الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس

عماد الدين الكاتب

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المؤلف] نسأل الله من الحمد ما يبلغ قضاء حقه (وإن حقه لعظيم). ومن الرشد ما يكتب سلامة نياتنا في الطريق إلى كرمه وإنه لكريم. ونشكر بسر القلب وجهر اللسان إحسانه إلينا بأنهما حادث وقديم. ونستزيده ونستديمه نعمه ولن يخيب على الشكر والرضا مستزيد ومستديم. ونستعين به على الدهر وقد فعل (فإذا الذي بيننا وبينه) عداوة ولي حميم. والحمد الله الذي بدأ بنعمه متطولا، وبمزيده متفضلا، وعلمنا شكر فضله الموفور، وقبل منا عفو خواطرنا المنزور. فلا يكلفنا من الشكر فوق الطاقة، ولا يطلع من النعم الطليعة إلا وراءها من المزيد الساقة. وقد وصف المشكور منه نفسه بأنه شاكر عليم. فرب غافل منا عن الشكر ما غفل عنه فضله العظيم. فلا عد منا ينتاب منتابه راجيا وداعيا، ومستيقظا وساهيا، وصامتا ومتقاضيا، لنا منه على كل حال من مواهب ربما عطل عنها لسان شكرنا، وضمير ذكرنا، وباتت سارية إلينا لا طيفا بل حقيقة على نوم فكرنا. ثم أن الله (تعالى) سامحنا في حقه من الشكر فقبله من عيينا وبليغا، ومتجرعنا ومسيغنا، فتارة يقبله ضميرا مجمجما. وتارة يحيط به قولا ومرة يعلمه نظرا من قلب ينفذ نور الذكر من ظلمات ضلوعه، ومرة يسمعه همسا من لسان يناجي ملكه بنغمات مسموعه، وكيف لا يعلم السر وأخفى من بعينه مسارحه، وكيف لا يعلم الغيب من عنده مفاتحه. ونرغب إليه في أن يحمل عنا حق نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإنا لا نرضى بعفو استحقاقه من الوصف جهدنا، فنصل إليه صلاتنا ونؤدي إليه ودنا، ونعظم موقعه حين كان منه قاب قوسين أو أدنى. ونشكره على أن فتح علينا الدار التي كانت إلى الله طريقه ليلة أسرى به. فانبعث صلى الله عليه وسلم سهما فكان كقاب قوسين في اقترابه. ما كذب الفؤاد، ولا خاب المراد، ولا صدق المراد. وأين من أخبر عنه إنه رآه بالأفق الأعلى ممن امتن عليه بأنك (بالوادي المقدس طوى). فمن كان في روض القرآن يسرح، فرق بين المنزلتين من (رب اشرح) و (ألم نشرح) ونصلي على رسول الله وأصحابه (ولاة الحق. وقضاة الخلق ورتقة الفتق، وغرر السبق، وألسنة الفرق، وفتحة الغرب والشرق. منهم من رد ردة العرب عن إسلامها. ومنهم من استنزل أرجل

العجم عن أسرتها وتيجانها عن هامها. وأخمد عبدة نيرانه أن يطعموها حطبا ولو وصلت إليهم لأكلتهم، وأخمد عبدة أوثانه عن أن يقعوا لها سجدا ولو وقعت عليهم لقتلتهم. ومنهم من أنفق في سبيل الله وجهز، ومنهم من قتل أعداء الله فأجهز. ومنهم الأشداء على الكفار، ومنهم الأسداء إذا زاغت الأبصار. ومنهم الساجدون الراكعون، ومنهم السابقون ومنهم التابعون. ومنهم نحن أهل الزمن الآخر، وقد سلم علينا سلام الله عليه في زمنه الحاضر. وسمانا إخوانا واشتاق إلى أن يلقانا. فنحن الآن إنما نرد عليه تحيته والبادئ أكرم، وإنما نرجو شفاعته بالمودة التي قدمها والفضل للأقدم. هذا كتاب فيه بين الأدباء الذين يتطلعون إلى الغرر المتجلية، وبين المستخبرين الذين يسترفون إلى السير المتحلية. يأخذ (الفريقان منه) (على قدر القرائح والعقول، ويكون حظ المستخبر أن يسمع والأديب أن يقول. فإن فيه من الألفاظ ما صار معدنا من معادن الجواهر التي نولدها، ومن غرائب الوقائع ما صار به لسانا من السنة العجائب التي نوردها. وإنما بدأنا بالتاريخ به لاستقبال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة لأن التواريخ معتادها إما أن تكون مستفتحة من بدء نشأة البشر الأولى. وإما مستفتحة بمعقب من الدول الأخرى. فلا أمة من الأمم ذوات الملل؛ وذوات الدول، إلا ولهم تاريخ يرجعون إليه، ويعولون عليه. ينقله خلفها عن سلفها، وحاضرها عن غابرها. وتقيد به شوارد الأيام، وتنصب به معالم الأعلام. وأولا ذلك لانقطعت الوصل، وجهلت الدول ومات في أيام الأخر ذكر الأول. ولم يعلم الناس انهم لعرق الثرى، وأنهم نطف في ظلمات الأصلاب طويلة السرى. وأن أعمارهم مبتدأة من العهد الذي تقادم لآدم. وقد أخذ ربك من نبي آدم من ظهورهم ذرياتهم لما أراده من ظهورهم. (ليعلم المرء) قبل انقضاء عمره؛ وقبل نزول قبره؛ ما استبعده أهل الطي من حقيقة النشر، وتقبل في واحدة من الأطوار شهادة عشر، فقد قطع عمرا بعد عمر، وسار دهرا بعد دهر، وثوى وأنشر في ألف قبر، وإنما كان من الظهور في ليل إلى أن وصل من العيون إلى فجر. ولولا التاريخ لضاعت مساعي أهل السياسات الفاضلة، ولم تكن المدائح بينهم وبين المذام هي الفاصلة. ولقل الاعتبار بمسالمة العواقب وعقوبتها، وجهل ما وراء صعوبة الأيام من سهولتها، وما وراء سهولتها من صعوبتها. فأرخ بنو آدم بيومه، وكان أول من اشترى الموت نفسه، وقام النزع مقام سومه، ثم أرخ الأولون بالطوفان الذي بلل الأرض وأغرقها، ثم بالعام الذي بلبل الألسن وفرقها، وأرخت الفرس أربعة تواريخ لأربع طبقات من ملوكها أولها كلشاه ومعنى هذا الاسم ملك الطين، فإليه ترجع الفرس بأنسابها. وعليه ينسق عقد حسابها. وهي

الآن تؤرخ بيزدجرد آخر ملوكها. وهو الذي بزه الإسلام تاج إيوانه. وأطفأ نور الله بيت نيرانه. وأرخ اليونان من فيلبس أبي الاسكندر وإلى قلوبطرة آخرهم؛ وهؤلاء المسمون بالحنفاء وهم الصابئون. وأرخ الروم بالاسكندر لعظم خطره، وشهرة أثره. وأرخ النبط - بالعراق - والقبط - بمصر - بتواريخ موجودة في الكتب التي خلدوها، والأزياج التي رصدوها. وأرخ اليهود بأنيابهم وخلفائهم، وبعمارة البيت المقدس وبخرابه على ما اقتضاه نقل أوائلهم وآبائهم. وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة، فكانت حمير تؤرخ بالتبابعة ممن يلقب بـ ذو ويسمى بـ قيل وكانت غسان تؤخ بعام السد حين أرسل الله عرم السيل. وأرخت العرب اليمانية بظهور الحبشة على اليمن ثم بغلبة الفرس عليه. وأرخت معد بغلبة جرهم للعماليق وإخراجهم عن الحرم. ثم أرخوا بعام الفساد - وهو عام وقع فيه بين قبائل العرب تنازع في الديار فنقلوا منها، وافترقوا عنها. ثم أرخوا بحرب بكر وتغلب - ابني وائل - وهي حرب البسوس. ثم أرخوا بحرب عبس وذبيان - ابني يغيض - وهي حرب داحس والغبراء، وكانت قبل البعث بستين سنة. ثم أرخوا بعام الخنان. قال النابغة الذبياني. فمن يك سائلا عني فإني ... من الفتيان في عام الخنان وأرخوا بعده من مشاهير أيامهم وأعوامهم بعام المخانق، وعام الذنائب، ويوم ذي قار، وبحرب الفجار، وهي أربع حروب ذكرها المؤرخون، واسندها الراوون. وأدنى ما أرخوا به قبل الإسلام بحلف الفضول منصرف قريش من الفجار الرابع. وبحلف المطيبين - وهو قبل حلف الفضول. ثم قبل حلف الفضول. ثم بعام الفيل وهو الجار ذو القربى لتاريخ الإسلام. وبعده خرج إمام الجمعة فطويت الصحف وجفت الأقلام. وأظهر الله على الأديان الدين القيم، ونسخ تاريخ الهجرة كل تاريخ متقدم، فأمن وقوع الخلف الواقع في تواريخ الامم، وجبت الهجرة ما قبلها جب الأنوار للظلم. ودفع الله الناس بعضهم ببعض، واستدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وسأل الله عباده على يد وكيل حقه من الأموال والأنفس ما يعيده إليهم مضاعفا من القرض. ووقت هذه الهجرة الوقت الذي أمر به أمر الإسلام، ويومها اليوم الذي ما ولدت الليالي مثله من بنيها الأيام، وعامها الخاص بالفضل وكل ما بعده يعد من عوام الأعوام.

وأنا أرخت بهجرة ثانية تشهد للهجرة الأولى بأن أمدها بالقيامة معذوق، وبأن موعدها الموعد الصحيح غير المدفوع والصريح غير الممذوق، وهذه الهجرة هي هجرة الإسلام إلى البيت المقدس، وقائمها السلطان صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب. وعلى عامها يحسن أن يبني التاريخ وينسق، وتسفر عن أهلتها دآدئ المداد وتنشق، وهي وأن كانت هجرة الإسلام إلى القدس ثانية؛ فقد كان انثنى عن وطنه منها لما ثنته يد الكفر ثانية. وهذه الهجرة أبقى الهجرتين، وهذه الكرة بقوة الله أبقى الكرتين. فإن العرب كانت إذا تناهت في وصف الرجل بالقوة قالت (كأنه كسر ثم جبر). والحق أن نقول: إن أطول الحياتين حياة المرء إذا مات ثم نشر. والعيان يشهد أن أمنع السوءين ما عمر بعد أن ثغر، والفرق بين فتوح الشام في هذا العصر وبين فتوحه في أول الأمر فرق يتبين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. فإن الشام فتح أول والعهد بالرسول صلى الله عليه وسلم غير بعيد، والوحي ما كاد يتعطل في طريقه من السماء إلى الأرض بربد، والعيون التي شاهدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسل سيوفها من أجفانها، والقلوب التي شهدت مواقف معجزاته أوثق بخبره في الفتح منها بعيانها. ورسل عالم الغيب إلى عالم الشهادة بالآيات المؤتلفة مختلفة، ونجدات السماء إلى الأرض متصلة بالملائكة منزلة ومسومة ومردفة. وقد أخبرهم سيدنا وسيدهم أن الأرض زويت له مشارقها ومغاربها. وأنه سيبلغ ملك أمته المثوبة المرحومة ما ضمت عليه جوانبها. والروم حينئذ بغاث ما استتر، والفرس يومئذ رخم ما استبصر، والحديد ما تنوعت اشكاله الرائعة، ولا طبعت سيوفه هذه القاطعة، ولا نسجت ثيابه هذه المانعة. والبروج لا تعرف إلا مشيدة لا مجلدة، والمنجنيقات لا يتوثب ما يتوثب اليوم من خشبها المسندة. والأقران لا تتراجم بالنيران المذكاة، والاسوار لا تتناطح بالكباش المشلاة. وبصائر السلف الصالح رضوان الله عليهم يقاتل بها لو كانوا عزلا، والواحد منهم يسوق العشرة كما يساقون إلى الموقف حفاة غرلا، وكانوا أحرص على الموت منا على البقاء، وكان شوقهم إلى لقاء الله باعثهم على لقاء الأعداء بذلك اللقاء. والشام الآن قد فتح حيث الإسلام قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا، وهريق شبابه، واستشن أديمه، وقد عاد غريبا كما بدأ غريبا، وقد طلع شرف الستمائة وهي للملك المعترك، وكثرت معاثره بما نصب الشرك من الشرك، وأخلق الجديدان ثوبه وكان القشيب، وذوي غصنه وكان الرطيب، ونصلت كفه وكانت الحضيب. وطال الأمد على القلوب فقست، ورانت الفتن على البصائر فطمست. وعرض هذا الأدنى قد أعمى وأصم حبه، ومتاع هذه الحياة القليل قد شغل عن الحظ الجزيل في

الآخرة كسبه. والكفار قد خشنت عرائكهم واتسعت ممالكهم، واستبصروا في الضلال، واستبضعوا للقتال، وخرجوا من ديارهم يخطبون غاشية الموت، ونفروا من وراء البحر يطلبون أمامهم من البرناشية الصوت. وقاتلوا جندا ورعية، واستباحوا الأنفس متورعين فلا ترى أعجب من أن ترى استباحة ورعية (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعلمون) وأمدهم في طغيانهم يعمهون، ورفعوا التكليفات فلا ينزع الحديد لوضوء ولا مسح، واستشعروا لبوس البوس فلم يلبسوا وجها إلا مزرور الشفاه على القلوب بلا شر ولا مزح. شقرا كأنما لفحت النار وجوههم (وهم فيها كالحون)، زرقا كأنما عيونهم من حديدهم فهم بقلوبهم وعيونهم يكافحون، قد نزع الله الرقة من قلوبهم، ونقلها إلى غروبهم، وعذب بهم لما يريده من تعذيبهم، واشتعلت نار جهلهم في فحم ذنوبهم، تستعيذ المردة من مردتهم ويدعى للنار بالعون على الاطلاع على أفئدتهم. فظاظ غلاظ، جهنميون كلامهم شرر وأنفاسهم شواظ، (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أولئك هم الغافلون). خلق الله الخلق من طين وخلقهم من حجارة، فهم المكنى عنهم بوقود جهنم حين قال (وقودها الناس والحجارة). وإلا فالحجارة لا تستحق الوقود، إلا أن يراد بها القلوب التي هي كالجلمود في الجمود. ومضت ملوك الإسلام، ومضت أيامهم كالبارق وأن لم يخلع الإظلام، وزادت أيامهم الأيام خيالا فتنازع الناس طرائف الأحلام. وحابوا هذا العدو الكافر فما اثروا فيهم، وكانوا محاربين كمسالمين وبذلوا جهدهم فلا تقول أنهم مظلومون بالعجز وما نسميهم ظالمين. اللهم غفرا (لكل أجل كتاب) و (كل يوم هو في شأن) ولكل مقدور أجل، ولكل ما خلق له تيسير. ولكل ما تقدم الكتاب الموقوت تأخير، والأيام تمخض وتمطل بالزبدة، والسور تتلى إلى أن تأتي بالسجدة، والناس يريدون الخروج ولكن ما اعدوا له عدة، والعذر على كل لسان لكل قوم مدة. إذا عجزوا قالوا مقادير قدرت ... وما العجز إلا ما تجر المقادير وأبى الله من يقبل عذرا صحيحا، وكفى بلفظة النبوة لوما صريحا. فلما أراد الله الساعة التي جلاها لوقتها؛ وأظهر الآية التي لا أخت له؛ فنقول: فهي أكبر من أختها؛ أفضت الليلة الماطلة إلى فجرها، ووصلت الدنيا الحامل إلى تمام شهرها. وجاءت بواحدها الذي تضاف إليه الأعداد، ومالكها الذي له السماء خيمة والحبك أطناب والأرض بساط والجبال اوتاد، والشمس دينار والقطر دراهم والأفلاك خدم والنجوم أولاد (صلاح الدنيا والدين). ومهما دعونا له فإن الله قد سبق إليه كونا، ورأينا بين منانا

وبين كرمه بونا. فهو سبحانه اكرم بالنوال منا بالسؤال. والكريم بكرم الله مجزى، والساكت عن الدعاء له مكفى. فإن قلنا: أحسن الله إليه: فقد قال (وإنا لا نضيع أجر من أحسن عملا). وإن قلنا: جزاه الله بالإحسان: فقد قال (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) وإن قلنا: هداه الله سبيله: فقد قال (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا): وأن قلنا: لا ضيع الله عمله: فقد قال (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل). وإن قلنا: لا جعل الله لدهر عليه سبيلا: فقد قال (ما على المحسنين من سبيل). وأن قلنا: زاده الله هدى: فقد قال (والذين اعتدوا زادهم هدى) كل مسئول سائل ... في معاليه قد كمل لا يسل منه سائل ... سبق الجود ما سأل ولتُصحَّح تأملا ... تجد الله قد فعل ونعود إلى ذكره - أعز الله ذكره - فجاد إلى أن لم يبق مال ولا أمل، وجاهد إلى أن لم يبق سيف ولا قلل (فلا كفتح على يديه فتح) وما هو فتح واحد؛ ما هو إلا فتحان: فتح والدم ذائب، وفتح والذهب جامد. فما البلاد التي جمعها فاتحا، بأغرب من البلاد التي فرقها مانحا. فقد استوعب بأسه أكثر مما ولدت المعادن حديدا، وزاد لأنه ضرب بالسيوف التي كسرها (مدى ومنالا) ثم ضربها، واستوعب جوده ما ولدت المعادن ذهبا وزاد لأنه نقل إلى الأعداء ثمن سلع ثم نهبها فوهبها فكل معاد معادى إلا هذا المعاد. وكل مداد يكتب به أسود إلا هذا المداد. (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون)، أما يرى الناس ما على وجه الصدق من قبول القرائح! وما على يد الجود من قبل المدائح. الناس أكيس من أن يمدحوا ملكا ... ولم يروا عنده آثار إحسان وأنا لنرجو أن نكون قد كتبنا بمدحه مع الصادقين الذين أمر الذين آمنوا أن يكونوا معهم. وأن نكون قد كتبنا مع المحسنين لأنا أحسنا وصفه إحسان الله إلى عبادة، ولم يقطع بنا ما قطعهم. وأنا وأن كنا رعاياه لنرى أنفسنا ملوكا ونرى الملوك وهم له سوقة، وأن القلم في أيدينا لهتز طربا لذكره كأنه جان، وكأن السيف يشنع بأنه فروقه. ولسنا نسميه قصيرا وأن جدع أنفه. ولكنا نركبه كما ركب قصير العصا إلى وصف هذا السلطان ليدرك وصفه. ونقول للقلم إذا فاخره السيف (أن شانئك هو الابتر) ونريد إذا أوردناه وصف مولانا بـ (إنا أعطيناك الكوثر).

على أن هذا القلم يلزم الأدب لذكره - أعلاه الله - فينكس رأسه، ويقبل بين يديه كما يقبل حامله الأرض قرطاسه. ولست ببعيد في تقييد هذه المفاخر، وتشييد هذه المآثر من رجال الطعن والضرب الذين فتحوا بين يديه وأوجبوا الحق عليه، بل حقي من حقوقهم أوجه وأوجب، وقلمي من سيوفهم أضرى وأضرب، ومن رماحهم أخطى وأخطب، ومن سهامهم أنجى وأنجب، ومن قسيهم أكسى وأكسب، ومن جيادهم أسرى وأسرب. ومدارى من نقعهم أغلى وأغلب، وقرطاسي من راياتهم أجلى وأجلب. وسيوفهم قد أغمدت وجردت منه مالا يغمد ولا يعمد، وآثار السيف من الجراح قد رقأ دمها، وآثاري من الذكر لا تخمل ولا تخمد. وما السيف أسوى ضربة من لسانيا فكل أثر خبر به غيري يموت الخبر بموته، وينقطع صيت الأثر بانقطاع صوته، والذي أخبر أنا به عنه روض يزهو إذا أقلعت الأيام سحبت، ونجم يبدو إذا أفاض الشفق على فضة النجوم ذهبا، فهو قول يذكر وينسى كل فعل وفاعله، لا قول يؤثر مهما عاش اليوم عالمه ثم لا يأتي في غد إلا جاهله. فهذه الكتب تهب الأعمار الثانية. وتفاخر الألسنة القائلة بها الأيدي الكاتبة البانية. فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري في وصفه، تجدوا الإيوان قد خرت شعفاته، وعفرت شرفاته، وتجدوا سينية البحتري قد أبقى بها اسم كسرى في ديوانه. أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه، وإنما نراوح بين الأوصاف الغادية، ونناوب بين السمات السامية، للإشارة إلى من ينبه على مسماه، وينوه بسيماه. فأما من يقول الله لاسمه أنت من معقبات حمدي ويقول الدهر لذكره أنت الباقي من بعدي فإنما يلزم الأدب بوصف فضله العظيم، ويرفع قدر القول بفضل وصفه الكريم. ويسر الله هذه الفتوح وأنزل بها الملائكة والروح، في أيام سيدنا ومولانا الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن الإمام المستضيئ بالله أبي محمد الحسن بن الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن الإمام المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن الإمام المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الإمام المقتدى بالله عبد الله بن الذخيرة محمد بن الإمام القائم بأمر الله عبد الله بن الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق بن الإمام المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن الإمام المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن الإمام المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن الإمام المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الإمام الرشيد بالله أبي جعفر هارون بن الإمام المهدي بالله أبي عبد الله محمد بن الإمام المنصور أبي جعفر

عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين والخلفاء الراشدين، وهي الأيام التي زواهر أيامها زواه، ومضاء مضاربها في القضاء مضاه. فما اجلها فضلا وأفضلها جلالا، واقبلها جدا وأجدها إقبالا، وأقربها ندى ونوالا، وأبعدها مدى ومنالا وما أعلى سني مجدها، وأحلا جنى رفدها، وأفغم ريا رياض فضائلها. وأفعم حيا حياض فواضلها، وأسح سماء سماحها أمطارا، وأصح جناح نجاحها مطارا. والسلطان صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب ناصر دعوته وداعي نصرته، ووليه الطائع وسيفه القاطع، والمحكم بأمره، والمؤثر بحكمه. فرأيت إبداء ميامن هذه الأيام الغر على الآباد بغرر الآداب، وقيدت شوارد معانيها، وسيرت محامد معاليها بهذا الكتاب، وأودعته من فوائد الكلام والفرائد الفذ والتوأم، در السحاب ودر السخاب. وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدره، وتنويها بدلالة فخره، وعرضته على القاضي الأجل الفاضل، وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل. فقال لي: سمه (الفتح القسي في الفتح القدسي) فقد فتح الله عليك فيه بفصاحة قس وبلاغته، وصاغت صيغة بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته. ولما كان هذا الفتح في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة بدأت بها، وأنشأت رياضي بسحبها، وما شهدت إلا بما شاهدته وشهدته، وما استمطرت الاعهاد العهد الذي عهدته، وما عنيت إلا بإيراد ما عاينته، ولا بنيت القاعدة إلا على أس ما تبينته قبينته، وما توخيت إلا الصدق، وما انتهيت إلا الحق، ولا ذكرت كلمة تسقط ولا اعتمدت إلا ما يرضي الله ولا يسخط. وبالله التوفيق والعصمة، وله الحمد ومنه النعمة.

دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وكتب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الأقطار والبلاد، يستدعي من جميع الجهات جموع الجهاد، وأهل للاستدعاء أهل الاستعداد، واستحضر الغزو، من الحضر والبدو. وبرز من دمشق يوم السبت مستهل المحرم قبل استنجاد الجنود، واستحشاد الحشود، واصحار الأسود، وإحضار البيض والسود، مضيء العز، ماضي العزم، صائب السهم، نائب الفهم، ثابت السعود كابت الحسود، وخيم على قصر سلامة من بصرى، وكفت يد رعبه الطولى من الفرنج اليد القصري، وأقام على ارتقاب اقتراب الحجاج، وقد رتب الفرنج من الأرصاد أفواجا على تلك الفجاج، لاسيما ابرنس الكرك، فإنه كان حريصا على الدرك، ناصبا شر الشرك. نصب الشرك. فلما شم ذلك الذئب رائحة الأسد، عاود دخول حصنه حذار خروج روحه من الجسد. ووصل الحاج في أول صفر وقد قضوا حاجهم، ورضوا منهاجهم، وخرجوا عن فرضهم، ودخلوا إلى أرضهم، وفرغ القلب من شغلهم، وخف ما لزم من ثقلهم. وانتظر السلطان وصول المستدعي، ورعى منه حصول العدد المسترعي. فأبطأ عليه وروده، واختلفت في الإسراع وعوده، فأمر ولده الأكبر الملك الأفضل نور الدين عليا؛ ولم يزل مكانه عنده عليا؛ أن يقيم على رأس الأمراء برأس الماء، وتجتمع العساكر الواصلة منه تحت اللواء. وتقدم السلطان في أتباعه وأشياعه، إلى الكرك وضياعه، فأقام عليها يرهق ويزهق، ويحرب ويحرق، ويرعب بصاعقة بأسه ويبرق؛ حتى ألحق الموجود بالمعدوم، وأتى بالقطع على البساتين والكروم. ورعى الزروع، وعرى الدروع، واستأصل الأصول والفروع حتى أقوت من الأقوات، واستعرت الغلة بغلاء سعر الغلات. وحلت آجال الأرزاق، وانحلت عرا الارماق. وأقفر بلد الشرك، وامتلأ من الكرد والترك. وسار إلى الشوبك فأسار به شوبا، وألحفه من عريه ثوبا. وأخلاه من زرع ونبات، وفرغه من أقوات وقوات. وأذهب ضياء تلك الضياع، وأزال بقاء تلك البقاع. وجلس الخلال، وداس الغلال. وقشر الثرى وبشره، وحشر الردى ونشره. وسلب قرار القوى وسكون مسكونها، وفجع الفرنج بكرمها وزيتونها، وقد عدم ليلها المصباح، وصباحها الإصباح. ووصل عسكر مصر فتلقاه بالقريتين، وفرقه على أعمال القلعتين، وأقام على هذه الحالة في ذلك الجانب شهرين. والملك الأفضل ولده مقيم برأس الماء، في جمع عظيم من العظماء. وعنده الجحافل الحافلة، والحواصل الواصلة، والعساكر الكاسرة، والقساور القاسرة. والبواتر الواترة. والخضرم الضرم، والعرمرم العرم، واللهام الملتهم.

والجيش الجائش، والترك والاكادش. والجنود والبنود والأسود السود. والفيالق الفوالق. والبيارق البوارق. وبنات الأغماد قد برزن من خدورها حبا لمعانقة العدا، ظامنات إلى ورود الوريد وما أحسن حلى نجيع الكفر على عرائس الهدى. والعزم يستنهضه، والعز يحرضه، والدين يستبطيه، والنصر يستعطيه. والقدر يحركه، والظفر يدركه. والكفر قد مات من ذعره، والإسلام قدمت بعذره. وهو ينتظر أمرا من أبيه يأتيه بما يأتيه، ويكتب إليه ويقتضيه، من رأيه بما رأيه يقتضيه. ولما استمر تأخر الأمر استمر التأخير، وقدم في الإقدام التبكير والتكبير. وانتهز الفرصة وأحرز الحصة. وانتخى وانتخب الأجناد الانجاد، وجرد الجرد واستجاد الجياد. وسرى السرية السرية، وأمرها بالغارة على الغرة بأعمال طبرية. و (عليهم) مظفر الدين بن زين الدين على كوجك المقدم المقدام، والهمام الهمام، والأسد الأسد. والأرشد الأشد. وعلى عسكر دمشق قايماز النجمي. وعلى عسكر حلب دلدرم الياروقي. فساروا مدججين، وسروا مدلجين. وصبحوا صفورية وساء صباح المنذرين. فخرج إليهم الفرنج في جمع شاك، وجمر ذاك. وقنطاريات طائرات، وسابريات سابغات. وللداوي دوى. وللاسبتارى هوى. والباروني يقدم على البوار، والتركبولي يلقي نفسه على النار. وقد ثاروا والثار قد وقد، والجو قد عقد. وقد انصدع زجاج الزجاج، وارتجز عجاج العجاج. وانفض الفضاء، وانقض القضاء. وكادوا يفلون الجمع ويجمعون الفل، ويحلون العقد ويعقدون ما انحل. فثبت قايماز النجمي في صدورهم، واشرع الأسنة إلى نحورهم. وروى اللهاذم من تامورهم وعطف مظفر الدين يشلهم ويفلهم. لا يكترث بكثرتهم ويستقلهم. ولقيهم دلدرم بالوجه الابيض، والعزم الانهض. والجد الأجد، والحد الأحد. وانجلى الغبار وقد عم الفرنج القتل والإسار، وفجع بقتل مقدمهم الاسبتار. وأفلت مقدم الداوية وله حصاص، ووقع الباقون ولم يكن لهم من الهلك محاص. وأخلفت رنة السراء أنة الإسراء، وكانت هذه النوبة بلا نبوة. والهبة بلا هبوة. وسكنت القلوب بهذه الحركة، وركنت النفوس إلى هذه البركة. وسارت البشرى وسرت، ودارت النعمى ودرت. وعد ذلك من إقبال الملك الأفضل وفضل الملك المقبل. وحسنت السنة بالنصر وأحسنت الألسنة في الشكر. هذا والعساكر في كل يوم يفدون ويفيدون. وفيما يجدون الطريق إليه من النكاية في العدو يجدون ويجيدون. وجاءتنا البشارة ونحن بالكرك فأيقنت الآمال بالنجح والدرك. وسار سلطاننا الملك الناصر صلاح الدين ووصل السير بالسرى، وخيم بعشترا فغصت بسيول الخيول الوهاد والذرا. واجتمع به ولده، وقر عينا بشبل العرين أسده. وما رأيت عسكرا أبرك منه ولا أكبر، ولا أكرث للكفر ولا أكثر. وكان يوم عرضه

مذكرا بيوم العرض. وما شاهده إلا من تلا (ولله جنود السماوات والأرض). في ألوية كأنما عقدتها حور الجنان بخمرها. وبيارق كأنما حبتها أنف الرياض بزهرها. ويوم كالليل عجاجا، وليل كاليوم ابتلاجا. ومناصل بالمنى صلت، وقساطل بالقسي طلت. وفيلق لهام اللهام يفلق. وقلوب يمانية رقاق في صدور الأغماد تقلق، وطيور سهام من أوتار الحنايا إلى أوكار المنايا تمرق. وسوابغ مفاضة، وسوابق مرتاضة. وهضاب راسيات، وهواضب ساريات. ولما تم العرض، حم الفرض. وتعين الجهاد، وتبين الاجتهاد. واضطربت السهول والوعوث، وانبعثت الهمم وهمت البعوث. وسمع الفرنج بكثرة الجمع الجم، وزخرة اليم الخضم. وبروز التوحيد إلى التثليث، وانتهاض الطيب لإدحاض الخبيث. فخافوا وخابوا، وهبوا وهابوا. وعرفوا أن حزبهم مخذول، وأن غربهم مفلول. وأن حدهم مثلوم، وأن جندهم مهزوم. وأنه قد جاءهم ما لا عهد لهم بمثله، وأن الإيمان كله برز إلى الشرك كله. وقد كان بينهم حينئذ خلف منبعث، وحلف منتكث. ووقوع نفار بين الأنفار، ووقود شرار بين الشرار. ولما استدنوا حين حينهم، سعوا في إصلاح ذات بينهم. ودخل الملك على القومص ليتقمص له بالود الاخلص. ورمى عليه بنفسه، واستبدل وحشته بأنسه. فاصطحبا بعد ما اصطلحا. واصحبا بعد ما جمحا. وتزاور الفرنج وتوازروا. وتآمروا ما بينهم وتشاوروا. وقالوا هذا دين متى دنا منه الوهي هوى، وعود إذا عاده الأذى ذوى. فالمسيح لنا، والصليب معنا. والمعمودية عمدتنا، والنصرانية نصرتنا. ورماحنا مراحنا، وصحافنا صفاحنا. وفي لوائنا اللأواء. ومع اودائنا الداوية الأدواء. وطوارقنا الطوارق، وبيارقنا البوائق. وسيف الاسبتار بتار، ولقرن الباروني من مقارنته بوار. ومعنا الدلاص والصلاد، والصعاب والصعاد. وفي كل قنطاري قنطار، ولكل سابري من اسنتنا مسبار. وقد عم بحرنا الساحل، وشددنا به المعاقد والمعاقل. وهذه الأرض تسعنا نيفا وتسعين سنة، وما تضيق بنا في هذه السنة، وأرماحنا إلى هذه الغاية من الاسواء أسوار هذه البقاع والأمكنة. وسلاطين الإسلام ما صدقوا أن يسلموا إلينا ويسالمونا، ويبذلوا لنا القطائع ويقاطعونا، وطالما ناصفونا وما صافونا، وهادونا وهادنونا. وفي جمعنا تفريقهم، وفي وقعتنا تعويقهم. فقال القومص وكان محربا مجربا، متدبرا متدربا هذا صلاح الدين لا يقاس بأحد من السلاطين لتسلطه، وإقدامه على المخاوف وتورطه. وإن كسركم مرة فلا يصح لكم الجبر. وليس إلا المراوغة والمغاورة والصبر. والصواب ألا نخالطه ولا نباسطه، ولا نخالفه ونقبل شرائطه.

ذكر ما كان بين ملك الإفرنج وبين القومص من الخلف

فقال له الملك أنت قد قلبتك الآفة، وفي قلبك المخافة. وأنت للحور رخو، وللخشية حشو. وأنا لا بد أن أصدمه وأصده، وأكدمه وأكده، وأرادده حتى أرده. وأقيم صليب الصلبوت فلا يعقد عنه من أهل الأحد. وأمد يد الأيد لجمعي فلا تمتد لأهل الجمعة يد. فقبل القومص قوله على مضض، وصح ظاهره معه على ما كان في الباطن من مرض. ولما أحس منه الملك بالوفاء والوفاق؛ وعدم أهل الشقاء ما وجدوه بينهما من الشقاق؛ اشتغلوا بالحشد والحشر، والطي والنشر. ذكر ما كان بين ملك الإفرنج وبين القومص من الخلف لما هلك الملك أمارى بن فلك في آخر سنة تسع وستين وخمسمائة خلف ولدا مجذوما، وكان مع الوجود معدوما. قد أعضل داؤه، وأيس شفاؤه، وسقطت أعضاؤه، وطال بلاؤه. فوضع الفرنج التاج على رأسه، وتمسكوا مع إمراضه بأمراسه. ونفخوا في ضرمه، وتسمنوا بورمه، وصحوا بسقمه، ورقوا في سلمه، ورضوا بتقدمه. وأكبروه وأركبوه، واقدموا به وقدموه، وهم يكرثون بحذاذ ملكهم هذا، ولا يكترثون بجذامه، ويحمون حماه أن يحم حلول حمامه، وبقى بينهم زهاء عشر سنين ملكا مطاعا، معارا من إشفاقهم واتفاقهم مراعى. فلما أحس بهلاكه، وسكون حراكه. أحضر البطرك والقسوس، والمقدمين والرءوس. وكان له ابن أخت صغير؛ عن التطاول إلى الملك قصير، وقال لهم: الملك في هذا، ولكن القومص يكلفه مدة سني صغره، وهو يستقل بع بعد كبره. فهو الآن لا يستبد، ومن أمر القومص يستمدز فقبل القومص الوصية، وجمع إليه الأطراف الدانية والقصية، وسكن طبرية. فإن صاحبتها كانت تزوجت به، وطمعت في قوته وقربه. وهلك الملك المجذوم، وظهر السر المكتوم. وطمع القومص في الملك استقلالا، فعدم موافقة الداوية. وقالوا يلزمك العمل بشرط الوصية. فكفل بالأمر وهو مغلوب، وتفقد اختياره فإذا هو مسلوب. ورغب في مقاربة السلطان صلاح الدنيا والدين، ليقوى بجانبه، ويحظى من مواهبه. فاشتد أزره، واستد أمره، واستقل بنفسه، واستولى على جنسه، حتى مات الملك الصغير فانتقل الملك منه إلى أمه، وبطل ما كان في عزم القومص برغمه. وانتقل الملك إليها، واجتمع الفرنج عليها. فقال لهم زوجي أقدر. وهو أحق بالملك وأجدر وأخذت التاج من رأسها فوضعته على رأسه، وعاش رجاءه بعد يأسه. وراش غناه بعد إفرسه، وانتاش ابليسه بعد ابلاسه

ذكر دخول السلطان صلاح الدين بالعسكر إلى ديار الفرنج

وقامت قيامة القومص بإجلاسه. وطالبه الملك الجديد بحساب ما تولاه، فما أجاب دعوته ولا لباه. واستنصر عليه بسطاننا الملك الناصر، وأقام بطبرية في زي المتطاول المتقاصر. وضم إليه من الإفرنجية من استرغبه، بما استماحه من سلطاننا واستوهبه. وحث العزم السلطاني على قصدهم ليرد إليه الملك، ويجد له في نظم أمره السلك. فلما اجتمعت العساكر الإسلامية، وتألفت منها الجزرية والديار بكرية والمصرية والشامية، جاء الملك إلى القومص بنفسه، وفتح له ما وجده من وحشته وعدمه من أنسه. وقال أصحاب القومص له أن لم تنصره فنحن ما نخذل الدين، ولا نكون بأيدينا مسلمين إلى المسلمين. وتمت بينهم ليوم المصاف المصافاة، وزالت المنافرة والمنافاة. ذكر دخول السلطان صلاح الدين بالعسكر إلى ديار الفرنج أصبح بالمخيم عارضا من العسكر لعارض ثجاج، وبحر بالعجاج عجاج، وخضم بالصواهل السوابح والمناصل والصفائح ذي أمواج. وقد رتب أبطاله وأطلابه، وسحب على وجه الأرض سحابه، ونقل به من الثرى إلى الثريا ترابه. وأطار إلى النسر الواقع من الغبار غرابه. وقد فض الفضاء ختام القتام. وشدت للشدائد كتب الكبت على حمام، وحنت ضلوع الحنايا على أجنة السهام وتكلفت العوجاء بالمعتدلة، وضمت المنفلتة إلى المنفتلة. ووفت الأوتار بالاوتار، وثار كل طلب لطلب النار. ووقف السلطان يوم العرض يرتب العسكر ترتيبا، ويبوبه تبويبا. ويعيبه بعيدا وقريبا. وقرر لكل أمير أمرا ولكل مقدام مقاما. ولكل موفق موقفا. ولكل كمين مكانا. ولكل قرن قرانا. ولكل جمر مطفئا، ولكل جمع نكفئا. ولكل زند موريا، ولكل حد ممهيا. ولكل قضية حكما، ولكل حنية سهما. ولكل يمين مقضبا. ولكل يمان مقبضا. ولكل ضامر مضمارا، ولكل مغوار مغارا. ولكل رام مرتمى، ولكل نام منمى، ولكل سام مسمى، ولكل اسم مسمى. وعين لكل أمير موقفا في الميمنة والميسرة لا ينتقل عنه. ولا يغيب جمعا ولا يبرح أحمد منه. وأخرج الجاليشية الرماة الكماة من كل طلب، ووصى كل حزب بما يقربه من حزب. وقال إذا دخلنا بلد العدو فهذه هيئة عساكرنا، وصورة مواردنا ومصادرنا. ومواضع اطلابنا، ومطالع أبطالنا. ومصارع أسنتنا، وشوارع أعنتنا. وميادين جردنا، وبساتين وردنا. ومواقف صروفنا، ومصارف وقوفنا. ومرامي مرامنا، ومجالي مجالنا. وقوى الآمال بما بذله من الأموال، وحقق في إنجاز المواعد وإنجاح

المقاصد رجاء الرجال، وجمع العدد، وفرق العدد. ووهب الجياد وأجاد المواهب، ورغب في العطايا وأعطى الرغائب. ونثر الخزائن، ونثل الكنائن. وانفق الذخائر، واستنفد كرائمها والاخاير. وقسم أحمال النشاب فتفرق الناس منه بأكثر من ملء الجعاب. وأجرى الجرد وأجنى الأجناد، وأذكى المذاكي وأشهد الأشهاد. وأذال مناقب المقانب، واستمال معاطف المعاطب. وقوى القواطع، وروى الروائع. وعاد إلى المخيم مسرورا محبورا، مقبولا مبرورا، موفورا مشكورا. وقد رتب وربت، وقنب وكتب، وثبت ونبت. قد بر عمله، وأبر أمله. وفاح نشره، ولاح لشره. وتأرج رياه، وتبلج محياه. وأيقن بالظفر وظفر باليقين، وأمن إلى الدعوى المستدعية للتأمين، وتيمن بأوضاح عرابه الميامين، وإيضاح إعرابه في اقتضاء دين الدين. وأنس ببهجة الخيل ولهجة الخير، وسر سره بما سرى له من وجه السير. وشد حزم الحزم، وجد في العزم الجزم. وقدم الإسراج للإسراء، وألجم العراب للعراء. ورحل يوم الجمعة السابع عشر شهر ربيع الآخر والتوفيق مسايره، والتأييد موازره، والتمكين مضافره، والسعد مظاهره، والجد مكاثره، واليمن محاضره، والعز مسامره، والظفر مجاوره، والإسلام شاكره، والله عز وجل ناصره. وسار على الهيئة التي قدمنا ذكرها من المناقب المقنبة، والكتائب المكتبة، والمراتب المرتبة. والمذاهب المهذبة. والسلاهب المجنبة والصوائب المجعبة. والهواضب المقربة. والثعالب المذربة. واللهاذم الهاذمة. والصلادم اللاذمة. والضراغم الضاغمة. وخيم على خسفين، وقد أدنى الله الخسف بالعدو وخسوفه، وكسف الكفر وكسوفه. وبات والوجوه سافرة، والعيون في سبيل الله ساهرة، والأيدي لسيوف الأيد شاهرة، والألسن لأنعم الله شاكرة، والقلوب بالإخلاص عامرة، والأنفس للأنس مسامرة، والأقدام بالأقدار متضافرة متظاهرة. ثم أصبح سائرا ونول على الأردن بثغر الأقحوانة، بعزم الصيال وعز الصيانة. وأحاط ببحيرة طبرية بحره المحيط، وضاق ببسائط خيامه ذلك البسيط. وبرزت الأرض في قشب أثوابها، وتفتحت السماء لتنزل الملائكة من أبوابها. ورست سفن المضارب على تلك الاثباج، وطمت الاطلاب أمواجا على أمواج، وانعقدت سماء العجاج، وطلعت فيها أنجم الخرصان والزجاج. وأعاد الاقحوانة رياضا نضرة، وحدائق مزهرة. من فرس ورد وفارس كالأسد الورد ومشرفيات كطاقات الرياحين، ويزنيات كأشجار البساتين، ورايات صفر تخفق بعذبات الياسمين. وألوية حمر كشقائق النعمان. وموضونة زغف كالغدران، ومصقولة بيض كالخلجان. ومريشة زرق كالأطيار، ومحنية عوج كالافنان، وبيض تلمع كثغور الأقحوان. وحبب ترائك على نحور الدارعين، وعقبان صواهل تروق وتروع الناظرين والسامعين.

ذكر فتح طبرية

والفرنج قد صفوا راياتهم بصفورية. ولووا الألوية، ومدوا على مدود الضوامر الزواخر قناطر القنطاريات، وأوقدوا في ظلام القتام الثائر سرج السريجيات. وصوبوا إلى صوب قرا الأقران نياب اليزنيات. وأحاطوا حول مراكزهم بدوائرهم، وحاطوا بواترهم بواترهم. وجمعوا الاوشاب والأوباش، ورتبوا الجيش وثبتوا الجأش. وحشدوا الفارس والراجل، والرامح والنابل، ونشروا ذوائب الذوابل، وحشروا أبطال ورفعوا صليب الصلبوت، فاجتمع إليه عباد الطاغوت، وضلال الناسوت واللاهوت. ونادوا في نوادي أقاليم الاقانيم، وصلبوا الصليب الأعظم بالتعظيم. وما عصاهم من له عصا، وخرجوا عن العد والإحصاء، وكانوا عدد الحصى. وصاروا في زهاء خمسين ألفا أو يزيدون، ويكيدون ما يكيدون. قد توافوا على صعيد، ووافوا من قريب وبعيد. وهم هناك مقيمون، لا يرومون حركة ولا يريمون. والسلطان صلاح الدين في كل صباح يسير إليهم، ويشرف عليهم، ويراميهم وينكى فيهم. ويتعرض لهم ليتعرضوا له، ويردوا عن رقابهم سيوفه وعن شعابهم سيوله. فربضوا وما نبضوا، وقعدوا وما نهضوا. فلو برزوا لبرز إليهم القتل في مضاجعهم، وعاينوا مقام صارعهم في سوقهم إلى مصارعهم. وفرعوا مما فيه وقعوا. وجبنوا عما له تشجعوا. فرأى السلطان أن يطيب ريه من طبرية، ويشرف على خطتها بالخطية والمشرفية. ويحوز حوزتها ويملك مملكتها. فجر على الادن أردان الردينيات، وأطلع النقع المثار من البحر بحوافر الاعوجيات، واستسهل عليها ولم يستوعلر بيات العربيات. فأمر عساكره، وأمراء جيشه وأكابره، أن يقيموا قبالة الفرنج، ويضيقوا عليهم واسع النهج. فإن خرجوا للمصاف بادروا إلى الانتقام منهم والانتصاف. وأن تحركوا إلى بعض الجوانب؛ وثبوا بهم وثب الأسود بالأرانب، وإن قصدوا طبرية لصونها، وأم يكونوا في عونها، عجلوا الأعلام ليعجل عليهم الإقدام. ذكر فتح طبرية ونزل على طبرية في خواصه، وذوي استخلاصه. وأحضر الجاندارية والنقابين والخراسانية والحجارين. وأطاف بسورها، وشرع في هدم معمورها. وصدقها القتال، وما صدف عنها النزال، وكان ذلك يوم الخميس. وأخذ النقابون النقب في برج فهدوه وهدموه، وتسلقوا فيه وتسلموه، ودخل الليل وصباح الفتح مسفر، وليل الويل على العدو معتكر. وامتنعت القلعة بمن فيها - من القومصية - ست طبرية - وبنيها. ولما سمع القومص بفتح طبرية وأخذ بلده: سقط في يده، وخرج عن جلد

جلده، وسمح للفرنج بسيده ولبده. وقال لهم لا قعود بعد اليوم، ولا بد لنا من وقم القوم، وإذا أخذت طبرية أخذت البلاد، وذهبت الطراف والتلاد. وما بقى لي صبر، وما بعد هذا الكسر لي جبر. وكان الملك قد حالفه، فما خالفه، ووافقه فما نافقه، وما حضه فما ماذقه، ووادده فما رادده، واعده فما عاوده، ورحل بجمعه، وبصره وسمعه. وثعابينه وشياطينه، وسراحيبه وسراحينه. واتباع غيه، وأشياع بغيه. فمادت الأرض بحركته، وغامت السماء من غبرته ووصل الخبر بأن الفرنج ركبوا، وثابوا عن ثبات ثيابهم ووثبوا. وعبوا وعبوا. ودبوا حتى يذبوا. وشبوا النار، ولبوا الثار، وقدموا للنزول بالدار البدار. وذلك في يوم الجمعة رابع عشري شهر ربيع الآخر. فما كذب السلطان الخبر حتى صدق عزمه؛ بما سبق به حكمه، وسرحين أحاط بمسيرهم علمه. وقال قد حصل المطلوب، وكما المخطوب. وجاءنا ما نريد، ولنا بحمد الله الجد الجديد، والحد الحديد، والبأس الشديد، والنصر العتيد. وإذا صحت كسرتهم، وقتلت وأسرت اسرتهم؛ فطبرية وجميع الساحل ما دونها مانع. ولا عن فتحها وازع. واستخار الله وسار، وعدم القرار. وجاء يوم الجمعة رابع عشري شهر ربيع الآخر والفرنج سائرون إلى طبرية بقضهم وقضيضهم، وكأنهم على اليفاع في حضيضهم. وقد ماجت خضارمهم، وهاجت ضراغمهم، وطارت قشاعمهم، وثارت غماغمهم، وسدت الآفاق غمائمهم، وشاقت ضاربيها جماجمهم. وهم كالجبال السائرة، وكالبحار الزاخرة. أمواجها ملتطمة، وأفواجها مزدحمة، وفجاجها محتدمة. واعلاجها مصطلمة. وقد جوى الجو، وضوى الضو، ودوى الدو. والفضاء منفض، والقضاء منقض. والثريا قد استزار الثرى، وجر ذيل الخيل قد برى البرى. والحوافر الحوافز للأرض حوافر، والفوارس اللوابس في البيض سوافر. وذئاب الذياد وأجلاد الجلاد؛ قد حملوا كل عدة، وكملوا كل عدة. فرتب السلطان في مقابلتهم اطلابه، وقصر على مقاتلتهم آرابه. وحصل بعسكره قدامهم، ورقب على الحملة أقدامهم. وحجز بينهم وبين الماء، ومنع ذمامهم على الذماء. وحلاهم عن الورد، وصدعهم بالصد. ذاك واليوم قيظ، وللقوم غيظ. وقد وقدت الهاجرة، فوقدتها غير هاجرة، وشربت ما كان في أدواتها فهي على الظمأ غير صابرة. وحجز الليل بين الفريقين، وحجرت الخيل على الطريقين. وبات الإسلام للكفر مقابلا، والتوحيد للتثليث مقاتلا. والهدى للضلال مراقبا، والإيمان للشرك محاربا. وهيئت دركات النيران، وهنئت درجات الجنان، وانتظر مالك واستبشر رضوان. حتى إذا أسفر الصباح، وسفر الصباح، وفجر الفجر أنهار النهار؛ ونفر النفير غراب الغبار، وانتهبت في الجفون الصوارم؛ والتهبت في الضوامر الضوارم؛ وتيقظت الاوتار؛

وتغيظت النار؛ وسل الغرار؛ وسلب القرار؛ خرج الجاليشية تحرق بنيران النصال أهل النار، ورنت القسي وغنت الأوتار. ورقصت مران المراد، لجلاء عرائس الجلاد. وبرزت البيض من ملئها في الملأ عارية، ورتعت السمر لكلئها من الكلى راعية. فرجا الفرنج فرجا، وطلب طلبهم المحرج مخرجا. فكلما خرجوا جرحوا، وبرح بهم حر الحرب فما برحوا. وحملوا وهم ظماء، ومالهم سوى ما بأيديهم من ماء الفرند ماء. فشوتهم نار السهام وأشوتهم، وصممت عليهم قلوب القسي القاسية وأصمتهم. وأعجزوا وأزعجوا، وأحرجوا وأخرجوا. وكلما حملوا ردوا وأردوا، وكلما ساروا وشدوا؛ أسروا وشدوا. وما دبت منهم نملة، ولا ذبت عنهم حملة، واضطرموا واضطربوا، والتفوا والتهبوا. وناشبهم النشاب فعادت اسودهم فنافذ، وضايقتهم السهام فوسعت فيهم الخرق النافد. فآووا إلى جبل حطين يعصمهم من طوفان الدمار، فأحاطت بحطين بوارق البوار. ورشفتهم الظبا، وفرشتهم على الربا. ورشقتهم الحنايا، وقشرتهم المنايا، وقرشتهم البلايا، ورقشتهم الرزايا، وصاروا لردى درايا، وللقضايا رمايا. ولما أحس القومص بالكسرة، حسر عن ذراع الحسرة. واقتال من العزيمة، واحتال في الهزيمة. وكان ذلك قبل اضطراب الجمع واضطرام الجمر، واحتداد الحرب. فخرج بطلبه يطلب الخروج، واعوج إلى الوادي وما ود أن يعوج. ومضى كومض البرق، ووسع خطى خرقه قبل اتساع الخرق. وافلت في عدة معدودة، ولم يلتفت إلى ردة مردودة. وغاب حالة حضور الوغى، ونابه الرعب الذي نوى الهزيمة به وما ونى. ثم استجرت الحرب، واشتجر الطعن والضرب، وأحيط بالفرنج من حواليهم بما حووا إليهم، ودارت دائرة الدوائر عليهم. وشرعوا في ضرب خيامهم، وضم نظامهم. فحطوا على حطين مضاربهم، وفلت حدود الرماة الكماة مضاربهم. وأعلجوا عن نصب الخيم ورفعها، وشغلوا عن أصل الحياة وفرعها. وترجوا خيرا فترجلوا عن الخيل، وتجلدوا وتجالدوا فجرفهم السيف جرف السيل. وأحاط بهم العسكر إحاطة النار بأهلها، ولجئوا إلى حزم الأرض فبلغ حرامهم الطبيين من سهلها. وأسر الشيطان وجنوده، وملك الملك وكنوده. وجلس السلطان لعرض أكابر الاسارى، وهم يتهاودون في القيود تهادى السكارى. فقدم بدائه مقدم الداوية، ومعه عدة كثيرة منهم ومن الاسبتارية. وأحضر الملك (كي) وأخوه (جفري) و (اوك) صاحب جبيل و (هنفري). و (البرنس ارناط) صاحب الكرك وهو أول من وقع في الشرك. وكان السلطان قد نذر دمه، وقال لأعجلن عند وجدانه عدمه. فلما حضر بين يديه، أجلسه إلى جنب الملك والملك بجنبه، وقرعه على غدره وذكره بذنبه، وقال له كم تحلف وتحنث، وتعهد وتنكث. وتبرم الميثاق وتنقض،

وتقبل على الوفاق ثم تعرض فقال الترجمان عنه يقول قد جرت بذلك عادة الملوك، وما سلكت غير السنن المسلوك. وكان الملك يلهث ظميا، ويميل من سكرة الرعب منتشيا. فآنسة السلطان وحاوره، وفثأ سورة الوجل الذي ساوره. وسكن رعبه، وأمن قلبه، وأتى بماء مثلوج أزال لهثة، وازاح من العطش ما كرثه. وناوله الابرنس ليخمد أيضا لهبه، فأخذه من يده وشربه. فقال السلطان للملك لم تأخذ مني في سقيه إذنا، فلا يوجب ذلك له مني أمنا، ثم ركب وخلاهما، وبنار الوهل أصلاهما. ولم ينزل إلى أن ضرب سرادقه، وركزت أعلامه وبيارقه، وعادت عن الحومة إلى الحمى فيالقه. فلما دخل سرادقه، استحضر الابرنس فقام إليه وتلقاه بالسيف فحل عاتقه. وحين صرع أمر برأسه فقطع، وجر برجله قدام الملك حين أخرج فارتاع وانزعج. فعرف السلطان إنه خامره الفزع، وساوره الهلع، وسامره الجزع. واستدناه وأمنه وطمنه، ومكنه من قربه وسكنه. وقال له ذاك رداءته أردته، وغدرته كما تراه غادرته. وقد هلك بغيه وبغيه، ونبا زند حياته ووردها عن وريه وريه. وصحت هذه الكسرة؛ وتمت هذه النصرة؛ يوم السبت. وضربت ذلة أهل السبت على أهل الأحد، وكانوا اسودا فعادوا من النقد. فما افلت من تلك الآلاف إلا آحاد، وما نجا من أولئك الأعداء إلا أعداد. وامتلأ الملأ بالأسرى والقتلى، وانجلى الغبار عنهم بالنصر الذي تجلى. وقيدت الاسارى بالحبال واجفة القلوب، وفرشت القتلى في الوهاد والجبال واجبة الجنوب. وحطت حطين تلك الجيف على متنها، وطاب نشر النصر بنتنها. وعبرت بها فلقيت أشلاء المشلولين في الملتقى ملقاة، بالعراء عراة. ممزقة بالمازق، مفصلة مفرقة المرافق، مفلقة المفالق. محذوفة الرقاب، مقصوفة الأصلاب. مقطعة الهام، موزعة الأقدام. مجدوعة الآناف، منزوعة الأطراف. معضاة الأعضاء، مجزأة الأجزاء. مفقوءة العيون، مبعوجة البطون. مخضوبة الضفائر، معضوبة المرائر. مبرية البنان، مفرية اللبان. مقصومة الاضالع، مفصومة الاشاجع. مرضوضة الصدور، مفضوضة النحور. منصفة الأجساد. مقصفة الاعضاد. مقلصة الشفاه، مخلصة الجباه. قانية الذوائب، دامية الترائب. مشكوكة الأضلع، مفكوكة الأذرع. مكسورة العظام، محسورة اللثام. بائدة الوجوده، بادية المكروه. مبشورة الابشار، معشورة الأعشار. منشورة الشعور، مقشورة الظهور. مهدومة البنيان، مهتومة الأسنان. مهرقة الدماء، مرهقة الذماء. هاوية الذرا، واهية العرا، سائلة الاحداق، ماثلة الاعناق، مفتوتة الافلاذ، مبتوتة الأفخاذ. مشدوخة الهامات، مسلوخة اللبات. عديمة الأرواح، هشيمة الاشياح. كالأحجار بين الأحجار، عبرة لأولي الأبصار.

ذكر الصليب الأعظم والاستيلاء عليه يوم المصاف

وصارت تلك المعركة، بالدماء دأماء، وعادت الغبراء حمراء. وجرت أنهار الدم المنهر، وسفر بتلك الخبائث المظلمة وجه الدين المطهر. فما أطيب نفحات الظفر من ذلك الخبث، وما ألهب عذبات العذاب في تلك الجثث، وما أحسن عمارات القلوب بقبح ذلك الشعث، وما أجزأ صلوات البشائر بوقوع ذلك الحدث. هذا حساب من قتل. فقد حصرت ألسنة الأمم عن حصرة وعده. وأما من أسر: فلم تكف أطناب الخيم لقيده وشده. ولقد رأيت في حبل واحد ثلاثين وأربعين يقودهم فارس، وفي بقعة واحدة مائة أو مائتين يحميهم حارس. وهنالك العتاة عناه، والعداة عراه. وذوو الأسرة أسرى، وأولوا الأثرة عثرى. والقوامص قنائص، والفوارس فرائس، وغوالي الأرواح رخائص. ووجوه الداوية الداوية عوابس، والرءوس تحت الاخامص، مطالع الأجسام ذوات المقاطع والمخالص. فكم أصيد صيد، وقائد قيد وقيد. ومشرك مكشر، وكافر مفكر. ومثلث منصف، ومكيف مكتف. وجارح مجروح، وقارح مقروح. وملك مملوك، وهاتك مهتوك. ومتبر مبتور، ومحسر محسور. وكابل في الكبول، ومغتال في الغلول. وحر في الرق، ومبطل في يد المحق. ذكر الصليب الأعظم والاستيلاء عليه يوم المصاف ولم يؤسر الملك حتى أخذ صليب الصلبوت، وأهلك دونه أهل الطاغوت. وهو الذي إذا نصب وأقيم ورفع؛ سجد له كل نصراني وركع وهم يزعمون إنه من الخشبة التي يزعمون إنه صلب عليها معبودهم، فهو معبودهم ومسجودهم. وقد غلفوه بالذهب الاحمر، وكللوه بالدر والجوهر. واعدوه ليوم الروع المشهود، ولموسم عيدهم الموعود. فإذا أخرجته القسوس؛ وحملته الرءوس؛ تبادوا إليه، وانثالوا عليه. ولا يسع لأحدهم عنه التخلف، ولا يسوغ للمتخلف عن اتباعه في نفسه التصرف. وأخذه أعظم عندهم من أسر الملك، وهو أشد مصاب هم في ذلك المعترك. فإن الصليب السليب ماله عوض، ولا لهم في سواه غرض، والتأله له عليهم مفترض. فو إلههم وتعفر له جباههم، وتسبح له أفواههم. يتغاشون عند احصاره، ويتعاشون لإبصاره، ويتلاشون لإظهاره، ويتغاضون إذا شاهدوه، ويتواجدون إذا وجدوه. ويبذلون دونه المهج، ويطلبون به الفرج. بل صاغوا على مثاله صلبانا يعبدونها، ويخشون لها في بيوتهم ويشهدونها. فلما أخذ هذا الصليب الأعظم عظم مصابهم، ووهت أصلابهم. وكان الجمع المكسور عظيما، والموقف المنصور كريما. فكأنهم لما عرفوا إخراج هذا الصليب، لم يتخلف أحد من يومهم العصيب. فهلكوا قتلا وأسرا، وملكوا قهرا وقسرا. ونزل السلطان على صحراء طبرية كالأسد المصحر، والقمر المبدر.

ذكر فتح حصن طبرية

ذكر فتح حصن طبرية وندب إلى حصنها من تسلمه أمانا، وأسكته بعد الكفر إيمانا. وكانت الست صاحبة طبرية قد حمته، ونقلت إليه كل ما ملكته وحوته. فأمنها على أصحابها وأموالها، وخرجت بنسائها ورجالها ورحالها، وسارت إلى طرابلس بلد زوجها القومص بمالها وحالها. وعادت طبرية آهلة آمنة بأهل الإيمان، وعين لولايتها (صارم الدين قايماز النجمي) وهو من الأكابر الأعيان. هذا والملك الناصر، نازل ظاهر طبرية، وقد طب البرية، وعسكره طبق البرية. ذكر ما اعتمده في الأسارى الداوية والاسبتارية من ضرب رقابهم وإعطاء بشر الوجوه بإعطابهم فلما أصبح يوم الاثنين سابع عشري شهر ربيع الآخر بعد الفتح بيومين؛ طلب الاسارى من الداوية والاستبشارية وقال أنا أطهر الأرض من الجنسين النجسين، وجعل لكل من يحضر منهما أسيرا خمسين، فأحضر العسكر في الحال مئين. وأمر بضرب أعناقهم، واختار قتلهم على استرقاقهم. وكان عنده جماعة من أهل العلم والتصوف، وعدة من ذوي التعفف والتعفيف. فسأل كل واحد في قتل واحد، وسل سيفه وحسر عن ساعد. والسلطان جالس ووجهه باشر والكفر عابس. والعساكر صفوف، والأمراء في السماطين وقوف. فمنهم من فرى وبرى وشكر، ومنهم من أبى ونبا وعذر. ومنهم من يضحك منه، وينوب سواه عنه. وشاهدت هناك الضحوك القتال، ورأيت منه القوال الفعال. فكم وعد انجزه، وحمد أحرزه، واجر استدامه بدم أجراه، وبر أعنق إليه بعنق براه. ونصل خضبه، لنصر خطبه. وأسل اعتقله، لأسد عقله. وداء داواه، لداوي ادواه. وقوة اهداها لهداة قواها، ولواء نشره للاواء طواها. وكفر أماته لإسلام أحياه. وشرك هدمه لتوحيد بناه. وعزمة أمضاها لأمة أرضاها. وعدو قصمه، لولى عصمه. وسير ملك الفرنج وأخاه وهنفري وصاحب جبيل ومقدم الداوية وجميع أكابرهم المأسورين إلى دمشق ليودعوا السجون، وتستبدل بحركاتهم السكون. وتفرقت العساكر بما حوته أيديهم من السبي أيدي سبا. وخمد جمر جمع الكفر وخبا. ذكر فتح عكاء ورحل السلطان ظهر يوم الثلاثاء ظاهرا على أهل التثليث، مديلا للطيب مزيلا

للخبيث. وسار عسكره، وثار عثيره. وظهرت راياته وبهرت آياته. وتعرت كوساته، وصاحت بوقاته. وجالت خيوله وسالت سيوله. وطلعت في سماء العجاج نجوم خرصانه، وقلعت قلائع تلك الجبال جبال فرسانه. وحفرت حوافر الصلادم أصلاب الصلاد الصلاب، وفصحت بإعراب الحماحم صواهل الجياد العراب. والأسنة مشرعة، والاعنة مسرعة. وبحور السوابح متموجة، وغدران السوابغ مترجرجة، وبوارق البيارق متبوجة، واوضاح الجرد وغررها كأوضاح النصر وغرره متبلجة. ونزل عشية بأرض لوبية، لداعي الفتح ملبيا، ولجيش النصر معبيا، ولمولود الملك العقيم بتلقيح الحرب العوان مربيا. وبات بها معرسا بانيا على عروس الظفر البكر، جانيا ثمار الأماني من غروس البيض والسمر. وأصبح وقد أصحب جماح الدهر، وصح نجاح الأمر، وحص جناح الكفر. وأسفر فجر الفرج، وسفر وجه البهج. وسار سارا سره، بارا بأرباب الدين بره. زائرة أسوده، طائرة بنوده. ظاهرة جنوده، زاهرة جدوده. سامية أضواؤه. هامية أنواؤه. رائعة مواكبه، رائقة مراكبه. مجنبة عتاقه، مذربة رقاقه. وكان أمير المدينة النبوية - صلوات الله على ساكنها - في موكبه. فكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سير للفقير إلى نصرته من يثرى به يثربه. وهذا الأمير (عز الدين أبو فليته القاسم بن المهني الحسيني) قد وفد في تلك السنة أو أن عود الحاج، وهو ذو شيبة تقد كالسراج. وما برح مع الملك الناصر، مأثور المآثر. ميمون الصحبة، مأمون المحبة. مبارك الطلعة، مشاركا في الوقعة. فما تم فتح في تلك السنين إلا بحضوره، ولا أشرق مطلع من النصر إلا بنوره. فرأيته ذلك اليوم للسلطان مسايرا، ورأيت السلطان له مشاورا محاورا. وأنا أسير معهما. وقد دنوت منهما ليسمعاني واسمعهما. ولاحت أعلام عكا، وكأن بيارق الفرنج المركوزة عليها ألسنة من الخوف تتشكى. وكأن عذبات النيران تصاعدت بعذاب أهلها، وقد توفرت عساكر الإسلام إليها من وعرها وسهلها. فلما قرب منها خيم وراء تلها، وآذنت عروش معاشر الشرك بفلها، وعقود معاقدي الكفر بحلها. وأصبح يوم الخميس وركب في خميسه، ووقف كالأسد في عريسه. فخرج أهل البلد يطلبون الأمان، ويبذلون الإذعان. فأمنهم وخيرهم بين المقام والانتقال، ووهب لهم عصمة الأنفس والأموال. وكان في ظنهم إنه يستبيح دماءهم، ويسبي ذريتهم ونساءهم. وأمهلهم أياما حتى ينتقل من يختار النقلة، واغتنموا تلك المهلة. وفتح الباب للخاصة، واستغنى بالدخول إلى البلد جماعة من ذوي الخصاصة. فإن القوم ما صدقوا من الخوف المزعج، والفرج المحرج. كيف يتركون دورهم بما فيها ويسلمون، وعندهم أنهم إذا نجوا بأنفسهم إنهم يغنمون. فترك معظمهم المدينة، وعندهم إنه ما كسب السكينة إلا من ركب السفينة.

وذلك ان الجند لما دخلوها استولوا على الدور ونزلوها. وركز كل منهم بيرقه على دار، وقال صاحبها كيف يصح المقام مع الأسد في غابة ولا مقام على زار. وكان السلطان جعل للفقيه (عيسى الهكاري) كل ما يتعلق بالداوية من منازل وضياع، ومواضع ورباع، فأخذها بما فيها من غلال ومتاع. ووهب عكاء لولده الملك الأفضل، فأجراها من نظره على الأحسن الأجمل ودخلناها يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى فأقمنا بها الجمعة، ووصلنا فريضتها المنقطعة. وأعدنا الكنيسة العظمى مسجدا جامعا، وعاد نور الهدى الخافي بالضلالة لامعا. وحضر القاضي الأجل الفاضل فأمر بترتيب القبلة والمنبر، وتبسم بميامنه للإسلام بعد الإظلام سني الصبح المسفر. وخطب (جمال الدين عبد اللطيف ابن الشيخ أبي النجيب السهروردي) فإنه تولى بها القضاء والخطابة، وملأنا بعد الذئاب بالاساد السادة تلك الغابة. وخلى سكان البلد دورهم، ومخزونهم ومذخورهم. وتركوها لمن أخذها، ونبذوا ما حووه لمن حواها وما نبذها. وافتقر من الفرنج أغنياء، واستغنى من أجنادنا فقراء. ولو دخرت تلك الحواصل، وحصلت تلك الذخائر، وجمع لبيت المال ذلك المال المجموع الوافر؛ لكان عدة ليوم الشدائد، وعمدة لنجح المقاصد فرتعت في خضرائها بل صفرائها وبيضائها سروج الأطماع، وطال لمستحليها ومستحلها الإمتاع بذلك المتاع. وأقام السلطان بباب عكاء على التل مخيما، وعلى فتح سائر بلاد الساحل مصمما، لمملكتها متمما. وكان قد كتب إلى أخيه الملك العادل (سيف الدين أبي بكر) - وهو بمصر بما أتاحه الله من النصر، وقيضه له من افتاض الفتح البكر. فوصلت البشرى بوصوله باشرا، وللزاء الحمد ناشرا ولاستفتاح ما في طريقه من الحصون مباشرا. وأنه فتح حصن مجدل يابا ومدينة يافا عنوة، واغتنمها غزوة، وتسلمها حظوة. فقصده من عساكرنا القصاد، ووفد إليه من عندنا الوفاد. فحباهم بالحباء من السبايا، وآتاهم المرباع والصفايا، وخصهم من الحاصل بالنقود ووعدهم مما سيحصل بالنسايا. وشرع يستضيف حصنا فحصنا، ويستفيض حسنى وحسنا. ويستزيد يبدا، ويستزير مددا. ويستنزل من الكفر يدا، ويستميل إلى الهدى هدى. والدين بسيف سيفه منصور، والإسلام بنصر ناصره مسرور والملك العادل مالك بعدله، سالك نهج النجع بفضله. فائز العزيمة، حائز الغنيمة، ماضي الضريبة، قاضي الكتيبة. ميمون النقيبة، مأمول الرغيبة.

ذكر فتح عدة من البلاد

ذكر فتح عدة من البلاد وأقام السلطان بمخيمه، ظافرا بكرمه، شاكرا عرام عرمومه. ملهبا ضرام مخدمه، مرويا أوام لهذمه. وأمر أمراء بقصد البلاد المجاورة، وأمدهم بالضراغم المراوغة المغاورة. فتح الناصرة وصفورية فسار (مظفر الدين كوكبوري) إلى الناصرة فاستباح حماها، واستبى دماها. وحلها واستحلها، وأزالها وأزلها وخف إليها واستخفها، واستشفها وشفها. وشافهها بشفار البواتر، فشفه منها موالد الذخائر واجتلى عرائسها، واجتنى مغارسها، وجمع نفائسها، ونزع ملابسها، واستدر طبيها، واسترد سبيها. واستقل منها بما استقل به. من كل غانية عانية، ورقيقة رقيقة، ومصابة مصبية، ومسبية مصبية، ومجلوة مجلوبة، وسالبة مسلوبة، ودمية دامية، وجارية لطيفة بالعنف جارية، وأسيرة من أسرة، وحاسرة عن حسرة. وثاكلة لواحدها، وآكلة لساعدها، وعاضة على يديها، وفاضة ختم الدمع على خديها. وناهدة متنهدة، وفريدة متفردة، وناعمة شقية، وقينة نقية. وعذراء مفترعة، وحسناء منتزعة. ومخطفة مختطفة، وقوية مستضعفة. وعزيزة ذليلة، وصحيحة عليلة. وساجية عبرى، وصاحية سكرى. وغريرة غراء، وظبية ظمياء. وغضيضة غضة، وفضة منفضة. وخمارة مخمورة. وسحارة مسحورة. ومخدرة مهتوكة، وموقرة منهوكة وجاءوا بالأسارى بين يديه مقرنين في الاصفاد، مقودين في الاقياد. مسوقين إلى السوق، والحديد منهم في الأعناق والسوق. وصوت صفورية من سكانها فلم يوجد بها صافر، وكان بها من الذخائر مبلغ وافر. فتح قيسارية وتوجه (بدر الدين دلدرم) و (غرس الدين قليج) وجماعة من الأمراء إلى قيسارية فافتتحوها بالسيف، وسلطوا على الأنفس والنفائس بها حاكمي الحتف والحيف؛ وسبوا وحبوا وسلبوا وجلبوا. وجالوا ونالوا. ووقذوا واخذوا، واحتتوا وارتووا، وربطوا وضبطوا. واستفادوا واستقادوا، وفرسوا الفوارس، وكنسوا الكنائس، واستبوا الأبكار العرائس. والعون العوانس. وتسلمت بعدها (حيفا) و (ارسوف) واستولى على تلك الشموس والأقمار الكسوف والخسوف.

فتح نابلس

فتح نابلس وسار (حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين) على سمت نابلس حاسما بحسامه داء الشرك، مالئا بسهام الفتك جعاب الترك. تاليا آي الفتح، جاليا رأى النجح. ووصل إلى (سمسطية) فتسلمها. وتعجل مغنمها. ووجد مشهد (زكريا) عليه السلام قد اتخذه القسوس كنيسة، وأعادوها بالصور والآلات النفيسة أنيسة. فاستخرج المصونات والمصوغات، واستوعب العدد والآلات. وأعاده مشهدا، ورده مسجدا. ووضع فيه من بره بالإسلام منبرا، وأصبح الدين مثريا والكفر مقترا. ثم أناخ على نابلس وناب حده غير ناب، وطرف جده غير كاب. وحد بأسه طرير، وناظر الدولة به قرير. وكان من قبل سلب ساكنوها من الفرنج والنصارى السكون. وأيقنوا أنهم إن أقاموا لا يأمنون المنون. فإن المسلمين بها وبأعمالها نهضوا إليهم في مواطنهم، فأجفلوا من مساكنهم، وانتقلوا من أماكنهم. وخلوا دورهم وأخلوها، وتسللوا منها وسلوها وتحول الأقوياء إلى قلعتها، وتحصنوا بتلعتها. ونازلها (حسام الدين) وحاصرها، وطال عليه حصرها، وصابرها. ولم يزل عليها مقيما؛ ولقتالها مديما؛ إلى أن وثقوا بأمانة، وعلقوا بإحسانه. وسلموا وسلموا، واستأمنوا وأمنوا. وخلصت له نابلس وأعمالها، وحليت به أحوالها. ولكون معظم أهلها وجميع سكان نواحيها مسلمين؛ لم يسع الفرنج المتحصنين عند مضايقتهم إلا أن يكونوا لحصنهم مسلمين. فانمحى بالسعود رسم النحوس، ونزعنا عنها لبوس البوس، واستبشرت وجوه أهلها بعد العبوس، وقام جاه الآذان وانكسر ناموس الناقوس. فتح الفولة وغيرها وكانت الفولة أحين قلعة وأحصنها، واملأها بالرجال والعدد وأشحنها. وهي للداوية حصن حصين، ومكان مكين، وركن ركين. ولهم بها منبع منيع، ومربع مريع، ومسند مشيد، ومهاد مهيد. وفيها مشتاهم ومصيفهم، ومقراهم ومضيفهم. ومربط خيولهم، ومجر ذيولهم، ومجرى سيولهم، ومجمع إخوانهم، ومشرع شيطانهم، وموضع صلبانهم. ومورد جمعتهم، وموقد جمرتهم. فلما اتفق يوم المصاف خرجوا بأجمعهم إلى مصرعهم، واثقين بأن الكدر لا يتمكن من صفو مشرعهم. فلما كسروا وأسروا؛ وخسروا وتحسروا؛ خلت طلول الفولة؛ بحدود أهلها المفلولة، ودماء داويتها المطولة، ولم يجتمع شمل غمودها بالسيوف المسلولة. ولم يبق بها إلا رعايا رعاع، وغلمان وأتباع، وتشياع شعاع. فعدموا إمكان حماية المكان، ووجدوا أمنهم في الاستئمان، فسلموا الحصن بما فيه

فتح تبنين

إلى السلطان، وكانت فيه أخاير الذخائر ونفائس الاعلاق، فوثقوا بما أحكموه من الميثاق. وخرجوا ناجين، ودخلوا في الذمام لاجين، وللسلامة راجين. وتسلم جميع ما كان في تلك الناحية من البلاد مثل (دبورية) و (جينين) و (زرعين) و (الطور) و (اللجون) و (بيسان) و (القيمون). وجميع ما لطبرية وعكا من الولايات. و (الزيب) و (معليا) و (البعنة)، و (اسكندرونة) و (منوات). فتح تبنين ولما خلصت تلك الممالك والأعمال؛ وقلصت من الضلال تلك الظلال؛ وصفت الممالك؛ ووفت المدارك؛ أوعز السلطان إلى ابن أخيه الملك المظفر (عمر بن شاهنشاه تقي الدين) بقصد حصن تبنين، وأن يتوكل على الله فيه ويستعين. فألقى عليه جران باسه، ولقي بالتذليل حران ناسه، وأخذ في مضايقته بأنفاسه، ولمح ما لمع من قبس فشغف باقتباسه. وسنح له قنصه فاشرأب باقتناصه وافتراسه. وكتب إلى السلطان يبعثه على الوصول إليه بعسكره، والنهوض نحوه بأبيضه وأسمره. فضرب الكوس وسمت النفوس. وأنارت في ظلام القتام من الترك والتراءك الأقمار والشموس، واشتعلت من شيب البيارق في شعاع تلك البوارق الرءوس. وتحرك السواد كمهيل النقا، واشتبك على الآساد غيل القنا. وسالت الأودية بالسابحات العتاق، وطالت على السير أعناق الأعناق. ومالت إلى الرقاب الغلاظ من أهل الكفر رقاب الرقاق. (وجرت الفجاج، وجرت الزجاج وتموجت الأفواج، وتفوجت الأمواج). وتحركت غدران السوابغ من رياح السوابق، وتدركت ضوامن الضوامر بالافاد في أرداف الحق اللاحق؛ وأسفر من بريق البيض والبيض فلق الفيالق. وترنمت الصواهل، وترنحت الذوابل، وساح الساحل، وراح الراحل، ووصلنا إلى (تبنين) في ثلاث مراحل. فرمينا أهل التثليث فيها بثالثة الأثافي، وأوطاناهم بشفاه الشفار على حدود الاشافي. ونزلنا عليها بالنوازل. وبسطنا من المجانيق عليها أيدي الغوائل. فتبلدوا من الرعب، وتجلدوا على الحرب. ثم خاروا وحاروا، وجاروا ورغبوا ورهبوا، وصحوا من سكر الجماح وأصحبوا. وعجزوا فجزعوا، وفزهم الحصر وفزعوا. وشكوا الندوب وندبوا، فدانوا ودنوا. وأذعنوا إذ عنوا، واعتذروا مما جنوا. وراسلوا السلطان، وسألوا الإمام. واستمهلوا خمسة أيام لينزلوا بأموالهم فأمهلوا. وبذلوا رهائن من مقدميهم ووفوا بما بذلوا. واقلع من بالقلعة عن الجهلة، وتعلق لبت العلق بالمهلة. وتقربوا بإطلاق الاسارى المسلمين. وترقبوا انقضاء المهلة لسلامة المسلمين. فخرج المأسورون مسرورون، وأصبح الصحب المكسورون مجبورين. محبوين بالفرج بعد الشدة محبورين. وسر بهم السلطان وسربهم، وأقرهم

فتح صيداء يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى يوم النزول عليها

وقربهم. وكساهم وحباهم، وآتاهم بعد ردهم إلى مغانيهم غناهم. وهذا دأبه في كل بلد بفتحه، وملك يربحه، إنه يبدأ بالأسارى فيفك قيودها، ويعيد بعد عدمها وجودها، ويحيي بعد اليأس آمالها. ويوسع أرزاقها بعدما أجال عليها ضيق الأسر آجالها. فخلص تلك السنة من الأسر أكثر عشرين ألف أسير للقيود ألف، ووقع في أسرنا من الكفار مائة ألف. ولما خلوا القلعة وأخلوا البقعة؛ سيرهم ومعهم من العسكر المنصور من أوصلهم إلى صور ورتب في الموضع مملوكه (سنقر الدووي)، فأرشد به ذلك الصقع الغوى. فإن أعمال جبل عاملة مجبولة على الشر، وأهلها وأن كانوا مسلمين كانوا أعوانا لأهل الكفر، فوصى سنقر بتأنيس النافر، وتعكيس الكافر. وتأليف الجافل، وتعريف الجاهل. وقال له تبنى بتبنين ما هدم بالمنجنيق، وتجد لسورها وخندقها كل ما يمكن من التوثيق والتعميق، ورحل ومعه رفيق التوفيق. وكان النزول على تبنين، يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وتسلمها يوم الأحد الثامن عشر منه. فتح صيداء يوم الأربعاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى يوم النزول عليها وسنحت له صيداء فتصدى لصيدها، وكانت همته في قيدها، وبادرها إشفاقا من مكر العداة وكيدها وسرْنا وسرّنا مرتاح، ونصرنا متاح، والجد جديد والمزاح مزاح. والعزم جزم، والحكم حتم. ونفحات الفتوح لمناشق أهل الهدى تفوح. ولفحات الردى لأعين العدا تلوح. ونص النصر قد تنزل، وقصد الصدق قد تعدل. وفكر الكفر قد توزع؛ وشرك الشرك قد تقطع وتقلع. وظل الظفر ضاف، وسر السرور غير خاف. والقدر عون والمعين قادر، والنظر سعيد والسعد ناظر. وأوجهنا وأوجه البشائر باشرة، ونيوب النوائب في أوجه المشركين كاشرة، والالسن لحديث الفتح الحديث ناشرة. وقد جفت أجفانها البواتر الواترة. وجلت دياجير النقع من لمعان الحديد السوافر الوافرة. واتصلت للممالك من الملائك إمداد النصرة المتواتية المتواترة. ووصلنا في يومين إلى صيداء إلى منهل فتحها صادين، وعن حمى الحق دونها لأهل الباطل صادين. ولما نزلنا من الوعر إلى السهل سهل ما توعر، وصفا من الأمر ما ظن إنه تكدر. فصرفنا الأعنة إلى صرفند، وأسمنا في مسارحها الجند. وهي مدينة لطيفة على الساحل، مورودة المناهل. ذات بساتين، وأزهار ورياحين. وأشجار النارنج والاترنج تعرب مسراتها لجناتها عن أشجان الفرنج. فجسنا خلالها، وكل قلب مشغول خلالها. وراقتنا وشاقتنا تلك الحالة والحلية. وقرتنا بما اشتهينا من فواكهها تلك القرية.

