء عمله، فعلم أن هذا سببٌ للزهد في الدنيا. وقولهم: (إنه هو) (¬3) أرادوا به أن بينهما تلازمًا صيَّرهما كالشيء الواحد، فهو مجاز، وإلَّا. . فالحقيقة ما قلناه، فمن قصر أمله. . زهد، ومن طال أمله. . طمع ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1780) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها، والإمام أحمد (5/ 438) عن سيدنا سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه. (¬2) وكان محمد بن واسع إذا أراد النوم. . قال لأهله: أستودعكم اللَّه؛ فلعلي لا أقوم من نومتي؛ ولهذا جاء في الحديث: "لا يبيت أحدكم إلا ووصيته عند رأسه"، فلعله أن يبيت من أهل الدنيا ويصبح من أهل الآخرة، فكم من مستقبلٍ يومًا أو عملًا لا يستكمله. اهـ هامش (غ). (¬3) أي وقولهم: إن قصر الأمل هو الزهد أرادوا به. . . إلخ.

ورغب، وترك الطاعة، وتكاسل عن التوبة، وقسا قلبه؛ لنسيانه الآخرة ومقدماتها (¬1) من الموت وما بعده من الأهوال، وإنما رقة القلب وصفاؤه بذكر ذلك؛ قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}. وجاء عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: خطَّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم خطًا مربعًا، وخطَّ خطًا في الوسط، وخطَّ خطًا خارجًا، وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من حواليه فقال: "هذا الإنسان -يعني الخطَّ الذي في الوسط- وهذا أجله محيطٌ به، وذاك أمله خارج الخط، وقد حالَ الأجل بينه وبين أمله، وهذه المخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا. . نهشه هذا، وإن أخطأه هذا. . نهشه هذا، وإن أخطأتْهُ كلُّها. . أصابه الهرم" (¬2). وهذا صورته: [صورة] وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: خطَّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم خطوطًا فقال: "هذا الإنسان، وهذا الأمل، وهذا الأجل، فبينما هو كذلك. . إذ جاءه الخط الأقرب" (¬3) وهو أجله المحيط به. وهذا تنبيهٌ منه صلى اللَّه عليه وسلم على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتته، ومن غُيِّب عنه أجله. . فهو حريٌّ بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال ¬

_ (¬1) في (أ) و (غ): (لنسيانه الآخرة ومقاماتها)، وفي (ز): (ومقاساتها). (¬2) أخرجه البخاري (6417)، والترمذي (2454)، وابن ماجه (4231) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه، والجزء الأخير منه أخرجه الترمذي (2456) عن سيدنا عبد اللَّه بن الشخير رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه البخاري (6418).

غرةٍ وغفلةٍ (¬1)، فينبغي للعاقل أن يجاهد أمله وهواه؛ فإن ابن آدم مجبولٌ على الأمل، وورد أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لا يزال قلب الكبير شابًا في حب الدنيا وطول الأمل" (¬2). وقال ابن عمر: رآني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأنا أصلح خُصًّا، فقال: "ما هذا؟ " قلت: خُصٌّ لنا نصلحه، فقال: "ما أرى الأمر إلا أقرب من ذلك" (¬3). فعلم أن قصر الأمل أصل كل خير، وطوله أصل كل شر؛ فان من لا يقدِّر في نفسه أنه يعيش غدًا. . لا يسعى لكفايته ولا يهتم بها، فيصير حرًا من رق الحرص والطمع والذل لأبناء الدنيا، ومن يقدِّر أنه يعيش عشر سنين مثلًا. . يصير عبدًا لهذه الأوصاف الذميمة، ولا يكفيه شيءٌ من الدنيا، ولا يملأ عينه وبطنه إلا التراب؛ كما جاء في الحديث (¬4). (وخذ من صحتك لمرضك) (¬5) أي: اغتنم العمل حال الصحة؛ فإنه ربما عرض مرضٌ مانعٌ منه، فتقدَم المعاد بغير زاد. (ومن حياتك لموتك) أي: اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك ما دمت حيًا؛ فإن من مات. . انقطع عمله، وفات أمله، وحق ندمه، وتوالى حزنه وهمه، فاستسلفْ منك لك، واعلم: أنه سيأتي عليك زمانٌ طويلٌ وأنت تحت الأرض، لا يمكنك أن تذكر اللَّه عز وجل، فبادر في زمن قوَّتك وحياتك، واغتنم فرصة الإمكان لعل أن تسلم من العذاب والهوان (¬6). ¬

_ (¬1) قال بعضهم: (من الطويل) خليليَّ ولَّى العمر منَّا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنَّا فحتى متى نبني قصورًا مَشِيدةً ... وأعمارنا منا تُهدُّ وما تُبنى (¬2) أخرجه البخاري (6420)، ومسلم (1046) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه بن حبان (2996)، وأبو داوود (5236)، والبخاري في "الأدب المفرد" (456)، والحديث عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، فلعل ما هنا وما في "سنن ابن ماجه" (4160) سهو أو سبق قلم، فليتنبه. والخص: بيت يصنع من خشب وقصب. (¬4) أخرجه البخاري (6439)، ومسلم (1048) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬5) قوله: (وخذ من صحتك لمرضك) معناه: اعمل أعمالًا صالحةً في حال صحتك؛ ليكتب ذلك إذا عجزت في حال مرضك، ويكون قوله: (إذا مرض العبد أو سافر) نتيجة هذا، غايته أن هذا فيه زيادة قوله: (ومن حياتك لموتك. . . إلخ) فتأمل. اهـ هامش (ج) (¬6) قال بعضهم: (من الوافر) إذا هبت رياحُك فاغتنمها ... فعقبى كل خافقةٍ سكونُ =

وما ذكره ابن عمر مقتضبٌ من معنى الحديث؛ لأن الغريب إذا أمسى في بلد غربته. . لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح. . لا ينتظر المساء، فكذلك الإنسان في الدنيا المشبه للغريب في حاله، وإمكانِ حدوث ترحاله. وقد ورد معنى هذه الوصية عنه صلى اللَّه عليه وسلم من عدة طرقٍ؛ منها خبر الحاكم: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال لرجلٍ وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (¬1). وفي الحديث أيضًا: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم" (¬2) أي: لما صح: "ثلاثٌ إذا خرجن. . لم ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانُها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض" (¬3). وروى الترمذي: "ما من ميتٍ يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته؟ قال: "إن كان محسنًا. . ألَّا يكون زاد، وإن كان مسيئًا. . ألَّا يكون استعتب" (¬4) أي: تاب وأصلح شأنه؛ فلذا يتعيَّن اغتنام ما بقي من العمر؛ إذ هو لا قيمة له، قال ابن جبير: (كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة) (¬5). (رواه البخاري) وهو حديثٌ شريفٌ، عظيم القدر، جليل الفوائد، جامعٌ لأنواع الخير وجوامع المواعظ، فانظر إلى ألفاظه ما أحسنها، وأشرفها، وأعظمها بركة، وأجمعها لخصال الخير، والحث على الأعمال الصالحة أيام الصحة والحياة! * * * ¬

_ = ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدري السكونَ متى يكونُ وإن تظفر بذاك فلا تقصِّر ... فإن الدهر عادته يخونُ (¬1) المستدرك (4/ 306) عن سيدنا ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه مسلم (118)، والترمذي (2195) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرجه مسلم (158)، والترمذي (3072) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) سنن الترمذي (2403) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 276).

الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى اللَّه عليه وسلم] عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُوَنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ في كُتَابِ "الْحُجَّةِ" بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ. (عن أبي محمد) ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو نُصير (عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه) تعالى (عنهما) القرشي السهمي، روي أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال فيهما وفي أمه: "نِعمَ البيت عبد اللَّه، وأبو عبد اللَّه، وأم عبد اللَّه" (¬1)، وكان يفضله على أبيه، وهو أكبر منه باثنتي عشرة سنة، وقيل: بإحدى عشرة سنة. أسلم قبل أبيه، وكان غزير العلم، مجتهدًا في العبادة، وهو أجلُّ العبادلة؛ إذ هو من عُبَّاد الصحابة وزُهَّادهم وفضلائهم وعلمائهم، ومن اكثرهم رواية، قال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: (ما أحدٌ أكثر حديثًا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منِّي إلا عبد اللَّه بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب) (¬2). روي له سبع مئة حديث، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وروايته أكثر من ذلك كما مر، وإنما توعَّرتِ الطرق في الرواية عنه، فكان ذلك سببًا في قلة ما أُثر وصح عنه، وقد كان استأذن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في الكتابة عنه في حال الرضا والغضب، فأذن له، فقال: إنه حفظ عنه صلى اللَّه عليه وسلم ألف مَثَلٍ، وكان قد قرأ الكتب (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 161)، وأبو يعلى (645) عن سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه البخاري (113)، والترمذي (2668). (¬3) أي: الكتب القديمة؛ كالتوراة والإنجيل والزبور، لكن قبل التبديل. اهـ هامش (ج)

وكان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويرغب عن غشيان النساء (¬1)، لازم أباه حتى توفي بمصر، ثم انتقل إلى الشام حتى مات يزيد، ثم انتقل لمكة ومات بها -وقيل: بالطائف، وقيل: بالشام، وقيل: بمصر- سنةَ خمس أو سبع أو تسع وستين عن اثنين وسبعين أو تسعين سنة، وقد عمي آخر عمره رضي اللَّه تعالى عنه. (قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم) أي: إيمانًا كاملًا (حتى يكون هواه) بالقصر: ما يهواه؛ أي: ما تحبه نفسه وتميل إليه (¬2)، فحقيقته: شهوات النفوس، وهي ميلها إلى ما يلائمها، وإعراضها عمَّا ينافرها، مع أنه كثيرًا ما يكون عطبها في الملائم، وسلامتها في المنافر. ثم المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنه الميل إلى خلاف الحق؛ ومنه: {وَلَا تَتَّبعٍ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى الْنَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}. وقد يطلق بمعنى مطلق الميل والمحبة، فيشمل الميل للحق وغيره. وبمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه، ومنه ما في هذا الحديث، وقول عائشة رضي اللَّه تعالى عنها لمَّا نزل قوله تعالى: {تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتَؤِىَ إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) (¬3)، وقول عمر رضي اللَّه تعالى عنه في قصة المشاورة في أُسارى بدر: (فهَوِيَ رسول اللَّه صلى اللَّه ¬

_ (¬1) زوجه أبوه بامرأةٍ من قريش، ثم دخل عليها أبوه فقال لها: كيف وجدتِ بعلك؟ فقالت: خير الرجال، أو خير البرية من رجلٍ، لم يفتش كنفًا، ولم يعرف لنا فراشًا، فأقبل عليه والده يعظه، وقال له: زوجتك امرأةً من قريش فعضلتها، ثم انطلق إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فشكا له، فأرسل له صلى اللَّه عليه وسلم، فأتاه، فقال له: "أتصوم النهار؟ " قال: نعم؛ قال: "وتقوم الليل؟ " قال: نعم؛ فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسُّ النساء، فمن رغب عن سنتي. . فليس مني" اهـ "الفتوحات" الوهبية" (ص 286) (¬2) قوله: (بالقصر) ويجمع على أهواء، وأما الممدود. . فهو الجرم الذي بين السماء والأرض، وجمعه أهوية، وما أحسن ما قاله بعضهم: (من الكامل) جُمع الهواء مع الهوى في مهجتي ... فتكاملت في أضلعي نارانِ فقُصِرتُ بالممدود عن نَيْل المنى ... ومُدِدتُ بالمقصور في أكفاني (¬3) أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464).

عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قلت) (¬1). وجمعه أهواء، وجمع الممدود -وهو: ما بين السماء والأرض وكلِّ متجوف- أهويةٌ. (تبعًا لما جئت به) من هذه الشريعة المطهَّرة الكاملة؛ بأن يميل قلبه وطبعه إليه كميله لمحبوباته الدنيوية التي جُبل على الميل إليها من غير مجاهدةٍ، وتصبُّرٍ، واحتمال مشقة، أو بعض كراهةٍ ما، بل يهواها كما يهوى المحبوبات المشتهيات؛ إذ من أحب شيئًا. . أتبعه هواه، ومال عن غيره إليه، ومن ثم آثر صلى اللَّه عليه وسلم التعبير بذلك على نحو: حتى يأتمر بكل ما جئت به؛ لأن المأمور بالشيء قد يفعله اضطرارًا. واعلم: أن الهوى يميل بالإنسان بطبعه إلى مقتضاه، ولا يقدر على جعله تبعًا لما جاء به صلى اللَّه عليه وسلم إلا كل ضامرٍ مهزولٍ (¬2). (حديث صحيح رويناه في كتاب "الحجة) في اتباع المحجَّة" في عقيدة أهل السنة؛ لتضمنه ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث، وهو كتابٌ جيدٌ نافعٌ، وقدره كـ "التنبيه" مرةً ونصفًا تقريبًا، ومؤلفه هو العلامة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ، كذا قاله بعضهم، وخالفه غيره فقال: إنه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد نزيل دمشق (¬3). (بإسناد صحيح) قال بعضهم: هو كما قال، وبيَّن ذلك، ويؤيده: أن الحافظ أبا نعيم أخرجه في "كتاب الأربعين" التي شرط أولها: أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار، ومما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1763). (¬2) تشبيهًا له بِجَمَل أهزلَه وأضمره كثرةُ السير والسفر بجامع حصول التعب للعابد كالتعب الحاصل للجمل، وكثرة الصبر عن اللذات والشهوات. اهـ هامش (ج) (¬3) وهذا القول هو الذي اقتصر عليه الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 125 - 126) حيث قال: (وله مصنفات كثيرة في المذهب وغيره، فعندي من مصنفاته كتاب "الحجة على تارك المحجة" سمعته عن ابن الأنباري. . .) وذكر سنده إلى المؤلف. وكذا ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (19/ 136).

وأخرجه أئمةٌ آخرون في مسانيدهم كالطبراني وزاد بعد (به): "لا يزيغ عنه" والحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الأصبهاني (¬1)، لكن اعترض بعضهم تصحيحه بقوادح أبداها في سنده، حاصلها: أنه تعارض في اثنين من رجاله توثيقٌ وتجريحٌ، وتعيينٌ وإبهامٌ، ولا شك أن التعيين مقدَّمٌ، وكذا التوثيق من الأعلم الأدرى (¬2)، ولا يبعد أنه هنا كذلك، كيف والبخاري خرج له ووثقه آخرون غيره؟! فلذا آثر المصنف هؤلاء على المجرِّحين له وإن كثروا وجلُّوا أيضًا. وهو على وجازته واختصاره يجمع ما في هذه الأربعين وغيرها من دواوين السنة، وبيانه: أنه صلى اللَّه عليه وسلم إنما جاء بالحق وصدق المرسلين، وهذا الحق إن فسر بالدين. . شمل الإيمان، والإسلام، والنصح للَّه، ولرسوله صلى اللَّه عليه وسلم، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، والاستقامة، وهذه أمورٌ جامعةٌ لا يبقى بعدها إلا تفاصيلها، أو بالتقوى (¬3). . فهي مشتملةٌ على ما ذكرناه أيضًا، فإذا كان كذلك. . كان هوى الإنسان تبعًا لما جاء به النبي صلى اللَّه عليه وسلم من الدين والتقوى. وعلم من الحديث: أن مَنْ كان هواه تابعًا لما جاء به النبي صلى اللَّه عليه وسلم. . كان مؤمنًا كاملًا، وضده؛ وهو مَنْ أعرض عن جميع ما جاء به -ومنه الإيمان-. . فهو الكافر، وأما مَنِ اتبع البعض؛ فإن كان ما اتبعه أصلَ الدين -وهو الإيمان- وترك ما سواه. . فهو الفاسق، وعكسه المنافق، واستمداده من قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، الآية؛ إذ فيها غاية التعظيم لحقه صلى اللَّه عليه وسلم، والتأدُّب معه، ووجوب محبته واتباعه فيما يأمر به من غير توقفٍ ولا تلعثمٍ، ومن ثم لم يكتف بالتحكيم، بل عقَّبه بـ: {ثمَّ لَا يَجِدُوْا فِىَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ}، ولم يكتف بهذا أيضًا، بل زاد التأكيد بقوله: ¬

_ (¬1) كتاب السنة (15). (¬2) أي: بحال الراوي، وإنما قال الشارح ذلك؛ لأن القاعدة: أن مَنْ جرح مقدَّمٌ على من وثَّق، لكن لا مطلقًا، بل محله: إذا لم يكن الموثَّق أعلم من الجارح؛ أي: فحينئذ يقدم الموثَّق. اهـ هامش (ج) (¬3) معطوف على قوله: (إن فسر بالدين) أي: وإن فسر بالتقوى. . فهي مشتملة. . . إلخ.

{وَيُسَلِمُّوْا}، ولم يكتف به أيضًا، بل زاد فيه فأتى بالمصدر الرافع لاحتمال التَّجَوُّز فقال: {تَسلِيمًا}، وبهذا التسليم تكون النفس مطمئنةً لحكمه، منشرحةً به، لا تَوَقُّف عندها فيه بوجه. وسبب نزولها مَنْ تقدَّم ذكره ممَّن أراد التحاكم إلى الطاغوت كما يقتضيه السياق، أو قتل عمر مَنْ لم يرضَ بحكم النبي صلى اللَّه عليه وسلم وطلب منه أن يرده إلى عمر، فعتب النبي صلى اللَّه عليه وسلم في قتله مؤمنًا، فنزلت تبرئةً له رضي اللَّه تعالى عنه (¬1). أو تخاصم الزبير رضي اللَّه تعالى عنه وأنصاري -وزعمُ أن حاطب بن أبي بلتعة البدري هو خصمه وَهَمٌ- في ماءٍ فامر صلى اللَّه عليه وسلم الزبير بسقي أرضه ثم تسريحه إلى أرض خصمه؛ لكونه -أعني الزبيرَ- أعلى وأقرب إلى مجتمع السيل، ومن كان كذلك. . يستحق الشرب وحبس الماء إلى أن يبلغ الكعبين ثم يسرحه لمن تحته، وهكذا، فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه؛ أن كان ابن عمتك؟! فتلوَّن وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم أمر الزبير بأن يحبس الماء حتى يبلغ الجُدْر -بضم فسكون، وفي رواية: (حتى يبلغ الكعبين) (¬2)، والروايتان متقاربتان- ثم بإرساله لخصمه، فاستوفى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما أغضبه ذلك الرجل بذلك الذي نسبه إلى الجور للزبير حقَّه بعد أن كان أولًا أمره بالمسامحة بترك بعض حقه، فنزلت تلك الآية ردًا على ذلك الرجل وأمثاله (¬3)؛ فإنه إما منافقٌ؛ إذ لا يصدر مثل ذلك من مسلمٍ، أو مسلمٌ لكن صدر منه ذلك بادرةَ نفس وزلةَ شيطان كما اتفق لأصحاب الإفك كحسان ومسطح، ولم يقتله صلى اللَّه عليه وسلم؛ لعظيم حلمه وصفحه، وخشيةً من تنفير غيره. ولزوال هذين بوفاته صلى اللَّه عليه وسلم وجب قتل مَنْ صدر منه نحو ذلك ما لم يتب عندنا، ومطلقًا عند مالك وجماعة. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 585) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬2) أخرجها البخاري (2362). (¬3) أخرجه البخاري (2360)، ومسلم (2357) عن سيدنا عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنهما.

ونظيره: قول آخر في قسمةٍ قسمها النبي صلى اللَّه عليه وسلم: إنها لقسمةٌ ما أُريد بها وجه اللَّه، فبلغه صلى اللَّه عليه وسلم ذلك فغضب، ثم قال: "يرحم اللَّه أخي موسى؛ لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر" (¬1). وفيه فضيلة الصبر، وفضائله كثيرة؛ منها: أنه تعالى جعل في مطلق الأعمال الحسنة بعشر، والصدقة بسبع مئة مع المضاعفة عليها لمن يشاء تعالى، وجعل جزاء الصابرين بغير حساب، ومر ذلك قريبًا. وسبب تميزه بذلك: ما فيه من مجاهدة النفس وقمعها عن شهواتها مع كونها جُبلت على الانتقام ممن آذاها، ومن ثم شقَّ عليه صلى اللَّه عليه وسلم ما نسبه إليه هذان، لكن سكَّن ذلك منه علمُهُ بعظيم جزاء الصبر، وورد: (أنه نصفُ الإيمان) (¬2)، وأنه: لا عطاءَ خيرٌ ولا أوسع منه. ويوافق حديث الباب أيضًا قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وولده، وأهله، والناس أجمعين" رواه الشيخان (¬3). واستفيد منه توقف الإيمان على تقديم محبته صلى اللَّه عليه وسلم على محبة جميع الخلائق، ومحبته تابعةٌ لمحبة مُرسِلِه، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في محبة ما يحب وكراهة ما يكره، وكلا هذين من جوامع كلمه صلى اللَّه عليه وسلم، أما الأول. . فلما مر في شرحه، وأما الثاني. . فلأنه جمع فيه أقسام المحبة الثلاثة: محبة الإجلال كمحبة الوالد، والشفقة كمحبة الولد، والاستحسان والمشاكلة كمحبة سائر الناس. فمعنى الحديث: أَن مَنِ استكمل الإيمان. . علم أن حقه صلى اللَّه عليه وسلم آكد من حق أبيه وأمه والناس؛ لأنه استنقذنا من النار، وهدانا من الضلال، بل ومن حق نفسه، ومن ثم وجب بذلها دونه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 338) في شرح الحديث السادس عشر. (¬2) أخرجه الحاكم (2/ 446) من قول سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح البخاري (15)، وصحيح مسلم (44) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه.

ولما قال له عمر: يا رسول اللَّه؛ أنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي، فقال: "حتى من نفسك" فسكت ساعةً، ثم قال: حتى من نفسي، فقال: "الآن يا عمر" (¬1). ولما صدقت محبة الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم له صلى اللَّه عليه وسلم، وكان هواهم تبعًا لما جاء به. . قاتلوا معه آباءهم وأبناءهم، حتى قتل أبو عبيدة أباه؛ لإيذائه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وتعرَّض أبو بكر لولده عبد الرحمن رضي اللَّه تعالى عنهما يوم بدرٍ ليقتله. فالواجب على كل مؤمنٍ أن يحب ما أحبه اللَّه تعالى محبةً توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت محبته حتى أتى بمندوبه أيضًا. . كان أكمل، وأن يكره ما كرهه اللَّه تعالى كراهةً توجب كفه عما حُرِّم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهًا. . كان أفضل، وجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة اللَّه ورسوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}، وكذلك البدع؛ إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يسمى منتحلوها أهل الهوى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6632) عن سيدنا عبد اللَّه بن هشام رضي اللَّه عنه. (¬2) في نسخ عدة: (أهل الأهواء).

الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة الله عز وجل]

الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل] عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا بْن آدَمَ؛ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا بْنَ آدَمَ؛ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ الْسَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي. . غَفَرْتُ لَكَ، يَا بْنَ آدَمَ؛ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِك بِي شَيْئًا. . لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ: حدِيثٌ حسَنٌ (¬1). (عن أنس رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: قال اللَّه تعالى: يا بن آدم) (¬2) هو أبو البشر صلى اللَّه عليه وسلم، وهو غير منصرف؛ للعلمية ووزن الفعل؛ إذ وزن (أَأْدم): (أفعل) أبدلت فاؤه ألفًا (¬3)، مشتقٌّ من أديم الأرض، أو من الأُدْمة: حمرة تميل إلى السواد، لا (فاعَلَ)، خلافًا لمن زعمه، وإلَّا. . لصرف كعالَم، والعلمية وحدها لا تؤثر، وليس بأعجميٍّ، وقيل: أعجميٌّ لا اشتقاق له. وفي الحديث: "خُلق آدم من أديم الأرض كلها، فخرجت ذريته على نحو ذلك، ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (3540). وسيذكر الشارح اختلاف نسخ "الترمذي" (ص 633)، والمثبت من نسخ المتن، في قوله: (حديث حسن). (¬2) قوله: (يا بن آدم) نداء لم يُرَدْ به واحدٌ بعينه، عدل إليه ليعلم كل من يتأتى نداؤه، والإضافة فيه للتشريف على حد {يَا عِبَادِىَ}، ووجه عمومه: أنه مفردٌ مضافٌ كما في: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن كل أمرٍ له صلى اللَّه عليه وسلم؛ فالنداء هنا لا يختص به منادًى دون آخر. اهـ "مدابغي" (¬3) وعلة هذا الإبدال التخفيف؛ لاستثقال اجتماع الهمزتين.