فتح بيروت وكان النزول عليها يوم الخميس ثاني عشري جمادى الأولى وتسلمها يوم الخميس التاسع والعشرين منه

ولم نعرج حتى خيمنا على صيداء وقد حصلنا على صيدنا، وخلصنا من كيدنا، وانطلقت همما من قيدها. فقد جاءت رسل صاحبها. بمفاتيحها، وأذهبنا ظلماتها من العزائم الغر بمصابيحها، وطلعت الراية الصفراء باليد البيضاء على سورها. وجلت غياهب تلك المذاهب بنورها، وفتحت ابوابها، وانجحت آرابها. وعز مسلموها، وذل مشركوها وسكن ساكنوها، وهلك أهلوها. وعادت معالمها مأهولة بعد أن كانت مقفرة مجهولة. وصدح منبرها، وصدق مفخرها. وربح متجرها، ووضح منظرها. وأقيمت بها الجمعة والجماعة، واستديمت بها بعد العصيان لله الطاعة. فتح بيروت وكان النزول عليها يوم الخميس ثاني عشري جمادى الأولى وتسلمها يوم الخميس التاسع والعشرين منه ولما فرغ من شغل صيداء وتبنين؛ وجمع لهما التحصين والتحسين؛ قال لعصمة الله شيدي ما بصيداء وتبنين تبنين. وألحفيهما رداء الحماية فما يضيع ما تحفظين ولا يطرق ما تحمين، ثم صرف عنانه، وارهف سنانه. ورحل على سمت بيروت، مالئا بعسكره الآكام والمروت. وسار على الساحل، بتلك الجحافل. ببحر على البحر مائج، ومجر مجر إلى الهياج هائج، ونقد من عقد الجد رائج، وعزم على صدق القصد عائج. ووصل اليها ونزل عليها. وبنيت القباب، وطفا على خضم المعسكر من الخيم الحباب، وضويق البلد، وفورق الجلد. وأحاط الرجال بأرجائه، ورجمت بشهب النصال شياطين الضلال في سمائه. وانقضت نجوم السهام من أبراجه، وتلاطم عباب ذلك الجمع الجم بأمواج أفواجه. وترجل دونه الناس، وتعجل نحوه الباس، واصطفت التراس، واشتد المراس. واحتد القتال، واحتدم النزال. وامتد المصاع والمصال. واتصل خروج الجروخ للجروح، ودام احتراق الروح على اقتراح القروح. ومدت الجفاتي كأنها اعناق البخاتي. وأتى العاتي، وعتا الآتي، وأحمد النصر الموافي المواتي، ودارت كؤوس المنايا للأرواح بخذى وهاتي. وطارت القوارير، وثارت المساعير. واشتعل النفط، واشتغل الرهط. والتهم الزراق، والتهب الحراق. ومرق الشهم الكمي، مروق السهم من الرمى، وأتى الوادي فطم على القرى. ودبت الدبابة بليوث الرجال، وصبت الصبابة غيوث النبال، وارتجزت رواعد الأبطال، وانتجزت مواعد الآجال، وجالت في الضمائر ضوامر الاوجال، وهالت بالنوازل نوازي الأهوال. ورعدت بوارق البوار، وأسعدت الأقدار بالإقدار. وشغلت الرقاب قواضي القواضب،

وحملت العدد النواكب على المناكب. وخفت للأثقال أكتاف الفتاك، وهتكت ستائر السور فوهت إشراك الإشراك. ودام القتال اياما، يتضاعف اصطلاء واصطلاما، ويتظاهر اضطرابا واضطراما. وبنات الحنايا هائجة، وأمات المنايا ناتجة. ورجمت بشهب النفاطات شياطين الداوية المردة، وتعادت الأسود العادية على أولئك القردة. حتى خرق الخندق وطرق، وعلق النقاب بالسور فنقب وعلق. وكاد النقب يتسع، والبرج يقع. والجدار ينقض، والحجار بالحجار تنفض وترفض. وسوار السور ينكسر، وقناع النقع لا ينحسر. وخرج من البلد رجال، إلى الموت عجال. وقفوا دون الباشورة مباشرين، ولمعاشر أصحابنا بمعاطات كؤوس المنون معاشرين. فلاقوا بسلام السلام. وكلام الكلام. وتصافحوا بالصفائح، وتجاروا بالجرائح وتواصلوا بالقواطع، وتعانقوا بالمقامع، وتصارعوا على المصارع. وتجلدوا وتجالدوا، وتواقحوا وتعاقروا وتقارعوا. والبيض يقد، والبيض تقد. والباسل يرد، والبأس يرد. والصقيل الصادي يصدأ بالدم ويروى، وحزب الكفر يضعف وحزب الإسلام يقوى. ثم انحصروا في البلد، وانحشروا على اللدد. وضافهم الرعب، وضاق بهم الرحب. وذلوا وخاروا، وضلوا وحاروا. ولما خاب المقاتلة وخذلوا، ظن أهل بيروت أن المسلمين دخلوا. فأجفلوا إلى البحر إذ عدموا سكينتهم، ليركبوا سفينتهم، ويخلوا مدينتهم. فخرج أحد المقدمين يستدعى الامان، ويستعدى الإيمان. ويطلب مثالا يعصمهم، وذماما يحرمهم. وعهدا يسلمون به ويسلمهم، وعقدا في عقد الأمن ينظمهم. وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني وأعجزني، ومضض أخفاني ولعيون العواد أبرزني. وانقطعت عن الحضور عند السلطان، وضعفت عن تحرير كتاب الأمان. فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه. وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه. فلم يرضه ما كتبوه، ولم يكفه ما رتبوه. فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني، ومرضت أذهان الأصحاء ولم يمرض ذهني. فتسلم بيروت بخطى، وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي. وكان الناس قد أنسوا لما أسطره وتزبره، وانسوا سوى ما أذكره وأجره. وألفوا الصحة فيه فألفوه، ولقوا السقم في غيره فانفوه. فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق، بل كله بتوفيق من الله توثيق. فما فتح فتح إلا بمفتاحه ولا رتق فتق إلا بإصلاحه. ولا جلى ظلام إلا بإصباحه، ولا ورى زند إلا باقتداحه. وكانت يومئذ جمرة الحر متوهجة، ووقدة القيظ متأججة. وضرم مرضى ملتهبا، وروح روحي منهبا. وبقيت مضطرا مضطربا، ولقيت من ذلك الوصب نصبا.

فتح جبيل يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الأولى

وحصلت من الإقامة أو السفر؛ على الخطر أو الحذر. وتعذر المقام لعذر السقام، واشتغلت عن آلاء شغلي بالآلام. وحملني اختلالي بنصبي على إخلالي بمنصبي. وعزت على مفارقة السلطان، وهو بإعزازي على مواصلة الإحسان. فمضيت على مضض، وانصرفت بمضرة ومرض. وحملت إلى دمشق في محفة، وحصلت بفضل الله من طيب هوائها بعد الثقل بخفة. فتفضل الله بالشفاء، وبدل الكدر بالصفاء. وعدت إلى السلطان يوم فتح القدس، وانتهت الوحشة إلى الأنس. وتسلم السلطان بيروت يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى مطاع الأمر، مشاع النصر، مذاع السر في تضوع النشر، وتوضح البشر. مستفيض السيادة، مستضيف الزبادة، ناجح الإرادة، راجح العباد. رابح المتجر، واضح المفخر. قد شب غرب الهدى، وجب راغب العدا. واستجدى من منّ الله منحا، واستجد باستفتاحه فتحا، واستفاد ملكا، واستزاد ملكا. وبر بيروت إذ برت، وانبرى لبرى قوسها فأبرت، وقرر مصالحها ومناجحها فاستقرت، وحفلت له أخلاف الفتوحات فدرت. واستمرى صوب الصواب من عزائمه وصرائمه فاستمرت. فتح جبيل يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الأولى ووصل (كتاب الصفي بن القابض) وهو يومئذ قد فوضت منه دمشق إلى الكافي الناهض. يتضمن أن (اوك) صاحب جبيل - أسر إليه في أسره، واستشاره في أمره - وقال له إن قنع مني بتسليم جبيل سلمت وسلمت وأبحتها لكم وتحرمت، وأخرجتها من عصمتي وخرجت واعتصمن. فأنا أطلقها إن أطلقت، وأزيلها من وثاقي إذا وثقت:، فأجيب باحترازه من كيده، وإحضاره في قيده. لأحضر في صفده، وسمح ببلده. فخلص ناجيا، وملص راجيا. وملكت مدينة جبيل، وجرت عليها الفتوح الذيل. ونحن يومئذ على بيروت حاضرون حاصرون، ولأعداء الله مصابرون مكابرون. وكان معظم أهل صيداء وبيروت وجبيل مسلمين مساكين، لمساكنة الفرنج مستسلمين. فذاقوا العزة بعد الذلة، وفاقوا الكثرة بعد القلة. وصدقت البشائر، وصدحت المنابر. وترنمت المحاريب، وترنحت المطاريب. وتليت الايات، وجليت الغيابات. وخرجت الكنائس وعمرت المدارس. وظهر عيب البيع، وشهر جميع الجمع. وقرئ القرآن، واستشاط الشيطان. ونطقت الأعواد، وحقت الأعياد. وخرصت النواقيس، وبطلت النواميس. ورفع المسلمون رءوسهم، وعرفوا نفوسهم. وانتعشوا من شكاة عثارهم، وانتقشوا من شوكة عارهم، وقروا في ديارهم، وقروا أبصارا لأنصارهم. وكان من استأمن من الكفار، يمضي إلى صور محمى الذمار.

ذكر هلاك القومص ودخول المركيس إلى صور

وصارت عش غشهم، ووكر مكرهم، وملجأ طريدهم، ومنجى شريدهم، ومأمن خاشيهم، ومكمن عاشيهم. وهي التي فر القومص إليها يوم كسرتهم، بل يوم حسرتهم. ذكر هلاك القومص ودخول المركيس إلى صور ولما عرف القومص قرب السلطان منها أخلاها وخلاها، وآوى إلى طرابلس وثواها. فما متع بما ملك. وكان مما قيل: راح يبغي نجوة ... من هلاك فهلك فما أنجاه الفرار من القضاء، وفر من البلاء إلى بلاده فوقع في البلاء. وظن أن صور خلت، وأن مجانيها حلت. وأن جماحها أذعن، وأن كفاحها أمكن. وأن فرصتها انتهزت، وأن حصتها أحرزت. وأن قيادها أطاع، وأن مرتادها استطاع. لكنها تعوضت عن القومص بالمركيس، كما يتعوض عن الشيطان بابليس. فأدرك ذماء الكفر بعد ما أشفى، وأيقظ روع الروع بعد ما أغفى. وضبط صور بمن فيها، من مهزومي الفرنج ومنفييها. وكان المركيس من أكبر طواغيت الكفر وأغوى شياطينه، وأضرى سراحينه. وأخبث ذئابه، وأنجس كلابه. وأنهش صلاله، وأفحش ضلاله. وأعوى أعوانه، وأخون إخوانه. وأبغي بغاته، وأجفى جفاته، وأرعى حماته، وأحمى رعاته. وشر شراره، وأنكر نكاره، ولأفجر فجاره. وأروغ ثعاله، وألسب عقاربه. وأحنث معاهديه، وأنكث معاقديه. وهو الطاغية الداهية، الذي خلقت له ولأمثاله الهاوية. ولم يكن وصل إلى بلاد الساحل قبل هذا العام. ولا خلف مقدمي الكفر غيره في الإقدام على خلاف الإسلام. واتفق وصوله إلى ميناء عكاء وهو بفتحها جاهل، وعمن فيها من المسلمين ذاهل. فعزم على إرساء الشيني بالمينا. ثم تعجب وقال ما نرى أحدا من أهلها يلتقينا. ورأى زي الناس غير الزي الذي يعرفه، فارتاب وارتاع وحدث عن الدخول توقفه. وبان تندمه، وتأخر تقدمه. وسأل عن الحال فأخبر بها، ففكر في النجاة وكيف يتعلق بسببها. ثم وقف بالقرب، فلبث على الرعب. والهواء راكد، والفضاء عنه راقد، فإنه لو خرج إليه مركب لأخذه، لو وقف له قاصد لوقذه. فاحتال كيف يخرج بسفينته، ولا يدخل مع فقد سكينته. وانتظر هبوب الريح الموافقة له فلم تهب. . وما تم الإفلات على ما أحب. فسأل عن البلد ومن إليه أمره، ومن بيده نفعه وضره. فقيل: هو الملك الأفضل، والمالك الأكمل. فقال خذوا لي منه أمانا حتى أدخل، وأرفع إليكم ما معي من المتاع وأنقل فجيء إليه بالأمان. وقيل: هذا بعلامة السلطان فقال: ما اتق إلا بخط يده، ولا أنزل إلا بعهده إلى بلده.

ذكر فتح عسقلان وغزة والداروم والمعاقل التي يأتي ذكرها

فما زال يردد الرسل، ويدبر الحيل؛ حتى وافقته الريح فأقلع، وافلت من الشرك بعد ما وقع. وصار في صور، فزم الأمور، وأجم الجمهور. وجرأ الكفر بعد خوره، وبصر الشيطان بعد عماه وعوره فاستعلى بالخزي، واستولى بالغي والبغي. وأرسل رسله إلى الجزائر، وذوي الجرائر. يستعدى ويستدعى، ويستودع ملة الصليب عبادة ويسترعى، ويستثير ويستزير. ويستنفر ويستنصر. وثبت في صور ونبت، وجمع إليه من الفرنج من تشتت. وما فنح بلد بالأمان؛ إلا سار أهله في حفظ السلطان؛ حتى يصيروا في صور، ويأمنوا المحظور. فاجتمع إليها البلاد المفتوحة، بالقلوب المقفلة المغلقة المقروحة. فامتلأت وكانت خالية، وانتشأت وكانت بالية. وتعللت وكانت معتلة، وتعقدت وكانت منحلة، وتسددت وكانت مختلة. ولم يحتفل بها فأخر فتحها، وما ظن بها الضن حتى علم شحها. فاستنجدت رمقا بالمهلة، وتصعبت بعد مقادتها السهلة. فقضى إمهالها بإهمالها، وعادت عيونها إلى الإغفاء بإغفالها. وألهي عن طلبها طلب ما هو أشرف، والعزم بفتحه اشعف وهو البيت المقدس، فإن فتحه من كل فتح أنفس. والمركيس في أثناء ذلك يحفر الخندق ويحكمه، ويعقد الموثق ويبرمه، ويجمع المفرق وينظمه. وسنذكر ما تجدد منه في أوقاته. ما فات من فرصة الإمكان في دفع آفاته. ذكر فتح عسقلان وغزة والداروم والمعاقل التي يأتي ذكرها وكان النزول على عسقلان يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة ولما فرغ السلطان من فتح بيروت وجبيل، ثنى عنانع يجر ويجري من العسكر والعثير على السماء والأرض الذيل والسيل. وعاد عابرا على صيداء وصرفند، وقد اورى فيهما باقتداح اقتراحه الزند. وجاء إلى صور ناظرا إليها، وعابرا عليها. غير مكترث بأمرها، ولا متحدث في حصرها، ولا معتقد في تعقدها، ولا متئد في توردها. وعلم أيضا إنها ممتنعة، وعن سومها مرتفعة. فعمل بالحزم، وعمد إلى العزم. ودلته الفراسة على أن محاولتها تصعب، ومزاولتها تتعب. وليس بالساحل بلد منها أحصن، فعطف الأعنة إلى ما هو منها أهون. وكان قد استحضر ملك الفرنج ومقدم الداوية، وشرط معهما واستوثق منهما أنه يطلقهما من الأسر والبلية، متى تمكن بإعانتهما من البلاد البقية. وعبر والعيون صور إلى صور، والمركيس ما شك أنه بها محسور محصور. فلما

أرخى من وثاقه؛ واتسع ضيق خناقه. حلق في مطار اوطاره، وحرك لغواته أوتار أوتاره. واجتمع السلطان بأخيه الملك العادل، واتفقا على طي المراحل، ونشر القساطل، وحل معاقد المعاقل، وسل قواصم القواصل. ونزل على عسقلان، وشديدها قد لان، وقد آتاها الله الخذلان. فتجلد من بها على الحصار، وتخوفت أسودها الخادرة من الاصحار. وتربصوا وتصبروا، وتترسوا وتستروا. وحاصوا وصاحوا، وحانوا وناحوا. وأبلسوا وأبسلوا، وأعولوا مما عليه عولوا. وشبوا وشابوا، وخبوا وخابوا. لكنهم استقبلوا الموت واستقتلوا. وتعقدوا على الفتح وما تحللوا، وأخزنوا في الإباء وما أسهلوا. وجهدوا وجهلوا. فأقام السلطان عليها مجانيق مجت نيقها، وفرجت بالحجارة طريقها، ورجت بالتفريق فريقها، ووسعت بالتضييق ضيقها، وأضعفت بالتوثيق. وجمعت شمل الحجارة بالنار التي وقودها الناس والحجارة، ولفحتهم نيرانها. وتوالت عليهم بعد الشرارة الشرارة، وخربت منهم العمارة، ووجبت بالجسارة منا لهم الخسارة. وتهدمت الصخور بالصخور، ولزم عبث بورهم بالثبور. وجسر النقاب فحسر النقاب، وباشر الباشورة فرفع الحجاب. واشتد القتال، واحتد المصال. وراسلهم عند ذلك الملك المأسور. وقال: قد بان عذركم حين نقب السور. وجرت حالات، وتكررت حوالات، وترددت رسالات. وقال لهم الملك الأسير لا تخالفوا ما به أسير، وأطيعوني ما استطعتم، واسمعوا مني إذا سمعتم، واحفظوا رأسي فهو رأس مالكم، وحلية حالكم، ولا تخطروا غيري ببالكم، فإني إذا تخلصت خلصت، وإذا استقذت استنقذت. وخرج مقدمون وشاوروا الملك، ونهجوا في التسليم نهجا سلك. وسلموا عسقلان على خروجهم بأموالهم سالمين، واستوفوا بذلك الميثاق واليمين. وذلك يوم السبت لانسلاخ جمادى الآخرة، وتلألأت السعود في اوجها بالأوجه السافرة. وممن استشهد على عسقلان من الأمراء الكبراء (إبراهيم بن الحسين المهراني) وهو أول أمير افتتح بالشهادة، واختتم بالسعادة. وكان السلطان قد أخذ في طريقه إليها الرملة ويبنى وبيت لحم والخليل. وأقام بها حتى تسلم حصون الداوية: غزة والنطرون وبيت جبريل. وكان قد استصحب معه مقدم الداوية وشرط معه أنه متى سلم معاقلهم أطبقه. فسلم هذه المواضع الوثيقة لما أخذ موثقه. واجتمع بالسلطان ولده صاحب مصر (الملك العزيز عثمان) على عسقلان بشارة وبشارة، وراية وآية. وهيئة وهيبة، وثرة وثروة. وهزة وعزة. وعدة وعدة، وجدة

فتح بيت الله المقدس

وجدة، وشدة وشدة، وحد وحدة. وضوعة وروعة، ونخوة وسطوة. وصوت وصيت. ومصاعيب ومصاليب. ومساعير ومغاوير. ودهم ودهم. وشهب وكمت. وصلاب وصلاد. وانجاب وأنجاد. وجلب ولجب، وبيض ويلب. وبيض وسود، وأساود وأسود. وجرد ومرد. وكهول وفحول. ورقاق وعتاق. وقود وقيدود. وأطلاب وأبطال، وفوارس ورجال، وخفاف وثقال. وعراب وأعاريب، وسراحين وسراحيب. وحد لا يكل، وجد لا يمل. وجمر يتقى، وجمع لا يلتقي. ومعه رماة الاحداق كماة الأتراك، وهداة التوحيد عداة الإشراك. فقرت عينه بولده، واعتضد بعضده، ووضع يده بتأييد الله في يده. وكان قد استدعى الاساطيل المنصورة فوافت كالفتخ الكواسر، بالفلك المواخر. وجاءت كأنها أمواج تلاطم أمواجا، وأفواج تزاحم أفواجا. تدب على البحر عقاربها، وتخب كقطع الليل سحائبها، وتجر بالذوابل ذوائبها، وتزاحم مناكب الأطواد مناكبها. (والحاجب لؤلؤ) مقدمها ومقدامها، وضرغام غابها وهمامها. فطفق يكسر ويكسب، ويسل ويسلب. ويقطع الطريق على سفن العدو ومراكبه، ويقف له في جزائر البحر على مذاهبه. وسيأتي ذكر ذلك في موضعه، ويظهر في وقائعه حسن موقعه. فتح بيت الله المقدس ثم رحل عن عسقلان للقدس طالبا، وبالعزم غالبا، وللنصر مصاحبا، ولذيل العز ساحبا. قد أصحب ريض مناه، وأخضب روض غناه. واصبح رائج الرجاء، أرج الأرجاء. صيب العرف، طيب العرف. ظاهر اليد، قاهر الأيد. سنى عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملأ الملأ فأفاض الآلاء. وقد بسط عثير فيلقه ملاءته على الفلق، وكأنما أعاد العجاج رأد الضحى جنح الغسق. فالأرض شاكية من إجحاف الجحافل، والسماء حاظية بأقساط القساطل. وسار سارا بالأحوال الحوالي، مروية أحاديث فتوحه العوالي من العوالي. مطوية مدارك مناجحه على ما تنشره الآمال من الأمالي. وقد حلت وعلت من مغارس النصر ومطالعه، المجاني والمجالي. والإسلام يخطب من القدس عروسا، ويبذل لها في المهر نفوسا، ويحمل إليها نعمى ليحمل عنها بوسي. ويهدى بشرا ليذهب عبوسا. ويسمع صرخة الصخرة المستدعية المستعدية لأعدائها على اعدائها، واجابة دعائها وتلبية ندائها، واطلاع زهر المصابيح في سمائها. وإعادة الإيمان الغريب منها إلى وطنه، ورده إلى سكونه وسكنه. وإقصاء الذين أقصاهم الله بلعنته من الأقصى، وجذب قياد فتحه الذي استعصى. وإسكات الناقوس منه بانطلاق الآذان، وكف كف الكفر عنه بإيمان

ذكر كنيسة قمامة

الإيمان. وتطهيره من أنجاس تلك الأجناس، وأدناس أدنى الناس. وإفحام الأفهام بإخراس الأجراس. وطار الخبر إلى القدس فطارت قلوب من به رعبا وطاشت، وخفقت أفئدتهم خوفا من جيش الإسلام وجاشت، وتمنت الفرنج لما شاعت الأخبار إنها ما عاشت. وكان به من مقدمي الإفرنج (باليان بن بارزان) و (البطرك الأعظم) ومن كلا الطائفتين الاسبتارية والداوية المقدم. فاشتغل بال باليان واشتعل بالنيران، وخمدت نار بطر البطرك. وضاقت بالقوم منازلهم فكأن كل دار منها شرك للمشرك. وقاموا بالتدبير في مقام الادبار، وتقسمت أفكار الكفار. وأيس الفرنج من الفرج، وأجمعوا على بذل المهج. ذكر كنيسة قمامة وقالوا هنا نطرح الرؤوس، ونسبك النفوس. ونسفك الدماء، ونهلك الدهماء. ونصبر على اقتراح القروح، واجتراح الجروح، ونسمح بالأرواح شحا بمحل الروح. فهذه قمامتنا، فيها مقامتنا، ومنها تقوم قيامتنا، وتصيح هامتنا، وتصح ندامتنا، وتسيح علامتنا. وتسح غمامتنا، وبها غرامنا وعليها غرامتنا، وبإكرامها كرامتنا، وبسلامتها سلامتنا، وباستقامتها استقامتنا، وفي استدامتها استدامتنا. وأن تخلينا عنها لزمت لآمتنا، ووجبت ملامتنا. ففيها المصلب والمطلب، والمذبح والمقرب؛ والمجمع والمعبد، والمهبط والمصعد. والمرقى والمرقب، والمشرب والملعب، والمموه والمذهب. والمطلع والمقطع، والمربى والمربع. والمرخم والمحخرم، والمحلل والمحرم. والصور والأشكال، والأنظار والأمثال، والآساد والأشبال. والأشباه والأشباح، والأعمدة والألواح، والأجسام والأرواح. وفيها صور الحواريين في حوارهم، والأحبار في أخبارهم، والرهابين في صوامعهم، والاقساء في مجامعهم. والسحرة وحبالها، والكهنة وخيالها. ومثال السيدة والسيد، والهيكل والمولد. والمائدة والحوت، والمنعوت والمنحوت، والتلميذ والمعلم، والمهد والصبي المتكلم. وصورة الكبش والحمار، والجنة والنار. والنواقيس والنواميس. قالوا وفيها صلب المسيح، وقرب الذبيح، وتجسد اللاهوت، وتأله الناسوت. واستقام التركيب، وقام الصليب. ونزل النور، وزل الديجور. وازدوجت الطبيعة بالاقنوم، وامتزج الموجود بالمعدوم. وعمدت معمودية المعبود، ومخضت البتول بالمولود. وأضافوا إلى متعبدهم من هذه الضلالات، ما ضلوا فيه بالشبه عن نهج

الدلالات. قالوا: دون مقبرة ربنا نموت، وعلى خوف فوتها منا نفوت، وعنها ندافع، وعليها نقارع. وما لنا لا نقاتل! وكيف لا ننازع ولا ننازل! ولأي معنى نتركهم حتى يأخذوا! وندعهم حتى يستخلصوا ما استخلصناه منهم ويستنفذوا!. وتأهبوا وتباهوا، وما انتهوا بل تناهوا. ونصبوا المجانيق أمات الاسواء على الأسوار. وستروا بظلمات الستائر وجوه الأنوار. واستشاطت شياطينهم، وسرحت سراحينهم، وطغت طواغيتهم، واصلتت مصاليتهم، ونشرت طواميرهم، وتسعرت مساعيرهم. وهاج هائجهم، وماج مائجهم، ودعت دواعيهم، وعدت عواديهم، وسعت أفاعيهم. وحضتهم قسوسهم، وحرضتهم رءوسهم، وحركتهم نفوسهم، وجاءتهم بجوى السوء جواسيسهم. وأخبرتهم بإقبال العساكر الناصرية منصورة الجنود، منشورة البنود، موصولة القواطع بالاشاجع، مهجورة الغمود. مشهورة القواضب، مشهودة الكتائب. مقودة الضوامر إلى ثار العدا. موقدة الضمائر بنار الهدى. مشبوبة العزائم، مجنوبة الصلادم. مسلولة الظبا، مطلولة الربا. مجنونة أجنة اغمادها، مسنونة أسنة صعادها. مطلقة جيادها، محققة مظنة طرادها. قد سالت الوهاد بآكامها، وجالت الأعلام في أعلامها. وسدت الفجاج أفواجها، ومدت العجاج أمواجها، وحجبت الغزالة عقبانها، والهبت الذبالة خرصانها. وجرت بالجبال رياحها، وجرت كالحبال رماحها، واشتمل على الضراغم غيلها. واقبل بالعظائم قبيلها. ووافى كل واف بعهد ربه، كاف لكف خطبه، شاف لهم قلبه، ضاف بفيض شربه، خاف في لبوسه، ناف لبوسه، باسل بباسه، عاسل بأمراسه، ناسل بنت الغمد من جفنه، غاسل نبت الحد بدم قرنه. واصل بيض الهند بسواعده، فاصل خطاب الخطوب ببوارقه ورواعده. حاد بجده، جاد بحده. وكل شاب بنار الحرب شاب، ورب دين لدين الرب راب، وكل جيش كالبحر عباب. وكل سال ذي ذباب عن الهدى ذاب. وكل قائل بالآخرة للحياة الدنيا قال، سائل من الله الشهادة عن حب البقاء سال مائل في سبيل الله إلى إنفاق مال. وأقبل السلطان بإقبال سلطانه، وأبطال شجعانه، وأقيال أولاده وإخوانه. وأشبال مماليكه وغلمانه. وكرام أمرائه، وعظام أوليائه. في مقانب بالمناقب مقنبة، وكتائب بالمواكب مكتبة. وذوابل بالكواكب منصلة، وجحافل بمضاء المضارب محفلة. وألوية صفر للاواء بني الأصفر. بيض وسمر تزرق زرق العدا من الموت الأحمر. وقباب وقبائل، وقنا وقنابل، وصوافن وصواهل، وعوامل وعواسل. وفوارس فوارس، وكل من يبذل للشح بدينه النفوس والنفائس. واصبح يسأل عن الأقصى وطريقه الأدنى وفريقه الاسنى. ويذكر ما يفتح الله عليه بحسن فتحه من الحسنى.

وصف البيت المقدس

وصف البيت المقدس وقال: إن أسعدنا من الله على إخراج أعدائه من بيته المقدس فما أسعدنا، وأي له عندنا إذا أيدنا. فإنه مكث في يد الكفر إحدى وتسعين سنة، لم يتقبل الله فيه من عابد حسنة، ودامت همم الملوك دونه متوسنة وخلت القرون عنه متخلية. وحلت الفرنج به متولية. فما ادخر الله فضيلة فتحه إلا لآل ايوب، ليجمع لهم بالقبول القلوب. وخص به عصر الإمام الناصر لدين الله ليفضله به على الاعصار، ولتفخر به مصر وعسكرها على سائر الأمصار. وكيف لا يهتم بافتتاح البيت المقدس الأقوى؛ والمسجد الأقصى المؤسس على التقوى؛ وهو مقام الأنبياء، وموقف الأولياء، ومعبد الأتقياء، ومزار إبدال الأرض وملائكة السماء. ومنه المحشر والمنتشر، ويتوافد إليه من أولياء الله بعد المعشر المعشر. وفيه الصخرة التي صينت جدة إبهاجها، ومنها منهاج المعراج، ولها القبة الشماء التي على رأسها كالتاج. وفيه ومض البارق ومضى البراق. وأضاءت ليلة الإسراء بحلول السراج المنير فيه الآفاق. ومن أبوابه: (باب الرحمة) الذي يستوجب داخله إلى الجنة بالدخول الخلود، وفيه (كرسي سليمان) و (محراب داود)، وله (عين سلوان) التي تمثل لواردها من الكوثر الحوض المورود. وهو أول القبلتين، وثاني البيتين، وثالث الحرمين. وهو أحد المساجد الثلاثة التي جاء في الخبر النبوي أنها تشد إليها الرحال، ويعقد الرجاء بها الرجال. ولعل الله يعيده بنا إلى أحسن صورة، كما شرفه بذكره مع أشرف خلقه في أول سورة، وقال عز من قائل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وله فضائل ومناقب لا تحصى. وإليه ومنه كان الاسراء، ولأرضه فتحت السماء، وعنه تؤثر أنباء الأنبياء، وآلاء الأولياء، ومشاهد الشهداء، وكرامات الكرماء، وعلامات العلماء. وفيه مبارك المبار، ومسارح المسار. وصخرته الطولى، القبلة الأولى. ومنها تعالت القدم النبوية، وتوالت البركة العلوية. وعندها صلى نبينا صلى الله عليه وسلم بالنبيين، وصحب الروح الأمين، وصعد منها إلى أعلى عليين. وفيه محراب مريم عليها السلام الذي قال الله فيه (كلما دخل عليها زكريا)، ولنهاره التعبد ولليله المحيا. وهو الذي أسسه دتود ووصى ببنائه سليمان. ولأجل إجلاله أنزل الله سبحان، وهو الذي افتتحه الفاروق وافتتحت به سورة الفرقان. فما أجله وأعظمه، وأشرفه وأفخمه، وأعلاه وأجلاه، وأسماه وأسناه. وأيمن بركاته وابرك ميامنه، وأحسن حالاته وأحلى محاسنه، وأزين مباهجه وأبهج مزاينه. وقد اظهر الله طوله وطوله، بقوله (الذي باركنا حوله). وكم

فيه من الآيات التي أراها الله نبيه، وجعل مسموعنا من فضائله مرئية. ووصف السلطان من خصائصه ومزاياه، ما وثق على استعادة آلائه مواثيقه وآلاياه. واقسم لا يبرح حتى يبر قسمه، ويرفع بأعلاه علمه، وتخطوا إلى زيارة موضع القدم النبوية قدمه. ويصغي إلى صرخة الصخرة، ويبغي بالبشرى بشر أسرة الأسرة. وسار واثقا بكمال النصرة، وزوال العسرة، وحسر الفرنج قناع الحسرة. ونزل على غربي القدس يوم الأحد خامس عشر رجب، وقلب الكفر قد وجب، وحزب الشرك قد شارف الشجى والشجب، والقدر قد اظهر العجب. وكان في القدس حينئذ من الفرنج ستون الف مقاتل، من سائف ونابل، وبطل للباطل، وعاس عاسل بالعاسل. قد وقفوا دون البلد يبارزون ويحادزون، ويعاجزون ويناجزون، ويرمون ويدمون، ويحمون ويحمون، ويحتدون ويحتدمون. ويضطرمون. ويذودون ويذبون، ويشبون ويسبون. ويصرخون ويحرضون، ويلهثون ويتغوثون. ويلوذون ويلوبون، ويجولون ويجوبون، ويقدمون ويحجمون، ويتململون ويألمون. ويتعاوون ويتضاعون، ويحترقون للبلايا، ويقترحون المنايا. وقاتلوا أشد قتال، وناضلوا أحد نضال، ونازلوا أجد نزال. وطافوا بصحاف الصفاح لإرواء الظبا الظماء من ماء الأرواح، وجالوا بالاوجال، وأجالوا قداح الآجال، وصالوا لقطع الأوصال. والتهموا والتهبوا، وتأشبوا ونشبوا. واستهدفوا للسهام، واستوقفوا للحمام. وقالوا كل واحد منا بعشرين، وكل عشرة بمائتين. ودون القمامة تقوم القيامة، ولحب سلامتها تقلى السلامة، ودامت الحرب، واستمر الطعن والضرب. فانتقل السلطان يوم الجمعة العشرين من رجب إلى الجانب الشمالي وخيم هنالك، وضيق على الفرنج المسالك، ووسع عليهم المهالك. ونصب المجانيق، ومرى من آفاتها الافاويق. وأصرخ الصخرة بالصخور، وحشر حشر السوء منهم وراء السور. فما عادوا يخرجون من السور الرءوس، إلا ويلقون البوس، واليوم العبوس، ويلقون على الردى النفوس. فللداوية دوى، وللبارونية من البوار في الهاوية هوى. وللاسبتار تبار، وما للفريرية من الموت فرار. وما بين الحجار المحلقة وبين المرمى إليهم ححاب، وفي كل قلب من الفئتين من نار حرصه التهاب. إذ الوجوه لقبل النصال مكشوفة، والقلوب بالقتال ملهوفة. والأيدي على قوائم السيوف المفتوحة مضمومة، والنفوس لاستبطاء الهمم في الاهتمام مهمومة، وقواعد السور ونواجذ شراريفه بالأحجار الخارجة من الكفات مهدومة مهتومة. فكأن المجانيق مجانين يرامون، ومناجيد لا يرامون. وجبال تجذبها حبال، ورجال تنجدها رجال. وأمات الدواهي والمنايا، وحوامل تلد البلايا. لا حجر عليها في حجر، ولا أمن عندها

من حذر، ولا تحظر سهامها إلا بالخطر. ولا يفطر مرورها إلا مرارات ذوي الفطر. فكم نجم من سسمائها ينقض. وصخر من أرضها يرفض! وجمر من شرارها ينقض! وما شيء كآفات كفاتها، وآيات نكاياتها، ودركات ادراكاتها، ولفتات فلتاتها، وجذبات عذباتها. فما زالت تقلع بمقالعها، وتقرع بمقارعها. وتمتح بأشطانها. وتمرح في أرسانها. وتصدم وتهدم، وتصرع وتصدع، وتنهز بدلائها، وتجهز ببلائها، وتحل تركيب الجلاميد بأفراد جلاميدها، وتفل شمل المباني بتفريقها وتبديدها، وتقوص القواعد بضربها من أساسها، وتنقض المعاقد بحذبها في امراسها، وتشفه الموارد بشربها من كأسها. حتى تركت السور سورا، وجعلت الذاب عنه محسورا، وعاد العدو من نظمه المبتور متبورا. وخرق الخندق وحفز الزحف، وظهر للإسلام الفتح وللكفر الحتف. واخذ النقب، وسهل الصعب. وبذل المجهود، وحصل المقصود. وكمل المراد، وكلم المراد. وثغر الثغر، وأمر الأمر. وأربى الأرب، واستتب السبب. وخاف القوم الوقم، واستعاضوا من الصحة السقم. واسلم البلد وقطع زنار خندقه، وبرز (ابن بارزان) ليأمن من السلطان بموثقه. وطلب الأمان لقومه، وتمنع السلطان وتسامى في سومه. وقال لا أمن لكم ولا أمان وما هوانا إلا أن نديم لكم الهوان. وغدا نملككم قسرا، ونوسعكم قتلا وأسرا. ونسفك من الرجال الدماء، ونسلط على الذرية والنساء السباء. وأبى في تأمينهم إلا الإباء. فتعرضوا للتضرع، وتخوفوا وخوفوا عاقبة التسرع. وقالوا إذا أيسنا من أمانكم؛ وخفنا من سلطانكم؛ وخبنا من إحسانكم؛ وأيقنا أنه لا نجاة ولا نجاح؛ ولا صلح ولا صلاح؛ ولا سلم ولا سلامة، ولا نعمة ولا كرامة، فإنا نستقتل فنقاتل قتال الدم؛ ونقابل الوجود بالعدم. ونقدم إقدام المستشري بالشر، ونقتحم اقتحام المستضري من الضر، ونلقي أنفسنا على النار، ولا نلقى بأيدينا إلى التهلكة والعار. ولا يجرح واحد منا حتى يجرح عشرة. ولا تضمنا يد الفتك حتى ترى أيدينا بالفتك منتشرة. وأنا نحرق الدور ونخرب القبة، ونترك عليكم في سبينا السبة. ونقلع الصخرة، ونوجدكم عليها الحسرة. ونقتل كل من عندنا من اسارى المسلمين وهم ألوف، وقد عرف أن كلا منا من الذل عزوف، وللعز ألوف. وأما الأموال فإنا نعطبها ولا نعطيها، وأما الذراري فإنا نسارع إلى إعدامها ولا نستبطيها. فأية فائدة لكم في هذا الشح، وكل خسر لكم في هذا الربح، ورب خيبة جاءت من رجاء النجح، ولا يصلح السوء سوى الصلح، ورب مدلج أضله ظلام الليل قبل إسفار الصبح. فعقد السلطان محضرا للمشورة، واحضر كبراء عساكره المنصورة. وشاورهم في الأمر، وحاورهم في السر والجهر، واستطلع خبايا ضمائرهم واستكشف خفايا

سرائرهم. واستورى زندهم، واستعلم ما عندهم. وراوضهم على المصلحة المترجحة، وفاوضهم في المصالحة المربحة. وقال إن الفرصة قد أمكنت فتحرص في انتهازها. وأن الحصة قد حصلت ونستخير الله في إحرازها. وإن فأنت لا تستدرك، وإن أفلتت لا تملك. فقالوا قد خصك الله بالسعادة، وأخلصك لهذه العبادة. ورأيك راشد، وعزمك لضالة النصر ناشد، وأمرك لأشتات المنائح وأسباب المناجح حاشد، وكلنا لك في اغتنام فتح هذا الموضع الشريف مناشد. واستقر بعد مراودات ومعاودات؛ ومفاوضات وتفويضات؛ وضراعات من القوم وشفاعات؛ على قطيعة تكمل بها الغبطة، وتحصل منها الحوطة. واشتروا بها منا أنفسهم وأموالهم، وخلصوا بها رجالهم ونساءهم وأطفالهم. على أنه من عجز بعد أربعين يوما عما لزمه؛ أو امتنع منه وما سلمه؛ ضرب عليه الرق، وثبت في تملكه لنا الحق. وهو عن كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة، وكل صغير أو صغيرة ديناران. ودخل ابن بارزان والبطرك ومقدما الداوية والاسبتار في الضمان. وبذل ابن بارزان ثلاثين ألف دينار عن الفقراء، وقام بالأداء ولم ينكل عن الوفاء فمن سلم خرج من بيته آمنا. ولم يعد إليه ساكنا. وسلموا البلد يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب على هذه القطيعة، وردوه بالرغم رد الغضب لا الوديعة. وكان فيه أكثر من مائة ألف إنسان، من رجال ونساء وصبيان. فأغلقت دونهم الأبواب، ورتب لعرضهم واستخراج ما يلزمهم النواب، ووكل باب أمير ومقدم كبير. ويحصر الخارجين، ويحصى الوالجين. فمن استخرج منه خرج، ومن لم يقم بما عليه قعد في الحبس وعدم الفرج. ولو حفظ هذا المال حق حفظه؛ لفاز منه بيت المال بأوفر حظه. لكنما تم التفريط، وعم التخليط. فكل من رشا مشى، وتنكب الأمناء نهج الرشد بالرشا. فمنهم من أدلى من السور بالحبال، ومنهم من حمل مخفيا في الرحال. ومنهم من غيرت لبسته فخرج بزي الجند، ومنهم من وقعت فيه شفاعة مطاعة لم تقابل بالرد. وكانت في القدس ملكة رومية مترهبة. في عبادة الصليب متصلبة، وعلى مصابها به ملتهبة، وفي التمسك بملتها متصعبة متعصبة. أنفاسها متصاعدة للحزن، وعبراتها متحدرة تحدر القطرات من المزن. ولها حال ومال وأشياء وأشياع، ومتاع واتباع. فمن عليها السلطان وعلى كل من معها بالافراج، وأذن في إخراج كل مالها في الأكياس والإخراج. فراحت فرحى، وأن كانت من شجنها قرحى. وكانت زوجة الملك المأسور - ابنة الملك أماري - مقيمة في جوار القدس مع مالها من الخدم والخول والجواري. فخلصت هي بمن معها ومن تبعها. من ادعى انه ممن صحبها وشيعها. وكذلك الابرنساسة ابنة فيليب ام هنفري؛ أعفيت من الوزن، وتوفر

ذكر يوم الفتح وهو سابع عشري رجب

مالها عليها في الخزن واستطلق صاحب البيرة زهاء خمسمائة أرمني، ذكر أنهم من بلده. وإن الواصل منهم إلى القدس لأجل متعبده، وطلب مظفر الدين ابن علي كوجك) زهاء ألف أرمني ادعى أنهم من الرها، فأجراه السلطان من إطلاقهم له على ما اشتهى. وكان السلطان قد رتب عدة دواوين، في كل ديوان منها عدة من النواب من المصريين ومنهم من الشاميين، فمن أخذ من أحد الدواوين خطا بالأداء انطلق مع الطلقاء، بعد عرض خطه على من بالباب من الأمناء والوكلاء. فذكر لي من لا أشك في مقاله؛ أنه كان يحضر في الديوان ويطلع على حاله، فربما كتبوا خطا لمن نقده في كيسهم، ويلبس أمر تلبيسهم. فكانوا شركاء بيت المال لا أمناه. وخانوه على ما حصل لكل من الغنى والنفع وما أضر غناه، ومع ذلك حصل لبيت المال ما يقارب مائة ألف دينار، وبقي من بقي تحت رق وأسار، ينتظر به انقضاء المدة المضروبة، والعجز عن الوفاء بالقطيعة المطلوبة. ذكر يوم الفتح وهو سابع عشري رجب واتفق فتح البيت المقدس في يوم كان في مثل ليلته منه المعراج، وتم بما وضح من منهاج النصر الابتهاج، وزاد من الألسنة بالدعاء والابتهال الالتهاج. وجلس السلطان للهناء، للقاء الأكابر والأمراء، والمتصوفة والعلماء. وهو جالس على هيئة التواضع وهيبة الوقار، بين الفقهاء وأهل العلم جلسائه الأبرار. ووجهه بنور البشر سافر، وأمله بعز النجح وافر ظافر وبابه مفتوح، ورفده ممنوح. وحجابه مرفوع، وخطابه مسموع ونشاطه مقبل، وبساطه مقبل. ومحياه يلوح، ورياه يفوح. ومحبته تروق ومهابته تروع، وآفاته تضيء وأخلاقه تضوع. ويده لفيض امواه السخاء، وفض أفواه العطاء؛ ظاهرها قبلة القبل، وباطنها كعبة الأمل. قد حلت له حالة الظفر، وكأن دسته به هالة القمر. والقراء جلوس يقرأون ويرشدون، والشعراء وقوف ينشدون وينشدون. والأعلام تبرز لتنشر، والأقلام تزبر لتبشر. والعيون من فرط المسرة تدمع، والقلوب للفرح بالنصرة تخشع، والألسنة بالابتهال إلى الله تضرع، والكاتب ينشى ويوشى ويوشع، والبليغ يسهب ويوجز ويضيق ويوسع. فما شبهت قلمي إلا بشائر أرى البشائر، ولا وجهت كلمى إلا لطائف وحي اللطائف. وما أرسلت يراعى ألا ليرعى الرسائل، ويوشع الفضائل، ويشيع الفواضل. ويشبع القول، ويسبغ الطول. ويطول بالحجة وإن كان في طوله قصر، ويصول باللهجة وأن كان في حجمه حصر. ويسمن الملك به وهو نحيف، ويثقل الجيش به وهو خفيف. وبدى بياض الغرة من سواد الدهمة، ويجلو بهجة الضياء من محجة الظلمة. ويجرى بالآجال والأرزاق، والمنع والإطلاق، والخلف

ذكر حالي في العود إلى الخدمة

والوفاق، والإرفاق والإعتاق. والعدة والإنجاز، والجدة والاعواز. والفتق والرتق، والرقع والخرق. وهو الذي يجمع الجيوش، ويرفع العروش. ويوحش المستأنس، ويونس المستوحش. وبه بنعش العاثر، ويعثر المنتعش ويجرى بالأعداء على الأعداء، وبالإيلاء للأولياء. فبشرت بأقلامي أقاليم البشر، وعبرت بأعاجيبي عن عجائب العبر، وملأت البروج بالدراري والدروج بالدرر. ورويت تلك البشرى حتى اطابت ريا (الري) وسمر (سمرقند)، وأطربت وحلت حتى (فاقت القنديد والقند). وعلقت بفتح القدس بلاد الإسلام وزينت، وشرحت فضيلتها وبينت، وأديت فريضة زيارتها وتعينت. ذكر حالي في العود إلى الخدمة وكنت قد انقطعت من الصحبة؛ لما عرض لي في المرض من النوبة. فأقمت بدمشق أداوي مزتجي؛ وأداري منهاجي؛ وأعالج تدبيري وأدبر علاجي؛ إلى أن وصل الخبر بأن السلطان نزل على القدس، فوجدت خفة في النفس، وأنست بابلالي بعض الأنس، وأمنت لوثوقي بالصحة والاستقامة من النكس. فأوجهت إلى تلك الجهة، وسرت بطاعة النفس المتنزهة، وعصيان الطبيعة المتكرهة. واخترت تعب السفر على راحة الإقامة، ورأيت في ركوب طريق العطب وجه السلامة. ووصلت بكرة السبت ثاني يوم الفتح بالسعد واليمن والنجح. فوصلني السلطان عند وصولي بأجبى بشاشة، وأحلى هشاشة. وسرى عنه وسر، وأبر وبر. وقال أين كنت ولما أبطأت، وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت. وقد كنا في انتظارك، والسؤال عن أخبارك. وهذا أوان إحسانك، فأين إحسان أوانك، فأجر بنانك بجرأة بيانك، وأجر في ميدانك. وما للبشائرإلا واصفها، وللفرائد إلا راصفها. وللفصاحة إلا قسها، وللحصافة إلا قيسها. وكان قد جمع أمس كتاب دواوينه على إنشاء كتب ما ارتضاها. واقتضاب معان ما اقتضاها. وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال لهذا من هو أقوم به، وعساني، فلما رآني ناداني واستدناني، فصرفت إلى امتثال أمره عناني. وسلم إلى الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتبوها. وقال غيرها ولا تسيرها وغرضه أني أعدل معوجها، وأبدل مثبجها وافترع المعنى البكر للفتح البكر، وأوشح ذكر آياته بآيات الذكر. فاستجديتها فما استجدتها، واستلمحتها فما استملحتها. وشممتها وبها سهك، وكشفتها وسترها هتك، وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك. فتسرعت في افتضاض الأبكار، واقتضاء الأبكار، واقتضاء الأفكار. واقتراح القريحة، واقتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة.

ذكر ما جرت عليه حال الفرنج في خروجهم من القدس

وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز، وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز. ووشحت ووشعت، وشعبت وأشبعت. وأطلت وأطبت، وصبت وأصبت، وأعجزت وأعجبت، وأطريت وأطربت. وأبعدت وأبدعت، ورصعت وصرعت. وطابقت وجانست، ووافقت وأنست. وبينت فضل عصر الإمام على الاعصار السابقة، بالأبصار الصادقة. وأن هذا الفتح ادخره الله لزمانه، ومكن منه لمكانه، وسلط عليه بسلطانه، وحسنه لنا بإحسانه. وقد عبرت القرون الماضية على حسرته، وظفر هو وأشياعه بمسرته. وما حصل لنا إلا ببركة أيامه، وحركة اعتزامه. وذكرت من هذا كل ما راق وشاق، ونور الآفاق. وأن هذه الفتوح تفوح بأرج نشره، وتحيا بحيا بره. فما أيمن أيامنا بأيامه، وما أسعد آمالنا بإنعامه. وكتبت إلى كل ذي طرف بمعنى طريف، ولفظ فثيح حصيف وسهرت تلك الليالي حتى نظمت اللآلى، وحليت المعالي، وقرحت المعادي وفرحت الموالي. وسارت شواردي إلى المشرق والمغرب، معربة عن هذا الفتح المعرب عن النصر المذهب. وبشرت المسجد الحرام بخلاص المسجد الأقصى. وتلوت (شرع لكم من الدين ما وصى). وهنأت الحجر الأسود بالصخرة البيضاء، ومنزل الوحي بمحل الإسراء، ومقر سيد المرسلين وخاتم النبيين بمقر الرسل والأنبياء. ومقام إبراهيم بموضع قدم محمد المصطفى صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وأدام أهل الإسلام بشرف بيتيه مستمتعين. وتسامع الناس بهذا النصر الكريم، والفتح العظيم، فوفدوا للزيارة من كل فج عميق، وسلكوا إليه في كل طريق، واحرموا من البيت المقدس إلى البيت العتيق، وتنزهوا من أزهار كراماته في الروض الأنيق. ذكر ما جرت عليه حال الفرنج في خروجهم من القدس وشرع الإفرنج في بيع الامتعة، واستخراج ذخائرهم المودعة. وباعوها بالمجان في سوق الهوان، وتقاعد الناس بهم فابتاعوها بأرخص الأثمان. وباعوا بأقل من دينار كل ما يساوي أكثر من عشرة، وجدوا في ضم ما وجدوا من أمور لهم منتشرة. وكنسوا كنائسهم، وأخذوا منها نفائسهم. ونقلوا منها الذهبيات والفضيات من الأواني والقناديل، والحريريات والمذهبات من الستور والمناديل. ونقضوا من الكنائس الكنائن، واستخرجوا من الخزائن الدفائن. وجمع البطرك الكبير كل ما كان على القبر من صفائح التبر ومصوغات العسجد ومصنوعات اللجين، وجمع ما كان في قمامة من الجنسين والنسجين. فقلت للسلطان هذه أموال وافرة، وأحوال ظارة، تبلغ مائتي ألف دينار، والأمان على أموالهم لا أموال الكنائس والاديار. فلا تتركها في أيدي هؤلاء الفجار، فقال إذا

ذكر ما أظهره السلطان في القدس من الحسنات ومحاه من السيئات

تأولنا عليهم نسبونا إلى الغدر، وهم جاهلون بسر هذا الأمر. ونحن نجريهم على ظاهر الأمان، ولا نتركهم يرمون أهل الإيمان بنكث الإيمان، بل يتحدثون بما أفضناه من الإحسان. فتركوا ما ثقل وحملوا ما عز وخف، ونفضوا من تراب تراثهم وقمامة قمامتهم الكف. وانتقل معظمهم إلى صور. وكتفوا بالديجور، وبقي منهم زهاء خمسة عشر ألفا امتنعوا من مشروع الحق، فاختصوا بمشروط الرق. فأما الرجال وكانوا في تقدير سبعة آلاف فإنهم ألفوا ذلا لم يكونوا له بألاف. فاقتسمتهم أيدي السبي أيدي سبا، وتفرق الغانمون بجمعهم في الوهاد والربا. وأحصيت النساء والصبيان ثمانية آلاف نسمة، عادت بيننا مقتسمة، وأصبحت ببكائها وجوه الدولة مبتسمة. فكم محجوبة هتكت، ومالكة ملكت، وعزباء نكحت، وعزيزة منحت، وبخيلة تسمحت، وحيية توقحت، ومجدة مزحت، ومصونة ابتذلت، وفارغة شغلت، وعقيلة امتهنت، وجميلة امتحنت، وعذراء افترعت، وشماء قرعت، ولمياء رشفت، وظمياء فرشت، وريضة أصبحت ورضية اصخبت. فكم تسرى منهن سرى، وتجرأ عليهن جرى. وقضى وطره عزب، ونفى نهمه سغب، وفثأ سورته شغب. وكم غانية استخلصت، وغالية استرخصت. ووالية اعتزلت، وعالية استنزلت. ووحشية صيدت، وعرشية قيدت. ولما تقدس القدس من رجس الفرنج أهل الرجز؛ وخلع لباس الذل ولبس خلع العز؛ أبي النصارى بعد أداء القطيعة أن يخرجوا، وتضرعوا في أن يسكنوا ولا يزعجوا. وبذلوا خدما وخدموا ببذول، وقابلوا كل ما ألزموا به بالتزام وقبول. وأعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وشحت أفواههم بما شجاهم فزاد شجاهم وهم فارغون. ودخلوا في الذمة، وخرجوا إلى العصمة، وشغلوا بالخدمة، واستعملوا في المهنة، وعدوا المجنة في تلك المحنة. ذكر ما أظهره السلطان في القدس من الحسنات ومحاه من السيئات ولما تسلم السلطان القدس أمر بإظهار المحراب. وحتم به أمر الإيجاب. وكان الداوية قد بنوا في وجهه جدارا وتركوه للغلة هريا، وقيل كانوا اتخذوه مستراحا عدوانا وبغيا. وكانوا قد بنوا من غربي القبلة دارا وسيعة، وكنيسة رفيعة. فأوعز برفع ذلك الحجاب، وكشف النقاب، عن عروس المحراب. وهدم ما قدامه من الابنية، وتنظيف ما حوله من الأفنية. بحيث يجتمع الناس في الجمعة في العرصة المتسعة.

ونصب المنبر واظهر المحراب المطهر. ونقض ما أحدثوه بين السواري، وفرشوا تلك البسيطة بالبسط الرفيعة عوض الحصر والبواري. وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وحق الحق وبطلت الأباطيل، وتولى الفرقان وعزل الإنجيل. وصفت السجادات، وصفت العبادات، وأقيمت الصلوات، وأديمت الدعوات، وتجلت البركات، وانجلت الكربات، وانجابت الغيايات، وانتابت الهدايات، وتليت الآيات، وأعليت الرايات. ونطق الأذان وخرس الناقوس، وحضر المؤذنون وغاب القسوس، وزال العبوس والبوس، وطابت الأنفاس والنفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس. وعاد الإيمان الغريب منه إلى موطنه، وطلب الفضل من معدنه. وورد القراء وقرئ الاوراد، واجتمع الزهاد والعباد، والابدال والأوتاد. وعبد الواحد ووحد العابد، وتوافد الراكع والساجد، والخاشع والواجد، والزاهي والزاهد، والحاكم والشاهد، والجاهد والمجاهد، والقائم والقاعد، والمتهجد الساهد، والزائر والوافد. وصدح المنبر وصدع المذكر، وانبعث المعشر وذكر البعث والمحشر. وأملى الحفاظ، وأسلى الوعاظ. وتذاكر العلماء، وتناظر الفقهاء، وتحدث الرواة وروى المحدثون، وتحنف الهداة وهدى المتحنفون. واخلص الداعون ودعا المخلصون، وأخذ بالعزيمة المترخصون، ولخص المفسرون وفسر الملخصون. وانتدى الفضلاء، وانتدب الخطباء. وكثر المترشحون للخطابة، المتوشحون بالإصابة، المعروفون بالفصاحة، الموصوفون بالحصافة. فما فيهم إلا من خطب الرتبة، ورتب الخطبة، وأنشأ معنى شائقا، ووشى لفظا رائقا، وسوى كلاما بالموضع لائقا، وروى مبتكرا من البلاغة فائقا. ومفيهم من عرض على خطبته، وطلب منى نصبته. وتمنى أن ترجح فضيلته، وتنجح وسيلته، وتسبق منيته فيها أمنيته. وكلهم طال إلى الالتهاء بها عنقه، وسال من الالتهاب عليها عرقه. وما منهم إلا من يتأهب ويترقب، ويتوسل ويتقرب. وفيهم من يتعرض ويتضرع، ويتشوف ويتشفع. وكل قد لبس وقاره ووقر لباسه، وضرب في أخماسه أسداسه، ورفع لهذه الرياسة رأسه. والسلطان لا يعين ولا يبين، ولا يخص ولا ينص. ومنهم من يقول ليتني خطبت في الجمعة الأولى، وفزت باليد الطولى. وإذا ظفرت بطالع سعدى؛ فما أبالي بمن يخطب بعدي. فلما دخل يوم الجمعة رابه شعبان؛ أصبح الناس يسألون في تعيين الخطيب السلطان. وامتلأ الجامع، واحتفلت المجامع، وتوجست الأبصار والمسامع، وفاضت لرقة القلوب المدامع، وراعت لحلية تلك الحالة وبهاء تلك البهجة الروائع، وشاعت من سر السرور بلبس حبر الحبور الشوائع، وغصت بالسابقين اليها المواضع. وتوسمت العيون، وتقسمت الظنون. وقال الناس هذا يوم كريم، وفضل عميم، وموسم عظيم.

هذا يوم تجاب فيه الدعوات، وتصب البركات، وتسال العبرات، وتقال العثرات. ويتيقظ الغافلون، ويتعظ العاملون. وطوبى لمن عاش، حتى حضر هذا اليوم الذي فيه انتعش الإسلام وارتاش. وما أفضل هذه الطائفة الحاضرة، والعصبة الطاهرة، والأمة الظاهرة. وما أكرم هذه النصرة الناصرية، والأسرة الامامية، والدعوة العباسية، والمملكة الايوبية، والدولة الصلاحية. وهل في بلاد الإسلام أشرف من هذه الجماعة، التي شرفها الله بالتوفيق لهذه الطاعة. وتكلموا فيمن يخطب، ولمن يكون المنصب. وتفاوضوا في التفويض، وتحدثوا بالتصريح والاعريض. والأعلام تعلى، والمنبر يكسى ويجلى. والأصوات ترتفع، والجماعات تجتمع. والأفواج تزدحم، والأمواج تلتطم. وللعارفين من الضجيج، ما في عرفات للحجيج. حتى حان الزوال، وزوال الاعتدال. وخيعل الداعي، وأعجل الساعي. فنصب السلطان الخطيب بنصه، وأبان عن اختياره بعد فحصه، وأوعز إلى القاضي (محي الدين أبي المعالي بن زكي الدين علي القرشي) بأن يرقى ذلك المرقى، وترك جباه الباقين بتقديمه عرقي، فأعرته من عندي أهبة سوداء من تشريف الخلافة، حتى تكمل له شرف الإفاضة والإضافة. فرقى العود، ولقي السعود. واهتزت أعطاف المنبر، واعتزت أطراف المعشر. وخطب وأنصتوا، ونطق وسكتوا. وأفصح وأعرب، وأبدع وأغرب، وأعجز وأعجب، وأوجز وأسهب. ووعظ في خطبتيه، وخطب بموعظتيه. وأبان عن فضل البيت المقدس وتقديسه، والمسجد الأقصى من أول تأسيسه، وتطهيره بعد تنجيسه، وإخراس ناقوسه وإخراج قسيسه. ودعا للخليفة والسلطان وختم بقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) ونزل وصلى في المحراب، وافتتح بسم الله من أم الكتاب. فائتم بتلك الأمة، وتم نزول الرحمة، وكمل وصول النعمة. ولما قضيت الصلاة انتشر الناس، واشتهر الإيناس، وانعقد الإجماع واطرد القياس. وكان قد نصب للوعظ القبلة سرير، ليفرعه كبير. فجلس عليه (زين الدين أبو الحسن علي بن نجا)، فذكر من خاف ومن رجا، ومن سعد ومن شقي ومن هلك ومن نجا، وخوف بالحجة ذوي الحجا وجلا بنور وجلا عظاته من ظلمات الشبهات ما دجا. وأتى بكل عظة، للراقدين موقظة، وللظالمين محفظة، ولأولياء الله مرققة ولأعداء الله مغلظة. وضج المتباركون، وعج المتشاكون. ورقت القلوب، وخفت الكروب وتصاعدت النعرات، وتحدرت العبرات. وتاب المذنبون، وأناب المتحوبون، وصاح التوابون، وناح الاوابون. وجرت حالات جلت، وجلوات حلت، ودعوات علت،

وصف الصخرة المعظمة عمرها الله

وضراعات قبلت، وفرض من الولاية الإلهية انتهزت وحصص من العناية الريانية أحرزت. وصلى السلطان في قبة الصخرة، والصفوف على سعة الصحن بها متصلة، والأمة إلى الله بدوام نصره مبتهلة، والوجوه الموجهة إلى القبلة علية مقبلة. والأيدي إلى الله مرفوعة، والدعوات له مسموعة. ثم رتب في المسجد الأقصى خطيبا استمرت خطبته، واستقرت نصبته. وصف الصخرة المعظمة عمرها الله وأما الصخرة فقد كان الفرنج قد بنوا عليها كنيسة ومذبحا، ولم يتركوا فيها للأيدي المتبركة ولا للعيون المدركة ملمسا ولا مطمحا. وقد زينوها بالصور والتماثيل، وعينوا بها مواضع الرهبان ومحط الإنجيل، وكملوا بها أسباب التعظيم والتبجيل. وأفردوا فيها لموضع القدم قبة صغيرة مذهبة، بأعمدة الرخام منصبة. وقالوا محل قدم المسيح، وهو مقدم التقديس والتسبيح وكانت فيها صور الأنعام مثبتة في الرخام. ورأيت في تلك التصاوير أشباه الخنازير. والصخرة المقصودة المزورة، بما عليها من الأبنية مستورة، وبتلك الكنيسة المعمورة مغمورة. فأمر السلطان بكشف نقابها، ورفع حجابها، وحسر لثامها، وقشر رخامها، وكسر رجامها، ونقض بنائها، وفض غطائها. وإبرازها للزائرين، وإظهارها للناظرين. ونزع لبوسها، وزفاف عروسها. وإخراج درها من الصدف، واطلاع بدرها من السدف. وهدم سجنها، وفك رهنها، وإراءة حسنها، وإضاءة يمنها. وإبداء وجهها الصبيح، وجلاء شرفها الصريح. وردها إلى الحالة الحالية، والقيمة الغالية، والرتبة العالية. وهي التي حليها عطل، وعطلها حلى، وعريها كسوة وكسوتها عرى. فعادت كما كانت في الزمن القديم، وشهدت حين شوهدت بحسبها الكريم، وسيم بهاء حسنها الوسيم. وما كان يظهر منها قبل الفتح إلا قطعة من نحتها، قد أساء أهل الكفر من تحتها. وظهرت الآن أحسن ظهور، وسفرت أيمن سفور، وأشرقت القناديل من فوقها نورا على نور. وعملت عليها حظيرة من شبابيك حديد، والاعتناء بها إلى الآن كل يوم في مزيد. ورتب السلطان في قبة الصخرة إماما من أحسن القراء تلاوة، وأزينهم طلاوة. وأنداهم صوتا، وأسماهم في الديانة صيتا. واعرفهم بالقراءات السبع بل العشر، وأطيبهم في العرف والنشر. وأغناه وأقناه، وأولاه لما ولاه. ووقف عليه دارا وأرضا وبستانا، وأسدى إليه معروفا دارا وإحسانا. وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات؛ وربعات معظمات؛ لا تزال بين أيدي الزائرين على كراسيها مرفوعة، وعلى أسرتها موضوعة. ورتب لهذه القبة خاصة؛ وللبيت المقدس

عامة؛ قومة لشمل مصالحها ضامة. فما ترتب إلا العارفون العاكفون، والقائمون بالعبادة الواقفون. فما أبهج ليلها وقد حضرت الجموع! وزهرت الشموع! وبان الخشوع! ودان الخضوع! ودرت من المتقين الدموع! واستعرت من العارفين الضلوع! فهناك كل ولي يعبد ربه ويأمل بره، وكل (أشعث أغبر لا يوبه له لو أقسم على الله لأبره) وهناك كل من يحيي الليل ويقومه، ويسمو بالحق ويسومه. وهناك كل من يختم القرآن ويرتله، ويطرد الشيطان ويبطله. ومن عرفته بمعرفته الأسحار، ومن الفته لتهجده الأوراد والأذكار. وما أسعد نهارها حين تستقبل الملائكة زوارها، وتلحف الشمس أنوارها، وتحمل القلوب إليها أسراها، وتضع الجناة عندها أوزارها، وتستهدي صبيحة كل يوم منها أسفارها، وما أظهر من تولى اطهارها! وأطهر من باشر إظهارها! وكان الفرنج قد قطعوا من الصخرة قطعا وحملوا منها إلى قسطنطينية، ونقلوا منها إلى صقلية. وقيل باعوها بوزنها ذهبا، واتخذوا ذلك مكسبا. ولما ظهرت؛ ظهرت مواضعها؛ وقطعت القلوب لما بانت مقاطعها؛ فهي الآن مبرزة للعيون بحزها، باقية على الأيام بعزها، ومصونة للإسلام في خدرها وحرزها. وهذا كله تم بعد انفصال السلطان والشروع في العمران. وأمر بترخيم محراب الأقصى، وأن يبالغ فيه ويستقصى. وتنافس ملوك بني أيوب فيما يؤثر بها الآثار الحسنة، وفيما يجمع لهم ود القلوب وشكر الألسنة. فما منهم إلا من أجمل وأحسن، وفعل ما أمكن، وجلا وبين. وحلا وزين. وأشفق وأنفق، وأغنى وأقنى، واعتنى وابتنى. ووفى وأوفى، وأصفى وأضفى. وأتى (الملك العادل سيف الدين أبو بكر) بكل صنع بكر، موجب لكل شكر. وكل فعل جميل، ورفد جزيل، ومن جلى ومنح جليل. ومكرمة حميدة، ومحمدة كريمة. وفضيلة بها تلاجح، وووسيلة بها (تنجح). وأتى (الملك المظفر تقي الدين عمر) بكل ما عم به العرف وغمر، ونهى وأمر، وبنى وعمر. ومن جمله أفعاله المشكورة، ومكرماته المشهورة؛ أنه حضر يوما في قبة الصخرة، مع جماعة من السراة والأسرة ومعه من ماء الورد أحمال، ولأجل الصدقة والرفد مال. فانتهز فرصة هذه الفضيلة التي ابتكرها بالافتراض، وتولى بيده كنس تلك الساحات والعراص. ثم غسلها بالماء مرارا حتى تطهرت، ثم اتبع الماء بماء الورد صبا حتى تعطرت. وكذلك طهر حيطانها، وغسل جدرانها. ثم أتى بمجامر الطيب فتبخرت، وتضوعت وتعرفت. وفغمت مناشق أهل الهدى، وأرغمت آناف العدا. وما زال مع قومه؛ في تطهير البقعة المباركة طول يومه؛ حتى تيقنت طهارتها؛ وبينت عمارتها،

ذكر محراب داود عليه السلام وغيره من المشاهد الكرام وتبطيل الكنائس وإنشاء المدارس

وراقت نضارتها، ووقفت عليها الاستحسان نظارتها. ثم فرق ذلك المال فيها على ذوي الاستحقاق، وافتخر بأن فاق الكرام بالإنفاق. وجاء (الملك الأفضل نور الدين علي)؛ بكل نور جلى، وكرم ملي، وإحسان سني، وأنعام هني، وعرف زكي، وعرف ذكي. وعطاء مبتدع، وسخاء مخترع. وجود مبتكر، ورفد معتبر. واتى بكل ما خلد الأثر الحسن، وانطق بحمده الألسن. وبسط بها الصنيعة، وفرش فيها البسط الرفيعة. وهدى وأهدى، وأعاد بعد ما أبدى، وأنار وأسدى. وأفاض الندى، وفض الجدا. ونفض الأكياس، حتى خلنا به الانفاض والإفلاس. وسيأتي ذكر ما اعتمده من بناء أسوار القدس وحفر خنادقه، وأعجز بما اعجب من سوابق معروفة ولواحقه؛ ما لم يشق أحد فيه غباره، ولا ملك سابق في مضماره. وأما (الملك العزيز عثمان)؛ فإنه أتى بالإحسان الذي استظهر به الإيمان. وذلك؛ أنه لما عاد إلى مصر وقد شاهد الفتح والنصر؛ ترك خزانة سلاحه بالقدس كلها، ولم ير بعد حصولها به نقلها. وكانت أحمالا بأموال، وأثقالا كجبال. وذخائر وافية، وعددا واقية. ودروعا سوابغ، ونصولا دوامغ. وخوذا وترائك، ورماحات ونيازك. وقنا وقنابل، وصواقل وذوابل. وجروخا وقسيا، ويمانيا وهنديا ويزنيا، وردينيا ومشرفيا. وجفاتي وجنويات، وطوارق وقنطاريات. ورانات حديد وزانات. وآلات وزيارات وزراقات، ونفاظات وقطاعات. وعدد النقوب، وجمع أدوات الحروب. فاستظهرت بها المدينة، وتوثقت بها عراها المتينة. وكان من جملة ما شرط على الفرنج أن يتركوا لنا خيلهم وعدتهم، ويخرجوا قبل أن يستوفي الباقون في أداء القطيعة مدتهم. فتوفرت بذلك عدد البلد، واستغنى بذلك عما يصل من المدد. ذكر محراب داود عليه السلام وغيره من المشاهد الكرام وتبطيل الكنائس وإنشاء المدارس وأما محراب داود عليه السلام خارج المسجد الأقصى؛ فإنه في حصن عند باب المدينة منيع، وموضع عال رفيع. وهو الحصن الذي يقيم به الوالي، فاعتنى السلطان بأحواله الحوالي. ورتب له إماما، ومؤذنين وقواما. وهو مثابة الصالحين. ومزار الغادين والرائحين. فأحياه وجدده، ونهج لقاصديه جدده. وأمر بعمارة جميع المساجد، وصون المشاهد، وإنجاح المقاصد؛ وإصفاء الموارد، للقاصد والوارد. وكان. موضع هذه القلعة دار داود وسليمان عليهما السلام، وكان ينتابهما فيها الأنام. وكان الملك العادل نازلا في كنيسة صهيون، وأجناده على بابها مخيمون.

ومما كتبته إلى الديوان العزيز مجده الله للبشرى بفتح القدس مع الرسول ضياء الدين الشهرزوري من رسالة

وفاوض السلطان جلساؤه من العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار؛ في مدرسة للفقهاء الشافعية، ورباط للصلحاء الصوفية. فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصند حنة - عند باب أسباط. وعين دار البطرك وهي بقرب كنيسة قمامة - للرباط. ووقف عليهما وقوفا، وأسدى بذلك إلى الطائفتين معروفا. وارتاد أيضا مدارس للطوائف، ليضيفها إلى ما أولاه من العوارف. وأمر بإغلاق أبواب كنيسة قمامة، وحرم على النصارى زيارتها ولا الإلمامة. وتفاوض الناس عنده فيها، فمنهم من أشار بهدم مبانيها. وتعفية آثارها، وتعمية نهج مزارها. وإزالة تماثيلها، وإزاحة أباطيلها، وإطفاء قناديلها، وإعفاء أناجيلها، وإذهاب تساويلها، وإكذاب أقاويلها. وقالوا إذا هدمت مبانيها؛ وألحقت بأسفلها أعاليها؛ ونبشت المقبرة وعفيت؛ واخمدت نيرانها وأطفيت؛ ومحيت رسومها ونفيت؛ وحرثت ارضها؛ ودمر طولها وعرضها؛ انقطعت عنها إمداد الزوار، وانحسمت عن قصدها مواد أطماع أهل النار. ومهما استمرت العمارة؛ استمرت الزيارة. وقال أكثر الناس لا فائدة في هدمها ولا هدها، ولا يؤذن بصد أبواب الزيارة عن الكفرة وسدها. فإن متعبدهم موضع الصليب والقبر لا ما يشاهد من البناء، ولا ينقطع عنها قصد أجناس النصرانية ولو نسفت أرضها في السماء؛ ولما فتح أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - القدس في صدر الإسلام أقرهم على هذا المكان، ولم يأمرهم بهدم البنيان. ومما كتبته إلى الديوان العزيز مجده الله للبشرى بفتح القدس مع الرسول ضياء الدين الشهرزوري من رسالة: وقد سبقت البشائر بما من الله به من الفتح العظيم، والنصر العميم، والعهرف الجسيم، والفضل الوسيم، واليوم الأغر الأعز الكريم. والشرف الذي ذخره الله لهذا العصر ليفضله على الاعصار، وأراد تأخير فخاره إلى هذه الأيام ليكون بها تاريخ الفخار. فقد أعجز الملوك عن اقتضاء نصرته، وافتضاض عذرته، وخص من أجراه على يده بسمو قدره ونمو قدرته. وأعاد به القدس إلى قدسه، وأظهره وطهره من رجز الكفر ورجسه. وقد رجع الإسلام الغريب منه إلى داره، وخرج قمر الهدى به من سراره، وذهبت ظلم الضلالة بأنواره. وعادت الأرض المقدسة إلى ما كانت موصوفة به من التقديس، وأمنت المخلوف فيها وبها فصارت صباح السرى ومناخ التعريس. وقد أقصى عن المسجد الأقصى الأقصون من الله الابعدون، وتوافد إليه المصطفون الاقربون، والملائكة المقربون. وخرس الناقوس بزجل المسبحين، وخرج المفسدون بدخول المصلحين. وقال المحراب لأهله مرحبا وأهلا،

وشمل جماعة المسلمين من إقامة الجمعة والجماعة ما جمع للإسلام فيه شكلا. ورفعت الأعلام العباسية على منبره فأخذت من بره أوفى نصيب، وتلت بألسنة عذبها (نصر من الله وفتح قريب). وغسلت الصخرة المباركة بدموع المتقين من دنس المشركين. وبعد أهل الأحد من قربها بقرب الموحدين. فذكر بها ما كاد ينسى من عهد المعراج النبوي، وقامت بدلالتها براهين الأعجاز المحمدي. وصافحت الأيدي منها موضع القدم، وتحدد لها من البهجة والرسالة ما كان لها في القدم. فهو ثاني المسجدين، بل ثالث الحرمين. فليهن البيت الحرام خلاص أخيه البيت المقدس من الأسر، وإسفار صبح الإسلام بعد طول اعتكار ليل الكفر. وتطهير مواقف الأنبياء صلوات الله عليهم من ادناس الأرجاس، وتضوع ارج الرجاء في أرجائه بعد اليأس. فالحمد لله الذي أبدل الايحاش بالايناس، ونزع عنه بإفاضة خلع الرحمة عليه لباس البأس. وجعل عصر مولانا أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - على الاعصر مفضلا، وكمل بهذا الفتح الشريف شرف زمانه، فأصبح فخر الدين والدنيا به مكملا. ويسر ببركات أيامه فتح البلاد الساحلية بأسرها، وعجل هلاك هذه الطائفة الطاغية من الفرنج بقتلها وأسرها. ولقد حل الكفر عروة عروة، وهد ذروة ذروة. وعادت حباله رثاثا، وعقوده انكاثا، ومساكنه أجداثا، وصار حديثا بعد أن شوهد أهل الذمة أحداثا. فالرتاج مستفتح، والرجاء مستنجح. والبلاد مستخلصة، والقيم الغوالي منها بسوم العوالي مسترخصة. والعقائل مقتضة، والمعاقل منفضة، ومناهل المنى بمياه النجاح مرفضة، ونجوم الرجوم على شياطين الكفر بسيوف أهل الإيمان منقضة. والثغور مبتسمة، والأمور منتظمة، والحصون متسلمة، وارض الكفر ينقصها الإسلام كل يوم من أطرافها، بل يستولي على أوساطها وأكنافها، ويعيد إلى الطاعة كرها مذهب خلافها. ولقد أينع زلاعها وثمرها من رؤوس المشركين، وهذا أوان حصادها وقطافها. والنعمة بحمد الله عظيمة، والموهبة وإن خصت هذا الإقليم فهي في جميع أقاليم المسلمين عميمة. ولو شرح ما لهذا الفتح من جلالة العظمة؛ ودلالة المكرمة؛ لكبا قلم البليغ في مضمار البيان ولم يبلغ مدى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا)، والقاضي ضياء الدين القاسم الشهروزوري، قد توجه لهذه النعمة واصفا، وعند ما يؤمر به من إنهاء البشرى بها واقفا، وأولى من وصف العرف من كان بأوصاه عارفا. وأحق من شرح الحق والحقيقة من تفي بشرح الصدور مصادر شرحه، وبفتح على الإسلام أبواب الهناء بإنهاء ما تسنى من فتحه. ويحدث وهو الضياء بإسفار صبحه.

عاد الحديث إلى ما جرى بعد فتح القدس

عاد الحديث إلى ما جرى بعد فتح القدس وأقام السلطان على القدس حتى تسلم ما بقربها من حصون، واستباح كل ما للكفر بها من مصون. ورحل ولده الملك الأفضل قبله إلى عكاء عائدا، وعن حوزتها ببأسه وجوده ذائدا. ثم تبعه الملك المظفر فرحل، وسار إلى عكاء وبها نزل. ثم عمد السلطان إلى ما جمعه ففرقه، وأخرجه في ذوي الاستحقاق وأنفقه. وفرضه بعوارفه، وفضه في مصارفه. فسد خلة المعيل، وأسهم منه ابن السبيل. وحمل به عن الغارم. وأحيا به سنن المكارم ووضعه في أهله، وأحله في محله. وصرفه في حله. وقدم التوسعة على ذوي الإضافة، والإنفاق من أهل الفاقة. وأجنى الأجناد منه مقاطف، وجعل للمجاهدين منه وظائف. وأبقاه بأفنانه ذخرا للآخرة، وكسبا للمحامد الفاخرة. فأكثروا عذله على بذله، واستكثروا ما فضه بفضله. فقال كيف امنع الحق مستحقيه، وهذا الذي أنفقه هو الذي أبقيه، وإذا قبله مني المستحق فالمنة له على فيه. فإنه يخلصني من الأمانة ويطلقني من وثاقها، فإن الذي في يدي وديعة احفظها لذوي استحقاقها. فما عاد الوفد إلا بوفر ودثر، والإفاضة في نظم من حمده ونثر. وحاز كل ذي فضيلة منه فضلا، وتفيأ كل فئة من فيئة ظلا. وكثر السائلون بالفضائل، والقائلون بالوسائل. والقاصدون بالقصائد، والوافدون بالفوائد، والواردون بالفوارد. والسابقون بالشوافع، والشافعون بالسوابق. والسالكون للطرائق، والمالكون للحقائق. فما ترى إلا فارئا باللسان الفصيح، وراويا للكتاب الصحيح. ومتكلما في مسألة، ومتفحصا عن مشكلة. وموردا لحديث نبوي، وذاكرا لحكم مذهبي، سائلا عن لفظ لغوي. ومعنى نحوي. أو مقرضا بقريض، أو معرضا بتصريح أو مصرخا بتعريض. أو جالبا لمدحه، أو طالبا لمنحة. أو مستضعفا بفاقة، أو مستسعفا بإفاقة. أو ناشدا بنشيد، أو مسمعا بتغريب وتغريد. وما فيهم إلا من أحظى بسهم، أو أرضى بقسم. وأصيب بنصيب وأجيب، وأجيز بتقرير وتقريب. فقيل له لو ذخرت هذا المال للمال لشفيت به ما يقع من الاعتلال. وكفيت بالحقيقة ما يسنح من الاختلال، فقال أملي قوي من الله الكافل بنجح الآمال وجمع الإسراء المطلقين، وكانوا ألوفا من المسلمين. فكساهم وأساهم، ووواساهم وأذهب أساهم. فانطلق كل منهم إلى وطنه ووطره، ناجيا من ضرره ووضره. ومكث السلطان عليه مقيما، للنظر في مصالحة مستديما. فقيل ما قعودك عن صور؟ فانهض إليها عسكرك المنصور. وأنت تدخلها يوم وصولك، وتحظى منها بمرادك وسولك.