فيهم الأبيض، والأسود، والأحمر، والسهل، والحزن، والطيب، والخبيث" (¬1). (إنك ما دعوتني) بمغفرة ذنوبك، كما يدل عليه السياق الآتي؛ أي: مدة دوام دعائك، فهي مصدريةٌ ظرفيةٌ (¬2)، وغلط من جعلها شرطية. (و) الحال أنك قد (رجوتني) بأن ظننت تفضلي عليك بإجابة دعائك وقبوله؛ إذ الرجاء: تأميل الخير وقرب وقوعه (غفرت لك) ذنوبك؛ أي: سترتها عليك بعدم العقاب عليها في الآخرة؛ لأن الدعاء مخ العبادة كما ورد (¬3)، وروى أصحاب "السنن" الأربعة: "إن الدعاء هو العبادة" ثم تلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬4). وروى الطبراني: "من أعطي الدعاء. . أعطي الإجابة؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} " (¬5)، وفي حديث آخر: "ما كان اللَّه ليفتح على عبدٍ باب الدعاء ويغلقَ عنه باب الإجابة" (¬6). والرجاء يتضمن حسن الظن باللَّه تعالى، وهو يقول: "أنا عند ظن عبدي بي" وعند ذلك تتوجه رحمة اللَّه تعالى للعبد، وإذا توجهت. . لا يتعاظمها شيء؛ لأنها وسعت كل شيء (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان (6181)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 3) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه. (¬2) قوله: (فهي مصدرية ظرفية) أي: أن (ما) مصدرية ظرفية، والعامل فيها: (غفرتُ) أي: (إني غفرت لك مدة دوام دعائك إياي. . . إلخ) فهي حرف؛ أي: من الموصولات المذكورة في قوله: وها هي (أَنْ) بالفتح (أنَّ) مشددا ... وزِيدَ عليها (كي) فخذها و (ما) و (لو) وكان ينبغي للشارح رحمه اللَّه أن يسقط لفظة (دوام) فإن معنى كون (ما) مصدرية: أن يؤول مدخولها بمصدر، وهو هنا الدعاء، ومعنى كونها ظرفية: أن تقدر بالمدة، ولفظ الدوام هنا لا دخل له، بل يغني عنه قوله: (مدة) فتأمل. اهـ "مدابغي" (¬3) أخرجه الترمذي (3371) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬4) سنن أبي داوود (1479)، وسنن الترمذي (2969)، وسنن النسائي الكبرى (11400)، وسنن ابن ماجه (3828) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي اللَّه عنهما. (¬5) المعجم الأوسط (7019) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" (6273)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 322) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬7) الراجح عند السادة الشافعية: أن يكون رجاؤه وخوفه مستوين، وفي "مروج الذهب" (4/ 320): عن فقير بن مسكين قال: دخلت على الإمام الشافعي رحمه اللَّه أعوده في مرض موته، فقلت له: كيف أصبحت يا أبا =

(على ما كان منك) من المعاصي وإن تكررت (ولا أبالي) أي: لا أكترث بذنوبك ولا أستكثرها وإن كثرت؛ إذ لا يتعاظمه تعالى شيء؛ كما في الحديث الصحيح: "إذا دعا أحدكم. . فليعظم الرغبة؛ فإن اللَّه تعالى لا يتعاظمه شيء" (¬1). ولأنه لا حجر عليه تعالى فيما يفعله، ولا معقب لحكمه، ولا مانع لتفضله وعطائه سبحانه. ومعنى قولك: (لا أبالي بكذا) أي: لا يشتغل بالي به، وهذا موافقٌ لقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآيةَ، ولقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، ولقوله في الحديث القدسي: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظن بي ما شاء" (¬2)، وفي رواية: "فلا تظنوا باللَّه إلا خيرًا" (¬3). وورد: (إن العبد إذا أذنب ثم ندم فقال: أي رب؛ إني أذنبت ذنبًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي. . قال: فيقول اللَّه تعالى: أذنب عبدي ذنبًا وعلم أن له ربًا يغفر الذنوب، ويأخذ بالذنب، أشهدكم أني قد غفرت له، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة، فيقول اللَّه جل جلاله في كل مرةٍ مثل ذلك، ثم يقول: اعمل ما شئت فقد غفرت لك) (¬4) يعني: ما أذنبت واستغفرت. وفي ذلك حثٌّ أكيدٌ على الدعاء، والمخالفُ في ذلك لا يُعبأ به (¬5)؛ فإن الآيات والأحاديث الكثيرة الشهيرة تردُّ عليه، ولا ينافي ما مر تخلف الإجابة عن الدعاء كثيرًا؛ لأن ذلك غالبًا لانتفاء بعض شروط الدعاء، أو وجود بعض موانعه، وقد ¬

_ = عبد اللَّه؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، ولا أدري إلى الجنة تصير روحي فأُهنِّيها، أم إلى النار فأُعزِّيها. ثم قال: (من الطويل) ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سُلَّما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما (¬1) أخرجه ابن حبان (896) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) أخرجه ابن حبان (633) عن سيدنا واثلة بن الأسقع رضي اللَّه عنه. (¬3) عند ابن أبي الدنيا في "حسن الظن باللَّه" (84) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) وهم المعتزلة قبَّحهم اللَّه تعالى، وقد ردَّ عليهم الإمام اللقاني رحمه اللَّه تعالى في "جوهرته" بقوله: (من الرجز) وعندنا أن الدعاء ينفع ... كما من القرآن وعدًا يُسمَعُ

استوفيت بيانها مع ما يتعلَّق بها بما لا مزيد على بسطه واستيعابه وتحقيقه في "شرح العباب" وغيره، وقدمتُ من ذلك نبذةً في شرح (الحديث العاشر) (¬1). ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من اللَّه تعالى؛ لخبر الترمذي: "ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن اللَّه لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافل" (¬2)، وخبر أحمد: "إن هذه القلوب أوعية، فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم اللَّه تعالى. . فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن اللَّه تعالى لا يستجيب لعبدٍ دعاءً عن ظهر قلبٍ غافلٍ" (¬3)؛ ولذا نهي العبد أن يقول في دعائه: (اللهم؛ اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن اللَّه تعالى لا مكره له) (¬4). ونهي أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة (¬5)، وإنما جعل ذلك من موانع الإجابة؛ حتى لا يقطع العبد دعاءه وإن أبطأت عليه الإجابة؛ لأنه تعالى يحب الملحِّين في الدعاء (¬6)، وأخرج الحاكم في "صحيحه": "لا تعجزوا عن الدعاء؛ فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد" (¬7). ومن أهم ما يسأل مغفرةُ الذنوب أو ما يستلزمها؛ كالنجاة من النار، أو دخول الجنة؛ فقد قال صلى اللَّه عليه وسلم: "حولها ندندن" (¬8) يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار. ومن رحمة اللَّه تعالى بعبده أن يدعوه لحاجةٍ دنيويةٍ فلا يستجيبها له، بل يعوضه ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم (ص 291). (¬2) سنن الترمذي (3479) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) مسند الإمام أحمد (2/ 177) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬4) أخرجه البخاري (6339)، ومسلم (2679) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬5) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬6) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1069) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها. (¬7) المستدرك (1/ 493) عن سيدنا أنس رضي اللَّه عنه. (¬8) أخرجه أبو داوود (792)، وابن ماجه (910) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. وقوله: (ندندن) أي: نصوت ونكثر من الدعاء، قاله صلى اللَّه عليه وسلم لسائله حيث قال له: إني أسأل اللَّه الجنة كثيرًا، فقال له: "نعم؛ حولها ندندن" اهـ هامش (ج)، والدندنة: أن تسمع من الرجل كلامًا ولا تفهم ما يقول. اهـ هامش (غ).

خيرًا منها صرْفَ سوء عنه، أو ادخارها له في الآخرة، أو مغفرة ذنب؛ فقد أخرج أحمد والترمذي: "ما من أحدٍ يدعو بدعاءٍ إلا آتاه اللَّه ما سأل، أو كفَّ عنه من السوء مثله ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحم" (¬1). وأحمد والحاكم في "صحيحه": "ما من مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ أو قطيعةُ رحمٍ إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاثٍ: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر، قال: "اللَّه أكثر" (¬2)، ورواه الطبراني وأبدل الأخيرة بقوله: "أو يغفر له بها ذنبًا قد سلف" (¬3). وزاد تعالى ذلك تأكيدًا مبالغة في سعة رجاء خلقه فيما عنده من مزيد التفضل والإنعام فقال: (يا بن آدم؛ لو بلَغَت ذنوبك) عند فرضها أجرامًا (عَنَان) بفتح المهملة؛ أي: سحاب (السماء) بأن ملأت ما بينها وبين الأرض؛ كما في الرواية الأخرى: "لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم اللَّه تعالى. . لغفر لكم" (¬4) وقيل: عَنَانها: ما عنَّ لك منها -أي: ظهر- إذا رفعت رأسك إليها (¬5). (ثم استغفرتني) أي: تُبتَ توبةً صحيحةً بأن أقلعت عن المعصية للَّه، وندمت عليها من حيث كونها معصية، وعزمت على ألَّا تعود إليها، ورددتها إن كانت ظلامةً إلى أهلها أو تحلَّلت منهم (غفرت لك) وإن تكرر الذنب والتوبة منه مرارًا في اليوم الواحد، ومن ثم ورد عنه صلى اللَّه عليه وسلم: "ما أصرَّ من استغفر -أي: تاب- وإن عاد في اليوم سبعين مرة" (¬6) وأنبأ بهذا المثال الذي هو النهاية في الكثرة على أن كرمه وفضله وعفوه ومغفرته لا نهاية لها ولا غاية، فذنوب العالم كلها متلاشيةٌ عند ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد (3/ 360)، وسنن الترمذي (3381) عن سيدنا جابر رضي اللَّه عنه. (¬2) مسند الإمام أحمد (3/ 18)، والمستدرك (1/ 493) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬3) المعجم الأوسط (4365) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه. (¬4) أخرجه الإمام أحمد (3/ 238). (¬5) العَنَان -بفتح العين والنون مع تخفيفها-: السحاب مطلقًا، أو بقيد كونه ممتلئًا بالماء، والعِنان -بكسر العين-: اسمٌ لما تُقاد به الدابة، الأسفل للأسفل والأعلى للأعلى؛ كالملك بكسر اللام وبفتحها، والجنازة -بكسر الجيم- اسم للسرير الذي يحمل عليه الميت، وبفتحها: اسم للميت المحمول. (¬6) أخرجه أبو داوود (1514)، والترمذي (3559) عن سيدنا أبي بكر رضي اللَّه عنه.

حلمه وعفوه؛ إذ لو بلغت ذنوب العبد ما عسى أن تبلغ ثم استقال منها بالاستغفار. . غفرت؛ لأنه طلب الإقالة من كريم، والكريم محل إقالة العثرات، وغفر الزلات. وقد طلب تعالى منا الاستغفار ووعد بالإجابة في آيٍ كثيرةٍ من كتابه العزيز. وما ذكرناه من أن المراد بالاستغفار التوبة لا مجرد لفظه. . هو ما ذكره بعضهم، وهو الموافق للقواعد بالنسبة للكبائر؛ إذ لا يكفرها إلا التوبة، بخلاف الصغائر؛ فإن لها مكفراتٍ أُخر؛ كاجتناب الكبائر، والوضوء، والصلاة، وغيرها، فلا يبعد أن يكون الاستغفار مكفرًا لها أيضًا، وينبغي أن يحمل على ذلك أيضًا تقييدُ بعضهم جميع ما جاء في نصوص الاستغفار المطلقة بما في آية (آل عمران) من عدم الإصرار؛ فإنه تعالى وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يصر على ما فعل، قال: فتحمل نصوص الاستغفار المطلقة كلها على هذا المقيد. اهـ نعم؛ نحو (أستغفر اللَّه) و (اللهم؛ اغفر لي) من غير توبةٍ دعاءٌ، فله حكمه من أنه قد يُجاب تارةً، وقد لا يُجاب أُخرى؛ لأن الإصرار قد يمنع الإجابة كما أفاده مفهوم آية (آل عمران) السابقة، وأخرج ابن أبي الدنيا: "المستغفر من ذنبٍ وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه" قيل: رفعه منكر، ولعله موقوفٌ على راويه ابن عباس. اهـ (¬1) ويُجاب بأنه حجةٌ وإن فرض أنه موقوفٌ؛ لأن مثله لا يقال من قِبَلِ الرأي، وكلُّ موقوفٍ كذلك. . له حكم المرفوع. وأخرج ابن أبي الدنيا مرفوعًا: "بينا رجل مستلقٍ. . إذ نظر إلى السماء وإلى النجوم فقال: إني لأعلم أن لكِ ربًا خالقًا، اللهم؛ اغفر لي، فغفر له" (¬2). ويؤيده خبر "الصحيحين": "إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: رب أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فقال اللَّه عز وجل: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرتُ لعبدي، ثم مكث ما شاء اللَّه، ثم أذنب ذنبًا آخر" فذكر مثل الأول مرتين أخريين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "جامع العلوم والحكم" (2/ 409 - 410). (¬2) حسن الظن باللَّه (107) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬3) صحيح البخاري (7507)، وصحيح مسلم (2758) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه.

وفي روايةٍ لمسلم: أنه قال في الثالثة: "قد غفرت لعبدي فلعمل ما شاء" (¬1) أي: ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب. . استغفر ولم يصر. وأخرج أبو داوود والترمذي: "ما أصرَّ مَنِ استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" (¬2)، فالاستغفار التام الكامل، المسبب عنه المغفرة: هو ما قارن عدم الإصرار؛ لأنه حينئذٍ توبةٌ نصوحٌ، وأما مع الإصرار. . فهو مجرد دعاءٍ كما مر. ومن قال: (إنه توبة الكذابين) مراده: أنه ليس بتوبة حقيقة؛ خلافًا لما تعتقده العامة؛ لاستحالة التوبة مع الإصرار، على أن من قال: (أستغفر اللَّه وأتوب إليه) وهو مصرٌّ بقلبه على المعصية كاذبٌ آثم؛ لأنه أخبر أنه تائبٌ وليس حاله كذلك؛ فإن قال ذلك وهو غير مصرٍّ بأن أقلع بقلبه عن المعصية. . فقالت طائفةٌ من السلف: يكره له ذلك، وبه قال أصحاب أبي حنيفة رحمهم اللَّه تعالى؛ لأنه قد يعود إلى الذنب فيكون كاذبًا في قوله: (وأتوب إليه)، والجمهور على أنه لا كراهة في ذلك؛ لأن العزم على ألَّا يعود إلى المعصية واجبٌ عليه، فهو مخبرٌ عمَّا عزم عليه في الحال، فلا ينافي وقوعه منه في المستقبل، فلا كذب بتقدير الوقوع. وفي حديث كفارة المجلس: "أستغفرك اللهم وأتوب إليك" (¬3). وأخرج أبو داوود: أنه صلى اللَّه عليه وسلم قطع إنسانًا ثم قال له: "استغفر اللَّه وتب إليه" فقال: أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقال: "اللهم؛ تب عليه" (¬4)، بل استحبَّ جمعٌ من السلف قول ذلك مع زيادة: (توبةَ مَنْ لا يملك لنفسه ضرًا، ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (2758/ 30) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه. (¬2) سنن أبي داوود (1514)، وسنن الترمذي (3559) عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه. (¬3) أخرج أبو داوود (4857) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما، والترمذي (3433) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه عنه بنحوه. (¬4) سنن أبي داوود (4380) عن سيدنا أبي أمية المخزومي رضي اللَّه عنه. وأول الحديث لفظه: أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أُتي بلصٍّ قد اعترف اعترافًا ولم يوجد معه متاعٌ، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "ما إخالك سرقت؟ " قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، فأمر به فقُطع، وجيء به فقال: "استغفرِ اللَّه. . . ".

وللاستغفار ألفاظٌ شهيرةٌ جاءت في السنة؛ منها: سيد الاستغفار، ولم نذكره لشهرته، ومنها: (أستغفر اللَّه العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) أخرج أبو داوود والترمذي: أن من قاله. . غفر له وإن كان فرَّ من الزحف (¬1)، وهذا أبلغ ردٍّ على من كره: (وأتوب إليه) (¬2). وأخرج النسائي عن أبي هريرة: (ما رأيت أحدًا أكثر أن يقول: أستغفر اللَّه وأتوب إليه من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم) (¬3). ثم زاد تعالى ذلك تأكيدًا ثالثًا فقال: (يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف، وهو الأشهر، وبكسرها؛ أي: بقريب ملئها، أو بملئها، وهذا أبلغ مما قبله، خلافًا لمن فسَّره بما يوهم اتحادهما؛ لأن قرابها ملؤها، وهو يشمل ملء ما بينها وبين السماء وملء طبقاتها السبع. وفسَّرناه بالملء وإن كان حقيقةً في قرب الملء؛ لأن ذلك أبلغ في سعة العفو الدال عليها السياق، ثم رأيت بعضهم فسره بما يقتضي أنه حقيقةٌ في كلٍّ من الملء ومقاربه، فإن صح ذلك. . فلا إشكال. (خطايا ثم لقيتني) أي: مت حال كونك (لا تشرك بي شيئًا) لاعتقادك توحيدي والتصديق برسلي وبما جاؤوا به (لأتيتك بقرابها) عبَّر به للمشاكلة، وإلَّا. . فمغفرة اللَّه تعالى أعظم وأوسع من ذلك. (مغفرةً) ويرادفها العفو، لكن فُرِّق بينهما: بأنها لِمَا لم يَطَّلع عليه أحدٌ، وهو لما اطُّلِع عليه، وهو بالتحكم أشبه، فعلم أن الإيمان شرطٌ في مغفرة ما عدا الشرك؛ لأنه الأصل الذي ينبني عليه قبول الطاعة وغفران المعصية، وأما مع الشرك. . فلا أصل ينبني عليه ذلك: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}. فالسبب الأعظم للمغفرة هو التوحيد، فمن فقده. . فقد فقدها، ومن أتى به ولو ¬

_ (¬1) سنن أبي داوود (1517)، وسنن الترمذي (3577) عن سيدنا زيد بن حارثة رضي اللَّه عنه. (¬2) انظر تفصيل الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "فتح الباري" (13/ 472). (¬3) سنن النسائي الكبرى (10216).

وحده بأن لم يكن له عمل خير غيره. . فقد أتى بأعظم أسبابها، لكنه تحت المشيئة، وعلى كلٍّ فمآله إلى الجنة (¬1). وأما من كمل توحيده وإخلاصه وقام بشرائطه وأحكامه. . فإنه يُغفَر له ما سلف من ذنوبه، ولا يدخل النار إلا لتَحِلَّة القسم (¬2)؛ فقد أخرج أحمد: "لا إله إلا اللَّه لا تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل" (¬3). (رواه الترمذي) بتثليث الفوقية، وكسر الميم أو ضمها، وإعجام الذال (رحمه اللَّه) تعالى (وقال: حديث صحيح) (¬4) وفي نسخة: (حسن) وفي أخرى: (حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه) وعلى كلٍّ: فسنده لا بأس به، وقد أخرجه أحمد وأبو عوانة أيضًا في "مسنده الصحيح" من حديث أبي ذر (¬5)، والطبراني عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما (¬6)، ووَقْفُه في بعض الطرق لا يؤثر؛ لأن مع الرافع زيادةَ علمٍ. وفيه بشارةٌ عظيمةٌ، وما لا يُحصى من أنواع الفضل والامتنان، وهو نظير الحديث الصحيح أيضًا: "واللَّهِ؛ للَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم بضالته لو وجدها" (¬7)، والحديث الحسن: "لولا أنكم تذنبون. . لخلق اللَّه خلقًا يذنبون فيغفر لهم" (¬8)، وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جمَيعًا} أي: إلا الشرك؛ للآية السابقة، وهذا ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (وعلى كل حالٍ فمآله). (¬2) قوله: (إلا لتحلَّة القسم) مصدر: حللت اليمين تحليلًا وتحلّة؛ أي: أبررتها، يريد: إلا قدر ما يبر اللَّه قسمه فيه، وهو قوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَرِدُهَا} فإذا مرَّ بها وجاوزها. . فقد أبو قسمه، وقيل: ليس في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَرِدُهَا} قسم فتكون له تحِلَّة، ولكن معناه: إلا التعزير الذي يصيبه منه مكروه؛ من قول العرب: (ضربه تحليلًا، وضربه تعزيرًا) إذا لم يبالغ في ضربه، والأول أصح، وموضع القسم مردودٌ إلى قوله: {فَوَرَبِكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ}. وقيل: القسم فيه مضمر، معناه: وإن منكم واللَّه إلا واردها، واللَّه تعالى أعلم. اهـ. "مدابغي" (¬3) مسند الإمام أحمد (6/ 425) عن سيدتنا أم هانئ رضي اللَّه عنها. (¬4) في أكثر النسخ: (حديث حسن صحيح)، وفي نسخ المتن: (حديث حسن). (¬5) مسند الإمام أحمد (5/ 167)، وأبو عوانة في "البر والصلة" كما في "إتحاف المهرة" (14/ 195). (¬6) المعجم الكبير (12/ 16). (¬7) أخرجه مسلم (2675) عن سيدنا أبي هريرة رضي اللَّه (¬8) أخرجه مسلم (2748)، والترمذي (3539) عن سيدنا أبي أيوب رضي اللَّه عنه.

الحديث على عمومه؛ لأن الذنب إما شركٌ فيغفر بالاستغفار منه وهو الإيمان، أو غيره فيغفر بالتوبة، وكذا بسؤال المغفرة بنحو: (اللهم؛ اغفر لي)، أو: (أستغفر اللَّه) لأنه خبرٌ في معنى الطلب. واعلم: أن المصنف رحمه اللَّه تعالى وشكر سعيه صدَّر في الخطبة أنه يأتي بأربعين حديثًا، وقد زاد عليها اثنين فزاد خيرًا، وكأنهما أعجباه، وهما جديران بذلك، فناسب الختم بهما؛ لأن أولهما من باب الوعظ بمخالفة الهوى ومتابعة الشرع، وهذا جامعٌ لجميع ما في هذه "الأربعين" وسائر دواوين السنة، بل ولما في الكتاب العزيز أيضًا كما مر، وثانيهما ترغيبٌ في الدعاء والرجاء والاستغفار من الذنوب، والطمع في رحمة علام الغيوب. نسأل اللَّه تعالى المانَّ بفضله أن يرحمنا برحمته الخاصة والعامة، وأن ينجينا من أهوال الحاقة والطامة، وأن يمنَّ علينا بتوفيقه، والهداية إلى سواء طريقه، ونتوسَّل إليه به، وباسمه الأعظم، وبكل اسمٍ هو له، استأثر به في علم غيبه، أو علَّمه لأحدٍ من خلقه، وبشرف كتبه المنزلة، وأنبيائه ورسله، وبخاتمهم وأفضلهم محمد صلى اللَّه عليه وسلم، وبملائكته المقربين. . أن يختم لنا بالحسنى، وأن يبلغنا من فضله المقام الأرفع الأسنى، وأن يوفقنا من القول والعمل لما يحبُّه ويرضاه، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقاه، وأن يقربنا لديه (¬1)، ولا يخجلنا بين يديه؛ إنه الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم. والحمد للَّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه. يا ربنا؛ لك الحمد حمدًا يوافي نعمك، ويكافئ مزيدك، كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، سبحانك، لا نُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك. والصلاة والسلام على أشرف مخلوقاتك، وعين أخصَّائك محمدٍ صلى اللَّه عليه ¬

_ (¬1) في بعض النسخ: (ولما يقربنا لديه).

وسلم، وعلى آله وصحبه، وشيعته وحزبه؛ كما تحب وترضى، عدد معلوماتك، ومداد كلماتك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد للَّه رب العالمين (¬1). ¬