ذكر رحيل السلطان عن القدس على قصد حصار صور

فانو السير واحو الخير. وأحصر الخير، واحظر التأخير. وفي تعجيل النهضة تحصيلها في القبضة، وفي بدار الإلمام بدارها بشرى أهله الفتوح المقمرة بابدارها. فأسر بالعسكر وأسرع، وأقطع عن الكفر تلك الأعمال وأقطع؛ واكثر من كان يستحثه؛ وعلى النهوض يبعثه؛ الأمير (علي بن أحمد المعروف بالمشطوب). وكان من أكابر الأمراء الكافين للخطوب، الكافين في الحروب. وكانت معه صيداء وبيروت وهما بقرب صور وقد أشفق أن فتحها يفوت. فرأى الحظ في الحض، وحرض على الفرض، ولم يفكر في قوتها بانتقال رجال الساحل اليها، وأنه يشق في هذا الوقت التزول عليها. وكان المركيس عند اشتغالها بالقدس بإحكام صور مشتغلا، وعلى الاستهتار بتحصينها مشتعلا. وقد استجد قدامها من البحر إلى البحر خندقا، وجعل الطريق إليها مضيقا. وأحكم أسباب الأحكام، وأخذ بالحزم في الاهتمام. ذكر رحيل السلطان عن القدس على قصد حصار صور ورحل السلطان عن القدس يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان، وقد عنا لأمره كل قاص ودان. وودعه ولده عزيز مصر في أول منزلة، وسايره لكراهية فراقه مقدار مرحلة. ثم وصاه وشيعه، واستصحب أخاه الملك العادل معه. مستظهرا بإخائه، مستبشرا بآلائه، مستبصرا بآرائه، مستنصرا بمضائه، مستغنيا بغنائه، موفيا بوفائه. وهو بعقده يعقد وبحله يحل، وبشده يشد وبحلوله يحل. والعساكر بالفضاء فائضة، وللخطوب الربضة رائضة، وإلى استنهاض النضر لأنصارها ناهضة، ومن هواها أنها في دأماء الدماء من أهل الكفر خائضة. فوصل إلى عكاء في أول شهر رمضان فخيم بظاهرها ظاهرا بخيمه. باهرا بتأخيره وتقديمه. قاهرا بشباه المبير، زاهرا بسناه المنير. جاهزا بسره، ظاهرا في بحره. وأقام أياما يتفكر ويتدبر. ويستشير ويستخبر. والمشطوب يستعجله ولا يمهله. ويحرص بالعبث، ويحذر من المكث، ويقول الفرصة تدرك بالحث، وتفوت باللبث. . فسار لندائه ملبيا، ولجيش النصر معبيا ولرأيه مقلدا، وبالله - عز وجل - متأيدا. فوصل إلى صور تاسع شهر رمضان يوم الجمعة بالجحافل المحتفلة، والجموع المجتمعة. فنزل بعيدا من سورها، سعيدا في ترتيب أمورها. مضرولة قبابه، مجنوبة عرابه. نحجوبة بالبنود والجنود أرضه وسماؤه، منشورة غاياته. منصورة آراؤه. خافقة على الأعداء عذبات عذابه، دافقة في ثرى النجح في الأنحاء ثرات صوب صوابه. قد كست خيامه عرى العراء، وفضت أشعة بيضه وسمره الفضة بالفضاء، واحتوت مضاربه

المضيئة بآلائه وآرائه على مضارب المضاء، وباحت استباحة حمى المشركين للموحدين بسر السراء. فمكث أياما حتى تواصل المدد، وتكامل العدد. واستحضر آلات الحصار، واستكثر من المجانيق الصغار والكبار. ثم تقدم إليها وخيم عليها الثاني والعشرين من الشهر يوم الخميس، (وفي خميس يسير في الوشيج كالأسد في الخيس). ونزلت النوازل المركسة من نزوله ونزاله بالمركيس، فوقع في الدردبيس، والعذاب البئيس. فكأنما نفخ في صور (صور). فحشر أهل جهنم وملئوا السور. واتصلت زيارة الزيارات للجروح بالجروح وتوافت مناجاة المجانيق بالخدوش والشدوخ، وأرسلت الحجارات حاجرة حاجزة، وألسنة أهل الرجس والرجز بالفحشاء راجزة. وكانت صور على السوء مستوية، وعلى كل من خرج من القدس وبلاد الساحل محتوية. فضجوا وارتجوا، وعاجوا وعجوا، ولجئوا ولجوا. ونصبوا على كل نيق منجنيقا، وشدوا من كل جانب ركنا وثيقا. وشدوا في الجبال ومدوا في الحبال. ورموا من الشرافات بالشرور والآفات، وسلب الحجار حجاها وأمت الأمة وجاءها وجاها. فكم من رؤوس أطارت! ونفوس ابارت! وبرخسفت، وبدركسفت، وبحر نزفت، وطود نسفت. فحول السلطان إلى قربها له خيمة صغيرة، وأنهض بنات الحنايا بالمنايا عليها مغيرة. وصف الجفاتي، فصدف أتيها الآتي. وعارض بحرها بعرض بحره، ورد كيد الكفر من المنجنيق بما نصبه من المنجنيق في نحره. فأحبط أعمالهم بأعماله، وأهبط رجالهم برجاله. وقابل الأبراج بالأبراج، وحاول بالردى علاج الاعلاج. ووالاها حجارات وصخورا، حتى جعلت سور صور سورا. وجد في أمرها، وأجاد في حصرها. ووصل إليه في تلك الأيام من قوى به ظهر الإسلام؛ ولده (الملك الظاهر غياث الدين غازي)، وهو الذي جل في سماحته وحماسته عن الموازن والموازي. فقدم مبارك القدم، متدارك النعم، عالي الهمم، غالي القيم. ومعه عسكر مجر لحب، جلبه من حلب، قد استصحب البيض والسمر والبيض واليلب. فظهر من الملك الظاهر ما ملك به قبول القلوب، وأغرى سيفه بسفك دم الكفر المطلول المطلوب. ورأى نصب خيمته وراء خيمة أبيه المنصوبة، وجد في استرجاع مدينة الإسلام المغضوبة. وقدم بين يديه كل حجار راجح، وكل نقاب ناجح، لصم الصفاح مصافح. وكل جاندار جان در الردى للكفار، وكل زراق رزق الجسارة على أهل النار بالنار. وكل من جنانه تقتبس ذباله البسالة، وكل جرخى رخى البال بالهدى إصماء أهل الضلالة. وكل رام رام النجم في الأفق فراماه، وكل همام هم بالخطب النازل فتحاماه. وكل مقدام قرنه دام، وكل ضرغام صريعه في غرام. وكل قمقام ضارب بصمصام، وكل حام شارب بكأس حمام. وكل ذمر مشيح، لذمار الكفر

مبيح، ولروح الجد مريح، ولذماء المزاج مزيج. وكل فاتك لحبل الوريد باتك، ولستر الحياة هاتك، ولعدم العداة سافك. وكل شجاع إلى الموت داع، وإلى المجد ساع، وللإسلام راع، وللإشراك ناع. وكل فارس للفوارس فارس، وللذوابل في النحور غارس، وفي اليوم العابس غير عابس. وكل راجل لقهر العدو راج، وبسر البأس مناج، ومن شر الناس بشجاعته ناخ، وبباغت المنون لمن يلاقيه شاج. وكل عتال عات، ونجار ونشار ونحات، وحداد وقين، وكل زائر للعدا بحين. فاجتمعوا وزحفوا، وجفوا على القوم ورجفوا. وأصموا وصمموا، وأوقدوا نارا وأضرموا. وأطاروا من أعشاش الأقواس إلى أوكار الأحداق افراخا، واستصرخوا الأقدار لأقدارهم فحبتهم حين أحبتهم إصراخا. وغلظوا على الرقاب الغلاظ بالرقاق، وأولوا الشقاء لأولى الشقاق. وتساعدوا وتناصروا، وتطاولوا وما تقاصروا. وما فيهم إلا من أبان عن جد، وأبان بحد. وألان الشديد، وأعان السديد، وأفلح ففلح الحديد بالحديد، وجد الجديد، ومد المديد. وصور مرتجة أبوابها، مرتجة أربابها، مغتصة جوانبها، مرتصة عصائبها، مشحونة أبراجها، مسجونة أعلاجها، محصورة كلابها، محسورة ذئابها، محشورة ثعالبها، محشودة كتائبها. والمركيس بها متجهم، وإبليس عليه متحكم. وقد سقط في يده، وسخط لبلده، وارتبط بجلده، واختلط بكمده. وغلت مراجل غلوائه، وعدت غوائل عدوائه. وطاش وجاش، واوخش الأوباش والاوخاش. وتوشح بالشر وتوحش، وترشح للردى وتحرش. واشتعل بجمره، وبعل بأمره، وضرى بضره، وجال بوجله في مكر مكره، وكر في وكره. وعشا عشه، وغشى غشه. وثبت على لجاجه، ونبت في إجابه. وتسعر وتعسر، وتربص وتصبر. والسلطان مصيب حكمه، صائب سهمه، ماض عزمه، قاض حزمه، بار حده، جار جده، وار زنده، سار وفده. باتك غربه، فاتك ضربه. قاطع شبا باسه، ساطع سني إيناسه. قد اتسقت أسبابه، واتسعت رحابه، واجتمع أصحابه. فازدحم على بابه، وحول قبابه؛ كل مبارز بار، وكل ضارب ضار، وكل حجار جار. وكل رامح ورام، وكل حامل سلاح وحام. وكل سائف حائف، وكل عاصف قاصف. وكل آكل للحرب شارب، وكل طالع بالضرب غارب. وكل هاجم هائج، وكل راجم رائج. وكل معتقل متقلد، وكل مجرب مجرد. وكل ذكر مذكور، وكل غضنفر مشكور. وكل ليث ملاث وكل غيث غياث، وكل سفاك لدم الكفر سفاح، وكل جراد لسيف الفتك جراح. وكل مكتتم في درعه، مكتمن في نقعه. ملثم بزغفه، مثلم بحرفه. مقنع بلأمه، ملفع بقتامه. سابح في بحر الموت بسابحه، سامع في الصباح صوت صائحه. فجمع إليه امراءه، واستحضر عظماء ملكه وخبراءه.

وقالوا هذا بلد حصين، ومكانه من الأرض مكين. في البحر ثلاثة أرباعه، وفي السماء ارتفاع يفاعه. وطريقه الذي يسلك من البر إليه، قد أحاط به البحر من جانبيه. وقد قطعوه بخندق في عرضه، وعمقوه ونزلوا في أرضه. وكان من إحكام الحزم؛ وإتمام العزم؛ تكميل الآلات وتتميمها، وتحصيل المنجنيقات وتقديمها. وتركيب الأبراج والدبابات وتأليفها، وتقريب الجفاتي والجنويات وتصفيفها، وتسوية مناصب المجانيق وتسقيفها، وتنجية أثقال العسكر وتخفيفها، وتنخية نخب الرجال وتصريفها. وتسنية الاسباب، وتهيئة الأخشاب. واستحضار كل ما يراد للحصار. واستنفار كل ما يرام من الأنصار. فإذا حضرت هذه الأشياء والأشياع، وتيسرت وتوفرت الأصول والاتباع، رحب الذرع في الحصر والمضايقة وطال الباع، وإذا حالت الأحوال وضاعت الأوضاع؛ اختل واعتل النزال والنزاع. وأمر السلطان بإزاحة العلل، وإزالة الخلل، وشغل الصناع بالعمل، ونقل الأمل إلى طريق الذل. وتقدم بقطع أشجار الغياض، وحمل ما بتلك النواحي من الأنقاض. فاجتمع هناك كل ألة، وذباب وذبالة، وقضيب ومقبض، ومجرب ومحرب. وسهم وشهم، وشهب ودهم. وأحمال وأثقال. ونظمت الستائر من القضيب، وصفت من سور صور بالمكان القريب. وكمت من ورائها الكماة، واستترت بالجفاتي قدامها الرماة. واشتغل كل صانع بصنعه، وكل جامع بجمعه، وكل دافع مانع بمنعه ودفعه. فمن جان بمنجنيق، ودان إلى نيق. وداب بدبابة، وذاب بذبابة. ونازع في حنيه، وناز بمنية. وقاذف بشرارة، وحاذف بحجارة، وهاتك من ستارة، وفاتك بجسارة. وجاذب في حبال، وجالب لوبال. ومرو في قلع ومسو لمقلاع، ومدبر بايجاف ومدمر بايجاع. ولم تزل المنجنيقات ترمى، والحجارات تدمر وتدمى، والدبابات تطير من أوكارها عقبان الجروخ، وأطباق البروج تبنى وتغطى بالسلوخ حتى امتد الزمان، واشتد الحران. وضاق الحصر، وأعتاق النصر. وكان العسكر قد ألف تيسر الفتح، وتسرع النجح. فصعب عليه حين صعب، وتبع هواه لما تعب. ولم يألف الناس إلا إرواء ظمائهم بنهلة، والحصول على إكساب سهلة، وفتح ما يقصدونه من البلاد بغير مهلة. فلما توقف هذا الفتح توقفوا، وملوا وضجروا وتأفقوا. والسلطان مع ذلك يزداد في حده حدة، وفي شده شدة، وفي جده جدة، يثبتهم بحثه ويحثهم على الثبات، ويقويهم بجوده ويوجدهم القوات، ويقول إن الله أمر بالمصابرة، ولا مصابرة الا بالمثابرة. فاصبروا تفلحوا، وصابروا تفتحوا.

ذكر ما تم على الأسطول

ذكر ما تم على الأسطول وكان السلطان قد نفذ من صور، وأحضر إليها من عكاء ما كان بها من مراكب الأسطول المنصور. فوصلت منها عشر شوان، على العدا جوان، وللردى لهم جوان. فعمرها بالرجال، وجهزها للقتال. واتصلت بها مراكب لنا من بيروت وجبيل، فاستشعر المركيس وأشياعه منها الويل. وعمروا لهم مراكب، ورفعوا بها مناكب. وسفننا بالساحل عندنا مربوطة، وبحفظنا مضبوطة محوطة. ودامت تدب عقاربها، وتذب سواريها، وتجري سواربها، وتسري جواريها، وتطير للقنص بزاتها، وتغير للفرس غزاتها. وتكسر بكواسرها وتدور بدوائرها. وتلاطم الأمواج بأمواجها، وتزاحم الاثباج بأثباجها. وترفع شرع الهداة بشراعها، وتقلع عرش الغواة بأقلاعها. وتنقض على شياطين الكفر شهبها، وترفض بشآبيب الذعر سحبها. فكأنها الاساود السود، ركبتها الأسود. من كل افعوان يحمله أفعوان، وشجاع امتطته شجعان، وغراب بشتات العدا ناعق، وسحاب بوميض الهدى بارق. فيا لها من اغربة دارت بعقبان، وادنحة طارت بظلمان. ورواس سوار، وغواز بغوار. وقد ملئت برماه الحدق، وحماة الحلق. وزراقي النار، وطراقي الثار. والخاطفين بالخطاطيف، القاذفين بالمقاذيف. والكالمين بالكلاليب، والسالبين بالاساليب، والحاربين بالمحاريب. والراجمين بالرجام، والمعلمين على الأعلام. فانشقت مرائر الفرنج، وأزاحت سفنها عن النهج. وقرنصت بزاة البيزانية، وتقلصت جناة الجنوية. وكرثت أدواء الداوية، وكثرت اسواء الاسبتارية، وزادت آلام الألمانية، وعادت أسقام الافرنسيسية. وصارت مراكبهم في المينا لا تبين، وشدتهم بشد شوانينا تكاد تلين. وقد ربطوا عندهم السفن، فلو خرجت كانت جبالا نسفن. وأنس أصحابنا بعلو الأمر، وخلو البحر. وأمنوا من الخوف، وأدمنوا على الطوف. ودام تطوافهم، واستقام ايجافهم. واغتروا بالسلامة، وسروا بالاستقامة. وباتت لنا شوان خمس، لها بزوال الوحشة أنس. وربطت بقرب ميناء صور راصدة، ولأخذ ما يخرج من شوانيها قاصدة. والدياجي مدلهمة، والدواهي ملتمة. وعيون الزهر راقدة، وعيون الكفر ساهدة. وللمكايد مصايب، وللعوادي عوائد، وللغوائل طوائل، وللمسائل دلائل وللمقادير مقاد، ولأولئك المراد مراد. فحفظ أصحابنا إلى السحر الحرس، وسهروا إلى أن شارفوا الغلس، وكل منهم لما استأنس نعس، وغاص في النوم وما تنفس. فما انتهبوا إلا وسفن الفرنج بهم محدقة، ونيرانهم محرقة. فولجوا في البحر والتجوا، وتطافروا إلى الماء لينجوا. وعدت العداة، وأخذت تلك الشواني الشناة. واسروا منها عدة، ولقي الباقون شدة. فاغتم السلطان

بسبب هذه النكبة، وفرح الكفار بتلك الضربة. وكانت تلك أولى حادثه كرثت وكارثة حدثت. ونائبة رابت، ورائبة نابت. فضاقت القلوب، وضاقت الكروب. وحصلت تجربة الغارين، واتصلت حركة الفارين. واستيقظ الناعس، واستوحش الآنس. وهب الراقد، ودب الراكد. وذاب الجامد، وشب الخامد. وهاج الزائر، وماج الزاخر. وتحرك الساكن، وتورك الراكن. وعقل من غفل، وذهن من ذهل. وتيقظ من غفا، وتحفظ من هفا. وتقبض من انبسط، وتقيد من نشط، ووهم من عف، وألم من كف. ورجفت الآفاق بالمرجفين، وطالت ألسنة المعنفين. فمنهم من يؤنب ويذنب، ومنهم من يقول ويطنب، والعاقل يتجنب، ويقيم العذر لمن يذنب ويقول هذه من الله موعظة، وآية لنا موقظة. وأشار الناس بإنفاذ الشواني البواقي، وقطعوا بأن هذه القطع لا تكفى لملاقاة من يلاقى. فجهزوها نهارا، وصيروا سرها جهارا. وأمروا بتسييرها إلى بيروت، ورجوا أن تسبق وتفوت. وركب العسكر في الساحل يباريها، وهي بالقرب تجارية في البحر وهو في البر يجاريها. فأبصر ملاحوها شواني الفرنج لمبارزتها مبرزة، وللإجهاز وراءها مجهزة. وكانوا رجالا من بحرية مصر مجمعة، وأصبحت قلوبهم بما جرى على أنظارهم مروعة. فتواقعوا إلى الماء. وخافوا على دمائهم في الدأماء. وخرجوا إلى البر على وجوههم، وخافوا مكرهم في مكروههم. وفروا وفاروا، وطاروا وثاروا. ولم يلفت أحد منهم ليتا ولم يزدهم دعاؤهم إلى التجمع إلا تشتيتا. فظهر بهذه النوبة الواقعة، والنبوة الرائعة، أن نواب مصر لم يجر منهم بالأسطول احتفال، ولم يرتب فيه على ما يراد رجال. وإنما حشدوا إليها مجمعة مجهولة غير عارفة ولا معروفة، ومستضعفة غير آلفة ولا مألوفة. فلا حرم لما شاهدوا الروع ارتاعوا، ولما أنزموا بالطاعة ما استطاعوا. وكان في حملة شوانينا قطعة يتولاها رئيس (جبيل) كأنها جبيل، وفيها بحرية من ذوي التجربة والتجري والتجربة ما لها جبل ولا ميل. فطال بأسلحة الدفاع، وطار بأجنحة الشراع. وفاز بالسبق وفات، وهيهات أن يدرك هيهات. فنجا النجباء، وآب بهم الآباء. فبقيت المراكب الباقية وقد أخلاها حماتها الواقية. فرفعناها إلى البر، ورأينا الصحة منها في الكسر. وفرغنا من شغل المراكب في البحر. هذا والمنجنيقات ترميهم، والمفوقات الموفقات تعميهم وتصميهم. والقتال قائم، والنزال دائم. والصخور تفلق، والصدور تقلق. والأحجار تقلقل، والأسوار تحلحل. والأطواد تضعضع، والأبراج القيام تسجد وتركع. والأصلاد تقدح، والاجلاد تقرح. والألواح تصدع، والأرواح تودع. والخدود لشفاه الشفار ملثومة، والحدود بضراب الاضراب

ذكر خروج الفرنج للقتال

مثلومة. والجروح بين أكفاء الكفاح مقسومة، والقروح بها قوارح القوارع موسومة. والحنايا واترة موترة، والمنايا مأثورة مؤثرة. وظعائن الضغائن تحدى بصليل البواتر، وصهيل الضوامر. وحقوق الحقود تقتضي بألسنة الأسنة وعنت الأعنة من الغريم الكافر. والأوداج شاخبة كالعيون البواكي، والابشار دامية من الزنبوركات والناوكات النواكي. وهناك العقل معزول بالتهور، والرأي مشغول عن التدبر. والعلم والحلم خالطهما الجهل والسفاه، والجرخى يبتدئ ببسم الله، والمنجنيقي يختم بلا اله إله الله. والزراق بالنار يطيب القارورة، ويحرق الساتورة، والسابق إلى المضمار يساور السور ويباشر الباشورة. ذكر خروج الفرنج للقتال ولما عثر الفرنج على تلك العثرة؛ وظنوا فينا الفتور لأجل تلك الفترة؛ وقالوا مراكبهم أنحل تركيبها، وكتائبهم أختل ترتيبها، وستجرى بها عنا الندامة التي يحدثنا تجريبها. وهم الآن على صوت لهم مخيف، وفوت بهم مطيف. فلا معنى لتقاعدنا عنهم، ولا وجه لتباعدنا منهم. فلو خرجنا صدمناهم، وأقدمنا عليهم وهزمناهم. وخرجوا يوما قبل العصر، في عدة كالليل خارجة عن الحصر. قد التأموا واستلأموا، وانضموا وانتظموا وتقدموا، واقدموا للطوارق حاملين. وللجمالات مطرقين، وعلى الفرق مجتمعين وللجماعات مفرقين، وبالرهق حادين وبالجد مرهقين. وللعقود حالين، ومن الغمود سالين. وللمناصل منتضين، وللطوائل مقتضين، وللسيوف مجردين، وللسيول مجرين، وبالزغف ملتثمين، وفي الحتف مقتحمين. وبالقنطاريات طائرين، وبالزيارات زائرين. من كل مغوار وار، ومحضار ضار، وفجار جار، وجبار بار، وعدو عنود، وكند كنود. وداوي ذي دوي، وباروني غوى. ومن كل مصمم إذا وتر، مصم إذا اوتر، مصم إذا نعر، مصر إذا ذعر، هائج إذا استعر، مائج إذا ذخر، متنمر إذا زأر، متذمر إذا زحر. فتناوبوا وتواثبوا، وتجاواوا وتجاوبوا. ودنوا من متارس المنجنيقات، وجنوا من مغارس الجنويات. وبنوا أمرهم على أن الناس ناسون غارون، وأن أهل البأس في خيمهم هاجمون قارون. فتلقاهم منا كل ضارب للهام، ضار بالحمام، جار إلى الأقدام. ملب للصوت، محب للموت. مشتهر بالغناء، مشته للقاء، مستهتر بالبلاء. ماض بالمواضي، منقاض بالقواضب القواضي. وكل أبيض بالبيض ضراب وللبيض رضاض، وأغلب للمغلب قضقاض، والى الحرب نهاض. وكل

معتقل رماحه، معتقد مراحه. مهتز لطرب الشهادة، معتز بأرب السعادة. متمن للمنون، متجن على الجنون. مضرم نار الحديد في ماء الوريد، مغرم في تفريق العدا بجمع العديد. مفرغ ماء الظبا على نار النجيع، مبلغ تلبية إلى الصريخ السريع. قد تلثم باللام، وتلفع باللثام. تقنع بالزرد، وتدرع بالجلد. وتجوشن بالصبر، وتخشن بالزبر وصال بالقضب، وجال بالهضب. وطال بالهندي على الفرنجي، وخاض من دم الشرك في البحر اللجي. فلم يسمع إلا أنين الحنية، لحنين المنية، ورنين الاوتار، من كنين الأوتار. وهفيف السهام لذفيف اللهام. وصليل بنات الغمود، من غليل أبناء الحقود. وهمهمة الابطال، وغمغمة الاقتال. وزثير الضرغام، وزفير الضرام. وقرع الظبا بالظبا، ووقع الشبا على الشبا. وضجة الحديد من الحديد، وعجة الشديد من الشديد. وجعجعة رحى الحرب، وقعقعة أداة الطعن والضرب. وجرجرة الفحول، وزمجرة الذحول: وهديل حمام الحمام، وهدير قروم الأقدام. ووعوعة ذئاب الوغى ومعمعة التهاب اللظى. ودعدعة صاع المصاع، وجلجلة سباع القراع. وصلصلة الزبر، وولولة الزمر. وحيعلة دعاة النصر، وهيضلة رعاة الكفر. ورفرفة المريشات الراشقة. وهسهسة الطعنات الفاهقة. وهزهزة أعطاف المران، وزهزهة أصوات الشجعان. ونعير الغالبين، وصخب السالبين، ولجب الجالبين، وزجير الطالبين. ونهيت الأسود، وقصيف الرعود. وهدة الاركان، ودهدهة الرعان، وقهقهة الأقران. وقرقرة الكماة، وصرصرة بزاة الغزاة. وكشيش صلال الضلال، ونشيش مراجل الرجال. وهزيز ريح الباس، وهزيم رعد المراس. وإرنان المعاجس، وارزان القناعس. وهيعة الصارخ، وصيحة النافخ. وزعقة المستفرع، ونعقة المستنزع. وشعشعة الخرصان، وزهزمة النيران. وهينمة الأجل، وجمجمة الزجل. وتكبير المؤمنين، وتهليل المؤمنين. وصرير أبواب الجنان للشهداء، وصريف أنياب الجنان للأعداء، والدعاء إلى اللقاء، والنداء إلى الأرداء. وارتفعت الاصوات، واشتبهت الأحياء والأموات. ووقع أصحابها فيهم وقوع النار في الحطب، واروهم في مرايا البيض وجوه العطب، وولوا مدبرين، بعد ما تولوا مدبرين. وجنودنا تشلهم، وحدودنا تفلهم. ولتوتنا ترضهم، ونيوثنا تفضهم. وعادوا إلى البلد، عادمي الجلد. وفيهم ندوب وعليهم نوادب، وأيدي الردى بهم لواعب ومنهم لواغب. ودخل الليل، وعمهم الويل. وأسرنا منهم مقدمين، ثبتوا على الموت مقدمين. وممن أسر فخسر قومص عظيم، بل شيطان رجيم. فترك في قيد الاسار، ليكشف عن حاله بالنهار، وكان (الملك الظاهر غازي) لم يحضر فيما تقدم من المغازي. فرأى أن يحقق

ذكر ما دبروه من الرأي ورأوه من التدبير

اسمه بقتله، فضرب عنقه بحد نصله. وكان للمركيس شبيها، وفي الفرنج وجيها. فظنوا أنه هو للشبه، وبات أهل الكفر بالعمى والعمة. ثم عرف أن المركيس في نفسه لم ينكأ ولم ينكب، ولما عطب أشياعه لم يعطب، وندم على ما قدم، ومن تقدم على غرة تندم. ذكر ما دبروه من الرأي ورأوه من التدبير ولما امتنع البلد؛ وارتدع الجلد؛ وارتتج العدو ولج؛ ضجر العسكر وضج. واجتمع أمراء يحبون الإفلات، ولا يكرهون الفوات. وقالوا مطاولة ما نقصر عنه تتعب، ومزاولة ما لا يزول تصعب. ومحاولة الممتنع محال، ومطال غريم هذا الفتح مطال، وما يتسع لنا في هذه الحلبة الضيقة مجال. وهذا السلطان جلد على المصابرة، مجد في المكابرة لا يكترث بالكارث، ولا يدخل سمعه حديث الحادث. ولا يبالي بمن بلى، ولا يفكر فيمن ولى أو ولى. ولا راحة له إلا في التعب، ولا يعلم له نصيب سلامة إلا من النصب. وكل كا جرى إلى اليوم منا ومن القوم لم يرعه ولم يردعه، وقد قيل: إذا لم تستطع شيئا فدعه. فكيف السبيل إلى استعطافه؟، وما التدبير في استسعافه؟. وبم نتوسل ونتوصل؟ وإذا عرفناه أن الداء يعضل، والخطب يشكل، لعله يجتوي الإقامة ويرحل. فاطلع على ما أسروه، ومر به ما أمروه. وأهمه ما به هموا، وآلمه ما به ألموا. فراسلهم بالهبات، ووواصلهم بالصلات. ورغبهم فيما عند الله من الزلفى، ووعدهم بكل ما على أملهم أوفى. وقال لهم: كيف نخلي هذا المكان، وما استفرغنا في شغله الإمكان. وما استنفدنا في مضايقته الوسع، ولا أحسنا بعد في محاضرته الصنع، ولا زحف إليه الجمع، ولا حفز منه المنع. ولا أصابنا من مكر أهله مكروه ولا ورد الصبر منه بشفاه شفاهه مشفوه. وكيف تجري بنا الخيل عنه قبل التجريب، وهذا الأرب ما يخطر بخاطر الأريب. وما عذرنا إلى الله والى المسلمين إذا تركناه، وكيف نقول فاتنا هذا القنص وما أدركناه. (والفرصة إذا فاتت لا تدرك، والبغية إذا واتت فحقها تملك). ونواظر الناس إلى ما سيكون منا في صور صور، وهذه الظلمة المدلهمة لا يجلوها إلا نور (ومن لا يتعب لا يستريح، ومن لا يحترق من الوجد لا يقترح). وأن تجدوا تجدوا، وإن تردوا على المنهل العدى تردوا. وأن تصبروا تصيبوا، فارجعوا إلى الله وأنيبوا. وهذا الرجل متواصل، والغرض به حاصل. ونحن نقسمه على المجانيق ونوبها، ونلزم كلا منهم ملازمة البقعة التي هو بها، وهذا البرج قد ارتفع، والوسع قد اتسع. وقد امتلأت بالرجال طبقاته، وتوالت منها في الكفر رشقاته، والنصر قد آن أن تطيب نشقاته، والمركيس أبعده الله قد قرب أن تخونه ثقاته. ورأينا طول الأرواح، لا التطاول إلى الرواح. وفي التثبت على المقام، التوثب على المرام.

ذكر فتح حصن هونين

ثم أخرج المال وصبه من أكياسه، وفرقه على ناسه، وأنفقه في أهل باسه، وواصل البذل، وهجر العذل. وملأ الأيدي بالغنى، وروج للرجاء نججح المنى. وأمر فامتثل، وقال فقبل. ونادى فسمع، وحشر فجمع. وعادت عادة الحصار، وأسعدت سعادة الأنصار. ذكر فتح حصن هونين وورد الخبر عن هونين إنها هانت، ودنا أمرها ودانت، وأن طريق فتحها بانت، وأنها عنت فإن ألطاف الله أعانت، وأنها بذلت ما صانت، ولم تبق للكفر على ما كانت، وأن شدتها لانت. وكان السلطان قد وكل بها بعض أمرائه، وأمده بمددي جنده وعطائه. فلبث إلى هذه الغاية، يصميها بسهام النكاية. حتى طلب أهلها الأمان على الوفاء بما يشترطون، ويشطون منها ولا يشتطون، فأول ما قالوا أمهلونا حتى نعلم ما يكون من صور، ونكشف هذه الأمور، فإن أخذتموها أخذتم هذه، وشفعنا أمر السلطان بنفاذه. وأن خليتموها فيا هوان هنين!. ونحن نجعل على هذا عدة من الأصحاب مرهونين. فندب السلطان (بدر الدين دلدرم الياروقي) وهو من أكابر عظمائه، وأكارم أمرائه؛ وأمره باستنزالهم واستذلالهم، والأمان لنسائم ورجالهم. فمضى ورغبهم في الأمن والسلامة، وخوفهم عقبى الحسرة والندامة. وقال لهم أنتم بين حصنين هما تبنين وبانياس، وماذا تصنعون إذا خاب رجاؤكم وبان الياس. وإذا أبيتم التسليم عدمتم سلامتكم، وأقمتم قيامتكم، واستباحكم السلطان واستباكم، وكرهكم وأباكم، وحل بالقتل حباكم، وفل شباكم. فما زال يغرب ويرهب حتى رغبوا ورهبوا، وأخذوا الأمان على أن يذهبوا. ووصل الخبر إلى السلطان وهو على محاصرة صور مقيم، ولمقاتلة أهلها مستديم، وإلى ما عند الله من نصره مستنيم. وتسلمت هنين بما فيها من عدة وذخيرة، وقوة وميرة، وآلات وأدوات كثيرة. وتسلمها (بيرم) أخو صاحب بانياس، واستشعر الفرنج منها الياس. وكانت قد بقيت من الحصون التي تعذر فتحها؛ وبرح بالقلوب برحها؛ من عمل صيداء: قلعة أبي الحسن وشقيف ارنون، ومن عمل طبرية والغور: صفد وكوكب وهما من أحكم الحصون. وقد وكل بهما أميرين، من خواصه كبيرين. وقد ضيقا على من بهما من العلوج، ومنعا من الدخول والخروج. وأقام السلطان على صور محاصرا، وللدين الحنيف ناصرا، وليد الشرك بمطاولته قاصرا. يقاتلها بكل سلاح؛ ويقابلها بكل كفاح؛ حتى كادت تستكين؛ وشدتها

تلين، وأبيتها تدين، وسريرها يبين. وكان قد دخل كانون، وظهر من سر الشتاء المكنون. وقبض البرد الأيدي عن الانبساط، وأعدم الهمم دواعي النشاط. وعادت العزائم المتوهجة تبرد، والصرائم المتأججة تخمد. والنخوات المتحركة تجمد، والحميات المتيقظة ترقد. والضرام المحتدم يخبو، والحسام المخذم ينبو. والطباع تتكره، والسباع تتأوه. ومناوبة القتال تختل، ومعاقدة النزال تنحل. فلحاهم السلطان على ما لاح، وعرفهم أن في الصبر الفلاح. وأمرهم بالمقام والاستقامة على الأمر، وأنه لا ظفر إلا مع الصبر، وأن الظلم تنجلي عند تجلي الفجر. وكان في الأمراء جماعة منتخبون منتخون، أبت أمانتهم في حمية الدين أن تخون. مقيمون على الكريهة ولا كراهة منهم للمقام، ويحبون أن تقام وظيفة الانتقام. ويؤثرون بأنفسهم في طاعة الله وموافقة السلطان، وعصيان الشيطان في مفارقة المكان. فإذا أرجف بالرحيل رجفوا، وسخفوا رأي المشير به وضعفوا. واضطربوا واضطرموا، وتذمموا وتلوموا. وقالوا كيف نترك ما حويناه، ونعوج ما سويناه، وننشر كفرا طويناه، ونهجر خيرا نويناه. ونداوي توحيدا شفيناه، ونشفي إشراكا أدويناه. وما للراحة اليوم طالب؛ ألا وهو غدا بالتعب مطلوب. ومن أمسى وهو الآن غالب، يوشك إذا ولى أن يصبح وهو مغلوب. وهذه صورة صور قد تشوهت، وموارد قوتها شفهت، وإذا أخلينا عنها وخليناها ترفهت واستفرهت، وإذا حلمنا عنها سفهت، وهبت من غشية خشيتها وتنهبت. وتارك المصابرة مصاب، والآخذ بالمثابرة مثاب. فمنهم الأمير طمان بن غازي ما اطمأن يوما في الغزو ولا سكن. وعز الدين جرديك النوري كم جرد على أعناق المشركين سيفه الذي به تمكن، وهما همامان مقدمان مقدامان، من عادتهما الوثبات على ثبات العداة يرومان الثبات ولا يريمان. وجماعة أخر بهما يتشبهون، وبالكريهة لا يتكرهون. وأما الباقون فأنهم أحبوا البقاء، وأبغضوا اللقاء، واتقوا الاتقاء، وأبوا ألا الإباء. وقالوا قد لغبنا وما بلغنا، وجرحنا وما رجحنا، فلو رحنا استرحنا، ثم عجنا ورجعنا. وما نحن بأول واضع للاصر، راجع عن الحصر. معتف للعقل، مستعف من الثقل. عامل بمحض الحزم، عالم بوقت العزم. هذا وقد علم ما عرا من ضروب الكروب، وتلثم ما برى من غروب الحروب. وبقدر ما هدم من مباني البلد، هدم أكثر منه من مباني الجلد. فقال السلطان بل نجد في القتال اياما، ونقدم بأسا وإقداما. ونزحف بجميع رجالنا، ونصدقهم في نزالنا. ونقاتلهم من جميع النواحي، فإن تعذر لاح العذر للاحى. وأصبح العسكر وقد استعد، وامتد قبالة البلد من البحر إلى البحر والنصر استمد.

وركب الأمراء بأجنادهم ووقفوا، وأثمر لهم ورق الحديد الأخضر فقطفوا. وتناوبوا في الزحف، وتعاقبوا على الحتف. وكلما ترجلت طائفة قاتلت ثم رجعت، وجاءت الطائفة الأخرى فصدقت وصدعت، وقارعت وقرعت، وصارعت وصرعت. فلم ير أشد من ذلك اليوم، في وقم القوم. واجترأ أصحابنا وراض جماحهم أصحابنا. وخاضت خيلنا في البحر خلف منهزميهم، وأقدم من أحجم منا لإحجام مقدميهم. فحينئذ طارت للحين من السهام زنابيرها، وأسعرت الحرب بضرام الضراب مساعيرها. وامتلأت السعير بقتلاهم وقالت: هل من مزيد، وفتحت الجنة لمن باع نفسه بها فقالت: هل من شهيد. وانقضى ذلك اليوم وقد كلت الأسلحة، وملت الأجنحة. وانهاضت قوادم الانهاض، وانفضت الجموع من إقواء القوى والانفاض. وبات الناس على ضجر وضجاج، ولجب ولجاج. فلو عاودنا البلد بمثل ذلك اليوم أياما، لنلنا من فتحه مراما. لكنهم أصبحوا على سأم، والموا بإبداء ألم. وقالوا قلت كثرتنا، فلو أقيلت عثرتنا لانجبرت كسرتنا وفينا الجريح والطليح، وحتى متى لا نستريح! وقد توالت الأمطار فلا مطار، وعلينا هذا الحصار صار!. وكانت الجراحات كثيرة، والاحتياجات بها مثيرة. ومنع البرد من العمل، وامتنع سد الخلة وتسديد الخلل. وما زالوا يراسلون السلطان ويشيرون بالرحيل، ويقولون لا تتعب على تحصيل المستحيل ولا تذهب الأيام في إبرام السحيل. ودعنا نستجد دعة، ونسترد قوى عند لطف الله مودعة. ونشتغل بفتح الأيسر وهو أكثر، ونؤخر التشاغل بما لعله يتعسر. وكان السلطان في تلك المدة، أنفق أموالا كثيرة على تلك الآلة والعدة. وما أمكن نقلها، ولا نكن من نقلها ثقلها. ولو أبقاها لقوى بها الكفر، واشتغل بسببها الفكر. فرأى نقضها، وفك بعضها. واحرق منها ما تعذر حملها، وشتت بعد التجمع شملها. وحمل بعضها إلى صيداء، وبعضها إلى عكاء، وجرت أعاجيب ما تكاد تحكى، وسر ذلك الرحيل قوما وساء قوما فأضحك وأبكى. وتأخر السلطان وتباعد عن قرب صور إلى المنزلة الأولى، ويد أيده على جميع الأحوال طولى. فشرع العسكر في الانصراف، وتزود للانكفاء والانكفاف. وأخذ الجمع في الافتراق، وانتشر في الآفاق. وذهب من ذهب على مواعدة في المعاودة، ومسارعة في الرجوع إلى المساعدة. وودع (الملك المظفر تقي الدين) من هناك، وأوعد بوعد عوده الإشراك. وسار على طريق هونين إلى دمشق مغذا، وفارق الغزو وكان له ذلك المغزى مغذى. وسارت معه عساكر الموصل وسنجار وديار بكر، وكل طير منهم اشتاق إلى وكر. وما عرفوا أن هذه الراحة القليلة تعقبهم تعبا كثيرا، وأن هذا الهدو الذي مالوا إليه يصير لحثيث حركتهم مثيرا.

ذكر الحادثة التي تمت على محمود أخي جاولي حتى استشهد هو وأصحابه

وبقى السلطان يتلهف على ما تركه، ويتأسف على الفتح الذي ما أدركه والذين أشاروا بهذا الرأي يسهلون الصعب، ويهونون الخطب. ويقولون نمضي ونعود، وتستعدنا السعود، وتنجدنا الجنود، وتتجدد الجدود، ويورق العود، وتصدق الوعود. وإذا أبقل الربيع، اقبل الجميع. وطاب الزمان، ووفى الضمان، وأمكن الإسعاد وساعد الإمكان. وما زالوا بنا حتى رحلنا، وعلى الرأي الرائب منهم أحلنا، ولو أقمنا لنقمنا، وقمعنا العدو ووقمنا. لكن الله قدر وقدره محتوم، وسر غيبه المكتوب في اللوح المحفوظ مكتوم. وأراد ولا مرد لمراده، وقضى ولا محيد لما قضاه في عباده. أن تبقى صور في تلك الحالة للكفر وكرا، وللمكر مكرا، وللشرك شركا، ولنار جهنم دركا. وقدمنا عن صور الارتحال آخر شوال غرة كانون الثاني، وعم البرد في القاضي والدانيز وتوحمت السماء من حوامل السحائب، وتوحلت الأرض من سوائل المذانب. والنكب الرياح عواصف عواسف قواصم قواصف، والسحب الدلاح هوامل هوامر رواعد رواعف والبرد قارص قارس، والماء جامد جامس. والشتاء شتات بتات، وما مع مقامه وثباته مقام وثبات. وسرنا عباديد في لبابيد، وبين جليد وجلاميد. على الناقورة وطريقها، والأثقال قد ازدحمت في مضيقها. والأحمال تتواقع، والأجمال تتقاطع. والسبل تنسد، والسابلة ترتد. وسلكت الخيل الجبل، وقطع العسكر طريقه إلى المخيم ووصل. وتأخر الثقل إلى أن تخلص، وتقدم من سبق وتملص. ووصلنا إلى عكاء في ثلاث مراحل، وقد غطى بحر عسكرنا الساحل. وخيم السلطان على باب البلد بجانب التل، سامي المحل، نامي الفضل. دائم الفكر في تدبير الأمر، وتدمير الكفر، واثقا من الله بإنجاز عدة النصر. ذكر الحادثة التي تمت على محمود أخي جاولي حتى استشهد هو وأصحابه ويوم رحيلنا من صور نعى (محمود أخو جاولي)، وكان من جملة الأمراء أعف ولى ولي. وعاش مجاهدا زاهدا وعيشه زهيد، وقضى صابرا مصابرا وهو سعيد شهيد. وسبب ذلك، أن السلطان لعلمه بديانته وأمانته؛ وبأسه وبسالته؛ ويقظته ونهضته وحزامته؛ وكله يحصن كوكب الذي على الغور وكانت فيها جمرة الاسبتارية القريبة الجور البعيدة الغور. وقد تمنعوا بشدتهم، واشتدوا بمنعتهم. وهو حصن لا يرام، وركن لا يضام، ومعقل لا يسامى ولا يسام. وذروة لا تفرع، ومروة لا تقرع، وعقيلة لا فترع. وبكر لا تخطب، وقلعة لا تطلب. ولما ملك الساحل، وهلك الباطل، ونظمت الحصون في سلم الحصول وظفر

الإسلام بالفتح المأمون المأمول، وافتتحت طبرية وأعمالها، وتملكت أغوار تلك البلاد وجبالها، تمنعت قلعتا صفد بالداويه وكوكب بالاسبتارية وتعذر فتحها، وتعثر منحهما، ووقف أمرهما، وأعدى البلاد ضرهما، فرتب على صفد جماعة يعرفون بالناصرية، من أهل الأبية والنخوة والحمية. ومقدمهم (مسعود الصلتي) أصلتت سعادته منه سيفا إصليتا، لا يلفت عن لقاء العدو ليتا. ورتب على كوكب هذا (محمودا)، وكان بهما أمر الحفظ محمودا. وذلك بعد الكسرة، وصحة النصرة. فأحاطا بالحصنين واحتاطا، وظهرت كفاية كليهما بما تعاطى. وكان الحفظ مستمرا والاحتياط مستقرا. حتى انس محمود بضعف أهل الحصن، وظن انهم في غاية الوهن. وسكن إلى سكونهم، وأغمضت عينه لتوهم إغماض عيونهم. واسترسل فيما حزب، واستسهل ما صعب. وأخل بالحزم، وخلا من العزم. واحتقر عدوه، وحسب من العجز هدوه. وكان مقامه بحصن قريب من كوكب يقال له عفر بلا، قد أقام به جاما جامعا فيه ما أمر وحلا. وكان ذا دين متين، ومكان من النسك مكين. وهو يسهر أكثر ليله متجهدا، وقد جعل منزله مسجدا. وأصحابه من حوله، يحفظونه بقوة الله وحوله. فلما كان آخر ليلة من شوال، وهي ليلة ذات أهوال، مظلمة مدلهمة كافرة مكفهرة، ليلاء قتماء، باردة مقشعرة، أنوارها بائدة، أنواؤها جائدة، وهزيع جنحها دجوجى، وهزيم ودقها لحي، وسحبها سحم، وأقطارها دهم. وصبيرها صيب، وصنبرها مشيب، لا يفرق فيها السماء من الأرض (ظلمات بعضها فوق بعض) خرج أهل كوكب فوق السحر، ومضوا إليه وقد رقد بعد طول السهر. والناس رقود، والحراس هجود، والجنود جمود، والأنفاس خمود، والهمم رقود. والسيوف أسرار أضمرتها الغمود، والعدم قد دنا منه الوجود. فما أحس محمود المحمود، وأصحابه الهمود، إلا بالفرنج وقد سلكوا إليهم، وبركوا عليهم. فقصروا عن الامتناع، ولم يقدروا على الدفاع. فجاءتهم السعادة، وفجأتهم الشهادة. وبقى الأمير حتى استشهد محصورا، (وكان أمر الله مقدورا). ونقلوا إلى القلعة ما وجدوه من سلاح ومتاع، وخيل وكراع. فلما عرف السلطان ما أصابهم؛ أحتسب عند الله مصابهم؛ وأحمد إلى الجنة مآبهم. فندب إلى كوكب (صارم الدين قايماز النجمي) - الصارم المخدم، والحازم المقدم. والعضب البتار، والندب المغوار. والأسد الأسد. والأحمى الأحمد. في خمسمائة فارس من ذوي النجدة، والبأس والشدة. فسد الطريق بمضايقتها عنها، ومنع من الدخول إليها والخروج منها. ولم يزل عليها ولحصرها مستديما؛ إلى أن يسر الله فتحها؛ وسهل للآمال فيها نجحها. وسنذكر ذلك في موضعه، وكيف أشرق صبح النصر من مطلعه.

ذكر ما جرى بعد نزول السلطان على عطاء بعد عوده من صور

ذكر ما جرى بعد نزول السلطان على عطاء بعد عوده من صور استأذن (الملك الظاهر) والده في العود إلى حلب فإذن له وودعه؛ بعد ما أمره بكل ما يجب تقديمه من الاستعداد فامتثله واتبعه. وودع (الملك العادل) وأوجه إلى مصر، مستقبل الظفر والنصر. وأقام (الملك الأفضل) بعكاء مستقلا بالآراء، مستهلا بلألاء، مستبدا بتدبير أسباب الهدى، مستعدا لتدمير أحزاب العدا. وأقمنا بالمخيم لخدمة السلطان ملازمين، ولإقامة شرائطها مداومين. وكل يطلب إذنا في الانصراف، ويستقيم على نهج الانحراف. حتى خف من عندنا من الجند، وثقل علينا عبء البرد. وتناوحت الهوج، وتراوحت الثلوج، ورجت الدروج، ونجت النووج. وارتجز عجاج الودق، وارتجس ثجاج البرق. وجفت الحرجف، وطفح الاوطف. وتقطعت الخيام وتقلعت الاوتاد، وتجللت بأبراد الجليد من البرد الآكام والوهاد. ومال بل وقع عمود السرادق، ودام تواصل البوارح والبوارق. ودخل السلطان إلى المدينة، وسكن بها في كنف السكينة، مستقيما على المحجة المستبينة، مقيما للحجة المتينة. وشرع في إعداد العدد، واستمداد المدد. وإبرام معاقد الحل والعقد، وإحكام قواعد الدين والمجد. وإحياء سنة السماح والفضل، وإعلاء سناء الإحسان والعدل. وإفادة الكرام وإكرام الوفود، وإعادة ما بدا به من إفاضة الجود. وإجازة الراجين. وإجارة اللاجين، وإسعاف العافين، وإبعاد العادين. ودناه أهل العلم. وإغناء ذوي العدم. وإنجاح المقاصد، وإنجاز المواعد. ذكر رسل وردوا في هذا التاريخ وكانت رسل الآفاق من الروم وخراسان والعراق، عاكفين على بابه، قاطفين جنى جنابه، واقفين لرفع حجابه. مستعفين لنعمائه، مستعطفين لإبائه. متعرضين لنوابه، متضرعين في خطابه. وكلهم يهنئه بها افرده الله بفضيلته، وخصه بنجح وسيلته، وأقدره عليه وقد عجز عنه الملوك، وهداه إلى سبيله وقد تعذر بهم إليه السلوك، وهو فتح القدس الذي درج على حسرته القرون الأولى، وتقاصرت عنه أيدهم المتطاولة وتمكنت منه يده الطولى. فما منهم إلا من يعترف بيمنه ويغترف من يمه، ويقر بحكم التنزيل له وينزل على حكمه. ويخطب الصداقة ويخاطب في الصدق، ويحقق المظاهرة لإظهار الحق، ويتقرب بالوفاء والوفاق، ويتباعد عن الشقاء والشقاق. ومن جملتهم رسول صاحب الري (قتلغ ابنانج بن بهلوان)، ورسول (قزل ارسلان) المستولي على ممالك همذان وأذربيجان وأران - وهو (عز الدين الطالبي) - الطالب للعز، الراغب في

ذكر وصول أخي تاج الدين أبي بكر حامد من دار الخلافة

الفوز. فما من يوم يمضي؛ وشهر ينقضي؛ ألا ويصل منهم ؤسول، ويتصل به سول. وتنجلي غمة، وتتجلى نعمة. وتتجه بشرى وتستبشر وجوه، ويكف مكر ويكفى مكروه. ونظر في أحوال عكاء فربتها، وفي أمورها فهذبها. وفي مضارها فأذهبها، وفي منافعها فقربها. وولى (عز الدين جرديك) بها واليا، وأعاد عطلها بفضل ولده الملك الأفضل حاليا. ووقف بها وقوفا، وأجنى المستحقين منها قطوفا، وأسدى معروفا، وأعطى ألوفا، وأرغم من الأعداء أنوفا، وكانت فتوحه لهم حتوفا. ووقف نصف دار الاسبتار رباطا للمتصوفة، وللوافدين من أهل الطريقة والمعرفة، ونصفها مدرسة للمتفقهة، ولطلبة المتعففة المتنزهة. فجمع بين العلم والعمل، والنجح والأمل، وكتب الرزق لهم إلى كتاب الأجل. واتخذ لطلب مرضاة الله دار الأسقف بيمارستان المرضى وأتى بكل ما بحبه الله وبه يرضى. فلم يبق سنة إلا خلدها، ولا منة إلا قلدها. ولا أجرا إلا أجراه، ولا هدى إلا أهداه. ولا أمرا إلا امره، ولا ددرا إلا أدره. ولا فريضة إلا أداها، ولا فضيلة إلا أتاها. ولا فرصة صواب إلا انتهزها، ولا حصة ثواب إلا أحرزها. ولا رمم فواضل إلا أنشرها ونشرها، ولا أمم فضائل إلا حشدها وحشرها. وما ترك قارئا إلا قراه، ولا راويا ألا أشبعه وأرواه. ولا حافظ حديث أحفظه من الحدثان، ولا محسن صنعة إلا اصطنعه بالإحسان. ولا ناظم مدائح إلا نظم له المنائج. ولا موافيا بقريض إلا وفي قروضه، واعجز عن القيام بحمل حمده نهوضه. وتقدم إلى الوالي بالتردد في الأعمال، وتفقد الأحوال. وسد الخلة وتسديد الاختلال. وتعليل السقيم وتسقيم المعتل، وتحليل العقد وتعقيد المنحل. فاستقرت بولايته الولاية، واستمرت لرعيته الرعاية. ودرت افاويق الآفاق، ودارت أسواق الأرزاق. ذكر وصول أخي تاج الدين أبي بكر حامد من دار الخلافة للرسالة في العتب على أحداث ثقلت. وأحاديث نقلت. ووشايات أثرت وأرثت. وسعايات في السلطان عثت. في الأحوال وشعثت وذلك في شوال. ونحن على حصار صور ونزاع ونزال (ذكر السبب في ذلك) لما تم الفتح الأكبر؛ وخص وعم النجح الأظهر؛ وقطع دابر المشركين؛ وحط إقبال المسلمين أوزار أدبار الكفر بحطين؛ أمرني السلطان بإنشاء كتب البشائر إلى الآفاق، وتقديم البشرى به إلى العراق. فقلت هذا فتح كريم، ومنع الله عظيم، وملك عقيم، وسمو وسيم، فلا يجب أن يكون مبشر دار الخلافة، بما أنزل الله لنا من الرحمة

والرآفة؛ إلا من هو عندنا أجل وأجلى، وأعلم وأعلى، واجمع لفنون الفضائل، وأعرف بأداء الرسائل. فلا توجه بهذه الكرامة إلا الكريم الوجيه، ولا تنبيه لهذه المقامة إلا القويم النبيه. ولا ترفع العظيم إلا بالعظيم الرفيع، فإن الشريف ينضع شرفه بمقارنة الوضيع. فقال هذه نصرة مبتكرة بكرت، وموهبة ميسرة بدرت وندرت. فنحن نعجل بها بشيرا، ونؤخر للإجلال كما ذكرت سفيرا. وكان في الخدمة شاب بغدادي من الأجناد، قد هاجر للاسترفاد. وتوجه بعد وصوله، ونبه بعد خموله. فسأل في البشارة إلى بغداد. وزعم أنه يداوم إليها إلا غذاذ. وشفع له جماعة من الاكابر، حتى خص بأشرف البشائر. فقلت هذا لا يحصل له وقع، ولا يصل إليه نفع. والواجب أن يسير في هذا الخطير خطير، وفي هذه النصرة الكبرى كبير. فإن الرسول من يندب للتفهيم والتفخيم، ويرتب في الأمر العظيم للتعظيم. ثم سار المندوب، وشغلت عن إرسال سواه الفتوح والحروب. ولما فتح البيت المقدس أرسل ببشارنة نجاب، ونفذ بها كتاب. ووصل البشير الجندي فلم تجل به كفؤ الجلالة من الهدى الهدى. وحقروه وما وقروه، فإنه كان عندهم بعين فنظروه بتلك العين، وحبوه بما يليق به من الرقة والعين. ونقم على السلطان إرسال مثله، وأنه لم يعصب المنصب في تلك الرسالة بأهله وتسمح المندوب بكلام أخذ عليه، وبدرت منه أحاديث نسبت إليه. وقال في سكره وحالة نكره، ما يعرض عن ذكره. فخيل وموه؛ وتنكر وتكره. وظن أن لكلامه أصلا ولقطعه منا وصلا. وأنهيت إلى الغرض الأشرف مقالاته، وعلمت جهالاته. وتجنى على السلطان بإرساله، وطرق إلى هداه ما أنكروه من مقال المذكور وضلاله. ووجد الأعداء حينئذ إلى السعاية طريقا، وطلبوا لشمل استعداده بالخدمة تفريقا. واختلفوا أضاليل، ولفقوا أباطيل. وقالوا: هذا يزعم أنه يقلب الدولة، ويغلب الصولة. وأنه ينعت بالملك الناصر. نعت الإمام الناصر، ويدل بما له من القوة والعساكر. فأشفق الديوان العزيز على السلطان من هذه، وبرز الأمر المطاع بإرسال أخي وإنفاذه، وقالوا: هذا تاج الدين أخو العماد، يكفل لنا في كشف سر الأمر بالمراد. فإن أخاه هناك مطلع على الأسرار، وهو منتظم في سلك الأولياء الأبرار. وعول عليه الديوان العزيز في السفارة، ورد معه جواب البشارة. وكتبت له تذكرة بموجبات مقاصد العتب، ومكدرات موارد القرب. والمخاطبة فيها وأن كانت حسنة خشنة، والمعاتبة مع شدتها للعواطف الأمامية لينة. ونشر الأعتاب في طي العتاب، وروح الإرضاء في شخص الإغضاب. وبرد الموهبة في برد المهابة يرد ظن الخطأ إلى يقين الإصابة. وشرف من الديوان الأخ، فصار وهو يبذخ. وقد أصحب خيلا. وأسحب من التشريف والإنعام ذيلا، وألحف من نور الأهبة العباسية نهارا وليلا.

فوصل السير بالسرى، وقطع الوهاد والذرا. وجاء إلى دمشق بشارة رائقة وبشارة رائعة، وإشارة رادعة. وشعار مهيب، وشرع مصيب. وهيبة روعة امامية، وهيئة عصمة عصامية. وفرند نبوي لا ينبو، وزند ورى لا يكبو. ولسان في الصرامة جرى، وجنان بالشهامة حرى. وبلاغة بإبلاغ ما ليس بلاغ. وفئة وافية، وصيغة بصياغة كل غريبة قول ورغيبة طول كافلة كافية. وسنى نور وقار يستعير منه سنير، وثبات خلق يتخلق به ثبير. وكان قد عاد المندوب نادبا عاديا، جاحدا للنعمة شاكيا. ذاكرا أنه عدم الحفاظ، ووجد الاحفاظ. وأكثر الكلام فما حرك شمام. وقال أخو العماد قد وصل بكل عتب ممض، وخطب مقد وغضب مغض. ولفظ فظ. وحض على غير حظ. ومعه الملامات المؤلمات، والظلامات المظلمات فقلت له اسكت واصمت، وبمالك من وسم الوصم مت، ولا تدخل هذا الباب وأخرج، وليس هذا بعشك فادرج. وقلت للسلطان سمعا وطاعة لأمر الديوان، فإن إظهار سر العتب لك من غاية الإحسان. فقال نعم ما قلت، وقد طلت بإرسال أخيك وطلت، وما أسعدني إذا شرفت بالعتاب، وأسعفت بالخطاب، والمملوك ينفعه التأديب، ويزعه التهذيب. على أننا لم نأت إلا بكل ما قوى الهدى واضعف العدا، وكف الكفر وأدنى الدين، وما زلنا في طاعة أمير المؤمنين مجدين. أما فتحنا مصر وقد باضت بها دعوة الدعي وفرخت، أما استأنفنا بها تاريخ الدولة العباسية بعد أن كانت سنين بسواها أرخت. أما استخلصت اليمن وللدعي بها داع، وللهدى فيها ناع، وللضلال راع. أما أرحت من رق الشرك الساحل، أما أزحت عن حق الملك الباطل. أما فتحت البيت المقدس وألحقته بالبيت الحرام، وألحفته رداء الإكرام، وأعدت إلى الوطن منه غريب الإسلام. أما رعت الغرب بغرب عزمي، ووزعت الشرق بشرع حكمي. وما تعبدت إلا بالعبودية للدار العزيزة، وهذه الفطرة متمكنة مني في الغريزة. فأهلا وسهلا بالرسول وبالسول، وحبا ومرحبا بالإقبال والقبول. وما أتى إلا بالحبو الحبور، ولإمراء الأمور، ولإظهار سر السرور. والبارق يشام إذا رعد، والصادق يرام إذا وعد. وما أسرنا بالواصل وأوصلنا بالمسرة. وأبرنا بالجد وأجدنا بالمبرة. وسمعت منه كل ما هدى سمعي، وأبدى لمعي، وجمع شملي وشمل بالعز جمعي. ولما قرب أخي، أصبحت لقدومه انتخى. فأمر السلطان الأمراء على مراتبهم باستقباله، وتقدم لجلاله قدومه بإجلاله. ثم ركب وتلقاه بنفسه، وخصه من تقريبه بأنسه. ولم يزل حتى أراه مواضع الحصار، ومصارع الكفار. ومواطئ أقدام ذوي الاقدام، ومواطن بسالة أهل الإسلام. ثم نزل وأنزله بالقرب، وعقد له بالحباء حبا الحب. وسفر

وجهه لوجاهه السفير، وأحل محل التوقير والتوفير. وتبلج له صبح التبجيل، وتأمل منه نجح التأميل. ثم حضر عنده، وقد أخلى مجلسه لي وله وحده. فأدى الأمانة في مشافهته، ووجه مقاصده في مواجهته. وأحضر التذكرة، وقد جمعت المعرفة والنكرة. فقرأتها عليه بفصولها وفصوصها، وألزمته حكمي عمومها وخصوصها، ووفقته على ظواهرها ونصوصها. وكانت في الكتب غلظة عدت من الكاتب غلطة، وخيلت سقطة، وجلبت سخطه. وقال إن الإمام أجل أن يأمر بهذه الألفاظ الفظاظ، والأسجاع الغلاظ. فقد أمكن إيداع هذه المعاني في أرق منها لفظا وأرفق، وأوفى منها فضلا وأوفق. ومعاذ الله أن يحبط عملي، ويهبط أملي. وامتعض وارتمض، ثم اعرض عما عرض. ورجع إلى الاستعطاف وانتجع بارق الاستسعاف. وقال أما ما تمحله الأعداء وعدا به المتمحلون، وتنفق به المتقولون؛ وتسوق المبطلون؛ فما عرف مني إلا الاعتراف بالعارفة، وما هززت منذ اعتززت أعطاف العز إلا لما يعزني من العاطفة. وإن شرفي بالنعمة السالفة؛ يوجب أنفي من هذه الآنفة. وأما النعت الذي أنكر، ولبه على موضع الخطأ فيه وذكر، فهذا من عهد الإمام المستضيئ رضوان الله عليه وجرى لتحققه منى على الألسنة، ومتى عد سيئة ما عد من الحسنة. والآن كل ما يشرفني به أمير المؤمنين من السمة فإنه أسمى الذي هو أسمى وأشرف، وأطرأ وأطرف، وأرفع وأعرف. وما زاده ذلك العتب إلا خلوص ولاء، وخصوص اعتزاز واعتزاء ثم قال كل ما اعتمده من نصرة الدين وقهر أعداء أمير المؤمنين فإنما طلبت به وجه الله ورضاه، ما تعبدت به سواه. فإني أفترض الطاعة الامامية للدين لا للدنيا، وما التقوى فيها إلا بالتقوى. وما في عزمي إلا استكمال الفتوح لأمير المؤمنين، وقطع دابر المنافقين والمشركين. وإذا عادت عواطفه عطفت علي في الحسن العوائد، وقطفت الفوائد، وصفت الموارد، روفت المقاصد، وبعد الأباعد، وبعد الحاسد الحاشد. وهجر هجر الساعي وأجرى أجر الداعي. وعلم جهل الواشي، وعذر ذعر الخاشي، وجرب غش الغاشي، وخرب عش العاشي. وذوت هموم ذوي الهمم، وأوليت كرامة أولى الكرم. وما زال السلطان مدة مقام أخي عنده، يوري في إعظامه زنده ويأمر بإكرامه جنده. فكنت أشفق من تكدر ذات البين بعود الأنس والوصلة إلى الوحشة والبين. وأن جماعة من الأكابر اجتمعوا بالسلطان، وقالوا له قد نسب حقك إلى البطلان، ورميت بالبهتان، ولمحت طاعتك بعين العصيان. فكيف خفت وما عفت، والفت وما أنفت، ورغت وما غرت، وصبرت وما سبرت، وأغضيت لما أغضبت، وأعتبت لما عوتبت، وراقبت وما روقبت. فقال تذللي للديوان العزيز تعزز به أدين، وتوسلي إلى مرضاته توصل بالله فيه استعين. فتواضعي ترفع، وتخشعي تورع. وحبل حبي

نسخة كتاب جامع للفتح القدسي الأيمن أنشأتها إلى سيف الإسلام أخي السلطان باليمن

متين، ومكان قربي مكين. ومما قلت له وأوضحت له يبله إنا كنا بطاعة أمير المؤمنين نطول ونصول، ونزاول بها الملوك وعنها لا نزول. وهذه فضيلتنا التي رجحت، ووسيلتنا التي نجحت. وكنا بها مسعودين، وعليها محسودين. وقد شملت بها بركاتها، وكملت حسناتها. وصفت مشارع يمنها، وصفت مدارع حسبها. فلا نلتفت إلى من يلفتك، ولا تتثبت لمن لا يثلتك. وأعرض عمن تعرض لمذهب الخلاف، وانهض لمن ينهضك للائتلاف. فقال هذا ديني وديدني، وبه أعني واعتني، ولنوره ونوره أجتلي واجتني. ثم ندب مع أخي من سار في خدمته لزيارة القدس، وأمر بأن يقف به على مواقف الطهر التي طهرت من أهل الرجز والرجس، ثم ودعه وتودعه من شفاهه كل ما في النفس. وبالغ في إبداء التضرع والتذوع، وإظهار التخشي والتخشع. وأنشأت عنه إلى الديوان كتبا معه وبعده، ضمنتها كل ما حلا وجلا جدة وجدة. وكل ما يبطل سوق المتفقين، ويعطل نفاق المتسوقين، ويهجن خلق المختلقين، ويزيل تلفيق الساعين، ويزيح سعاية الملفقين. ويتعرف إلى العوارف الغزر بالشكر، ويستعطف العواطف الغر بالعذر. ويجتهد في استفراغ المجهود للاستغفار. وينفض عن وجه البشر ما عليه من الغبار. وظهرت بعد ذلك بالقبول آثار الرضى، ومضى ما مضى. وقضى القدر من إعزاز الديوان قدر السلطان بما قضى. وفي هذه السنة استشهد الأمير (شمس الدين بن المقدم) بالموقف في عرفه، لإبداعه رسما ما عرفه. فذهب غلطا، وعطب فرطا. وذلك أن أمير الحاج (طاشتكين) أنكر عليه ضرب الطبل فامتنع، فندب إليه من به وبأصحابه أوقع. فتمت من هذه الفتنة فترة ونمت قفرة. ولما نمى الخبر إلى السلطان؛ لم يبد منه سوى الإذعان. وقال لا شك أن طاشتكين طاش، وقصد بعد الإيناس الايحاش. وعد الديوان العزيز عزله هذا من ذنوب طاشتكين حتى عزله واعتقله بجرائمه بعد سنين. نسخة كتاب جامع للفتح القدسي الأيمن أنشأتها إلى سيف الإسلام أخي السلطان باليمن صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي ضاعف الله علاءه، وظاهر آلاءه، وضافر نعماءه وأظفر بالنجح رجاءه، وأضعف حساده وأعز أولياءه، وأذل أعداءه. ولا زالت أيامه بالأيامن مسفرة، ولياليه بالمحاسن مقمرة، ومكارمه بالمحامد مثمرة، وعهود مواليه بشكر النعم محكمة ومعاهد معاديه بقهر النقم مقفرة. دالة على البشرى بالفتح الأكبر، والنجح الأزهر، والنصر الأشهر، والعصر الأبهر، والفضل الأكثر، والإفضال

الأوفر، واليوم الأنور، واليمن الأنضر، والفجر الأسفر، والفخر الأظهر، والجد الأشم الأشمخ، والمجد الأبلج الابلخ. والعز الاسمق الأسمى، والنور الأنم الانمى. والظفر الأجل الأجلى، والوطر الأحل الأحلى. والشرف الاسنم الأسنى، والعزم الأغنم الأغنى، والسعد الأجد الأجدى، والصيت الأبدى الأبدى. وهو الفتح الذي تفوح بمحابه مهاب الفتوح، وتبوح بسر روحه وملكه سرائر الملائكة والروح، وتروح وتغدو غوادي النعم وروائحها إلى روض الهدى المروج، وتلوح تباشير بشراه في لوح الدهر لكل مؤمن يتلقاها بالوجه السافر والصدر المشروح، وتنوح ناعية الكفر في كل ناحية ولكل نادبة للأسى على قتيلها وأسيرها ندوب في القلب المقروح. وهو فتح بيت الله المقدس الذي غلق نيفا وتسعين سنة مع الكفر رهنه، وطال في أسره سجنه، واستحكم وهنه. وقوى نكره، وضعف ركنه. وزاد حزنه، وزال حسنه، وتجدبت من الهدى أرضه، واخلف مزنه، وواصله خوفه، وفارقه أمنه، واشتغل خاطر الإسلام بسببه، وساء ظنه، وذكر فيه الواحد الأحد، الذي تعالى عن الولد، أن المسيح ابنه، وأربع فيه التثليث فعز صليبه وصلبه، أفرد عنه التوحيد فكاد يهي متنه. ودرج الملوك الأقدمون على تمني استنفاذه فأبى السلطان غير استيلائه واستحوتذه، وكان في الغيب الإلهي أن معاده في الآخرة إلى معاذه وأن نفاد ليل الشرك بإسفار صبح أمرنا وإشراق مطالع نفاذه. ودخر الله هذه الفضيلة لنا ولهذا العصر، وأنزل على نصلنا نص النصر، واطلع لليل عزمنا فجر الفخر، ووفقنا لوصل أسباب الإسلام وقطع دابر الكفر. وذلك أنا استفتحنا سنة ثلاث وثمانين بقمع أهل التثليث، وأصرخنا الإسلام بالجد المنجد والعزم المغيث. وخرجنا من دمشق في المحرم، في العزم المصمم، والرعب المجهز إلى الكفر والبأس المقدم. وكنا أشفقنا على طريق الحج من قصد الفرنج فشغلناهم عن القصد بقصدهم، وتصدينا لجهادهم بردهم عن المراد وصدهم. وأقمنا بظاهر بصري مخيمن على ست الكرك، وقدمنا الطلائع إلى المناهل ونظمنا سلك إمدادهم في ذلك المسلك حتى وصل الحاج سالما، وذل الكفر عن قصده راغما. ولما فرغ القلب من شغله؛ وفاز كل بجمع شمله بأهله؛ سرنا إلى الكرك في الأمراء والمفردين الخواص، وشفعنا للجهاد في سبيل الله الفاتحة بالإخلاص. وقد كنا استدعينا العساكر والجموع للجهاد من جميع الجهات، وترقنا توافيهم بالميقات. وامرنا ولدنا الملك الأفضل أن يقيم برأس الماء. ويكون في خدمته جميع الأمراء. وسرنا إلى الكرك والشوبك فأخربنا عمارتها، واحرقنا غلاتها، وقطعنا ثمراتها. وأزعجنا ساكنيها، وأخفنا آمنيها، وأجلينا عنها فلاحيها، وأقمنا النوائح عليها في نواحيها.

ووصل إلينا ونحن بالقريتين العسكر المستدعى من الديار المصرية، فقويت به قلوب الأمة المحمدية. واجتمع بالمخيم الأفضلي، برأس الماء من وصل من العساكر الشامية والفراتية، والجزرية والموصلية والديار بكرية. فانتهز ولدنا هناك فرصة الإمكان، وأنهض إلى الكفر سرية سرية من أهل الإيمان. فساروا سارين، وأغاروا غارين واخذوا ونهبوا، وسبوا وسلبوا. فلم يشعروا إلا وجموع الكفر قد سدت عليهم الطريق، وأخذت دون خروجهم إلى السعة المضيق، فثبتوا ثبوت الجبال بالرياح العواطف، وشرعوا إلى عرانين الكفر أسنة الرماح القواصف. وكان مقدم عسكرنا (مظفر الدين بن زين الدين) ومعه مملوكنا (قايماز النجمي صارم الدين). فلقيا بصدريهما صدور العوامل، وحملا في عسكرنا على الفارس والراجل. وحصل الفرنج منهم في دائرة الردى، وخذل الضلال ونصر الهدى. وكثر من الفرنج القتلى والأسرى، وعاد المسلمون بالمسرة العظمى والمبرة الكبرى، واتصلت بنا ونحن في بلاد الكرك البشرى، وشكرنا الله على نصرته الأولى وقلنا هذه مقدمة الأخرى. ولما قضينا الوطر من تلك البلاد، ووفينا بإحراق افوات أهل النار بالنار حق الجهاد، اجتمعنا بأصحابنا القادمين من مصر، وتناصرت لدينا دلائل الظهور وتظاهرت إمارات النصر، وعدنا إلى الشام؛ وقد تكاملت به جموع الإسلام؛ وزخر بحر الفضاء بأمواج الأعلام وطفا على اثباج لجة حباب الخيام؛ وقد فض الفضاء ختام القتام. وعلق بالفلق من ذلك الفيلق غرام الرغام. فخيمنا بعشترا شهرا؛ وقد أعدنا بشهر بنات الغمود سرها جهرا؛ وخطبنا من الله الكريم فتح بكر جعلنا بذل المهج لها مهرا. وقد سمع الفرنج بجمعنا فجمعوا؛ ونادوا في بلادهم فأسمعوا. واجتمعوا على صفورية من صفر، وحشروا في تلك الأشهر من جمعهم في المحشر جموع سقر. واخرجوا صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت. فتهافت إلى شعلة ناره فراشهم، وتوافى إلى ظلة ضلاله خشاشهم. وقاموا وقيامة رعبهم قائمة، وسوابح جردهم في بحر العجاج عائمة. وطلائعهم سارية وسراياهم طالعة، ومقدمات رعبهم منا السائرة لجنوبهم وقلوبهم مقضة خالعة. فلما تكامل منا الجمع؛ وأخذ بعجاجه وعجيجه على الآفاق البصر والسمع؛ عرضنا عساكرنا في يوم يذكر بيوم العرض، ويتلو مشاهده لنزل الملائكة (والله جنود السماوات والأرض)، في رايات خافقة كقلوب الأعداء، عالية كهمم الأولياء، وسرنا في جموع ضاق بها واسع الفضاء، وسار في كتائبها نازل القضاء، وسحب ذيل الأرض بمثار نقعها على السماء. وقطعنا الاردن وتأييد الله مواصل، وقدره بأقدارنا على الأعداء كافل. فما ألمنا بطبرية حتى فتحناها بالسيف،

ودخلناها دخول المغير لا دخول الضيف. وتسلمنا المدينة، ونازلنا قلعتها البكر الحصينة. وذلك يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر، والخميس يوم الخميس. وأسد الوغى قد اتخذت من وشيجها العريس. هذا والملك العادل عنا غائب، ومعه أيضا بمصر كتائب، وتوفيق الله له مصاحب. وكنا عزمنا قبل قصد طبرية، أن نلاقي الفرنج على صفورية. في مركزهم ومجتمعهم، ونلابسهم في مخيمهم. فحين نزلنا من الثغر بالاقحوانة؛ وتمكنا من الله بالاستنجاد والاستعانة، ركبنا قبل قصد طبرية إلى الفرنج في مجمعهم، وأشرفنا عليهم في موضعهم. فما برحوا من مكانهم، ولا تحركوا برجالهم ولا فرسانهم. وارتدنا في صحراء لوبية موضعا للمصاف واسعا، وفضاء لمازق الجمعين جامعا. وبتنا هناك بأطلاب الأبطال ميمنة وميسرة، ووجدنا بتأييد الله أسباب الظهور ميسرة. وجئنا في خواصنا والجاندارية، ونزلنا في العدة المجردة على طبرية. وأخذ النقابون ساعة النزول في النقب، فصرع قائم سورها للجنب، ودخل الناس إليها ليلا للنهب. وكانت ليلة مدلهمة معتمة، وأرجاء المدينة مظلمة، فأشعلوا وأوقدوا، ودخلوا الدور وتفقدوا ما لم يفقدوا. وكانت بها حواصل من زفت وكتان علقت بها النار، فاحترقت تلك المساكن والديار. وتحصن أهلها بقلعتها، وتمنعوا بمنعتها. فأصبحنا على حصرها، وسلكنا جدد الجد في أمرها. فجاءت رسل الأمراء أن الفرنج قد تحركت، وانزعجت لكون عقيلتهم من طبرية تملكت، وأدركهم الندم كيف تركت وما أدركت. وأنها قد عبت جنودها، وشبت وقودها، ولبت نداء جموعها، وصبت عليها ماء دروعها. وغاضت في غدران سوابغها السابرية، وفاضت ببحار سوابحها الاعوجية. وأن جمرهم قد استعر، وأن بحرهم قد زخر، وأنهم قد أتوا في عددهم وعديدهم، وحدهم وحديدهم، وخيلهم ورجلهم، وطلهم ووبلهم، وفارسهم وراجلهم، وأحزاب ضلالهم وأبطال باطلهم. وأنهم حين عرفوا استيلاءنا على طبرية؛ وسبقنا بفضيلة فتحها البرية، غاروا على العقيلة السبية؛ وأشعلت نخواتهم نار الحمية، وساقوا (أنفسهم) إلى معترك الردى وملتقى المنية. ولما عرفنا قربهم؛ قصدنا حربهم. وزحفنا اليهم، وأشرفنا عليهم. واللجب الساري كالجبل الراسي، وقد أفاض الحديد من قبله على الحجر القاسي. ولمعت بوارق بيارقه، وراعت طوارق طوارقه. وبرقت قوانس قوامصه، وارتعدت فرائض فرائصه. وأمكنت فرائس فوارسه، وباح الحديد على عوابسه بوساوسه. وماجت بحار سلاهبه، واشتعلت نيران قواضبه. وشدت الاجادل دون صوار صوارمه وسدت بعرض أفواجه فجاج مخارمه، وقرنت الالفات بلاماته، وظهر من خشره يوم الحشر بعلاماته.

فاغتنمنا الفرصة في اللقاء، وهجنا إلى الهجاء. وأسرعت الأعنة، وأشرعت الأسنة. ونقع اوام الجو، وأجاب الصدى دوى الدو. وجال الجاليش، وطار السهم المريش. وعصفت رياح السوابق، واستعبرت عيون البوارق. ولقيناهم في عرموم عارم، ومحر جار وعوامل جوازم، وصواهل صلادم. وضراغن ضوار، وجوارح جوار. وأسود قد اعتقلت اساود، وجياد قد حملت أجاود. وسوابح قد أقلت بحورا، وصقور قد ركبت صقورا. وأوقفناهم نهار يوم الجمعة وساكنهم لا يتحرك، وبازلهم لا يبرك. وصفهم لا ينفض، وجدارهم لا ينقض. وبنيانهم مرصوص، وطائرهم عن الطيران محصوص. حتى دخل الليل، وقر في الوادي ذلك السيل. وبات الفريقان على تعبيتهما، وإجابة داعي الموت بتلبيتهما. وأصبحنا يوم السبت وأهل الأحد على حالهم، لم يريموا موضع قتالهم. وما زالت الحملات تتناوب، والاسلات تتواثب وتتثاوب. والسواعد بقرع الظبا سواع، والرواعف في زرع الطلى رواع. والمنايا تئن، والحنايا تحن. والبيض تصافح البيض صفاحها، والذكور لتاج الحرب العوان بالفتح البكر عند اللقاء لقاحها. والذوابل في اشاجع الشجعان ذواب، والصوارم بجوامح النيران شواب. وضمائر الغمود قد باحت بأسرارها، ونواظر الجفون قد تخلت عن غرارها. ولما أحسوا بأسنا؛ وإمرار أمراسنا؛ والهجير يتلظى وقد وقع عليهم بناره، والاوام يتوقد ولا يتوقى اجراقهم بأواره، مالوا إلى طلب الماء، وأخذوا طريق البحيرة للاوتواء. فأخنا قدامهم ووقفنا أمامهم. وحلأناهم عن الورد، وألدأناهم إلى الردى بالرد. فاعتصموا بتل حطين وصرنا بهم محيطين. وتحكمت فيهم قواضي القواضب، ونشبت من النشاب بهم نيوب النوائب. وكان جمعهم جمرا وقد وقد، فصب عليهم السيف نهرا فخمد. وفضوا بالفضاء، وفرشوا بالعراء، وعب دأماء الدماء، وغصت الفجاج بالقتلى والأسراء. وأسر الملك وأخوه، والابرنس الكركي ومؤازروه، ووجوه الكفر ومقدموه. ومقدم الداوية وأعوانه، وصاحب جبيل وأعيانه. وهنفري ابن هنفري وابن صاحب اسمندرونه وصاحب مرقية. ولم يفلت إلا ابن بارزان والقومص، وتم لهما من الورطة المخلص. وكان كلاهما ملهما عند اللقاء بالقتال، وعند الفرار بالاحتيال. فأما القومص فإنه لما مر بطرابلس أدركه الموت في برجه المشيد، ونقله القدر المبيد إلى عذابه المؤبد. وذل ذلك اليوم أهل الجبروت، وحيز صليب الصلبوت، وبار وباد أولياء الطاغوت، وهلك عبدة الناسوت واللاهوت، وملك عليهم القدر كتاب الأجل الموقوت. وقدمنا الابرنس وضربنا وفاء بالنذر، وعجلنا به إلى النار مأوى أهل الغدر، وألحقنا به الداوية والاسبتارية، وأدرنا عليهم صبرا كؤوس المنية. وروينا ظماء الظبي من نجيعهم وقرينا سيد الفلا من صريعهم.

وعدنا إلى طبرية فتسلمنا قلعتها، وحللنا عقدتها، وفرعنا ذروتها، وافترعنا عذرتها. ثم سرنا إلى عكاء ففتحناها بالأمان، وأعلنا بها شعار الإيمان. واستقرينا بعدها البلاد الساحلية من جبيل وحد طرابليس إلى الداروم غير صور فإنها امتنعت بسورها، ولم يبق في كأس انكفر غير سورها، وإنها وجدت فسحة في أيام اشتغالنا بفتح أخواتها، وكثفت من عدد المحاصرة آلاتها. وكنا لما فتحنا عسقلان بدأنا بالنزول على القدس، وذلك يوم الجمعة ثالث عشر رجب، فرجف بها قلب الكفر ووجب. وظن أهلها أنهم يعتصمون، وأنهم من بأسنا يسلمون. فنصبنا عليهم منجنيقات هدت أحجار السور بسورة أحجارها، وآذان ركوعها بسجود الأبراج في إجبارها. ووفت الصخور باصراخ الصخرة، وعثرت تلك القلل بإقالة ما دام بها من العثرة. وكشف النقب ونقب الأسوار. ورمت الجنادل جوانب ذلك الجدار، وعلم الكفار لمن عقبى الدار، وأيقنوا بالقتل والإسار. فخرج مقدومهم متذللين بالاذعان، مبتهلين في طلب الأمان. فأبينا كل الاباء، الاسفك الدماء من الرجال وسبى الذراري والنساء. فخوفوا بقتل الأسراء، وإخراب العمران وهدم البناء. فأمناهم على قطيعة موازية لأثمانهم لو أسروا أو سبوا. فأمنوا من أن يسلبوا وهم على الحقيقة قد سلبوا. ومن وفي منهم بالقطيعة حرج بحكم العتق، ومن عجز عن أدائه دخل تحت الرق. وعاد الإسلام بإسلام البيت المقدس إلى تقديسه، ورجع بنيانه من التقوى إلى تأسيسه. وزال ناموس ناقوسه. وبطل بنص النصر قياس قسيسه. وفتح باب الرحمة لأهلها، ودخلت قبة الصخرة لفضلها. وباشرت الجباه بها مواضع سجودها، وصافحت أيدي الأولياء آثار القدم النبوية لتجديد عهودها. وشوهد مقام المعراج وموطئ براقه، ورئى نور الإسراء ومطلع إشراقه. ودنا المسجد الأقصى للراكع والساجد، وامتلأ ذلك الفضاء بالأتقياء الاماجد. وطنت أوطانه بقراءة القرآن ورواية الحديث وذكر الدروس، وجليت هدى الهدى من الصخرة المقدسة جلوة العروس. وزارها شهر رمضان مضيفا لها نهار صومها بالتسبيح، وليل فطرها بالتراويح. وشفى الله بسقيا هذا الفتح كان دهم القلوب لأجلها من تيار التباريح. فالبيت الحرام مساو للبيت المقدس، مفدى منا كلاهما من المهج والأنفس بالأنفس. وانه من المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال والرجال. ويضيق عن وصف شرفها في حلبة البيان المجال. وهو للحرمين ثالث ولا تثليث في حرم توحيده، فتجدد جد الإسلام بتجديده. ولما فرغ البال من تدبيره؛ وقضينا حق تقديسه وتطهيره؛ صرنا إلى صور، ونازلناها بعسكرنا المنصور. وفي صور سور الكفر وبقيته، وقد تحصن بسورها ومنعته

شرذمته. وهي مدينة حصينة، متوسطة في البحر كأنها سفينة. وقد نصبنا عليها المنجنيقات فنكأت فيها، ورمت من أعاليها، وهدمت من مبانيها. ولم يبق في جعبة الكفر سوى نشابها، وإن جمحت علينا فنصرة الله وعوائد تأييده لنا تؤذن بإصحابها، وإذا تسلمناها تسلمنا - بإذن الله - كل بلد للفرنج باق، وما لهم من عذاب الله واقع بهم واق. ثم رأينا أن حصار صور يطول، وأن مسألة بيكار العسكر فيها تعول. وأن فتحها لا يفوت، وله وقته الموعود ووعده الموقوت. وكان العسكر قد ضجر ومل، وأعيا وكل. وقد دخل الشتاء وبرد الهواء. وجادت السماء، وتوترت الأنواء، وتواصلت الانداء. ولابد من استئناف جمع العساكر في أيام الربيع، واستمداد النصر الذي يضم لاستجداد الفتح شمل الجميع. ورحلنا عنها بعد أن رتبنا ولها، في الثغور المجاورة لها؛ من يديم شن الغارات عليها، ويواضب على النهوض إليها. وفسحنا لأجنادنا في الاستراحة مدة شهرين إلى النيروز. فإن في تلك الأيام تتوفر العزائم على المبارزة والبروز. وقد جرت المواعدة على المعاودة، والمعاقدة للمعاضدة والمعاهدة للمساعدة. فليس في الفرنج من يقاتل الآن على الخيل، والنهار عليهم في إظلام الليل، والعز متقلص الظل عنهم والذل ضافي الذيل وقد حزب حزبهم من حربنا مثير للحرب والويل. وقد اشتمل الفتح على البلاد المعينة، والمعاقل المبينة، وهي: طبرية، عكاء، الزيب، معليا، اسكندرونة، تبنين، هونين، الناصرة، الطور صفورية، الفولة، جينين، زرعين، دبوريه، عفر بلا، بيسان، سمسطية نابلس، اللجون، ريحا، سنجيل، البيرة، يافا، ارسوف، قيسارية، حيفا، صرفند، صيداء، قلعة أبي الحسن، جبل جليل، بيروت، جبيل، مجدل يابا، مجدل حباب، الداروم، غزة، عسقلان، تل الصافية، التل الأحمر، الاطرون، بيت جبريل، جبل الخليل، بيت لحم، لد، الرملة، قرتيا، القدس، صوبا هرمس، السلع، عفرا، الشقيف، ولم نذكر ما تخللها من القرى والضياع، والأبراج الحصينة الجارية مجرى الحصون والقلاع. ولكل واحدة من البلاد التي ذكرناها أعمال وقرى ومزارع، وأماكن ومواضع. قد جاس المسلمون خلالها، واسترعوا ثمارها وغلالها. وقد كنا عند قصدنا البلاد؛ وعرضنا للجهاد الاجتاد؛ كاتبنا أخانا الملك العادل سيف الدين أن يدخل بالعساكر المصرية من ذلك الجانب، وينتظر كتابنا بنصر هذه الكتائب. فلما بشر بكسر الفرنج طبرية وعكا، والظفر الذي أضحك الأولياء وأزعج الأعداء وأبكى؛ وتلى عليه (قد أفلح المؤمنون) و (قد أفلح من تزكى)؛ كان وصل إلى السوادة قس سواده وبياضه، وبحار جيشه وبراضه وورد من مورد النصر إلى حباضه. فجاش بجيوشه، وجاز العريش بعريشه، وزار دار الداروم بدمورها، وأجفلت

قدامه البلاد في كل من اعتمد عليه بأمورها. ووصل إلى يافا ففتحها عنوة، ونال العسكر منها بالنهب والسباء خطوة. ثم حضر مجد يابا وحصرها، وطلبت منه الآمان فأنظرها. وكتبنا إليه بالإقامة في ذلك الجانب، ماضي العزائم قاضي القواضب. وأن يستفتح من البلاد ما يتعجل فتحه، ويقدم من الرجاء ما يتيسر نجحه، إلى أن نفتح ما في جانبنا من البلاد ونتسلمه، وننتهز فرصة الإمكان فيما نحن بصدده ونغتنمه. وقد كنا أنهضنا إلى كل بلد من الناصرة وصفورية؛ وحيفا وقيسارية؛ من يتولى افتتاحه، ويستقبل من مهب النصر أرواحه. فنصرهم الله على الناصرة وقيسارية قسرا، وتسلمت البواقي سلما، ورأى من كان فيها سلامته غنما، ورضى بالغرم رغما. وتسلمنا نحن تبنين وبيروت بالأمان، بعد أن قاتلنا أهلهما قتالا شديدا ألجأهم إلى الإذعان. فأما صيداء فإن صاحبها أذعن إلى التسليم، بعد أن بات منا بليله السليم. وأما جبيل فقد سلمنا صاحبها وخلص من الأسر، ورأى ربح خلاصة فيما تعجله من الحسر، وحينئذ سرنا واجتمعنا بالملك العادل على عسقلان، وهان لنا كل ما استصعب منها ودان، وظهر لنا منها وجه الفتح وبان، وأمكن كل ما تعذر واشتد ولان. وزاحمنا مناكب أبراجها من المنجنيقات بمناكب، وأصبنا فوائدها لما رميناها بمصائب. وأصمينا مقاتل الأسوار بسهام قسيها، وعاقبناها بحبالها وعصيها، واقتدنا بخزائم الكرة أنف الطاعة من عصيها، وصافحنا ببيض الصفائح يد الرضى من أبيها. وباشرت سهام المجانيق بسواكها ثنايا الشرافات فهتمتها، ونهضت أحجار الرماة إلى أحجار البناء فهدتها وهدمتها. وغنى فيها معول النقاب، فرقصت للاضطراب لا فلإطراب. وعادت الحجارة إلى اصلها من التراب. ولما أيقن أهلها بالعطب، لاذوا بالضراعة والطلب. وخرجوا مسلمين مستلمين، وانقادوا مستكينين مذعنين. وأسلم البلد وأسلم، وجدع أنف الكفر وأرغم. وعاد منه الإيمان الغريب إلى وطنه، وقر منه الإسلام القريب في مسكنه. وعند ذلك تسلمنا غزة، وأعدنا إليها العزة. وأتينا على الرملة ولد والنطرون، وفتحنا بيت جبريل وجبل الخليل وجميع تلك المعاقل والحصون. ثم ختمنا فتوحات هذه السنة بفتح الأرض المقدسة، والحمد لله على نعمه المفرجة للكروب وألطافه المنفسة. وقد جعلنا هذه البشارة القدسية بما هنأه الله من الموهبة السنية، وسناه من المنحة الهنية؛ لمملوكنا حسام الدين سنقر الخلاطي، وأمرناه أن يسير فيها من أصحابه منيقوم فيها بحق منابه. والمجلس السامي يشيع ميامنها ببلاد اليمن، ويجلو عروسها البكر في حسنها الحالي وحليها الحسن. ويشكر نعمة الله التي خصنا بها وعمت الأمة ويديم شكرها فإن دوام الشكر يديم النعمة، لا زال المجلس مشكور الشئمة، عالي الهمة، منصور العزم إن شاء الله.

ودخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة

ودخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة والسلطان صلاح الدين مقيم بعكا وربيب الربيع رضيع، ووشى الروض وشيع، وصنيع القدر نصيع، وشمل الظفر جميع، وفضاء الفضائل وسيع، ومراد المراد مريع، ونسيم الأسحار لأسرار الأزهار مذيع، وأريج الجو العليل في شفاه غليل الجوى شفيع. والدهر قد ثمل وأفاق، والزهر قد شمل الآفاق. وللمحاب مهاب، وفي الشعاب أعشاب. وخدود الشقائق محمرة، وثغور الأقاحي مفترة، وعيون النرجس مصفرة، وشفاء المنابع مخضرة. وأحداق الحدائق الناضرة ناظرة، ووجنات الجنات الزاهية زاهرة. وعذبات المنابت متموجة، وحافات المناهل متدبجة. وجباه الغدران متغضنة، وجفون النوار متوسنة، والأفنان مورقة والورق متفننة. وخد الخيري مورد، وحد العرار مجرد. وعرف البهار قد تأرج، ووجه الجلنار قد تدرج. وعذار البنفسج قد بقل، وعذر الزمان قد قبل. وشارب النبت قد طر وهارب البرد قد فر. وسر الصيف قد سرى وسر، وطبى الطيب قد حفل ودر. وتقاضى السلطان غريم عزمه بدين الدين، وآن أن يصحر ليث بأسه الخادر من العرين. فأبرز مضاربه، وجهز كتائبه. وضرب سرادقه، وعرض فيالقه، ونشر بيارقه، وحشر رواعده وبوارقه. وانفق حزائنه، وأنفذ دفائنه. وبذل في صون الدين ديناره، وأشعل في حفظ ماء الهدى وعلى العدا ناره. وسار على سمت حصن كوكب، وعن قصده ما تنكب. ونزلنا عليه في العشر الأوسط من المحرم، وما منا إلا من بقتال العدو فيه لهج المحب المغرم، ولعزمه وهج اللهيب المضرم. فوجدنا كوكب في سمائها كأنها الكوكب، وظن الفرنج أنها لا تنكأ ولا تنكب، وهي من المصاعيب التي لا تبرك ولا تركب. فأحطنا بالحصن وخيمنا حوله، واستمددنا قوة الله وحوله. وزحف إليها الرجال، وتناوب علبه القتال. وركب إليه السلطان ورازه، واستصعب احتيازه. ورأى أن مقاتلته تطول، وأن مسألته تعول. وأن محاولته في مطاولته، ومصابه في مصابرته، واضافته في مضايقته. وأن ما في هذه الحال اقتضى تعذر اقتضاض عذرته، ولا مطمع الآن في فرع ذروته، ولا قرع مروته. وكان في خواصه وأهل استخلاصه، لم تتجمع عساكره، ولم تتموج زواخره. فأقام هناك بالتدبير مشتغلا وللاشتغال مدبرا، وبالاستظهار متأيدا وبتأييد الله مستظهرا، حتى رتب على قلعة صفد خمسمائة فارس، من كل محرب للحرب ممارس. وسلمهم إلى (طغرل الجاندار)، لمرابطتها بالليل والنهار. ووكل بكوكب (قايماز النحمي) في خمسمائة مقاتل، من كل ناصر للحق وللباطل خاذل. وكان (سعد الدين كمشبه الاسدي) بقلعة الكرك موكلا، وبحفظها مكفلا.

ذكر حال الكرك من أول الفتح

ذكر حال الكرك من أول الفتح وقد مضى ذكر وقوع ابرنس الكرك في الشرك، بمعتكر يومه في المعترك. وافتتاح الفتح بحتفه، وبسط كف الانتقام عليه بقبضه وكفه. وأنه أخذ رأسه، وقطعت أنفاسه، وقلعت أساسه. وكانت زوجته ابنة فليب صاحبة الكرك بالقدس مقيمة، ولحفظ معاقلها مستديمة. وحصل ولدها (هنفري بن هنفري) في قبض الاسار، وقيد الخسار، وغمة الانكساف والانكسار. فلما يسر الله فتح البيت المقدس، وأصبح الإسلام عالي اليد والكفر غارم المعطس؛ خرجت صاحبة الكرك متعرضة للخضوع، متضرعة بالخشوع، وبرزت مسكينة مستكينة، مستعطفة مراحم السلطان مستلينة. رافعة عقيرتها بالابتهال، شافعة في فك ولدها من الاعتقال. معفرة خدا شأنه التصعر، مسفرة عن وجه من عادته التخدر. حاسرة حسرى، باسرة لحزنها بأسرى. والدة تنشد ولدها، والهة دخل الرعب خلدها. مطلقة ميسورها، مستطلقة مأسورها. ثانية عطف العطف لواحدها، رانية بعين الذل في خلاص ساعدها. سائلة في فلذة كبدها، جائلة بجذوة كمدها، باسطة يدها لقبض يدها. ناثرة خرزات دموعها، عاثرة بحزازات ولوعها. خافضة جناح استعطافها، ناهضة في نجاح استسعافها. راجزة بنوحها، عاجزة عن بوحها. وخرجت معها زوجة ابنها الملك، كأنها من بنات الفلك، باديا صبح وجهها اليقق في ليل شعرها الحلك. مشرقة من أوجها، مشفقة على زوجها. محترقة على فداء الحليل، مقترحة به شفاء الغليل. خادرة قد اصفرت من مطالعها وأصحرت، حادرة عبرة في مدامعها طحرت. ناهدة متنهدة، واجدة متوجدة. معتزة متذللة، مهتزة متململة. باكية متلهفة، شاكية متأسفة. مستدعية مستعدية، عاطية مستعطية. ساكبة عبراتها، راكبة عثراتها. خامشة وجناتها، خادشة بشراتها. وحضرت الملكة في زوجها الملك خاطبة، ولقرمها الندب نادبة. قد أذعنت وعنت لفكاك عانيها، وطلبت بطلها الذي هو عامر دار عزها وبانيها. فاكرم السلطان وفادتهم، ووفر إفادتهم، وقرب إرادتهن، وقرر زيارتهن. ووهب ولأتباعهن وأشياعهن ما كان يلزمهن ويلزمهم من مال القطيعة، ووصلهن بصلاته الرفيعة. وخصهن بما لاق بكرمه من حسن الصنيعة، ووثقهن بنجح الذريعة. وأما الملكة فإنه مكن محلها، وجمع بالملك شملها. وتقرر مع صاحبة الكرك إطلاق ابنها على تسليم قلعتي الشوبك والكرك، ودخولهما في معاقلنا وخروج أصحابهما منهما في الدرك. فاستحضر ابنها هنفري من دمشق إليها، وأقر برؤيته عينيها. وسار معهم من الأمراء الأمناء من يتسلم منهم تلك المعاقل، ويحوز من تلك

ذكر ما دبره في عمارة عكاء

العقيلة العاقلة تلك العقائل. فمضت إليها مع ولدها، حسنة الظن بأهل بلدها. فلما وصلت قاطعوها، ودافعوها عن حصونها ومانعوها. وأخلفوا ظنها وخالفوها، حيث ما ألفوها كما ألفوها. وجنحوا وجمحوا، واجترأوا عليها واجترحوا. وعصها وأقصوها، وعددوا عليها الذنوب وأحصوها. وأفحشوها في خطأ الخطاب، وأوحشوها بالتنحي عن صوب الصواب. وسبعوها، وإلى موافقة الإسلام نسبوها. وكلما لاينتهم خاشنوها، وكلما قاربتهم باينوها. فوجدت نبوة نوابها، وعدمت أصحاب اصحابها، وذكرتهم بحقوقها، وحذرتهم من عقوقها. ولا فغلظوا، واسترضتهم فاحفظوا، واسترعتهم العهد فما حفظوا، ونبهتهم لأمرها فما استيقظوا. وانفصلت عنهم مخفقة، هائبة مشفقة. تخشى من ورد ولدها إلى السجن، وعودها من الاصحار إلى الدجن. ومضت إلى الحصن الآخر. فحصلت منه على صفقة الخاسر. فإنها لما ألمت بالشوبك ألمت من شوب كدرها، وأملت نفعها فعادت بضررها. ولقيت من نوابها نوائب، وفي موارد المراد منها أقذاء وشوائب، فآبت بالأمل الخائب والعمل العائب، والخوف الصادق والرجاء الكاذب. فلما رجعت قبل السلطان عذرها، وأزال ذعرها. وأعلمها بأن ولدها محفوظ، وبالرعاية ملحوظ، وبالعناية به محظوظ، وهو في حصن السلامة إلى أن نتسلم الحصون، وإذا بذل مصونها بذلنا لك منه المصون. فسكنت إلى الوعد، وسكنت بعكاء في ظل الرفه والرفد. ثم انتقلت قبل خروجها من عكاء إلى صور، واستودعت السلطان ابنها المأسور. وأمد السلطان (سعد الدين كمشبه) في حصار الكرك والشوبك، وبأمراء يساعدونه في الحفظ واليزك. فأقام على كل قلعة من يكفي لمحاصرتها، ويفي بمصابرتها، ويلبث في مقابلتها، ولا يعبث. بمقاتلتها فإنها تبقى على قوتها ما لم تقو من قوتها، وتدوم على طغيانها ما لم يذل عز طاغوتها. فلما رتب السلطان هذه المراتب، ورب هذه المآرب، أقام حتى وثق باستمرارها وتحقق حق استقرارها. ذكر ما دبره في عمارة عكاء اختلفت الآراء في أمر عكاء فإنها كانت مدينة متخرقة، وبيوتها متفرقة. وسورها غير معمور، ومعظمها بلا سور. ورأوا أن في إبقائها خطرا، وأن في إخلائها ضررا. فمن أصحابنا من أشار بخرابها وحفظ الحصون، وبناء قلعة القيمون. ومنهم من قال: إذا ضنيت عكاء؛ ملك البحر، وهلك الكفر. وكانت على البلاد الساحلية قفلا، وكانت بها بلاد الكفر غفلا. فمن قائل بإبقاء برج الداوية لحفظ ميناها، ومن قائل نختصرها

ذكر وصول بهاء الدين قراقوش لتولي عمارة عكاء

من أدناها، ومن قائل نجدد سورها، ونحكم أمورها، ونبقيها بحالها، ونعمرها بكمالها. على أن أسوار هذه البلاد سيوفها التي هي عند الفتوح مفاتيح أقفالها. وأجالوا الفكر فيمن يجلى غوائلها، ويحلى عواطلها. ويتوحد بتدبيرها، ويتفرد بتعميرها، ويجتهد في تسويرها. ذكر وصول بهاء الدين قراقوش لتولي عمارة عكاء فقال السلطان ما أرى لكفاية الأمر المهم؛ وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام المحرب؛ النقاب المجرب؛ المهذب اللوذعي؛ المرجب الألمعي؛ الراجح الرأي؛ الناجح السعي؛ الكافي الكافل بتذليل الجوامح؛ وتعديل الجوانح؛ وهو الثبت الذي لا يتزلزل؛ والطود الذي لا يتحلحل؛ (بهاء الدين قراقوش) الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش. وهو الذي أدار السور على مصر والقاهرة، وفات وفاق الفحول بآثار مساعيه الظاهرة، فنأمره أن يستنيب هناك من يستكفيه لتمام تلك العمارة، ونؤمره لهذا الأمر فهو جدير بالأمر والإمارة وكوتب بالحضور، لتولي الأمور، وعمارة السور. فوصل متكفلا بالشغل، متحملا للثقل. منشرح الصدر بالعمل، منفسح السر والأمل. مبتهجا بالأمر، ملتهجا بالشكر. وقد استصحب معه كل ما يفتقر إليه من أسباب العمارة وآلاتها، وأدويتها وأدواتها، وأنفارها وابقارها، ورجالها وعمالها وعمارها، ومهندسيها ومؤسسيها، وحجاريها ومعماريها. والأسارى والصناع، والنحات والقطاع. والمال الكثير للنفقة، والذهب الإبريز والرقة. ومثل بالخدمة لسلطانية على كوكب، وحضر الموكب. وشرف بأسنى الخلع وأعطى الملبس والمركب. وفوض إليه وقلده، وأسعفه من عنده وأسعده. وقوى جانبه، وأعذب مشاربه، وأوضح مذاهبه، وأنجح مآربه. وأيد يده، وأجد جدده، وكثر مدده، ووفر عدده وعدده وخصه بعطاياه، واستخلصه لوصاياه. فتوجه إلى عكاء وشغله متوجه، وعزمه متنبه، وسره مترفه، وفكره في رياض الهدى متنزه. وأمره ماض، وحكمه قاض، والله عنه راض. وقام بما أقيم له، ونهض بالعبء وحمله، ومشى بكفايته عمله. وشرع في التعمير والتسوير، وتسوية الأمور بحسن التدبير. وسيأتي شرح ما جرى بعد ذلك في مكانه. وما ظهر من حسن إيالته وإحسانه. ذكر وصول سلطان الروم قليج أرسلان وغيره من الرسل لما شاع خبر السلطان باستيلائه على البلاد؛ واستعلائه في الجهاد؛ وتأرجت

الأرجاء بعرف عرفه، وأرخت السير بمحاسن وصفه؛ عنت الأمصار لمصره، وأذعنت الأملاك لملكه، وانقادت الأمراء القادة بأمره. وعادت مهاب المحاب تفوح بما له من الفتوح، وشروح إيراده وإصداره تحل في صدر الزمان المشروح. فتهيبه بالضراعة كل عظيم، وتأهب له بالطاعة كل الأقاليم. ورهبه ملوك الأطراف، وتعلق باستزادة الشرف منه أمل الأشراف. فكاتبوه مستسعقين، وخاطبوه مستعطفين. وراسلوه بالتحايا، وواصلوا بالهدايا. ورغبوا في امتراء خلف الامتزاج، والاتشاح والالتحاف بحلف الاتشاح. وخطبوا الوصلة، وطلبوا الصلة. وكل يطلب لبلده منه أمانا، وليده وقدمه من تمكينه وتأييده إمكانا ومكانا. ويتوصل ويتوسل، ويتلطف ويتطفل، ويرسل ويسترسل. ويترجى مواهبه، ويتخشى عواقبه. ويديم التردد للتودد، والقصد لبلوغ المقصد. فما يعود رسوله إلا بسوله، ولا يقبل عليه منه إلا بقبوله. ومن جملة الملوك المتقربين بالوداد؛ المتسببين إلى حصول الاتحاد؛ سلطان الروم (قليج ارسلان بن مسعود بن قليج ارسلان). فإنه بذل الإذعان وسأل الإحسان. وأدى في المودة الأمانة، وأبدى للرغبة الاستكانة. واستنهض في سفارته السفير الألب، وندب الندب. وأنفذ أكبر أمرائه؛ وأعظم سفرائه؛ وهو (اختيار الدين حسن بن غفراس). وكان في دولته مقدما، وفي مملكته محكما، وعند أهل ولايته معظما. وقد استعلى عليه واستولى، واستبد بالتدبير عليه كأنه بملكه أولى. ولا تصرف له في ملك ولا مال إلا بتصريفه، ولا تعرف له عن حادث وحال إلا بتعريفه. فوصل هذا الكبير بنفسه لتمهيد القواعد، وتشييد المقاصد. وتحديد العهود، وتأكيد العقود. وقدم مكرما وأكرم قادما، وخدم حاضرا وحضر خادما. وقبل البساط وبسط وجه القبول، وتمثل له الشرف فتشرف بالمثول. وحيا تحية المماليك للملوك، وحفظ الأدب ولم ينتكب فيه عن النهج المسلوك. فتلقاه السلطان بالبشر والترحيب، والبر والتقريب. وأعزه بنزوله في ذراه، وأوعز بنزله وقراه. ووسع عليه من الأنعام بما ضاق عنه أمله، وواصله من الجميل بما راقت تفاصيله وجمله، وشفع رسالته بالإصغاء، ودفع مقالته عن الإلغاء. وسمع ما جاء به واجابه، وأبعد بإدناء مآربه ما رابه. وشافهه بشفائه، وأرواه بروائه، وأولاه لولائه، وعرفه بالتعرف إلى آلائه. ونصبت له خيمة مسردقة، شهادات الإقبال الناصري لها مصدقة، ووجوه الكرامات بها محدقة، وسحب المبرات لها مغدقة. فأقام أياما بأيامن مقيمة، ومحاسن من إحسان الشيم السلطانية مشيمة. فلما استقام أمره استقل، واستدر له بارق البر من سماء السماح واستهل. وما رام حتى نال ما رام، ووثق لإحكام المواثيق الأحكام. ووصل في تلك المدة أيضا (الصلاح قتلغ ابه) وهو أتابك قطب الدين سكمان

ذكر رحيل السلطان صوب دمشق

بن محمد بن قرا ارسلان، وافيا موافيا بإحسان الخطبة وخطبة الإحسان. راغبا في تتميم الوصلة، آخذا لصاحبه ملك ديار بكر عهدا محكما، وعقدا من الميثاق مبرما. وقد أحضر قضاة بلاده شهودا، واقتضى لصاحبهم بحضورهم عهودا. وكان قد خطب لصاحبه ابنة الملك العادل، ومت بكثرة الشوافع والوسائل. وكان خائفا على آمد فإنها من فتوح السلطان، ووهبها لأبيه (نور الدين بن قرا ارسلان). فأشفق من استرجاعها بالحق بعد وفاة والده، ورأى الأمن عليها وعلى جميع بلاده من أكبر مقاصده. ورغب في المصاهرة للمظاهرة وأن يفتح بها باب المزاورة للموازرة. فآواه الملك العادل إلى ظل هذه المواشجة، وثبت بعقد المزاوجة حكم الممازجة. فتم أمنه، وعم يمنه، وزاد قربه، وزال رعبه. وجلس السلطان، وحضر عنده الأماثل والأعيان. ووكلني وكان وكيل أخيه الغائب، في إنشاء العقد مع وكيل الزوج الراغب. فلما تم العقد بأركانه؛ اعتضد ملك ديار بكر بمكانه. وسار صاحبه بالمسار مصحوبا وعاد ذيله بالفخار مسحوبا، وقال له قد وجدت الحزن فلا تحزن، واشتد ركنك فإلى سواه لا تركن. وما من كبير أو أمير إلا وقد وصل من أكبر أمرائه، لينتظم بعهد السلطان في زمرة أوليائه. ذكر رحيل السلطان صوب دمشق وأقمنا على كوكب إلى آخر صفر، ننتظر منها يمن كفر الظفر. ثم رأينا أنه يطول حصرها، ولا يفوت أمرها. وأن الفتح يبطئ وأن كان السهم لا يخطئ. فأمر الأمراء الموكلين بها وبغيرها من الحصون؛ في المقام عليها وابتذال سرها المصون. ورحل السلطان نحو دمشق طاهر الشيمة، ظاهر العزيمة. سامي اللواء، هامي الأنواء، نامي الأنوار في مطالع المضاء. ودخل إليها يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول، بالصدر الأرحب والباع الأطول. وتلقاه أهل البلد بوجوه لإقباله متهللة، وألسنة بالدعاء له مبتهلة، وعيون لأنواره مجتلية، وقلوب بولائه ممتلية، وأسماع لأمره مستمعة، وأيد إلى الله في نصره مرتفعة، وصدور بأيامه منشرحة، وآمال في إنعامه منفسحة، ونفوس على طاعة الله في طاعته كجبولة، وأعمال في رضا الله لمراضيه مبرورة مقبولة. ودخل المدينة، وأدخل إليها السكينة. فوجدت الروح بسلطانها، وعادت الروح إلى جثمانها وقرت به عيون أعيانها، وأقرت له بحسنها وإحسانها. وابتدأ بالجلوس في دار العدل، وبحضرة القضاة والعلماء من أهل الفضل. واسترفع قصص المتظلمين، واستمع (إلى) غصص المتآلمين. وكشف الظلامات المظلمة، وفصل الحكومات المستحكمة.

وقرأ كل قصة، وقرأها بكل حصة. وحقق الحقوق، ورتق الفتوق، وأقام للشرع السوق، وأتم لرجال الرجاء بعدله الوثوق. وحل بإنصافه كل مشكلة، وطب بإسعافه كل معضلة. وأصحت سماء السماح، وأصحب جماح النجاح. وأعدى المستعدى، وأروى الصدى، وحيا الحي وأردى الردى، ومجد المجدي، ومهد الحق حتى قيل والمهدى. فما انقضى ذلك اليوم؛ وانفض أولئك القوم؛ إلا عن مظلوم أجير بالحق، ومعلوم أجرى من الرزق وعالم أعين، وطالم أهين. وهاد زين، وعاد شين، ومختل سدد، ومنحل عقد. ومعتل شفى، ومعتر كفي. وما حل جيد، وآمل زيد، وركن حق شد وشيد، وخدن باطل ابير وابيد. وراج أدنى فوزه، ولاج اسنى عزه. وجلس يوما آخر للأكابر، والأماثل، والأكارم والأفاضل. فأضاء النادي، وفاضت الأيادي. وغدق الندى، وصدق الهدى. وكر الكرم، وفر العدم. وحفل الدر، ودر الحفل، وشمل النظام وانتظم الشمل، وصان العلماء بالبذل، وأعان بافضاله أعيان أهل الفضل. وفاز بالحمد وحاز الثناء. وأجاز الشعراء، وأكرم الكرماء، وروج الرجاء، وأولي النعماء، ونعم الأولياء. وتقاضاه عزمه بالحركة؛ لاستفاضة البركة، واستفاضة المملكة إلى المملكة فلم تستقر به دار، ولم يدر به قرار، ولم يثبت في جفنيه غرار. ولم يبت إلا وبين جنبيه لقاء العدا أهل النار نار. وكان (الصفي بن القابض) قد استجد للسلطان على بعض أبراج القلعة دارا؛ وأذهب في نضارتها ذهبا ونضارا. وهي متطاولة بين البروج، مطلة على المروج. مشرفة على موازاة الشرفين، كاشفة غطاء النظر عن الغوطتين. صحيحة البناء، فسيحة الفناء. بهية البو شهية الزهو، مجددة لأهل الجد ذكرى اللهو. فرشها بماء الورد، وفرشها بالورد. وبسط بسطها وعلق ستورها، وأعلى نورها، وحبر حبورها. وسر سرورها. وسنى أنواع نمارقها وأسمى أنوار مشارقها. وتوصل إلى حضور السلطان بها وجلوسه، وذهبت تباشير بشره بخطوب الزمان وعبوسه. واحضره كل مقرظ بقريض وكل مؤمل بتصريح وتعريض. وكل ناشد ضالة رجائه بنشيد، وكل قاصد جلالة أرجائه بقصيد. وكل مغرد مغرب، وكل مطر مطرب. وظن أن السلطان تروقه تلك الحلية والحالة، وتلك الجلوة والجلالة. وتلك البقعة المؤسسة، وتلك الرقعة المقدسة. وذلك المشرف العالي، وذلك المشرف الحالي. وانتظر نظر استحسانه لإحسانه، وتوقع تمكينه لموقع مكانه. فما أعاره لحظا، ولا إزاره حظا. ولا لمحه بطرف استطراف، ولا منحه حرف استعطاف. بل أعرض بنظره عن تلك النضارة، وأغضى عن تلك الغضارة. وغض عن تلك الغضاضة، واشتعل عن تلك

الرياض بالرياضة. فالعاقل من لا يتخذ في دار الوائر معقلا، ولا يجد في منازل التوازل منزلا. ولا يركن إلى فناء الفناء لبيب، ولا يسكن في غار الغرور أريب. وكيف يبني العمران والعمر إلى الهدم، والغنم في الدنيا الدنيئة عين الغرم. وقال السعيد من يبني دار الآخرة، وينجو من أمواج الدنيا الزاخرة. ثم صرف في تلك الأيام (الصفي) عن ديوانه، وأبقاه في شغل الخزانة على مكانه. وسمعته يقول في بعض محافله، وقد أجرى له حديث من يفرح بمنازله كان من ذنوب الصفي عندي أنه بنى لي تلك البنية، فدل على أنه لم يوافق منه الأمنية. وقال ما يعمل بالدار من يتوقع المنية وما خلقنا إلا للعبادة، والسعي للسعادة. وما يخطر لنا في هذه خلود بالخلد، وما لنا وللمقام في البلاء والبلد. وما جئنا لنقيم، وما نروم إلا أن لا نريم، وما تحركنا إلا للسكون، وما أسهلنا إلا للعود إلى الحزون. فما بجني ثمر الراحة إلا من مغرس التعب، وما يجبى نصيب المغنم إلا من مغرم النصب. فأين الأين، الذي تقر به العين، وما يحصل السكون في المسكن ولا يكمل الوطر في الوطن. لا سيما والدين يطالبنا بدينه، والكفر يستغرب منا حين حينه. والبلاد سائبة، وللبلاء هائبة. فلا تفوح الفتوح إلا بهبة بنا، ولا ينزل النصر إلا بركوبنا، وغدا للحزم متمما، وللعزم مصمما. ووصل الخبر بوصول عسكر الشرق بالغرب الماضي، والحد القاضي. والجمع الوافر الوافد، والجمر اللافح الواقد. وأن (عماد الدين زنكي ابن مودود بن زنكي) قد أقبل بقبيله، ووصل برعيله. وقدم بجده، وأقدم بحده. وأنه حل بحلب ثم سار عنها مسارعا، وجاء معه الجيش للنجدة والجدة جامعا. فارهف العزم السلطاني خبر وصوله، وحل بالشد للرحيل عقد حلوله. وكان القاضي الأجل الفاضل ذو الجلالة والفضل؛ والنباهة والنبل، متأخرا في بيته لشكلة أقام في غيرها، واستقام مزاجه الكريم منها وهو في ترقب زوال أثرها. والسلطان بنجح سعيه متبرك، وبنصح رأيه متمسك، وبطوله عالم، وبقبوله عامل، وبعبارته قائل، ولا شارته قايل. فأراد السلطان أن يقدم بلقائه الاجتماع، وبرأيه الانتفاع. ويستنير بنوره، ويستشيره في أموره. ويفاوضه في تفويضاته، ويقلده في تقليداته، ويتبرك بميامينه ويتيمن ببركاته. فإنه طالما اجتلى سني السعادة من مطالعه، واجتنى جنى الإرادة من صنائعه. وافتتح الأقاليم بمفاتح أقلامه، وأحكم المملكة بثبوت أحكامه. ووافاه لإمداد السؤدد الوافي سواد مداده، وجاءه بالوجاهة في دينه ودنياه لإسعافه وإسعاده. وكان قد خرج إلى جوسق بالشرف الغربي الأعلى، ليتفرغ هناك للعبادة ويتخلى. فأصبح السلطان بكرة يوم الثلاثاء حادي عشر ربيع الأول على الرحيل،

ذكر وصول عماد صاحب سنجار والاجتماع به

وقصده لإبرام ما وجده في مملكته من الأمر السحيل. وأقام عنده في الجوسق إلى الظهر، مستظهرا به على الدهر حتى كشف مهماته، ورشف شفاه مشافهاته. وانتجى معه في الآراء والآراب. وانتجع لريه من رأيه صوب الصواب، وارتجع وديعة سر الغيب ممن عنده علم من الكتاب. ثم استودعه الله وودعه، ودعا له الأجل الفاضل وشيعه. وبات تلك الليلة مخيما بالعرادة. محتما بالسعادة، راجح السيادة، ناجح الإرادة. ثم سلك في جبل يبوس إلى عين الجر إلى الدلهمية على البقاع. وهو مطيع أمر الخالق ومتبعه والخلق تابع أمره المطاع. واتى بعلبك المحروسة، وخيم بمرج عدوسة. وأقام حتى أمر أمرها، وأدر درها وقسم لها من عدله، وعدل بها من قسمه، وحكم فيها بفضله، وافضل عليها بحكمه. وكشف الظلم والمظالم، وصرف المكاره وصرف المكارم، ورفع من المعالي المعالم، وأجرى رسوم الأجر والمراسم. وأمر الرعاة برعاية أمر الرعية، وحكم على القضاة بالحكم في كل قضية بالجهة الشرعية المرعية. ثم رحل على سمت اللبوة، معصوم النوبة من النبوة. مصون الكتيبة من الكبة والكبوة. ثم اوجه إلى الزراعة وزرع الظفر قد توجه، وشرع النصر الصافي الشرعة من الكدر قد تنزه، وقد كحل عثير العسكر طرف الجو الأمره. وقد آن لعين الشمس الراقدة من الهبوة أن تعاود الهبة وتتنبه، وزرع بالزراعة من السمر المركوزة والبيض المهزوزة نبات الحظ وقتاد الخرط، وضاق ذلك الفضاء الواسع بحط رحال الرهط. ذكر وصول عماد صاحب سنجار والاجتماع به ووصل الخبر بأن عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي وصل جامعا من الاداني والأقاصي، ونزل طائعا على العاصي. وخيم على قدس، وخيمه قد تقدس، والدين بدنوه تأنس، والكفر بقدومه تعكس. وأنه ينتظر قدوم السلطان والاتفاق معه على قهر الشرك ونصر الإيمان. فركبنا وابن ذكاء في أسفاره، والصبح قد زحف على الليل برايات أنواره والفجر قد فجر انهار نهاره. وسرنا بصدق النزاع وقصد الاجتماع. فلقيناه قد ركب مستقبلا، وقرب مقبلا. ولما رآه السلطان حياه، ولقيه بالكرامة وأكرم ملقاه. ونزلا فتعانقا، ثم ركبا وتوافقا وتساوقا. وخيمنا بقرب مخيمه، وجثمنا عند مجثمه، وحططنا هناك رحالنا، وخلطنا برجاله رجالنا. وتساعد الجندان، وسعد الجدان، وجد السعدان. وانتظم الجمعان، واجتمع النظمان. واتحدت الكلم، وأنأدت الهمم. وسأل السلطان أن يوازره ويزوره، ويحضره بحضوره حبوره، فساق معه إلى مضربه. وضافه في موكبه. وانقلب إلى قربه، وتقرب إلى قلبه وارتفع في صدره، ورفع من قدره.

وصار العسكران مختلطين، وجلسا منبسطين، ووقف الأمراء والعظماء سماطين كالسمطين. وقرأ القراء، وأورد الشعراء، وتجاذب بينهم أطراف الطرف والآداب الفضلاء والعلماء. وكان مع عماد الدين شاعره (السنجاري ابن الهائم)، ومن عادته ايراد المدائح في مثل تلك المواسم. فأنشد مدحا، ونشد منحا. ثم بسط السماط وسمط البساط. ومدت الموائد، وعادت العوائد، ونضد الخوان وكونت الألوان، ولونت الأكوان، وصفت الجفان. واحضر الطهاة في كل حاجة وباجة، وخروف ودجاجة. وحلو حامت وحامز وحامض، وتفه وقابض. ومطبوخ ومشوي، ومصنوع ومقلي - ما طاب مذاق مذقه ومحضه، وطالت الأيدي في بسطه وقبضه. فلما رفع من ناديه القرى، وفرع بأياديه الذرا، قدم ما أعده للهدايا، والتحف السنايا من الجياد المقربة، والثياب المذهبة، والعدد المعجبة، والأسلحة المذربة. وكل ما يروق ويروع، ويضيء ويضوع. ثم انفض النادي عن ندى منفض، وسدى لبكر الشكر مقتض. وعين السلطان يوما لحضور عماد الدين عنده، وأنه يستضيف فيه خواصه وأمراءه وجنده. فوسع سرادقه، ووشع نمارقه. وضرب بيت الخشب له لحسب بيته، وأسميت (الحسنى) بحسن سمته وسمته، واحتفل بحفله، وأجل لأجله. وأرجت أرجاء النادي بالند. وراق مد النواظر النواظر في ذلك الرواق الممتد، وبسط على البسط ما حضر من الياسمين والورد. وفاح النشر، ولاح البشر. وفرش الثرى، وشرف البرى. ورفع الحجاب، وأشرعت القباب، وتوجهت الأسباب، وتنزهت الألباب. وتضوعت نوافح النوافج، ووضحت مناهج المباهج ووضعت المطارح والمساند، والأسرة والوسائد. وجاء عماد الدين في خواصه وأمرائه وصحبه، فتلقاه السلطان برحبه، وقرب له السرير وسر بقربه، وأجلسه إلى جنبه، وحباه بحبه، وأقبل عليه بوجهه وقلبه، وجلس من جرى بالجلوس رسمه، وسما في الرءوس اسمه. ووقف لأمراء والحجاب، والعظماء والأصحاب، على مراتبهم في مواقفهم ودب للاعتزاز الاهتزاز في معاطفهم. وكان النادي مهيبا، والندى مجيبا، والذرا رحيبا، والقرى قريبا. والظل ممدودا والفضل مورودا. والحفل حافلا، والشمل شاملا، والبساط مقبلا، والنشاط مقبلا. والمرئي حاليا، والمروى عاليا. والمسموع مطربا، والمجموع مغربا. والمنظر والمخبر جليلا جميلا، والمطلع والمطلب منيرا منيلا. والمكان عليا، والزمان جليا. والربيع في انتهائه، والصنيع في اشتهائه، والمصيف في ابتدائه، والمضيف في انتدائه. والنعيم في نضرته والكريم في نصرته. والأريب في أربه، والطروب في طربه، والضريب من الخلق الحسن في ضربه.

وكانت أيام المشمش وقد وصلت من دمشق أحمالها، وحلت في تلك الحالة حالها، واقدم الجذل قدومها، وطلعت في أبراج الأطباق نجومها. كأنها كرات من التبر مصوغة، أو بالورس مصبوغة. صفر كأنها ثمار الرايات الناصرية حلا ذوقا، وأحل شوقا، ولو نظم جوهره لكان طوقا. وهو أحلى من السكر، واعبق من العبهر، وأحسن هيئة من النارنج الأحمر، والليمون المركب المدور، وقد زفت عروسه في الثوب المعصفر، والخمار المزعفر. كأنما خرط من الصندل، وخلط بالمندل. وجمد من الثلج والعسل، فهو الذي يضرب بضربه مثل الثمل، ويقضب من قضبه لقب القبل. ونظر ما نضر، وما حظر ما حضر. ورثى هناك لقطوفه قطاف، ولطوافيره طواف. ولعقوده مصارف، ولنقوده ضيارف. فكأنها وجوه العشاق اكتست اصفرارا، أو جمرات تشتعل نارا وتبدى شرارا، وقد أعاد لجينها صواغ القدرة الإلهية نضارا. بل هي أحداق الحدائق، وقلوب البوارق. ووجنات الجنات صبغها بلونه البرق، وصفرها من خوفه الرعد، ودورها بوقده الودق. لا بل اصفرت من مهابة الجنات الجناة، وانتظمت من جواهر الحيا للحياة، واضطرمت لهاها شوقا إلى فتح اللهاة. ثم صرفت الأطباق، ونظفت الآفاق. وبسط المكان، وسمط الخوان. ونبهت أجفان الجفان للقدور الرقود، وشبهت المراجل لغليانها بصدور ذوي الحقود. وتزيد مقال النشاشة، وتزينت مقار المقاري بالبشاشة. ومادت أعطاف الموائد بالألطاف، وتهادت اكناف السرادق بموشى الافواف. وهناك المسموط والمسلوخ، والمخطوب المطبوخ. والمقلو المقلوب، والمحبو المحبوب. والأغذية واللحمان، والأشوية والحملان، والألبان والألوان. والجوابي والروابي، والصواني والأواني. وقد صفت البوادر، وصفت الموارد. وتنوقت الطهاه، وتنوعت المشتهاه. وحلت الأطعمة، وعلت الأسنمة. وجاش جاش الجاشنكير الرابط، وعاش إخوان الخوانسلار الغابط. وتداولوا وتناولوا النوالات، والحوالات، والحلاوات والحالات. وكان يوما مشهودا، وحوضا مورودا، وروضا معهودا، ورواقا ممدودا، ورواءا مودودا، وجمعا مسعودا، وصنعا محمودا. ولما فرغت الموائد، وبلغت المقاصد احضر السلطان لعماد الدين هداياه وحياه بأحسن من تحاياه، من خيل صفون، وحصن كحصون. وعراب جياد من طرائف الطريفيات، وسوابق سوابح من العتاق الاعوجيات والمذاكي المنسوبات. من كل مطهم مطهر الخيم وكريم من نسل الكريم، وصافن صافي الأديم. ومعرب مقرب، ومجنب مكرب، وسكب مشذب، وفيض سلهب، وبحر جموم وطرف لهموم وسرحوب شيظم. ويعبوب صلدم. واجرد قوود. وضامر قيدود. وأقب نهد، وجواد ورد. ومسح رفل طمر. وأشق امق غمر. ومفرع طموح. وعتيق غير جموح. وهيكل

عال وعنجوج ذيال. فاختار منها كل طرف. قد حط من قدره إذا قوم بألف. من كل أشهب قرطاسي، وأشعل سوسني، وأغر صنابي. وأدهم غيهبي. وأحم أحوى. وأشقر مدمي. وأبرش مدثر، وكميت مضمر. وأخضر وأدبس، وسمند أغبس. ثم أحضر له ما يناسبها من التحف اللائقة، والطرف الرائقة، والعدد الرائعة، والأسلحة المانعة. والسابريات السابغات، والدروع والزرديات، والرؤوس والرانات. والخوذ والترائك، والبواتر البواتك. والدلاص الموضونة، والنصال المسنونة. ومن المستعملات المصرية الذهبية والحريرية. والملحم والدبيقي والمصمت والمغربي والعراقي. ومن نسج تونه وتنيس؛ كل ثمين ونفيس. وما شاكله من أنواع الطيب، على النمط والترتيب. ثم انصرف وعرف حمده متضرع، وعرف جده متنوع. وشدو شكره وعطف فخره مترنم مترنح، وأمره متحبر متربح، ووده مترج مترجح. ودعاؤه صالح، وثناؤه صادح. ولسانه داع، وجنانه واع، وعهده راع، وسعده ساع. وتصاحب هو والسلطان في الركوب والجلوس، والتناجي بما في النفوس والتدبر فيما يقدم ويؤخر ويقرر، ويورد ويصدر. وتكررت المشاورة في الموضع الذي يبدأ بقصده، ويوفي العزم فيها الجهاد حق جهده. واتفقوا على عرقا وعرقها وعقرها. والزول بعقرها. وإنها إذا ملكت ملكت طرابلس. وأسفر عن صبح فتحها الغلس، وأقام العسكر أياما على (قدس)، وبقبس النصر قد تأنس، ولسناء الظفر قد توجس. وأتى العرب، وواتى الأرب. واجتمعت الجيوش وجاشت الجموع، وآن لليل العزم المدلج من صبح النجح الطلوع، ونبعت الفيوض من النعم وفاض الينبوع، وأينعت ثمار وطابت الينوع. ثم رحلنا أول شهر ربيع الآخر إلى البقيعة تحت حصن الأكراد، وخيمنا على الربا والوهاد، وصوبنا إلى الجهاد هوادي الجياد، وأدنينا قطاف ألطاف الله لاجتناء الأجناد. وكانت الأعشاب بالشعاب واصية، والشوائب من المشارب قاصية، والقضب للقرب في طاعة الله عاصية. وطار الرعب، وثار العجم والعرب، وخاف الكفر، وطاف الذعر، وقال نفر الشرك نفر ولا نستقر. وتشوروا، وتشاوروا، وحاروا وتحاوروا. كأنهم في قبور حصونهم أموات، لا ترتفع لهم من الوهل والوله أصوات. واجمعنا على دخول بلد الساحل على التجريد للتجريب، وجوس خلال البعيد والقريب. ثم تجرد العسكر عن الأثقال، وتجزأ على أخذ أهبة القتال. وسار السلطان ومعه عماد الدين زنكي وسيفه بصقالة يضحك وبدم الكفر يبكي. (ومظفر الدين كوكبوري) وهو الذي حين يواري صارمه المشهور في نجيع العدا لزند الظفر يوري. وصحبه من فرسان العرب كل فارس معرب، ومن شجعان

الأكراد كل فاتك محرب. ومن فتاك الأتراك كل قسور قاسر، ومن صيد الصناديد كل كسروى كاسر. وكل كمى كميش، واكديش على اكديش. وقارح على قارح، وخضم على سابح، وجرى جار جارح. وبهمة وبطل، وجبل على جبل، وفحل على فحل، وذمر نكل. وورد على ورد، مرد على جرد. وحلس وحلبس، وباشر بالموت معبس. وأهيس اليس، وأحمى احمس. وغشمشم همام، وأيهم مقدام. وباسل ذي باس، وعاسل عاس. ورئبال على رئبال، ومشتمل على شمال. وبحر على بحر، وصقر على صقر. وركبوا اسلاهبهم، وجنبوا جنائبهم. وجروا على الساحل سيولا، وجروا بالذوابل ذيولا. وطارابليس طرابلس بخوافي لخوف، ودام الجوى في رعب أهلها بدم الجوف. وما سار إلا من خف في نهضته، ونهض بخفته. وأحس حصن الأكراد بالأكدار، وصفت على صافيثا بوارق البوار. وقطع عرق (عرقا) وعقرت، وتعرمت (العريمة) وتعرقت، ومزعت تلك الاعمال ومزقت، وارهقت وأزهقت. ونفرت انفارها، وبقرت ابقارها، وملئت بالدوائر ديارها. وسيقت مواشيها، وحشيت بالنيران أوساطها وحواشيها. ونزل السلطان على حصن يحمور فما قدروا يحمونه، وابتذل مصونة، واستخرج مكنونه. وفتحه ومتحه، ومساه بالدمار وصبحه. وأقام في تلك الديار عشرة أيام يجوسها ويدوسها، وقد حيزت له نفائسها ونفوسها. ثم رحل إلى مخيمه، وعاد العسكر مسرورا منصورا محبورا موفورا، قد اطلع من تلك البلاد على العورات، واضطلع بالغنائم من تلك الغارات، ونكأمنها في الأعمار والعمارات. وانقضى شهر ربيع الآخر، وذلك المرج يموج بالعساكر موج البحر الزاخر. وقد وصل قاضي جبله يحث على قصدها، ويحض على إنجاز وعدها، ويحرض على إعذاب وردها، ويحقق أن الظفر في هذه السنة يبتدئ من عندها. ويقول إن الاشتغال بطرابلس مع احترازها واحتراسها؛ وكثرة ناسها؛ وتدرعها بلباس باسها؛ واستعدادها للحصار، وتجنبها عن الاصحار؛ يذهب الزمان، ويفوت الإمكان. وهذه جبلة وما وراءها من المعاقل، قنيصة للحابل، وفرصة للمتناول، ولهنة للآكل، ونغية للناهل وأمنية للعاقل. فما دونها مانع، ولا عنها مدافع. وهي على غرتها وغرورها وغفلتها وفتورها؛ لم بفترع عذرة أمنها ذعر، ولم يفثأ سورة نفعها ضر، ولم يقر باب يسرها عسر. فإن سلكنا سبيلها، ملكنا سلسبيلها. وأن جزنا ساحتها، حزنا راحتها. وأن استقدنا ملكها ملكنا قيادها، وأن اعتدنا حواءها حوينا عتادها. وأن افتتحنا بها فتحناها. والمسلمون بجبلة مجبولون على التسليم مؤملون أن يتبدل شقاؤهم منكم بالنعيم فعرفناه بصحة نصحه، ورفعناه بحجة نجحه. وأصغى السلطان إلى قوله،

وأصغى له ورد طوله، وأقبل عليه وقبله، وأجزل له العطاء وأكمله. وكان قد وصل له مقدمو جبل بهرا، فوفر لهم رواتبهم وأجرى. وخلع عليهم وشرفهم، وأسعدهم بالمواهب وأسعفهم. فندبوا إلى أتباعهم، وكتبوا إلى أشياعهم. وأجمع السلطان على دخول الساحل بتلك العساكر والجحافل. ورحل يوم الجمعة رابع جمادى الاول، حافل الجحفل سامي القسطل. ماضي المنصل. فسرنا في آجام مؤتشبة، وآكام معشبة. وحزون وسهول، وشعاب وتلول. ومعالم ومجاهل، رواب وهواجل. ومغايض وغياض، وارتفاع وانخفاض. حتى خرجنا إلى ساحة الساحل، ونزلنا بها ومبارك مبارنا مواحي رسوم تلك النواحي المواحل. ومعنا أحمال واوساق وأثقال وأسواق. وأزواد وإمداد، وعدد وإعداد. والخيل عرموم، والسيل عرم. والمجر لجب، والغيل أشب، والأسد في عريس من الاسل العراص، والفوارس الصلاد في غدران من السوابغ الدلاص، وقد نشأ العجاج كعجاج النشاص. فانحلت بحلولنا معاقد المعاقل، واعتلت باستيلاء فحولنا عقائد العقائل. وحلت لخطبة سيوفنا كرائم الحوالي والعواطل. ونحن في استباحة واستباء واصطلام واصطلاء، وارتياد وارتياء، وفتك بأعداء، وسفك لدماء. وبتك لرقاب ذوي الفجور، وهتك لحجاب ذوات الخدور. ننال من العدو كل نيل، وندير عليه في داره دائرة كل ويل. فما نقطع إلا واديا يغيظ الكفار، ولا نحضر الا ناديا نزيدهم به الدمار. وسرنا الساحل الساحل، في ثلاث مراحل. حتى وصلنا إلى انطوطوس يوم الأحد سادس الشهر. فأحدقنا بها من البحر إلى البحر. وزحف إليها الناس، وحفز عليها الباس، وخاب رجاء رجالها وخب نحوها الياس. وقاتلناها ساعة، فلم يجد أهلها للدفاع استطاعة. ودخلت من جوانبها، وتخللت من مذاهبها، وأصابتها نوائبها، ونابتها مصائبها، وفل غربها وجب غاربها. وقتل من لحق من رجالها، ونهب ما وجد من أموالها، ونقل ما صودف من غلالها، وسبى من أخذ من نسائها وأطفالها. واعتصم من نجا ببرجين اعتصما بالامتناع، وهما هناك من أحكم القلاع. وفي أحدهما الداوية جمرة الكفر، ومعهم مقدمهم الذي أطلق من الأسر. وفي البرج الآخر المنهزمون الناجون، والفارون إليه اللاجون. فنزل على هذا البرج مظفر الدين بن زين الدين، فأبدى لمن استتر فيه وجه التأمين، وحركهم إلى الخروج بالتسكين. ووثقوا بأمانه وأمنوا بميثاقه، ومكن كل منهم لسلاكته من تسلم مكانه. فلما ظفر مظفر الدين بالبرج هدمه وهده، وحل من أحكامه ما الكفر شده. وركب النقب على ركنه العالي، ونكبه في ذلك اليوم بما تنكبت عنه نواكب الليالي. وخرب إلى أساسه سوره، ورمى إلى البحر صخوره. وامتنع برج الداوية لدائها الدوى، واتبع مردتهم في التمرد هوى طاغوتهم الهوى. وأقام العسكر حتى نقض أسوار انطرطوس وقوضها، وربضنا بها إلى أن عفينا ربضها.

ولما امتنع البرج تركناه، وما كانت فيه فرصة لو أدركناه. وكيف كنا نشتغل بفتح برج عن فتح البلاد، وللفرص أوقات هي لها بالمرصاد، ومن يسلك الجدد اللاحب لا يعرج على بنيات الطرق، ولا يستغنى مدلج الليل بالداراري عن الفلق. ورحلنا عنها رابع عشر الشهر، شاهرين على الأعداء سيوف القهر. ونزلنا على مرقية وقد خلت من أهلها وتخلت، وتشعشعت عمارتها واختلت. وكان جوازنا إلى جبلة على الساحل تحت حصن المرقب، وهو معقل للاسبتارية عالي المنكب، سامي المرقى والمرقب، ضيق المذهب، عسر المطلب. فلم يكن بد من عبور ذلك المضيق، وسلوك تلك الطريق. وقد صفت الفرنج في البحر المراكب، وسدوا المذاهب، وردوا الراجل والراكب. وفوقوا الجرخ للجرح، وسددوا الزنبورك للقرح والطرح. فعثر العبور، وكثر العثور. وامتنع الجواز، ووجب الاحتراز، واعوز الظهور وظهر الاعواز. وذلك أن صاحب صقلية؛ رام أن يكشف عن الفرنج البلية. فجهز أسطولا بجهازه مستطيلا، وحمله من عدد القتال وعدد الرجال عبثا ثقيلا، واتفق وصوله في تلك الأيام في ستين قطعة، تحسب كل واحدة منها قلعة أو تلعة. من كل شيني من شأنه شن الغارة، ومن عادته العادية تشيعت العمارة. مع طاغية يقال له المرغريط، قد عرف منه التوريط، من أرجس الطواغيت، وأنجس العفاريت. فوصل إلى طرابلس بطوله وأسطوله وصولة وصوله. فما أحلى ولا أمر، ولا نفع ولا ضر، ولا استقل ولا استقر. ولا نقض ولا أمر. بل صار على الفرنج وبالا، وأحدث لهم بما يسومهم من مئونته إمحالا، وما خفف عنهم بل زادهم على الثقل أثقالا، ووجد الكفر في أوان توانيه، فلم ينتفع ولم يرتفع شأن شوانيه. وصار إلى صور ثم رجع إلى طرابلس، وتردد في البحر وتلدد وأبلس. وتفرقت جماعته، وتجنبت شجاعته. واضطرب في البحر اشتهرا، لا يظهر له رأى ولا يرى له مظهرا فتقطعت اقطاعه، وتتابعت في الفرا اتباعه. حتى عاد في عدة يسيرة، وشدة عسيرة. وكان هذا الطاغية قد حضر يوم عبورنا تحت المرقب بمراكبه، مصفوفة في البحر من جوانبه. قد ضيق الطريق، ولم يطرق المضيق، فأمر السلطان يحمل الجفاتي إلى هناك وتصقيفها، والستائر وتأليفها، والتراس وترصيفها، وأقعد من ورائها على مقابلة سفن القوم وازائها؛ الكماة النخية، والرماة الجرخية. حتى تباعدت تلك السفن، ودب اليها الوهن، وتمت عليها المحن، وأنحت الإحن. ورحل العسكر فعبر آمنا وأمن عابرا، وسار ظاهرا وظهر سائرا. وجزنا على مدينة يقال لها بلنياس، وقد أجفل عنها الناس. ونزلنا على أرضها، وخمينا في طولها وعرضها، وأنسنا بنهرها وزهرها غب الارواء والرواء، وحسبنا على نواظر رياضها نواظر الارتضاء. وبتنا ونفحات النادي

ذكر فتح جبيل

مريضة. وجنبات الوادي مريضة. والنسيم العليل بليل، والعزم الصحيح دليل، ورسم العدو محيل، ولقدح الفوز من تأييد الله لنا مجيل. وأصبحنا على الرحيل مبكرين، فساء صباح المنذرين. وسرنا وسرنا في سرور، وسفرنا في سفور. وجمعنا في اجتماع، وجدنا في ارتفاع، ونهجنا في اتساع، وركننا في امتناع. وعارضنا نهر عريض عميق، ما فيه طريق. وهو مطرد من الجبل إلى البحر، فازدحم العسكر عند ذلك النهر، وتواقعت الأحمال والأثقال عند العبر، وليس عليه إلا قنطرة واحدة فتصادموا على ذلك الجسر. وسار السلطان من فوق على سفح الجبل وعبر، واسابع من عسكره بعد الزمر الزمر. ونزل عشية الخميس على بلدة. وعانت الأثقال من تخلصها من الشدة الشدة. وتكامل نزولها حين انتصف الليل، ووصل إلى القرار السيل. وهذه بلدة كاسمها بلدة على شاطئ هذا النهر، وساحل البحر حصينة البناء، مصونة الفناء. قد حصنها الاسبتار، وحسنها الاستظهار. وقطعوا عنها سلوك الطرق، بتعميق ذلك النهر المخترق. وألفينا بلدة أيضا خاوية على العروش، حاوية للوحوش. خالية من الأنس والإنس، (كأن لم تعن بالأمس). وقد انزعج أهلها، وتشت شملها. وتخوف آمنوها، وعدم السكون ساكنوها. ذكر فتح جبيل وأشرفنا على جبلة يوم الجمعة ثامن عشر الشهر، وقد اشتهر موسم النصر، وأشتد على الكفر رهق القهر. وكان قاضي جبلة قد تقدم في السابقة وسبق في المقدمة، وأقدم على قصدها بالعزيمة المصممة. فلما بصر مسلمو البلد؛ بما وضح في الجد من الجدد؛ وسنح من الظفر المتضافر المدد؛ خرجوا مستسلمين مسلمين، ومستمسكين بعز الإسلام معتصمين. وعلت على السور الرايات الناصرية المنصورة، والتهجت بحمد الله الألسن الشاكرة وابتهجت القلوب المحبورة. وتحصن الكفرة من الحين، ولجؤا في التحين إلى الحصنين، فمن لاذ بالحصن الذي المينا، قال إنه بحصانته يحمينا. وعاد معظمهم الأكثر، بحصن البلد وهو المعقل الأكبر، وتوسط لهم قاضي جبلة في أخذ الأمان بعد قبض الرهائن. على أن يعيدوا من استرهنوه في إنطاكية من أهله ويجمعوا شملهم بشمله. ويسلموا إلينا كل ما لهم من سلاح وعدة، وخيل وذخيرة وغلة. وتسلمنا الحصنين يوم الخميس، وعادوا مأهولين من الإسلام بالأنيس، وكرمت بالكرام جبلة جبلة، ونفت عنها بالفئة المقبلة الشقية المختبلة. وسعد أهلها بعد الشقاء، وتعوضوا من الشدة بالرخاء، وأفضى اليأس بهم إلى الرجاء، وفاءوا إلى الوفاء.

ذكر فتح اللاذقية

وانتقل أهل الجبل إلى جبلة طائعين بعد العصيان، مصافحين بالمصافاة بالأيمان أهل الايمان. وكان حصن بكسراييل قد تسلم من قبل واتصل بفتحه الجبل، فرتب فيه من حكم على ذلك الجانب وأهله، وكانوا لقاضي جبلة مذعنين، بإيمانه مؤمنين، ولدعائه ملبين، ولبقائه محبين. ونجوا من العار والتبار، وضيم الكفار، وتناجوا بالاستبصار والاستنصار، والاستغفار والاستنفار، وآضت تلك الولاية لإحسانها والية، وتلك الناحية على سكانها حانية، وتلك المدينة لأهل الدين دائنة دانية، وتلك الجنة العذبة الجنى لورد دم الجناة من شوك القناجانية. وتلك البنية لمعالم المعالي في هدم أساس الإساءة بانية، وتلك الهضبة راسية، والتربة كاسية، والرتبة سامية، والربوة رابية، والذروة عالية، والحالة حالية. وأقام السلطان بها أياما حتى أزال شعثها، وأزاح خبثها، ورأب صدعها، ورب ربعها، وشاد ركنها، وشد حصنها، وجب كفرها، وجبر كسرها، وجد بها جدبها، وخص بها خصبها. وبالعدل عمرها، وبالفضل غمرها. وبالرعاية ملأها، وللرعية كلأها. وبجل قاضي جبلة وشرفه، وحبس عليه ملكا نفيسا ووقفه، وصرفه في أملاك آبائه، وحكمه في ولاية حكمه وقضائه. ذكر فتح اللاذقية ورحل ثالث عشري الشهر يوم الأربعاء، منشور اللواء، منصور الأولياء، ومشكور المضاء، عالي القدر قادر العلاء. ناجح الآراب راجح الآراء. وسار برعب إلى العدو يقدمه، وعزم على الغزو يصممه، وأمر بأمراء الأحكام يحكمه. وجد على تدبير الدين يقفه، وحد في تدمير الماردين يرهفه. وسعادة تؤيده، وتأييد من الله يسعده. وسطوة على الكفار يرسلها، وجذوة في أهل النار يشعلها. وجيش للوثبات ينشطه، وجأش للثبات يربطه. وهيبة تروع الخواطر، وهيئة تروق النواظر. وبتنا تلك الليلة بالقرب من اللاذقية معرسين، وبات الكفرة مبلسين. قد لاذوا من حصن اللاذقية بجبل عاصم، وعروة كل قلب لهم من الرعب في يد فاصم. والخوف عليهم مستول، والذعر فيهم مستعل. والأفئدة منهم خافقة، والأندية بهم متضايقة، والمهج في سوق الردى نافقة. ونحن طول الليل من السوابغ في جر الذيل، ومن السوابق في إجراء الخيل. ومن نشاط العزم في اهتزاز، ومن احتياط الحزم في احتزاز. ومن انتخاب الاجواد والجياد في انتخاء، ومن انتقاد العتاق والرقاق في انتقاء، ومن انتهاض الرياح بالهواضب في انتهاء، ومن اقتضاب الأرواح بالقواضب في اقتضاء، والمقربات تسرج والسريجيات تقرب، والمقانب تكتب والكتائب تقنب. والصوارم تنتضي، والصرائم تقتضي. والقوارح تضمر، والقرائح تخمر. والضوامر تجري،

والبواتر تعرى. والصلاد تلجم، والدلاص تستلأم. والحنايا توتر، والمنايا تؤثر. والجاليشية تعبى، والجاووشية تلبي حتى أصبحنا يوم الخميس والخميس مصبح، والمتجر مربح، والمفخر متوضح، وللجاش فرح، وللجيش مرح وقرح، والعدو مقترح، وزند الفتح مقتدح، وباب السماء لنزول ملائكة النصر مفتتح. وأحدقنا بالقلاع وقلعنا الأحداق، وخطنا بابر السهام من موقها الآماق، وأخرجنا منهم بالإرهاق الارماق، وأنهضنا إليها الحجار والنقاب والزراق. وأطرنا النشاب إلى أوكار المقل، وأزرناهم رسل النصال بكتاب الأجل، وسمعنا من ضوضائهم زجل الوجل، ورأيناهم تغلي صدورهم بنار الحقود مراجل الغلل، وأشرفوا من الشراريف قلقين متقلقلين ما بين تلك القلل. وجدوا في القتال، وشدوا على الرجال، ومدوا ظلال الضلال، واحتدوا بالنصال في النضال، وردوا النبال بالنبال، وسدوا مذاهب الأهواء بالأهوال. وهناك في الزنبورك بورك، فإنه بالجرخ دورك، وقلنا للكفر أخرج لندخل إلى دورك، وأي دار فيها التوحيد بأهل الشرك شورك، وطالما سكنت دارنا فاخرج، ودرجت إليها فادرج. وما زلنا نقاتلهم بسوادنا بياض النهار، ونغطي سنى يومنا بليل الغبار، ونرفع من السور حجابه بالحجار، حتى فزنا بتمكن النقاب والحجار، وأخذت عليهم النقوب، ووقذت منهم القلوب. وبلغ النقب من الشمال في الطول ستين ذراعا، وأربع أذرع في العرض اتساعا. وهي ثلاث قلاع متلاصقات، على طول التل متناسقات. كأنهن على رأس راس راسخ، وذروة أشم شامخ. فسهل الله لنا فرعها، وشرعنا نستأصل أصلها وفرعها. وناوبنا عليه القتال، وجاوبنا بالنصال، واوضعت بنات الكنائن بظغائن الضغائن، وأثارت من مكامن الأحقاد كوامن الدفائن. ودام الرماء، ومريت الدماء. وانتجع النجيع، ووقع ذلك الرفيع، فاستبطئ السريع، وتخطى الصريع. وابصروا ما لا عهد لهم بمثله، وعاينوا ما عانوه من غريم الموت المطل في مطله. وفتح الحتف بابه، وحفز الزحف أصحابه، وكشر الشرك نابه، وصادف الكفر لدمه المطلول مصبه ومصابه. ونفر الناس إليهم، واستطالوا عليهم. وطمعوا فيهم، والأجل يظهرهم والوجل يخفيهم. وهم من وراء أسوارهم، بواء في بوارهم. ووبل النبل هام، وأهل الجهد في ضراب وضرام، وجمر الجمع في التهاب والتهام. ووقع منهم الزمع، ومنا فيهم الطمع، ومنا فيهم الطمع. حتى ازدحم على التل الصغار والكبار، واستشعروا منا وزال منا الاستشعار. وكان لي مملوك صغير قد زحف، وأرهق وارهف، فقبل خده سهم، فرجع وإذا وجهه طلق لا جهم، وهو بقرحه فرح، وللفرح بالشهادة مقترح، وقد عدله الجرح، وحسنه القبح. فلما عرفوا أنهم مدركون؛ وأنهم يؤخذون ولا يتركون؛ صاحوا الأمان؛ واسماحوا الأيمان. وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من جمادى الأولى عشية،

وكان فتح ذلك المعقل من الله مشية. فإنه موضع ما فيه مكمع، ولم يكن للكفر غيره مفزع. وصعد إليهم قاضي جبلة يوم السبت غدوة، وكان ذلك الفتح صلحا أشبه عنوة. وطلع السنجق المنصور، وانجلت الظلمة وتجلى النور، وأشرق الفلق وزهق الديجور، وبدأ الفجر وباد الفجور، وسرت القلوب وأقبل السرور. وسلموا القلاع بما فيها من عدة وذخيرة، وأسلحة وخيل ودواب كثيرة. وأمنوا على أنفسهم وأموالهم، وانصرفوا بنسائهم ورجالهم، وذريتهم وأطفالهم، وخفوا من أثقالهم. ودخل جماعة منهم في عقد الذمة، تمسكوا بحبل العصمة. وانتقل الباقون إلى إنطاكية، وأيقنوا أنهم وجدوا بعد رسوم السلامة العافية العافية. ورتب السلطان جماعة من خواص مماليكه، وأخرج من القلاع أهل الكفر واسكنها التوحيد مصونا من الإشراك وتشريكه، ثم ولى بها سنقر الخلاطي مملوكه، وقد عرف حسن سيرته وأحمد سلوكه. فتولى الرعية كافة بالرعاية والكفاية، وانتهى إلى الغاية في نهى اولى الغواية، وأقام جاليا للغاية، عالي الرأي والراية. وركب السلطان إلى البلد وطافه، وهز إلى إحسانه اعطافه، وأدنى إلى عدله قطافه، ووفر ألطافه، وأصفى نطافه، وأمنه بعد ما أخافه. ورأيتها بلدة واسعة الأفنية، جامعة الأبنية. متناسبة المعاني، متناسقة المغاني، قريبة المجاني، رحيبة المواني. في كل داربستان، وفي كل قطر بنيان، وقد أبى الله أن يكون للكفرة منها جنان. أمكنتها مخرمة، وأروقتها مرخمة، وعقودها محكمة، ومعالمها معلمة، ودعائمها منظمة، ومساكنها مهندسة مهندمة، وأماكنها ممكنة، ومحاسنها مبينة، ومراتبها معينة. وسقوفها عالية، وقطوفها دانية. وأسواقها فضية، وآفاقها مضية، ومطالعها مشرقة، ومرابعها مونقة. وأرجاؤها فسيحة، وتهواؤها صحيحة. لكن العسكر شعث عمارتها، وأذهب نضارتها، وأزعج ساكنيها، وأخرج قاطنيها. وملك دور المشركين للموحدين، وطهرها من رجس الكفر واظهر الدين. ووقع من عدة من الأمراء الزحام على الرخام، ونقلوا منه أحمالا إلى منازلهم بالشام. فشوهوا وجوه الأماكن، ومحوا سني المحاسن. وبظاهر اللاذقية كنيسة عظيمة، نفيسة قديمة، بأجزاء الاجزاع مرصعة، وبألوان الرخام مجزعة، وأجناس تصاويرها متنوعة، وأصول تماثيلها متفرعة. وهي متوازية الزوايا، متوازنة البنايا. قد تخيرت بها أشبح الأشباه، وصورت فيها أمواج الأمواه، وزينت لإخوان الشيطان، وعينت لعبدة الصلبان. ولما دخلها الناس اخرجوا رخامها، وشوهوا أعلامها، وحسروا لثامها، وكسروا أجرامها، وأهدوا الأسى لهد أساسها، وأفاضوا عليها لباس ابلاسها، وحكموا بعد

الغنى بإفلاسها. وافتقرت واقترت، وخربت وتربت. ثم لما طابت النفوس؛ وتجلى عن البلد بفتحه البوس؛ عاد إلى هذه الكنيسة بالأمان القسوس؛ وهي متشوهة متشعثة، مستمسكة بأركانها وقواعدها متشبثة. ولقد كثر أشفى على تلك العمارات كيف زالت، وعلى تلك الحالات الحاليات كيف حالت، ولكنما زاد سروري بأنها عادت للإسلام مرابع، ولسروحه مراتع، ولجموعه مجامع، ولشموسه مكالع. فلو بقيت بحليتها وحالتها بعد ما تبدلت رشدها من ضلالتها، لشاقت وراقت، وكما أفاقت فاقت. وشأت البلاد إذا شاءت، لكنها ساءت لما أساءت. ثم أعادها الإسلام إلى أحسن حالة، وجلا لها في السناء اسنى جلالة. ورغب في إعطاء الجزية سكان البلد من النصارى والأرمن، حبا للوطن وسكونا إلى السكن. فآض مأمول الجنى مأهول الجناب، وعاد بتجار البحار مملوء الرحاب. وتبدل بالابدال الأخيار، والأرباب الأبرار، من بعد الكفار الفجار، والأشرار أهل النار. وكانت شواني صقلية قد قابلت في البحر اللاذقية طمعا في امتناعها، وطلبا لذيادها عنها ودفاعها. فلما خابت نارها، وباخ اوراها، وقصدت لجلها اخذ مركب من يخرج من أهلها، لكونهم شغلوا عن صونها ببذلها. فامتنعوا عن الانتقال، وأمنوا بعقد الذمة على النفس والمال. وكان السلطان يوم الرحيل من اللاذقية راكبا عند ميناها، وقد حصل من ترتيب العمارة مناها. فطلب مقدم تلك الشواني أمانه، ليصعد ويشاهد سلطانه، فأمنه حتى صعد، ولو اسلم ذلك الشقي لقلت سعد. ولما حضر الكافر عفر وكفر، وتروى ساعة وتفكر. وأحضرها الترجمان، وأدى عنه البيان وقال أنت سلطان عظيم، وملك كريم، وملك رحيم. وقد شاع عدلك، وذاع فضلك، وقهر سلطانك، وظهر إحسانك. فلو مننت على هذه الطائفة الخائفة فأمنت؛ أفضلت عليها وأحسنت؛ لملكت قيادها إذا أعدت بلادها. وساروا لك عبيدا، وأطاعوك قريبا وبعيدا. وأن أبيت غير الغيرة والإباء، ودمت على إرهاق الدهماء وإهراق الدماء؛ جاء من وراء السبعة البحار من يسد فضاء السبع الطباق، وأفاق للتناصر على دفع هذا الخطب نصارى الآفاق. وثار الروم لروم الثار، وخرج الفرنج أنفارا للاستنفار وسار ملوك ذوي الاقانيم، من سائر الممالك والأقاليم. وأتى الآتي، ولا يقاوم القدر الماتي. وهؤلاء أهون منهم، فاتركهم واصفح عنهم. فقال السلطان قد أمرنا الله بتمهيد الأرض، ونحن قائمون في طاعته بالفرض. وعلينا الاجتهاد في الجهاد، وامتثال أمره فيه بالانقياد، وهو الذي يقدرنا على فتح البلاد، ولا تكترث الآساء بكثرة النقاد، ولو اجتمع أهل الأرض، ذات الطول والعرض، لتوكلنا على الله في اللقاء، ولم نبال بأعداد الأعداء. فلما سمع ما فهمه من نجهه، ذهب بعد أن صلب على وجهه، وركب بكربه، وكر بركبه، ولم يغن خطابه عن خطبه.

ذكر فتح حصن صهيون

ذكر فتح حصن صهيون ورحلنا ظهر يوم الأحد السابع والعشرين من جمادي، والهدى في نصره بين أنصاره يتهادى، وقد تيقنا أن الفتح لا يتمادى، وأن العزم عن الفداء بالمهج في سبيل الله لا يتفادى. وأخنا على سمت صهيون، وهو حصن بفوق الحصون. ويفوت العيون، وطلبناه كما يطلب الدائن المديون، ونحن للكفر مميتون، وللإسلام محيون. وكان الطريق إليه في أودية وشعاب، ومنفذ صعاب، ومضايق غير رحاب. وأوعاث وأوعار، وأنجاد وأغوار. وقطعنا تلك الطرق في يومين، ووصلنا ليلة الثلاثاء بليلة الاثنين، وخيمنا على صهيون يوم الثلاثاء التاسع والعشرين، ورزقنا الله التأييد والتمكين. وهي قلعة على ذروة جبل في مجتمع وأدين، بها محيطين من جانبين. والجانب الجبلي قد قطع بخندق عميق، وسور وثيق. والقلعة ذات أسوار خمسة كأنها خمس هضاب، بذئاب سغاب، وأسد غضاب. وأحاط العسكر بها يوم الأربعاء من نواحيها الأربع، وهي ممتنعة علينا بالركن الأمنع، والسمو الأمتع. ونقل السلطان خيمته إلى جانب الجبل بكرة اليوم، وشرع في محاصرة الفوم، وقامت أسواق الأقواس للمنون في مغالاة السوم. وتوفرت سهام لبسهام من المقل، وتبدت بنات الكائن من الدم القاني حمر الحلل. وأسقطت حوامل المنجنيقات أجنة الصخور، وكشفت صدور الكنانيات أكنة الصدور، وظهر سر السراء، وكثر مراء الرماء. وزخر دأماء الدماء. وطارت الحجارات وحجرت الطيارت. ودارت حميا الحمام على أولئك، واستنجدت ملوكنا الملائك، وأدامت إليهم المجانيق والجروخ والقسي الرمي المتدارك. وأقام الملك الظاهر غازي صاحب حلب منجنيقين، ونهج بهما من جانب الوادي إلى ردى الأعادي طريقين. وكان له في فتح هذه القلعة الجد العالي، والجد الوالي. والعزم الماضي، والحزم القاضي. والسعي الناجح، والرأي الراجح. والبأس البالغ، والسطو الدامغ. فإنه أتصل بنا قبل الوصول إلى جبلة من طريق حماه، وقد استصحب الكماة الحماة. ومعه الرجال الحلبية، والمنجنيقية والجرخية، والجاندارية والخراسانية. فأظهر على صهيون اليد البيضاء، وكسب الذكر والثناء، وأنار فضاء الفضائل وأضاء. ودام القتال على المكان من جانبه ومن جانب السلطان. والملك الظاهر في تظاهر ملكه. وتضافر سلكه، وريعان إقباله، وعنفوان جلاله، وشباب رهان مجاراته، وشبا رهان مباراته، وإيراق عوده، وإشراق سعوده، وغرة عزته، وميعة منعته، وصدر تصدره، وشرخ تأمره وتشمره. وقد وصل في أول نشاطه، ونشوء اغتباطه، وفتاء فتوته، ورواء رويته. وارتقاء ارتفاعه، وإيفاع يفاعه. وترعرع سنه، وتعرعر ركنه، وتسامى سيادته، وتراقي سعادته. وأجد لعز العزم الجد، وأعد لري الرأي العد. واستلذ في سبيل الله

ذكر فتح الحصون المذكورة والرحيل

نصبه، ورفع المنجنيق ونصبه، وجعل لرجاله نوبا، ولأحواله رتبا، وألقم أفواه كفاته حجرا، وأجرى في الحق من الحجارات الجاريات من منابعه نهرا، ورجم الحصن الزاني رجم المحصن، وأحسن إلى الإسلام وأساء إلى الكفر فلله در المسيء المحسن. وما زالت المجانيق من جانبه وجانبنا ترمى؛ والحنايا بسهام المنايا تصمر؛ حتى قتلت مقاتلة الحصن، وهان بما دب فيه من الوهن. وأصبحنا بكرة يوم الجمعة جمادى الآخرة، وطما بحر العسكر بأمواجه الزاخرة، وازدحم الناس في الزحف كأنهم في الحشر بالساهرة. وهاج الشباب، وماج العباب. وتسابق ذوو الجرأة والقوة، وتلاحق ذوو الحمية والنخوة. وكان في قرنة الخندق عند خرقه إلى الوادي موضع لم يكمل تعميقه، ولم يتم توثيقه. فتطرقوا من تلك القرنة إلى القنة. وتسوروا السور وتسلقوا، وتقلعوا إلى القلعة وتعلقوا. وتملكوا الذروة وأمسكوا العروة. واستولى على أهلها الرعب، واستشرى بهم الكرب، فتعادوا إلى القلة، وتفادوا من الخوف لا من القلة. وملكت عليهم ثلاثة أسوار، بما فيها من متاع وشوار، ونعم وابقار، وصاحوا: الأمان! وبذلوا الإذعان. ونادوا، مكنونا من السلامة، وتسلموا المكان!. فما أمنوا على المال والنفس، حتى قررنا عليهم مثل قطيعة القدس. وأغلقت دونهم الأبواب. وسير إليهم النواب. وما استقر خروجهم حتى استخرج منهم القرار. وجبى الدرهم والدينار، وعم الكبار والصغار الصغار. وتولى ذلك (شجاع الدين طغرل الجاندار). ثم سلم حصن صهيون بجميع اعماله؛ وسائر ما حواه من ذخائره وأمواله؛ إلى الأمير (ناصر الدين منكورس بن خمارتكين)، أسد العرين وأمير المجاهدين. المقدام الهمام، والمطعان المطعام. فالتقى الثغر سداده بسداده، وامرع به مراد مراده. ذكر فتح الحصون المذكورة والرحيل وتسلم يوم السبت قلعة العيذو. ويوم الأحد قلعة الجماهريين. ويوم الاثنين حصن بلاطنس. وندب إلى كل حصن من تسلمه، وسلكه في سلك الفتوح ونظمه. ذكر فتح حصني بكاس والشغر وسار السلطان ثاني يوم فتح صهيون على سمت القرشية، ومشية الله جارية على موافقة ما له من المشية. ونزل على (العاصي) في طاعة الله والنصر قد نزل؛ والكفر قد انخذل؛ يوم الثلاثاء سادس الشهر، ويحور السوابح في غدران السوابغ مائجة على ذلك النهر، وحكم السلطان في القهر ماض بأذن الله على الدهر. وتسلم حصن بكاس يوم الجمعة تاسع الشهر المذكور، وشكا الشرك نكاية حد

بأسنا المشكور. وحول خيمة خفيفة إلى الجبل لحصار قلعة الشغر، وهي قلة شامخة من أعلى القلل على هضبة منقطعة، عالية مرتفعة. ومن نواحيها واد، خاف من العمق غير باد، في أعماق ووهاد. وقد قطعت من الجبل حتى اتصل بالوادي خندقها، وأخذ من العوادي موثقها. فما إليها طريق ولا عليها طروق، ولا فيها للطمع علوق، ولا للسهم إليها مروق. ولا للزحف فيها مطمع، ولا للذر نحوها مطلع. ولا للطير في مراحها وكر، ولا للمكر في افتتاحها مكر. ولا للوهم في توقلها مجال، ولا للفهم من تصورها منال، ولا لها بمن يحتفل بها احتفال، وما عليها للنازلين عليها قتال ولا نزال، ولا يتغير مع تغير الأحوال حال. وصعب شغل الشفر واشتغل فكر الكفر. ولم ير السلطان طريقا غير الرمي من المنجنيق، لعله ينال جمعها بالتفريق. وداومها بالحجارات اياما، ولكم سدد بها مرمى ومراما. ولم تعبأ بأعبائها، فإنها ترامت عن رمائها. وأبت إلا ثباتها، وأْعياد إعضال دائها، واستفحال بلائها، وخام الرجاء بالأرجاء عن أرجائها. ولو لم يضجر حاميها لضجر راميها، وسئم سائمها لتساميها. ولكنه وهي جلده؛ وهوى خلده، وخار قلبه، وحار لبه، وخاف من الإقامة، وخاب من السلامة. وارتاح إلى الراحة، وسما إلى السماحة. وعاج إلى الانزعاج، وعاد لداء خوفه في الاستئمان يطلب العلاج. ودعا إلى الدعة، والخروج من الضيق إلى السعة. فبينما نحن في ترو وتفكر؛ وتخير للرأي وتدبر؛ ونقول: هذا حصر يشتد وأمر يمتد؛ وعمل يصعب، وأمل؛ يتعب؛ ومعقل لا يختل، ومعقد لا يحتل؛ ومقصد لا يدرك؛ ومورد لا يملك؛ ومكان لا إمكان لفتحه؛ ورجاء يطول الزمان في تطلب نجحه؛ إذ خرج من الحصن؛ من يضرع في الأمان ويمتري ضرع الأمن. فشكرنا الله على تسهيل المتوعر، وتيسير المتعسر، وتحصيل المتعذر، وتلقيح الرجاء من الياس، وتنقيح مناط حكم الصحة عند اضطراب علة القياس. وكان ذلك ثالث عشر الشهر يوم الثلاثاء، وسألوا في مهلة أيام والأرجاء، ليخبروا صاحب إنطاكية ويستأذنوه، ويبلوا عنده العذر ويخرجوا من الحصن ويسلموه. فأصبحنا يوم الجمعة وصباح الجمع مسفر، وجناب الشرك مقفر. والشغر شاغر، والكفر صاغر، وفم القهر منا لهم فاغر، والإسلام قد ثلم ثغر من هو له مثاغر. والحصن البكر مفترع، والدين المتأصل بشعب النصر متفرع. وطلع العلم إلى ذلك العلم الطالع، وانتقم الهدى الضليع من الضلال الظالع. وكأنما عذبات تلك الراة مقاول الداعين، وكأنما أبراج تلك القلعة مسامع الواعين. وعاد الحصن آهلا بأهل الإحصان، وصافح بأيدي الأيد إيمان ذوي الإيمان. فابتسم عن النصر ثغر الثغر، وفرغ القلب من شغل الشغر. وسلم هو وحصن بكاس، إلى (غرس الدين قليج الساقي) - عدوه الموت - بكاس الباس.

ذكر فتح حصن برزيه

وانتقل السلطان يوم السبت إلى مخيمه، والإقبال جائم في مجثمه. وسرى ولده الملك الظاهر إلى علقة سرمانية، وارهق فيها الفجرة الجانية، واستطلق منها العانية، وقطف مجانيها الدانية، وأخلى مغانيها الغانية. وما قطع قرارها حتى قرر عليها قطيعة، وكلفها ما كانت له من المال مستطيعة، ولم تزل عاصية فصارت كرها مطيعة. ثم خربها حتى خر بها عاليها، وعطل حاليها، وانجلى ثاويها، وانتأى جاليها. وبقيت دمنة دائرة، ودمية عاثرة. ورسما عافيا، ورقما خافيا، وربعا باليا، وصقعا خاليا. وعادت دارا دارسة، مستوحشة بعد أن كانت آنسة، وكان فتحها في يوم الجمعة الثالث والعشرين، فأخلى الله من السباع الضواري ذلك العرين. ومن نوادر ألطاف الله تيسير هذه الفتوحات الخمسة المتتالية، في أيام الجمع الخمس المتوالية. باء فيها لنصر أهل الجمعة بذل أهل السبت أهل الأحد. وأصبح التوحيد على التأنيث قاهر الأيد، ظاهر اليد. ذكر فتح حصن برزيه وسرنا إلى قلعة برزيه وسرنا سار، ودر الظفر لنا دار. وهي أحصن القلاع وأفرعها، وأحسن التلاع وأرفعها، وأسمق الرواسي وأسماها، وأسنم الرواسخ وأسناها. وكان السلطان سبق إليها وأشرف عليها. ثم استدعى الثقل واستحضر، وجمع بالفضاء تحتها العسكر. وذلك رابع عشري الشهر يوم السبت، وقد تهيأت في العدو أسباب الكبوة والكبت. ثم تجرد يوم الأحد في العدد والعدد. ورقى إلى الجبل، مع أبطاله النبل. فرأيناها قلعة شماء في الذرا، لا تكاد من سموها ترى. وهي على سن من الجبل عال مترامية في السماء ارتفاعا، وقيل قدر علو ثلثه فكان خمسمائة ونيفا وسبعين ذراعا. فأحدقنا بها وبالجبل، وقطعنا عنها متصلات السبل. ونصبنا عليها المجانيق في ذلك السفح، فلم تصافحها صفائحها وأبدت لنا صفحة الصفح. فقد بعد مرام مرماها، وحارت الأوهام فيها وقلنا ما أعلاها وما اسماها. وتحاجزت عنها الحجارة فلها من أجازتها بها الإجارة. فما بلغت إلى القلعة قلائعها، ولا طلعت إلى التلعة طلائعها، هذا والنجم يلامع بلامعها، وتقارن طوالعه طوالعها. فكأن الصخور سلم نحورها، فإن سورتها تنكسر تنكسر دون الوصول إلى سورها. ولما رأى السلطان أنه لا وصول إلى نيقها بالمنجنيق؛ وأن الاشتغال به يطيل زمان التعويق؛ مال إلى الزحف، ولاحف جموعه في ذلك اللحف. وذلك في السابع والعشرين من الشهر يوم الثلاثاء، فقسم الناس ثلاثة أقسام على السواء، وجعل النوبة

الأولى لعماد الدين صاحب سنجار الليث الهصار، والغيث المدرار، والبحر الزخار. والسيد الحلاحل، والملك العادل. في صحابه الصباح، كفاة الكفاح، وعفاة الصفاح. ونفاة الهام، بثبات الأقدام في الإقدام، وشفاة الاوام بعلة الانتقام من الأقوام، وأساة ذوي الإساءة بإحسان الحسام، وكساة عرى العراء أردية القتام. ورقاه أراقم اللهاذم، وسقاه حوائم الصوارم. والمزاق في حومة الردى رداء المآزق، والسباق في حلبة الهدى بهوادي السوابق. من كل شارب ماء الوريد بشفاه الشفار، وضارب هام المريد ببتار التبار، ولاسع بحمة في الاسل العاسل عاسل، ولابس لباس الباس كالأسد الباسر باسل. ومعقد للدين بالرديني معتقل. ومعتد على العدو بعادى معتدل. ومجتاب لبوس البوس على الموت العبوس مجتاز، ومجتب لحب المنون لرهون نفائس النفوس محتاز. فانقضوا على الهضب، وعضوا على العضب. ودام الصفا يدهده، والصدى يقهقه. والزاحف يتقدم ويتقهقر، والحافز يخفى ويظهر. والرجال تتعالى، والحجار تتوالى. والمصاعد ترقى، والمصاعب تلقى. والمضايق تولج، والبوائق تحرج. والآكام تفرع، والرجام تقرع، وللصخور ترديد، والجلاميد تميد. وما زالت هذه النوبة تتنازل وتقاتل، وتناضل وتطاول، وترمى وترمى، وتدمى وتدمى، وتصمى. وترد وترد، وتصد وتصد، وتصدم وتصدم، وتقدم وتحجم، وتصدع وتصدع، وتحمل وترجع، وتذكو وتنطفي، وتبدو وتختفي، حتى كلت وملت، وانحلت وتخلت، وكانت غلبت لولا أنها لغبت، وسمت لولا أنها سئمت. وألفيت هذه النوبة خاصة، بأهل الحصن حاصة. فإنهم تولوا بأجمعهم القتال ولم يقصدوا للتناوب الاستبدال. ولما ظهرت في التوبة النبوة؛ وكاد جوادها تناله الكبوة؛ تقدم السلطان بنفسه في النوبة الثانية، والسطوة الدانية، والعزمة الناوية غير الوانية. وخف في الثقال من الرجال، وزحف إلى الجبل بالجبال، وتضافروا فتطافروا في الاوعار كالأوعال. وجروا كالسيول في تلك المسائل، وجروا ذيول السوابغ على تلك الهواجل. وترقوا في ذراها، وقروا على قراها. وتلبسوا بجوانبها، وتوجسوا من مثاعبها، وتدرجوا في مدارجها، وعرجوا في معارجها، وخرجوا في مداخلها ودخلوا في مخاربها. وصارت الجروخ تجوزهم، والجروخ لا تحوزهم. والسهام تعبرهم، والآكام تسترهم. والنخوة تحميهم، والحمية تنخيهم. وقد نشط السلطان لتسليطهم وتنشيطهم، والتحذير من توريطهم وتفريطهم. فمن انقبض بسطه، ومن أعرض ضبطه، ومن أقبل أربطه، ومن أدبر أسخطه. ومن تقدم قرظه، ومن تقاعس أحفظه، ومن تناعس أيقظه. وكلما شاهدوا السلطان يشاهدهم تسلطوا، وكلما اغتبطوا بما فرعوه من تلك الفوارع ارتبطوا.

فمنهم من تمكن من الطلوع، ومنهم من تمكن للولوع. وتقبلوا في تلك المخارم كالقلوب بين الضلوع. وعرا أهل الحصن العناء والعياء، وعمهم البلاء وأدركهم الشقاء. فأنهم ما زالوا يقاتلون يومهم من غير مناوبة جميعا، فمنهم من صد صديعا، ومنهم من صار صريعا. وظهر فيهم الفتور، وبدا منهم القصور. وجاءت النوبة الثالثة تالية، وأقدمت إمدادها متوالية متعالية. وعادت النوبة الأولى لنشاطها، وزادت في انبساطها. فبلغوا وغلبوا، والتهموا والتهبوا. وتعلفوا بالسور، وتسلقوا كالنسور. وطلعت القلعة، وقلعت الطلعة. واقتضت العذرة، واقتضيت النصرة. وأعان القدر فقدر الأعوان، ونتجت بالفتح البكر الحرب العوان. وأن أهل القلعة لما أيقنوا انهم ملكوا، طلبوا الأمان حتى لا يهلكوا. فلما سمع أصحابنا بالأمان صياحهم، وعرفوا للضراعة التياعهم والتياحهم، كفوا انتظارا لما يأمرهم به السلطان، وإشفاقا من سبى من يشمله الأمان. وكان جماعة من دهاة الخواص عارفين بطرق الاقتناص، فأظهروا أن السلطان آمن أهل القلعة، وأنه يدافع عنهم في هذه الدفعة. وجمعوهم في مواضع وكنائس، وأحرزوا النفوس والنفائس. وعاد عنهم من حضرهم، على ظن أن السلطان منهم وحظرهم. وبقي أولئك الأفراد بهم متفردين، ولتجريدهم للسبي متجردين. وصار ما بالقلعة ومن فيها لهم كسبا وسبيا، وما رأوا لحق من شاركهم في السعي رعيا. وحرموا ما ارتفقوا به وحرموا الرفقاء؛ وحازوا دون الغانمين النهب والسباء. وملك واحد مائة، وحاز الري وحلأ عنه رفقة ظمئه. ولما تسنى ذلك الفتح وتهنأ؛ وتسهل ذلك الصعب وتهيأ؛ عاد السلطان إلى خيامه، وعاذت الايامن بأيامه. وكانت صاحبة حصن برزيه - أخت زوجة الابرنس صاحبة إنطاكية - وقد سبيت وخبئت. فما زال يطلبها حتى أظهروها وأحضروها، وكان بعد هتك سترها ستروها. فمن عليها بالإعتاق من الإرفاق، وحل عنها وعن زوجها قيد الوثاق، وأحضر أيضا ابنة لهما وزوجها وعدة من أصحابهم وأدخلهم معهم في الإطلاق. وجمع شملهم بعد الشتات، ووصل حبلهم بعد البتات. وشعبهم وقد تصدعوا، وأشبعهم وقد تجوعوا، وحظرهم وقد استحلوا، وكثرهم وقد استقلوا، وحرمهم وقد استبيحوا، ومنعهم وقد استميحوا. وأحياهم بعد ما هلكوا، وعصمهم بعد ما هتكوا. وحواهم وأغناهم وقد افترقوا وافتقروا، وجبرهم ونعشهم وقد انكسروا وعثروا. وسير معهم إلى إنطاكية من أوفدهم على ستها، فسرت بأختها، وأعلنت بمقتها من سر مقتها، وأذاعت من مضمر بغضها بمظهر حبها، وجاءها الفرح في غمها والفرج في كربها، وتشكت لأخذ بلدها، وتشكرت لترك أختها وولدها.

وانعم السلطان بهذا الحصن على (عز الدين بن المقدم) - الكريم المكرم، والمقدام المقدم، والعظيم المعظم، والماجد الممجد - (إبراهيم ابن محمد). فإن هذه القلعة لثغر افامية الجارية في اقطاعه متاخمة، وهي لها في السلم مقاسمة، وفي الحرب مزاحمة. وسرت هذه البشرى وسارت، ودرت هذه النعمى ودارت، وطارت كتب البشائر، وسرحت على جناح الطائر. وفيما كتبت إن هذه البشرى بما أجده الله من الفتح العزيز؛ والنصر الوجيز؛ بفتح حصن برزيه الذي برزت له الأرض في قشب أثوابها، وتفتحت له السماء لتنزل الملائكة من أبوابها، بل سفرت به عرائس الأيام في حلى أيامنها، وأشرقت من أقمار الليالي في أنوار محاسنها. وهذا الحصن لا يمكن وصف ما هو عليه من الحصانة، وكأن حجره في حجر حضن للحضانة. وقد عرف ما فتحناه من البلاد والحصون، وسلبنا أهل الكفر بها من السلامة والسكون. وفتحنا كل مرتج لم يكن فتحه مرتجى، ولم يجد من حصل في أسر الدهر به مخرجا. حتى أتت أيامنا، وداني فيه مرامنا، فجاءه عصرنا، وفجأة أمرنا، ووصل إلينا ما هو في الأزل ذخرنا، وكمل بهذه الفتوحات فخرنا. وذلك أنا فتحنا من حدود طرابلس إلى حد انطاكية، وسقينا بماء الحديد الجاري في انهار دم أهل النار مغارس الهدى الزاكية، وجلونا بها ثغور الثغور الضاحكة وعيون العدو الباكية. وهذه الحصون التي فتحناها، والمعاقل التي استبحناها، لو وكلنا الله إلى اجتهادنا في فتح أحدها لنعذر ولو أنجدت عساكر الدنيا يمددها. لكن الله سهل ويسر، وفتح ونصر، وأنزل الظفر. وأن حصن برزيه لم يكن عليه قتال، ولا للوهم فيه مجال. ولا منصب عليه لمنجنيق، ولا مسلك إليه لسالك طريق. وحضرنا لحصره، متوكلين على الله في امره، غير طامعين في فتحه، ولا راجين لنجحه. انقاد جماحه، وانخفض جناحه، وساء صباحه، وكمل سلاحه. وتوقل الرجال في ذروته توقل النجوم في الأفلاك، ونصر الله أهل التوحيد على أهل الإشراك. وفتحناه بالسيف عنوة، ودجا يوم المثلث عليه يوم الثلاثاء ضحوة، فانا لما توكلنا على الله في منازلته، واستعنا به في مقاتلته؛ نظر الله إلى النيات، وأعان ذوي العزائم والثبات. فتعلقوا في الجبل، وتسلقوا إلى القلل، وسعوا إلى الأجل، في طلب تسنى الأمل. فكان كما قال الله تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) حتى من الله بالظفر، وأصفى والصدر من الكدر. وقد بقيت إنطاكية وما لها بقاء، ولا لها في الاعتصام رجاء. وقد نقصنا أطرافها، واستبحنا اكنافها، وشفهنا نطافها، وعضدنا من رؤوس أهلها بحدود الصوارم قطافها. ولم يبق من معاقلها إلا القصير، ودربساك، وبغراس، وقد تقدم إليها الفاتحان، الرعب والبأس.

ذكر فتح حصن دربساك

ذكر فتح حصن دربساك ورحل السلطان وقد نجحت آماله، ورجحت اعماله، وجل اقباله، وأقبل جلاله، وعبر عند (شقيف دركوش) إلى شرقي العاصي. وقد دانت ودنت له المقاصد العواصي القواصي. وأقام أياما على جسر الحديد حديد الجسارة، شديد الاستظهار بما ظهر للمؤمنين من الربح وللمشركين من الخسارة. ثم قصدنا دربساك وجددنا بتأييد الله في حصره الاستمساك، ووجدناه حصنا مرتفع الذرا ممتنع الذرا، قد جاوز الجوزاء، وناجت أرضه السماء. وكان عش الداوية بل عرينهم، وطالما أطال في التعدي أيديهم وعرانينهم، وكانوا قد نزلوا منذ أنزلناهم من ظهور الحصن بطون الحصون، وركنوا بسكنى هذا المعقل إلى السكون، فلما أشرفنا عليهم اشرفوا على المنون. ونزلنا عليه يوم الجمعة ثامن من رجب، وقلب الكفر قد وجب. ووفرت المنجنيقات سهامهم من سهامها، وصوبت إليهم مسددات مراميها ومراميها، وراميناهم بها ليلا ونهارا، وأرسلنا إليهم أمثال قلوبهم ووجوههم أحجارا. وكدنا لا نذر في أرضها التي هي في السماء من الكافرين ديارا. وتركنا ناسه بالحجارة صرعى، واسمنا من نحورهم ووجوههم بيض النصال في حمر المرعى. وأصبحنا يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، وقد شارف الفرنج الشجا والشجب، ووجه نجاتهم قد احتجب، وقد وقع بالنقب برج من السور إلى الخارج، وظهر فيه عروج للدارج، ودروج للعارج. فطلبوا على مراجعة إنطاكية الأمان، وأن ينزلوا ويتركوا بكل ما فيه المكان. فأجيبوا إلى ذلك على قطيعة، وردوا ما كان للإسلام معهم من وديعة. وتسلم الحصن بما فيه ثاني عشري الشهر يوم الجمعة، واصحب بهذا الفتح جماح الحصون الممتنعة. ذكر فتح حصن بغراس وتوجهنا بكرة يوم السبت إلى بغراس، وقد ضايقنا الأعداء وضيقنا منهم وعليهم النفوس والأنفاس. وهي قلعة من إنطاكية قريبة، وإنها في الشدائد لدعائها مجيبة. ورأيناها راسخة على رأس راس، شامخة على عاص عاس. أرضها في السماء، وجوازها على الجوزاء. متوغلة في الشعاب. متوقلة على الهضاب. منسحبة في السحاب، مضببة بالضباب. مربة على الرباب. متعلقة بالنيرين، متسلقة إلى الفرقدين، محلقة إلى النسرين. ولا مطنع نحوها لطالع، ولا مطلع فيها لطامع. ولا مطمح للامح، ولا ملمح لطامح. وهي للداوية وجار ضباعها، وغاب سباعها. ودار دوائرها،

وغار مغاورها. وغيل غوائلها، ومنزل نوازلها. وجعبة نبالها، وهضبة رئالها، ومذب ذئابها، ومدب ذبابها، وكوارة زنابيرها، ومغارة خنازيرها، ومرقب صقورها، ومرقد نسورها، ومكنس وحوشها، ومعرس جيوشها. فخيمنا بقربها في المرج، وقد أنارت من مشرعات أسنتنا في ظلماء نقع خيلنا مشعلات السرج. وتقدم من العسكر جمع كثير، وجم غفير. وخيم بين إنطاكية وبينها، ووكل بها ناظر يقظته وأرقد عينها. فأقام على سبيل اليزك، ودخل في حفظ جانبها في الدرك. وصار يركب كل يوم ويقف تجاه إنطاكية صفا، ويسومها من الغارات عسفا. وليس بينه وبينها إلا النهر، ومقابل رجسها منه الطهر. وصعد السلطان في جريدة عسكره إلى الجبل، ووقف بازاء الحصن وقوف المشتاق على الطلل. فنصب عليه المجانيق من جميع جهاته، وصوب لقم الحجر إلى لهاته، ووافق آمريه بالإذعان على خلاف نهاته، وقلنا للمقيم به خذ الأمان وهاته. وما زالت الحجارات تناوبه؛ وصدى الصفا بالنكاية يجاوبه؛ والصخور فيه تتواقع؛ والبلايا إليه تتابع. فما شعرنا إلا بانفتاح بابه، وألجأ جماح أصحابنا عليه جماحه إلى أصحابه. وخرج مقدم الجاوية يستأذن في الحضور، ويسأل الأمن من المحذور، والحل من المحظور. ويقول إنما قنينا بغراس القنا، وبنينا على حصونها من القنطاريات أحصن البنى. والمعاقل لا يحميها إلا معتقلوها، والبلاد لا يحفظها إلا أهلوها. وما في هذا الحصن إلا مقدمان، وما لنا بمقاومتكم يدان. وعاد إلى أصحابه من السلطان بالأمان. وتسلمت القلعة كما تسلمت أختها دربساك بالأمس، وسلمها الداوية طائعين فعجبنا من انقياد أولئك الشمس، وأباحوها لنا وكانوا بغارون عليها من طلوع الشمس. وأنار في مطلعها سنى السنجق المنصور، وآذن المتطاول فيها من تطاولنا بالقصور. وذلك في ثاني شعبان، والنصر فيه شاع وبان. وسلم السلطان الحصين دربساك وبغراس إلى (علم الدين سليمان) وكان صاحب حصن عزاز وقد حاز الغنى به وفاز، وما كان في الأمراء الأكابر من لا يدعي سواه الأعواز. فألزمه بهما ليعتني بحفظهما، وحضه من عصمتهما على حظهما. فتسلمهما بذخائرهما، واطلع من النفائس على مستودعات ضمائرها. وكانت حينئذ إنطاكية قد أسعر غلتها غلاء سعر الغلة. وقل ساكنوها لما كانوا فيه من القلة. والغرارة تساوى اثني عشر دينارا، والقوم قد شارفوا فيها تبارا وبوارا. وحزنا ما في بغراس خاصة من الغلة؛ سوى ما فيها من تفصيل الأقوات والجملة، فكان تقدير اثني عشر ألف غرارة، فحصل سليمان من منبع هذا الملك على غزارة عن غزارة. فقلت: كأني به وقد نقل هذه الغلة إلى إنطاكية وباعها، وأعرض عن متاعب

ذكر عقد الهدنة مع إنطاكية

الآخرة وحوى من الدنيا متاعها، وأذهب الغلة بذهب يغله. ويستحلى مر هذا السحت ويستحله، ثم يستعفي من حفظ الثغر ويشير بتخريبه، ووقع لي فيه من الظن ما كان بعد سنين فكشف عنه علم تجريبه. ذكر عقد الهدنة مع إنطاكية فلما فرغ السلطان من شغل الحصون؛ وظفر من فتوحها بالسر المصون؛ عول على قصد إنطاكية فإنها كانت مرسضة على شفا، ورسم قوتها قد عفا، وخلق ثيابها قد انتفى، والدهر قد انتقم منها واشتفى، ووجه الفلاح عن أهلها قد اختفى. فلو صدقها وتصدها، لحص دعائمها وحصدها. وكان الابرنس صاحبها قد عجل بإرسال أخي زوجته، يسأل في سلم يعود ببقاء بهجته، وسلامة مهجته. وعقد الهدنة على بلدة؛ وأمن على ما في يده؛ وذلك لثمانية أشهر من تشرين إلى آخر أيار، ووافق من السلطان الاختيار. لكون انقضاء الهدنة قبل إدراك الغلة وأوان حصادها، فلا يقدر الفرنج على تحصيلها ونقلها وإعدادها. ولم يكن له رغبة في إتمام هذا الصلح، لكمال الغبطة لنا في الحرب ووفور الربح لكن العسكر الغريب مل الإقامة، وأبدى السآمة، وأراد السلم والسلامة وقيل بهذه المدة من الهدنة لا تزاد إنطاكية قوة ولا تستجد جدة ولا ترجو لها عدة منجدة، ونحن نضرب للعود إليها مع انقضاء عدتها عدة. وأما حصونها فقد حصلنا على عسلها، وقتلنا نحلها، وأما هي فنعمل فيها بقول الله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها). وشرط على صاحب إنطاكية إطلاق من في الأسر من المسلمين. واستوفى رسولها على عقد الهدنة اليمين. وسار رسولها مع (شمس الدولة بن منقد) للأسارى منفذا، وللأوامر منفذا، وعلى المقاصد مستحوذا. وسار السلطان ثالث شعبان على سمت حلب، والإسلام قد غلب، وفاز من الفتوح بما طلب، واستغنى بما جمعه من السبي والغنيمة وسلب وخلب. ذكر وداع عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي وعساكر البلاد وعود السلطان إلى دمشق لنجح المراد ولما رحل من بغراس وقف لعماد الدين ودعاه لوداعه، وشيعه بكرامة كرام أشياعه، وخصه بعد ما سير له من الخيل والخير بخلع خواصه واتباعه، وأناله منه حسن اصطفائه وحسنى اصطناعه، ولم ينفصل منهم إلا من وصل بصلة، وخلعه مجملة،

وحرمة مكملة. ووعد جميل يرغب في العود، وجود جزيل منسكب الجود. وذلك سوى ما غنموه من كسب وكسبوه من غنم، واستطلقوه من رسم، واستجزلوه من قسم. وملكوه من ورق سبى، وأدركوه من حق سعى. وأجدوه من غرض، وأدوه من مفترض. واحيوه من حسنة النصر، وامتنوه من سيئة الكفر. واستفافوه من فتح، واستفاضوا به من نجح. وسار السلطان في عسكره حامدا لله في مورده ومصدره. وارتاح إلى العبور على ارتاح، وامتار لها اليمن بافتقادها وامتاح. ووصل إلى (حلب) وحلب احتفالها بوصوله حافل. والملك بها للاهتزاز بقدومه في ملابس البهاء رافل. ودخلناها وقد خرج كل من بها للتلقي، مستبشرين بالإقبال المتضاعف المترقي. وشاهدنا من النظارة عيونا للمحاسن ناظرة، ووجوها ناضرة، وقلوبا حاضرة، وألسنا شاكرة، وأيديا في بسطها إلى الله للابتهال بالدعاء متظاهرة. واقتضت حركتنا إلى الشهباء، لساكنيها سكون الدهماء. وأقام بقلعتها أياما يسيرة، وألفى ولده الملك الظاهر أسر إحسانا وأحسن سيرة. وقام به وبالعسكر مدة المقام، واتسقت الأمور بأوامره على النظام، ولم يرحل إلا وقد خص عوامنا وخواصنا بالأنعام الخاص والعام. وأبان عن كل منقبة، وأعان بكل موهبة فما رآه والده مذ حل بحلب إلا في أجمل حلبة وأكمل حالة، وأجلى بهجة وأبهى جلالة. وقد أجد لعينه ولنفسه قرة وقرارا، وأعد لعزمه واحزمه استنصارا واستبصارا. ثم انفصلنا عن حلب منقطعين إلى مواصلته بالدعاء، قاطعين طرقنا المتصلة بدليلي الشكر والثناء. وتنكبنا طريق المعرة، بسلوك طريق المعرة وأوفيناها بالمبرة الموفية المبرة. وتيمن السلطان بزيارة الشيخ الفقيه الزاهد التقي (أبي زكريا المغربي) - وهو مقيم في مسجده، عند قبر عمر بن عبد العزيز. ومشهده. وقصده السلطان علي الفراسخ، ولقي منه في الحلم والوقار الطود الراسخ. واهتدى بسجاياه، واقتدى بوصاياه. ووصلنا إلى حماه وبتنا بها ليلة واحدة، ولم نر رعيتها لما شملها من الرعاية جاحدة. فإن (الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب) قد كشف عنها بايالته الكروب، وملك القبول من أهلها والقلوب. وأعاد لها بالعمارة عمرا جديدا، ومد عليها من مهابته ومحبته ظلا مديدا. وكانت قلعة حماه لا تعد في القلاع المعدودة المحمية، ولا تذكر مع المعاقل المرعية المرضية. وهي ذات تل متبطح، غير مترفع ولا متسفح. فلما تولاها تقي الدين قطع من التل ما كان متواطيا، واتلع من التلعة جيدا عاطيا. وعمق خندقها في الصخر، وحصنها على الدهر. وبنى فيها الدور المرخمة، والأروقة المهندسة المهندمة. وحصنها واعلاها، وحسنها وحلاها. وزينها بكل زينة، وأعاد حماة ذات قلعة حصينة، فاضلة

ذكر فتح الكرك وحصونه

في الشام كل مدينة. فطلع السلطان تلك الليلة إلى القلعة، وسر بما رأى لها مثل الحصانة والرفعة، ووقف الملك المظفر لعمه، وجرى في الخدمة على رسمه. وحضرنا وأمير المدينة النبوية معنا، والسلطان قد أجلسنا بحضرته ورفعنا، والنادي قد جمعن، والشادي قد أسمعنا. والأغاريد تطرب، والأناشيد تعرب. فما انفصلنا تلك الليلة إلا عن علم نشر، وعرف أنشر. وفضل سنى، وعدل أحيى، ورسم نائل للسماح أجرى، وزند سائل بالنجاح أورى، وسنى جد أعلى، وجنى جود أحلى. وقرأ لذوي الحاجات القصص، وأزال من الظلامات الغصص، وأنال لذوي الخصاصات الحصص. وأصبحنا على الرحيل، ووصلنا العنق بالذميل. وعبرنا مغذين على حمص، وزدنا في الوصول إلى دمشق على طريق بعلبك الحرص. وجثناها قبل شهر رمضان بأيام، وركنا إلى ما أنسنا به من مقام. وتجمع بنا شملها، وتهلل باستهلالنا أهلها. وقلنا نصوم مع القوم، ونقيم مدة الصوم. فما لبث السلطان ولا مكث، ولا نقص عهد عزمه على الغزاة ولا نكث. وقال لا نبطل الغزوة، ولا نعطل هذه الشتوة. وقد بقيت صفد وكوكب وأخواتها، وبطول مضايقتها فنيت أقواتها وقواتها، فننتهز فرصة فتحها التي لا يؤمن من فواتها. وخرج من دمشق في أوائل شهر رمضان وجد عزمه رميض، ولبارق سعده وميض، وفضله مستفيض ووجوه الأيام بأياديه البيض يسض، ولسان الدهر في ذكر سيره وتسيير ذكره مفيض، وجناح الكفر ينجاح رجائه ورواج مناجحه مهيض، وحديث إقدامه القديم والحديث طويل عريض. ذكر فتح الكرك وحصونه ووردت البشرى بنجح الدرك، في تسلم حصن الكرك. وذلك أن مدة غيبتنا في بلاد إنطاكية، لم تعدم من محاصرتها المضايقة الناكية. وكان الملك العادل أخو السلطان مقيما بتبنين في العساكر، محترزا على البلاد من غائلة العدو الكافر. مقويا للأمراء المرتبين على الحصون، حافظا على الدهماء بحركته في الأمور عادة السكون. وكان صهره سعد الدين كمشبه الأسدى بالكرك موكلا، وبأهله منكلا، وقد غلق رهنه وبقي داؤه معضلا، وأمره مشكلا؛ حتى فنيت ازوادهم، ونفدت موادهم. ويئسوا من نجدة تأتيهم، وأمحلت عليهم مصايفهم ومشاتيهم. فتوسلوا بالملك العادل، وأبدوا له ضراعةالسائل، وتذرعوا بوسائل الرسائل. فما زالت الرسالات تتردد؛ والاقتراحات تتجدد؛ والقوم يلينون والعادل يتشدد؛ حتى دخلوا في الحكم، وخرجوا على السلم. وسلموا الحصن، وتحصنوا بالسلامة، وخلصوا بإقامة عذرهم عند قومهم من الملامة.

ذكر محاصرة صفد وفتحه وإدراك السعي فيه ونجحه

وكتبت عن السلطان في بعض البشائر، ما ألهي بحلاوته عن رأي الشائر. وهو أنا لما عدنا إلى دمشق رأينا أن لا نستريح، ولا نثني عن كسر العدو عزمنا الصحيح. فقلنا نغتنم هذه الشتوة ونستكمل الحظوة، ونواصل بالغزوة الغزوة. ونستخلص هذه القلاع التي شغلت منا في هذا الجانب قلوبا وعساكر. وأبقيت لأهل البلاد في طريقها ندوبا ومعاثر. وبيمن صدق هذه العزيمة؛ والاستمرار في الجهاد على الشيمة؛ وردت البشرى بأن حصن الكرك عاد إليه بعد الجماح الأصحاب، وخرج منه الفرنج ودخله الأصحاب. وهو الحصن الذي كان طاغيته يحدث نفسه بقصد الحجاز، وقد نصب أشراك إشراكه منه طرق الاجتياز. فأذقناه عام أول كاس الحمام، وملكنا حصته الذي يعتصم به في هذا العام، واضطر الكفر في إسلامه إلى الإسلام، وتم بحل هذا البيت أمن البيت الحرام. وقد كان هذا الحصن ذنب الدهر في ذلك الفج، وعذر أهله في ترك الحج. وابتسم الإسلام حيث زيد ثغرا، وساق إلى عقائله الرجال مهرا. فالحمد لله على ما قدر من الحسنى، ويسر من النعمى. حمدا يكون لما قدر ازاء، ولما يسر جزاء. والحمد لله الذي أنجز صادق عداته، في كاذب عداته. ذكر محاصرة صفد وفتحه وإدراك السعي فيه ونجحه وقطعنا مخاضة الأحزان خائضين في بحار المسرات المتواصلة، راكضين إلى مضمار المبرات الحافلة. والسلطان سائر والجنة تحت راياته مفتوحة أبوابها، والنصرة فوق ألويته ممدودة أسبابها. في اطلاب أبطال إذا أوعاها الفجر لم يسعها إلى عشائه، وإذا طلع عليها سرحان الصباح سقط من عجاجها على عشائه. ونزلنا على صفد، والصبر قد نفذ، والنصر قد وفد، والقدر قد وقد، والعزم قد وقد. وجاء الملك العادل وظاهر أخاه، وضافره فيما توخاه، وشد بالرأي والحزم ما الزمان أرخاه، وبعث كل ذي عزيمة على التصميم ونخاه. وشرعنا في مراومة القلعة، ومساومة السلعة. وجثت المجانيق لاجتثاثها، وحدثنا بألسنة أحداثها. ورمتها عن قسيها بالقاسيات، وسمت إلى هضاب تلك الأبراج الراسيات، وأمطرت عليها حجارة، ولم نعطها من العذاب الواقع بها إجارة. فما رفع بها الحصن الراسي رأسا ولا الحجارة مست منه ركنا ولا النقوب باشرت أساسا. ودامت المجانيق منصوبة قد قام دست شطرنجها والنقب لم يكتشف نقب السور عن وجوه فرنجها. ودمنا عليها ثامن شوال، ونوعنا في افتتاحها الاحتيال. وحتى أذن اله في الفتح فسهل ما تصعب، وحضر ما تغيب، وظهر ما تحجب. وتيسر ما تعسر، وأمكن ما تعذر. وتأتى، وأجاب نداء الإسلام ولبى. وعلموا أن صفد أن لم تخرج من أيديهم دخلت أرجلهم في

ذكر ما دبره الفرنج في تقوية قلعة كوكب فانعكس عليهم التدبير

الأصفاد، وعادوا ثعالب يروغون وكانوا كالآساد. ونزلوا من سماء العز إلى أرض الهوان، فأذعنوا للضراعة وتضرعوا بإذعان، وأخرجوا أسارى المسلمين ليشفعوا لهم في طلب الأمان. وصارت صفد للمسلمين صدفا، وكانت للمشركين هدفا. وعادت للإسلام سدا، بعد أن كانت للكفر رداءا ومردا. وطالما مكث فيها المشركون (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا). ولقد كانت مارنا للكفر جدع، ومرفقا للشر قطع. وناظرا للعدو غض وقد شخص، وجارحا له هيض وقد قنص. ويدا للباطل شلت وقد امتدت، وعقدة للضلالة حلت وقد اشتدت. وتخلصت الداوية بأدواتها، وتمصلت بأسوائها. وصاروا في صور، وأبدوا بعد استطالتهم القصور. ذكر ما دبره الفرنج في تقوية قلعة كوكب فانعكس عليهم التدبير لما عرف من بصور من الفرنج أن صفد لنا صفت؛ وأنها على الفتح الذي يشفى أشفت؛ قالوا ولم يبق لما إلا كوكب، وأن صلاح الدين عن قصدها لا يتنكب. وقد أقوت من القوة، وهي تهي أن لم نعالجها وتعالجها بالنجدة المدعوة. وقد ضعف رجاؤها لضعف رجالها، وقل ظهورها لظهور إقلالها، وهذا أوان أنجائها وأنجادها، وهي مشرفة على العدم فدبروا في إيجادها. فإذا قويناها وحميناها بقيت عدة في العواقب، وعصمة من النوائب فقال مقدم الاسبتار هي كوكبنا المنلالي ومنكبنا العالي. ومعقلنا المحكم، ومعقدنا المبرم. وحصننا الحصين، ومكاننا المكين. ولنا منه المربع المريع، والمنبع المنيع، والمحل المحلى، والمعلم المعلى. وهي قفل من البلاء على البلاد، ومؤمل من الخطوب الشداد. ولعلها تثبت إلى أن توافينا من البحر ملوكنا، وتعود إلى عادة الانتظام سلوكنا، فما تبطئ جداتنا، وما تخطئ نجداتنا. وأجمعوا على تسيير مائتي رجل من النخب، المعدين لدفاع النوب. من كل جرخي نخى، وكمى أكمى، وجهم جهنمي. وسقر سقرى، ووعل جبلى، وبطل باطلى. وكلب كلب، وذئب سغب. وعاسل معاسر، وباسل باسر. ومغوار مغو، ومتلوم متلو، وذمر متذمر، ونمر متنمر. وسبع ضار، وشواظ من نار. وجمر من الجحم، وحام من الحميم. من شيطين يجنون الجنون، ويمونون المنون، ويشينون الشئون، ويهدون الهدون، وويحزون الحزون، ويفوتون الفتون، ويظنون بالله الظنون. وقالوا لهم كيف تمضون وطريق السلامة مخيف، وطارق الإسلام مطيف، والشجا منيف، والشجب مضيف فقالوا نحن نسير ونصير في ضمائر الكهوف أسرارا، وعلى أجياد الأطواد أزرارا، وفي أوكار المغارات أطيارا، وفي أعماق السيول اكدارا، وعلى ظهور الريود أوزارا، نسري ليلا ونختفي

ذكر حصار كوكب وفتحها

نهارا. والليل للعاشقين ستر، ولكم أدلج من له وتر، والنهج وأن بعد فهو في قرب عزمنا فتر. ومن رام النفس الخطير رمى نفسه في الخطر، وطار إلى الوطر، وغرب إلى الغرر. ثم عزموا على ما زعموا، وعملوا بما عته عموا. وخطروا إلى الخطر، وحاولوا بما لهم من القدر مزاولة القدر. وتوقلوا في الأكم، وتوغلوا في الأجم. وتبطنوا في الأودية، وتكمنوا في الأفنية. واحترسوا بالكمون، واحترزوا من العيون، وتحركوا على السكون. وكادوا يصلون إلى الموضع ويحصلون على المطمع. ويدركون الطلاب، ويهتكون الحجاب، ويعيدون إلى الحصن روحه، ويأسون بعد اليأس جروحه. فعثر - بواحد عثر منهم - بعض المتصيدين قتصيده، وقاده وقيده. وأتى به إلى صاحبه صارم الدين قايماز؛ واستغرب الإفرنجي من هناك الجواز. فأخبره بالحال، وأن بالوادي مكمن الرجال. فركب إليهم في أصحابه، والتقطهم من سرر الوادي وشعابه، وركب الشجاع (مسعود) في طلب أولئك الأشقياء، وانتشر الناس في تلك الاكناف والأرجاء. فما نجا منهم ناج، ولا نجح راج. ولا عاش عاش، ولا حصل عاثر بانتعاش. فما شعرنا ونحن على صفد للحصار، والسلطان مطل من بيت الخشب على من حوله من الأنصار؛ حتى وصل صاحب قايماز بالأسارى مقرنين في الاصفاد، مقودين في الاقياد. وكان فيهم مقدمان من الاسبتار، وقد أشفيا على التبار. فإن السلطان ما كان يبقى على أحد من الاسبتارية والداوية، فأحضروا عند السلطان للمنية. فأنطقهما الله بما فيه حياتهما، وناجيا بما فيه نجاتهما. وقالا عند دخولهما؛ وأمام مثولهما؛ ما تظن أننا بعد ما شاهدناك يلحقنا سو، فعرفت أن بفائهما مرجو. وانتظرت أمر السلطان فيهما وأيقنت أنه يبقيهما. فمال إلى مقالهما، وأمر باعتقالهما. فإن تلك الكلمة حركت منه الكرم، وحقنت منهما الدم. واستبشرنا بانعكاس ما أحكمه الكفر من التدبير، وإتعاس من جردوه بالتدمير. وفتح الله علينا صفد ثامن شوال، فشكرناه على أن مداد النصر متوال، وسلمت القلعة إلى شجاع الدين طغرل الجاندار فهو بها وال. ذكر حصار كوكب وفتحها وجئنا إلى كوكب، ووجدناها في مناط الكوكب. كأنها وكر العنقاء، ومنزل العواء. قد نزلتها كلاب عاوية، ونزعت بها ذئاب غاوية. ونزت فيها سباع ضارية، وحمتها بجميتها وأبت النزول على أمنيتها ولو بنزل منيتها. واختارت العطب على العطاء، وامترت خلف الخلف والشقاق للشقاء، وأبت غير الآباء. وبصرت بالأمر فصبرت على الضر، وأصرت على تحمل الإصر. وترامت على التعامي بالمصائب،

وتعامت عن المرامي الصواب. وقالوا لو بقي منا واحد لحفظ بيت الاسبتار، وخلصه إلى الأبد من العار، ولا بد من عود الفرنج إلى هذه الديار، فنتجلد للاصطبار، ونتشدد للانتظار فقاتلوا أشد قتال، ونازلوا أحد نزال. وفوقوا الجروخ المصمية، وصوبوا الصخور المردية، ورفعوا المنجنيقات الموجبة. وتواترت زيارات الزيارات الموترة، وتناويت نوائب الزنبوركات المطبرة. واجترأوا على الاجتراح، وجرى سبل الجراخ ودمنا في الدم، ورد الوجود إلى العدم. وتجرئة الرجال، والتجريد للقتال، وايتار الحنايا، وايثار المنايا. والرمي في المنجنيق، والجمع والتفريق، والرقع والتخريق، والنقب والتعليق، والحفر والنعميق، والحصر والتضييق. والهد والهدم، والرد والردم، والصد والصدم. وكان الوقت صعبا، والغيث سكبا، وتكتثرت السيول، وتكاثفت الوحول، ودامت الديم لدموعها مريقة، وبقيت الخيم في الطين غريقة. فلا لمركب مبرك ولا مربط، ولا لسالك مسلك ولا مسقط. وكنا في شغل شاغل من تقلع الأوتاد وتوتد الأقدام، ووهى الأطناب ووقوع الخيام. وكأن الخيم مناخل الانداء، وعدمت الأنوار لوجود الأنواء، وفقد ماء الشرب مع سيل الماء. والروايا ما نهضت، ولا نزعت ولا غمضت. والرواحل في الطين باركة، وللعلف تاركة. والمطية مطينة، وسبل السيل مستبينة. وقد كشر البرد بالبرد، عن أسنان عضاضة بالدرد. والطرق زلقة ازقة، وهي مع سعتها ضيقة. وللثق ثقل، وللعلق عقل. وما ثم إلا ما نيط بالطين. وصعب علينا بصعوبة هذا الأمر أمر أولئك الشياطين، فنقل السلطان خيمته إلى قرب المكان، لتقريب وجوه الإمكان. وبنى له من الحجارة، ما صار له كالستارة. فحضرت بين يديه والسهام تعبرنا ولا تذعرنا، والستائر تسترنا عنهم وعليهم تظهرنا. والنقاب قد قلع وعلق، والجرحى قد هتك الحجب وخرق. وتجرد الجند، وأنجد الجد. ونزلت الأثقال والخيم إلى أسفل التل، فخف الثقل بنقل الثقل، وطاب المقام بالغور وسهل بالسهل. وتحولت الشدة إلى اللين، وتحللت إلى الطيب عقد الطين. وما زال السلطان ملازما للحصن؛ وهناك ظاهرة له منه أسباب الوهن؛ حتى علق بعض جدرانه وطرق الهدم إلى بنيانه، فتسلمه بتمانة، وأذهب سكون سكانه. فأخرجهم راغمين، وأحرجهم غارمين. وتركوا الحصن بكل ما فيه، وأصبحوا بعد مقاتلته للعفو والمعافاة معتفية. وذلك في منتصف ذي القعدة، وانتصفت الأيام بحل تلك العقدة، ورجعت الليالي بالسكون إلى طيب الرقدة. وعرضت القلعة على جماعة فلم يقبلوها، وخلوها وأبوا أن يلوها، وتخلوا عنها بهمم واهية، فوليها قايماز النجمي على كراهية، بعزيمة عن مهامها لاهية. وانتقل السلطان إلى المخيم بالفضاء، وحمد الله على قضاء التوفيق وموافقة

القضاء. وودعه (الأجل الفاضل) على عزم مصر، بعد ما استكمل لنا مدة مقامه بصدق اهتمامه وجد اعتزامه الفتح والنصر. ثم تحول السلطان إلى أرض بيسان، وأزال البؤس وزاد الإحسان. وأقام بقية الشهر، في تمهيد مجد يقيم باقي الدهر. وأظهر من الفضل ما لم يكن مستورا، وأعطى الأمراء والأجناد في انفصالهم دستورا. وسار ومعه أخوه الملك العادل مستهل ذي الحجة، واضح المحبة، لائح البهجة. واوجها إلى القدس في طريق الغور، وزاره للبركة وتبركا بالزور، ووصل يوم الجمعة ثامن الشهر. وصلى في قبة الصخرة، وخص ذوي الخصاصة بعميم المبرة. وعيد بها يوم الأحد الأضحى، وأضحى بعد ما ضحى، وقد أصحب مراده وأصحى. وسار يوم الاثنين إلى عسقلان للنظر في مهامها، ونظم أسباب أحكامها، وتدبير أحوالها، وترتيب رجالها. وأقام أياما يوضح الجدد، ويصلح ما فسد، وينشد من النفع ما فقد، ويخمد من الشر ما وقد. فإذا وجد شعثا لمعه، وإن ألفى نشرا ضمه، وإن صادف فتقا رتقه، وإن لقي حقا حققه، وإن بصر بأمل خصه بعرفه وآثره، ثم ودعه أخوه الملك العادل واستقل إلى مصر بعسكره. ورحل السلطان على صوب عكاء موفقا في مورده ومصدره، فما عبر ببلد إلا قوى عدده، وكثر عدده، وواصل بالرجال مدده، وكنت انفصلت عن خدمته إلى دمشق عند رحيله من بيسان، لعارض مرض سلبني الإمكان. والحمد لله الذي وفر خصة الصحة، وحول المحنة إلى المنحة. وكمل الشفاء بعد الاشفاء، وأهدى عند اليأس أرج الرجاء.

ودخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة

ودخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة والسلطان في عكاء مقيم، والأمر مستقيم، والنهج قويم. وهو يبوب أسباب حفظها، ويسبب أبواب حظها. ويهذب مراتب مصالحها، ويرتب مذاهب مناجحها. ويعدل جواح امورها، ويذلل جوامح جمهورها. ويقوى ما وهي، ويسوى ما هوى. ويحلى من الشان ما عطل، ويعلى من المكان ما سفل. ويعيد نظم ما انتكثت ولم ما تشعث، ويجيد كل ما دعا إلى بعث ومكث بها ر يريم القصر، إلى أن وصل جماعة من مصر. فأمرهم فيها بالإقامة، محافظة على الحماية المستدامة. فأمر (بهاء الدين قراقوش) بإتمام بناء السور، وأحكام أحكام الأمور، وولى الأمير (حسام الدين بشارة) بعكاء واليا، ولم يزل لآثار الدولة في إيثار العدل تاليا. ثم خرج السلطان وسار على طبرية ودخل دمشق مستهل صفر، وقد استكمل الظفر، ووجه الدين به قد سفر، وعز من آمن وذل من كفر. وحزب الهدى قد أنس، ونفر الضلال قد نفر. وجلس على سرير السرور، ولبس حبير الحبور. وبدأ بحضور دار العدل فدر عدله للبادي والحاضر، وأقام سفور بشره للمقيم والمسافر. وأفاض الفضل، ومحا المحل. وأعلى أعلام العلماء، وأحلى أحلام الحلماء، وأمضى أحكام الحكماء، وقضى بإكرام الكرماء. وأسدى المعروف، وأعدى الملهوف. وأنكر المناهي ونهى عن المنكر، وطهر حكم الشريعة وحكم بالشرع المطهر. وأقام مدة الشهر، وأولياؤه جناة النصر، وأعداؤه عناة القهر. وأيامه مسفرة، ولياليه مقمرة، ومغارس اياديه بثمار المحامد مثمرة، ومجالس أعاديه في ديار الشدائد مقفرة. والملك بزهوه زاه زاهر، والدين ببهائه مباه باهر. والآفاق منيرة والأنوار مفيقة، وللدولة حق مدال وحقيقة. وللجد وافى جده، وللجود وفي عهده. وللسماح سماء تهمع، وللمراد مراد يمرع. وللوجه بالبشر بهجة، وللألسنة في ديمة الشكر لهجة. وللهمم علو، وللشيم سمو، وللكرم نمو. وللفضل قيمة، وللفضل قيمة، وللافضال ديمة. وللشريعة شرعة واضحة، وللحق سنة لستر الباطل فاضحة، والصنائع راجحة، والذرائع ناجحة. ذكر وصول رسول دار الخلافة والخطبة لولي العهد عدة الدين أبي نصر محمد بن - الإمام الناصر لدين الله - أبي العباس أحمد أمير المؤمنين بتاريخ أوائل صفر وصل رسول منزل الرسالة، ومقر الجلالة. ومربع الإمامة، وموضع الكرامة. ومطلع الهدى، ومنبع الندى. ومشرق نور الإيمان، ومشرع فيض

الإحسان. ومرجع المرجعين ومفزع الملتجين، ومنتحى الناجين، ومنتجى المناجين. ومهبط الوحي، ومصعد الأمر والنهى، ومقصد نجاح السعي. ومخفض جناح الرحمة، ومقطف جنى النعمة. ومجر ذيول المناقب وجرى سيول المواهب. ومزار أملاك السماء، ومدار أفلاك العلاء. ومحج ملوك الأرض، ومحجة سلوك الفرض. وموطن التنزيل، وموطئ جبريل. ومقام الخلافة، ومرام الرأفة. ومحمل الأمانة، ومحل الديانة. ومطاف الطائفين، ومطار العاكفين، ومعرف الواقفين، وموقف العارفين، وقبلة المقبلين، وموئل المؤملين، وكعبة القاصدين، ومثابة الوافدين. ومعفر وجوه العظماء، ومكفر ذنوب الكرماء. ومعصب السيادة القرشية، ومنصب الوراثة النبوية، والسدة الشريفة الناصرية. ودار السلام وقبة الإسلام. فابتهج السلطان بوصول الرسول، وأيقن بحصول السول. وسر سره وابر بره، وصدر بنشر الانشراح صدره، وقدر على الاتسام بالتسامي قدره. واحتفل بأسباب التلقي، والتحف بأثواب الترقي. وسأل عن الرسول المندوب؛ فقيل هو (ضياء الدين عبد الوهاب ابن سكينة، وصل بالضياء والسكينة، والأحوال الحالية المزينة. وكان وزير الخلافة يومئذ (معز الدين بن حديدة) فعين لهذه الرسالة (ابن سكينة) حين عرف آراءه السديدة. فتلقاه - يوم دخوله إلى دمشق - السلطان وأولاده، وكان يوما مشهودا حضره أعيان البلد وأماثل العسكر وأشهاده. وأنزله في دار الكرامة، ورتب له وظائف الإقامة. ثم جلس له في يوم سعد صباحه، وبدت في جبهة الدهر البهيم غرره وأوضاحه، وملأت ظرفي الزمان والمكان أفراحه، وجاء على وفق الآمال اقتراحه، وختم باليمن والإقبال رواحه. وورد بكل ما أبهج الأولياء، وأزعج الأعداء. وخاطب السلطان عن الديوان العزيز بكل ما أعزه، وثنى عطف تباهيه وهزه. ورسا له طودا بالوقار في إيراد الرسالة، وجلا له في مهب المهابة أنوار الجلالة. وتلفظ له بالتفضل، وتطوق منه بالتطول. وبشر بأن أمير المؤمنين فوض ولاية عهده، إلى ولده - عدة الدين - أبي نصر محمد من بعده، وأخذ بذلك العهد على من حضره من أعيان الأمة، وحفظ عليهم بتوليته ما أولاهم الله به من النعمة. وأمر بأن بخطب له بمصر والشام وجميع بلاد الإسلام. فاستبشر بهذه الموهبة، واستظهر بما خص به من هذه المرتبة. وأمر بذكر اسمه ونقشه في الخطبة وعلى السكة، وعاد الإسلام به ظاهر الشوكة والشكة. وخطبنا لولى العهد بدمشق يوم الجمعة ثالث عشر صفر، ولم يبق من الأمراء والأماثل والأفاضل إلا من حضر، وأحضر معه الدنانير ونثر. وتولى ذلك الملك الأفضل فأظهر أبهة ملكه وبهاء فضله، وحصل الإسلام من ري رأيه على نهلة وعله. وندب للرسالة إلى الديوان العزيز (ضياء الدين الشهرزوري، القاسم ابن يحيى) لينشر به ما كاد يعفو من سنن الموافاة

فصل مما كتبته في المعنى عن السلطان إلى الديوان العزيز مع الرسول

ويحيا. وسيرت معه الهدايا، والتحف والطرف السنايا. وأسارى الفرنج الفوارس، وعددها الكوامل النفائس. وتاج ملكهم السليب والصليب والملبوس والطيب. وأضيفت على رسول الإمام ملابس الإكرام، وقفل ناجح المرام. واصطحب الضياءان لإضاءة مطالع الإيمان، بسفارة سافرة عن سني الإحسان، وبشارة شائرة جنى النحل من نحل الجنان. واهتزت الأعطاف، واعتزت الأطراف. وابتسمت ثغور لسدادها، وانتظمت أمور الجمهور لسدادها. وسرت القلوب وسريت الكروب. وخزي الحاسد الحاشد، وقوى الساعد المساعد. وواصل في طريقه الإغذاذ، حتى وصل إلى بغداد. فتلقى الرسول بالسول، وقوبل بالقبول. وخرج إليه الموكب الشريف، وأضيفت له إلى تالد جده القديم جده الجديد الطريف. ودخل البلد وأسارى الفرنج على هيئة يوم قراعها، راكبة حصنها في طوارقها وبيارقها وأدراعها، وقد نسكت بنودها وأتعست أنوفها. وهيئت على هيئة فتوحنا حتوفها، ووقف على العتبة الشريفة واستقبلها وقبلها. ثم عطف إلى دار الكرامة فنزلها. وألفى الوزير ابن حديدة قد عزل، وأقام في بيته واعتزل. وتصدر في الدست للنيابة، وسماع الخطاب والإجابة، ومن له المجد الأثير الصدر الكبير، مؤيد الدين صاحب ديوان الإنشاء، وقد خص بتولي الحل والعقد والأخذ والإعطاء. فتولى سماع الرسالة وجوابها، وأولى صوبها ووالى صوابها. وسيأتي في موضعه ذكر ما انتهيت إليه حال، وجرى به القال، وكيف شغلت العوائق وعاقت الأشغال. فصل مما كتبته في المعنى عن السلطان إلى الديوان العزيز مع الرسول قد تقدمت خدمة الخادم بما قدمه من امتثال المثال، وأداة من فرض الإعظام والإجلال. وقام به من الأمر الذي قام به أمر الدين والدنيا، وبادر إليه من استثمار طاعته التي دامت لها من نعمة الدار العزيزة في إزكاء مغارسها السقيا. وحل حبا الحب لما حل من حبائها، وعقد خنصر النصر لعزائمه على ما اعتقده من ولائها، وجمع شمل السعادة الشاملة بما جمع أمره جمع أمره من اسعادها، واستجد عهد الجد المورق المونق بما جاد ثراه من ثرات عهادها، ونهض من الملك بتقديم ما قدمه على الملوك الناهضين. وأبرم من عقد عبوديته الكاملة ما تقاصر عنه تطاول الناقصين. ووفق لما وافق المراضي الشريفة بما حاز من شرف الرضى، واقتضى دين الدين الثابت وثبت على الوفاء في استيفائه بما قضى. وسبق إلى ما سبق به جواد صدقه في جواد قصده، وافتتح فريضة طاعته في حلاوة عبوديته بتلاوة فاتحة حمده، وانتهى إلى نهاية النهى، وأطاع

ما أطاق فيما أمر الله به ونهى. وما وضع الكتاب من يده حتى رفع بالدعاء يده، وسأل الله لمولانا وسيدنا أمير المؤمنين وافد النصر ومدده. وأن يعضده بولده ولى عهده المطاع بأمر الله عدة الدنيا والدين، ويقربه عيون المسلمين. فقد فاضت البركات، وآضت الحسنات، وأضاءت الكرامات، وراضت جماح الأماني المبرات المبرات، وهاضت جناح الكفر الفتكات المرديات. وعمت الميامن، وتمت المحاسن ونمت ونمت النعم الظواهر والبواطن، وضمت بسكون الدهماء أهلها المعاهد والمواطن. وصدحت المنابر، وصدقت المفاخر، وصدعت الأوامر، وصدفت الفواتر وصدمت قلوب أهل النفاق من بواعث الرعب البواعث البوادر. ونقشت صفحات الدرهم والدينار، ونعشت عثرات الأخيار الأحرار، وفرشت مفوقات الأنواء والأنوار. وعرشت أسرة المبار والمسار، ورفعت رغبات الأبرار، وسمعت دعوات الأسحار. ونزل النصر، وفضل العصر، ووجب الشكر، وشجب الكفر، ورحب الصدر، وأصحب الدهر. وسحت سماء السماح، وصح ارواء الأرواح، وتضوع نشر الانشراح، وتوضح صباح الصلاح، وطال جناح النجاح وطاب جنى الأفراح. وعظم القدر، ونظم الأمر، وحسن الذكر، وأمن الذعر. واهتزت أعطاف الإسلام، واعتزت أطراف الشام، وتبلجت أيامن الأيام، وتروجت أماني الأنام. وأرجت أرجاء الرجال. وثبتت بأسناء الإسناد رواية أمالي ري الآمال. وقرت الأعين وابتهجت بالسعد الطالع، وأقرت الألسن والتهجت بالحمد الجامع، وقرت الأنفس وانتهجت بوسعها سنن العز الواسع، ونابت هذه الموارد العذبة المشارب، الصافية المشارع، في نقع الاوام ونفع الأنام مناب المنابع. وأدخلت السير وسيرت التواريخ، وحلقت ملطفات البشائر ليوجب تفخيمها وتضخيمها التضميخ. وأشرق المغرب من بشر البشرى، وأنارت مصر من حسن هذه الحسنى وبسمت بسمة الشرف منابر الأقاصي والأداني موافقة لمنبر المسجد الأقصى. وتطرزت الفتوحات الفاضل عصرها الشامل نصرها بهذا المذهب المذهب، وفاحت في مهاب المحاب نفحات هذا الزمن الأطهر الأطيب. وعاد الزمان إلى اعتداله وعاذ العدل بزمانه، وتاب الدهر من عدوانه، وآب إلى إحسانه، ورجع الدين إلى سناء سلطانه، وفجع الكفر بعبدة صلبانه، وبطش الإيمان بإيمانه، واستخلص من الشرك بلدانه بلدانه. وتقاضى الربيع بقروضه، وضافت ضيوف فيوضه، وعتب العزم على ربوضه، وحض الحظ على نهوضه. وحث الحب على إقامة سنن الجهاد وفروضه. فقد درت أفاويق الآفاق. وذرت أشعة الإشراق، وافترت نضرة الحدائق لنظرة الإحداق؛ وراقت أوراق الأولوية كالتواء الأوراق، وأزهرت البيض والسمر كأزهار الرياض، وأنف غرار الجفون في الأغماد من الإغماض. وتيقظت الأقدار للأقدار على إيقاظ عيون

البيض لإجراء دم الشرك المطلول، وتنزل البركات في انتجاع المراق من نجيع المارقين لإنزال نص النصر على النصل المسلول، وقد آن أن ترعى الحشاشات منهم على رعى الحشيش، ويطير إلى أوكار المقل طير السهم المريش، وترتع ثعالب العوامل في عشب الكلى، ويطن ذباب المناصل في لوح الطلى، وترن رقاق المرهفات في الرقاب رنين الخطب على الأعواد، وتذوب قلوب علوج الكفر من نار الرعب ذوب الثلوج على رؤوس الاطراد، وتحمل أشجار القنا بثمر الهام، ويجيش الفضاء المعشب بزهر الجيش اللهام، ويقطف ورد الموت الأحمر من ورق الحديد الأخضر، ويوقف حد الهندي الأبيض على قصر بني الأصفر. ويجرى في ورد الوريد جداول البواتر، وترمى من الحصن العاديات إلى حصون العدا جنادل الحولفر، وتكفل بما وعد الله من الظفر الظاهر، والظهور المضافر، وضوامن الضوامر، وتتلى عقبان رايات الفتح والكسر من عقبان الجو بالفتخ الكواسر، ويعبق ثوب الدارع من ردع الثواب بسهك الماذي وتعلق في ملتقى التقى الفات السمهري، بلامات السابري. ويظهر الحق بخذلان الباطل، ويحل بأيدي الأيد ما بقى مع الفرنج من معاقل المعاقل، ويغرق بحر المجر الجرار ما تخلف من ساحات الساحل. فلم يبق به من المدن المنيعة إلا صور وطرابلس، ومعالم الكفر بهما في هذه السنة المحسنة بعون الله تدرس. وأما إنطاكية فإنها بالعراء منبوذة، وعند الاتجاه إليها مأخوذة، وعلى أنها بوقم قومها عام أول موثوذة، وحدوه العزائم إليها عند انقضاء هدنتها مشحوذة. فإنها قد نقضت من أطرافها، ودخل عليها من أكنافها، وجدعت بفتح حصونها عرانينها. وضيق على أسدها وسيدانها المحصورة المحشورة فيها عرينها، فهي نهزة المفترص، وطعمة لمقتنص، وسلعة لمسترخص، وبلغة لمستفحص. وقد خرج الخادم ليدخل البلاد، ويستأنف بجهده الجهاد، ويستقبل الربيع بريع الاقبال، ويستنزل ملائكة النصر من سماء الرحمة لأوقات النزال، وهو ببركة هذه الأيام الزاهرة من الله أن ينجد جند أرضه بجند سمائه، ويوفق الخادم لتصديق أمله في تطهير الأرض من أنجاس أجناس المشركين بدمائهم وتحقيق رجائه. فالجحافل حافلة، وأسراب الكفر بين يديها جافلة، ومعاطف الإسلام في لباس البأس رافلة، ونصرة الله بإنجاز عداته في قمع عداته كافلة. والحمد لله الذي وفق عبد مولانا أمير المؤمنين في طاعته لنصر أمره، وإخلاص الولاء له في سره وجهره، واقتناء كل منقبة حقق بها فضل عصره، وابتكار كل فضيلة سار بها حسن ذكره. فما يفتح مرتجا إلا بتقليدها، ولا يستنجح مرتجى إلا بتأييدها.

ذكر خروج السلطان من دمشق لأجل شقيف ارنون وما جرى له مع صاحبه

ذكر خروج السلطان من دمشق لأجل شقيف ارنون وما جرى له مع صاحبه وأقام السلطان شهر صفر في دمشق وقد أطاب لماشق الآمال من نشره النشق، ثم خرج منها في ثالث شهر ربيع الأول يوم الجمعة بالمحبة المجتمعة، والمهابة الممتنعة، متوجها إلى شقيف ارنون ليقر بفتحه العيون، ويصدق في استخلاصه الظنون. وأتى مرج برغوث، وأقام به إلى يوم السبت حادي عشر الشهر ينتظر من عساكره البعوث، ثم رحل على سمت بانياس وقد أوقع رعبه بين أهل الكفر الياس، وأتى مرج عيون وخيم منه بقرب الشقيف، وجمع على من به آلات الحصار أسباب التخويف. وذلك يوم الجمعة سابع عشر ربيع الأول في أواسط فصل الربيع. وأقام في ذلك المرج الوسيع، والروض الوشيع. وأسمنا الخيل في أعشاب واصية، ورتعنا في ألطاف من الله دانية غير قاصية. وكان الشقيف في يد صاحب صيداء - ارناط، وقد أكمل في حفظه الاحتياط. فنزل إلى خدمة السلطان لحكمه طائعا، ولأمره سامعا، ولرضاه تابعا، وفي موضعه شافعا، وعلى حصنه خاشيا، ولأجله خاشعا. وسأل أن يمهل ثلاثة أشهر يتمكن فيها من نقل من بصور من أهله، وأظهر أنه محترز من علم المركيس بحاله فلا يسلم من جهله، وحينئذ يسلم الموضع بما فيه، ويدخل في طاعة السلطان ومراضيه، ويخدمه على إقطاع يغنيه، وعن حب أهل دينه يسليه. فأكرمه وقربه، وقضى أربه، وأجابه إلى ما سأله، وقبل منه عزيزا ما بذله بذله، وأمهى غرب غربه وأمهله، واخذله وما خذله، وخلع عليه وشرفه ورفعه في ناديه بنداه وعرفه، واقتنع بقوله ولم يأخذ رهينة، ووجد إليه سكونا وعنده سكينة. فشرع ارناط في اذالة حصنه، وإزالة وهنه، وترميم مستهدمه، وتتميم مستحكمه، وتوفير غلاله، وتوفية رجاله، وتدبير احواله، وتكثير أمواله، ونحن في غرة من تحفظه، وفي سنة من تيقظه، وفي غفلة من حزمه، وفي غفوة من عزمه. وكان يبتاع من سوق عسكرنا الميرة، ويكثر فيه الذخيرة. وقد صدقنا كذبه، وحققنا أربه. وأنهى إلى السلطان ما هو مشتغل به من عمارة يجدها، وذخيرة يعدها، وثلمة يسدها، وقوة يشدها، وميرة يستمدها. وكان بالمذكور سديد الظن. شديد الضن. لا يقبل ما فيه يقال، ولا يظن به عثورا يقال. فلما كثر فيه القول، وتمكن من مسألته العول لم يرد أن يبدى له ما قيل، ولم يصدئ بالتغير عليه وجه جاهه الصقيل. فأمر بالانتقال من المرج إلى سطح الجبل، وتحويل الخيم إليه والثقل. وذلك ليلة الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة. وأظهر أن المرج وخيم، والمقيم به سقيم، وأم الدهر فيه

بالصحة عقيم. وكان المقصود أن الشقيف من عيانه يقرب، وأخباره عنه لا تعزب. فلما علم صاحب الشقيف بقربه، شرع في إزالة ما في قلبه. وجاء إلى الخدمة واستمسك بالعصمة. وذكر أنه متعزز بذل الطاعة، وبذل الاستطاعة. وتضرع خاضعا، وتعرض خاشعا. وذكر أنه تخلف له أهل بصور، وأنه كان زمان غيبته يرجو منهم الحضور. وأنه يترقب وصولهم، ويأمل عنده حصولهم. وشرع في تقرير هذا الحديث، وتمهيد عذره فيما يتوهم من عهده النكير النكيث. وأقام يوما إلى حصنه، وقد وجد من السلطان دلائل أمنه. وكانت المدة قد دنا انتهاؤها، وقرب انقضاؤها. فإنها إلى آخر هذا الشهر، ولم يجد بدا من التسليم أو الغدر. فعاد بعد أيام؛ باكتئاب واغتمام. وحضر عند السلطان فقال ما أظهر به الابتهال، واستزاد الإمهال. وذكر أنه رقيق الامتنان، وعتيق الإحسان. وأنه العبد القن، وقد دخل عليه الوهن، وغلق به الوهن، وأنه يبقى أهله معتقلين بصور إن خرج منه الحصن. ومن أنشأ غرسا سقاه فأبقاه، وأشكاه فأزكاه، وأسماه فأنماه. وقد اصتنعتني فلا تضع الرفيع، ولا تضع الصنيع. وسأل أن تكون المدة سنة، وأن يتبع الحسنة في حقه حسنه. وأن يرخى بطوله طوله وأن يشفى بشفاء ألمه أمله. فراقه قوله، فرق له طوله، ثم أفكر في أمره، واستمر في فكره، فغادره على عزيمته غدره، وجاهره بسر شره. بعد أن ماطله وطاوله، وزاوله على ما حاوله. وأقام أياما يردده ويخصه من الكرامة بما يجدده. ثم كشف له الغطاء، بعد أن أجزل له العطاء. وقال له. قد قيل عنك ما لا فيك ولا نعلمه منك. فجحد ما عنه رقى، وأنه كيف يلقى بالكفران ما من الأنعام لقي، وأنه لم يسعد بإمهاله في الشقيف شقى. ثم سأل في ندب من يوثق بأمانته، ويؤمن إلى وثاقته. ليدخل الموضع ويلمحه، ويحضر يوصف ما شاهده ويشرحه. فرجع المندوبون بخبر ما أبصروه، وذكر أن الحصن قد غيروه. وأنه قد استجد في سوره باب، واستمدت له من أحكام إحكامه أسباب، فاستحكم به الارتياب، وعرف أن السرح قد حوته الذئاب. فوكل به وحفظ من حيث لا يعلم، وقيل لعله يحسن فلا يحوج إلى مقابحته ويسلم. ثم قيل له قد بقى يومان من المدة المضروبة، والمهلة الموهوبة، فتقيم عندنا حتى تنتهي المدة وتنقضي، وتسلم الحصن وتسلم وتمضى. فأبدى ضرورة وضراعة، وقال: سمعا وطاعة. وكان له ملقى وملق، وفي لسانه ذلق، وما عنده من كل ما يفرق منه فرق. وقال أنا انفذ إلى نوابي في التسليم. وهو قد تقدم إليهم بالوصية والتعليم. فاظهروا عصيانه، وقالوا يبقى مكانه. فقال قد بقى من المهلة يومان فماذا العجلة التي يفوت بها الغرض، ويطول منها المرض؟ فصير عليه إلى

ذكر ما تجدد للسلطان مدة المقام بمرج عيون من الأحوال وما كان من غزواته ونهضاته ووقعاته في حرب الفرنج والقتال

يوم الأحد ثامن عشري جمادى الآخرة وهو آخر مدته، وأول شدته، وأوان انقضاء عدة عدته. وقد رتب على الشقيف يزكا بمنع الخروج والدخول، والصعود والنزول، ويضايق غريمة المطول، قبل أن يمتد حصاره ويطول. وحمله جماعة من الأمراء ووقفوا به إزاء حصنه، فناداهم في دراك أمره، وفكاك رهنه. فخرج إليه قس قاس، بأسرعن باس، فحادثه في حادثه بلغته، ونافثه في كارثه بغلته، وتحاورا في السر، وتشاورا في الشر. وكأنما أمره بالتجلد، وصبره على التشدد. وعاد القس الشقي إلى الشقيف، وترك صاحبه عانيا بالعناء العنيف، فقيد وحمل إلى قلعة بانياس، وبطل الرجاء فيه وبان اليأس. ثم استحضره في سادس رجب وهدده وتوعده وبالغ في تخويفه، على أن يبلغ المراد في شقيفه. فلما لم يفد خطابه، ولم يجد عذابه، سيره إلى دمشق وسجنه، وألزمه شجاه وشجنه. وتحول السلطان من مخيمه إلى أعلى الجبل يوم الأربعاء ثامن رجب لمحاصرة الحصن، ورتب لها عدة من الأمراء، وأمرهم بملازمته في الصيف والشتاء، إلى تسلمه بعد سنة بحكم السلم، وأطلق صاحبه، وأجرى عليه حكم الحلم. ذكر ما تجدد للسلطان مدة المقام بمرج عيون من الأحوال وما كان من غزواته ونهضاته ووقعاته في حرب الفرنج والقتال اجتمع من كان سلم من الفرنج ونجا على ملكهم الذي خلص من الأسر، وقالوا: نحن في جمع جم خارج عن الحصر، وقد تواصلت إلينا إمداد البحر، فثربنا للثار، وأعرنا من هذا العار. وجاء من كان بطرابلس وخيموا على صور، وفارقوا بالاستطالة القصور. وجرت بين المركيس المقيم بها وبين الملك مراسلات، وحالت بين اتفاقهما حالات. فلم يمكنه من دخول البلد، ولج معه في اللدد. واحتج بأنه من قبل الملوك الذين من وراء البحر، وأنه منتظر لما يبرمونه من الأمر، ويصله من الأمر. ثم اتفقوا على أن يقيم بصور المركيس، ويدوم منه لمللكهم التأسيس؛ ولملكهم التأنيس. وأنهم يجتمعون على حرب المسلمين وقتالهم، ويتسارعون على رم ما تشعث من أحوالهم، ويتعاقدون على حل إشكالهم، ويتعاضدون في تسديد اختلالهم. ويقصدون بلدا إسلاميا من الساحل، ويقيمون عليه بالنوازل إقامة المنازل. والمركيس بمدهم من صور بالمدد بهد المدد، وبجميع ما يحتاجون إليه من الميرة والأسلحة والعدد. فأجمعوا على هذا الرأي، وبلغوا في الغي إلى هذه الغاي. وشرعوا فيما شرعوه، وفرعوا ذروة الأصل الذي فرعوه. ووصل الخبر يوم الاثنين سابع عشر جمادى الأولى من اليزك، أن جمع الفرنج قد نهض كالليل المعتكر، وأنهم

على قصد صيداء للحصر، وقد جسروا على عبور الجسر. فركب السلطان في الحال فيمن خف من ثقال الرجال، وأقتال القتال، واطلاب الأبطال. وانجاد الأجناد، وأجلاد الجلاد، والباذلين المهج للجهد في الجهاد. ووصل إلى الملتقى والشغل قد فرغ، والسيل قد بلغ. والصدمة قد وقعت والوقعة قد صدمت، والثورة قد ثأرت، والسورة قد أسأرت. فإن اليزكية لما شاهدت جاهدت، وتعاقدت على لقائهم وتعاضدت. وخالطتهم وباسطتهم، وواقحتهم وواقعتهم، وجالدتهم وجاولتهم، وحاردتهم وحاولتهم. وردتهم مفلولين مخذولين، وصدتهم مهزومين مثلومين. وقسرتهم وكسرتهم. وأسرت سراتهم، وبزت بزاتهم، وقنصت عقبانهم، وقصمت شجعانهم. وصادت صيدهم، وفرست فرسانهم. ووقع في الأسر من سباعهم سبعة، وغودرت للنسور من أشلاء المارقين بالمأزق شبعة. واستشهد من المماليك الخواص (أيبك الأخرش) وقد كان شهما بالوقائع يتحرش، وثبتا بالروائع لا يتشوش، وأيسا بالحوادث لا يتوحش، وكميا كميشا بالكوارث لا يتكمش. وانفصلت الحرب قبل وصول السلطان وكانت الدائرة على أهل الشرك والطغيان. وعاد السلطان إلا خيم ضربت له بقرب اليزك، وقال لعلهم يعودون إلى ذلك المعترك، فنستدرك ما فرط من استئصالهم واجتثاثهم، وقد ندم الفرنج على ما ندر من اجترائهم وانبعثائهم. وأقام إلى يوم الأربعاء تاسع عشر الشهر، والإسلام بقوة ظهوره على الكفر قوى الظهر، وركب في ذلك اليوم، ليطلع من الجبل على القدم. ولم يكن له نية القتال، فلم يستصحب معه من يستظهر به من الرجال. وتبعه راجل كثير من غزاة البلاد بغير علمه، وظنوا أن السلطان إنما ركب للقتال وعلى عزمه. وكان الفرنج قد بصروا بالراجل فطمعوا فيه، ثم ظنوا أن وراءه عسكرا في الكمين يحميه. وأنفذ السلطان بعض الأمراء إلى الغزاة الرجالة ليعودوا فما قبلوا، وحمل عليهم العدو فأسروا وقتلوا. وختمت بشهادة أولئك السعداء تلك العشية، ونفذت من الله في استشهادهم المشية. وحمل الحاضرون من الأمراء والعسكرية على الفرنج حملة أردتهم وردتهم. وصدفتهم عن الجرأة وصدتهم. وتزاحموا على الجسر فغرق منهم زهاء ثمانين في النهر. وكان يوم علينا ولنا، جنى المنا وأجنى أملنا. وللحرب رجال والحرب سجال. ولم يكن لأولئك الغرباء بقتال الفرنج دربة، وإقدامهم على العدو لله قربة. فخاضوا من الدم في اللجج، واعتاضوا الجنة من المهج. وممن لقي بالشهادة؛ وختم له بالسعادة؛ (الأمير غازي بن سعد الدولة مسعود بن البصارو) كان شابا لنار الحرب شابا، ولدين الرب رابا. ولما شاهد ما تم من الغزاة؛ انقض في أصحابه على الفرنج انقضاض البزاة. فدعته حنته، وإلى طعنة لبتها لبته.

ذكر ما تم من استشهاد عدة من أمراء العرب

فاحتسبه عند الله والده، وكدرت عليه موارده. وأوجد جمعنا الأسى على فقد ذلك الواحد، وساء عدم الساعد، وبتنا نشكر مساعي ذلك المساعد. وضاقت القلوب، وفاضت الكروب. وألم البوس، وألمت النفوس. وهذه وقعة ندرت، وواقعة بدرت، ونذير حدث وحادثة أنذرت. فلم يصب الكفار من المسلمين مذ أصيبوا غير هذه الكرة، وأذاقونا بعد أن حلا لنا جنى الفتوحات مرارة هذه المرة، فأيقظتنا من رقدة الغرة. وأخذ الناس حذرهم ونذروا وعقدوا على الانتقام نذرهم. ثم رجعوا إلى الله وقالوا: بهذا وعد الله حيث قال (فيقتلون ويقتلون)، وعبادة هم الذين يتبعون أمره ويمتثلون. ثم قويت عزمة السلطان على قصدهم في مخيمهم، وكسبهم في مجثمهم. وعبور الجسر إليهم، والإحداق بهم من حواليهم. وشاع صيت هذا العزم وصوته، وأسرع الناس إلى موسمه وخشي فوته. وتسامع أهل البلاد بتصميم عزيمة الجهاد. فتباشروا وتبادروا، وتسابقوا وتسارعوا. وأتوا من كل فج، وجاءوا من كل نهج. وسألوا في كل واد، وجالوا في كل يفاع ووهاد. ووافت مطوعة دمشق وحوران، يجرون إلى مر الموت ويجرون المران. وتوافد من بالبرج والغوطة، على الحالة المغبوطة، وقالوا: هذا أوان إحضار الضوامر المربوطة. واجتمعت (بمرج عيون)، جموع مرجت العيون. فخافت الفرنج من هذا الجمع، وأنافت على القمع. وتعكست إلى سور صور، وعاين أولئك البور الثبور. وتحرزوا وتحرسوا، وتوجلوا وتوجسوا. فاقتضت الحال تأخير قصدهم، ليتمكن على غرتهم حشدنا من حصدهم. وعاد العسكر إلى المخيم وسار السلطان إلى (تبنين)، صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين. لتنقد أحوالها، وتؤمل أعمالها، وعرض رجالها ثم صار منها إلى عكاء جريدة، ورتب في عمارتها وولايتها أحوالا سديدة. ووصى رجالها بالاحتياط والتحفظ، والاستظهار والتيقظ. وأسرع عودته إلى العسكر، عظيم المفخز، كريم المعشر، موفق المورد والمصدر، مقرظ المنظر والمخبر. وأقام إلى يوم السبت سادس جمادى الآخرة، وبحر مخيمه يموج بأمواج العساكر الزاخرة. ذكر ما تم من استشهاد عدة من أمراء العرب وانتهى إلينا أن الفرنج ينتشرون في الأرض، وينبسطون في موضع القبض، ولا يحتفظون في الرفع والخفض، ويحتطبون ولا يحتاطون، ويخشون ولا يختشون. ويجنون ثمار الجبل، على من يصادفونه بأنواع الغيل. وهم في غرة من غارة،

وفي جسارة تعود عليهم بخسارة. وفي غفلة تجر عقلة، وفي ضلة ترفع عليهم من العذاب ظله. وأنهم إذا خرجوا للاحتشاش والاحتطاب، وانتشروا لضم الأعشاب من الشعاب؛ خرجت وراءهم خيل تلحظهم على بعد، وتحفظهم من متعد. ونفذ السلطان إلى خيل تبنين، وأمرهم بأن يصبحوا أولئك الملاعين. فإذا خرجت الخيل إليهم تطاردوا قدامها ووصلت بها الكمين. وذلك يكون في صباح الاثنين ثامن الشهر المذكور، وواعدهم على هذا السر المستور. ونفذ إلى عسكر عكاء ليكمن في موضع عينه، ولا يظهر مكمنه. حتى يكون من وراء القوم، مستعدا لما ينالهم من الوقم. وسار السلطان ليلة الاثنين على الموعد، مصدقا للمقصد. وصادف خيل تبنين قد أغارت وأثارت، وأبرت وأبارت. فعبر تبنين وكمن بين صور وبينها، وعين اليزكية وأوقذ عينها. ورتب ثمانية اطلاب من الأبطال، وكمن بتلك الأرجاء كماة الرجال. وانتخب من كل طلب عشرين فارسا، أجوادا على الجياد، وأجلادا في الجلد على الجلاد. فأمرهم بأن يتراءوا للفرنج حتى تصل إليهم، وتحمل عليهم. وهم يفرون قدامها، ولا يقرون أمامها. ويجذبونها إلى قرب الكمين ويوقعونها عليه، ويواقعونها إذا حصلت بين يديه. ففعلوا ما به امروا، ولما حملت عليهم الفرنج ثبتوا وصبروا، وانفوا من ان يقال عنهم فروا بل جالوا فيهم وكروا. واتصل القتال واشتد، واحتدم المصال واحتد، وطال زمان الحرب وامتد. وطارت جمرات الصفاح، وفازت غمرات الكفاح، وثارت غبرات البرى، ودارت عثرات الثرى. وانحلت عرى اللمم، وانحطت ذرا القمم، وعدم كل قرن قراره، وكل جفن غراره، ودام نهارنا يجري بأنهار الدم أنهاره. وعرف من بالكمين أن الحرب قد اشتبكت، وأن الأسد قد اعتركت، وأن البزل قد ارتبكت وابتركت. فتواصل انجادا للانجاد، وتراسل إمدادا بعد الإمداد. فلما رأى العدو أن المدد يكثر والعدد يكثف؛ وأن عساكرنا لا تتوقى ولا تتوقف؛ صمم العزيمة على الهزيمة، وعلم أن النجاة عين الغنيمة. فثنى أعطافه، وضم أطرافه، ورد أحلافه. وجرت بين الفريقين مقتلة، عادت ارض المعركة بها وهي مثقلة. وكان قد حمل العرب على وعد العود إلى الكمين، والرجوع إلى أسد ذلك العرين. ولم يكن لهم بالطريق خبرة، ولا عبرت من الطوارق بهم عبرة. فتطاردوا بين يدي الفرنج في واد ماله نفاذ، ولا لسالكه إلى منهج ملاذ. ورآهم العدو فعدا وراءهم، وسار بجمعه إزاءهم. فلما انتهوا إلى الجبل أدركوا، ولم يقدروا أن يسلكوا. فقاتلوا حتى قتلوا، واقبلوا على الله فقبلوا. وهم: الأمير زامل بن تبل بن مر بن ربيعة أمير النقرة، وسرى الأسرة. والأمير حجي بن منصور بن غدفل بن ربيعة، والأمير مطرف بن رفيع بن بردويل بن مر بن ربيعة، وآخر معهم. فهؤلاء أربعة من ربيعة بنيت لهم في جنة الخلد ربوع، وقدر لهم في رياض النعيم رتوع. وفازوا بالنعيم ونعموا بالفوز، وانتقلوا من العز الفاني إلى الباقي من العز.