_ (¬1) تنبيه: تبين يقينًا أن الشارح رحمه اللَّه تعالى أنهى كتابه سنة إحدى وخمسين وتسع مئة، وقد وقع وهم في خواتيم بعض المخطوطات، وهي أربع، وقد صوبناها بين []. ورد في خاتمة (أ): (يقول مؤلفه شيخ شيوخنا، وسيدنا الإمام العالم العلامة، العمدة البحر الحبر الفهامة، جامع أشتات الفضائل، بقية السلف الأفاضل، شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيثمي، عفا اللَّه تعالى عنا وعنه، وعن والدينا ومشايخنا وعيالنا وعن جميع المسلمين: وكان الفراغ من تعليق هذا الشرح المبارك نفعنا اللَّه به آمين يوم الخميس، حادي عشرين شهر اللَّه الحرام ذي القعدة، سنة [إحدى وخمسين] وتسع مئة بمكة المشرفة، زادها اللَّه شرفًا وكرمًا ومهابة وتعظيمًا. علقها لنفسه أضعف خلقه وأحوجهم إلى ربه، الفقير الحقير المعترف بالعجز والتقصير، راجي عفو ربه القدير، محمد بن الحاج رجب البولاقي بلدًا، الشافعي مذهبًا، الأزهري نسبًا، ختم اللَّه له بخير ولوالديه وعياله وأقاربه وأصدقائه ومشايخه وجميع المسلمين بمنه وكرمه وعفوه وجوده وإحسانه؛ إنه على ما يشاء قدير، آمين وللَّه الحمد، وصلى اللَّه على سيدنا محمد. وكان الفراغ من مقابلته مستهل شهر اللَّه الحرام ذي الحجة سنة خمس وثمانين وتسع مئة، على نسخة المؤلف شيخ شيوخ مشايخ الإسلام، شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، عفا اللَّه عنا وعنه، آمين في مسجد بمكة المشرفة، زادها اللَّه شرفًا وكرمًا ومهابة وتعظيمًا، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا). وفي خاتمة (ب): (قال مؤلفه الإمام العلامة، العمدة البحر الفهامة، شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي: وكان الفراغ من كتابته يوم السبت المبارك، تاسع عشري صفر الخير، سنة إحدى وخمسين وتسع مئة] اهـ وكان الفراغ من تعليق هذه النسخة المباركة على يد أفقر العباد وأحوجهم وكئيبهم، وأحقرهم لعفو ربه القدير، ومن هو بحاله بصير، فعل ذلك لنفسه ولمن شاء اللَّه من بعده، صالح بن علي المنداوي الحنفي، أدام اللَّه له ولوالديه ولجميع المسلمين في الدارين، بره ولطفه الخفي، قاصدًا بذلك جزيل الثواب من المنعم الوهاب؛ إنه على ذلك قدير، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، دائمًا أبدًا إلى يوم الدين، والحمد للَّه بدءًا وختمًا). وفي خاتمة (د): (قال مؤلفه الإمام العالم العلامة، العمدة البحر الفهامة، جامع أشتات الفضائل، بقية السلف الأفاضل، شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، عفا اللَّه تعالى عنه: ابتدأت فيه أثناء القعدة، وفرغت منه هلال المحرم سنة إحدى وخمسين وتسع مئة، أرجو اللَّه تعالي جل ذكره قبوله وعموم النفع به؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ووافق الفراغ من كتابته يوم الأحد المبارك، سادس عشرين في رجب المعظم قدره، من شهور سنة ثمانية عشر ومئة بعد الألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وذلك على يد أفقر عباد اللَّه وأحوجهم إلى مغفرته الققير إلى اللَّه تعالى: محمد أبو بكر الدلجي بلدًا، الشافعي مذهبًا، غفر اللَّه له ولوالديه، وإخوانه ومحبيه، ومشايخه والمسلمين أجمعين) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفي خاتمة (هـ): (قال مؤلفه الرحلة، العمدة الفهامة، شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، تغمده اللَّه بالرحمة والرضوان، وبوأه من الجنة أعلى الجنان: ابتدأت فيه في أثناء القعدة، وفرغت هلال المحرم سنة إحدى وخمسين وتسع مئة، أرجو اللَّه قبوله وعموم النفع به؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وكان الفراغ من كتابته يوم السبت المبارك، رابع يوم شهر ربيع الثاني، من شهور سنة ألف [ومئة] وستة وثلاثين "سنة 1136" من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. والحمد للَّه وحده، وصلى اللَّه على من لا نبي بعده، تم على يد أفقر عباد اللَّه إلى رحمة ربه الغفار، أحمد بن علي بن أحمد الشعار، الفيومي بلدًا، والمالكي مذهبًا، غفر اللَّه له ولوالديه ولمن والاه خيرًا، آمين، آمين، آمين). وفي خاتمة (ز): (قاله مؤلفه الإمام العالم العلامة، العمدة البحر الفهامة، شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، رحمه اللَّه تعالى، ونفعنا ببركته، آمين، والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وكان الفراغ من كتابته يوم الخميس المبارك، ثاني شهر العقدة الحرام، سنة سبع وسبعين ومئة وألف، على يد الفقير عمر الخلوتي، قاصدًا بذلك وجه اللَّه تعالى، وعملًا بقوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم. . انقطع عمله إلا من ثلاث" وعلى آله وصحبه وسلم). وفي خاتمة (ح): (قال مؤلفه رحمه اللَّه تعالى: وكان الفراغ من تأليفه يوم السبت المبارك، تاسع عشر صفر الخير، سنة [إحدى وخمسين] وتسع مئة، وقد وافق كتابة شرح الأربعين للإمام العلامة، شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي المكي، أعاد اللَّه علينا من بركاته، ونفعنا بعلومه. وكان الفراغ من كتابته يوم الأربعاء، سبعة أيام خلت من شهر صفر، سنة ألف ومئتين وإحدى وتسعين، على يد الفقير الحقير، المعترف بالذنب والتقصير: علي بن حسنين الشافعي، غفر اللَّه له ولوالديه، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، ولمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وسلم، آمين). وفي خاتمة (ط): (قال مؤلفه رحمه اللَّه تعالى، وأعاد علينا من بركاته، وحشرنا في زمرته، وأمدنا من إمداداته: ابتدأت فيه أثناء القعدة، وفرغت منه هلال المحرم "سنة 951"، أرجو اللَّه جل ذكره قبوله، وعموم النفع به؛ إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى اللَّه على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، آمين، آمين، آمين. وكان الفراغ من نسخه: ليلة الأحد المبارك، سابع عشري شهر ذي الحجة الحرام، ختام سنة واحد وثمانين ومئة وألف، على يد ناسخه، راجي عفو الإله الصمدي: عبده محمد العوضي، غفر اللَّه له ولوالديه، ولمن تعلق نظره فيه، وسأل له المغفرة ولجميع المسلمين أجمعين، حامدًا، مصليًا، مسلمًا). وفي خاتمة: (ي): (يقول مؤلفه شيخنا وسيدنا، الإمام العالم العلامة، العمدة البحر الفهامة، جامع أشتات الفضائل، بقية السلف الأفاضل: شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، عفا اللَّه تعالى عنا وعنه: ابتدأت فيه أثناء القعدة، وفرغت منه هلال المحرم، سنة إحدى وخمسين وتسع مئة، أرجو اللَّه تعالى جل ذكره قبولَه، وعمومَ النفع به؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. تم بحمد اللَّه وعونه وحسن توفيقه، والحمد للَّه رب العالمين. وكان الفراغ من كتابته: نهار الربوع، يوم سابع وعشرين من شهر ربيع الأول، سنة ثالث وعشرين من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، والحمد للَّه رب العالمين حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، آمين، آمين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بلغ مقابلة في مجالس متعددة، آخرها بعد صلاة الظهر يوم الخميس المبارك [. . . . . .] شهر رجب الفرد الحرام، سنة خمسين بعد الألف من الهجرة النبوية، لدى ضريح الشيخ العارف باللَّه عز وجل عبد الهادي بن سود، نفع اللَّه به على نسخة مضبوطة بخط شيخ الإسلام الصديق بن الخاص السراج الحنفي رحمه اللَّه تعالى، وصلى اللَّه على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم تسليمًا). وفي خاتمة (ك): (يقول مؤلفه الإمام: شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، نفع اللَّه به: ابتدأت فيه أثناء القعدة، وفرغت منه هلال المحرم، سنة إحدى وخمسين وتسع مئة من الهجرة، أرجو اللَّه جل ذكره قبوله، وعموم النفع به؛ إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. وكان الفراغ من رقمه: نهار الجمعة، شهر رمضان المعظم، رابع عشر منه، سنة ثمانٍ وأربعين ومئة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بعناية سيدي القاضي الفاضل، الكامل العالم العامل، العلامة، الورع الزاهد، البحر الفهامة، حاكم الشريعة المطهرة، في الجهة الغفارية، وما إليها، عماد الإسلام والدين، وارث علوم سيد المرسلين: يحيى بن أحمد الآنسي فهمه اللَّه معانيه، ووفقنا وإياه العمل بما فيه، ونفعنا به وجميع المسلمين، بجاه سيد المرسلين، وآله أجمعين. آمين. غفر اللَّه لكاتبه، ومالكه، ولوالديهما، ولمن دعا لهما بالمغفرة، ولجميع المسلمين، وصلى اللَّه على من نطق له الجماد: سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وأصحابه الأمجاد، وسلَّم). وفي خاتمة (خ): (قال مؤلفه الإمام العلامة، العمدة البحر الفهامة؛ شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي، رحمه اللَّه تعالى: وكان الفراغ من كتابته يوم السبت المبارك تاسع عشري صفر الخير، سنة [إحدى وخمسين] وتسع مئة. وكان الفراغ من كتابته يوم الثلاثاء المبارك، ثالث شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين بعد الألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، على يد كاتبها لنفسه: العبد الفقير الحقير، المعترف بالذنب والتقصير: محمد الخطيب بن الشيخ عبد الصمد بن الشيخ أبو الحسن الخطيب الشربيني الشافعي، غفر اللَّه لهم ولوالديهم، ولأمواتهم، وكل المسلمين أجمعين، آمين، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، صلى اللَّه عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وصحابتهم أجمعين، آمين. الحمد للَّه، وفي شهر ربيع الأول سنة أربع ومئتين وألف، دخل هذا الكتاب في ملك الفقير إلى اللَّه تعالى السيد أحمد بن الإمام العارف باللَّه عمر بن زين بن سميط بالشراء الصحيح الشرعي، من ملك السيد علي بن محمد السقاف، ساكن سيؤون، في من معلوم قبضه البائع، وبرئت عنه ذمة المشتري، حضر ذلك وكتبه: عبد اللَّه بن عوض باذيب، عفا اللَّه عنه. حضر عنه عمر بن سالم فضل. وفي سنة (1222) دخل في ملك الفقير إلى اللَّه عمر بن زين بن محمد [. . . . . .] باذيب عفا اللَّه عنه آمين). وفي هامش (غ): يقول الكاتب الفقير مرتضى علي بن محمد الشدردي الداغستاني: قد وقع الفراغ الفراغ عن كتبه هذا الكتاب في "15" من ذي الحجة الحرام، الموافق ليوم "21" من أكتوبر "3321" هجرية، "1914" ميلادية، وصححناه حسب ما يمكن من النسخ المعتبرة).

[خاتمة الكتاب]

[خَاتمَة الكِتَاب] (¬1) فَهَذَا آخِرُ مَا قَصَدْتُهُ مِنْ بَيَانِ الأَحَادِيثِ الَّتِي جَمَعَتْ قَوَاعِدَ الإِسْلَامِ، وَتَضَمَّنَتْ مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ فِي الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَالآدَابِ وَسَائِرِ وُجُوهِ، الأَحْكَامِ. وَهَأَنَا أَذْكُرُ بَابًا مُخْتَصَرًا جِدًّا في ضَبْطِ أَلْفَاظِهَا مُرَتَّبَةً؛ لِئَلَّا يُغْلَطَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَلِيَسْتَغْنِيَ بِهَا حَافِظُهَا عَنْ مُرَاجَعَةِ غَيْرِهِ فِي ضَبْطِهَا، ثُمَّ أَشْرَعُ في شَرْحِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ، وَأَرْجُو مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنِي فِيهِ لِبَيَانِ مُهِمَّاتٍ مِنَ اللَّطَائِفِ، وَجُمَلٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَعَارِفِ، لَا يَسْتَغْنِي مُسْلِمٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مَثْلِهَا، وَيَظْهَرُ لِمُطَالِعِهَا جَزَالَةُ هَذِهِ الأَحَادِيثِ وَعِظَمُ فَضْلِهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْنَّفَائِسِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَالْمُهِمَّاتِ الَّتِي وَصَفْتُهَا، وَيَعْلَمُ بِهَا الْحِكْمَةَ فِي اخْتِيَارِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الأَرْبَعِينَ، وَأَنَّهَا حَقِيقَةٌ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاظِرِينَ. وَإِنَّمَا أَفْرَدْتُهَا عَنْ هَذَا الْجُزْءِ؛ لِيَسْهُلَ حِفْظُ ذَا الْجُزْءِ بِانْفِرَادِهِ، ثُمَّ مَنْ أَرَادَ ضَمَّ الشَّرْحِ إِلَيْهِ. . فَلْيَفْعَلْ، وَللَّهِ عَلَيْهِ الْمِنَّةُ بِذَلِكَ؛ إِذْ يَقِفُ عَلَى نَفَائِسِ اللَّطَائِفِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، وَللَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَوَّلًا وَآخِرًا، بَاطِنًا وَظَاهِرًا عَلَى نِعَمِهِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) هذه خاتمة الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى لكتابه "الأربعين" وأتبعها كما يفعل في كتبه بباب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات، وأكثرُ مَنْ نشر "الأربعين النووية" غفل عنها؛ وللفائدة وللأمانة العلمية ولطلبة العلم نهدي لهم هذه الوريقات بعد أن تمت مقابلتها على ثلاث نسخ خطية نفيسة، والحمد للَّه أولًا وآخرًا. (¬2) في (ب): (. . . وظاهرًا، تم الجزء، والحمد للَّه وحده، وصلواته على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا).

باب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات

بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ هذا الباب وإن ترجمته بالمشكلات فقد أُنبِّه فيه على ألفاظٍ من الواضحات. في الخطبة "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً" روي بتشديد الضاد وتخفيفها، والتشديد أكثر؛ ومعناه: حسَّنه وجمَّله. الحديث الأول (أميرُ المُؤمنِينَ) عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هو أول من سمي أمير المؤمنين. قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ" المزاد: لا تُحسب الأعمال الشرعية إلَّا بالنِّيَّة. قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "فَهِجرَتُهُ إلَى اللَّهِ ورَسُولِه" معناه: مقبولة. الحديث الثاني (لا يُرى عليهِ أثَرُ السَّفَرِ) هو بضم الياء من (يُرى). قوله: "تُؤمِنَ بالقدرِ خيرهِ، وشرِّهِ" معناه: تعتقد أن اللَّه تعالى قدَّر الخير والشرَّ قبل خلق الخلق، وَأن جميع الكائنات قائمة (¬1) بقضاء اللَّه تعالى وقدره وهو مريدٌ لها. قوله: "فأخبرني عن أمارتها" هو بفتح الهمزة؛ أي: علامتها، ويقال: (أمار) بلا هاء لغتان، لكن الرواية بالهاء. قوله: "تلِدَ الأمَةُ ربَّتَهَا" أي: سيِّدتها؛ ومعناه: أن تكثر السَّراري حتى تلد الأمة السّرِّية بنتًا لسيدها، وبنت السيد في معنى السيد، وقيل: يكثر بيع السَّراري، حتى ¬

_ (¬1) قوله: (قائمة) زيادة من (ج) من نسخ المتن.

الحديث الخامس

تشتري المرأة أمها وتستعبدها جاهلةً بأنها أمها، وقيل غير ذلك، وقد أوضحته في "شرح صحيح مسلم" بدلائله وجميع طرقه (¬1). قوله: "العَالَةَ" أي: الفقراء؛ ومعناه: أن أسافل الناس يصب رون أهل ثروةٍ ظاهرةٍ. قوله: (لبثت مليًّا) (¬2) هو بتشديد الياء؛ أي: زمانًا كثيرًا، وكان ذلك ثلاثًا، هكذا جاء مبينًا في رواية أبي داوود، والترمذي وغيرهما (¬3). الحديث الخامس " مَنْ أحدَثَ في أمرِنا. . . فهُو رَدٌّ" أي: مردود، كالخلْق بمعنى المخلوق. الحديث السادس " فقد استبرأ لدينهِ وعِرضِه" أي: صان دينه، وحمى عرضه من وقوع الناس فيه. قوله: "يُوشِكُ" هو بضم الياء وكسر الشين؛ أي: يسرع ويقرب. قوله: "حِمى اللَّهِ محارمُهُ" معناه: الذي حماه اللَّهُ تعالى ومنع دخوله هو الأشياء التي حرَّمها. الحديث السابع قوله: (عن أبي رُقَيَّةَ): هو بضم الراء وفتح القاف وتشديد الياء. قوله: (الدَّاريّ) منسوب إلى جدٍّ له اسمه الدَّار، وقيل: إلى موضعٍ يُقال له: دارين، ويقال فيه أيضًا: الدَّيري نسبةً إلى ديرٍ كان يتعبَّد فيه، وقد بسطت القول في إيضاحه في أوائل "شرح صحيح مسلم" (¬4). ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم (1/ 158 - 159). (¬2) اللفظ في الحديث: (فلثبت) بالفاء، وفي رواية: (فلبث) والقائل هو سيدنا عمر رضي اللَّه عنه. (¬3) سنن أبي داوود (4695)، وسنن الترمذي (2610) عن سيدنا عمر رضي اللَّه عنه، وقد تقدم ذكر ذلك (ص 184). (¬4) شرح صحيح مسلم (1/ 142).

الحديث التاسع

الحديث التاسع قوله: "واختِلافُهُم" هو برفع الفاء لا بكسرها. الحديث العاشر قوله: "غُذِيَ بالحَرَام" هو بضم الغين وكسر الذال المعجمة المخففة. الحديث الحادى عشر " دَعْ ما يَرِيبُك" بفتح الياء وضمها لغتان، والفتح أفصح وأشهر؛ معناه: اترك ما شككت فيه واعدل إلى ما لا تشك فيه. الحديث الثاني عشر قوله: "يَعنيه" بفتح أوله. الحديث الرابع عشر قوله: "الثَّيِّبُ الزَّاني" معناه: المَحْصَنُ إذا زنى، وللإحصان شروطٌ معروفةٌ في كتب الفقه. الخامس عشر قوله: "لِيَصمُتْ" بضم الميم. السابع عشر " القِتلَةُ" و"الذِّبْحَةُ" بكسر أولهما. قوله: "ولْيُحِدَّ" هو بضم الياء وكسر الحاء وتشديد الدال، يقال: أَحَدَّ السكين، وحددها، واستحدَّها بمعنًى. الثامن عشر (جُنْدُب) بضم الجيم، وبضم الدال وفتحها. و (جُنَادَةُ) بضم الجيم.

التاسع عشر

التاسع عشر " تُجَاهَكَ" بضم التاء وفتح الهاء؛ أي: أمامك كما في الرواية الأخرى. "تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرَّخاء" أي: تحبَّب إليه بلزوم طاعته، واجتناب مخالفته. العشرون " إذَا لَم تستحْي. . فاصنعْ ما شِئت" معناه: إذا أردتَ فعل شيءٍ: فإن كان مما لا تستحي من اللَّه ومن الناس في فعله. . فافعله، وإلَّا. . فلا، وعلى هذا مدار الإسلام. الحادي والعشرون " قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" أي: استقم كما أمرت، ممتثلًا أمر اللَّه تعالى، مجتنبًا نهيه. الثالث عشر قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "الطهورُ شاطرُ الإيمان" المراد بالطهور: الوضوء، قيل: معناه: ينتهي تضعيف ثوابه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: الإيمان يجُبُّ ما قبله من الخطايا، وكذا الوضوء، لكن الوضوء تتوقف صحته على الإيمان، فصار نصفًا، وقيل: المراد بالإيمان: الصلاة، والطهور شرط لصحتها، فصار كالشطر، وقيل غير ذلك. قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "والحمدُ للَّهِ تملأ الميزانَ" أي: ثوابها. "وسُبحان اللَّهِ والحمدُ للَّهِ تملآنِ" أي: لو قدِّر ثوابهما جسمًا. . لملأا، وسببه ما اشتملتا عليه من التنزيه والتفويض إلى اللَّه تعالى. "والصَّلاة نُورٌ" أي: تمنع من المعاصى، وتنهى عن الفحشاء، وتهدي إلى الصواب، وقيل: يكون ثوابها نورًا لصاحبها يوم القيامة، وقيل: إنها سببٌ لاستنارة القلب.

الرابع والعشرون

"والصّدقةُ بُرهَانٌ" أي: حجّةٌ لصاحبها في أداء حقِّ المال، وقيل: حُجَّةٌ في إيمان صاحبها؛ لأن المنافق لا يفعلها غالبًا. "والصَّبرُ ضِياءٌ" أي: الصبر المحبوب، وهو الصبر على طاعة اللَّه تعالى، والبلاءِ، ومكاره الدنيا، وعن المعاصي؛ ومعناه: لا يزال صاحبه مستضيئًا مستمرًا على الصواب. "كُلُّ النَّاسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ" معناه: كل إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها للَّهِ تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما. "فيُوبقُهَا" أي: يهلكها (¬1)، وقد بسطت شرح هذا الحديث في أول "شرح صحيح مسلم"، فمن أراد زيادة. . فليراجعه، وباللَّهِ التوفيق (¬2). الرابع والعشرون قوله تعالى: "حرَّمتُ الظلّم على نفسي" أي: تقدَّست عنه، فالظلم مستحيلٌ في حق اللَّه تعالى؛ لأنه مجاوزة الحدِّ أو التصرف في غير ملك، وهما جميعًا محالٌ في حقِّ اللَّه تعالى. قوله تعالى: "فلا تظالموا" هو بفتح التاء؛ أي: لا تتظالموا. قوله تعالى: "كما ينقص المِخْيَطُ" هو بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء؛ أي: الإبرة، ومعناه: لا ينقص شيئًا. الخامس والعشرون " الدُّثور" بضم الدال والثاء المثلثة: الأموال، واحدها دَثر، كفلس وفلوس. قوله: "وفي بُضْعِ أحدكم" هو بضم الباء وإسكان الضاد المعجمة، وهو كنايةٌ عن الجماع إذا نوى به العبادة؛ وهو قضاءُ حقّ الزوجة، وطلبُ ولد صالح، وإعفافُ النفس وكفُّها عن المحارم. ¬

_ (¬1) في (ج): (فموبقها: أي: مهلكها). (¬2) شرح صحيح مسلم (3/ 100 - 102).

السادس والعشرون

السادس والعشرون " السُّلَامى" بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم، وجمعه سُلامَيات بفتح الميم: وهي المفاصل والأعضاء، وهي ثلاث مئةٍ وستون، ثبت ذلك في "صحيح مسلم" عن رسول اللَّه صلى اللَّه وسلم (¬1). السابع والعشرون (النَّوَّاس) بفتح النون وتشديد الواو. و (سَمْعان) بكسر السين وفتحها. قوله: "حاكَ" بالحاء المهملة والكاف؛ أي: تردَّد. (وابصة) بكسر الباء الموحدة. الثامن والعشرون (العِرباض) بكسر العين وبالموحدة. و (سَاريَة) بالسين المهملة والياء المثناة من تحت. قوله: (ذَرَفتْ) بفتح الذال المعجمة والراء؛ أي: سالت. قوله: "بالنَّواجذ" هو بالذال المعجمة؛ وهي الأنياب، وقيل: الأضراس. و"البدعة" ما عُمل على غير مثال سبق. التاسع والعشرون و"ذِروة السَّنَام" بكسر الذال وضمها؛ أي: أعلاه. (مِلاك الشيءِ) بكسر الميم؛ أي: مقصوده. قوله: "يَكُبّ" هو بفتح الياء وضم الكاف. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1007) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي اللَّه عنها.

الثلاثون

الثلاثون (الخُشَني) بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين وبالنون، منسوبٌ إلى خُشينة قبيلة معروفة. قوله: (جُرْثوم) بضم الجيم والثاء المثلثة وإسكان الراء بينهما، وفي اسمه واسم أبيه اختلاف كثير. الثاني والثلاثون " وَلَا ضِرَارَ" هو بكسر الضاد. الرابع والثلاثون " فإن لم يستَطِع. . فبقلبِهِ" معناه: فليكرهه بقلبه. "وذلك أضعَفُ الإيمانِ" أي: أقلُّه ثمرةً. الخامس والثلاثون " ولا يَكْذِبُهُ" هو بفتح الياء وإسكان الكاف. قوله: "بحسب امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ" هو بإسكان السين؛ أي: يكفيه من الشرِّ. الثامن والثلاثون " فَقَدْ آذَنْتُهُ" هو بهمزة ممدودة؛ أي: أعلمته بأنه مُحاربٌ لي. قوله: "استعاذني" ضبطوه بالنون وبالباء وكلاهما صحيح. الأربعون " كُنْ في الدُّنْيَا كأنَّكَ غَرِيبٌ" أي: لا تركن إليها، ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدِّث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغِل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.

الثاني والأربعون

الثاني والأربعون " عَنَانَ السَّماءِ" بفتح العين؛ قيل: هو السحاب، وقيل: ما عنّ لك منها؛ أي: ما ظهر إذا رفعت رأسك. قوله: "بِقُرَابِ الأرْضِ" بضم القاف وكسرها لغتان روي بهما، والضم أشهر؛ ومعناه: ما يقارب ملأها (¬1). فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا"] اعلم: أن الحديث المذكور أولًا: "مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعين حِدِيثًا" معنى الحفظ هنا: أن ينقلها إلى المسلمين وإن لم يحفظها ولا عرف معناها، هذا حقيقة معناه، وبه يحصل انتفاع الملسمين، لا بحفظ ما لا ينقله إليهم، واللَّه أعلم بالصواب. قال مؤلِّفه: فرغت منه ليلة الخميس، التاسع والعشرين من جمادى الأولى، سنة ثمان وستين وست مئة. * * * ¬

_ (¬1) في (أ): (ما يقارب مثلها).

أهم مصادر ومراجع التحقيق

أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ (¬1) - الإتقان في علوم القرآن، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، تحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير - دار العلوم الإنسانية، سورية. - الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، للإمام الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت 643 هـ)، تحقيق الدكتور عبد الملك عبد اللَّه دهيش، ط 4، (2001 هـ)، دار خضر، لبنان. - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان المسمى: "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها"، للإمام الحافظ علي بن بَلبان الفارسي المصري، (ت 739 هـ)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط 3، (1997 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام من كلام خير الأنام صلى اللَّه عليه وآله وسلم، للحافظ الفقيه محمد بن علي المعروف بابن دقيق العيد (ت 702 هـ)، حققه حسن أحمد إسبر، ط 1، (2002 م)، دار ابن حزم، لبنان. - إحياء علوم الدين وبذيله المغني عن حمل الأسفار في الأسفار للعراقي (ت 806 هـ)، لحجة الإسلام محمد بن محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ)، بدون تحقيق، ط 1، (1982 م)، طبعة مصورة لدى دار المعرفة، لبنان. - أدب الإملاء والاستملاء، للإمام الحافظ عبد الكريم بن محمد السمعاني (ت 562 هـ)، عني به ماكس فايسنايلر، لبنان. ¬

_ (¬1) اعتمدنا في فهرسة المصادر على التالي: اسم الكتاب، اسم المؤلف وتاريخ وفاته، اسم المحقق، رقم الطبعة، تاريخ طبع الكتاب، اسم الدار الناشرة ومقرها.

- الأدب المفرد، لإمام الدنيا الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 4، (1997 م)، نسخة مصورة لدى دار البشائر الإسلامية عن طبعة المكتبة السلفية، لبنان. - الأذكار من كلام سيد الأبرار المسمى: "حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبة في الليل والنهار"، للإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)، عني به صلاح الدين الحمصي وعبد اللطيف عبد اللطيف ومحمد شعبان، ط 1، (2005 م)، دار المنهاج، السعودية. - إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري وبهامشه صحيح مسلم وشرح النووي عليه، للإمام العلامة أحمد بن محمد بن أبي بكر القُسْطُلاني (ت 923 هـ)، بدون تحقيق، ط 6، (1304 هـ)، طبعة مصورة عن نشرة بولاق لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، للإمام عبد الملك بن عبد اللَّه بن يوسف الجويني (ت 478 هـ)، تحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم عبد الحميد، مكتبة الخانجي، مصر. - أسنى المطالب شرح روض الطالب وبهامشه حاشية الشهاب الرملي (ت 844 هـ) بتجريد العلامة الشوبري (ت 1069 هـ)، لشيخ الإسلام العلامة زكريا بن محمد بن أحمد الأنصاري (ت 926 هـ)، ط 1، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار الكتاب الإسلامي، مصر. - أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل، ومعه: "جواهر الدرر في مناقب ابن حجر"، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، تحقيق أحمد فريد المزيدي، ط 1، (1998 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - الإصابة في تمييز الصحابة، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار الكتاب العربي، لبنان. - الأعلام، للأديب خير الدين الزركلي (ت 1976 م)، ط 12، (1997 م)، دار العلم للملايين، لبنان.

- إكمال المعلم بفوائد مسلم، للإمام القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ)، تحقيق الدكتور يحيى إسماعيل، ط 2، (2004 م)، دار الوفاء، مصر. - الإنافة فيما جاء في الصدقة واالضيافة، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، تحقيق محمد عبد القادر عطا، ط 1، (1991 م)، مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان، - الأنساب، للإمام الحافظ عبد الكريم بن محمد السمعاني (ت 562 هـ)، تقديم وتعليق عبد اللَّه عمر البارودي، ط 1، (1998 م)، دار الفكر، لبنان. - البحر الزخار المعروف بمسند البزار، للإمام الحافظ أحمد بن عمرو البزار (ت 292 هـ)، تحقيق الدكتور محفوظ الرحمن زين اللَّه، ط 1، (1988 م)، مكتبة العلوم والحكم، السعودية. - بحر المذهب في فروع مذهب الإمام الشافعي، للإمام الفقيه عبد الواحد بن إسماعيل الروياني (ت 502 هـ)، تحقيق أحمد عزو عناية، دار إحياء التراث العربي، لبنان. - تاج العروس من جواهر القاموس، للإمام السيد محمد مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ)، تحقيق عبد الستار أحمد فراج وجماعة من أئمة التحقيق، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت. - التاريخ الكبير، لإمام الدنيا الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ)، عني به السيد هاشم الندوي، دار الفكر، لبنان. - تاريخ بغداد، للإمام الحافظ أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، ط 1، (1997 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها، للإمام الحافظ علي بن الحسن بن هبة اللَّه المعروف بابن عساكر (ت 571 هـ)، تحقيق محب الدين عمر بن غرامة العَمْروي، ط 1، (1995 م)، دار الفكر، لبنان.