ذكر مسير الفرنج إلى عكاء والنزول عليها ورحيل السلطان قبالتهم إليها

وكان معهم من المماليك الخواص؛ من ذوي الجد والاخلاص؛ تركي عربي النخوة؛ غضنفري السطوة. فلما حصل في المضيق؛ وأيس من الطريق؛ نزل عن فرسه على صخرة بنجوة، ونثل بين يديه كنانته فارعا لذروة، وقد أوتر قوسه وسدد إليهم سهمه، وقبل تضاء الله وحكمه. وحن إلى منيته من حنيته، وأصاب منيته من اصماء العدو في المصاب بأمنيته. فوقفوا عنه بعيدا حتى خافوا قربه، وما زالوا يطعنونه ويرمونه حتى ظنوا أنه قضى نحبه، فأصبح وقد نزف دمه، فترجح على وجوده عدمه. ولما قيل أنه استشهد؛ وطلب ليلحد؛ رمقوبه رمق، وهو في دمه غرق. فحمل على أنه من الأموات، ولم يرج له فوات الوفاة. فأحياه الله بعد أن اماته، وجمع أعضاءه عليه وقد شارف منها شتاته. وأنشأه خلقا جديدا، وأوجده في أجله مزيدا، وهو (ايبك الساقي)، زاده ما جرى اجتراء على الإقدام، وإجراء إلى مضمار الحمام. فما سمع بعد ذلك هيعة الإطار إليها، ولا ابصر للكفر ضيعة إلا أغار عليها. ذكر مسير الفرنج إلى عكاء والنزول عليها ورحيل السلطان قبالتهم إليها وصل الخبر يوم الأربعاء ثامن رجب؛ أن العدو قد ركب. وأجلب بخيله ورجله، وطار بجراد جرده. ودب دباه في رجله. وسرحت ذئابه، ونبحت كلابه. وجاش عرام جيشه العرموم، وطاش إلى أهل الجنة بأهل جهنم. ونوى القرب من النواقير، وأضرم بنار السعير مساعي المساعير وهو على قصد عكاء يجري إلى المدى برأي جمعه المدامير. وأن نفرا منهم نفر، وسبق إلى النواقير وعبر. ونزل باسكندرونة، واستباح طرقها المصونة. وهناك من المؤمنين رجال يحمون طرف الثغر، وسضمون نشر الأمر. ويصمون نحر الكفر، ويجبون غارب الشر، ويجوبون جانب البحر. ويطوفون للحراسة، ويطولون بالحماسة. فلما رأوا مقدمة الفرنج واقعوها ودافعوها، وعاقروها وقارعوها. وأهلكوا عدة، وملكوا عدة. ولما تكاثرت أعداد الأعداء؛ استظهروا بالانكفاء عن الأكفاء. وتراجعوا بعد ما راجعوا. واطلع السلطان على خبرهم، وعرف نفورهم. فكتب إلى العساكر الدانية بالدنو، للعدو. فتوافدوا للميعاد، وتوافوا للاعتضاد، وتوافروا للجهاد، وتوافقوا في إدناء المراد بإبعاد المراد. ورحل الفرنج ثاني عشر رجب يوم الأحد، وافية المدد وافرة العدد. ونزلت على عين بصة، ولقد شاهد دركات جهنم من شاهد تلك الرحاب المغتضة. ووصل أوائلهم إلى الزيب، وأجابوا داعية الصليب. فأصبح السلطان يوم الاثنين على الرحيل، ووصل العنق بالذميل،

وكان الثقل قد سار من الليل وجرى على طريق الملاحة في الأودية جرى السيل. وسرنا على جب يوسف إلى المنية، آخذين بالحزم تاركين للونية. وجئنا بمصر يوم الثلاثاء والسلطان نازل بأرض كفر كنا؛ وبتنا بها تلك الليلة وسكنا. ثم أصبح يوم الأربعاء خامس عشر الشهر ونزل على جبل الخروبة، واطلع منها على الأسرار المحجوبة. وأشرف على العدو النازل، ودنا حزب الحق من حزب الباطل. وكان عدة من الأمراء ساروا على طريق هونين، للفرنج مقابلين مقاتلين. فوصلوا في هذا اليوم، وقد نالوا في طريقهم من القوم. ونزلنا في أرض صفورية بالأثقال، وتجرد الرجال منها إلى المخيم السلطاني للقتال. وكان من رأى السلطان عند رحيل الفرنج على قصد عكا؛ ولم يزل رأيه بنور فطنته وطيب فطرته أذكى وأزكى؛ أن يسايرهم في الطريق، ويواقعهم عند المضيق. ويقطعهم عن الوصول، ويدفعهم عن النزول. فإنهم إذا نزلوا صعب نزالهم، وأتعب قتالهم. وإذا نبتوا تعذر حصدهم، وإذا ثبتوا تعسر قصدهم. وإذا لصقوا ببطن الأرض صاروا كالقراد، وإذا حلقوا في جوالدو طاروا كالجراد. فعند الانتشار يمكن التقاطهم، وعند الانحصار يتمكن احتياطهم. فقالوا له: بل نستقيم على السنن القويم، ونطلبهم طلب الغريم. وما أهون قطعهم إذا وصلنا، وأعجل أدبارهم إذا أقبلنا. والطريق قبالتهم وعر، وللمقصر عن التطاول فيه عذر. فنمضي على اسهل الطرق، ونسد قلثهم بالفيلق. وتبين لنل بالعاقبة أن الرأي السلطاني كان أصوب، فإن نزالهم عند نزولهم صار أصعب. ونزل الفرنج على عكاء من البحر إلى البحر، محتاطين بالانحصار محيطين بها للحصر. وضرب الملك العتيق (كي) خيمته على تل المصلبة، وربطت مراكبهم بشاطئ البحر فكانت كالآجام المؤتشبة. وبعث السلطان ليلة وصوله إلى مدينة عكاء بعثا دخلها على غرة من العدو، وتواصلت البعوث إليها التي هي على التزايد والنمو. حتى استظهرت بغوتها، وقويت باستظهارها. فلما اجتمعت العساكر واتصلت الأوائل بالأواخر؛ عبي جيشه طلبا طلبا، وميمنة وميسرة وجناحا وقلبا. وسار بهيئته وهيبته، وانزل العسكر على تعبيته. ونزل بمرج عكاء على تل كيسان في ذوي اختصاصه، وقد نصب من خيامه عليه اشراك اقناصه. وامتدت الميمنة إلى تل العياضية والميسرة إلى نهر الماء العذب. فدارت رحى الحرب، ودام كر الكرب، وطاب طعم الطعن والضرب، وطافت كأس البأس بمدام الدم على الشرب، ووافى للانجاد عسكر الشرق ماضي الغرب. وصرنا محاصرين للمحاصرين، مكابرين للمكابرين. قد أحطنا بالعدو وهو بالبلد محيط، واستشطنا منه وهو مستشيط. وأحدقنا بأولئك الكفرة إحاطة النار بأهلها، ومنعنا الطرق من ورائهم في وعرها وسهلها. ورتبنا بالزيب والنواقير رجالا

يصدونهم عن سبلها. ودمنا نصابحهم بالقتال ونماسيهم، ونراوحهم ونغاديهم، ونعاودهم ونباديهم ونقدم، بعوادينا على عواديهم، ونصدهم ونصدمهم، ويوجدهم البحر ونعدمهم. وما زالت مراكبهم تتواصل، ومناكبهم تتطاول. وأهل الجزائر من أهل الجزائر متوافرون متوافدون، كترادفون مترافدون. قد لفعوا وجه البحر بنقب السفن، وجذبوا بالقلوس على ثبجة عران الرعن. وألقوا على تياره بسط البطس، وحملوا على البحر أوزارا النجس. وتبا لهم وتعسا. فإنهم زادوا على رجسهم رجسا. وبقى القتال بينهم وبين اليزكية؛ كل بكرة إلى العشية؛ إلى أن وصل الملك المظفر تقي الدين عمر ومظفر الدين كوكبوري - الأسد الغضنفر. فاستظهرنا بهما وبعسكرهما الدهم، ووصل مقدمو الرجال في الجمع الجم. واستدارت الفرنج بعكاء كالدائرة بالمركز، وزادوا من جانبنا في التحرس والتحرز. ومنعوا من الدخول والخروج؛ ولج أولئك العلوج في ضبط طريق الولوج. وذلك في يوم الأربعاء والخميس آخر رجب لانسلاخه، والإسلام ينادينا باستصراخه. وأصبح السلطان يوم الجمعة مستهل شعبان وقد استهلت راياته، واستقلت آياته. وعز عزمه وعلا حكمه. وما منا إلا من أسرج الجرد وجرد السريجيات، وعاج بالاعوجيات، وأشرف بالمشرفيات، وبرز باعتقال الردينيات، ورديان العقيلبات، وأذكى المذاكي وقرب المقربات. وقد سن سنان لدنه، وجن جنان قرنه. وساف سيفه ردع الدم، وضاف جوده مضيف العدم. وأقبلنا والنصر مقبل، والظفر متهلل. والميمنة والميسرة باليمن واليسر ممتدتان، والقلب له من التأييد والتمكين جناحان. واتفقت الآراء؛ وأجمع الأمراء على أن يكون اللقاء وقت صلاة الجمعة، عند قبول الدعوات المرتفعة. ومناب منابر الإسلام عن أهله في جميع بلاده، وإجماع الألسنة والقلوب في الضراعة إلى الله في نصرة المجاهدين من عباده. وأحاط العسكر الإسلامي بجوانبهم. وكدر عليهم صفو مشاربهم، وفلل مضاء مضاربهم. وهم في وضعهم واقفون، وعلى مصارعهم عاكفون، وفي مواطنهم ثابتون. وعلى مواطئهم نابتون كالبنيان المرصوص ما فيه خلل، وكالحلقة المفرغة ما إليها مدخل. وكالسور المحيط ما عليه متسلق، وكالجبل الأشم ما فيه متعلق. فزحفنا إليهم فلم يبرحوا، وقربنا منهم فلم ينزحوا. وحملنا عليهم فأخذوا الضربة ولم يعطوها، وأنخنا لهم مطايا المنايا فهان عليهم أن يمتطوها. ودامت الحرب قائمة، وديمة الدم دائمة. وكلما قتل واحد وقف آخر مقامه، وخلف نظامه. حتى دخل الليل وحجز، ووعد النصر ما نجز، وحزب الحق ما عجز. أصبحوا يوم السبت على الحرب كما أمسوا، وزادوا على ما جرى أمس وألهوا عنه وأنسوا. فما طلعت شمس الظهيرة حتى طلعت شمس الظهور، وأصبحت شمس الجمهور، واستضاف نورها مستفيض النور. وحمل الناس

من جانب البحر شمالي عكاء حملة شديدة، كانت لمن قدامهم من الفرنج مبيدة. وفرشوهم على تلك التلول، وردوا مضاربهم من فلم بها بادية الفلول. وانهزم الفرنج إلى تل المصلبة نحو القبة وثبتوا عند الوثبة. وأخلوا ذلك الجانب، وخلوا تلك المذاهب. وقلعت خيامهم منها، وقطعت أطماعهم عنها. فانفتح لنا طريق عكاء ودخلها الرجال، وحملت اليها الغلال، ونقلت إليها الأحمال. ودخل العسكر إليها وخرج، وانكشف ضيق حصرها وانفرج. وذلك من باب القلعة الوسطى إلى باب قراقوش، واستطرقت إليها العساكر والجيوش. واطلع السلطان على الفرنج من سورها، وشرع في تدبير أمورها. وخرج عسكر البلد للمؤازرة على قتال العدو العادي، وترك الهوادة في قصر القصر والهوادي. والفرنج قد رهبوا، ولو قدروا هربوا ولكن أصحابنا رأوا أن انفتاح باب البلد غنيمة، وأنهم أي وقت أرادوا كانت منهم عزيمة، ومن العدو هزيمة. وتوقفوا عن الإتمام، وتقدموا عن مقام الإقدام. ولو أنهم استمروا في الحرب على هيئتهم وهيبتهم؛ لباء الأعداء لنجحنا بخيبتهم. فإن الصدمة الأولى أخافت وحافت؛ ونافت بقاء القوم وعلى هلكها أنافت. لكنا تركناهم حتى عادت إليهم الارماق، وعاود فرقهم الافراق. وأبصروا ما بين أيديهم وما خلفهم وأزالوا فيما بينهم بالموافقة خلفهم. وأثبتوا في مستنقع الموت أرجلهم، ورأوا أن الوقت قد أمهلهم. وقال أمراؤنا: هؤلاء قد سهل أمرهم، وخمد جمرهم. وقد حص رياشهم حصرهم. وهم في قبضتنا أي وقت اردنا، ولقصدهم تجردنا. وقالوا: نصير إلى الظهر ونمضي ونسقي الخيل ونعود، وحينئذ يشتغل بهم العدم ويفرغ منهم الوجود. فانصرفوا على وعد العود، وتفرقوا في مراتعهم تفرق الذود. وبلع العدو ريقه، ووجد إلى الجلد طريقه، وجمع يعد التفرق فريقه. وضم عن الانتشار راجله، وزم رامحه ونابله. ووقفوا كالسور من وراء الجنوبات، والتراس والقنطاريات. وقد صوبوا الجروخ وفوقوها، وجمعوا العدد وعلى الرجال فرقوها. كأنهم في الدروع أراقم، وفي المجان علاجم، وفي النهوض قشاعم، وفي الضراوة ضراغم. واختلفت الآراء مع العلم باحتراسهم، وتسترهم بتراسهم. فمنا من يقول: نصبحهم بالزحف، ونزورهم بالحتف. ويترجل الأمراء فيتبعهم الأصحاب، وتنشب من آسادنا في تلك الخنازير من النشاب والأظفار والأنياب، ويتصل الطعان والضراب. فنسفهم ولو أنهم جبال، ونطفئ نيرانهم فلا يقد لهم من بعدها ذبال. ومنا من يقول: يدخل راجلنا إلى البلد، مستعدا بالأهب متأهبا بالعدد. فإذا زحفنا إليهم وأوجفنا عليهم، خرج من في البلد من العسكرية والراجل، ونازلناهم من أمامهم ومن ورائهم بالنوازل. فلا تطرف لهم بعدها عين، ولا يبقى لدين بعد درك الثار منهم دين. ومنا من يقول: لا بل نفرج عنهم، ونبعد منهم.

فما دمنا على هذه المضايقة والمصابرة؛ والمحاققة والمحاصرة؛ والمكابدة والمكابرة؛ فإنهم يتيقظون وينتبهون، ويتحفظون ولا ينتهون، ويتحرزون ويتحربون، ويتوجلون ويتوجمون. فإذا أرخينا طولهم؛ وأوسعنا أملهم؛ استرسلوا بعد ما استبسلوا، واستقبلوا الدعة بعد ما استقتلوا. واطمأنوا فطمعوا، وإذا أبطأنا تسرعوا. واغتروا بأنا على غرة فأغاروا، وظهرت لهم آثار ركودنا عنهم فظهروا وثاروا، فحينئذ حينهم يحين، وشينهم يشين. وإذا ظهروا ظهرنا عليهم، ومتى أصحروا أصحرنا إليهم. وأن بارزوا بارزناهم، وأنجزنا عدة أمانينا فيهم وناجزناهم. ومنا من يقول: هؤلاء في عدد النمل، وكثرة الرمل، وظلام الليل، وعرام السيل. فما يقمهم إلا العدد الكثير، ولا يقمعهم إلا الجمع الجم الغفير. والمصلحة أن تستقر العساكر، ونستحضر لإبادتهم البادي والحاضر. ونستجيش الجحافل، ونستثير الفارس والراجل. ونلقاهم بأمثالهم، ونقدم عليهم مستظهرين في قتالهم. ومنا من يقول: هؤلاء عالم لا يحصى، قد حضروا من الأدنى والأقصى. وأزوادهم عن قريب تفرغ، وآمادهم في الصبر تبلغ. وأمدادهم تنقطع، وأنجادهم تمتنع. وموادهم تقل، وجوادهم تضل. ولمراكبهم في الشتاء شتات، ولحبائلهم وحبالهم انبتات. فإما أن يضطروا إلى الانفصال؛ وإما أن يؤذن فناء أرزاقهم بحلول الآجال، ويهون علينا حربهم في تلك الحال (وكفى الله المؤمنين القتال) فهذا عسكر الإسلام، وجند مصر والشاك. ففي الإقدام به خطر، وفي لمباشرة بحربه غرر. والمصلحة العامة تلحظ، ورأس المال يحفظ. ومنا من يقول: نستدعى من مصر الاساطيل، ونستدفع بحقها الأباطيل. ونستكثر من مراكبها، ونستعدى على هذه الأفاعي بعقاربها، ونستطيل على الشناة المستطيلة بشوانيها، ونعدو على عوادي الأعادي بعواديهما. وإذا وصلت وقطعت عليهم طرق البحر؛ وصلت لنا أسباب النصر. وحينئذ نقاتلهم برا وبحرا، ونوسعهم بمضايقتهم فيهما قتلا وأسرا. وما زالت هذه الآراء بيننا متداولة؛ وخواطرنا في تدبيرها متجاولة والحرب بيننا وبين الفرنج جارية، وزناد الهيجاء لإشعال نارها وارية. وفي كل يوم نتصافح بالصفاح، ونتكافأ في الكفاح. وننطق فيهم بكلام الكلوم، ونلحق منهم الوجود بالمعدوم، وللطلائع وقائع، وللوقائع طلائع. وللسهام افواق فائقة، وللحمام أسواق نافقة. وسرايانا في كل يوم وليلة تسرى وتأسر، وتبرى وتأبر. وتكبس وتكسب، وتسبى وتسلب. والسلطان يباشر ذلك كله بنفسه، وهو يدأب في يومه اغده مجتهدا في الزيادة على أمسه. نائبا عن أعوان المسلمين وأنصارهم، ساهرا لهم في ليلهم قائما بأمرهم في نهارهم. والعين الساهرة في سبيل الله قريرة، وتعب يوم واحد لله في اليوم الآخر ذخيرة.

ذكر وقعة تمت يوم الأربعاء سادس شعبان

ذكر وقعة تمت يوم الأربعاء سادس شعبان وركب الفرنج آخر يوم الأربعاء سادس شعبان بأجمعهم، وتقدموا من مواضعهم، واشتاقوا إلى مصرعهم، وفارقوا الحزم في تسرعهم. وخرجوا عن رجالتهم، وتجردوا بخيالتهم. وحملوا على الواقفين من أصحابنا حملة الرجل الواحد، فتحرك الصف الثابت الساكن أمامهم كالبنيان إذا تحلحل من القواعد. وتراجع عنهم المسلمون استدراجا، وملأت الأرض السماء عججا وعجاجا، وزخر بحر الحرب على أمواج أمواجا. فما قربوا من خيام اليزك؛ إلا وقد اعتكر جو المعترك. وعساكرنا قد أوجفت عليهم، وزحفت إليهم، وأردتهم بعقابهم، وردتهم على أعقابهم. ووصلت إلى رؤسائهم فقطعت رءوسا، وألحف بأسها ذلك الجمع بوسا، وثنت وجه الكفر عبوسا. وولوا مدبرين، وأدبروا مولين. والجريح بالقتيل عابر عاثر، والذمر الباسل باسم بالموت باشر. فلما جن الليل رجعت بما جنته الخيل. وبات كل حزب على حرب، وإعداد عدد طعن وضرب. وبات الناس من الجانبين على غاية من التيقظ، وهمة متنبهة للتحفظ. وحراسة وحماية، وسياسة ورعاية. فلما اصبحوا عادوا إلى عادتهم في اللقاء، وهاجوا بعاديتهم إلى الهيجاء هذا وأبواب البلد مفتوحة، والصدور الظهر إليها مشروحة. والفرنج قد ندموا على ما قدموا. وعدموا بصيرتهم بما صدموا. وعادوا لا يفرطون ولا يتورطون، وينقبضون ولا ينبسطون. ذكر وفاة حسام الدين طمان انتقل السلطان ليلة الاثنين حادي عشر الشهر إلى تل العياضية، ليكون منه في الجهة المرضية. فإن هذا التل بازاء تل المصلبة منزلة العدو، وهو مشرف عليهم للعلو. وضربت خيام الميمنة ممتدة إلى البحر، وخيام الميسرة إلى النهر، واتسع مجالنا وضاقت الدائرة على الكفر. وكان الأمير طمان - صاحب الرقة - مريضا، ولم تزل وجوه الأيام الغبر في سبيل الله باحمرار بيضه بيضاء. وهو الحسام الفاضل، والهمام الباسل، والقرم البازل، والندب الحلاحل. والمحترق لحمية الدين، والمقترح لحماية المسلمين. ولما وافت وفاته؛ وفاته رجاؤه ولم يرج فواته؛ أسف على عمره، وأسى على أمره. وحزن كيف لم يقتل شهيدا، ولم يستشهد في الجهاد سعيدا. وقال: قدموا حصاني حتى أشهد الحرب واستشهد، وأجاهد إلى أن أقتل وأجهد. فإني أرى موتي على الفراش غبنا، وقد عرفتم مني شجاعة لا جبنا. وتوفي عصر الأربعاء ثالث عشر شعبان؛ وبوأه الله الجنان، وبشر به رضوان. وكان

ذكر واقعة للعرب اربت لنا بالأرب

قد توفي بالقرب الأمير الندب؛ فارس الحرب؛ ليلة الاثنين السابع والعشرين من رجب؛ (حسام الدين سنقر الخلاطي) النجيب المنتخب. فنبت مضارب الدين بإخماد الحسامين، وجلت الهموم لأجل أجل الهمامين. فوجمت النفوس، وألمت القلوب، وفاضت لغروب فيضهما الغروب. ذكر واقعة للعرب اربت لنا بالأرب انتهى إلينا أن الفرنج يتطرقون ويتطرفون، ويأمنون ولا يتخوفون. . ويخرجون للاحتشاش، وينتشرون لضم الأعشاب من الأعشاش. ويصلون إلى طرفي النهر وهم لمن يحلق عليهم من فوقهم تحت القهر. فانتدب جماعة من العربان، وضراغم فارسة من الفرسان. فأغاروا وهم غارون، وساروا إلى جمعهم وهم بتجميعهم سارون. وحالوا بينهم وبين خيامهم، وحشروهم إلى حمى حمامهم. وحملوا إليهم حين حملوا عليهم بؤسا، وقطعوا منهم لما اتصلوا بهم رءوسا. وأحضروها عند السلطان فاجتابوا بها خلع الاجتباء، وبعثهم على الحمية والإباء. وذلك يوم السبت ثالث عشر الشهر. ومسر المسلمون واستبشروا بوقعة النهر. هذا والقتال بينهم وبين أصحابنا في عكاء متصل، وشرار الشر مشتعل، والموت منهم منتق وفيهم منتقل. وفي كل يوم تقوم الحرب على ساق، والأرواح في مساق، والمصاع على اتساق. وكم قتل من حزب العدو وأسر، وكم حمل ليكسر فكسر. وربما مل الحزبان، وكل الغربان، فتوافقا على الأمان، وتوافقا يتكلمان. وربما أقدموا ثم نكصوا، وغنوا ورقصوا. وإذا لغبوا لعبوا واستراحوا إلى الوقوف إذا تعبوا. ومن نوادر ما جرى وغرائبه؛ وملح ما تم وعجائبه؛ أن الطائفتين في بعض الأيام ضجرتا من مباشرة الحرب على الدوام. فقال واحد من الفرنج: إلى متى هذا القتال، وقد فني الرجال. فاخرجوا صبيانكم إلى صبياننا، ليكونوا في أمانكم وأماننا. فبرز منهم صبيان ومن البلد آخران. فقاتلوا مليا، وألفوا نار الحرب صليا. ثم وثب أحد الصبيين المسلمين، على أحد الصبيين الكافرين. وضرب به الأرض، وقفز عليه وانقض. وقبضه كسيرا، وجذبه أسيرا. فافتداه بعضهم بدينارين، وعاد المسلم من ظهوره وسروره إلى جنتين، والعدو من كفره وفكره إلى نارين. ومن الاتفاقات النادرة؛ وإمارات السعادة الظاهرة؛ أنه أفلت من بعض مراكب الفرنج حصان؛ له عندهم صيت وشان. فلم يقدروا على ضبطه، كما عجزوا عن ربطه. وما زال يعوم في البحر وهم حواليه، حتى دخل مينا البلد وتسارع أصحابنا إليه. وأهدوه إلى السلطان، وعده العدو من إمارات الخذلان، ورأيناه لنا من دلائل النصر والإحسان.

ذكر الوقعة الكبرى

ذكر الوقعة الكبرى واصبح الفرنج يوم الأربعاء العشرين من شعبان؛ وقد رفعوا الصلبان، وزحفت أسودهم في غاب المران، وطارت بهم خيولهم عقبانا على عقبان. وجرت بالجبال منهم رياح، وجالوا دون التل كأنهم له وشاح. وخرجوا على العتبية، وشفعوا نداء الكفر يالتلبية، وشعفوا بالتبرية للتربية. وتقدموا معتزمين، وعزموا مصممين. وثاروا ثورة الشيطان، وفاروا فورة الطوفان، وقدموا الراجل أمام الفرسان. وزحفوا اطلابا، وحفزوا طلابا. ودبوا دبيب الليل إلى النهار، وهبوا هبوب الخيل إلى المضمار، واجروا سيول السوابق إلى القرار، وجروا ذيول السوابغ إلى الغوار. وتخركوا وهم هضاب، وتدركوا وهم غضاب، وما زالت ميسرتهم تكثر وتكثف؛ وتعطوا وتعطف؛ وتفور وتثور؛ وتزود وتدور؛ وتهم وتهمهم؛ وتدمدم وتدوم. وقد عبى السلطان ميمنته وميسرته، وطلب من الله نصرته. وثبت قلبه وقلبه ثابت، وحزبه في صف الحرب نابت، ورعبه لكبة العدو كابت. وهو يمر بالصفوف، ويأمر بالوقوف. ويحض على حظ الأبد، ويحث على الجلاد والجلد. ويثوب للوثوب، ويندب إلى الندوب. ولما شاهد شروق بروقهم، وخروق مروقهم؛ وكثافة ميسرتهم؛ وحشو حشود كثرتهم؛ أنهض رجال القلب لتقوية ميمنته على الحرب. وكان الملك المظفر تقي الدين من الميمنة على الجناح، في جمع يعثر بعثيره وارد الصباح. وكلما تقدموا تأخر يستجرهم، ويحذر مكرهم ومكرهم فعرفوا أنهم لا قبل لهم لمقابلته، وأن هذا ليس ميقات مقاتلته. فتركوه واستقبلوا القلب، وزخر بحرهم وعب. وحملوا حملة دوي منها الدو، واسود منها جوى الجو. ووصلوا إلى جموع ديار بكر والجزيرة، وغاصوا في لجتها بغدران السوابح والسوابغ الغزيرة. وكانت من القلب على الجناح للطيران، وجبالها على الرياح للجريان. فعرفوها بالغرة، واستضعفوها لدى الكرة. وألموا بها فما ألمت، وهموا بها فما همت، واندفعت وما دفعت، وتراجعت وما رجعت، وتعكست وما عكست، وأدبرت وما تدبرت. ولكنوها غير عارفة بقتال الفرنج هابت وما هبت، ولابت ومالبت، ورابت وماربت. وجاءوا إلى القلب وقلبوه، وحاربوه وحربوه. وخربوا حزبه، وخرقوا حجبه. وهنالك استشهد كرام باعوا أنفسهم بالجنة، وأسنوا نحورهم نحو الأسنة. منهم: (الأمير مجلي بن مروان) - وكان مجليا في المروة، و (الظهير أخو الفقيه عيسى) - وكان ظاهر الفتوة. وآخرون اعترفوا بذنوبهم، فرحضوا بماء الشهادة درن حوبهم. وصعدوا إلى مخيم السلطان، طامعين في استطالة حزب الصلبان. وكنت في جماعة من أهل الفضل قد ركبنا في ذلك اليوم، ووقفنا على النل نشاهد الوقعة وننتظر ما يكون من القوم. وما ظننا أن القوة تهى، وأن الواقعة إلينا تنتهي.

ذكر حصة النصرة بعد صحة الكسرة وكيف أدال الله الإسلام وأذال الكفر بتلك الكرة

فلما خالطونا في المخيم، وباسطونا في المجثم؛ وكنا على بغال؛ بغير أهبة قتال؛ استدركنا أمرنا، وأخذنا منهم حذرنا. ورأينا العسكر موليا، والمنهزم عما تركه من خيامه ورحله متخليا. فوافقنا في الاندفاع، وألفينا الاستضرار في المال عين الانتفاع. فوصلنا إلى طبرية فيمن وصل، ووجدنا ساكنها قد أجفل. فسقنا إلى جسر الصنبره ونزلنا على شرقيه، وكل منا ذاهل عن شبعه وريه، مفكر فيما يكون من امره، منكسر القلب لما تم على الإسلام من كسره. لا يألف مبيتا. ولا يلفى بيتا. ممسك بلجام فرسه، قد آذن ضيق نفسه بضيق نفسه. ومن المنهزمين من بلغ عقبة فيق، وهو غير مفيق، ومنهم من وصل إلى دمشق غير معرج على طريق. وأقمنا بموضعنا على الجوى، والخيل واقفة بلجمها والطوى. والغمض غير طارق، والفرق غير مفارق، القلوب مرتاعة مرتابة، والأدعية إلى الله مرفوعة مستجابة. وتحدث الناس فيما بينهم بأن الإسلام عاد جده، وعدا جنده، وأن الكفر حاد وفل حده. وأن الميسرة ثبتت فثاب اليسر، والأسدية انتصروا فأسد النصر. وكان هذا الصدى يقوى، والصدأ يروى، والبشرى تسرى، والبرد بها تجرى، والناس بين مصدق ومكذب، وذاهب في مذهب من الظن مذهب مهذب، حتى عبر سحرا علينا خادم اسمه (صافي)، وقد ورد مورد الظفر الصافي. فنادى: أين العماد! فقد جاءه من النصر المراد. فأسرعنا إليه، واجتمعنا عليه. فقلنا: ما الخبر، وكيف ضفا الظفر، وصفا الكدر. وقدر السلطان وتسلط القدر، وإلى أين أنت سار بالنبأ السار، وفي أية دار تنزل بمنزل النصر الدار فقال: أنا بشير دمق بالنبأ العظيم، والخبر الكريم. فقلنا أهلا بشائر البشائر وطائر الأوطار، والسائر بالمسار، والأخ البار بالأخبار. والصديق الصادق، والموفق الموافق. ومرحبا بالخصى الخاص لما مر حبا، فحل بالخير الفحل فحلا، وكم أم للنجح أملا وجلا وجلا. فأبنا محبورين، وثبنا مثابين مأجورين. وندمنا على ما ندمنا في الهزيمة، وعز علينا ترك الأخذ بالعزيمة. ولقينا السلطان وقد فتك وقتل، وجد وجدل، وانتقم من القوم ومن مقامه ما انتقل. وقد شل الجموع وجمع الأشلاء، وأدام الإجراء حتى أجرى الدماء. ذكر حصة النصرة بعد صحة الكسرة وكيف أدال الله الإسلام وأذال الكفر بتلك الكرة ولما تمت الكسرة؛ وعمت الفترة؛ وكرت الكرة؛ وأمرت تلك المرة؛ وصل جماعة من الفرنج إلى خيمة السلطان، وشيم من عارض اعتراضهم شؤم شيمة الشيطان. وجالوا جولة، وخالوا دولة، وصالوا صولة. ثم رأوا عنهم انقطاع أشياعهم، وعدموا اتباع أتباعهم، فشرعوا في اندفاعهم، وهابوا الوقوف على اجتماعهم. فانحدروا عن التل،

وقد جاءوا بقوة العز فآبوا بضعف الذل. واستقلهم أصحابنا فركبوا أكتافهم، وحكموا في رقابهم أسيافهم. وردوهم وأردوهم، وعدوا على شركائهم في الشرك فأعدوهم. وكان في ميسرتنا عسكر سنجار والأسدية. فما زالوا وما زالوا، بل وصلوا وصالوا وصلوا. وحملت عليهم ميمنة الفرنج فكأنما مرت بالجبال الرياح، وخالطوها فودعت أجسامها الأرواح. وعاد من كان من الميمنة الإسلامية بالبعد، حاد المضاء ماضي الحد. مثل: تقي الله، وقايماز النجمي، والحسام بن لاجين، ومن ثبت من أبطال المجاهدين. فعكروا على ميسرة الفرنج فشلوها، وأنهلوها من دمائها واعلوها، ولفوها وفلوها، ولقوها واقلوها. ووضعوا فيها السيوف، وأوضعوا إليها الحتوف. وأوسعوها قتلا ذريعا؛ وما أبطأ الوقت حتى صار مقدامها صريعا سريعا. فلم يفلت من الأعداء إلا أعداء، ولم ينج من آلافها إلا آحاد. وأمست لنار الحرب فراشا، ولأرض المعركة فراشا. وتبعها أصحابها حتى كلت سيوفهم وكلوا، وملت لتوتهم وليوثهم وملوا. وفرس زهاء خمسة آلاف فارس، من كل ممار ممارس، ومستوحش بالموت آنس. وممن أودى في الإقدام مقدم الداوية، ولم تحمه من الحمام ناره الحامية لنار الحمية. وحكى عنه أنه قال: عرضنا في مائة ألف وعشرة آلاف، أحلاف الحاف وألاف إتلاف بلا تلاف. فلما عجزوا؛ وبالخندق احتجزوا، وقف عنهم أجنادنا، وبلغ المدى فيهم جهادنا واجتهادنا. ومن العجب ان الذين ثبتوا منا لم يبلغوا ألفا فردوا مائة ألف، وآتاهم الله قوة بعد ضعف. وكان الواحد منا يقول قتلت من المثلثين ثلاثين وأربعين، وتركتهم بالعراء عراة مصرعين، ولاشك أن الله أنزل ملائكته المسومين. وكل يتحدث بعد ذلك مما شهده، ويعهد إلينا بما عهده. وحكى بعضهم قال: كنت على فرس قطوف، ماله منه سير ولا وقوف. وأنا منهزم من فارس مدجج، في بحر الحرب ملجج. وهو على جبل يجرى به جرى الريح، وينادى بشعار المسيح، وقد لز بقربي حصانه، وهز لصلبي سنانه. فما شككت أنه يشكني بلهذمه، ويفكني بمخذمه. وأيست من البقاء، وأنست للشهادة واللقاء. واستعذت بالله واستعنت، وتشاهدت مما شاهدت. ثم أبطأت على صدمته، وأخطأتني حدمته، فالتفت فإذا هو وحصانه مبقى كلاهما، وما وجدت بالقرب أحدا أقول أنه أرداهما. فعرفت أنه نصر الهي، وصنع رباني، في مذاق الإيمان شهى، وفي آفاق الإحسان بهي. فأيقنت أن النصرة ما ملكت إلا الملائكة نصرت، وأن الظهور ما سر لأسرار لله ظهرت.

ذكر مكاتبة أنشأتها إلى بعض الأطراف بشرح ما يسره الله في هذه الوقعة من الألطاف

ذكر مكاتبة أنشأتها إلى بعض الأطراف بشرح ما يسره الله في هذه الوقعة من الألطاف وقد سبقت المكاتبة بشرح الأحوال وذكرها، وشكر ألطاف الله الخفية وإبداء سرها، ونشر مطاوي النعم بإذاعة طيها وإشاعة نشرها، وذكر فيها ما الفرنج عليه من اجتماع راجلها وفارسها، والاحتماء بخنادقها ومتارسها، وان لنا كل يوم فيهم نكاية بالغة، وسطوة دامغة، وثعالب عوامل في دمائهم والغة، ومضارب مناصل لرءوسهم فادغة، ونيوب عواسل لمضغهم ماضغة، وذيول نقم عليهم في تقليص ظلال ضلاله مسابغة، وأيدي أيد لصفحات البيض بنجيعهم القاني صابغة، وضمائر وضوامر عن كل شغل سوى شغل الجهاد فارغة، وهمما وعزائم لا ترى عن وقم القوم أهل الزيغ زائغة. وما برح الفرنج في برج شديد، وأمر غير سديد، وظل للذل مديد، وضيق حصر في كل يوم جديد جديد. حتى ضاقت أنفسهم وأنفاسهم، وأخفق رجاؤهم وظهر يأسهم، ووقع بينهم بطول المقام بأسهم. فأجمعوا أمرهم على انهم يجدون في اللقاء، ويهيجون إلى الهيجاء. ويلقون الألوف بالالوف، ويصدمون الصفوف، ويعرضون نحورهم ووجوههم على الأسنة والسيوف، ويجمعون في كلام الكلوم من الصواهل والصوارم بين الأصوات والحروف. ويكسفون بشبه التثليث أدلة التوحيد، ويكشفون الضر عنهم بالجد الديد، والحد الحديد. وبرز ذلك الخميس يوم الأربعاء لعشر بقين من شعبان، ورفعوا الصلبان وأشرعوا الخرصان، وتبعوا الشيطان، ورتبوا الرجال وطلبوا الفرسان. وحملت لهم اطلاب تضم ابطالا، وتضمن بباطلها للحق أبطالا. وتأمل لشملها المتفرق اجتماعا، وترجو للصليب السليب ارتجاعا. وعصفت رياحها الهوج وأقبلت بحار سوابحها وسوابغها تموج. وكاد أن يثبت للشيطان قدم، ويراق للإيمان دم. فإنها خرقت حجاب الصف، وفرقت شمل الجمع الملتف. وراع جنان الجبان وهمه وهمه، وأدبر موليا وعزمه زعمه. فظن من لا يقين له أن الإسلام قد أسلم، وأن نصر الله الموجود قد عدم، وأن الكفر المتأخر قد تقدم، وأن الصبح المتبلج قد أظلم. وهناك عرف أهل الثبات وثبت أهل العرفان، ورقصت المران على اشاجع الشعان، والتفت العنان بالعنان، والتقى السنان بالسنان. وخطبت الصوارم على منابر الطلى. ورتعت اللهاذم في كلأ الكلى. وفتحت اليغالق مغالق الحتف، وزحفت الفوارس إلى فوارس الزحف. وعطف العساكر المنصورة طلابا لتلك الاطلاب، ووصلت ضرب الأعناق بقطع الرقاب. وما زالت تشل الفرنج وتفلهم؛ وتحل بعقدهم الوهن وتحلهم؛ وتروى طمأ الظبا من ورد وريدهم؛ وتخضب شيب البيض بدم طريدهم؛ حتى فرشت بعد

أن سلبت أشلاؤهم بالعراء عريا، وجرحت خيولهم وخيالتهم فلم تستطع إجراء ولم تطق جريا. حتى تثلمت وتلثمت بنجيعهم صفحات الصفاح، ووقفت أشباحهم وقفة الوداع لفراق الأرواح، وأعرب حديث حادثهم عن جمجمة الجماجم الفصاح. وقتل من مقدميهم ومقدميهم زهاء خمسة آلاف زهى الإسلام بما أتسع من عطن عطبهم، وحسن منقلبه بسوء منقلبهم. وعاش بما شاع من قتلهم، واشتغل العسكر المنصور بشغلهم. وطاب القلب المهموم بما تم من مأتم الكفر وعرس الدين، وقصم الهدى متن الضلال المتين، وهمت الرواعف الفوارع بحمل هامات الحاملين. وانجلى الغبار عن كل قتيل ما لعاثره من مقيل، ولا لقائله من مقيل. وعادت أعلام الإسلام ظاهرة، وإيمان الإيمان باطشة قاهرة. وهدى الهدى على النصر مزفوفة، وعيون العدا عن النظر بالعمى مكفوفة. ولم ينج ممن حمل من حمل راسه، ولم يقدم من أولئك الرجال إلا من فقد رجاءه ووجد ياسه. وعاد الفرنج إلى خيامهم وقد فجعوا بتلك الألوف، وأصيبوا بمن صفا في تلك الصفوف، وتراءت وجوه الفتوح لنا من خلال تلك الحتوف. ودخل الليل عليهم، ووقفت العساكر حواليهم. وهم وأن وهنوا لما أصابهم من الكسرة؛ وأخطأهم من النصرة؛ وحل فيهم من الرزء؛ وسخر بهم الشيطان في موقف الهزء؛ وفجع كلهم بالجزء؛ ونقص منهم العدد الكثير؛ وركد من ريحهم ذلك العاصف المبير؛ فإنهم في حشد كالدبى، وجمع أغص الوهاد والربا، وقد اخلدوا إلى الأرض وشدوا على حب الموت الحبا، وودوا لو وجدوا مهربا، وتفرقوا أيدي سبا. وقد عادوا وتحصنوا وتصبروا، وتخيروا المقام على الحين حين تحيروا. وأوسعوا الخنادق وعمقوها، وأحكموا المتارس ووثقوها. وندموا على الحركة، فإنها أفضت بهم إلى الهلكة. وأنهم ما داموا رابضين؛ وعلى يد الصبر قابضتين؛ يتعذر الوصول اليهم، والدخول عليهم، وتطول أيام الإحاطة بهم من حواليهم. وفي تلك الحركة التي حلا بها لشجعان طعم الطعن، وغلب فيها للجبناء وهم الوهن؛ وتجافى عن الثبات من محبي الدنيا جنب الجبن، ارتاع عسكر الشرق من ذلك الغرب، واختار المتسللون المتفللون منهم البعد على القرب. وما ثبت إلا عسكر سنجار، فكله محرب مجرب للأمور، سديد ساد للثغور. ومجاهد الدين يرنقش قد صدق نعته بالمجاهدة للدين، وجلا ظلمة الوهم بنور اليقين. وقرت عين (طمان) بالجنة باقدام الولد، وماذا يقال في شبل ذلك الأسد. وإنما الغرباء هابوا، وكانوا قد ضجروا من الحضور فغابوا. والفرنج الآن في ذل وخسر، وفي عسر بغير يسر، وفي حصر بغير حصر. والمرجو من الله سبحانه أن يقدر على قطع دابرهم، وإهلاك سائرهم عن آخرهم، وتحريك همم المؤمنين في تسكين سائرهم، وتخريب عمرهم وعامرهم، وإنزال دوائر

ذكر ما عرض للعسكر بعد ذلك من العذر فصد عن قصد المباكرة لمناجزة أهل الكفر

السوء بمنازل دوائرهم. وما دام البحر يمدهم والبر لا يصدهم؛ فبلاء البلاد بهم دائم، ومرض القلوب بأدوائهم وأسوائهم ملازم. وتدبيرنا الآن في التدمير على هذه الجموع، وسوقهم إلى مصارعهم في ورطة الوقوع. فأين حمية المسلمين، ونخوة أهل الدين، وغيرة أهل اليقين؟. . وما ينقضي عجبنا من تضافر المشرك على شركه، وتظاهرة في اتساع مسلكه واتساق سلكه. وقعود المسلمين عن المسلمين وتقاعدهم وتعاضلهم في تعاضدهم، وانحلال عقود تعاقدهم. فلا ملبي فيهم لمناد، ولا مثقف لمناد، ولا موري منهم في إجابة داع لزناد. فانظروا إلى الفرنج أي مورد وردوا، ورأى حشد حشدوا، وأية ضالة نشدوا، وأية نجدة أنجدوا، وأية أموال غرموها وأنفقوها، وجدات جمعوها وتوزعوها فيما بينهم وفرقوها. ولم يبق ملك في بلادهم وجزائرهم؛ ولا عظيم ولا كبير من عظمائهم وأكابرهم؛ إلا جري جاره في مضمار الانجاد، وبارى نظيره في الجد والاجتهاد. واستقلوا في صون ملتهم بدل المهج والأرواح، وأمدوا أجناسهم الأنجاس بأنواع السلاح مع أكفاء الكفاح. وما فعلوا ما فعلوا؛ ولا بذلوا ما بذلوا؛ إلا لمجرد الحمية لمتعبدهم والنخوة لمعتقدهم. وليس أحد من الفرنجية يستشعر أن الساحل إذا ملك؛ ورفع فيهم حجاب عزهم وهتك؛ يخرج بلد من يده، أو تمتد يد إلى بلده. والمسلمون بخلاف ذلك قد وهنوا وفشلوا، وغفلوا وكسلوا. ولزموا الحيرة، وعدموا الغيرة. ولو انثنى - والعياذ بالله - للإسلام عنان، أو خبا سنى ونبا سنان؛ لما وجد في شرق البلاد وغربها، وبعد الآفاق وقربها، من لدين الله يغار، ومن لنصرة الحق على الباطل يختار. وهذا أوان رفض التواني، واستدناء أولي الحمية من الأقاصي والأداني. على أنا بحمد الله لنصره راجون، وله بإخلاص السر وسر الإخلاص مناجون، والمشركون بإذن الله هالكون، والمؤمنون آمنون ناجون. ذكر ما عرض للعسكر بعد ذلك من العذر فصد عن قصد المباكرة لمناجزة أهل الكفر وعاد السلطان إلى مضاربه وقد عادت مضاربه إلى عادة المضاء، وزادت مشاربه من مادة الصفاء، وأمر بمواراة الشهداء، ومن جملتهم: الفقيه (أبو علي بن رواحه) وكان غزير الفضل قد أكمل الرجاحة والسجاحة. وهو شاعر مفلق، وفقيه محقق، من ولد (عبد الله بن رواحه الصحابي الأنصاري) في الشهادة والشعر معرق، فطرفه الأعلى يوم مؤتة مع (جعفر الطيار)، وطرفه الأقرب يوم عكاء في لقاء الكفار. ومنهم: (إسماعيل الصوفي الأرموي المكبس) وكان سديدا عفيفا، عارياً من العار لا يتدنس بالشبه ولا يتلبس. ومنهم: شيخ من الحاشية في بيت الطشت. وغلام في الخزانة أمين على البيت.

وآخرون صودفوا عند التل. فجاءتهم السعادة، وفجأتهم الشهادة. وهؤلاء سوى من وقع في الوقعة، وذهب قبل الرجعة. وأجمع السلطان وذوو الآراء أنه يصبح القوم، ويباكر في طلب أرواحهم السوم. وقال: هؤلاء قد أضعفنا قوتهم، وأعجزنا قدرتهم، وفثأنا سورتهم، وأخمدنا فورتهم، وقتلنا مقاتلتهم، وأدوينا داويتهم. فإن تركناهم بلعوا الريق، وبلغوا في الاحتزاز والاحتراس الطريق. فنحن نوافيهم غدا، ونوفيهم رجى. ونكيلهم بصاع المصاع، ونذرعهم بباع السباع، ونقيسهم بذراع اليراع ونوسعهم قرى القراع. وتذيقهم حر الحرب، ونسيغهم في كعم الطعن ضرب الضرب. ونعين من عيونهم للسهام سهاما، ونتخذ لأرواح النصال من أجسامهم أجساما. ونغرقهم بماء الهند وانيات، ونحرقهم بنار زند اليمانيات. ونوجد من عدمهم النصر، ونطيب من نتنهم النشر. ونقطع دابرهم، ونلحق بأولهم آخرهم. فلما اتفقت الآراء على إمضاء هذا العزم؛ وإجراء هذا الحكم، تفقدوا العسكر فإذا هو قد غاب، لما ناب من الأمر وراب. وذلك أن غلمان العسكرية وصحابها؛ وأوباش الجمع وأوشابها؛ طنوا تلك الفورة هزيمة، فنهبوا الأثقال والأحمال وعدوها غنيمة. وانهزم من انهزم من الجند، وثبت من ثبت من أهل الجد فمن عاد إلى رحله وجده منهوبا مسلوبا، وكان ظنه أنه فرغ من لقاء خطب فلقي خطوبا. فمضوا وراء الغلمان، وبلوا بسوء دين السودان. وأصبحنا وإذا العسكر غائب، والعازم عازب. والقاصم قاص، والطائع عاص. والجمع متفرق، والثابت قلق، والآمن فرق. والغنى معدم، والجريء متندم. فهذا خلف ما ذهب من ماله ذاهب، وهذا لمن طلب الطريق بأثقاله طالب. فتفتقر ذلك العزم، وتأخر ذلك الحكم. وانتعش الفرنج في تلك المدة، وانتشلوا من تلك الشدة. واستطالوا بعد الاقصار، وفرغوا لشغل الحصار. وجاءتهم في البحر مراكب أخلفت من عدم، وبنت ما هدم. فكمل بالمدد ما نقص من العدد. ولولا أن الله تعالى قدر بقاءهم، لكنا عاودنا صباح تلك الليلة لقاءهم. فإن الفرصة ما امكنت، والحصة تعينت. والجو خال، والضو عال، والحال جميلة والجمال حال. فقضى الله بما قضى، وعرانا المضض بما مضى. وبقيت تلك الجيف منتنة مبتثة، وتلك الجثث محينة مخبثة مجتثة. تعرفنا أن نشورها من حواصل النسور، وأن قبورها بطون الضباع والنمور. فشكونا نتن رائحتها، وشكرنا بمن جائحتها. فجعل السلطان حملها على العجل إلى النهر، ليشرب من صديدها أهل الكفر. فحمل إلى الماء أكثر من خمسة آلاف جثة، بعث إلى النار قبل يوم البعثة. فما عبر بها إلا من اعتبر، واستشفى من أقبل بمن أدبر. وسلم الله من أسلم، وكف ورد بالردى من كفر.

ذكر ما اعتمده السلطان في استرجاع ما نهب من الثقل واستدراك ما حزب من الخلل

ذكر ما اعتمده السلطان في استرجاع ما نهب من الثقل واستدراك ما حزب من الخلل تقدم الأمر إلى المقدمين والأمراء، بعد النداء وأعلام الجهلاء. بإحصاء كل ما نهب، وإحضار كل ما سلب. وأنه من لم يرد ما أخذه أخذ بالردى، واعتدى عليه بمثل ما اعتدى، فأحضر كل ما عنده، وبذل في الكشف جهده، وجمعوا ما تفرق منه في الخيام في خيمة السلطان، وضاقت عن كثرته سعة ذلك المكان. وجلس السلطان يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، فكل من عرف من ماله شيئا أخذه بعد إحلافه، وحلا في مذاق الشكر قطاف الطافه. وسعى في معانا ذوى الأخلاق الصعبة على سهولة أخلاقه، وشفى العلل والغلل بالنهل والعلل من إشفاقه. وقمش ذلك القماش، وحصل من ذلك الوبل الرشاش، وصح بعد العرى والعثار الارتياش والانتعاش. وكتب إلى الولاة بالأمصار والنواحي، والأقطار والضواحي؛ بحث البحث وجد الكشف، واستخلاص كل ما يوجد ويؤخذ بالرفق والعنف. وتراجع الناس، وتتابع الإيناس. وعادت مضارب الغرائم إلى مضائها، وقضاة القواضب إلى اقتضابها واقتضائها. وغار الآنف وأنف الغيران، وتسلط الهزم وعزم السلطان. وثار الحنق وحنق الثائر، وطار العلق وعلق الطائر. وطلبت الطلى نكاح بنات الخلل الذكور، وأشرأب للشرب نبات الأسل إلى ماء النحور. وحمى ذوو الحمية للتقاضي، وقالوا حتى متى التراضي بالتغاضي. ذكر مجلس عقد ورأي عليه اعتمد وصواب افتقد وقد فقد وحضر أكابر الأمراء عند السلطان يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان. فقال: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد أجلب بخيله ورجله، وأناخ بكلكل كله، وقد برز بالكفر كله الإسلام كله. وجمع حشده وحشد جمعه، واستنفد وسعه. وأن لم نعالج الآن فريقه، والبحر قد منع طريقه، أعضل داؤه، وتعذر غدا لقاؤه، فإنه إذا سكن البحر، واستسهل ركوبه السفر، تضاعفت أعداد الأعداء، فظهر الإعدام من الأعداء، وخرج الداء عن قبول الدواء. ونحن ما وراءنا نجدة ننتظرها، ولا قوة نستحضرها. وما بلى بهذا المعشر إلا معشرنا، وما بازاء عسكر الكفر إلا عسكرنا، وما في المسلمين من ينجدنا، وما في بلاد الإسلام من يسعدنا. وعساكرنا حاضرة، وعزائمنا للتواني حاظرة، وعيون اسنتنا إلى الفتك بالعدا ناظرة، وما يعوزنا إلا حضور أخينا الملك العادل سيف الدين. ولا بقاء للنقاد إذا أصحر منه ليث العرين. فالرأي كل الرأي في المناجزة، قبل وقوفهم على محاج المحاجزة.

ثم قال: ليشر كل منكم برأيه، ولا يقدم على قول ورأيه من ورائه. فتجاذبوا حبل الاضطراب، واختلفوا في الآراء بحسب اختلاف الآراب. وركب كل منهم هواه، وأعلن بما نواه. ومنهم من قال: هذا ثالث عشر تشرين الثاني لا الأول، وقد دفعنا إلى الخطب الاعضل، والتعب الاطول، والنائب الأعصى والناب الاعصل، وما نزلنا عن الخيل منذ خمسين يوما، وما طعمنا في هذه الليالي نوما، ولا سمنا لطارق طيف غمضا، ولا شمنا إلا لبارق سيف ومضا، ولكم قذفتنا المنايا وقد دخلنا لهواتها وكأن أبا الطيب عنانا بقوله؛ (وكأنما خلقوا على صهواتها). وقد كلت الضوامر، وفلت البواتر، وملت العساكر. وهذا الشتاء قد أقبل، والعدو قد استقتل، والشر قد استحفل. وما يتأتى قلعه إلا لمن يتأنى، وبالصبر يدرك الأريب ما يتمنى. وهم بالمصابرة مصابون، ونحن على المثابرة مثابون. وهؤلاء لا يتمكن منهم إلا بالجمع الجم، والسيل لا يغلبه غير الخضم. والصواب أن نصابرهم هذه الشتوة، ونستجد لنا ولخيلنا القوة. ونتأخر عن هذه المنزلة، لتحصيل هذه المصلحة المؤملة، ونوكل بهم مناوبة من يمنعهم من الخروج. وإذا انقضى البرد نرجع إلى معالجة هؤلاء العلوج. ونعيد السريجيات إلى سلها والسلاهب إلى السروج. والصواب الأخذ بالاحتياط ونقيم الكتب والرسل إلى الأطراف والأوساط. ومكاتبة دار السلام، وأعلام الإمام - عليه أفضل السلام - بما دفع إليه الإسلام بالشام. فإن المسلمين لا شك بنجدون، ويقومون بالنصرة ولا يقعدون. ولا يترك استنفار التركمان، وترغيبهم بالبر والإحسان. واستدعاؤهم بالعطايا، والتشريفات السنايا. وينفذ إلى بلاد الشام القاصية والدانية في تحريك الهمم والعزائم الوانية. إلى أن تملئ بالجموع ساح الساحل، وتغلى بنار الحميات بها مراجل الراجل. فحينئذ ينتهي أمد المصابرة، ونصمم على المكابرة مع المكاثرة. ونباديهم ونفاتحهم قبل انفتاح البحر، ونغاديهم ونراوحهم على اقتراح القهر. وننسفهم ولو أنهم جبال، وننزفهم ولو أنهم بحار، ونعدمهم حتى لا يطرق جفن بلد منهم خيال. ولا يلم بجفن طارق لهم غرار. وما زلنا في مشاورة ومحاورة؛ ومجاذبة ومجاوبة، ومناظرة ومساورة؛ حتى تنخل الرأي وتمخض، وخالوا أنه تبين الصواب وتمحض. ومالوا إلى الدعة؛ والخروج من الضيق إلى السعة. ومن نزال الحرب إلى المنزل الرحب. ومن المعترك المعتكر إلى المبرك المبتكر. فلم تعجبني هذه الحالة، ولم توافقني هذه المقالة. وقلت: لعمري أتيتم بمصلحة، ولكنها غير مترجحة. فإن الفرنج إلى الآن لم يتمكنوا من الحصار، ولم يحدقوا بجميع الأسوار. فإذا رحلنا وتنحينا عنهم أرخينا خناقهم، وأطلنا إلى مرادهم أعناقهم. وباب عكاء من

ذكر الرحيل إلى الخروبة عند خيم الأثقال المضروبة

جانب البحر مفتوح، والمقيم بها منا بكاس تفقدنا إياه مغبوق مصبوح. والطريق إليها سابلة، والذخائر إليها في كل يوم داخلة. والفرنج عن قطع الطريق عاجزة، وعزائمنا على مصابحتها ومماساتها لها دون قصدها محاجزة. وأن تأخرنا تقدموا، وأن هونا أحكموا، وأن نقضنا ابرموا. وأن قعدنا قاموا، وأن بعدنا حاموا. ومتى رمناهم تحفظوا، ومتى نمنا عنهم تيقظوا. وما دمنا نشغلهم فإنهم لحصر البلد لا يتفرغون، وإلى أمد الأمل لا يبلغون. فقالوا: هذا أمر هين، ومما ذكرناه صواب متعين، ووجه الصلاح فيه بين. وما مقصودنا إلا أن ينتشروا ويخرجوا من مضاربهم وبصحروا. فإذا أنسوا بالرجاء، لم ييأسوا من الأرجاء. وأرخينا لهم حبل الانطار، حتى استمروا على الانتشار. وحينئذ نصحهم على غرة، ونعاجلهم كرة بعد كرة. وننقض عليهم إنقاض البزاة على البغاث، ونصدهم بالباعث الباغت لهم عن الانبعاث. وكان السلطان متكرها لما أبدوه من الرأي الملتاث، لولا ما عرض لمزاجه من الالتياث. ذكر الرحيل إلى الخروبة عند خيم الأثقال المضروبة كان السلطان مع ما ألم به من الألم، غير مبد وجه الملل والسأم. وهو في كل يوم يركب وعلى العسكر يطوف، ويقف مستطيلا على العدو ويطول منه الوقوف. ويعود وقت الظهر، وعليه أثر الضر من الصبر. فليم على فعله، وخصه الطبيب بعذله. فانتقل إلى الثقل ليلة الثلاثاء رابع شهر رمضان، وخلى المنزل الأول وأخلى العسكر ذلك المكان. وتقدم إلى من بعكاء بإغلاق الباب، وسلوك نهج الاحتراس والاجتناب. وجرى الأمر على ما كنت قلته، وتحقق من الخلل ما خلته. فإن المركيس رحل وشغل الجانب الذي كان خاليا، ورخص عنده ما كان من سوم خوفه غاليا. وشرع الفرنج في حفر خندق على معسكرهم حوالي عكاء من البحر إلى البر، واخرجوا ما كان في مراكبهم من آلات الحصر. وفي كل يوم تأتينا اليزكية بخبرهم، وبما ظهر من أثرهم، والجد في تعميق الخندق وتتميم محتفرهم. والعسكر هاجم، كأنه واجم، والظن فيه راجم، وشر الكفر ناجم، وما فينا لعود الأمر عاجم. وقلت يوما للسلطان يركب العسكر إليهم، ويركض عليهم. فلعله ينال ظفرا، ويقضى من عسكر العدو وطرا. فقال ما يعمل العسكر شيئا إلا إذا كنت معه راكبا، ولعمله مشاهدا مراقبا. ولقد صدق في مقاله، فإنه كان اعرف برجاله. فإنهم كانوا يبذلون معه المهج، ويخوضون من بحر الحرب اللجج، ويوسعون لهزم العدو المأزق اللجج. وكان من قضاء الله أنا أغفلناهم، وأمهلناهم. حتى عمقوا الحفور، ووثقوا من ترابها

ذكر رأي رائب، عن النظر في الغاي غائب، أسفر عن داء دائب وأبان عن غرارة بغرائب

السور. وملئوه بالستائر، ومنعوه من الطير الطائر. وبنوه وأسسوه، وستروه. وترسوه ورتبوا عليه رجالا، ولم يتركوا إليه لواغل مجالا. وتركوا فيه أبوابا وفروجا، ليظهروا منها إذا أرادوا خروجا. ولما فرغوا من هذا الأمر اشتغلوا بالحصر. ونحن نقول: لا مبالاة بهم ولا اكتراث، وما أسهل إذا عزمنا عليهم لأصولهم الاجتثاث، وبسيول سيوفنا نغسل تلك الاخباث. وأي وقت قصدناهم وجئناهم وجأناهم، ونكأنا قرحهم ونكبناهم. وما فوارسهم لنا إلا فرائس، وما خنادقهم لهم إلا رموس دوارس. وما حفروا إلا قبورهم، وما دبروا إلا ثبورهم. ومتى قصدناهم كذبت ظنونهم، وصدقتهم منونهم. وامتلأت بأشلائهم خنادقهم، وأظلمت عليهم بغربنا مشارقهم، وبيتتهم بوائقهم وتبت علائقهم. ذكر رأي رائب، عن النظر في الغاي غائب، أسفر عن داء دائب وأبان عن غرارة بغرائب وقع لبعض الأكابر فثنى عليه خنصره، ووكل بإتمامه سمعه وبصره. لما تمت على الفرنج تلك المقتلة، وعمت فيهم الهلكة، وضمت أشلاءهم المعركة، وشوهدت على الربى حجب نحورهم المهتكة. وخمدوا وخملوا، وأهلكهم الله بما عملوا. وقع لبعض الأكابر أنه لم يبق للقوم انتعاش من تلك المعاثر. وأنهم قد عدموا القرار، وعزموا الفرار. ولو قدروا على النجاة لخلصوا، ولو فتحنا طريقهم ما تصبروا ولا تربصوا. وقال للسلطان: ارحلوا عنهم حتى تروا ما يكون منهم. فإنهم يرهبون ويهربون، ويبعدون إلى صور ومن بعدها ومن عكاء ر يقربون. فمال قوم إلى مقاله، وتخيلوا مثل خياله. وأشار بقطع طريق البلد، والصدر عن ورد الرصد، والجد في تعمية الجدد. وأن يفتح لهم ما سد من الطريق، ولا يعوقهم فإنهم تعوى من التعويق. ولما بلونا رأيه، وتلونا آية، أخلف ظنه، وبدا وهنه. وما زاد الفرنج الاثباتا، ولم نعرف لشملهم على ما توهمه شتاتا. وكنا نتحدث بذلك الرأي الفائل، ونقول ما أعجب قبولنا قول هذا القائل. ذكر ما جرى بعد ذلك من الحوادث، وتجدد للعزائم من البواعث أقام السلطان بالمخيم لإصلاح مزاجه، وإيضاح منهاجه. ومداراة ألمه، ومداواة سقمه، فوهب الله له العافية، وكمل له عصمته الكافية، ومنته الشافية، ونعمته الوافية، وأبدى له ألطافه الخافية. وقوى قلبه على المقام بنية الانتقام. وصرف الأجناد الغرباء

ليرجعوا في الربيع، ويستريحوا في مرابعهم لوقت الرجوع. وأقام في مماليكه وخواصه، ورجال حلقته المنصورة من ذوي استخلاصه. ورتب بالنوبة على الفرنج يزكا ضمنه دركا، وأدار بهلاك القوم منه فلكا. وكان في مماليكه كل مقدم مقدام، وكل همام همام. وكل ليث ذي لوثة وكل حدث محسن له حسن أحدوثة، وكل ضيغم ضاغم، وكل أسد عرين ليس إلا عرنين قرنه براغم. وكل ريبال ذي بال، وكل بطل من ولاية الهيجاء غير بطال. وكل مغير للنصر مريغ، وكل مسيء إلى العدو لكأس الحمام مسيغ. وكل تركي للرماء غير تارك، وللاصماء غير فازك قوسه في ظفر الهدى موتر على الوتر، وسهمه من مقل العدا طائر إلى الوكر، وسيفه في رداء الردى حال بدم الكفر. وكل (حميدي) في الروع حميد؛ وبالحرب عميد. وكل (هكارى) على القرن عكار، وفي الوغى كرار، وللقنا جرار. وكل (زرزاري) بالأسد زار، وللبسالة كاس ومن العار عار، وكل (مهراني) في القتال ماهر، وللرجال قاهر، وعلى الأبطال ظاهر. وكل كمى كميش، واكديش على اكديش. فما خلا يوم من وقعة، وما صار من بارزهم إلا إلى صرعه، وما عاد من نجا ومن زنابير سهامهم إلا للسعة، وما حصلت شفاه شفارهم من طلاء من طاولهم إلا على لطعة. وما تبقى على لتوتهم ليت، ولصوتهم في النزال كل صباح ومساء صيت. وبلى الفرنج منهم بالمبير المبيد، وإعتاق بهم مراد العدو المريد. وما زال هذا دأبهم في الركوب، ومباركتهم ومراوحتهم إلى مواقف الكروب. فكم اقروا منا أعينا بأيديهم، وثبتوا عدل النصر بتعديهم، وصلوا شر الشرك بتصديهم، وحركوا ما سكن وهدأ من عزائم الهداة بتهديهم. وفي يوم الاثنين ثالث شهر رمضان أخذ أصحابنا بعكاء مركبا للفرنج إلى صور مقلعا، واجتلينا به من سنى النصر مطلعا. وكان المركب محتويا على ثلاثين رجلا وامرأة واحدة ورزمة من الحرير. وجاءت حظوة حلوة، وغنيمة صفوة، ونشوة أعقبت صحوة. وصبيحة استصحبت ضحوة. وقوة من وهن العدو، ومحبة فكت رهن السلو. فقد كان أنكسر نشاطهم، وانقبض انبساطهم، وانخفض اغتباطهم. وفترت عزمتهم وقصرت همتهم، وخمدت فورتهم، وركدت ثورتهم. فلما عثروا بالمركب انتعشوا وانقشوا، وتنغموا وتنغشوا. ودب الروح، وشب المروح. وتحرك الساكن، وتدرك الضامن. وصارو يخرجون ويحرجون، ويقتلون ويجرحون، ويمسون على القتال ويصبحون ويكافحون ويدافعون، ويقارعون ويواقعون. والعسكر في المنزلة هاجم، وجم جمعه واجم. واليزكية زكية، والعيون ذكية. والنوب راتبة، والعدة المعينة المعينة في كل يوم راكبة.

ذكر وصول ملك الألمان

ذكر وصول ملك الألمان ونما الخبر بوصول ملك الألمان إلى قسطنطينية في عدد دهم دثر، ونظم من خيله ورجله ونثر. وهو على قصد العبور إلى بلاد الإسلام، وقطع بلد الروم والأرمن إلى الشام. وأنه في ثلاثمائة ألف مقاتل، من كل سالب باسل، وطالب باطل. وجهم جهنمي، وأشقرى سقرى، وأنمش افعواني، وصل صليبي صلائي. وأرقش حنشي، ومستعر سعيري. ومحرب لظوي، ومغوار ناري. وضار بالقرن ضار، وجار للدرع جار. وكل ذئب عاسل، ذاب بعاسل. وأزرق لأبيض مشتمل، وأصهب لأسمر معتقل. وكل جحيمي جاحم، وجمري فاحم. وحربي بحري، وبار برى. وقاطع في طريق الوصول، وراحل بقصد الحلول. وناز إلى النزال، وصال بنار الصيال. ومشمر على الموت متمرن، ومتحين إلى المنون متخنن. وفيهم ستون ألف فارس مدرع مقنع، ما له سوى السوء من مقنع. وأنه مع الألماني ملوك وكنود، وكل شيطان لربه كنود. وكتب صاحب قلعة الروم مقدم الأرمن وهو في قلعة على الفرات؛ ومن أهل الذمة في المأمن. يبدى تنصحا واشفاقا، وتخوفا على البلاد واحترافا. ويقطع بأن الواصلين في كثرة، وأن الناهضين إلى طريقهم في عثرة. وأبرق في كتابه وأرعد، وأبدع بخطابه وأبعد. ولا شك أنه إلى جنسه النجس مائل، وبملاءة أهل ملته قائل. ولما وصل هذا النبأ وقيل إنه عظيم؛ وورد هذا الخبر وخيل أنه اليم؛ كاد الناس يضطربون، على أنهم يصدقون ويكذبون، ومن طرف كل حبل من الرأي يجذبون. وقلنا: أن وضح هذا الخطر؛ وصح هذا الخبر؛ فالمسلمون يقومون لنا ولا يقعدون، ويغضبون لله ولا يرضون أنهم لا يعضدون. على أن ناصرنا ومؤازرنا ومظاهرنا. وحققنا بإظهار القوة لمن استوحش التأنيس، وبثثنا بالإرسال إلى بلاد الروم عيونا وجواسيس. وندبنا رسل الاستنصار، وبعثنا كتب الاستنفار إلى جميع الأمصار والأقطار. وقلنا: ما هذه المرة إلا مرة، ولا يسيغها إلا كل مريء أبى، وما هذه الكرة مثل كل مرة، ولا يحضرها إلا كل كميش كمى. ذكر رسالة دار الخلافة وعول السلطان على (القاضي بهاء الدين بن شداد، يوسف بن رافع ابن تميم) ليكون كتابه إلى الديوان العزيز مع رسول كريم. وقال له: ما احتاج أوصى، وأنت تستوفي القول وتستقصى. وجعل له إلى كل ذي طرف في طريقه رسالة، وأودعه إليه مقالة. فسار من عندنا في شهر رمضان مغذا، يبذ خيل العزم بذا، وبجذ حبل السير جذا. ووصل إلى حلب والقاضي ضياء الدين القاسم بن يحيى ابن عبد الله

الشهرزوري رسول السلطان ببغداد قد عاد، وذكر أنه قد بلغ المراد، وأنه استجدى واستجاد، واستفاد واستزاد، وأنه استكمل للعدة الاستنجاز، وللعدة الاستنجاد. فما هذا الرسول ارائح. وربما أعرضت لتلك الحزائج الجوائح. وإذا اختلف الحديث حدث الاختلاف ومتى ألفى غير ما ألقى ألغى الائتلاف. فما هذا لعجل، ومم الوجل. فصدقه الملك الظاهر غازي صاحب حلب، عن كل ما أبان عنه وأعرض. وكتب إلى والده، بذكر مقاصده، وقال: أنا لا أقدر على صد من للخدمة تصدى، ولا رد من بثوب الرسالة تردى، وأنت تمضي إلى السلطان، بما أوضحته من البرهان. وهو يحكم ويحكم، ويعقد ويبرم. ويقول فتسمع، ويأمر فتتبع. ولعلك تعود سريعا، وتجد شمل ما الفته جميعا. فوصل ضياء الدين الشهرزوري وهو مغتاط، وسجاياه السجاح غلاظ. وتغير على، ونسب إنفاذ القاضي بهاء الدين إلى، فإنه كان مخاللي ومخالطي ومباسطي. فأزلت عنه كل طن، واعتذرت إليه بكل فن؛ فما بسط عذر؛ ولا قبض ذعر. فإني على أسبابي ببغداد خائف، ودون رضى كل سائر إليها واقف. واسترضيته فما رضي، ومضيت إليه مرارا قبل أن يمضي. ثم اجتمع بالسلطان وندمه على ما قدمه، وأعلمه بما علمه. وقال له: الشغل قد فرغ، والمقصود قد بلغ، والسؤال قد أجيب، والسؤل قد أصيب. والمخطوب بزمامه نحوك مخطوم، وكل ملك سواك لأجلك من رضاع رضاهم مفطوم. فكن للإمام يكن لك، وأقبل أمره ليقبلك. واجتمع بالسلطان دوني، واتفق بجماعة شاركوه وأفردوني. وقرروا معه سرا أمرا، وحذروه أن يصير جهرا. ولو كنت معهم لعرفتهم أن الأمر الذي أبرموه غير مبرم، وأن الرأي الذي احكموه غير محكم. وما زالت أوكد الأمر حتى يؤمن انتفاضه، وأتعرض دون الرأي حتى لا يمكن اعتراضه. وأتيقن أن الأمر ما فيه خلاف، وأن الوعد ما له إخلاف. فما فعل الرسول يتلبث، ولا أمهل بتمكث، بل جعل على المجاز لا الحقيقة مجازه، وزعم فيما دبره نجاحه ونجازه. وسلك فيما تقرر نهج العجب، وأسرع العودة على النجب. فلما انفصل عن السلطان، بما وصله من الإحسان، جمع السلطان الأمراء على المشورة، ووقفهم على المعنى والصورة. وقال لهم: قد وعدت الخليفة على لسان الشهرزوري بشهرزور، واستدعيت عسكره المنصور، وربما قدم الينا الحضور، فيكمل لنا النصر والحبور. فقالوا: هذا رأى رائب، وشأو شائب، وأمر عنه الصواب ناء، وكيف تعد الإمام بما لا يقرن بوفاء. وكيف ينجز هذا الرعد وينجح هذا القصد! ودونه أيحاش من هو في طاعتك! فكنت تبذل ما يدخل في استطاعتك. أما صاحب

ذكر وصول الملك العادل سيف الدين أخي السلطان والاستظهار بجموعه والاجتماع بظهوره لنصرة الإيمان

الموصل طلبها فمنع، وصاحب اربل عنها دفع، ومملوكك بها لمن يجاوره خائف، وكل إيوائي لحدها وحقها حائف. وما من هؤلاء إلا من بذل عنها أموالا وأحوالا، والتزم من الجنود والنقود انجادا خفاقا وحمولا ثقالا. فإذا عرف أنك أخرجتها لمن له الأمر؛ دخل عليهم الضر. وملك مالك الأمر أمرهم، وأبدوا في انقطاعهم عنك عذرهم. وانقطع الواصل، وارتفع الحاصل. وما جاءنا من المذكورين فارس واحد، ولا ساعد على ما نحن فيه بعدها مساعد. فأما هذا بكتمر في خلاط قد جمع الأخلاط؛ وجهر بالعداوة؛ وأقام على الغيابة والغباوة. فقال السلطان: الخليفة ملك الخليقة، وهو مالك الحق والحقيقة. فإن وصل إلينا أعطيناه هذه البلاد، فكيف شهرزور! وسيحدث الله بعد الأمور الأمور. ولما وصل ضياء الدين الشهرزوري إلى بغداد؛ وصادف بها القاضي بهاء الدين بن شداد. فلم يسفر أمر سفارته عن سداد. وقيل له: جواب ما أتيت فيه مع ضياء الدين نسيره، ونندبه فيما نتخيره. وشرف بهاء الدين وأعيد، وزين ضياء الدين وزيد. وذكر ما جرى فتم الاعتداد، ونم الاحماد. وسيأتي ذكر ما آلت إليه نوبته، حين كانت أوبته. ذكر وصول الملك العادل سيف الدين أخي السلطان والاستظهار بجموعه والاجتماع بظهوره لنصرة الإيمان ووصل الملك العادل سيف الدين من مصر منتصف شوال، في جيش آل، وجمع حال. وشوكة رائعة وشكة رادعة، وشارة سارة، وديمة من البأس دارة. وعدة منتخية منتخبة، وعدة منتقاة مهذبة. من كل أجدل على مرقب، وأجود على جواد مقرب. وصاف عتيق على صافن عتيق، وطود على طود ونيق على نيق، وصقر على سوذنيق. وبحر على صابح، وجذع على قارح. ومن كل رئبال على تتفل، وأغر محجب على أغر محجل. ومن كل أبيض ضرب بالبيض ضراب، وكل أسمر باسل بالسمر سلاب، وكل أروع يحمل يراعا، وكل شجاع يعتقل شجاعا. وكل أحمى أحمس، وكل أفرى أفرس. ومن كل أسد خادر، وقسور قاسر. وضيغهم ضاغم، وقمقام واقم. وليث به لوثة، وحدث له في الشهامة أحدوثة. وأحضر معه من سودان مصر كل ذمر كأنه العبسي عابس، وكل مغامر للموت مغامس. وكل غربيب حلكوك، وكل سرحان صعلوك. وكل ضرغام غريفي، ومقدام ريفي. وكل خارج لثار، وكل مارج من نار. وكل اسود سالخ، وكل رأس في الشر راسخ. وجاءوا بالغبسة القبطية، والترسة اللمطية، والصلال القفطية. والإلال النوبية، والحراب الحربية، والصعاد الصعيدية. والصوارم المذروبة، والصرائم المشبوبة. والأسنة المسنونة، والصوابغ الموضونة.

ذكر فصل إلى الديوان العزيز واشتمل على مجاري الأحوال

والسراحين السارحة، والثعابين الجارحة. والتماسيح المزدردة، والشياطين المتوقدة. والزانات والزنيات، والهنديات واليمانيات. وكان يوم وصول العادل مشهودا، لم يترك في كل ما يراد من القوة مجهودا. وأقبل في روع ظاهر وضوع باهر. وبشر ذائع، ونشر ضائع. وحبور تام، وسرور عام. وهزة وطرب، وعزة وأرب. وقلنا: سيف الدين المنتضى، وناصر الإسلام المرتضى، وغياث الأنام المرتجى، وسلطان جيوش المسلمين المجتبى. لقد نص النصر، وكف الكفر. وسلم الإسلام، ونام الأنام. وأمن الإيمان، وتسلط السلطان. وحليت الأحوال وفرغ البال، وبلغت الآمال، ونيل رجاء الرجال، وأزيل إبطاء الأبطال. ووردت زناد الأجناد، ورويت ظماء الصعاد. فما بعد اليوم إلا بعد القوم. وإدراك ما استقام من النهج، وهلاك من أقام من الفرنج. ونزل الملك العادل في مخيمه، وقدم اليمن بمقدمه. وتقدم السلطان إلى راجل دمشق والبلاد فحضر، وضايق الفرنج به وحصر. ولم يخل العدو في كل حين من حين، وفي كل وقت من مقت؛ وفي كل شأن من شين. وفي كل بقعة من وقعة، وفي كل صقع من صقعة. وفي كل ليلة من بلية، وفي كل سحرة من كيسة بالكناية فيهم ملية. والملك العادل يركب في كل يوم ويبلى ومن جهده في القتال لا يخلى. والفرنج على البلاء صابرون، وللعناء والعناد مكابرون لا يبرزون ولا يبارزون، ولا يجاوزن خنادقهم وهم فيها متحادزون. ذكر فصل إلى الديوان العزيز واشتمل على مجاري الأحوال قد تقدمت المطالعة بمنازلة العدو المنازل بالنوازل، ومجاولة أهل الغواية بالغوائل، ومقاتلة طواغيت الكفر الواصلة في البحر بعدد أمواجه إلى الساحل. وقد نزلوا على عكاء المحروسة، براياتهم المنكوسة، وآرائهم المعكوسة. وحشودهم المجموعة، وجموعهم المحشودة، وظلال الضلال الممدودة، وإقدام الأقدام المصدودة المسدودة. وقد مضت ثلاثة أشهر شهر بها التثليث على التوحيد سلاحه، وبسط الكفر جناحه، وحصل الشرك على قروحه وعدم اقتراحه. وقتل من الفرنج وعدم في الوقعات التي روعت؛ والروعات التي وقعت؛ أكثر من عشرين ألف مقاتل، من فارس وراجل، ورامح ونابل. فما اثر ذلك في نقصهم، ولا أرث إلا نار حرصهم. وما فلل حد حديثهم الحادث، ولا قلل عدد كثيرهم الكارث. ولا غضوا عيون أطماعهم، ولافضوا ختوم اجتماعهم. ولا ردوا وجوههم عن مواجهة الردى، ولا قطعوا أملهم عن الوصول إلى المدى، ولو قطعوا بالمدى، وهم لمواضعهم ملازمون، وفي مصارعهم جاثمون، وعلى

الموت صابرون، وإلى الحمام صائرون. وبالخنادق من البوائق محتمون، وبالطوارق من الطوارق معتصمون، وعندهم أنهم للبلد محاصرون، وهم على الحقيقة وإن كانوا لكثرتهم غير محصورين محصوون، وأن جندنا لهم المنصورون. وللعساكر الإسلامية فيهم كل يوم نكاية شديدة، وفتكة مبيدة. ووقعة ناكية، وجمرة ذاكية، وصدمة صادعة، وحدمة رادعة. ولما امتنع الدخول عليهم؛ وتعذر الوصول إليهم؛ جمع راجل البلاد؛ وحشد إلى حشودهم ذوو الاستعداد. حتى نقاتل الراجل بالراجل، والفارس بالفارس؛ ونقترع جمعهم بكر الفتح العانس. وقد وصل الأخ العادل وفقه الله للمراضي الشريفة، بالجموع الكثيرة الكثيفة. ولعل الله أن يجعل حتف هؤلاء الفرنج فتحا لأبواب الفتح، ويعجل لليالي آمال المسلمين بطلوع صبح النجح. وليس هذا العدو بواحد فينجع فيه التدبير، ويأتي عليه التدمير. وإنما هو كل من وراءالبحر، وجميع من في ديار الكفر. فإنه لم يبق لهم مدينة؛ ولا بلدة ولا جزيرة؛ ولا خطة صغيرة ولا كبيرة؛ إلا جهزت مراكبها، وأنهضت كتائبها. وتحرك ساكنها، وبرز كامنها، ونفضت خزائنها، وانفضت معادنها، وحملت ذخائرها، وبذلت أخايرها. وثار ثائرها، وسار سائرها، وطار طائرها. ونثلت كنائن كنائسها، واستخرجت دفائن نفائسها. وخرج بصلبانها أساقفتها وبطاركها، وغصت بالأفواج فجاجها ومسالكها. وتصلبت للصليب السليب، وتغضبت للمصاب المصيب. ونادوا في نواديهم بأن البلاء دهم بلادهم، وأن إخوانهم بالقدس أبارهم الإسلام وأبادهم. وأنه من خرج من بيته مهاجرا؛ وبحرب الإسلام مجاهرا؛ ولتعبده مستردا؛ ولجده في النخوة لدينه مستجدا، فقد وهبت له ذنوله، وذهبت عنه عيوبه. ومن عجز عن السفر بعدته وثروته من قدر. وبذل البدر لمن بدر. فجاءوا لابسين للحديد بعد أن كانوا لابسين للحداد؛ وتواصلت منهم الأمداد بالإمداد، وتوالت أنجاد الانجاد. وهم على النقص يزيدون، وعلى الأبد يبيدون، وبالمهج يجودون، وعن اللجاج في خوض اللجج لا يعودون. وهؤلاء هم الواصلون في البحر القاطعون اثباجه، المكاثرون أمواجه. فأما ملوكهم الواصلون في البر فقد تواترت أخبارهم، بأن خلت منهم ديارهم؛ ورمتهم إلى أغراضهم البعيدة أوتارهم. وبهم يستفحل الشر، وبعضل الأمر. ويصول الكفر ويجول؛ ويتطاول الشرك ولكنه لا يطول. فإن لدين الله من خليفته ناصرا لا يسلمه، ورازقا لا يحرمه. وما تمسك بحبل طاعنه الا من فاز قدحه وحاز السناء قدحه، وأسفر صبحه، ووفر نجحه. وبدا علوه، وباد عدوه. والخادم بقوة رجائه في العوارف الامامية؛ والعواطف النبوية؛ وشدة استظهاره بالنصرة الظاهرة الناصرية، آن أن يفرق الجمعين ويجمع للفريقين القمعين. ويعيد البر بحرا من دماء وافدي البر والبحر، ويقطع دابرهم دابر الكفر.

ذكر وصول الأسطول المنصور من مصريوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة في المراكب المستعدة المستبدة بالبأس والشدة وكانت عدته خمسين شينيا

ذكر وصول الأسطول المنصور من مصريوم الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة في المراكب المستعدة المستبدة بالبأس والشدة وكانت عدته خمسين شينيا كان السلطان منذ وصول الفرنج إلى عكاء قد كتب إلى مصر بتجهيز الاسطول؛ وتجزية حباله، وتزجية أمور رجاله. وتكثير عدده، وتوفير عدده. وإصلاح شئون شوانيه. وإسناء رواسي سواريه. فتولى (حسام الدين لؤلؤ الشيخ) أمره، وشرح لإيراده وإصداره صدره. وأنفق من ماله ما جمع به شمل رجاله. وهذا لؤلؤ قد اشتهرت في الكفر فتكاته، وشكرت في العدو نكاياته. وقد تفرد بغزوات لم يشاركه فيها أحد، ولم يكن فيها على الإسلام لغيره يد. وما سلك نهجا إلا ملك، ولا طلب غاية إلا أدرك. وهو ميمون النقيبة، مشكور الضريبة. وهو الذي رد الفرنج عن بحر الحجاز، ووقف لهم على طرق المجاز. ولم يترك منهم عينا تطرف؛ ولم يبق لهم دليلا يعرف. وغزواته مشهورة، وفتكاته مذكورة. وأمواله مبذولة، وأكياسه أعقد الإنفاق في سبيل الله محلولة. فتولى الأسطول، وجمع به الطول والطول. ووصل به. وللفرنج من شوانيها على وجه البحر عقارب تدب، ولواسب سوالب ما تغيب وما تغب. وسفن حمالة ومقاتلة، وبطس للأزواد والمير ناقلة. فصدمتها مراكبها بمناطبها، واستطال الأسطول المنصور على اساطيلها، وجاء حقه بإزهاق أباطيلها. واطلعت في سماء البحر كواكب مراكبنا نجوما، وقذفت لشياطين الكفر رجوما. وأقبلت سواريها بالرواسي، مبرمة الامراس محكمة المراسي. وقطعت اللجة بأشباه أمواجها، وسدت فجاجها بألإواجها، ونكست أعلام الأعلاج عن أثباجها. ووافت اساودها السود بالأسود، وسدت عقبانها الآفاق بأجنحة الرايات والبنود. وطارت بقوادم المجاذيف وخوافيها، وزارت بجوارح المقاذيف وعوافيها. فجاءت وسفن العدو كالجبال تمر مر السحاب، وتطوى اللجة كطي السجل للكتاب. فصدتها وصدعتها، وردتها وردعتها. فكأنما عبت غربانها بين أحبة الكفر أعاديها، وأناخت ظعائن الضغائن على شواتي شوانيها، وعادت قوامص الفرنج فيها قنائص جوارح جواريها. فأول ما ظهر الأسطول المنصور بشينى للفرنج عظيم الشان، عاد طاغ بأهل الطغيان والعدوان. فقتل مقاتليه، وتبع ما يليه. فوقعت بطشته الكبرى ببطسة كبيرة، تشتمل على ميرة لهم زذخيرة وامتعة كثيرة. وتفرقت سفن الفرنج أيدي سبا، وأصلد زندهم وكبا. وعادوا محصورين محسورين قد دفعت مراكبهم التي دافعت عن مباركهم، وأيقنوا أنهم تورطوا في مهالكهم. وسيرت بوصول الأسطول كتب إلى الأقطار، وبشر المسلمون بما حصل به من الاستظهار.