- التبيان في آداب حملة القرآن، للإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)، تحقيق محمد شادي مصطفى عربش، ط 1، (2005 م)، دار المنهاج، السعودية. - تحفة المحتاج بشرح المنهاج ومعها حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ) والشيخ عبد الحميد الشرواني (ت 1301 هـ) والشيخ أحمد بن قاسم العبادي (ت 992 هـ)، بدون تحقيق، طبعة مصورة لدى دار صادر، لبنان. - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، تحقيق نظر محمد الفاريابي، ط 6، (1423 هـ)، دار طيبة، السعودية. - التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، للإمام الحافظ محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ)، تحقيق الدكتور الصادق محمد إبراهيم، مكتبة دار المنهاج، السعودية. - الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للإمام الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 هـ)، تحقيق محي الدين مستو وسمير العطار ويوسف بديوي، ط 3، (1999 م)، دار ابن كثير، سورية. - تعظيم قدر الصلاة، للإمام الحافظ محمد بن نصر المروزي (ت 894 هـ)، تحقيق أحمد أبو المجد، ط 1، (2003 م)، دار العقيدة، مصر. - تفسير ابن أبي حاتم، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن محمد الرازي المعروف بابن أبي حاتم (ت 327 هـ)، تحقيق أسعد محمد الطيب، المكتبة العصرية، لبنان. - تفسير ابن عادل المسمى: "اللباب في علوم الكتاب"، للإمام المفسر عمر بن علي بن عادل الحنبلي (ت 880 هـ)، ط 1، (1998 م)، لبنان. - تفسير ابن عطية المسمى: "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز"، للإمام القاضي عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت 546 هـ)، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، ط 1، (2001 م)، دار الكتب العلمية، لبنان.

- تفسير البغوي المسمى: "معالم التنزيل"، للإمام الحافظ الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ)، تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار، ط 1، (1986 م)، دار المعرفة، لبنان. - تفسير الطبري المسمى: "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، للإمام العلامة محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ)، عني به مكتب التحقيق والإعداد العلمي في دار الأعلام، ط 1، (2002 م)، دار ابن حزم ودار الأعلام، لبنان والأردن. - تفسير القرآن العظيم، للإمام الحافظ إسماعيل بن عمر الدمشقي المعروف بابن كثير (ت 774 هـ)، تصحيح مجموعة من العلماء، (1969 م)، طبعة مصورة لدى دار المعرفة، لبنان. - تفسير القرطبي المسمى: "الجامع لأحكام القرآن"، للإمام محمد بن أحمد القرطبي (ت 671 هـ)، (1985 م)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - التفسير الكبير المسمى مفاتح الغيب، للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606 هـ)، تصحيح مجموعة من العلماء، ط 3، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - تلخيص الحبير المسمى: "التمييز في تلخيص تخريج أحاديث شرح الوجيز"، للإمام الحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، عني به السيد عبد اللَّه هاشم اليماني، ط (1964)، دار المدينة المنورة، السعودية. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للإمام الحافظ يوسف بن عبد اللَّه النمري المعروف بابن عبد البر (ت 463 هـ)، تحقيق مجموعة من المحققين، ط 1، (1967 م)، وزارة الأوقاف، المغرب. - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، للعلامة الفقيه علي بن محمد ابن عراق الكناني (ت 963 هـ)، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد اللَّه محمد الصديق الغُماري، ط 2، (1981 م)، طبعة مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان.

- تهذيب الأسماء واللغات، للإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)، ط 1، بدون تاريخ، طبعة عن الطبعة المنيرية مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان. - الثقات، للإمام الحافظ محمد بن حِبَّان البُسْتي (ت 354 هـ)، علق عليه إبراهيم شمس الدين وتركي فرحان المصطفى، ط 1، (1998 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أحمد السَّلامي المعروف بابن رجب الحنبلي (ت 759 هـ)، تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، ط 10، (2004 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - جامع بيان العلم وفضله، للإمام الحافظ يوسف بن عبد اللَّه النمري المعروف بابن عبد البر (ت 463 هـ)، تحقيق أبو الأشبال الزهيري، ط 1، (1994 م)، دار ابن الجوزي، السعودية. - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للإمام الحافظ أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، تحقيق الدكتور محمد عجاج الخطيب، ط 1، (1991 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - الجامع لشعب الإيمان، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، ط 2، (2004 م)، مكتبة الرشد، السعودية. - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام صلى اللَّه عليه وسلم، للإمام الحافظ محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ)، تحقيق محي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيب ودار ابن كثير، سورية. - الجمع بين الصحيحين، للإمام المحدث محمد بن فتوح الحميدي (ت 488 هـ)، تحقيق الدكتور علي حسين البواب، ط 2، (2002 م)، دار ابن حزم، لبنان.

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للإمام الحافظ محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ)، تحقيق بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان، سورية. - حاشية ابن حجر الهيتمي على الإيضاح في مناسك الحج للإمام النووي المسماة: "منح الفتاح شرح حقائق الإيضاح"، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، تحقيق عبد المنعم إبراهيم، ط 2، (2000 م)، المكتبة العصرية، لبنان. - حاشية الإمام الباجوري على جوهرة التوحيد المسمى: "تحفة المريد على جوهرة التوحيد"، للإمام العلامة إبراهيم بن محمد الباجوري (ت 1276 هـ)، تحقيق الدكتور علي جمعة محمد، ط 1، (2002 م)، دار السلام، مصر. - حاشية البجيرمي على الخطيب المسماة: "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" المعروف بالإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، للإمام الفقيه سليمان بن محمد البجيرمي (ت 1221 هـ)، (1951 م)، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. - الحاوي للفتاوي، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، بدون تحقيق، طبعة مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان. - الحبائك في أخبار الملائك، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول، ط 1، (1985 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - الحجة للقراء السبعة، للإمام الحافظ النحوي الحسن بن عبد الغفار الفارسي (ت 377 هـ)، تحقيق بدر الدين قهوجي وبشير جويجاتي، ط 1، (1984 م)، دار المأمون للتراث، سورية. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للإمام الحافظ أحمد بن عبد اللَّه المعروف بأبي نُعيم الأصبهاني (ت 430 هـ)، ط 5، (1987 م)، دار الريان للتراث ودار الكتاب العربي، مصر ولبنان.

- خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، لإمام الدنيا الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ)، تحقيق فهد سليمان الفهيد، ط 1، (2005 م)، دار أطلس الخضراء، السعودية. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، (2002 م)، دار الفكر، لبنان. - الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، عني به بوجمعة مكري ومحمد شادي عربش، ط 1، (2005 م)، دار المنهاج، السعودية. - درة الغواص في أوهام الخواص، للأديب الكبير القاسم بن علي الحريري (ت 516 هـ)، تحقيق عرفان مطرجي، ط 1، (1998 م)، مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان. - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي، ط 1، (1988 م)، دار الريان، مصر. - ديوان الشافعي وحكمه وكلماته السائرة، لإمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، جمع وضبط يوسف علي بديوي، ط 1، (2000 م)، مكتبة دار الفجر، سورية. - ديوان امرئ القيس، لشاعر العرب الملك الضليل حُنْدُج بن حُجر المعروف بامرئ القيس (ت 80 ق هـ)، ط 1، (2000 م)، دار صادر، لبنان. - الرسالة القشيرية في علم التصوف، لزين الإسلام الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري (ت 465 هـ)، ط 1، (1987 م)، طبعة مصورة لدى دار أسامة، لبنان. - الرسالة، لإمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، طبعة مصورة بدون ناشر، لبنان.

- روضة المحبين ونزهة المشتاقين، للإمام الحافظ محمد بن أبي بكر الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ)، تحقيق بشير محمد عيون، مكتبة دار البيان، سورية. - الزهد الكبير، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق الشيخ عامر أحمد حيدر، ط 3، (1996 م)، مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان. - الزهد والرقائق برواية المروزي ويليه زيادات رواية نُعيم بن حمّاد عليه، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن المبارك بن واضح المروزي (ت 181 هـ)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط 1، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان. - الزهد، للإمام الحافظ أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ)، عني به محمد عبد السلام شاهين، ط 1، (1999 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - السنة، للإمام الحافظ أحمد بن عمرو المعروف بابن أبي عاصم (ت 287 هـ)، بدون تحقيق، ط 1، (2004 م)، دار ابن حزم، لبنان. - سنن ابن ماجه، للإمام الحافظ محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، (1954 م)، دار إحياء الكتب العربية لصاحبها عيسى البابي الحلبي، مصر. - سنن ابن ماجه، للإمام الحافظ محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ)، تحقيق اللجنة العلمية للدار، ط 1، (1421 هـ)، جمعية المكنز الإسلامي، مصر. - سنن أبي داوود وبهامشه معالم السنن للخطابي، للإمام الحافظ أبي داوود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ)، تحقيق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، ط 1، (1997 م)، دار ابن حزم، لبنان. - سنن الترمذي المسمى: "الجامع الصحيح"، للإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 هـ)، تحقيق أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة، ط 1، (1938 م)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان.

- سنن الترمذي المسمى: "الجامع الصحيح"، للإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279 هـ)، تحقيق اللجنة العلمية للدار، ط 1، (1421)، جمعية المكنز الإسلامي، مصر. - سنن الدارقطني وبذيله: "التعليق المغني على الدارقطني"، للإمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ)، عني به عبد اللَّه هاشم يماني، ط 1، (1966 م)، طبعة مصورة لدى دار المعرفة، لبنان. - السنن الصغير، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، ط 1، (1989 م)، جامعة الدراسات الإسلامية، باكستان. - السنن الكبرى وبذيله: "الجوهر النقي" لابن التركماني، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، بعناية السيد هاشم الندوي، ط 1، (1356 هـ)، طبعة مصورة عن دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدّكّن لدى دار المعرفة، لبنان. - السنن الكبرى، للإمام الحافظ أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ)، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي، ط 1، (2001 هـ)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها، للإمام الحافظ عثمان بن سعيد المعروف بأبي عمرو الداني (ت 444 هـ)، تحقيق الدكتور رضاء اللَّه بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة، السعودية. - سير أعلام النبلاء، للإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ)، إشراف شعيب الأرنؤوط، ط 11، (1996 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - السيرة الشامية المسماة: "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد صلى اللَّه عليه وسلم"، للإمام المحدث محمد بن يوسف الصالحي (ت 942 هـ)، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، (1997 م)، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر.

- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، للإمام الفقيه عبد الحي بن أحمد المعروف بابن العماد (ت 1589 م)، تحقيق محمود الأرنؤوط، ط 1، (1986 م)، دار ابن كثير، سورية. - شرح حكم الإمام ابن عطاء اللَّه السكندري، للعلامة عبد المجيد الشرنوبي (ت 1348 هـ)، تحقيق الدكتور عبد الفتاح البزم، ط 7، (1999 م)، دار ابن كثير، سورية. - شرح ديوان المتنبي المسمى: "التبيان في شرح الديوان"، للإمام الأديب عبد اللَّه بن الحسين المعروف بأبي البقاء العُكْبَري (ت 616 هـ)، عني به مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، ط الأخيرة، (1971 م)، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. - شرح صحيح مسلم المسمى: "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج"، للإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)، بدون تحقيق، (1349 هـ)، طبعة مصورة لدى مكتبة الغزالي، سورية. - الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى اللَّه عليه وسلم، للإمام القاضي عِيَاض بن موسى اليَحْصُبي (ت 544 هـ)، تحقيق عبده علي كوشك، ط 1، (2000 م)، مكتبة الغزالي ودار الفيحاء، سورية. - الشكر، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت 281 هـ)، عني به أحمد محمد طاحون، بدون تاريخ، السعودية. - صحيح ابن خزيمة المسمى: "مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم"، للإمام الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311 هـ)، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، ط 3، (2003 م)، المكتب الإسلامي، لبنان. - صحيح البخاري المسمى: "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وسننه وأيامه" (الطبعة السلطانية العثمانية)، لإمام الدنيا الحافظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ)، عني به الدكتور محمد زهير بن ناصر الناصر، ط 1، (1422 هـ)، دار طوق النجاة، لبنان.

- صحيح مسلم المسمى: "الجامع الصحيح"، للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، (1954 م)، دار إحياء الكتب العربية لصاحبها عيسى البابي الحلبي، مصر. - الصمت وآداب اللسان، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت 281 هـ)، تحقيق أبو إسحاق الحويني، دار الكتاب العربي، لبنان. - الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، ط 2، (1965 م)، مكتبة القاهرة، مصر. - الضعفاء، للإمام الشيخ محمد بن عمرو العقيلي (ت 322 هـ)، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط 1، (2000 م)، دار الصميعي، السعودية. - طبقات الشافعية الكبرى، لإمام القاضي عبد الوهاب بن علي المعروف بتاج الدين السبكي (ت 771 هـ)، تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمود محمد الطناحي، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار إحياء الكتب العربية، مصر. - الطبقات الكبير، للإمام الحافظ المؤرخ محمد بن سعد بن منيع البصري (ت 230 هـ)، تحقيق الدكتور إحسان عباس، ط 1، دار صادر، لبنان. - عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي، للإمام القاضي أبو بكر محمد بن عبد اللَّه المعروف بابن العربي المالكي (ت 543 هـ)، ط 2، (1354 هـ)، طبعة مصورة لدى دار الكتاب العربي، لبنان. - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي (ت 597 هـ)، تحقيق خليل الميس، لبنان. - العلل الواردة في الأحاديث النبوية، للإمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ)، تحقيق الدكتور محفوظ الرحمن زين اللَّه ومحمد صالح الدباسي، ط 3، (2003 م)، دار طيبة ودار ابن الجوزي، السعودية. - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للإمام العلامة محمود بن أحمد العيني (ت 855 هـ)، ط 1، (1348 هـ)، طبعة مصورة عن نشرة السلفية لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان.