ذكر فصول أنشأتها فيها منها فصل

ذكر فصول أنشأتها فيها منها فصل ولما رأينا أمدادهم في البحر متضاعفة، وجموعهم متكاثفة، استدعينا الأسطول المصري المنصور فجاءنا فجاءة، وأمتد اسطرا على طرس البحر أعيت متأملها قراءة، وأقبلت جواريه جوارح من قنائصها القوامص، وصدمت شوانيه شواني الشناة فعادت مراكبهم وهي نواكص. وطارت غربانا ببين أحبة الكفر أعداء الإسلام ناعبة، واطردت على طرائد الفرنج فطردتها غالبة لا لاغبة. وظفرت أول يوم الورود بسفن للعدو معمرة، وألهبت في الماء على أهل النار كل نار للنكال مسعرة. وانقطعت طرق الفرنج البحرية فاستطالت بها أساطيلنا فذهبت وجاءت، وعملت ما شاءت، وتبعتهم مرارا، وبالغنائم فاءت، وأعشت أعين الرائين كلما تراءت. فضاقت بها العداة ذرعا، ولم تجد من بعدها مطمعا ولا مرعى. فصل من كتاب صدر الكتاب بورود الأسطول المصري، وبالسطو الشديد والبأس القوي. فارتاع الكفر من وصوله وصوله الرائع؛ وذل جمع الكفر لعزه الجامع؛ وجاء بكل شيني شانئ. لشائن الدين واجئ، مفاجع للعدو بالهلاك مفاجئ. مفرق لمراكب الشرك المجتمعة؛ مضيق لمناهج مضارها المتسعة. فطحن مناكب مراكبها، ووسع معاطن معاطبها. واستولى منها حالة وروده على عدة للملاقاة مستعدة، ولا مداد إعانتها ممن وراءها مستمدة. وقتل من فيها من الرجال؛ وغنم ما وجد فيها من العدد والأموال. فصل من مكاتبة أخرى وصل الأسطول المنصور في كل شيني شانئ للشرك شائن، زائد لبهجة الإسلام زائن. زائر بكل أسد زائر، سائر بكل مقدام إلى مقام الأقدام سائر. وكانت الفرنج قد جهزت مراكبها، وأرهفت غروبها وسنمت غواربها. وملأتها برجال أيديها على قوائم القواضب قوابض، وارجلها على الثبات في روابي متون سفنها روابض. وهم على انتظار الأسطول. ليطاولوه؛ ويلقوه وبالمدافعة يجاولوه. فلما وصل وصال؛ وراع أمره وهال؛ وجلا عليهم الاوجال والآجال؛ بتوا المراسي والحبال، وانهزموا بسفنهم، وآذنت قوتهم بوهنهم. واستولى على عدة منها بالعدد والرجال والذخائر والأحمال مملوءة، وسلبهم كل ما أعدوه فيها من قوت وقوة. والفصول كثيرة وإنما ذكرت منها ما وصف صورة الحال على جلبتها، وأعرب عن حقها وحقيقتها.

ذكر ما اعتمده السلطان من تقوية البلد ونقل الرجال والذخائر والعدد

ذكر ما اعتمده السلطان من تقوية البلد ونقل الرجال والذخائر والعدد ولما اشتد البرد وتوالت الغيوث؛ وتبحرت السهول والوعوث؛ وحالت الأوحال؛ ولاحت على خلاف المراد الأحوال؛ وتعذر الخروج إلى تلك المروج؛ وامتنع على السالك قصد أولئك العلوج؛ وزال حكم النزال؛ واستقال من استقل بالقتال؛ شرع السلطان فيما هو أنفع وأجدى، وأنجع وأنجى، وأرجع بالاحتياط والحزم وأرجى؛ وهو تقوية عكاء بالميرة والذخيرة، والأسلحة الكثيرة. والرجال الحماة، والأبطال الكماه. فنقل إليها في المراكب جماعة من الأمراء الاملئاء بأجنادهم، فدخلوا إليها بعددهم وأزوادهم. واستظهر البلد أيضا برجال الأسطول ورؤسائه وقواده، فما دخل أحد فيها إلا بزيادة في زاده. وكانوا زهاء عشرة آلاف بحرى حربى، على الجري إلى الموت جرى. فامتلأ البلد بكل منتخب منتخ، ومرخص مهجته الغالية للإسلام مصرخ. وانتفع بهم في جذب المنجنيقات، والرمى في العرادات، والحذف بالنفاطات، والإحراق بالزراقات؛ والزرق بالمحرقات. وإلقاء القوارير، وإذكاء المساعير. وتطريح النار؛ وتطويح الأحجار؛ ومواصلة القطاعات، والزيارة بالزيارات. وتوتير الجروخ والزنبوركات، وتطيير الناوكات النواكي من مقاتل العدو إلى الوكنات. ومناشبة الفرنج في كل وقت بالأخذ والوقذ، والجد في الجد والجذ. وطروقهم ليلا على سبيل التلصص، وسوقهم من سوقهم على وجه التصيد والتقنص. وكبسوا ليلة سوق الخمارات والعواهر، وسبوا عدة من المستحسنات الفواجر. واستنصروا بذلك واستبشروا؛ واجترأوا منه على ما أجروا. وكذلك من عندنا يدخل إليهم الرجال متسوقين، ويأتونهم من كل جانب مجتمعين ومتفريقين. فمن قدر على حصان أخذه وأخرجه، ومن تعذر عليه إخراجه عقره وبعجه. ومنهم من يهجم على الرجال في خيمته ويرهبه بمد مديته. ويسلبه سكونه بسكينه، ويجعله أن لم ينجذب معه من حينه على يقينه. فيقوده بخطام القهر، ويجذبه بخدام الأسر. ووقع القوم من هذا في بلاء مبل، وعناء عن حب الحياة مسل. فقد كثر إليهم الاجتياز ومنهم الاحتياز، وشق عليهم الاحتراس والاحتراز. وتحيل الناس في اغتيالهم بكل طريق، وازداد فرقهم من كل فريق. وأعدت الحال من الليل إلى النهار، والمكابرة والجهار، حتى كان رجالنا يختفون بالحشيش في أجراف الأنهار، فإذا صادفوا فارسا ورد الماء فاجئوه بالقتل أو الإسار. ذكر حال نساء الفرنج وصلت في مركب ثلاثمائة امرأة إفرنجية مستحسنة، متحلية بشبابها وحسنها

متزينة. قد اجتمعن من الجزائر، وانتدبن للجرائر. واغتربن لإسعاف الغرباء، وتأهبن لإسعاد الأشقياء، وترافدن على الإرفاق والأرفاد، وتلهبن على السفاح والسفاد. من كل زانية نازية، زاهية هازية، عاطية متعاطية، حاظية خاطية، متغنية متغنجة، متبرزة متبرجة، نارية ملتهبة، متنقشة متخضبة، تائقة شائقة، فائقة رائقة، راتقة فاتقة، راقعة خارقة، مارقة رامقة، قاسرة سارقة، فارجة فاجرة، فاتنة فاترة، مشتهاة متشهية، ملهاة متلهية، متفننة متفتية، ناشية منتشية، متشوقة متسوقة، مقترحة محترقة، متحببة متعشقة. حمراء مرحاء، نجلاء كحلاء، عجزاء هيفاء، غناء لفاء، زرقاء ورقاء، متخرقة خرقاء. تسحب غفارتها، وتسحر بنضارتنا نظارتنا. وتتثنى كأنها غصن، وتتجلى كأنها حصن. وتميس كأنها قصيب، وتزيف وعلى لبتها صليب. وهي بائعة شكرها بشكرها، باغية كسرها في سكرها. فوصلن وقد سبلن أنفسهن، وقدمن للتبذل أصونهن وأنفسهن. وذكرن أنهن قصدن بخروجهن تسبيل فروجهن. وأنهن لا يمتنعن من الغربان، ورأين أنهن لا يتقربن بأفضل من هذا القربان، وتفردن بما ضربنه من الخيم والقباب، وانضمت إليهن أترابهن من الحسان الشواب. وفتحن أبواب الملاذ، وسبلن ما بين الأفخاذ. وبحن بالإباحة، ورحن إلى الراحة؛ وأزحن علة السماحة، ونفقن سوق الفسوق، ولفقن رتوق الفتوق. وتفجرن بينابيع الفجور، وتحجرن بنزو الفحول منهن على الحجور، وعرضن الإمتاع بالمتاع، ودعون الوقاح إلى الوقاع. وركبن الصدور على الأعجاز، وسمحن بالسلعة لذوي الاعواز، ودمن على تقريب خلاخلهن من الإفراط، ورمن فرشهن على بساط النشاط. وتهدفن للسهام، وتحللن للحرام. وتعرضن للطعان، وتضرعن للأخدان. ومددن الرواق، وحللن حين عقدن النطاق. وصرن مضارب للأوتاد واستدعين النصول منهن إلى الأغماد. وسوين أراضيهن للغراس، واستنهضن الحراب إلى التراس. واستفرن المحاريث إلى الحرث، ومكن المناقير من البحث. وأذن للرءوس في دخول الدهاليز، وجرين تحت راكبيهن على ضرب المهاميز. وقرين الأشطان من الركايا، وفوقن النبال في اعجاس الحنايا، وقطعن التكك، وطبعن السكك. وضممن الأطيار في أوكار الأوراك، وجمعن قرون كباش النطاح في الشباك. ورفعن الحجر عن المصون، وترفعن عن ستر المكنون. ولففن الساق بالساق، وشفين غليل العشاق. وكثرن الضباب في الوجار، وأطلعن الأشرار على الأسرار. وطرقن إلى الأودية، والسيول إلى الأودية. والجداول إلى الغدران، والمناصل إلى الأجفان. والسبائك إلى البواتق، والزنانير إلى المناطق والاحطاب إلى التنانير، وذوي الإجرام إلى المطامير والصيارف إلى الدنانير. والأعناق إلى البطون، والأقذاء إلى العيون. وتشاجرن على الأشجار، وتساقطن على الثمار. وزعمن أن هذه قربة ما فوقها

ذكر ما أهداه عز الدين مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل من النفط الأبيض والرماح والتراس

قربة، لاسيما فيمن اجتمعت عنده غربة وعزبة. وسقين الخمر، وطلبن بعين الوزر الأجر. وتسامع أهل عسكرنا بهذه القضية، وعجبوا كيف اعبدوا بترك النخوة والحمية. وأبق من المماليك الأغبياء؛ والمدابير الجهلاء؛ جماعة جد بهم الهوى، وأتبعوا من غوى، فمنهم من رضي للذة بالذلة، ومنهم من ندم على الذلة فتحيل في النقلة. فإن يد من لا يرتد لا تمتد، وأمر الهارب إليهم لاتهامه يشتد؛ وباب الهوى عليه يستد. وما عند الفرنج على العزباء إذا أمكنت منها الأعزب حرج، وما أزكاها عند القسوس إذا كان للعزبان المضيقين من فرجها فرج. ووصلت أيضا في البحر امرأة كبيرة القدر، وافرة الوفر، وهي في بلدها مالكة الأمر. وفي جملتها خمسمائة فارس بخيولهم وأتباعهم، وغلمانهم وأشياعهم. وهي كافلة بكل ما يحتاجون إليه من المؤونة، وزائدة بما تنفقه فيهم على المعونة. وهم يركبون بركباتها، ويحملون بحملاتها، ويثبون لوثباتها، وتثبت ثباتها لثباتها. وفي الفرنج نساء فوارس، لهن دروع وقوانس. وكن في زي الرجال، ويبرزن في حومة القتال، ويعلمن عمل أرباب الحجا وهن ربات الحجال. وكل هذا يعتقدونه عبادة، ويخلن أنهن يعقدن به سعادة، ويجعلنه لهن عادة. فسبحان الذي أضلهن، وعن نهج النهى أزلهن. وفي يوم الوقعة قلعت منهن نسوة، لهن بالفرسان اسوة، وفيهن مع لينهن قسوة، وليست لهن سوى السوابغ كسوة. فما عرفن حتى سلبن وعرين، ومنهن عدة استبين واشتربن. وأما العجائز امتلأت بهن المراكز؛ وهن يشددن تارة ويرخين، ويحرضن وينخين. وقلن أن الصليب لا يرضى إلا بالإباء، وأنه لا بقاء له إلا بالفناء؛ وأن قبلا معبودهم تحت استيلاء الأعداء. فانظر إلى الاتفاق في الضلال بين الرجال منهم والنساء. فهن للغيرة على الملة مللن الغيرة، وللنجاة من الحيرة ناحين الحيرة. ولعدم الجلد عن طلب الثأر تجلدن، ولما ضامهن من الأمر تبلهن وتبلدن. ذكر ما أهداه عز الدين مسعود ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل من النفط الأبيض والرماح والتراس ولما عرف صاحب الموصل ما شرع فيه السلطان من تكثير العدة؛ وتقوية النجدة؛ لكل ما يمكنه من أسباب البأس والشدة؛ سير من أعمال النفط الأبيض مع عزة وجوده ما وجده. ومن التراس والرماح من كل جنس أحكمه وأقومه وأجوده. وشاع الاعتداد، وذاع الإحماد؛ ودل ذلك على اتشاج الوداد؛ والامتزاج والاتحاد.

ذكر عماد الدين صاحب سنجار وما عزم عليه من تجهيز ولده

وكتبنا في شكره وصل السلاح، وتم للإسلام من قروح الكفر الاقتراح، واستجيدت التراس والرماح، وفارقت للقائها أجسام الأعداء الأرواح. واتصل بالنفط الواصل من أهل النار الاحتراق، وطعنت وضربت منهم النحور والأعناق. وقد هدأ بما أهداه النصر إلى الهدى، والردى إلى العدا. وأجود الأكارم وأكرم الأجاود من جاد بما أجدى وأهدى ما هدى، وعاد من المكرمة بما بدا. لا أخلى الله المجلس من يد يتخذها، وأياد يسيرها وينفذها، ومحمدة يستخلصها لنفسه ويستنقضها، وحمية للدين يقم بها حماة الشرك ويقذها. ونخوة للإسلام تمهى حدود الهمم النابية وتشحذها. وما طلب من العدة ما طلب إلا للحاجة الحاقة، والضرورة الشاقة. فإن الحروب المتطاولة المدد، أتت على جميع العدد. فالسمر متحطمة، والبيض متثلمة، ووجوه الصفاح بلثام النجيع متلثمة. وعيون النصال عن حواجب القسي إلى مقل الأقران رامقة مارقة، وحمام الحمام في مريشات السهام بكتب الكبت من حنايا المنايا السائقة سابقة. وقد أفنى المصال النصال، والنضال النبال. والرماد الافواق، واللقاء العتاق. والمصاع المناصل، والقراع الذوابل، والصيال الصواهل، وعمل الجهاد الدائم العوامل. فلا ضامر إلا وهو وأن كان غالبا لاغب، ولا صارم إلا وهو في دم العدو الفائض ناضب. ولا جارح إلا وهو مجروح، ولا قارح إلا وهو مقروح. ولا جامح إلا وهو مصحب، ولا باشر إلا وهو مقطب. فبأية عدة من هذه العدد انجد، غار الحمد وأنجد، وتأسس الشكر لأنعامه وتمهد. ومن العجب أن العدة تفنى ولا تفنى العداة، وتنمو على الحصاد وكأنها النبات، ويتسارع إلى إمدادها الموت والهلاك ويخلفها في إبدالها الحياة. فإن البحر يمدهم، والكفر إلى الردى يردهم، وكلما أخلقتهم الأيام فإن الليالي تجدهم. وما جمعهم القدر إلا ليفرقهم، وما حمل أهل النار في الماء إلا ليغرقهم في دمائهم وبنار البواتر يحرقهم. ذكر عماد الدين صاحب سنجار وما عزم عليه من تجهيز ولده ورد الخبر بأن عماد الدين قد جهز عسكره، وقدم عليه قطب الدين ولده وسيره. فقال السلطان هذه أيام الشتاء، ولا ينتصف فيها من الأعداء. ونحن محتاجون إلى العسكر في الربيع، واستنهاض الجموع إلى شمل النصر الجميع فكتب بتأخيره، والتمهل في تسييره. فتأثر قلب عماد الدين برد ولده، ورجوعه بعد المسير من بلده. فكتب إليه السلطان من مكاتبة كان لما انتهى إليه صدق اهتمام المجلس بأمره؛ والتقدم بتجهيز العسكر إلى

ذكر وصول رسول سلطان العجم

نجدته بكل ما يعود بسرور سره؛ وانشراح صدره؛ وعرف مسير قطب الدين أدام الله له مضاعفة العلاء؛ وأقر بأنواره عيون الاولياء؛ وظن أنه لم يقدم حركته المقرونة بالحسنات؛ ولم يقرب من عبر الفرات؛ أشفق عليه من التعب، ليكون عسكره مستريحا عند الطلب. فإن الحاجة إليه في الربيع أدعى، ومصلحة الإسلام في ذلك الأوان أولى أن ترعى. ولو عرف أن الركاب القطبي قد دنا؛ لبشرته السعادة بنجح المنى ولا ستقبله بالنفوس والأرواح؛ وتلقته القلوب بالقبول العبق بنشر الانشراح وأن اشتغل القلب بما فاته من حظ الاستسعاد بوفوده؛ فقد بشر أمله بنضارة عود نجحه عند عوده ونجاز وعوده. وفي آخر هذه السنة السلطان الرسل إلى الأقطار والأمصار؛ للاستنفار والاستنصار. وبث الكتب وكتب بالبث، وحث الرسل وراسل بالحث، وبعث المسرعين لاستبطاء البعث. وأنهض بالتبليغ كل بليغ، وجرع كأس التدبير في حسن السفارة كل مشيع مسيغ. وسرح (عدنان) النجاب إلى سيف الإسلام باليمن، وشرح في الكتاب إليه ما جرى من حوادث الزمن. ووصفت له جلية الحال. وما نحن عليه من دوام القتال، وطلبت منه الإعانة بالمال. واستعين واستنجد. واستلين واسترفد. وحض على حظه من انجاد الإسلام، وأن يكشف بسنى طلوعه ما غشيه من الإظلام. وأرشد إلى نهج السماح، وتسيير كل ما يقدر عليه من العدد والسلاح. وتجريد الجرد العناق، وتوفير الحمول التي تخرجها في سبيل يد الإنفاق. وكوتب (قزل ارسلان) بهمذان، بما دنا منه عزمه ودان، وحكم على كل ملك بحجة الإيمان، وهدى إلى محجة الإحسان. ذكر وصول رسول سلطان العجم ركن الدنيا والدين طغرل بن ارسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بالالتجاء إلى ظل السلطان. وارتجاء ماله من فضل الإحسان ورد من عند طغرل سلطان العجم أمير من خواصه هو (ايلدكز) أمير العلم. فضرب له من الخيم الخاصة سرادق، ووفرت في الضيافة له المنافع والمرافق. ومضمون رسالته: أنه خانته من أمرائه ومماليكه العامة والخاصة، وخصته في سفراته ونكباته الخصاصة. وأن عمه - أخا أبيه من أمه - قد استولي هاة مماليكه، وضيق عليه سعة مسالكه. وألجأه إلى هذا الالتجاء، وهو بقوته من هذا الجانب قوى الرجاء. وقد وصل إلى حد مملكتك بقرب اربل، واراد الوصول إلى الموصل. ولكنه نزل في بيوت (عز الدين حسن بن يعقوب بن قفجاق). ينتظر منكم الاصراخ والإشفاق. وعز الدين حسن من

خدم دولتك، والمستمسكين بعصمتكم، والمستوثقين بذمتكم. وأنا عنده مقيم، وعلى سنن الأمل مستقيم. فإن استقدمتني إليك قدمت، وإن أمرت أمراء أطراف ولايتك بمشايعتي ودت من النصر ما عدمت. وأنا الآن هزيل عامك، ونزيل إنعامك ووصل معه كتاب بخطه، قد بث حزنه فيه بشرحه وبسطه. وأبدى الاستكانة، واستدعى الإعانة، وأردف رسولا برسول، وكرر سؤالا فيما التمسه من سول. فاعتذر السلطان بما هو فيه من شغل الجهاد الشاغل، وأنه لا مطمع ما دام العدو ملازما لنا في مفارقة الساحل. فكتب إلى زين الدين يوسف صاحب اربل وإلى (حسن بن قفجاق) وإلى نائبه بشهر زور بالتوفر على خدمته، والارتياد لمصلحته، وإشاعة معونته. ثم ندب كبيرا للسفارة بينهم وبين مظفر الدين قزل ارسلان وهو (جمال الدين أبو الفتح إسماعيل بن محمد بن عبد طويه نسيبي)، ليكون القيام بهذا الأمر من نصيبي. وسعى في المصلحة والمصالحة، والمصافاة على صفقة المودة والمصافحة، وحفظ حرمة تضرعه وتذرعه. وسيأتي ذكر من آل إليه الأمر في موضعه. وتوفي الفقيه (ضياء الدين عيسى الهكاري) بمنزل الخروبة سحرة يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة. ولقد كان من الأعيان، ومن مقربي السلطان، ومن أهل الجد في نصره الإيمان، فنقله الله إلى الجنان. وحمل من يومه إلى القدس فدفن به. وكانت في هذه السنة وفاة الفقيه الكبير (شرف الدين أبي سعد عبد الله ابن محمد بن أبي عصرون بدمشق، يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رمضان، وهو شيخ المذهب الذي لم يخلفه مثله. ودفن معه فضله. وكان موالده في أوائل سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. وكانت وفاة الأمير (عز الدين موسك بن جكو) بكرة يوم الجمعة النصف من شعبان منها، وكان من الأبرار الاخيار، والعظماء الكبار.

دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان مقيم بعسكره بمنزلة الخروبة. وكل من الملك العادل والملك الأفضل والملك المظفر في خيمته المضروبة. وعكاء محصورة، وجموع الفرنج إلى حصارها محشورة، وعلى تعذرها عليهم محسورة. وخرجت هذه السنة والحصر مستمر، والسلطان في ملازمة القتال مستقر، وحيا النصر في الأحيان مستدر. وقد تسنت للإسلام مباهج، ووضحت للسعادة مناهج، وبانت للقتال مداخل ومخارج، وانقطعت بين الوشيج وأرحام الأرواح وشائج، واشتدت لتباريح الأشواق إلى لقاء الأعداء لواعج، وتألفت في الإقدام مقدمات ونتائج، ولمناجح المنى منا في مدى الرجاء مدارج، ولخطباء الظبا في منابر الطلى معارج، وللجهاد جهات؛ وللعزمات ازمات، واتفقت حسنات، وحسنت اتفاقات. وكانت لنا مسرات هي لأعدائنا مساءات. ووقعت عجائب، وأعجبت وقائع، وأبدعت غرائب، وأغربت بدائع. واجتمعت كتائب، ونابت نوائب، وصفت تارة وكدرت مشارب. وساعدت الأقدار، وتباعدت الأكدار. وهلك من الفرنج المحاصرين في الوقائع عدد لا يقع عليه الحصر، ولكم أسفر صبح اصحب فيه جماح الظفر وسفر النصر. وسيرد حديث كل حادث بمفرده، ويجدد ذكر كل كتجدد بمجرده. ذكر وقعة الرمل كان السلطان يركب أحيانا للصيد، بعد أن يحذر على ما يظهر للعدو من الكيد. وهو لا يبعد من الخيم، ولا يقرب من مسائل الديم. وركب يوما في صفر عاى عادته فتصيد، وطاب له قرب القنص فأبعد. واليزكية على الرمل وساحل البحر من الميسرة، على الحالة المحتاطة المستظهرة. فخرج الفرنج وقت العصر، في عدد لا يدخل في الحصر. وتسامع أصحابنا بهم فزحفوا اليهم، وحملوا عليهم، وطردوهم إلى خيامهم، وأخذوا عليهم من خلفهم وأمامهم. وما زالت بينهم حملة وحملة، وشلة وشلة، وسلة وسلة، وركضة وركضة، ونفضة ونفضة، ومشقة ومشقة، ورشقة ورشقة، وجذبة وجذبة، وضربة وضربة، وشدة وشدة، وردة وردة، وضمة وضمة، ولمة ولمة. وأصحابنا طاهرون، والمراد ظافرون. ولهم في كل دفعة من العدو قلائع، والفرنج في كل كرة على الرمل مصارع. حتى فني النشاب وبقي الانتشاب، وشاع نداء الأصحاب باستدعاء النشاب. والفرنج لا يعجزهم إلا الرماء، ولا يهلكهم إلا الاصماء. ولا ينفرهم إلا رنة الأوتار، ولا ينذرهم إلا أنه القسي بالدمار والبوار. فلما انسوا بخلو الجعاب،

ذكر فتح شقيف أرنون

تجاسروا على الدنو من تلك الشعاب. وحملوا حملة واحدة ردوا بها أصحابنا إلى النهر، وكادت تعبث بهم يد القهر، فثبت من العادلية في وجوه القوم صف مرصوص البنيان، واشرعوا نحور تلك الذئاب ثعالب الخرصان. واستشهد جماعة من الشجعان، استحلوا طعام الطعان، وشاقهم جنى الجنان. وذلك أنهم ردوا الفرنج قلعوا فرسانا، وصرعوا أقرانا. فنزلوا بعد فرسهم، لسلب لبسهم. فمرت بهم الحملة في الأوبة، وأعجلتهم عن الركبة والوثبة. واظلم الليل فافترق من معاركها الجمعان، واجتمع في مراكزها الفريقان. وكثر التأسف على من فقد، وكان الحاجب (أيدغمش المجدي) ممن استشهد. وزاد التلهف على فوات الفرصة، وكيف أغفل ذلك القنص عن تلك القنصة، فإن العدو صار عرضة للصرعة في تلك العرصة. ومن نوادر هذه الوقعة؛ وطرائف هذه الدفعة؛ أن مملوكا للسلطان يقال له (سراسنقر)؛ وهو يتطاول في كل معترك ولا يقصر؛ عثر به جواده، وثبت على الجرأة فؤاده، ورجله عثاره، وأسلمه أنصاره. فقبض من أسره شعره ليجذ به، وسل آخر سيفه ليضربه، فضرب يد قابض شعره فسيبه. واشتد سراسنقر يعدو ناجيا، وللخلاص راجيا. وهم يعدون وراءه ليمسكوه ويهلكوه، وفاتهم بعون الله فلم يدركوه. وهذا قذفته المنون من لهاتها بعد ازداده، وانتضاه الحمام لمضاء غراره بعد إغماده. ذكر فتح شقيف أرنون وفي يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول تسلم بالأمان شقيف ارنون، واستمر الحصار عليه منذ نزولنا في السنة الماضية بمرج عيون. وصاحبه ارناط - صاحب صيداء - في دمشق لأجله معتقل، وباب خلاصة دون فتح (شقيفة) مقفل. وذلك أن الشقي في الشقيف فني زاده، وعز اجتهاده، ومرد عليه في الحفظ مراده، وخانه في الصبر ارتياؤه وارتياده، ونخب من الرعب فؤاده، وأصلد باليأس زناده، وامتنع عليه إصداره وإيراده. فيلمه على أن يسلم صاحبه، وتخلص في النجاة مذاهبه، وخرج هو ومن معه وترك الشقيف بما فيه، وتركه للإسلام بما يحويه، وأفرج عن صاحب صيداء وصار إلى صور، ولبس من التشريف والتسريح حبير الحبور. ذكر حال عكاء ودخول العوامين إليها ووصول الكتب على أجنحة الطير منها كان السلطان اغتنم هيجان البحر، وحضور مراكب الأسطول من مصر. فما زال يقوى عكاء بتسيير الغلات والأقوات والقوات إليها في المراكب، وقد ملأها بالذخائر

ذكر ما دبره السلطان عند انحسار الشتاء وانكسار البرد في الانتهاء

والأسلحة والكماة المساعير والحماة المحارب. فلما سكن البحر، وأمن غائلته الكفر، عادت مراكب الفرنج إلى مراسيها، ودبت عقاربها وأفاعيها، وشدت مراكبنا في موانيها. وانقطع عنا خبر البلد، وامتنع عليه دخول المدد والعدد. فانتدب العوام للسباحة، وحملتهم السماحة لهم بالرغائب على وضع المهج في ميزان السماحة. وعلموا أنهم إذا سبحوا ربحوا، وإذا سلموا فراحوا فرحوا. حتى صاروا يحملون نفقات الأجناد على أوساطهم، ويخاطرون بأنفسهم مع احتياطهم. ويحملون كتبا وطيورا ويعودون بكتب وطيور، ونكتب إليهم ويكتبون إلينا على أجنحة الحمام بالترجمة المصطلح عليها سر الأمور، ويودع المكتوب والمكتوم ما نطلعهم عليه من الخفي المستور. وكان في العسكر من اتخذ حماما تطوف على خيمته وتنزل في منزلته. وعمل لها برجا من خشب، وهرادى من قصب. ويدرجها على الطيران من البعد، ويوردها لشعبها وريها أحب الحب وأعذب الورد. وكنا نقول: ما هذا الولع بما لا ينفع، والوله بما لا ينجع. حتى جاءت نوبة عكاء فنفعت، وشفت الغلل ونقعت. وأتت بالكتب شارحة سارحة، ووفت بمفاتيح الغيب بالبشرى مفاتحه. فصرنا نحبو صاحب الطيور بالإطراء، ونخصه بالمدح والثناء. ونأمره بالاستكثار، ونطلبها منه مع الليل والنهار. حتى قل وجودها عنده لكثرة الإرسال، وكنا تعرف بها جلية الأحوال. ونعلم أن الله علمه ذلك البر، وألهمه ذلك السر. فإنه اطلع على ما يدفع إليه أهل الإسلام، فحمى حمى هداهم بهداية الحمام. فإنها أمينة على الأسرار، ضمينة بالأخبار، ضنينة بالأسفار. قمينة بكرامة الأحرار، مصونة من بين الأطيار، جريئة على الأخطار، بريئة من الأعذار، معدودة من الأذخار، مودودة مع الأخيار. وحمام البلد إلينا مع العوام محمولة، وعقود الأكياس عليهم محلولة. فلا ينكر على المحتاج أن عام بالأنعام. ومعولة التحرز من الضلال، والتخفي بستر الظلام. والضرورة تحمل على تحمل الضرر، والغرارة تبعث على الانبعاث إلى الغرر، والفقر يدعو إلى ركوب الخطر. وفيهم من سلم مرارا من القوم، فاجترأت نفسه وأنس بالعوم. ولقد عطب عوامون، بالأمانة قوامون، فما ارتدع الباقون، وما قالوا أنهم لما لقي رفقاؤهم لاقون. ذكر ما دبره السلطان عند انحسار الشتاء وانكسار البرد في الانتهاء ولما انحسر الشتاء وانكسر، وانتشى الربيع وانتشر، أمر السلطان عساكره بالعود، فتوافت إمداد اجوادهم توافي إمداد الجود. فكان أول من وصل الملك المجاهد (أسد

الدين شيركوه بن محمد ابن شيركوه) صاحب حمص والرحبة وهو بأكمل العدة، وأحسن الأهبة. وسابق الدين عثمان (صاحب سيرز) وهو الذي ببسالته يقسر الليث القسور، و (عز الدين بن إبراهيم بن المقدم) المقدام، والهمام ابن الهمام، والكريم ابن الكرام، والأسد الضرغام، والسيد القمقام. ووفد معهم جموع من الأجناد والأعيان، وحشود من العرب والتركمان. ففاض بهم الفضاء، واكتسى برياشهم العراء. وكثرت الجنود، وانتشرت البنود. وحلقت عقبان الألوية، وتلاحقت ذؤبان الأودية. ولمعت بوارق البيارق، وارتفعت عوائق البوائق. وحملت بواسق السوابق، وثبتت وثائق العلائق، وثبتت شقائق العقائق، ونظرت أحداق الحدائق، وتيسرت طرائق الطوارق. وأعجبت أزهار الرايات، وانتهت غايات الغيايات، ونزلت بحسن الصنيع نصوص النصول، ودارت بيد الربيع فصوص الفصول. وعلت الأعلام. وحلت الأحلام. وومضت الموتضي ومضت، واقتضت القواضب القواضي وقضت. وعريت البيض من الحلي، وغريت السمر بالكلى، واشتاقت لدات اللدان إلى العناق، وتاقت شفاه الشفار إلى لثم الأعناق، وتحدث الأحداث في المجاراة بإجراء العتاق. وطالت رقاب الرقاق إلى غلاظ الرقاب، وأعجم عن جمجمة الجماجم إعراب العراب. وحمى عزم البطل، ومحى رسم الملل. وعاد الجد إلى جدته، والحد إلى حدته، وخرج البرد من عدته، وفاز النصر بعدته، وجليت بنت الغمد في زي الهند ورى الفرند، وقطف ورد الورد للشد إلى الورد. وقال الناس: إلام ننتظر، وعلام نصبر، ولم لا نشتغل، وكيف لا نشتغل، وحتام القعود، ومم الركود؟ ولماذا الرقود، وقد نظرت السعود، ونضر العود، وصدقت من أصحابنا الوعود؟. فرحل السلطان وتقدم، وعزم على طلب العدو وصمم، ونزل على تل كيسان يوم الأربعاء ثامن عشر ربيع الأول، في الفصل الاعدل، والفضل الأكمل. وتدانى العسكران، وتعالى العثيران، وتقارب القرنان، وتحارب الحزبان. وترتب العسكر الإسلامي في نزوله ميمنة وميسرة وقلبا، وفي ركوبه على ترتيب منازلهم طلبا طلبا. فكان الملك المظفر تقي الدين في آخر الميمنة الميمونة، والملك العادل في آخر الميسرة المنصورة المصونة، والملك الأفضل في أول ميمن القلب، وأخوه الملك الظافر في أول ميسرته على الجنب. والكتائب مكتبة، والمقانب مقنبة، والسماء بالنقع الثائر منقبة، والأرض بوقع الحافر مثقبة. والعساكر مترادفة، متوافرة متوافدة، متتابعة متواردة. متسابقة متلاحقة، متناسبة متناسقة، متوالية متوافية، متجارية متبارية، منقضة كالبزاة، منفضة إلى العداة. داعية إلى الانتصار، عادية على الكفار.

ذكر وصول رسول دار الخلافة مع ضياء الدين الشهرزوري في جواب رسالته

ذكر وصول رسول دار الخلافة مع ضياء الدين الشهرزوري في جواب رسالته ووصل يوم الاثنين سادس عشر ربيع الاول رسول دار الخلافة، بالنجدة والعارفة والرحمة والرآفة؛ وهو (الشريف فخر الدين) نقيب مشهد باب لتين بمدينة السلام، فتلقاه السلطان بالاحترام والإكرام. واحتفل لوصوله، واستقبله لقبوله. وتلقاه الأمراء على الترتيب، فمنهم من تقدم نحوه إلى البعيد؛ ومنهم من وقف له القريب. ثم أخوه السلطان وأولاده واحدا بعد واحد، وماجدا بعد ماجد، وبادئا بعد عائد. ثم ركب السلطان إليه عند القرب من سرادقه، وأدناه إليه بتعانقه. ثم سار معه قليلا، وأصحبه من خواصه وأمرائه قبيلا. حتى نزلوا به في باركاه له مضروب، وخصه بصنوف من الألطاف وضروب. ووصل معه حملان من النفط الطيار، وحملان من القنا الخطى الخطار، وتوقيع بعشرين ألف دينار تقترض على الديوان العزيز من التجار، وخمسة من الزراقين النفاطين المتقنين صناعة الإحراق بالنار. فاعتد السلطان بكل ما احضره، وأخلص الدعاء للديوان العزيز وشكره، غير إنه أبدى رد التوقيع مع ود الصنيع، وقال: كل ما معي من نعمة أمير المؤمنين وعارفته، ولقد نعشني ما شملني من عاطفته. ولعل الله يوفقني للقيام بالفرض، ويغنيني عن الالتزام بالقرض. وأركب الرسول مرارا معه واراه مبارك النزال، ومعارك القتال، ومصارع الرجال، ومجامع الابطال، ومطالع اللقاء. ومواضع الهيجاء. ومصالت الاقدام، ومنابت الأقدام. ومواقف الصفوف، ومصاف الوقوف. وأماكن البعوث، ومكامن الليوث. وتل الفضول، وبقية التلول. حتى يشهد بما يشاهد، ويبين له المجتهد والمجاهد، واراه ما لم يره ليأثر أثره، ويخبر بجملته ويجمل خبره. وأقام الرسول طويلا، وأقام له السلطان من طوله دليلا، ووفر له عطاء جزيلا، وعرفا جميلا. حتى استأذن في العود فعاد، واستصحب الشكر والاحماد. ذكر مقاتلة الفرنج عكاء بالأبراج والأعجاز بها والإزعاج وكان الفرنج منذ نزلوا للحصار؛ شرعوا في عمل الأبراج الكبار. وركبوها من الأخشاب الطوال، والعمد الثقال. وبنوها وقدموها، ونصبوها وأحكموها. وسقفوها طباقا، وسمروها بالحديد وجعلوا لها منه أطواقا، ووثقوها شدا وشدوها وثاقا. ولبسوها بالسلوخ، وملئوها بالجروخ. وزحفوا بها إلى السور، وكشفوا بالرمى منها بعض سقوف الدور. وتساعدوا على طم، الخنادق، وتفتيح الطرائق. ووصل من المدينة عوام، يخبر بأن التلف بها حوام. وأن البلد قد اشرف، والخطر قد أسرف، والأبراج علت،

والأسوار خلت، والبلاد قد عم، والخندق قد طم. وأنتم إن تم هذا عراكم العار، وأظلم على الدنيا والدين بليله النهار. فاحتمى السلطان واحتد، وشد واشتد. وكرب وركب، وكان يحسب هذا فجاء كما حسب. وزحف إلى الفرنج ليشغلهم عن الزحف، ويصرفهم عن الفتح بالحتف. وذلك في العشرين من ربيع الأول يوم الجمعة، بالجحافل المجتمعة، والغماغم المرتفعة، والصوارم الملتمعة، والصلادم الممتنعة، والأسنة المشرعة، والأعنة المسرعة. والحوائم المنتجعة من النجيع، والبيارق المختفقة كأزهار الربيع. واتفق في هذا اليوم وصول عماد الدين صاحب دارا (محمود ابن بهرام الارتقي)، بالجمع الوافر الوفي، والعسكر النخى النقي. وسار إلى القتال على حاله، بخيله ورجاله. وضايقهم السلطان مضايقة عظيمة، ولم تزل جادة الجد في مقاومتهم مستقيمة، حتى دخل الليل، ولغبت الخيل. فقوى تلك الليلة اليزك، وألزمهم في الحفظ والدرك. ورجع إلى مخيمه ساهدا ساهرا، مجاهدا بالبكور نحوهم مجاهرا. فلما أصبح يوم السبت صبحهم بالحرب، وسبحهم على بحر الكر والكرب. ورجل الرجال اليهم، وأنزل النوازل عليهم. وانتزج بياض النهر بسواد النقع، واتسع خرق الواقعة على الرقع. وانقضى اليوم وقد انقرض القوم. وتفرق الجمعان وقت العشاء، عن قتيل غريق في الدماء، أو جريح على بقية الذماء. وبات الناس في السلاح شاكين، وبنار المذاكي ذاكين، ولما تم منهم وعليهم حاكين. ورجع السلطان إلى خيمة ضربت له على تل العياضية، وقد ألزمته البسالة الطبيعية، بالرتوع في رياض الأخلاق الرياضبة. وأصبح يوم الأحد راجعا إلى قتال أهل الأحد، واستن من الجد على أنهج الجدد، وأمر بانتقال السوق إلى قربه ليقرب من العسكر، وأيده الله بالنصر الأظهر والظهور الأنضر. وأقام كذلك وهو في كل يوم يغدو وينازل، ويعدو ويقاتل. ثم نقل يوم الأربعاء الخامس والعشرين الأثقال إلى المخيم لئلا يغيب حاضر، ولا يصاب عن الورد صادر. وليكون غلمان العسكر للحرب مباشرين، ولمعشر الكفر بإدارة كؤوس الردى عليهم معاشرين. فانتدب منهم إلى الحرب كل مجترئ للوقائع مجترع، وكل محترق على نار الهيجاء للهياج مقترج. وكل وقاح بالحراب وقاع، وكل ضرار بأرداء الكفرة نفاع. وكل غلام له من هيجان الحمية لغام، كل أسد غدا إلى الشد له في حومة المأزق زئير وبغام. وكل متلاف للغيرة متلاف، وكل جاف عن سوى السوء متجاف. وأخذوا من بيت السلاح السيوف والتراس، وطلبوا بقصد العدو والاقتناص والافتراس. وأبلوا بلاء حسنا، وأوضحوا بالنكاية في العدو سننا. ووصل في صبيحة يوم الخميس السادس

ذكر وقوع النار في أبراج الفرنج الثلاثة واحتراقها وتلف كل ما كان ومن كان في طباقها

والعشرين؛ عوام من البلد يخبر بقوة المشركين المحاصرين. وأن البلد قد ضويق، وأن العدو المخذول يحيق به كيده أن حوقق. فتقدم السلطان ليشغل العدو عن قتال البلد بقتاله، ويكفه بنزاله عن نزاله. وجدد الكتب إلى الأمصار، بالاستنفار والاستنصار. أول من وصل؛ ولده الملك الظاهر صاحب حلب، وقد جمع وجلب. وتقدم عسكره يوم الجمعة وانفرد بوصوله، وحظي من نظر والده بسوله. وذلك يوم الجمعة السابع والعشرين. ثم عاد إلى معسكره، وجاء يوم السبت في حسن منظره، وإحسان أثره. في منظر ناضر، ورونق حاضر، وجمع كثيف، وحشد لفيف. وبهجة رائعة، وروعة مبهجة وهيئة معجزة، وهيبة للعدو مزعجة. وصولة دائلة، ودولة صائلة، وميامن رائقة، ومحاسن شائقة. وبحر من الحديد مائج، ومجر من العديد هائج. ورقاق وذوابل، وعتاق وصواهل، وعوابس وعواسل، وشعوب وقبائل. وقدم في هذا اليوم (مظفر الدين بن علي كوجك) وهو صاحب حران جريدة، وقد استأنف للجهاد عزيمة جديدة. ثم عاد إلى عسكره ليقدم به، ويحضر بجنده وتركمانه وعربه. ذكر وقوع النار في أبراج الفرنج الثلاثة واحتراقها وتلف كل ما كان ومن كان في طباقها ولما كان بعد الظهر من هذا اليوم؛ وهو السبت الثامن والعشرون، تتابعت بظهور دلائل النصر؛ وتناصر أسباب الظهور المبشرون. فنظرنا والنار من أحد الأبراج في السماء بشعلها متسامية، وفي الجو بشرارها مترامية. وما يدري ما سبب هذا التوفيق. وأحدقت النار بالبرج فإذا هو كشجرة من نار، وقلوب المشركين لاستعارها في استعار، ووجوه المؤمنين لأنوارها في استبشار. ثم رأينا البرج الثاني وهو يحترق، والنار في أثنائه تخترق. ثم نظرها إلى البرج الثالث فإذا هو يشتعل، وبألسنة النيران يبتهل. فما برحنا حتى سقطت ثلاثتها. وبلغت إلينا من صدماتها وحدماتها استغاثتها. وركب السلطان ونحن معه ونزلنا نكتب بشائر النار، ونسير بطاقاتها على أجنحة الأطيار. والعجب أن الأبراج كانت متباعدة غير متدانية، وقد أبعدها الفرنج لمسافات متنائية. فكل واحد منها على جانب من البلد قد كشفه، وخسف أسواره وكسفه. فاحترقت على تباينها في وقت واحد وقدر من الله وارد. فلم يكن ذلك إلا سرا إلهيا، ولطفا ربانيا. وفرجا بعد الشدة، وثلجا لصدور المؤمنين بتلك الوقدة. وكان سبب حريقها أن رجلا يعرف بعلي - ابن عريف النحاسين بدمشق - كان استأذن السلطان في دخول عكاء للجهاد، وأقام فيها باذلا للاجتهاد. وغرى بعمل قدور النفط وتركيب عقاقيره، وتعيين كل نوع وتعيير مقاديره، وتقديره معاييره.

والناس يضحكون منه، ويغضون عنه. ويقولون: هذا يضيع ماله فيما لا يعنيه، وما هذا الهوس الذي وقع فيه. وهو يعد لذلك العمل الآلات، ويجد في تلك الأدوات، ويكثر القدور، ويرتب الأمور. فلما قدمت إلى البلد تلك الأبراج؛ وحصل من الامتزاج الامتراج؛ قوتلت بكل فن، وأدنى إليها من النفط كل قدرون. ورميت بكل قارورة محرقة، وكل نفاطة مرهقة. وبالغ في صنعته الزراق، فلم يتم في شيء منها احتراق. ووقع الياس، واستسلم الناس. فمضى ابن العريف، بل ابن العريف، إلى بهاء الدين قراقوش - الأمير. وقال: قد رأينا ما اعترض من التدبير، وما عرض من التقدير. فأفسح لي في رمى هذه القدور؛ فلعل الله يأتي منها بشفاء الصدور. فأذن له على كره، وقال: ما أرى لإحراق هذه البروج على يده من وجه، فإن الصناع قد أبلسوا، والزراقين العارفين بالصناعة يئسوا. فلما وجد الإذن، وزن القدور وعيرها، ورمى بواحدة منها إلى أحد الأبراج في المنجنيق وعبرها واعتبرها. ثم لما استوت رمايته، وصحت في الإصابة درايته. رمى بقدور نفط لا نار فيها، وهو يصبها على أعالي البرج ويسقيها. والفرنج يعجبون من البلل، ولا يدرون بما وراءه من الشعل. ثم قذف ناريه، متشعبة بكل بلية، فوقعت في الطبقة الوسطى، ورمى أخرى فوقعت في السفلى، فاشتعل البرج من طرفيه الأدنى والأعلى. وتعذر على من فيه الفرنج الخلاص وكانوا سبعين، فاحترقوا أجمعين. ودخل إليه جماعة لاستفاذ ما فيه فاحترقوا بدروعهم وسيوفهم، وتقلبت الجحيم غيظا لاستبطاء حتوفهم. وتحول ابن العريف إلى مقابلة البرج الثاني، ولم يلحقه في إحراقه التواني. وانتقل إلى الثلث فاحرقه، وما كان ذلك بصنعة منه بل لأن الله وفقه، وما زالت تحترق الثلاثة وتتقد اتقادا، حتى عاد جمرها رمادا، وبياض نارها واحمرارها في السماء على الأرض سوادا. واحترقت المجانيق والستائر التي كانت بقربها. (فبهت الذي كفر) وأسف على نصبه في نصبها. وخمد الكفار بذلك الضرام، وسلوا عما كانوا فيه غرام العرام. وحبطت أعمالهم، وخابت آمالهم. وركدوا بعد جريهم، وركنوا إلى خزيهم. وضلوا في سعيهم، وتورطوا في بغيهم، وسقط في أيديهم بسقوط ايدهم، وحيق مكرهم بهم، وكيدوا بكيدهم. وخرج رجالنا من البلد فنظفوا الخندق وسدوا الثغر، واظهروا بظهور القدر القدر. وجاءوا إلى مواضع الأبراج وأماكنها، واستخرجوا الحديد من مكانها. ونبشوا الرماد عن الزرديات التي انسبكت، وكشفوا عن الستائر التي تهتكت. فأخذوا ما وجدوا، وحصلوا على ما نشدوا. وأترب من ترب من تراث ذلك التراب، وعمرت قلوب المسلمين بذلك الخراب. وبردت من حر تلك النار، وشفى أوامها بذلك الأوار. والحمد لله الذي جعل تلك النار لأوليائه بالبرد والسلام ابراهيمية، وعلى اعدائه بالحر والضرام جحيمية.

ذكر فصول أنشأتها من كتب البشائر بالنار

ذكر فصول أنشأتها من كتب البشائر بالنار صدرت مبشرة بما أجده الله من الجد، وأنجزه من الوعد، وأجزله من الرفد، وأعذبه حال الظمأ البرح من الورد. وذلك ما ظهر يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول من الاتفاق الحسن، والنصر الذي يقصر عن وصفه ذوو اللسن. وهو أن أصحابنا بعكاء رموا بقدور النفط عدد العدو المدحور، واحرقوا جميع ما لهم من المذخور. واحترقت ثلاثة أبراج كانوا قدموها، ودبابات قربوها، ومنجنيقات نصبوها. ولهم منذ تسعة أشهر يجمعون هذه الآلات، ويستسهلون عليها الغرامات. حتى أقاموا أبراجا أعلى من أبراج السور بضعف سمكها، وقربوها ناكية في الثغر المحروس بفتكها. وشحنوا بالرجال المقاتلة طباقها، واطالوا على مناكب البلد أعناقها. فأشفق الإسلام من نكاياتها، وأظلمت الآفاق من غياباتها. وكشفت من البلد جانبا، وجبت من سوره غاربا. فأقدر الله على إحراق ما عمل في تلك المدة المديدة في ساعة، وأمسى العدو بقلوب وأفئدة مرتابة مرتاعة. وما أفصح السن النيران على تلك الأعواد خاطبة، وما أبسط أيديها على من كان فيها من الرجال للأرواح ناهبة سالبة. فصل هذه المكاتبة مبشرة بالظفر الذي ورت زناده، والنصر الذي قرب ميعاده. وذلك أن اصحابنا بثغر عكاء استظهروا وظهروا، وصبروا فانتصروا. ورموا من البلد أبراج الفرنج المنصوبة عليه بقدور النفط، وأنزلوها من سماء الرفعة إلى أرض الحط. وأطالوا بها السن النار المضرمة، ودبت من الأبراج المقربة إلى الدبابات المقدمة. وعلم العدو أن كرته خاسرة، وأن يده عن نيل المنى قاصرة. فصل هذه مبشرة بالظفر الهنى، والنجح السني. والنور اللامع من النار، والنصر الواري الزناد الطائر الشرار. وهو ظهور أصحابنا بعكاء يوم السبت ثامن عشري ربيع الأول، وقد خصهم الله بالنجح الأفضل الأكمل. وقد كان العدو قدم أبراجه، وسلك في المضايقة منهاجه، ولزم في الزحف الدائم لجاجه. فاستظهر الأصحاب عليهم وقت الظهر، ورموهم لقدور النفط المحرقة من الثغر. فطالت ألسنة النيران تدعو على أهلها بالبوار، وتبدى في تضرمها تضرعها إلينا للاعتذار. وشاهد أهل النار ما أعد لهم في سقر، وتلونا قول الله سبحانه فيهم (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).

فصل إلى الديوان العزيز

فصل إلى الديوان العزيز ولما كان يوم السبت أهل الجمعة على أهل الأحد، ورمى الأصحاب المحصورون المنصورون عدد العدو وأبراجه بقدور النفط من البلد، فخطبت السنة النيران على تلك الأعواد، بل على تلك الأطواد، وألحفتها رداء الردى وألحقتها بالوهاد، وفرشت رمادها لمأتم أولئك المراد. فكانت تلك النار على الكفر ضراما، وعلى الإسلام بردا وسلاما. واحترقت الأبراج الثلاثة على معتقدي التثليث، ودبت النار إلى الدبابات بصدمة التأثير وحدمة التأريث. وما أطول ألسن النار وأفصحها بالدعاء على أهلها بالتبار، وقد أبدت إلى الإسلام بتضرمها وتضرعها وجه الاستبشار. وما أحسنها وهي (ترمى بشرر كالقصر). ويكسو سنى لهبها وجوه المؤمنين بمشر النصر. وما أقطعها لدابر المشركين وقد خصت بإحراق تلك الآلات عن البلد أجنحة الحصر، وبسم بعد عبوس البوس باسم الله ثغر الثغر. وقد بغتت هذه الفجيعة فجأة من حوته تلك البروج، ودخل إلى طبقاتها قوم لإطفاء النار فتعذر عليهم الخروج. وهلك فيها أكثر من ثلاثمائة دارع، وخرج من أهل البلد لما حق الفرج كل مسابق إلى الغنيمة مسارع. وكسبوا من الدروع والمناصل والسيوف، كل ما وجدوه خلل رماد تلك الحتوف. وكان القوم قد اعتصموا بالأبراج وثوقا بوثاقتها، واشتدوا بشدتها فيما علق بهم من علاقتها، ووصلوا بها اجتحتهم، وذخروا فيها أسلحتهم. فأخفقت ظنونهم، وسخنت عيونهم (وخسر هنالك المبطلون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون). فصل من كتاب إلى اليمن في وصف الأبراج وإحراقها استنفد الفرنج أموالهم في عدد أعدوها، وآلات أجدوها. وأحكموا أبراجا شامخات، ومجانيق شادخات، وزاد غرامهم بالغرامات، واستقلوا على عمل الأبراج كثرة الخسارات. ومكثوا مدة على لجاجهم، يطرقون بين يدي أبراجهم، ويمهدون الأرض لتسوية منهاجهم. فلما قدموها بعد لأي؛ وأحكموا بأحكامها كل تدبير ورأى؛ وأشرفوا منها على سور البلد بأسوار ذات أسواء؛ وجاءوا بآلات علات وأدوات أدواء وأشفى البلد من بلائها وأشفق؛ ووجل كل قلب وفرق، واحتجنا لمزاولة هذا الخطب الجليل، ومداواة الأمر العليل إلى أن نشغلهم بحصرنا أباهم عن التفرغ للحصر؛ وتضرعنا إلى الله في إنزال ملائكة النصر؛ فكان من لطف الله ما لم يكن في السحاب، وأتى الله المجرمين بالعذاب. وألهم أصحابنا ما داووا به المرض، وأدركوا به الغرض. وأظهرهم ظهر يوم السبت الذي خصهم فيه بالظهور، وأقدرهم على رمي

فصل

تلك الأبراج بالنفط في القدور وظهر من سر صنع الله ما كان في المقدور. فتسلطت النار على عمل أهل النار، وتصاعدت زفرات غيظها بأنفاس الشرار. ولمع نور النصر الساطع من خلال ظلمة ذلك الدخان، وكان كما قال الله تبارك وتعالى (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنصران). وعادت تلك الأكم وهادا، وذلك الجمر رمادا. وتحلحلت تلك الجبال وتحلل تركيبها، ولصق بالتراب ترتيبها، وتنكس منها صليبها. وكانت ثلاثة أبراج شاهقة، فلعبت في ملاعبها النيران فإذا هي زاهقة، وتنقلت نجوم الشعل في تلك البروج، وعجز شياطينها برجمات جمرات شهبها عن الخروج. وتسلط الحضيض على يفاعها، وباد الدارعون فيها بأدراعها. وأضحك الله ثغر الثغر بما أطابه من أرج الفرج، وأخمد باشتعال ذلك الوهج ما أكرب قلوب المؤمنين من الوهج، وصان مهج أهل التوحيد بما أراده لأهل التثليث من المهج. فصل تقدم المشركون بالأبراج إلى البلد فقربوا الأسوار من أسواره. وألصقوا منها جدرانا بجداره، وأشرف الثغر على الخطر العظيم من جواره. فأظهر الله ما كان خفيا من سر أقداره، وأحرق عمل أهل النار بناره. وكان أصحابنا لما عاينوا ما دهمهم وهمم، وخصهم من الحطب وعمهم، نصبوا مجانيق الأبراج، وصدعوها بها صدع الزجاج. ورموها منها بقدور النفط فاشتعلت رءوسها وشابت وشبت، ومشت النار في أطرافها وأعطافها ودبت، وأرسل الله في تلك الساعة بعذابها ريحا بها هبت، فأمست أجنحتها قد حصت، وأسنمتها قد جبت، وسقط في أيديها وجبت جنوبها؛ وكبت على وجوهها في النار وكبت، فما افصح السنة النيران وقد نادت بنصرنا ولبت، وألفت منها قلوبنا بما ألفت من نقع غبيلها وأحبت، والحمد لله على ألطافه التي ما غابت ولا أغبت. وقصدنا بذكر هذه الفصول ذكر الأحوال التي جرت بحقها وحقيقتها، وحليتها وجليتها. فإنه يشتمل كل فصل على تمام ما أغفل في غيره، ومقصودنا استيعاب كل حادث بذكره. ذكر تاريخ وصول الأكابر في هذه السنة وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر ربيع الآخر، قدم (عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي) بمن استنهضه من العساكر. وكان أول من استقبله حين ظهرت راياته من العسكر كتابه وقضائه. ثم لقيه (الملك المظفر تقي الدين) بتل كيسان؛ ولقيه بعده (الملك الظافر

خضر) و (المعز إسحاق) ولدا السلطان. فنزل لهما ونزلا له، وتعمدا إعظامه وإجلاله. ثم تلقاه الملك الأفضل أدنى من ذلك فتعانقا على فرسيهما، إعفاء له من النزول، وتلاقيا بالإقبال والقبول. ثم وصل إليه السلطان بالوجه الضاحك، واللطف المتدارك. واعتنقا على ظهر، واتفقا على بشر ونشر. وكان (الملك العادل) تأخر فلحق واظهر من ارج سجاياه ما بنشره عبق، وبحبه علق، وسار مع السلطان بأطلابه وابطاله؛ وحماته ورجاله؛ حتى وقف قبالة العدو بصفوفه، ووقف عليهم طول الرعب بطول وقوفه. ثم رده السلطان إلى خيمته على رسم الضيافة، وترفرفت ألطافه عليه بالاطافة. ووقف ساعة مع الملك العادل حتى دخل السلطان سرادقه وجلس، وحضر الملك العادل بعماد الدين وبسط لفرشه ثوبا أطلس. وأكرمه السلطان بإجلاسه إلى جنبه على الطراحة. وآنسه ببشر السماحة والسجاحة. ووقف الأمراء والخواص والأولياء صفين. وأنشد الشعراء من المدح والنسيب صنفين. ثم أحضرت المائدة فماد نحوها الحضور، وعقد الحبا لهم الحبور. ثم رفع الخوان وارتفع الإخوان؛ وحسن الخبر والعيان، وخلا المكان وحلا الإمكان. فأمر السلطان له بإحضار عشرة من العتاق العراب؛ وخمس عشرة رزمة من كرائم الثياب. ثم نهض وهو يعبئ الشكر ناهش، ولوجه العذر عارض. ونزل في خيمته وقد ضربت على النهر بعد المضارب العادية، وملأ تلك المروج بعساكره الملية. ثم وصل من بعده ابن أخيه (معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود) صاحب الجزيرة؛ بعساكره الكثيفة الكثيرة؛ وذلك يوم الأربعاء سابع جمادى الأولى، بالأيد الأطول واليد الطولى. فالتقاه السلطان وأخوه وأولاده على قاعدة عمه، وأجراه في الضيافة والكرامة والنزول بالخيمة السلطانية على حكمه، ولكنه يقصر في القاعدة عن رسمه. ونزا بخيمته في فناء السرادق العمادي، وقد استكثر من العسكر الجهادي. فكأن ذلك المرج بحر أمواجه الخيم والمضارب، أو سماء كواكبها ما أشرعته من صعادها الكتائب. أو غيل آساده في آجام القنا الفوارس، أو غدير من السوابغ حبابه الترائك والقوانس. أو سحاب بروقه الصوارم الرقاق، أو هاد آكامها الصواهل العتاق. ثم وصل (الملك السعيد علاء الدين خرم شاه) ابن صاحب الموصل (عز الدين مسعود بن مودود) وهو كوالده مسعود مودود، وفي شهامته وصرامته مشكور محمود. وذلك تاسع جمادى الأولى يوم الجمعة؛ بالمحاسن المتنوعة، والمفاخر الأصلية المتفرعة، والصنائع المبدعة، والبدائع المصنعة وجيشه للقوة ضابط، وجأشه على الحمية رابط، وبأسه ليد الأيد باسط، وجنانه على الكفر ساخط. وهو شاب أول ما بقل خطه، وابتهج بكماله رهطه. وكان أبوه قد عزم على الوصول بنفسه، وإذهاب وحشة

فصل من كتاب إلى صاحب الموصل في شكره على سيير ولده

الخطب الملم بأنسه. ثم رأى المصلحة في الإقامة وتقديم ولده المشكور المشهور الشهامة، فأنهض العسكر المجر معه، ثم اتبعه بمن حشده وجمعه. فورد ورود السحاب الكنهور، ونور المطالع بسنى السنور، وأطلع بطلوعه على معنى البأس المصور. واحتفل السلطان بقدومه احتفاله بقدوم عمه، وحافظ من الكرامة على توفير سهمه. وأنزله في سرادقه وأضافه. وأهدى له خيله وألطافه. وأمر بإنزاله في الميمنة بين ولديه الملكين الأفضل والظاهر، وضاق ذلك البر الواسع ببحر العساكر. ولم يبق في أهل السلطان إلا من اقتدى به في الاحتفال بقدوم هؤلاء، واعتماد ما قام به البرهان على المخالصة في الولاء. والمسارعة إلى الضيافة والإهداء، والإعادة إلى المكارمة بعد الإبداء. فصل من كتاب إلى صاحب الموصل في شكره على سيير ولده الحمد لله الذي نصر الدين بأهله، وعجل بأنصاره جمع شمله، ووفق أسد عرين الملك أن يحمي خوزة الإسلام بشبله. وللمجلس في طوله اليد الطولى، والمنة الثانية التي اربت على الأولى. حيث حث همته العلية، وحض لحظ دينه عزمته الماضية المضية، وشرف بولده علاء الدين من تقلد بوروده أوفى منة، وتعجل من وفوده أقوى منة وأوقى جنة. فلقد ورد إلى الساحل بحرا، وطلع في ليل القساطل بدرا، وأسفر لمرتقبي صباح النصر فجرا، وجلا وجوه المؤمنين ببشراه بشرا، وملأ صدر الإسلام أمنا وقلب الكفر ذعرا. ثم وصل (زين الدين يوسف بن زين الدين على كوجك) صاحب اريل، يوم الأربعاء في العشر الأخر من جمادى الأول، ذو السماح المؤمل والمجد المؤثل، لجيش كالسحاب المسبل. فدرت إخلاف النصر بحفول ذلك الجحفل. وورد بكل ورد هنى، وجد سنى. وقدم بكل مقدام، وزأر خيس الجيش بكل ضرغام، وزأر بكل همام بالمنون همام. ووصل بكل واصل لسبب النصر، قاطع دابر الكفر. ووفد بكل وافد باليمن الوافي، والنجح الكافي، والعز الصافي، والعزم الشافي. وطلع بكل طالع بالسنى، جامع للمنى، فارع بالغنى، فارك للخنى، سافك دم الشرك بالظبا والقنا. وكان هذا أول يوم لقائه للسلطان، وأحسن بالإكرام وزاد في الإحسان. وكان يجمع بين الحماسة والسماحة، والبشاشة والرجاحة. والتودد إلى الناس، والتشدد بالبأس. والتواضع مع الكرام، ودنو الود مع علو الهمم. ماله مبذول، ونواله مأمول، وسيفه على الكفر مسلول وأمره بالطاعة في رعيته ومن في جملته مقبول. وهو مرجو مخشى، وكريم مغشى. ومهيب مرجو، ومحسن بسنى الحمد مجلو. وكان معه خلق كثير، في

ذكر وصول الأسطول من مصر

سلك الاتساق ومسلك الاتساع نظيم نثبر. وأنزل بقرب أخيه مظفر الدين في الميسرة، وتمكن الرعب بما تم من الجمع في قلوب الكفرة. ذكر وصول الأسطول من مصر كان السلطان قد أمر بتعمير أسطول آخر من مصر تصل فيه الذخيرة والميرة، والعدد الكثيرة. فلما كان ظهر يوم الخميس ثامن جمادى الاولى؛ ظهر الأسطول، وتم بظهوره النصر المأمول. فركب السلطان في جحافله، وسدد سهام الردى إلى العدو ومقاتله. وأحدق به حول خنادقه، ليوسع عليه الهلاك في مضايقه. وليشغل الفرنج عن قتال الأسطول، ويسهل عليه بتشاغلهم طريق الوصول. فعمر الفرنج أسطولا، وصف شوانيه على البحر عرضا وطولا. وقد إنه يلاقى الأسطول المنصور، ويحظر بسد الطرق عليه وصدها العبور. فجاءت مراكبنا ونطحت مراكبهم وطحنتها، وأوهت منتها وأوهنتها. وأخذنا لهم مركبا، واخذوا لنا مركبا، وكان تقصير الرؤساء في حفظه لأخذه سببا. واتصل الحرب في البر إلى حين غروب الشمس، وعاد المسلمون بحبور القلب وسرور النفس. وقتل من الفرنج عدة وافية، وكلاءة الله لنا ولأصحابنا واقية. ووصفت هذه الحالة في مكاتبة كتبتها لتعرف منها الصورة وتكشف القضية المستورة وهي هذه المكاتبة مبشرة بما سناه الله من النصر الهنى، وهناه من النجح السنى، وأجنى المسلمين من ثمر الظفر الجنى. وذلك بوصول الأسطول الثاني المصري المنصور؛ ظهر يوم الخميس متظاهرا بإمداد الظهور، متوافرا بوفود الوفور، ودخوله سالما غانما إلى ثغر عكاء المحروس المعمور، فأثرى البلد بعد انفاضه، واجتمع إليه مدد القوة بعد انفضاضه. واستجد جدة وافية، وعصمة واقية، وذخيرة كافية. وكان الفرنج عند وصول أسطولنا المنصور قد جهزت مراكبها، وأبرزت مناكبها، وحمت بالرجال والعدد جوانبها، وسنمت غواربها، ورفعت هضابها وهواضبها، وسحبت على ثبج البحر سحائبها، وأدبت إلى عقبان أساطيلنا المحلقة بعقابها ثعابينها وعقاربها، وظنت أنها تستطيل على رواسي أساطيلنا بسواريها، وإنها تواجه عرائسها المجلوة بجور جواريها. فلما جاء الحق زهق الباطل، وصال الواصل، وحاص العدو من الحاصل. وانحل تركيب تلك المراكب، وحطت تلك المناكب بما أحاط بها من النواكب. وخرج الأسطول الأول من الثغر مستبشرا بدخول الثاني، واجتمع شمل الشواني بالشواني. وتفرقت سفن العدو شذر مذر، وعذر حين ذعر فحذر. وكسبت شوانينا ست بطس

فصل آخر

لهم فكسرتها، ووجدت فيها عدة من الرجال المقدمين والنساء فأسرتها، وكانت الفرنج حملت فيها تجائر وذخائر تطلب ربحها فخسرتها. فصل آخر وصل الأسطول ظهر يوم الخميس ظاهرا خميسه، ثائرا بألسد عريسه. في شوان للعدو شوائن، وشلنديات لشله وفله ضوامن. وحراريق لأهل النار بنارها محرقة، وعقبان مراكب في مطار العقاب على المجرمين محلقة. وسواري هواضب كرواسي هضاب، وسحاب بوائق كبوارق سحاب. من كل مركب للنصر مركب، ومفرد من الشدة والبأس مركب. وقطعة لنياط قلب العدو قاطعه، وقلعة لأساس أهل الكفر قالعة. وتلعة في ذروة العزة تليعة، وذروة في مرقى الهدى راقية منيعة. وجاءت في البحر أمواجا في الأمواج، ودخلت إلى الثغر أفواجا بعد الأفواج. وكان العدو قد أبرز أباطيله، وجهز أساطيله. وشب عواديه ودواعيه، وأدب عقاربه وأفاعيه. وأسمى مناكب مراكبه، وجد في امهاء غروبه وتسنيم غواربه. ولما وصل الأسطول طال وصال، ولاح للعدو صده بحيلة من حال فحال، وامتنع مراده واستحال. وأخذ الأسطول من مراكبه الكبار ست قطع قطعت أسبابها، وقصمت من عبدة الصليب أصلا بها، وخيبت حسابها. فصل وصل الأسطول إلى البلد، مستطيلا بالجلاد والجلد. وأثرى به الثغر بعد الانفاض، واجتمع به شمل الرجاء بعد الانفضاض. ودخل إليه ما خرج عن حد الحصر، من ذخيرة وميرة توجب كثرتها قلة المبالاة بالحصر، فإن الرايات المنصورة علت فجلت في الآفاق رياضا، والمراكب الإسلامية انقضت فقضت للمسلمين أغراضا. ووافت ووفت فأعادت جواهرها مراكب العدو إعراضا. وجاءت سواريها كالرواسي، وجواريها محكمة المراسي. ومن شأن شوانيها شن الغارات على الشناة، ومن عادة شلندياتها شل أندية العداة. ومن شيمة حراريقها شيم بوارق لإحراق أهل النار في الماء، ومن عمل مراكبها الحاف مناكب الكفار رداء الأرداء. من كل جبل يمر مر السحاب، وضامر يشد شد العراب، وعقاب محلق على الشرك في مطار العقاب، وغراب ناعب في أعداء الله بين الأحباب، وهضبة موفية على الهضاب، وقطعة وافية من الكافرين بقطع الرقاب. وما أحسنها وقد زفت عرائس، وجليت أوانس، وطلعت بأهل الإيمان بواشر، وعلى أهل الكفر عوابس، وعادت بها رسوم مراكب الفرنج دوارس. وخلا وجه

ذكر قصة ملك الألمان وصحة الخبر المتواتر بوصوله

البحر من سفن الضلال، وتقلص مالها من الظلال. ولما شوهد الأسطول ساطيا؛ وجيد النصر منه عاطيا؛ وأخذ البحر من الأعداء بحقه؛ وأشرق سنى النجح في افقه؛ ركب العسكر المنصور للقتال وأخذ أهبة النزال، وزحف الرجال إلى الرجال، والتقى الأبطال بالأبطال، وشفيت بدم الكفر غلة المناصل والنصال. واحمرت البيض الظامئات ورويت من نجيع الزرق، وبشرت جياع العواسل من اليراع العاسل بعاجل الرزق. وظل أهل الضلال وقد كفهم الكفاح، وفكهم القتل والجراح. وأقوى الأقوى من الثبات، وبطل بطلهم بما لأثخنه من الجراحات، وبات المسلمون واثقين من الله بأن جمع الكفر قريب الشتات، وأدرك المشركين ما فاتهم من الآفات. ذكر قصة ملك الألمان وصحة الخبر المتواتر بوصوله صح الخبر أن ملك الألمان عبر من قسطنطينية الخليج. وخطب في تلك المروج بمروجه الخطب المريج وأنه وصل بجمعه إلى مضايق صعب عليه منها العبور، وعمهم في نهضاتهم العثور. فقيل إنهم أقاموا في قفار ومواضع شهرا، عدموا فيها الطعام ولم يجدوا بها إلا ضرا. وكان التركمان الاوجية على طريقهم يمنعون بغربهم من تشريقهم. فاضطروا إلى المقام بغير زاد، وهم في جهد وضر واجتهاد. فصاروا يذبحون خيلهم ويأكلونها، ويكسرون قنطارباتهم لفقدان الخطب ويشعلونها. فترجلت منهم ألوف، ورغمت أنوف. وكان ذلك في البرد الشديد، وزمان الثلج والجليد. فجمدوا وخمدوا، وتجلدوا وتبلدوا. وعدموا دواب لحمل الأثقال، ونقل عدد الرجال. فدفنوا وأحرقوا منها، وتركوها وسلوا عنها، وكان ذلك من الله لطفا، وأمست قوتهم صعفا. وكانوا في خلق لا يعد، وجمع لا يحد. فما أثر فيهم ذلك النصب، ولا صدهم عن مقصدهم ذلك التعب. وما زالوا يسيرون والاوجية تبدى إليهم للوبال في أوجها أوجها، والإفرنجية لا تنتهي حتى تبلغ إلى ما لها من منتهى. حتى بلغوا إلى بلاد (قليج ارسلان بن مسعود) ومسلكها دونهم غير مصدود ولا مسدود. وقليج ارسلان محكوم عليه من ولده (قطب الدين ملكشاه) وهو يدبر أمره ويتولاه، ويسومه الإكراه. فعارضهم لما قربوا وتعرض لقتالهم، وطاردهم ليضيق عليهم سعة مجالهم. ثم اندفع من بين أيديهم وتعدى عن جانب تعديهم. ودخلوا قونية دار ملك المسعودية. واعتصم قليج ارسلان بقلعتها المحمية، وتراسل هو وملك الألمان واتفقا في الباطن على ما كان بينهما من المواثيق والإيمان. وحمل ملك الألمان له وفرا وافرا، وأشبه المسلم بالكف عن الكافر كافرا. ووافقه على العبور إلى الأقاليم الشامية، والبلاد الإسلامية. وعلى أنه يسير في بلده إلى بلد

ابن لاون، وأعطاه عشرين مقدما من أكابر أمرائه ليكونوا معه حتى يصل إلى المأمن رهائن. وأمر الناس بمبايعتهم على ما يسومونه، وأن يعاوضوهم من الخيل والعدة بما يرومونه. وأقام لهم الأسواق، وعرض عليهم الأمتعة والاعلاق. فساروا في رفه ورفق، وتقو بلا توق. فلما وصل الملعون إلى بلاد الأرمن غدر بالرهائن، وساقهم محمولين مع الظغائن. وتأول عليهم بأن التركمان سرقوا منهم في طريقه، ونكث جميع مواثيقة. ووصل (ليفون بن اسطفانة بن لاون) مقدم الأرمن إلى خدمته، ودخل في طاعته، وكان بمفرده خاليا من عسكره بمجرده. وذلك في طرسوس فتمكثوا بها ليربحوا بها النفوس. وقيل عن لكلب الألمان أن يسبح في النهر، ويميط عه ما عراه من الوضر والضر. وكان شيخا مسنا قد عاد لكبر سنه شنا. وحسب إنه إذا سبح سحب ذيل الاستراحة، فكان موته في تلك الراحة وهلكه في تلك السباحة. فإنه عام في الماء البارد، وتورط منه في أصعب الموارد. وخرج وبقى مريضا إلى أن خرج من ثوب البقاء، وتحول إلى فناء الفناء. وتلقاه مالك بالزبانية، وحملوه إلى نار الله الحامية. وسمعت نصرانيا يقول في معناه: كنت معه لما سلك فهلك، وأعجله مالك النار عما ملك. وذلك أن النهر ما كان فيه إلا عبر واحد، والعسكر فيه متزاحم متوارد. فقال ملك الألمان: هل تعرفون موضعا يمكن فيه العبور، ويؤمن فيه العثور. فقال له واحد: هاهنا مخاضة ضيقة من احترز فيها عن التيامن والتياسر عبر، ولا يعبر فيها إلا واحد بعد واحد إذا تثبت واستظهر. فبدر إلى تلك المخاضة، ذات الجرية الفياضة. ودخل الماء فطغى على ذلك الناري الطاغي، وأعجل ذلك الباغي عن المباغي. ورماه في جريانه إلى شجرة شجت جبينه وجبنت جاشه، وعثرته بحيث لم يؤمل انتعاشه. فتعبوا في إخراجه، وأيسوا من علاجه. ومات عدو الله شر ميته، وبلى شمله بتشتيته، وحبله بتبتيته. وخلفه ولده على خلف من أصحابه وأجناده، لمكان الولد الذي خلفه في بلاده. وقيل إنهم سلقوا ذلك الهالك في قدر حتى تخلص عظمه، وتهلاي لحمه. ثم جمعوا في كيس عظامه، وراموا بذلك إكرامه وإعظامه. ليحملوه إلى كنيستهم بالقدس قمامة، ويدفنوه على ما كان أوصى به ورامه. ولما عرف ابن لاون بهلاكه، وسكون حراكه؛ وما جرى من الاختلال والاختلاف بموته؛ وانه لا تلافى لما فرط من تلفه وفوته؛ فارقهم إلى بعض قلاعه، واتصل الضر بهم لانقطاعه. ووصل كتاب من الكاياغيكوس صاحب قلعة الروم يرغب ويرهب ويبرق ويرعد، ويقول ويعدد، ويدهده ويهدد. ويرى إنه ناصح، وللقصة شارح، وإن الأمر واضح، وإن الخطب فطيع فاضح. وإن هذا الملعون أول ما

خرج من بلده؛ أوصى فيه إلى ولده. ثم جاء إلى بلد الهنكر فدخله غصبا، وأوسعه نهبا. حتى أذعن له وانقاد، وبلغ بطاعته المراد وإنه أخذ من ماله ورجاله ما اختار، وتزود من عنده وامتار. ثم وطئ أرض ملك الروم وداسها، وتوسط ديارها وجاسها، وفتح بلادها، وملك قيادها. وأحج ملك الروم إلى طاعته، والرمه بما دخل في استطاعته. وأخذ منه من الذهب خمسين قنطارا ومن الفضة خمسين، ومن الثياب الطلس المعدنية ما بلغ الألوف وتجاوز عن المئين. وأخذ على سبيل الرهائن أربعين من خلصائه، ومعروفي كبرائه. وأخذ كل سفينة غصبا، وسحب على ذلك البحر في التعدية من مراكبه سحبا. وأنه لما عبر وفرغ من الخروج، تلقاه بالخيل والدواب والأبقار والأغنام (تركمان الاوج). ثم وقع بين التركمان وبينهم، وجالوا حولهم ثلاثة وثلاثين يوما يرومون حينهم. وهم في طريقهم سائرون، وعلى مقاتلتهم صابرون. حتى قربوا من (قونية) فاعترضه قطب الدين ولد قليج ارسلان، والتقى الأقران بالأقران، وهزمه ملك الألمان. ولما أشرف على قونية خرج إليه جموعها، وطالت إليه بالحرب بوعها، ثم اندفعت حيث ضم على الروع روعها، وأنه هجم على قونية عنوة، ونال حظوة. وأقام خمسة أيام حتى استقرت بينه وبين قليج ارسلان قاعدة اكيدة، وحصلت لكل منهما فائدة مهيدة. وأخذ منه رهائن عشرين، من أكابر دولته المتميزين. وقدم كتابه إلى ابن لاون بالجواز في بلاده، فتلقاه بما أعده لإرفاده. ونزل حين وصوله إلى طرسوس على بعض الأنهار. ونام ساعة بعد تناول الطعام، ثم انتبه وتشوق إلى الاستحمام. فحرك عليه الماء البارد مرضا، وتشكى أياما قلائل مضضا، ثم قضى وانقرض أربه وانقضى. وخلفه ولده بعده واستمال جنده. وكان ابن لاون قد سار قاصدا للقاء أبيه، فلما عرف موته وجلوس ولده، اضرب عن تلقيه. وعرض عسكره في اثنين وأربعين ألف مجفجف، من كل سرحان اهرت وذئبا غضف. وأما الرجالة فلكثرتهم تعذر العرض، وغص بهم طول الأرض والعرض. وقد لبسوا الحديد للحداد على البيت المقدس، وهجروا الثياب، ولزموا المصاب، وداوموا الاكتئاب. وهم صابرون على الشقاء والتعب، لأمل الظفر بالطلب. ولما بلغت هذه الاخبار، اضطربت الديار، وارتاعت الانجاد والأغوار. وقالوا: هذا جانب لا يطاق، وأي جانب قصده عنه لا يعاق. ولا شك إنه يتوسط بلاد الشام، ويثلم ثغور الإسلام، ويشغلنا عما نحن فيه من هذا الاهتمام. وعزم السلطان على استقبالهم بالردى والرد، وصدهم عن القصد. ثم ثبت على رأى الثبات، وتنظر الأوقات بما يتجدد من الحادثات. وتقلقلت عزائم الذين بلادهم

عاد حديث ملك الألمان

على طريق القادم، وأنه يعود كل منهم إلى مكانه أخذا بحكم الحازم. فأول من سار (ناصر الدين محمد) ولد الملك المظفر صاحب منبج، ليجمع على طريق العدو ويزعج ويرهج. ثم (عز الدين بن المقدم) الباسل المعلم. ثم (مجد الدين بهرامشاه) صاحب بعلبك، ليجمع ويأخذ على العدو المسلك. ثم (سابق الدين عثمان) صاحب شيرز، الليث الهمام القسور. ثم (الياروقية) أسد الهياج، ونجوم ليل العجاج. ثم رحل (الملك الأفضل) وقد عرض له ألم، ثم (بدر الدين) وإلى دمشق وقد ألم به سقم، ثم سار (الملك الظاهر صاحب حلب) لاضطرابها بغيبته وبهذا الخبر، والخوف الناس فيه أنهم على الخطر. حتى غلت الأسعار واستعرت الغلة، وخلت الأماكن وتمكنت الخلة. ثم رحل (الملك المظفر تقي الدين) لحفظ ثغر اللاذقية وجبلة، ويثبت بقدومه عليها الرعية الخائفة المجفلة، وكان هو آخر من سار ليلة السبت التاسع من جمادى الآخرة. ورتب السلطان منازل العساكر الحاضرة. وخفت الميمنة برحيل معظم من كان فيها مقيما، ولحفظ النوب في اليزك مستديما. فانتقل الملك العادل إليها، وجاء إلى منزلة الملك المظفر ونزل عليها. واستقام الترتيب وترتب المقام، واعتز الصادقون وصدق الاعتزام. ثم مرض أكثر العسكر وخام للوخم، وألم بالبعد للألم. وكان بحمد الله المرض سليم العاقبة قريب العافية، مستعقبا لألطاف الله الواقعية الوافية. ووقع المرض في الفرنج وكان المبيد المبير، والمدنى لأصحاب السعير. وعم فيهم الموت والوبا، وكثر عن نبواتهم النبا. وتقدم السلطان بهدم سور طبرية وهدم يافا وأرسوف وقيسارية وهدم سور صيداء وجبيل ونقل أهلهما إلى بيروت. عاد حديث ملك الألمان وأما ولد ملك الألمان فانتحس، مرض أياما في بلد الرمن واحتبس. وهلك أصحابه جوعا، ومنهم من عزم رجوعا. ووقع الموت في حيلهم، فآذن ذلهم بقلوص ذيلهم. وقدم لمرضه؛ والتياث جوهره بعرضه؛ جموعه قدامه، وساروا أمامه. وخرجوا لكثرتهم في ثلاث نوب، في بيض وسمر وبيض ويلب. ومعظم رجالهم حملة عصا وركاب حمير، غير عارفين بطريق ولا متحفظين في مسير. والناس يلتقطونهم ويتخطفونهم، ويتألفون عن مسالكهم ويتلفونهم. ووصلوا إلى إنطاكية ووصل إليها الملك، بعد أن ضاق به وبجمعه إليها المسلك. وضاق به الابرنس صاحب إنطاكية ذرعا، ولم يجد لهم عنده مطمعا ولا مرعى. وطلب منه القلعة فأخلاها له ونقل إليها ماله وأثقاله. وسأله أن يجعل طريقه على حلب فخاف، وأبدى له الخلاف. وقبل وصوله إلى إنطاكية فلت جموعه وجنوده،

وبليت بحشد التركمان حشوده. واجتازت الفرقة الأولى منهم تحت قلعة بغراس، فلقيت البؤس والبأس. وخرج رجالها عليهم على قلتها، وصدمتهم ببسالتها. وأسرت منهم زائدا على مائتين، وطمعت فيما وراءهم من الفئتين. وقيل: أنهم حسبوا أن بغراس باقية بحالها مع الدلوية، فجاءوا إليها سحرا بأحمالهم وأموالهم السنية. (فلم يشعروا إلا بالبغال على الباب واقفة)، والجنى دان يرقب أن يكون له أيد قاطفة. فخرج إليها وتسلمها بغير طعن ولا ضرب، وتخلى عنها أصحابها لما عرفوا الحال. ولم يعرجوا على حرب. فاستغنى الوالي من ذلك اليوم، من مال القوم. ثم أنكر حتى لا يطالب بشيء منه، وغفلت الأيام عنه. وذكر (الأمير علم الدين سليمان بن جندر) في كتابه؛ إنه انهض جماعة من أصحاب أمراء حلب وأصحابه؛ ليقتفوا آثارهم، ويكشفوا أخبارهم. فوقعوا على خلق عظيم منهم، فخالطوهم ولم يرجعوا عنهم. وانقضوا عليهم انقضاض البزاة على الحجل، وزأروا فيهم زئير الأسد في النقاد وزاروهم بالأجل. وأسر كل واحد من أصحابنا ثلاثة واربعة، وتركوهم متمزقة متمزعة. وعادوا بالأسارى إلى حلب وباعوهم في الأسواق، وامتلأت بالأسلاب منهم والاعلاق. فطابت قلوب الرعايا، وأنست من الله بما ظهر من ألطافه الخفايا. وطمع فيهم أهل القرى، والتقطوهم من الوهاد والذرا. وما صدقوا بالسلامة حتى آواهم الابرنس إلى إنطاكية، وأراح من آلامها الألمانية. وذابوا في هذه الطرقات ذوبا، وصب عليهم العذاب صبا إذا أخذوا صوبا. وهلك بإنطاكية الكند الكبير مقدم العسكر، وتبعه إلى سقر كبير من ذلك المعشر. وحصل الابرنس بتلك الأموال المجتمعة؛ والذخائر المودعة؛ حتى قيل إنه إنما غرب في الوصول إلى بلده؛ ليحصل على سبده ولبده. فأخلى له قلعته، لينقل إليها خزانته. ففعل وما رجع اليها، واحتوت يد الابرنس عليها. ثم ساروا على طريق الساحل، بالفارس والراجل. وخرجت عليهم خيل جبلة واللاذقية، وسقتهم كئوس المنية، وألقتهم على البوس والبلية. فأغذوا في السير حتى وصلوا إلى طرابلس وقد نقص نصفهم، وتم بعواصف البلاد نسفهم، وبلغ أمدهم وانتهى مددهم. وجبن الملك عن المسير على الطريق، لما لقيت جموعه في طرقاتها من التفريق. فركب البحر في عدد يسير لا يزيد على الف، برعب قلب وقصور يد ورغم أنف. واختلط مع الفرنج على عطاء فسقط اسمه، وسخط حكمه. وهلك بعد قليل، ولم يحظ بنقع غليل. وسألم بذكر حالاته في مواضعها، وذكر مصارف جماعته ومصارعها.