- عمل اليوم والليلة، للإمام الحافظ أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ)، بدون تحقيق، ط 1، (1988 م)، مؤسسة الكتب الثقافية، لبنان. - عمل اليوم والليلة، للإمام الحافظ أحمد بن محمد الدينوري الشهير بابن السني (ت 364 هـ)، تحقيق بشير محمد عيون، ط 3، (1994 م)، مكتبة دار البيان، سورية. - الفتاوى الحديثية، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، بدون تحقيق، ط 3، (1989 م)، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. - فتاوى السبكي، للإمام الفقيه تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ)، بدون تحقيق، دار المعرفة، لبنان. - الفتاوى الكبرى الفقهية وبهامشها "فتاوى الإمام الشهاب الرملي"، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، ط 1، (1308 هـ)، طبعة مصورة لدى المكتبة الإسلامية عن طبعة الميمنية، تركية. - الفتاوى الموصلية، للإمام الفقيه عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (ت 660 هـ)، تحقيق إياد خالد الطباع، ط 1، (1999 م)، دار الفكر، سورية. - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى مكتبة الغزالي، سورية. - فتح الجواد بشرح الإرشاد للإمام ابن المقري (ت 837 هـ)، للإمام للعلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، ط 2، (1971 م)، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. - الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين حديثًا النووية وبهامشه "المجالس السنية في الكلام على الأربعين النووية" للشيخ أحمد حجازي الفشني (ت بعد 978 هـ)، للإمام الفقيه إبراهيم بن مرعي بن عطية الشبرخيتي (ت 1106 هـ)، ط 1، (1955 م)، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.

- الفردوس بمأثور الخطاب، للإمام الحافظ شيرويه بن شهردار الديلمي (ت 509 هـ)، تحقيق السعيد بن بسيوني زغلول، ط 1، (1986 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - الفقيه والمتفقه، للإمام الحافظ أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي (ت 462 هـ)، تحقيق عادل يوسف العزازي، دار ابن الجوزي، السعودية. - الفوائد الجنية على المواهب السنية شرح الفرائد البهية في نظم القواعد الفقهية، للعلامة محمد ياسين بن عيسى الفاداني المكي (ت 1410 هـ)، بدون تحقيق، دار الفكر، لبنان. - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للإمام العلامة محمد عبد الرؤوف بن علي المناوي (ت 1031 هـ)، بدون تحقيق، ط 1، (1357 هـ)، طبعة مصورة لدى دار المعرفة، لبنان. - القربة إلى رب العالمين بالصلاة على محمد سيد المرسلين صلى اللَّه عليه وآله وسلم، للمؤرخ البحَّاثة خلف بن عبد الملك المعروف بابن بَشْكُوَال (ت 578 هـ)، تحقيق سيد محمد سيد وخلاف عبد السميع، ط 1، (1999 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - القواعد الكبرى المسمى: "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" للإمام الفقيه عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (ت 660 هـ)، تحقيق الدكتور نزيه كمال حماد والدكتور عثمان جمعة ضميرية، ط 1، (2000 م)، دار القلم، سورية. - الكامل في ضعفاء الرجال، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن عدي الجرجاني (ت 365 هـ)، تحقيق الدكتور سهيل زكار ويحيى مختار غزاوي، ط 3، (1988 م)، دار الفكر، لبنان. - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل وفي حاشيته: "الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" لابن المنير (ت 683 هـ) وفي آخره "الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف" لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) و"شرح شواهد الكشاف" لمحب الدين أفندي، للإمام الكبير

محمود بن عمر بن محمد الزمخشري (ت 538 هـ)، تحقيق عبد الرزاق المهدي، ط 2، (2000 هـ)، دار إحياء التراث العربي، لبنان. - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعلامة المحدث إسماعيل بن محمد العجلوني (ت 1162 هـ)، بدون تحقيق، ط 3، (1351 هـ)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للإمام الحافظ علي بن حسام الدين المعروف بالبرهان فوري (ت 975 هـ)، عني به بكري حيّاني وصفوة السقا، ط 1، (1993 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - مجمع الأمثال، للعلامة الأديب البحَّاثة أحمد بن محمد بن أحمد الميداني (ت 518 هـ)، تحقيق الدكتور جان عبد اللَّه توما، ط 1، (2002 م)، دار صادر، لبنان. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للإمام الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ)، بدون تحقيق، (1986 م)، طبعة مصورة لدى مكتبة المعارف، لبنان. - المجموع شرح المهذب، للإمام الحافظ يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)، تحقيق الدكتور محمود مطرجي، ط 1، (1996 م)، دار الفكر، لبنان. - المحتضرين، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت 281 هـ)، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، ط 1، (1997 م)، دار ابن حزم، لبنان. - المحلى، للإمام الفقيه علي بن أحمد بن سعيد المعروف بابن حزم الظاهري (ت 456 هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار الجيل، لبنان. - مداراة الناس، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت 281 م)، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، دار ابن حزم، لبنان.

- المسامرة شرح المسايرة، للعلامة كمال الدين ابن أبي شريف (ت 905 هـ)، دائرة المعارف الإسلامية، بلوجستان. - المستدرك على الصحيحين وبذيله "تلخيص المستدرك" للحافظ الذهبي، للإمام الحافظ محمد بن عبد اللَّه بن حمدويه النيسابوري المعروف بالحاكم (ت 405 هـ)، بدون تحقيق، ط 1، (1335 هـ)، نسخة مصورة لدى دار المعرفة عن طبعة دائرة المعارف النظامية في الهند بحيدر آباد الدّكّن، لبنان. - مسند أبي داوود الطيالسي، للإمام الحافظ سليمان بن داوود بن الجارود المعروف بأبي داوود الطيالسي (ت 254 هـ)، ط 1، (1321 هـ)، طبعة مصورة لدى دار المعرفة، لبنان. - مسند أبي يعلى الموصلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثنى المعروف بأبي يعلى الموصلي (ت 307 هـ)، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، ط 2، (1989 م)، دار المأمون للتراث ودار الثقافة العربية، سورية. - مسند الإمام أحمد ابن حنبل، للإمام الحافظ أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ)، تحقيق مجموعة من العلماء بإشراف شعيب الأرنؤوط، ط 1، (1995 هـ)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - مسند الإمام الشافعي، لإمام الدنيا محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، تحقيق أيوب أبو خشريف، ط 1، (2002 م)، دار الثقافة العربية، سورية. - مسند الدارمي المعروف بسنن الدارمي، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارمي (ت 255 هـ)، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، ط 1، (2000 م)، دار المغني، السعودية. - مسند الشاميين، للإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت 365 هـ)، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط 1، (1989 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان. - مسند الشهاب المسمى: "شهاب الأخبار في الحكم والأمثال والآداب"، للإمام القاضي محمد بن سلامة القُضاعي (ت 454 هـ)، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط 1، (1985 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان.

- المسند، للإمام الحافظ الهيثم بن كليب الشاشي (ت 335 هـ)، تحقيق محفوظ الرحمن زين اللَّه، ط 1، (1410 هـ)، كل كتبة العلوم والحكم، السعودية. - المصنف ومعه الجامع للإمام معمر الأزدي، للإمام الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ)، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط 2، (1983 م)، المجلس العلمي بالتعاون مع المكتب الإسلامي، لبنان. - المصنف، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 هـ)، تحقيق محمد عوَّامة، ط 1، (2006 م)، دار القبلة، السعودية. - المصنوع في معرفة الحديث الموضوع (الموضوعات الصغرى)، للإمام العلامة علي بن محمد الهروي المعروف بملا علي القاري (ت 1014 هـ)، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ط 5، (1994 م)، مكتب المطبوعات الإسلامية، سورية. - معالم السنن بهامش سنن أبي داوود، للإمام الحافظ حَمْد بن محمد الخطابي (ت 388 هـ)، إعداد عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، ط 1، (1997 م)، دار ابن حزم، لبنان. - المعجم الأوسط، للإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360 هـ)، تحقيق الدكتور محمود الطحان، ط 1، (1985 م)، مكتبة المعارف، السعودية. - المعجم الصغير ومعه "غنية الألمعي" للعظيم آبادي، للإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360 هـ)، ط 1، (1983 م)، طبعة مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان. - معجم القراءات القرآنية، للدكتور أحمد مختار عمر والدكتور عبد العال سالم مكرم، انتشارات أسوة، إيران. - المعجم الكبير ومعه الأحاديث الطوال، للإمام الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني (ت 360 هـ)، تحقيق حمدي عبد المجييد السلفي، ط 2، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، لبنان. - معجم المؤلفين، للأستاذ المؤرخ عمر رضا كحالة (ت 1408 هـ)، ط 1، (1993 م)، مؤسسة الرسالة، لبنان.

- معرفة السنن والآثار، للإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي، ط 1، (1991 م)، دار قتيبة ودار الوعي ودار الوفاء، سورية ومصر. - المغني، للإمام عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ)، تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي وعبد الفتاح محمد الحلو، ط 1، (1986 م)، هجر للطباعة، مصر. - مفردات ألفاظ القرآن، للعلامة الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 425 هـ)، تحقيق صفوان عدنان داوودي، ط 3، (2002 م)، دار القلم، سورية. - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للإمام الحافظ أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي (ت 656 هـ)، تحقيق محي الدين مستو ويوسف بديوي وأحمد السيد ومحمود بزال، ط 1، (1996 م)، دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، سورية. - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للإمام الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ)، عني به عبد اللَّه محمد الصديق الغُماري وعبد الوهاب عبد اللطيف، ط 2، (1991 م)، مكتبة الخانجي، مصر. - مكارم الأخلاق ويليه "أخلاق العلماء" للحافظ الآجري، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن محمد القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت 281 هـ)، تحقيق بشير محمد عيون، ط 1، (2002)، مكتبة دار البيان، سورية. - المنح الفكرية شرح المقدمة الجزرية وبهامشه الدقائق "المحكمة في شرح المقدمة" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت 926 هـ)، للإمام العلامة علي بن محمد الهروي المعروف بملا علي القاري (ت 1014 هـ)، الطبعة الأخيرة، (1948 م)، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. - المنح المكية في شرح الهمزية المسمى: "أفضل القِرى لقراء أم القُرى"، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، عني به أحمد جاسم المحمد وبو جمعة مكري، ط 2، (2005 م)، دار المنهاج، السعودية.

- المنهاج في شعب الإيمان، للإمام الحافظ إلى حسين بن الحسن الحليمي (ت 403 هـ)، تحقيق حلمي محمد فودة، ط 1، (1979 م)، دار الفكر، لبنان. -المنهج القويم بشرح مسائل التعليم، للإمام العلامة أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي (ت 974 هـ)، عني به قصي محمد نوردس الحلاق، ط 1، (2006 م)، دار المنهاج، السعودية. - موسوعة فقه سيدنا عبد اللَّه بن عباس، للدكتور محمد رواس قلعه جي، دار النفائس، لبنان. - الموضوعات، للإمام الحافظ عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي (ت 597 هـ)، عني به توفيق حمدان، ط 1، (1995 م)، دار الكتب العلمية، لبنان. - الموطأ، لإمام المدينة مالك بن أنس بن مالك بن نافع الأصبحي (ت 179 هـ)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، بدون تاريخ، دار إحياء الكتب العربية لصاحبها عيسى البابي الحلبي، مصر. - نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، ط 1، (2000 م)، دار ابن كثير، سورية. - النجم الوهاج في شرح المنهاج، للعلامة محمد بن موسى بن عيسى الدميري (ت 808 هـ)، عني به اللجنة العلمية للدار، دار المنهاج، السعودية. - نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ومعه حاشية العلامة علي الشبراملسي (ت 1087 هـ) وحاشية العلامة أحمد الرشيدي (ت 1096 هـ)، للإمام العلامة محمد بن أحمد الرملي (ت 1004 هـ)، ط 1، (1993 م)، طبعة مصورة لدى دار الكتب العلمية، لبنان. - النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام الحافظ اللغوي المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير (ت 606 هـ)، تحقيق محمود الطناحي وطاهر الزاوي، بدون تاريخ، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان.

- النور السافر عن أخبار القرن العاشر، للعلامة السيد عبد القادر بن شيخ العيدروس (ت 1038 هـ)، تحقيق الدكتور أحمد حالو ومحمود الأرنؤوط وأكرم البوشي، ط 1، (2001 م)، دار صادر، لبنان. - وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، للعلامة المؤرخ علي بن عبد اللَّه المعروف بالسيد السَّمْهودي (ت 911 هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 4، (1984 م)، طبعة مصورة لدى دار إحياء التراث العربي، لبنان. * * *

§1/1