وكتبت إلى الديوان العزيز فصلا بخبر ملك الألمان عند إرعاب الإرجاف به قد وصل الخبر بالداهية الدهياء، والغمة الغماء، والنكبة النكباء، والشدة الدهماء، والليلة اليلاء. وهي أن ملك الألمان ومعه ملوك الإفرنجية وحشودها، وقوامصها وكنودها، وأحزاب الشياطين وجنودها، وألوية اللاواء وبنودها. وصل جارا على السماء ذيول قتامه، مجريا في الأرض سيول لهامه. ثاثرا باطلابه لطلاب ثاره، سائرا بخيله ورجله كالسيل إلى قراره. وأنه في عصائب صلبان في عصبيتها متصلبة، واتباع شياطين لإرضائها متغضبة، وأسراب سراجين على سرح الإسلام متوثبة. وأنه في مئين من الآلاف الألاف تلمنون، وأقطاب الإعطاب الدائرة لدوائر سوئها رحى الحرب الزبون. وقد أوقدوا للشر شرارا، وأضرموا للشرك الداعي إلى النار نارا. فإن حسرتهم على (قمامتهم) دائمة، وقيامتهم قائمة. والموت يدعوهم إلى المقبرة التي يدعونها، والآجال تلبيهم لمناياهم التي يدعونها. وكان خبر وصوله متداولا على السنة الأراجيف، وتشيعه أعداء الله من قبل للترهيب والتخويف. واستعدت العساكر الإسلامية للتوجه إلى بلاد الروم في الربيع، ليقع التساعد مع عساكرها على دفع تلك الجموع باتفاق الجميع. وانتظر ورود خبر صحيح، ويقين بأمر صريح. حتى إذا صح الخبر؛ سار العسكر. ثم انقطعت الأخبار، وتمادى الانتظار، ومضت شهور الربيع آذار. ونيسان وأيار. وكانت كتب سلطان الروم قليج ارسلان وأولاده ورسلهم متواصلة بما ينبئ عن التعاضد، ويبنى أمر الوفاء والوفاق منه على التعاون والتعاقد. وهم بإنهاء ما يصح عندهم، ويزعمون أنهم في رد الواردين وأدائهم مساعدون. فأخلف ذلك الوعد، وضيع ذلك العهد. ووصلت كتبهم بغتة في هذا الأوان، بما تأخر به الخبر عن العيان. وقالوا: أنهم قد توسطوا بلاد الإسلام، وإنهم على قصد الشام. ثم ورد الخبر بأنهم صالحوهم وصانعوهم، وأخلوا لهم الطريق ووادعوهم. ووسعوا لهم في المضايق، وسعوا في أمن طرقهم من الطوارق. وهذا حادث كارث، وباعث فاجئ فاجع لأهل الحمية في الدين باعث. وناكب لعقود العقول في تعاظم ضرره؛ وتفاقم خطره ناكث. وقد تعين الجهاد على كل مسلم، وما في الوجود مؤمن يكون له هذا الملم مؤلم. والاهتمام بدفعه من افرض المهام وأهم الفروض، والخادم منفرد في حمل عبء هذا الفادح الباهظ بالنهوض. وهو واثق بأن بركات الدار العزيزة تدركه ولا تتركه، وأن الذي يستبعد من النصر القريب يتسق ويتسع به ومسلكه - إن شاء الله -.

فصل فيه في جواب أمير

فصل فيه في جواب أمير عرفنا خبر العدو المشئوم، الواصل من جانب الروم. وهذه هدية أهداها الله إلينا، وفضيلة خصنا الله بها. حيث أقامنا في مقابلة أعدي أعدائه، وأقدرنا على مقاتلة من نازعه في كبريائه. وقد ساقهم الموت إلى المقبرة التي يدعونها، ولبتهم المنايا التي يدعونها ولا يدعونها. ومعاقلنا بحمد الله قوية، وصوارمنا من دماء أعداء الله روية. فيجب أن يكون في جميع أموره محتاطا، ويظهر بما يغنمه الله من أسلابهم وأشرئهم اغتباطا. فصل من كتاب الاستنفار قد عرف إن العدو الألماني المخذول قد وصل فما لقعوده عن هذا المقام معنى، وما لمن تأخر عن نصرة الإسلام من ثمر السعادة مجتى. وهذا وقت نهوضه بجميع أهل بلاده، وأوان بذل وسعه وجده واجتهاده. فإنه محضر لا يغيب عنه إلا من ليس له عند الله خلاق، وموقف يفي بعهد الله فيه من سبق له معه في السعادة ميثاق. وإنها لغنيمة أوفدها الله علينا، وهدية أهداها الله إلينا، وفضيلة خصنا الله بها، وأسعدنا بسببها. بل بلية جلا وجه النعمة فيها، بل قضية وفى الله في النجح بموعود توافيها. بل ملمة اختارها الله لدفعها، وطاغية استدعى أولياءه بقمعها، ونائرة كلفنا الله بإطفاء جمرها وأرداء جمعها. فلينهض نهوض الكريم إلى مساعدة الكرام، وليخطب اهتمام العظيم بملابسة الخطوب العظام، وليثب وثوب الأسد على الفريسة، ولينتخ للإسلام انتخاء ذوى الأنفس الأبية والهمم العلية النفيسة. وليكن أول سابق في مضمار الجد، وأسعد طالع في أفق الجد، فإن الإسلام في انتظاره، والمطالع مستشرفة إلى إشراق أنواره. ولا زالت الأقدار جارية في إسعاد الدين والدولة بأقداره. فصل من كتاب قد أحاط العلم بما عرا من المللم، وعرض من الخطب المدلهم. ووصل من العدو الثائر، ونزل من النازلة التي هي أم النوازل، والدائرة التي هي أم الدوائر. وقد آن للإسلام أن يسلم، وللأيمان أن يعدم، والتثليث أن يعلن، والتوحيد أن يكتم، وللكفر أن يقدم، وللهدى أن يحجم. فقد قذف البحر من الفرنج بزبده، والبر أتى أتيه من كل بلد للكفر بسبده ولبده، ووصل الألماني - المخذول - بعدده وعدده. وهذا خطب قد دهم، وعدو قد هجم، وشر قد نجم. وجمر داهية قد وقد، وجمع طاغية قد وفد. في جيوش جائشة، وجموع طائشة. وجنود محشورة، وبنود منشورة، وخيول مجفجفة، وسيول

فصل فيه

مجحفة. وهذا أوان تحرك ذوى الحمية، ونهوض أهل الهمم الأبية العلية. فإن القوم في كثرة، ولا يقاتلون إلا بالكثرة. وهم مغترون بعلوهم، معتزون بعتوهم. مستنون في طريق العثرة. والسيل إذا وصل إلى الجبل الراسي وقف، والليل إذا بلغ إلى الصبح المسفر انكشف. والمجلس أولى من تولى تفريج هذه الغمة، وكشف هذه الملمة. حتى تخلف أماني الألماني، وتبطش إيمان الإيماني، وتخذل أنصار النصراني، ونجني وتبز رؤوس الجنوي والبيزاني. فأين المؤدون فرض الجهاد المتعين؛ وأين المهتدون في نهج الرشاد المتبين؛ وأين المسلمون؟ - وحاشا أن يكونوا للإسلام مسلمين! وأين المقدمون في الدين؟ - ومعاذ الله أن لا يكونوا في نصرته على الموت مقدمين! ولولا التقيد بهذا العدو الرابض؛ لأطلقت أعنة النهضة إلى العدو الناهض. ولا بد من لقائه قبل تلفق الجمعين، وإراءة الملاعين وجوه حتوفهم ملء العين. فصل فيه قد سد طريق الفلق فيلقه الطارق، وزحف إلى الحق الثابت باطله الزاهق. وجال بالوجل وجاء بالوجيب، وثار لثار الصليب السليب. وقد جمر جمعه، ورتق فتق الصبح رقع نقعه. وما فض الفضاء ختام قتامه، حتى ختم على ضوء نهار الهدى ليل الضلال بظلامه، والرجاء محقق أن الألماني مخفق بالمامه، والإسلام مشفق من إسلامه، والدين موفق بنصره إمامه، وعصمة الله الواقية الوافية من ورائه وأمامه، والله الكافل بإعلاء أعلامه، وإحكام أحكامه. ذكر الوقعة العادلية كان الفرنج لما صح عندهم وصول ملك الألمان إلى البلاد، وأنه ملأ أحشاء الربا والوهاد بالأحشاد، قالوا إنه إذا جاء لا يبقى لنا حكما، والصواب أن نشيع لنا قبل شيوع اسمه اسما، لا سيما وقد خفت عساكر الإسلام، وقفل أكثرها إلى الشام. فنحن ننتهز الفرصة، ونحرز الحصة، ونهتبل الغرة، ونهجم عليهم هذه الكرة، ونذيقهم المرة المرة. ونفرغ من شغلهم قبل مجيء القادم، ونمت بعز العزائم، ونفل حدودهم بحدود الصوارم. فخرجوا ظهر يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة، في حشر يذكر بحشر الساهرة، واسود بياض النهار من سوادهم، وتراءت الآجام لنا متوافية بآسادهم. وامتدوا إلى الخيم العادلية، واشتدوا بما استصحبوه من البلية. في كل ذئب أمعط، وسيد قد تورط. وسرحان سرح، وأفعوان كلح. وجهنمي تجهم فهجم، وجحيمى أقدم وما أحجم. وسعيري ناري استعار حدمة النار. وسقري قسوري عاد بعادة الاقتسار،

وباروني طالب للبوار، واستباري راغب في التبار. وداوى معضل الداء، وتركبولي غير تارك للبلاء. وسرجندي كرا، وفريري غير فرار، وفارس يفرس الرجال، وراجل يرجل الفرسان الأبطال. وازرق زرقة الموت الأحمر، وأنمشى يمشي واليوم أغبر. وأشقر وهو أشقى، وأبقع إذا غوى في الوغى ما ترك ولا أبقى. ودخلوا الحيم العادلية وتجاوزوها، وقد كانت أخليت قبل أن يجتازوها. ووقف الملك العادل بطلبه، وعن يمينه ويساره أمراء الميمنة الذين بقربه، مثل: صارم الدين قاسماز النجمي وعز الدين جرديك النوري وجماعة من المعروفين بالشهامة، الموصوفين بالصرامة. ولبث الملك العادل لبث المخادع المختال، حتى يطلع من العدو على المقاتل. فقادتهم الأطماع إلى الانتشار، وأفضى بهم الاعتزاز إلى الاغترار. فحينئذ بدأ بالحملة ولده الأكبر - شمس الدين مودود، وهو في كل وقعة يحضرها جاد مجدود، فعضده والده، وولده مساعده. وحمل معه العسكر الحاضر، قبل أن يتصل به العساكر. فكسر الفرنج كسرة فرشتهم على الأرض، وذكرت الواقعة العارضة بوقوعهم في النار يوم العرض. وكانوا قد بعدوا أكثر من فرسخ، وأجفلوا ولم يلتفت أخ إلى أخ. وركبت العادلية أكتافهم، وفلوا فيهم أسيافهم. وعقروهم وعرقوهم، وبجوهم. وحكموا في الرقاب الغلاظ كمهم الرقاق، وضربوا ممن اعنقوا إليهم الأعناق. وأشبعوا اللتوت من لحوم الليوث، وبثوا بعوث المنية في تلك البعوث، حتى رتعت في كلأ الكلى صوار الصوارم، وارعد وابرق بصواعق بوائقهم غمام الغماغم. وتعلقت بذوائبهم ذوائب الذوابل، ووصلت بهم إلى النجاح منى المناصل. فلم تترك اللهاذم لها ذماء، وغادرنا شلها بالعراء أشلاء. ورأيناها كأنها أعجاز نخل خاوية، وما أحسن أجسام أهل الهاوية وهي هاوية. فكم جثة بلا رأس، وبنية بلا أساس. ونحر قد نحر، ودم قد أنهر. ويد قد بتت، وكبد قد فتت. وعنق قد قطع، وأنف قد جدع. وودج وجد مفريا، وظهرقد ظهر مبريا. وحلقوم قد حلق، وغلصوم قد فرق. وداوى قد دوى، وبالدم روى. وصليبي كسر صلبه وقلب على صدره قلبه، وحربي أتاه الحرب، وغرب في نبع عينه النبع والغرب. وكان السلطان قد ركب، وخشي أن جانب الميمنة نكب، وسير جماعة من كماة المماليك والأمراء على مقدمته، وانظر الميسرة لتنهض في خدمته. فوصل إلى الوقعة سنقر الحلبي في العصبة العزيزية، وفاز من الغزوة بالحظوة السنية. وجاء علاء الدين ابن صاحب الموصل في أثناء المعركة فعرف بركة سرعة تلك الحركة، لأنه أخذ حظا وافرا، ولقي من النصرة وجها سافرا. وانقضى الحرب ولم يركب بعد من رجال الميسرة أحد، ولم تمتد منها إلى قتال الكفرة يد. ووصل السلطان وشاهد من مساءة

الفرنج ما سره، وعرف لطف الله وبره ونصره. وعاين هنالك مصارع الأعداء، ومشارع البلاء. وكانوا مفروشين في مدى فرسخ على الأرض، وهم في تسعة صفوف من تلال الرمل إلى البحر بالعرض. وكل صف يزيد على ألف قتيل، وشاع القتل من الفرنج في كل قبيل. ولما وصل السلطان رأى عماد الدين وابن زين الدين وأمراء الميسرة قد عزموا على الدخول اليهم والهجوم عليهم. فإنهم ندموا على ترك الإسراع، فراموا أتباعهم ليأخذوا بنصيب الفتك بهم والإيقاع. فصدهم السلطان وردهم، وشكر عزمهم وقصدهم. وأشفق من مضرة تشوب، ومعرة تنوب. فإن الدائرة كانت على العدو، وقد فاز بالنصر الحلو والصفو المرجو. وكانت النوبة لا نائبة، والغزوة بلا شائبة. وقتل منهم زهاء عشرة آلاف ولم يبلغ من استشهد من أتباع العسكر عشرة، فاغتنمها تجارة رابحة وغنيمة ميسرة ولما عرفت بالواقعة؛ والنصرة الجامعة، صدرت ثلاثين أربعين كتابا بالبشارات، بأبلغ المعاني وأبرع العبارات. وقلت إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة، ولأرى البشائر شائرة. وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد، لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد. فما أعجل ما سلبوا وعروا، وفروا وفروا. وقد بقرت بطونهم، وفقئت عيونهم. ورأينا امرأة مقتولة لكونها مقاتلة، وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة. وما زلنا نطوف عليهم ونعبر، ونفكر فيهم ونعتبر؛ حتى ارتدى العشاء بالظلام، فعندنا إلى الخيام. وأخذت الكتب التي نمقتها، وبالبشائر التي حققتها. وجئت وإذا السلطان قد استبطاني، وعدم إجابتي لما دعاني. فما صبر ولا انتظر، ولا ترقبني أن أحضر. ولا أمهل أن أعطي البشارة حقها، وأجلوا بأنوار المعاني أفقها، وأبلغ بالبلاغة مداها، وأسبغ بتقليص الضلالة ثوب هداها. وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف، وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف. فأبصرت عنده مشرفي المطابخ والأبيات، ومدوني الجرائد بالإثبات. وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة، بعبارات سخيفة. وقد عطلت الحسناء من حليتها، وعروها من بزتها، وشوهوا جمالها، وأحالوا حالها. فذهب بها المبشرون، وسار القاصدون. فما كان لتلك الوقعة عند من وقف عليها وقع، ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع. وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها، ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها. وفي تلك الحالة التفت السلطان إلى وقال: أكتب بهذه البشارة إلى بغداد، وعجل بها الإنفاذ. فقلت على سبيل العتب: أنتم ما تريدون ما اكتبه، ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه.

فصل في ذكر حالهم

فقال: كأنك كتب البشائر فهاتها، حتى تهدى إلى طرقاتها. فقلت: ما فات فات، وهيهات هيهات وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها، بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها. فسارت فسرت البعيد والقريب، وخصت جدها بالخصب الجديب. وصدحت بأسجاعها المنابر وصحت بسماعها المفاخر. وظهرت بعباراتها العبر، وبهرت بزبرها الزبر. وعمرت بمعانيها المغاني، وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني. فما أصحها كسرة، وما أسحتها نصرة، وما أبينها محجة، وما أثبتها حجة، وما أفرجها مسرة، وما أسرها فرجة، وما أبرحها بالكفر صرعة، وما أوضحها للإسلام شرعة. فصل في ذكر حالهم لما عرف الفرنج انفصال جماعة من الأكابر؛ ومفارقة عدة كثيرة من العساكر؛ خرجوا متجاسرين وامتدوا متقاطرين، وانتشروا متغاورين، وأغاروا للواء اللاواء ناشرين. ووصلوا في الميمنة إلى الخيم العادلية فأخليت حتى دخلوها، وتفرقوا فيها بجموعهم وتخللوها. فركبنا اليهم، وحملنا عليهم. وتركناهم صرعى بالعراء، فوضى بالفضاء، فما بكت عليهم الأرض ولا السماء. ورويت السيوف من دمائهم، قبل أن تشبع الوحوش من أشلائهم، وظهرت لنا نعمة الله في بلائهم، وجبى الإسلام بهلاكهم، وضمتهم إشراك الردى برداء إشراكهم. وانجلت المعركة عن أكثر من عشرة آلاف قتيل كافر، وثبت حكم إدالة الإسلام وظهوره بأوضح دليل ظاهر. ولو اتفق خروجهم من مراكزهم بأسرهم، لكنا فرغنا من شغلهم وأخلينا بالنا بتأييد الله من أمرهم. والآن قمع انطفاء جمرتهم؛ وصحة أمزجة العزائم بكسرتهم؛ وتطرق القلة إلى كثرتهم؛ نرجو من الله أن يسهل أمرهم العسير، ويهون خطبهم الخطير. وأن ظهورنا عليهم قطع ظهورهم، وعثور هذه الوقعة بهم حقق عثورهم، والله تعالى يحقق تبارهم ودحورهم. فصل فيه وصلوا إلى الخيم العادلية في الميمنة الميمونة، واشتغلوا باستباحة أحوالها المصونة. فأطلقنا عليهم الأعنة، وشرعنا إلى نحورهم الاسنة، وبعنا النفوس لنتسلم ثمنها الجنة. وفرشناهم على الأرض، وأدينا بإرادائهم بإرائهم بعض الفرض. وانجلت المعركة عن عشرة آلاف قتيل مشرك، وشملتهم المنون فكأنهم جاءوا على موعد مهلك. واروينا من دمائهم ظمأ السيوف، وجعلنا أشلاءهم قرى الوحوش لا الضيوف. وأمن

فصل

الإسلام بحمد الله من المخوف. وأدرك الله بأخذ أرواحهم رمق الدين الملهوف. وهذا دليل ظاهر على ركود ريحهم، وخمود مصابيحهم. فصل حملت عساكرنا عليهم، وأحاطت بهم من حواليهم. ورضتهم بالدبابيس واللتوت، وتركتهم صرعى بتلك المروت. وساحت بتلك الساحة دأماء الدماء؛ واكتسى عرى العراء بتلك الأشلاء، وأفضى بذلك الفضاء جمرهم إلى الانطفاء، وأمرهم إلى الانقضاء. ورتعت ثعالب الرماح من كلأ كلاهم في المرعى. وانجلت المعركة عن مهلكة عشرة آلاف (فترى القوم فيها صرعى). وطابت من نتن جيفهم ريح النصر، وحسنت من سماجة مرآهم وجوه الدهر. والآن ألان الله شدة شكتهم، وقط شوك شوكتهم، وهبت نكباء نكبتهم. ونرجو أن يسهل من أمرهم ما تصعب، ويؤلف بصدعهم من الإسلام ما تشعب. فصل وصلوا إلى الخيم العادلية فدخلوها، وتفرقوا فيها بجمعهم وتخللوها. وكان ذلك قبل تكامل ركوب العساكر، وتموج بحارها الزواخر. فحمل الملك العادل ومن هو قريب من الأمراء والمماليك؛ كولدنا الحسام ابن لاجين وصارم الدين قايماز النجمي وبشارة وجرديك. وعطفوا عليهم عطفة صدتهم عن الانعطاف، وصرفتهم عن الانصراف، وثارت آثارهم بواتر البواتر، واحتوت عليهم الضوامر احتواء الضمائر على الأسرار بالحوافر الحوافر. وفضتهم بالفضاء، وعرتهم من كسوة الحياة بالعراء. وتمت نعمة الإسلام ببلائهم، وشفى الدين بدائهم، وكان بقاؤه في فنائهم، ولو لحقت الميسرة لتكمل قطع دابرهم، وأتى القتل على أولهم وآخرهم. وانجلت المعركة من الكفار عن عشرة آلاف قتيل، ملأت كل واد وسدت كل سبيل. وقد ذلت عوتهم، وضعفت قوتهم، وعجزت قدرتهم ولما انقضت هذه الوقعة؛ وتم لناهضين إلينا الرجعة؛ رأيت أحد مماليكي ونصله قد خضب، وعزمه قد رضى بعد ما غضب. فسألته كم قتل؛ وإلى أين وصل؛ فقال: أما أنا فما أبقيت، وخضت البحر وما توقيت. وهذا غلامي قتل تسعة، وشام من عارض نجيعهم نجعة. وكان الذين حملوا، وهزموا وقتلوا وقتلوا أقل من ألف. فقتلوا أضعافا مضاعفة، وعدموا ممن وراءهم مساعدة ومساعفة. وحكى من نوادر هذه الوقعة أن فرنجيا عقر فجثا للصرعة، فعثر به راكب برذون

ذكر ما تجدد للفرنج من الانتعاش بوصول الكندهري بالمال والرياش وما اعتمده السلطان من الاحتياط إشفاقا من التفريط والإفراط

بغير رفيق ولا عون. فعرقب الفرنجي فرسه بسيف في يده، فنزل بجده مستنا في جدده. وقتل ذلك الفرنجي وروى من دمه الهندي، وحل من وسطه ثمانين دينارا. فانقلب ربحا ما عده خسارا. وامتلأت الأيدي بالأسلاب والاكساب، وحصل من العدد ما لم يكن في الحساب. وبيعت الزرديات - ذوات الأثمان - بالرخص، وزادت أرباح أهل السوق بذلك النقص. وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من جمادى الآخرة؛ ورد في عصره نجاب من حلب بعد خمسة ايام، بكتاب يتضمن نجح كل مرام. ويخبر بأن عسكرا مجرا من الكفار؛ خرج للغارة على الأطراف والأقطار فخرج إليه العسكر وأخذ عليه الطريق، وطلب ذلك الجمع في الهزيمة المضيق. فلم يصح لهم رشد في منهاج، ولم ينج منهم ناج. فعضد ذلك الخبر هذا العيان، وقاموا بهوان الكفرة البرهان. وسر الخواص والعوام وخص وعم السرور، وأنارت المطالع وطلع النور. وشرح الفرنج في الخداع؛ والمراسلة في أمر للجانبين عام الانتفاع. وسألوا في الصلح، والخروج من ليل الحرب في السلم إلى الصبح. وأذن لهم السلطان في الخروج، للنظر إلى أولئك الصرعى بتلك المروج. وهي قد تورمت وأنتنت وجافت، وحميت الشمس على جيفها وحافت، وضافتها القشاعم والخوامع وعليها أطافت. فساءهم ما سرنا، ونفرهم ما أقرنا. ذكر ما تجدد للفرنج من الانتعاش بوصول الكندهري بالمال والرياش وما اعتمده السلطان من الاحتياط إشفاقا من التفريط والإفراط وما زال الفرنج في وهن وضعف؛ وتوزع بينهم وخلف، حنى وصل في البحر يقال له هرى؛ وهو عندهم عظيم القدر. فكمل بمن وصل معه نقصهم، وأحيا بعد موت نفوسهم حرصهم. وأفاض عليهم الأموال، وحلى منهم بعد عطلها الأحوال. ورصع بالرجال مراكز من صرع، وقرع السن ندامة على من قلع وقرع، وانفسخ عزمنا عما كان فيه شرع. فقد كان العزم بل الحزم أن نبادرهم على ضعفهم، قبل أن يمدهم البحر يضعفهم. فكان من تقدير الله تأخير ما وجب تقديمه، والتواني فيما تعين تتميمه. ولما وصل هذا الكند وتمكن، وقوى أهل بكل ما أمكن، اظهر إنه يكبس عسكرنا ليلا على غرة، وبدت منه إمارات كل شره وشرة. وشاع هذا الخبر على السنة الجواسيس والمستأمنين، فأحضر السلطان أمراءه وخواصه المؤمنين الميامين. واستشارهم فيما يقدمه من الصواب، ويفتحه في المصالح الراجحة من الأبواب. فأشاروا بايساع الحلقة، وإدارتها كالمنطقة. والتنفيس عن العدو بالتأخر عن قربه، حتى يأنس إلى

ذكر حريق المنجنيقات

الخروج لحربه، فوافقهم السلطان على هذا الرأي وحسن في قلبه، فرحل يوم الاربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة إلى منزله الأول بالخروبة، واشتغل بالتدبير في الفوز بالنصرة المطلوبة. ونزل العسكر على تلك الهضاب وحوالي سفوحها. واحتوت كل جثة خيمة ممن جل فيها على روحها. ورتب اليزك في المنزلة الأولى كل ألف فارس بالنوبة في يومين، وضويق بأهل الصدق منهم أهل المين. وتدبر الترتيب وترتب التدبير، وعرف في اليزك أوقات نوبته وأوبته الصغير والكبير. وأما عكاء فالكتب مترددة إليها ومنها مع السباح، والحمام إليها ومنها تحم البطاقات على الجناح. والمراكب تدخل إليها وتخرج، واليها وعنها تعوج وتعرج. وأخبار ملك الألمان متواصلة؛ بأن أنصاره له خاذلة؛ وأنه ضعف ووهى، وأنه إلى إنطاكية انتهى. وأنه تعوق هناك، ونوقع من مرامه الإدراك. وتوقف عن المسير، واعتاض التعسير من النسبير. ووقع الفناء في جمعه، وتعجل قمعه قبل أن يصل إلى محل قمعه. وانه قد اشتغل بالإنفاق في رجال الاستجناد والاستجناد، والاحتشاء والاحتشاء. وأن أصحابنا يأسرونهم ويتلفونهم، ويتلقطونهم من الطرقات ويتخطفونهم. ووصل من ملك قسطنطينية كتاب يتضمن استعطافا واستسعافت، ويجمع قطافا ونطاقا وألطافا. ويذكر تمكينه من إقامة الجمعة في جامع المسلمين بقسطنطينية والخطبة، وأنه مستمر على المودة راغب في المحبة. ويعتذر عن عبور الالماني، وانه قد فجع في طريقه بالأماني. وأنه لاقى من الشدة، ونقص العدة؛ ووصل المشقة؛ وقطع الشقة؛ ما أضعفه وتوهده، وألهبه وألهاه. وأنه لا يصل إلى بلادكم فينتفع بنفسه أو ينفع، ويكون مصرعه هناك ولا يرجع. ويمت بما به كاده، وانه بلغ في أذاه اجتهاده. ويطلب سولانا، يدرك به من السلطان سولا. فأجيب في ذلك إلى مراده، ووقع الاعتداد بما ذكره من اعتداده. ذكر حريق المنجنيقات وفي رجب من السنة أنفق الكندهري بعد وصوله؛ ما وصل معه من المال في الرجال، فأعطى عشرة آلاف راجل في يوم واحد ليجدوا معه في القتال. وضايق مدينة عكاء أشد مضايقة، وأخذ القومص والكنود بذلك موافقة. ونصب عليها كل منجنيق، ومن الرمي غير مفيق. رجومه للشهب بالشياطين، ونجوم الحجارة تنقص من أرض الكفر إلى سماء الدين. فهي مجانيق مجانيق، وميادين ثعابين، ومسارح سراحين. فاشتد على أصحابنا بالبلد وقعها، واحتد على صقعهم صقعها. وقالوا:

ذكر وصول بطسة بيروت في العشر الأخر من رجب

كيف نجد من مناصبها المناص، وهل نلقى من شؤم خصائلها الخلاص؟. فأجمعوا على الإقدام وأقدموا على الاجتماع، وأخذوا بالارتياء في ترك الارتياع. وخرجوا بالفارس والراجل، وأموا بالحق أمة الباطل. وجاوزوا تلك المجانيق المنصوبة والستائر المضروبة إلى خيامهم، وخلفوها من ورائهم واللقاء من قدامهم. فلما خلت المنجنيقات ممن يحميها، خرج الزراقون من البلد ورموا النار فيها، فاحترق جميعها، وغرق في بحر النار صريعها. وقتل في ذلك اليوم من الفرنج سبعون فارسا في اللقاء، وقطع الواصلون إليهم عليهم طريق البقاء. وأسر منهم خلق كثير، من جملتهم أربعة من المعروفين، فبهم فارس كبير. فما أمهلوه حين أخذوه، حتى قتلوه ونبذوه. فطلبه منهم الفرنج بالأموال، ولم يعرفوا بالحال. فأخرجوه إليهم فتيلا، فأكثر الفرنج عليه بعد التعويل عويلا. فباتوا يندبونه نوحا، ويذيعون سر تقدمه فيهم بوحا. فخمدوا بعد ذلك الضرام، وكدوا بعد هبوب ريح المرام. وضربت عليهم الذلة، وشجتهم عقودهم المنحلة، وعقولهم المعتلة. وطمع فيهم الناس، وعرا طمعهم اليأس. وصارت الخنادق تهجم؛ والستائر نهتك وتضرن؛ والحدود بالمصال تثلم؛ والخدود بالنصال تلثم؛ إلى ليلة شعبان من السنة، فآبت بالحالة الحسنة. فإن أصحابنا خرجوا على غرة، ومضوا إلى القوم بإنكاء مضرة. واحرقوا منجنيقين كبيرين قد نصبا بعد كل استظهار، وانفق على أحدهما كندهري ألفا وخمسمائة دينار. وكانت الليلة الأولى من شعبان مباركة، ونعم الله لنا نقم الله على العدو فيها متداركه. ذكر وصول بطسة بيروت في العشر الأخر من رجب قد تواردت الشكوى من البلد أن الذخيرة قد فنيت، وأن الأفكار باستدعائها عنيت، وأن الأجسام لفقدان قرتها ضنيت. وأبطأ على السلطان وصول البطس المستدعاة من مصر بالغلات، فرأى أن ذلك من تقصير الولاة. وأفكر فيما يعجل به قوة وقوتا، ويجعل له أجلا موقوتا. فكتب إلي وإلى بيروت - عز الدين أسامة - أن يهجر في كل ما به عز الدين السآمة. ويعطى ويتزكى، ويحتال في إنقاذ ميرة إلى عكا. فعمر بطسه كبيرة واعدها، وأجد من عزيمته الماضية فيها جدها. وتولاها بخلق سمح، وملأها بأربعمائة غرارة قمح. ونقل إليها أنواع الطعام، وأصناف الادام، وقطيعا من الأغنام. وهذه بطسة من الفرنج مأخوذة، وهي بساحل بيروت منبوذة. فأمر السلطان بترميمها وتتميمها، وإخفاء البغية منها وتكتيمها. وأزيحت منها العلة، ونقلت إليها الغلة. ملئت بالشحوم واللحوم، وبكل ما تدعو إليه الحاجة من المشروب والمطعوم. وحمل فيها من أحمال النشاب والنفط ما جمع به فيها بين القوة والقوت، ورتبت

ذكر وصول بطس الغلة من مصر إلى عكاء ظهر يوم الاثنين رابع عشر شعبان

فيها رجال مسلمون ونصارى من أهل بيروت. وأرادوا أن تشتبه ببطس العدو في البحر، وألا ينكشف للفرنج ما لها من الستر، فتصوروا رهبانا، وصوروا صلبانا. ومسحوا لحاهم، ومسخوا حلاهم. وتملطوا وتكوفوا، وتشبهوا بهم في كل بزة لئلا يتخوفوا. وشدوا زنانير، واستصحبوا خنازير. وساروا بها في البحر بمراكب الفرنج مختلطين، وإلى محاجثتهم ومجاذبتهم منبسطين. والقوم لجهلهم، لا يشكون أنهم من أهلهم. ونسوا الحادث وأنسوا بالحديث، وتصور الطيب بصورة الخبيث. فلما حاذوا بعل عكاء صوبوها نحوها، والريح تسوقها. والفرنج تدعوهم من مراكبها وتقول ما هذه طريقها، وهي كالسهم النافذ قد سدد فوقها، وقد عقت رفقتها؛ وهي تكاد تعوقها. فدخلت الثغر، وأدخلت إليه كل خير، وعجب الناس منها ومما تم لها من حيلة في سير. واجتزأ البلد بها شهرا، ووجد منها لكل كسر جبرا. فيا لها من لطيفة قضينا منها الأرب، ولم نقض منها العجب. ذكر وصول بطس الغلة من مصر إلى عكاء ظهر يوم الاثنين رابع عشر شعبان كان السلطان قد كتب إلى النواب بالإسكندرية على وجه الاستظهار، بأن يشرعوا في تجهيز البطس الكبار. ويملئوها بالغلات وأصناف الأقوات، ويعمروها بالكماة الحماة الرماة. ويرسلوها عند موافقة الريح إلى الثغر، فإن خلصت إليه ولو واحدة منها أغنته بعد الفقر. وتمادت الأيام على هذا الأمر، واستبعد وصولها مع امتلاء البحر بمراكب الكفر. وكاد اليأس يغلب، والرجاء يضطرب. ووردت كتب أصحابنا بعكاء إنه لا يبقى لنا ليلة نصف شعبان قوت، ولاشك أن كتاب أجلنا إلى هذا الأمد موقوت. فأشفقت النفوس، واستشعر البوس. وألمت القلوب، وألمت الكروب. ولجأنا إلى الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ولا يخيب من رجاه، ولا يضيع من استرعاه. فلما كان ظهر يوم الاثنين رابع عشر شعبان، ظهرت من أقصى اللجة ثلاث بطس كأنهن الاعلام، واستبشر بظهورها الإسلام، وقد زفت عرائس جواريها الحسان، وخفت رواسي سواريها الثقال، وذكرت بقوله تعالى (وهي تجري بهم في موج كالجبال). والريح تطردها طرد النعام، والماء يرسلها على رغم أهل النار الذين هم أضل من الأنعام. فما تراءت حتى استقبلتها مراكب الفرنج وشوانيها، وأحاطت بها تقاتلها من أقاصيها وأدانيها. وهي تشق عليها وتشقها، وتعوقها عنها وتعثها، حتى برت منها لبر الإيمان. وهزأت بتلك الأكمات المطيفة بها جبالها الرعان. وعبرت

فصل من كتاب إلى سيف الإسلام في هذا المعنى

والكفر خزيان ينظر، ونهضت بالعز والعدو في ذيل الذل يعثر. ووصلت الثلاث وهي سالمة، والمثلثة راغمة، والموحدة غانمة. وقد فرج الله بها غمة الثغر، ودفع ما ألم به من الضر. وحمدنا الله على الموهبة التي أدركت الارماق، وأدرت الأرزاق. وتلافت الأرواح من التلف، وحملت على النفوس المشفية مشاق الكلف. فصل من كتاب إلى سيف الإسلام في هذا المعنى كان كتب إلينا أصحابنا بعكاء أننا حسبنا؛ والى ليلة نصف شعبان لا يبقى لنا شيء نقتاته؛ وبقاؤها ببقاء القوت وفواتنا فواته. فبينا نحن في هذا المهم مفكرون؛ ومن هذا الهم متنكرون، إذا ظهرت للعيون بالقرة، وللقلوب بالقرار والمسرة، ثلاث بطس على ثبج البحر مستقرة. يبعثها لطف الله بعثا، وتحثها الريح القوية حثا. كأنها جبال بإقبالها تروع، وتسور أجنحتها القلوع. وشعر الفرنج بها فضاقت مذاهبها، وبرزت مراكبها، ودبت عقاريها. وقربت من البطس شوانيها، وقويت في البطش أمانيها. وحمى ما فيها من فيها من الرجال، (وهي تجري بهم في موج كالجبال). وكأن جواريها عرائس يزففن بما لهن من الجهاز، وكأن البحر المتموج ثوب بتلك الأعلام المنشئات معلم الطراز، بل كأنها تجار تحمل الصدقات إلى ذوي الاعواز. فجاءت فجأة متسقة موسقة، وأتى الآتي بها موافقة موفقة. فلم يقدر على مقاربتها ومقارنتها شبني شانئ، وكانت كلاءة الله وعصمته لها خيرا من كل كالئ. وجازت والكفر خزيان ينظر، وفازت بالعز والعدو بذيل الذل يعثر. وكان وصولها أوان انفضاض الازواد وإنفادها، فملأت المدينة بغلاتها وأزوادها، وعصمت أرماقها، ودسمت أمراقها، وقسمت أرزاقها، واشبعت جوعها، وشعبت صدوعها، وأنالت آرابها، وأزالت أجدابها، وخصتها بخصبها، وصحت لها بسحبها. فأفاقت من الفاقة وأفرقت من الفرق، وسكنت بعد القلق، وعاد إليها بعد الغسق أسفار الفلق. والحمد الله المغنى بعد الإعدام، المدني السني بعد الاطلام، المفنى بأوليائه أعداء السلام. ذكر عيسى العوام وما تم عليه في العشر الآخر من رجب وكان رجل يعرف بعيسى العوام؛ قد تردد بالكتب والنفقات؛ إلى عكاء ومنها في ذلك العام. وكان ناصحا أمينا، بحفظ الأسرار ضمينا، يسبح ليلا في البحر، ويعبر على مراكب أهل الكفر، ويصل بما معه إلى الثغر. ولكم خاطر بنفسه فسلم، واعتورته أسباب المتالف والآلام فما ألم. واتفق إنه عام ذات ليلة غير مكترث بما في طريقه من أخطار، وعلى وسطه ثلاثة أكياس فيها ألفا دينار. ومعه من نفقات الأجناد ودائع،

ذكر وصول ولد ملك الألمان الذي قام مقام أبيه إلى الفرنج بعكاء

ومحقرات بضائع. فعدم ولم يتسمع له خبر، ولم يظهر له أثر. فظنت به الظنون، وما تيقنت المنون. وكانت له ولا شك عند الله منزلة، فلم يرد أن تبقى حاله وهي مجملة محتملة. فوجد في مينا عكاء ميتا قد رماه البحر إلى ساحلها، وأذهب حق اليقين من الظنون بباطلها. وبرأه الله مما قالوا. وأحال الذي عليه أحالوا. فقد وجدت على وسطه تلك الأكياس، وتعجب من حاله الناس. فلم يذهب بذهابه الذهب الذي صحبه، وطهره الله من الرجس وعنه أذهبه. ذكر وصول ولد ملك الألمان الذي قام مقام أبيه إلى الفرنج بعكاء ذكرنا حديث الألماني وملم حادثه، وما أداه إليه من دواعي كفره وبواعثه، وكان مسيره من إنطاكية يوم الأربعاء خامس عشري رجب، ولقي في طريقه على اللاذقية الشجى والشجن والشجب. وأذن ضعف خيلهم، بضعف ويلهم. ووجدت لهم ما بين اللاذقية وجبلة ستون سبعون فرسا قد عطبت، وعلى أعواد عظامها سود الغرابيب خطبت. وقد استقبله المركيس، وقصده التأنيس. وأن يهديه بضلاله إلى الطريق التي تؤمن طوارقها، ويتسع عليه فيها مجال الأمن وإن سلكت مضايقها. فوصل به إلى طرابلس في الشعر الأول من شعبان، ووصل خبر وصولهم في سادسه إلى السلطان. وحزرهم من شاهدهم في الطريق بخمسة عشر الفا، وسمعنا في حزرهم بالقليل والكثير خلفا. ثم انتقل في البحر، إلى عكاء في موضع الحصر. ووصل آخر النهار سادس شهر رمضان، بعد أن عاين في البحر من اختلاف الهواء الهوان. فلم يبق له وقع، ولم يحصل لخرق القوم به رقع. وأقام بين جنودهم، كأحد كنودهم. وقال الفرنج: ليته لم يصل إلينا، ولم يقدم علينا. فإنه لو أقام في موضعه، وامجنا بفيضه من منبعه، لهيبت عظمته، وعظمت هيبته. وأرعب روعه، وراع رعبه، ورجى منا وخشي من المسلمين قربه. وقد قطع بنا منذ وصل، وحص لنا جناح نحاج حصل. ووصل في البحر وحده، ولم يستصحب جنده. ثم وصل إليه الأصحاب، (وتقطعت بهم الأسباب). ثم رام أن يظهر لمجيئه وقعا، ويبدى له نفعا، ويثير بنقع غلة ناره نقعا. فقال: إلام القعود عن القوم، وما بقي إلا النهوض إليهم من اليوم، وإني على الخروج إليهم لأدفعهم. فقالوا له: أنت ما أرثت وهج قتالهم، ولا أثرت نهج نصالهم، ولا حربت بحربهم، ولا كربت بكربهم، ولو حزبت بحزبهم، لأصحب جماحك صحبهم. فأبى ونبا، وشب الشبا. فلما عرفوا جهله، وإن صعب الأمر عنده ساوى سهله، قالوا له: نبتدئ بالخروج إلى اليزك، فلعلنا نوقعهم عند الإحاطة بهم في الشرك. فدبوا في راجل كرجل الدبى، وخيل أغصت الوهاد والربا. ومرجوا في المرج، وطووا تلك المدارج على

ذكر برج الذبان

الدرج، وأشعلوا الخرصان في ليل النقع عوض السرج. وقربوا من تل العياضية، وعليه خيم اليزكية، والنوبة فيها للحلقة المنصورة الناصرية، والعصبة الموصلية. فلما بصرت بهم ثارت إليهم، ودارت عليهم. وأنهضت بنات الحنايا من خدودهم إلى الخدور، وأوردت ظماء منهم ماء التامور. وأنبعت بالنبع من عيونهم العيون. واستخرجت بالضرب من أعناقهم الديون. وطيرت بإطارة السهام إلى الإحداق بهم الإحداق، وخاطت الآماق وما أخطأت الارماق. وصار كل سهم شهم، وخطر في محل خاطر أسرع من وهم. وركب السلطان من خيمته وتقدم إلى تل كيسان، ووقف ينهض بعد الفرسان الفرسان، فلم تزل وجوه البيض تحمر، وثنايا السمر تفتر، وذيول النقع تنجر، وصفحات الجو تغبر، وأرجاء رجاء النصر تخضر، إلى أن جن الظلام، وكف الكفر وسلم الإسلام. وكانت الدائرة على الكفرة، فاعرضت بالوجوه المتنكرة، وابنا بالأنوار المسفرة. ومر الألماني متألما، ومن ظلمة حاله متظلما، وبكلوم قلبه متقلبا متكلما. وقد عاين ما عاناه من العناء، وشق عليه ما شق مرائره من الشقاء، وبلى مما بلى به من البلاء. وعلم ما جهله، واستصعب ما استسهله وذاق ما ضاق به ذرعه، وكاد يتم في القتلى رصعه لو تم صرعه، لكنه تجزع من الغصص ما سهل عليه الموت جرعه. وتاب وما ثاب، وأبى الرجوع إلى اللقاء لما آب. وحينئذ جدوا في قتال البلد وحصاره، واتباع ليل الجد فيه بنهاره. ذكر برج الذبان وعند ميناء عكاء في البحر برج يعرف ببرج الذبان، وهو في حراسة المينا عظيم الشان. وهو منفرد عن البلد، محمي بالرجال والعدد. وقصد الفرنج حصاره قبل مجيء ملك الالمان، في الثاني والعشرين من شعبان. ببطس كبار جهزوها، ومراكب عظام وآلات أبرزوها. ومكر مكروه، ودبر دبروه. وبغى غي بلغوا غاياته، وريب رأى رفعوا راياته. وشر شرك ألهبوا شراره، وأيد كيد أرهفوا غراره. وعنان عناد أطلقوه، ولسان ضرام أذاقوه. ويد بطش بسطوها، وعقلة معالقة أنشطوها. وأحد تلك المراكب قد ركب برج على رأس صاريه، لا يطاوله طود ولا يباريه. وقد حشي حشاه بالنفط والحطب، وضيق عطنه لسعة العطب. حتى إذا قرب من برج الذبان والتصق بشرافاته، أعدى إليه بآفاته. ورميت فيه نار فاحترق، واحترق من الستائر والأخشاب ما به التصق، واستولت النار على مواقف المقاتلة فتباعدوا عنها، ولم يقربوا منها. فسهل عليهم فيه التسلق، ولم يصعب به التعلق. وملئوا بطسة أخرى بأحطاب، يسري فيها

فصل مشبع في المعنى من حصار برج الذبان مرة بعد أخرى من كتاب إلى سيف الإسلام باليمن

النفط ويسرع بإلهاب. حتى يوقدوها، وعلى السفن التي لنا بالمينا يوردوها. فيعدى عدوانها، وتنير وتسدى فيها نيرانها. وهم في مراكب من ورائها للحرب مستعدون، وللشر مستمدون. حتى إذا تم برجائهم في البرج والمينا مناهم، نالوا من الاستيلاء والاستعلاء غناهم. فلما قدموا البطسة ذات البرج المعمور، وصار الصاري ملاصق السور، جاء الأمر بعكس ما قدروه، وأخفق ظنهم للأدبار فيما دبروه. فإن الهواء كان شرقيا، فلم تجد نارهم في مطار برج الذبان رقيا. بل اشتعل برج الصاري وتراجعت ناره إلى أهلها، وعاملت ذوى الجهل بجهلها، وأوقدت بطسة الحطب من ورائها، وتطايرت إليها شعل إذكائها. وعادت على الفرنج فالتهبوا، وحمى عليهم الحديد فاضطرموا واضطربوا. فانقلبت بهم السفينة فاحترفوا وغرقوا، والناجون منهم فارقوا وفرقوا. وأحمى برج الذبان فلم يطر من بعدها عليه ذباب، ولم يفتح للعدو في الكيد له باب. فصل مشبع في المعنى من حصار برج الذبان مرة بعد أخرى من كتاب إلى سيف الإسلام باليمن وأفكر الإفرنج في أمرهم، وأجالوا قداح الرأي في مكر مكرهم. هذا البرج المعروف ببرج الذبان، منفرد عن البلد بوسط البحر منقطع المكان، فإذا أخذناه تسلطنا على مراكبهم التي في المينا، وإذا لم نؤثر بمجيئنا تأثيرا فلأي سبب جينا ومن حديث هذا البرج إنه يحيط بالبحر من جوانبه، وهو قفل مينا الثغر على مراكبه. وقد رفعناه وأعليناه، وبالعدد والرجال قويناه. وبالجرخية والرماة والزراقين والمنجنيقية ملأناه، وبكلاءة الله وعصمته إياه عصمناه وكأناه. وقد حاموا حوله حولا، فلم يجدوا على نيل غرض منه قدره ولا حولا. فعمدوا إلى أكبر بطسة وانخذوا فيها مصقالا كأنه سلم، وهو في مقدمها مركب مقدم. وقد جعلوها بحيث إذا قربت إلى البرج ركب رأس السلم على شراريفه، فصعد الرجال إليه في تجاويفه. وتعبوا في ذلك أياما، وأشبعوه توثيقا وإحكاما. وهو بمرأى من الأصحاب ينظرونه وينتظرونه ويبصرونه، ويستنجدون الله عليه ويستنصرونه. والقوم قد أصبحوا بتلك البطسة زاحفين، وعلى ذلك السلم بعددهم واقفين. حتى إذا التصق بالبرج التصقت به قوارير النفط، وتوالت أمطار البلايا من الجروخ والحجارات والمنجنيقات على أولئك الرهط. ووجدت النار بسطة ولم يسلم السلم، وناب القوم من فجيعتهم بها المصاب الذي ألم بهم وآلم. وقتل منهم من باشر القتال، ونزل العذاب بمن حاول النزال. والحمد لله الذي آيات ظهور دينه متناصرة، ودلائل نصر أوليائه متظاهرة.

فصل في المعنى

ثم عمل الفرنج برجا عاليا في اكبر مركب، وحشوه بالحطب. وعملوا على رأس صاريه مكانا يقعد فيه الزراق، ويتأتى له فيه الإحراق. وقدموه إلى برج الذبان، وسلطوا على جانبيه النيران. وقصدهم بذلك إحراق ستائر أبراج المنصور، ورأوا أن في ذلك هدم بنيانه المعمور. وحسبوا أن الستائر إذا وقت فيها النار، تعذر على رجاله القرار، تعذر على رجاله القرار، وتعجل منهم للحذار الفرار. وكادت الستائر تشمل، والخواطر تشتغل، والحال تضرب، والبال يلتهب. والقلوب تضطرم والكروب تحتدم. فأهب الله من مهب لطفه نكباء نكبت النار عن البرج المحروس، وأكبت الفرنج على الوجوه والرءوس. وتعس جدهم وتعكس قصدهم. وانقلبت الريح التي لهم عليهم، وصوبت مراني العذاب إليهم. فصل في المعنى ولما وقم الله القوم، قالوا لا طاقة لنا اليوم. وعادوا وقد غرموا ورغموا، واخلف ما عزموا وزعموا. واشتغلوا بملْ بطس لهم شحوما وأحطابا، وأدهانا وأخشابا. وأشعلوا فيها النار وألهبوها، وأرسلوها إلى مراكبنا في يوم ريح عاصف وصوبوها، وأدنوها منها وقربوها. وكادت سفننا تحترق، ومراكبنا تفترق. فأنزل الله الفرج وقت الشدة، وآمن من المخافة المحتدمة المحتدة. وانقلبت الريح عليهم وعادت مخالفة لهم بعد أن كانت موافقة، وحالة تلك الحالة للعادة خارقة. فاحترقوا بنارهم، وشرقوا بعارهم. وجذبت بطس أولئك الكلاب بالكلاليب، وتوالت ألطاف الله في تلك النوب المتناسقة مطردة الأنابيب، مستهلة الشآبيب. ذكر الكبش وحريقه بعد تعب العدو في أحكامه وتسوية طريقه واستأنف الفرنج عمل دبابه هائلة، وآلة للغوائل غائلة. في رأسها شكل عظيم يقال له الكبش، وله قرنان في طول رمحين كالعمودين الغليظين، أقفال الأسوار المعلقة بها نفش. فكم سور إذا نطحته طحنته، وكم معقل حصنه الدهر حصته وصحنته. وهذه الدبابة في هيئة الخربشت الكبير. وقد سقفوها مع كبشها بأعمدة الحديد، وكملوا لها أسباب الأحكام الشديد. ولبسوا رأسي الكبش بعد الحديد بالنحاس، وكسوها حذرا عليها من النار سائر البأس. فلم يبق للنار إليها سبيل، ولا للهعب عليها دليل. وشحنوها بكماة المصاع، وحماة القراع. ورماة الحدق، وكساة الحلق. وعفاة الحتف، وجفاة الزحف ومجتابي الزغف، ومجتبي العسف. من كل سرحان لا ينظر إلا من جلد أرقم، وكل شيطان لا يقتحم من الحرب إلا جهنم. وكل

شجاع لا يعتقل الا شجاعا، ولا يرى لغير النجيع القاني ولا انتجاعا. فلما استدفت لهم هذه الدبابة، وماجت بالحديد لدتها العبابة، وأطافت بذلك الكبش تلك التيوس النبابة وآمنوا عليها الحريق، وأموا بها الطريق، سووا بين يديها الأرض، ومهدوا الطول منها والعرض. وصحبوها حتى سحبوها، وقروا بها أعينا بل أنفسا وقربوها. فجاءت صورة يزعج مرآها، وروضة يعجز مرعاها، وآلة تروق هيئتها، وعدة تروع هيبتها. وبلى البلد من دنوها بالبلاء الداني، وتغاشت وتعاشت دونها نفس الرامي وعين الراني. وقال أصحابنا: هذه ما في دفع خطرها حيلة، ولا لبارق الظفر بها مخيلة. فكيف العمل، وفيم الأمل؟ ومن للكبش العظيم وقطع رأسه؟ ومن لبناء الحديد ونقص أساسه؟ فإن كانت هذه الدبابة الأرض فما هذا أوانها، وما حان زمانها. ولقد قامت بها قيامة الحشر فقام برهانها. ونصبوا على صوبها مجانيق، ورموا بالحجارات الثقيلة ذلك النيق. فأبعدت رجالها من حواليها، وطردت المطرقين بين يديها. ثم رموها للحزم بحزم الحطب حتى طموا ما بين القرنين بجزره، وقذفوها بالنار فترنم في أثنائها عجا اللهب برجزه. ودخلت من باب الدبابة فاشتعلت نار ضلوعها وشرع من فيها في الخروج بعد دخولها وشروعها. وجاء الفرنج تلك الليلة فباتوا بالبتيات، يطفئون بالخل والخمر تلك الشعل المستوليات. فأطفئوا نار الظاهر ولم يعلموا بر الباطن، ولم يحسوا بما تمكن من أضلاعها من الحرق الكوامن. وحين أخمدوا الجمر، احمدوا الأمر. ورجعوا ولم يزل اللهب يأكل سقوفها، حتى ترك على ما غطى الخشب من الحديد وقوفها. وحينئذ خسفها المنجنيق، فانهد ذلك النيق، وصوح ذلك الروض الأنيق، ووهن ذلك التركيب الوثيق. ونفقت تلك الدابة واحترقت تلك الدبابة، وخرج من بالعثر المحروس، باشري الوجوه طيبي النفوس. وقطعوا رأس الكبش، واستخرجوا ما تحت الرماد من العدد بالنبش. وحمل كل من الحديد ما أطاق حمله، واستطاب لثلج صدره وبرد يقينه خره واستخف ثقله. وقدر ما نهب من الحديد بمائة قنطار، فقل في آلة لبست بهذا المقدار وهو أعظم مقدار. وعاد أصحابنا على عدوهم ظاهرين، ولحزب الكفر قاهرين. وكلهم ينشد وهو ينشئ وينشد جدا وجدا. نازلت كبشهم ولم ... أر من نزال الكبش بدا وقنط الكافر وكفر القانط، وسخط الشيطان واستشاط الساخط. وعلم الفرنج حين حبطت أعمالهم؛ وهبطت آمالهم؛ أن الشقاء أدركهم؛ والشقاق أهلكهم. وأن مدبرهم مدبر، وأن ترتيبهم مدمر. وأن آلاتهم غير نافعة، وأن نهلاتهم غير ناقعة. والحمد الله ذي الطول العميم، والفضل الجسيم. الذي نعش عثار الثغر بعد أن تل للجبين فتلونا قوله تعالى: (وفديناه بذبح عظيم). وكان ذلك في يوم الاثنين الثالث عشر رمضان واحترقت البطسة يوم الأربعاء خامس عشر.

ذكر حوادث تجددت ومتجددات حدثت

وفي هذا اليوم وهو يوم الاثنين قدمت عساكر الشمال، يقدمهم ذو القبول والإقبال وهو الملك الظاهر صاحب حلب، وقد استصحب معه الأجناد وجلب. فجاء عشية وجدد بلقاء والده عهده، ثم عاد وعاد بكرة الثلاثاء يقدم جنده. ومعه سابق الدين عثمان صاحب شيرز، وقد استكثر معه واستظهر، وعز الدين بن المقدم ذو القدر الافخم، والنجر الأكرم. وحسام الدين حسين باريك، وجماعة من الأمراء من ذوي المكانة والبسالة والغناء. وقدم الملك الأمجد مجد الدين بهرا مشاه بن فرخشاه بن شاهنشاه ابن أيوب صاحب بعلبك، وقد استصحب غلمانه الاكاديش ومماليكه الترك. وكان لذلك اليوم روتق، وصفاء لم يشبه رنق. واتفق في يوم الاثنين هذا من العدو على البلد الزحف الشديد، في الخلق العظيم، جحيمين يلتهبون بنار الجحيم. وتركتهم أصحابنا حتى قربوا من السور. وأقدم العدو إقدام المتهور الجسور. فلما ازدحموا وكثؤوا؛ واضطرموا واستعروا؛ غنت لهم الأوتار برنين القسي فطاشت لها السهام، ودعت إليهم الأقدار بجنين الحنايا فلباها في لباتهم الحمام. وزارتهم من الزيارات الجروخ، وأخذت نيرانهم تبوخ. ورشتهم المجانيق بالأحجار، وآذنت عيون نجيعهم بالانفجار. وخرج أصحابنا عليهم فشلوهم إلى الخيام، وفلوهم بحد الإقدام. وأفضى الخرق إلى الخرق، وأخلقت بجدة جدنا جدة أولئك الخلق. ذكر حوادث تجددت ومتجددات حدثت وصل الخبر في سادس عشر رمضان من حلب أن صاحب إنطاكية أغار على غرة بشره وبشرة، ووصل الجاسوس بخبره، وبما البلاد مشرفة عليه من خطره. فرتب أصحابنا له كمينا، ثم خرجوا عليه شمالا ويمينا. فقتلوا اكثر رجاله، وأفلت وباله في وباله. وإنهاض من تلك النهضة، وضعف من تلك العضة. وفي هذا التاريخ ألقت الريح إلى ساحل الزيب بطستين خرجتا من عكاء بجماعة من الرجال والصبيان والنساء للتغريب. وفيها امرأة محتشمة، غنية محترمة. فأخذتا وأخذوا وأخذت، وجد الفرنج في استنفاذها فما استنقذت. وسرنا ما ساء العدو، وآتانا الله من إحسانه المرجو. وفي عشية الاثنين تاسع عشر رمضان رحلنا إلى منزل يعرف بشفرعم، وخص بهذا الرحيل النفع وعم. وكان سبب ذلك إنه كثر المستأمنون إلينا من الفرنج، وأخبروا أنهم في عزم الخروج إلى المرج. هائجين للثار ثائرين إلى الهيجاء، مائجين من دأماء الدماء لحب اللقاء. وصح هذا الخبر وصدق، ووضح الحق وتحقق. فأحضر السلطان الأمراء الأكارم؛ ورجال الحقائق الضراغم؛ الذين هم له أعوان صدق لساعات أيامه،

وذخائر نصر عند اعتزامه. فاستشارهم واستثار كوامن سرائرهم، واستنبط دفائن ضمائرهم. واستكشف منهم الصواب، وتعرف من جانبهم الجواب. فقالوا الصواب أن يفسح لهم عن هذه المروج، حتى يكون دخولهم إليها يوم الخروج. فنصبحهم في اليوم الآخر، ولا يتعذر بهم إحداق العساكر. وإنما لا يقدرون على القصد دفعة واحدة؛ إلا إذا كانت أيديهم متساعدة، وآراؤهم متعاقدة. فإن انفردوا عن الراجل وساقوا؛ كسرناهم وأسرناهم. وإن توقفوا للراجل، قصدناهم حيث نزلوا ولقيناهم وصددناهم. وأجمعنا على أن نرحل إلى شفرعم ونخيم على هضابه، ونبطل على العدو ما كان من البيات في حسابه. فخيمنا هناك على أحسن تعبية، وسنينا أسباب اللقاء أتم تسنية. ورحبت المنازل، وعذبت المناهل، وعادت معالم تلك المجاهل. وحللنا التلاع والآكام، وركزنا بتلك الأعلام الأعلام. ونزلنا لمقام الشتاء مستعدين، ولأسباب التوقي من الأمطار مستجدين. وأضحينا على تلك الاطواد موطدين، وعند تلك الأوتاد موتدين. وتسمنت تلك الفروع وفرعت تلك الأسمنة، وتمكنت تلك البنى وبنيت تلك الأمكنة. وتحركت تلك الجبال بسكانها، وأحبت الرجال التوطن بها وسلت عن أوطانها. ودارت الأسواق، ودرت الأرزاق، وأنارت الآفاق. وصهلت الصلادم على معالفها، وصقلت اللهاذم لمراعفها. ونوب اليزك بحالها تدور وترود، وتعيج رسم الحفظ والحماية وتعود. والحرب تتناوب، والزحف يتعاقب. والأقران تتواقع والوقائع تتقارن، والأعوان تتعاضد والاعضاد تتعاون. والعتاق بصهيلها لحب الطراد تحمحم، والرقاق بصهيلها لشوق الجماجم تجمجم. والمقربات للأجراء صوافن، والضوامر للشد ضوامن. ومنى المناصل صلة القطع، ورجاء الرجال نبع النصر في قرع النبع بالنبع. والتوحيد للتثليث منازل، والإيمان للكفر مقاتل. وى كلام إلا للكلام، ولا سلام إلا بالسلام. فلا يسمع إلا: أسرج وألجم، وتقدم وأقدم، وأصم وصمم، وأضر وأضرم. ولا تله حتى تلهب، ولا تعج حتى تعجب. واقطع وصل، واكتل بصاع المصاع وكل، ولا تقلق والق وقلقل. ولكل داع إجابة، ولكل ساع إصابة. ولكل في المرمى فوق، ولكل شهم في المرام سوق. ولكل صعدة في الطعان صدعة، ولكل قعدة للرماء قدعة. ولكل عقدة بالضرب حل، ولكل عقدة في الحرب فل. ولكل عضب عض، ولكل ذي حظ حض. ومن له نصيب في الشجاعة نصب في التشجيع، ومن له جرأة الهيجاء هاج إلى الصريخ بالجسد السريع. والأيام منا على هذه الحالة مندرجة، ومياه الحديد بامواه الوريد ممتزجة، والفرج منتظر والنواظر متفرجة، وتباشير صباح الصفاح في دياجير القتام متبلجة. ولله نعمة في كل بلية، وسر في كل قضية.

ذكر وفاة زين الدين صاحب إربل

ذكر وفاة زين الدين صاحب إربل في ليلة الثلاثاء ثامن عشري شهر رمضان وما جرى بعده من الحال قد جرى ذكر هذا الأمير، وما يتحلى من الكرم والخير. وهو (يوسف نيالتكين بن علي كوجك). ومن سعادة جده ما طلب غاية في الكرم إلا أدرك. وما كان أسره يوم الحضور، وأحظره يوم وفاته السرور. فلقد كان جارا للكتائب، بارا بالأباعد والأقارب. سارا بإسداء المواهب، دارا بأخلاف الرغائب، مارا في سبل المناقب، قارا على قلق النوائب. وكان في ريعانه الرائع، وشعاعه الشائع. وشبابه الطرى طرير الشبا، وحبه لعقد السؤدد معقود الحبا. فمرضت الأيام بمرضه أياما، وتلهبت القلوب منا للتلهف عليه وقد أمست مراضا ضراما. وعدته بطبيب السلطان فلم يأنس به، ولم يسكن إلى طبه. لما كان يعلم من منافسة أخيه مظفر الدين في موضعه، وأنه بنتعش بمصرعه. فاكتفى بصاحب له يطبه، يوافقه على ما يحبه. وهو جاهل بمزاجه، ذاهل عن علاجه. فشب الحمام في حمى شبابه ناره، وأذوى غصنه قلنا ما أزهى أزهاره، وما أنضر نضاره! ونقله الله من جانب الحياة إلى حياة الجنان، وعجل به ليجازيه لإحسانه بالإحسان. وحوله من بين الأتراب إلى التراب، ومن دار الاغترار والاغتراب إلى موطن الثواء بالثواب، وآذن الزمان بعد الأجداد بإجداب. ولزمه أخوه مظفر الدين حتى فارقه، وما ظهر عليه الغم حتى قيل إنه سره موته ووافقه. وقصدناه معزين على ظن إنه جلس للعزاء، فإذا هو في مثل يوم الهناء. وهو في خيمة ضربها في مخيم أخيه، واحتاج على جميع ما يحويه. ووكل بالأمراء أصحاب القلاع ليسلموها، وخشي أن يعصوا فيها إذا رجعوا إليها ويحموها. وخدم بخمسين ألف دينار حتى أخذ إربل وبلادها، ونزل عن حران والرها وسمسياط والبلاد التي معه وأعادها. وزاده السلطان شهرزور وأحكم بمسيره الأسباب والأمور. فاستمهل إلى حين وصول الملك المظفر تقي الدين لينزل في منزلته بجنده وصحبه الميامين. فوصل يوم الأحد ثالث شوال، فحلى بعد العطل الأحوال. وكان قد أنفصل صاحب الجزيرة - معز الدين سنجرشاه - وذهب مغاضبا وكان السلطان له في الانفصال عاتبا. فأعاده تقي الدين من الطريق، وقبح له ما استحسنه في ترك الموافقة من عدم التوفيق. وكان هذا سنجرشاه دخل يوم العيد بكرة للهناء، فاستأذنه في الانكفاء. فخرج على حالته وسار وتبعه أصحابه، ولج جماحه وتعذر أصحابه. فلما اجتمع به تقي الدين رده، وبذل في صيانة منزلته عند السلطان جهده. وطال على الملك عماد الدين صاحب سنجار المقام. وجد في الاستئذان في الرحيل منه الاهتمام في الرحيل منه الاهتمام، وصدق الاعتزام. وتقرر ملاله، وتكرر سؤاله. فكتب إليه السلطان.

ذكر نوبة رأس الماء وخروجهم بعزم اللقاء

من ضاع مثلى من يديه ... فليت شعري ما استفادا فلما قرأ هذا البيت ما راح في الخطاب ولا غادي. وغلت الأسعار عند الفرنج واستعرت الغلل، وأعلهم ما عراهم وعرتهم العلل. وباءوا بالوباء، وبلوا من البلاء، وغلوا من الغلاء، وتضوروا من الضراء، وشق مرائرهم استمرار الشقاء. وعمت المجاعة الجماعة، وعدموا الطاعة والاستطاعة. وزاد جوعهم، وزاد جوعهم، وزال هجوعهم، وقصرت عن القرار بوعهم، وامحلت ربوعهم، واستحال رتوعهم. واستحال رتوعهم. وبعثهم الرهب على الهرب، والقحط على الشحط. لكنهم أقاموا على الموت، واستناموا إلى الفوت. وبلوا بأمور صعبة، وهرب إلينا منهم عصبة بعد عصبة. وقد بادوا من الضعف البادي، واعداهم الضر العادي. فمن سألناه عن مقتضى فراره؛ ومقض قراره، يخبر إنه طواه الطوى، فنوى النوى حين التوى، من حذر التوى. وقد أنساه المحل الذحل، وأبغض إليه حب السلامة الولد والأهل. وكانت الغرارة من الغلة قد بلغت أكثر من مائة دينار، والسعر من الزيادة لديهم في استعار. فما جاء الأكل ضعيف لا يقوى على النزاع والنزال، ولا مسكه لاعتلاق رمقه من الاعتلال. فقبلناهم وأنفقنا فيهم، وألفناهم بما يكف ضررهم ويكفيهم. فتقوتوا وتقووا، واثروا بعد ما أقووا. فمنهم من أسلم وخدم، ومنهم من ند وتندم. ومنهم من غدا بجريرة وعاد، ومنهم من ناصح فاستاد. ذكر نوبة رأس الماء وخروجهم بعزم اللقاء ولما ضاق بالقوم ذرعهم؛ وأشرقهم جرعهم؛ وعرقهم قرعهم؛ وأخلفهم خلف عيشهم، وضرهم ضرعهم؛ وعيل صبرهم؛ وعال ضرهم قالوا: نخرج ونبلى، ونصل ونصلي. ونقصد ونصدق؛ ونلقى ونقلق؛ ونفل ونفلق. ونعز ونعزم، ونهز ونهزم. ونجري ونجتري، ونبري ونبتري ونزحف ونحفز، ونزعج ونعجز. ونجهد ونجهل، ونحمي ونحمل، ونقطع ونوصل. ونثور ونثير، وندور وندير. وننتصف وننصف، ونعفر ونرعف. ونقرح ونحرق، ونعقر ونعرق. ونخرج ونحرج، ونلج ونلجج. ونضري ونضرب، ونغلي ونغلب. ونحن ونجني، وننيف ونفني. ونرد ونردي، ونقد ونقدم، ونعدو ونعدم. ونصد ونصدع، ونقد ونقدع، ونجد ونجدع، ونصر ونصرع ونسل ونسلب، ونرعب. ونبدو ونبيد. ونتصدى ونصيد. ونظهر ونظفر، ونرهق ونقهر، ونقسو ونقسر، ونسكر ونكسر. فخرجوا في عدد خارج عن العدا؛ واستقاموا مع الاعوجاج على جدد الجد؛ وذلك يوم الاثنين حادي عشر شوال، بعد أن رتبوا على البلد من لازم القتال. وأخذوا معهم عليق أربعة أيام وزادها، واستصحبوا أنجاب الكريهة وأنجادها. وكان اليزك على

تل العياضة فركبوا، وأشعلوا القوم بنيران النصال وألهبوا. فنزل العدو تلك الليلة على آبار كنا حفرناها عند نزولنا هناك، والحمية الحامية المنبعثة على تلك البعوث ما تركت الأتراك. فباتوا حول القوم يرمون ويدمون، ويشوون ويصمون. ولما اتصل خبرهم بالسلطان رحل الثقل إلى ناحية القيمون، وثبت الله القلوب على الأمن والسكون. وبقى الناس على خيلهم جرائد، وقد استعذبوا من مر الكريهة الموارد. وركب العدو يوم الثلاثاء سائرا، وقد عب عبابه زاخرا، وهب غابه زائرا. وطما بحره مائجا، وسما جمره مارجا. وعساكرنا في أحسن تعبية، ولدعاء القراع في أوحى تلبية. وقد امتزجت زجرات الجاووش! بنعرات الجيوش. والميمنة إلى الجبل ممتدة، والميسرة إلى النهر بقرب البحر وصفوفها مشتدة مستدة. والسلطان في القلب كالقمر في الهالة، عليه إكليل من أنوار الجلالة. فسار حتى وقف على تل عند الخروبة، على المهابة الحالية والحالة المحبوبة. ومقدمو ميمنته عظماء دولته، صاحب دمشق ولده المبجل الملك الأفضل وصاحب حلب الملك الظاهر، وصاحب بصرى ولده الملك الظافر، وأخوه الملك العادل في آخرها، والأمراء بعساكرها. يلي حسام الدين بن لاجين، قايماز النجمي صارم الدين، والأمير بشارة صاحب بانياس، وهو الذي لا يرجو منازلته إلا من فيه بان الياس. ثم بدر الدين دلدرم الياروقي صاحب تل باشر؛ وقد طالما بشر الإسلام بما باشر. وعدة كثيرة من الأمراء يطول ذكرها، على إنه يطيب نشرها. وعظماء الميسرة ومقدموها، وأمراؤها ومقدموها، والملك عماد الدين صاحب سنجار - وهو العادل للإسلام وعلى الكفر جار. وابن أخيه معز الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة، والملك المظفر تقي الدين ذو السطوة المبيدة المبيرة. وسيف الدين علي المشطوب الذي تشب بناره الحروب، وتصب على العدا منه الكروب. والهكارية، والمرانية، والحميدية، والزرزارية. وأمراء القبائل من الأكراد؛ أقتال القتال وأجادل الجلاد. ورجال الحلقة المنصورة واقفون في القلب لابسي الحلق السرد خائضي بحر الحرب. من كل فارس فراس، وهرماس رماس. وضيغم ضاغم، وضرغام غارم. وليث قضقاض، ملوث بفضفاض وقسور قاسر، وهربز زابر زائر. وأسد في غاب الأسل، وقارع في القراع باب الأجل. وقار ثعالب الخرصان، وذباب الظبا من دم الأقران، وقار على ثبات الشجعان. وقارئ (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ثقة بوعد القرآن، وقارن حج النجح بعمرة عمره وبذله في الجهاد؛ للتمتع بعمر الجنان. وسابق إلى حلبة الشهادة، وسامق على ذروة السعادة. وملابس للروع مباسل، وعاسل كالذئب إلى ذب العدا عن الهدى بعاسل. وسار الفرنج شرقي النهر لنا مواجهين، وللكريهة غير كارهين. حتى وصلوا إلى

رأس النهر، وأشفقوا من باس القهر، فانتقلوا إلى غريبه ونزلوا على التل بينه وبين البحر. والجالشية الرماة منا جولهم جائلة، وعيون أعيانهم على نصالنا سائلة. وجرح في ذلك اليوم وهو الثلاثاء خلق من أهل التثليث، وما نبا عن كثير منهم ناب النائب الكريث. والسلطان في خيمة لطيفة بحيث يشاهد، ولله منه الجاهد المجاهد. وأصبح الفرنج يوم الأربعاء راكبين، وعن سبيل اللقاء ناكين. ووقفوا على صهوات الخيل إلى ضحوة النهار، والراجل مطيف محدق بهم كالأسوار. وأصحابنا قد قربوا منهم حتى كادوا يخالطونهم، وأرادوا يباسطونهم. والسلطان يمد الرماة بالرماة، والكماة بالكماة. وهم ثابتون نابتون، ساكنون ساكتون. ونحن نقول لعلهم يحملون، ويغضبون فيجهلون، فنتمكن من تفصيل جملتهم بحملتهم، وتفريق جماعتهم، وتفريج الغمة بنزع جمعتهم. وأحس العدو بالضعف، وأنه متورط في الحتف. فسار موليا، ولعذره لذعره مبليا. ومضى على مضض، ومر بأشد مرض. والنهر عن يمينه والبحر عن يساره، وقد أيقن أن صح منه الثبات بانكساره. وعسكرنا يصافحهم بالصفاح، ويكفهم بالكفاح. ويشعلهم بجمرات السهام، ويلهبهم بحدمات الضرام. ويحرقهم ويشويهم، ويصميهم ويشويهم. ويفيض على غدران السوابغ منهم جداول القواضب، ويخيض في دأماء منهم سوابح السلاهب. ويغيض في ماء الوريد منهم ماء الفرند، ويغيظ بني الكفر في الجمع بين الأختين عليهم ابنتي الغمد والزند. وأدبروا مولين، وأرخصوا من مهجهم ما كانوا له مغلين. وعسكرنا يتبعهم، ويعلق ويقلعهم. وهم مجتمعون في مسيرهم، محتمون في تقديمهم وتأخيرهم. يتحركون في سكون، ويتظاهرون في كمون، ويتطلعون في غروب. ويتذوبون في جمود، ويتلهبون في خمود. وكلما صرغ منهم قتيل حملوه وستروه، وطموا مدفنه وطمروه. حتى يخفى أمرهم، ولا يصح لدينا كسرهم. ونزلوا ليلة الخميس على جسر دعوق، وقطعوا الجسر حتى يمنع عبورنا إليهم ويعوق. وأبلى المسلمون في ذلك اليوم في الجهاد بلاء حسنا. وأتوا كل ما كان فيه مستطاعا ممكنا. وقام (إيتز الطويل) في ذلك اليوم مقاما اقعد فيه من الكفرة كل قائم، وانبه به من العزائم كل نائم. وكان مقداما هماما، وأسدا ضرغاما. يطير وحده إلى الروع إذا أبدى له ناجذيه، ويجيب المستصرخ ولا يسأله عما يدعوه إليه. وهو في كل يوم يصبح في سلاحه شاكيا، وبنار عزمه ذاكيا، ويقف بين الصفين، ويدعو إلى المبارزة والحين. فما يبرز إليه إلا من يصرع، ولا يصل إليه إلا من يقطع. فعرفه الفرنج وتحاموه، فما راموه بعد ذلك ولا راموه. وبذل هذا اليوم جهده، وفل في فل حدهم حده. وأصابته جراحات، وأصابتهم اجتراحات.

فصل في كتاب المعنى

وكذلك سيف الدين يازكوج أبلى في الجهاد ذلك اليوم، ووقم بنصاله ونضاله القوم. وخرج وبه جرح، وفي قلب العدو وعينه من مهابة انتقامه وإصابة سهامه قرح. وأصبحوا بكرة الخميس، وقد بكر الخميس، وحمى الوطيس، وسار في أسده العريس. فأشرنا عليهم وإذاهم داخلون إلى مخيمهم، سائرون إلى مجثمهم. فعاد السلطان إلى سرادقه، حامدا خلائق خلائقه، مسفرا في ليل العجاج فلق فيالقه. واستعاد الأثقال إلى معسكره، واستزاد من الله له الإقبال في مورده ومصدره. وفخر بتفرد عن ملوك الأرض بعون ملائكة السماء وتفرد بمفخره. وكان مع الفرنج الخارجين المركيس والكندهري، وأقام ملك الألمان على عكاء يبرى ويفرى. فصل في كتاب المعنى خرج الفرنج يوم الاثنين حادي عشر الشهر؛ واثقين من ملوكهم الحاضرين بالظهور وقوة الظهر. وفي مرج عكاء؛ عين غزيرة الماء. يجرى منها نهر كبير إلى البحر، فخرجوا إلى شرقي النهر. وباتوا بالقرب من مخيمهم على البلد، وقد تخلف حصره ألوف من أهل الجلد. ثم أصبحوا يوم الثلاثاء والنهر عن يمينهم، والأسد سائرة بالأسل في عرينهم، والحمية مشتعلة في عيونهم وعرانينهم. ونزلوا رأس العين، وتطرق بها إليهم من عساكرنا المنصورة طارق الحين. ولما أصبحوا وجدوها بهم محدقة، وبنيران النصال والمناصل لهم محرقة. وكنا نقول انهم يتحركون للمصاف والأمر بالخلاف، وانهم لسهام المنون من الأهداف، وما دارت بهم إلا الجاليشية تجول وتصول، وتصيب وتصوب، وتطيل وتطول. وكانت الاطلاب واقفة تنتظر حملاتها، وتستعد لوثباتها وثباتها. فلما أبصر الفرنج ما حل بهم من العذاب؛ عدوا الغنيمة في الإياب، وشرعوا في طريق الذهاب. فعادوا من غربي النهر راجعين؛ وساروا صوب خيامهم مسارعين. وأصحابنا زراءهم يرمونهم، ويشوونهم ويصمونهم. وقتل منهم خلق، وسرى في حجب حياتهم خرق. ونزلوا تلك الليلة على الجسر وقطعوه، وباتوا خائفين هائبين، ورحلوا سحرا خاسئين خائبين. وخيولهم الناجية مجرحة، وقلوبهم الراجفة مقرحة، وأشلاؤهم من كسرة الحياة عارية وبالعراء مطرحة. وعرفوا أن حركتهم للهلكة، وأن هلكتهم في الحركة. وأقاموا على الضر والزاد معدوم، والبلاء لكل منهم منفرد وعليهم مقسوم. ولا طعم لهم إلا من لحوم الخيل، وهم يدعون بالثبور والويل. ومع كثرتهم قلوا عناءا، وضلوا رجاء، وذلوا بلاء، واعتلوا جدبا وغلاءا. ولما عاد الفرنج إلى خيامهم؛ خافقين من مراميهم؛ مخفقين من مرامهم، وابصر المقيمون بها أصحابنا وراءهم؛ يطلبون ارداءهم؛ متعطشين إلى دمائهم، يرمون إرواءهم؛

ذكر وقعة الكمين

وثبوا على جسادهم، وثاروا لمراد مرادهم، ولاقوا اجمعنا بأجمعهم، وفاضوا لفيضنا من منبعهم. فاندفع الأصحاب حتى تبرزوا، ثم ردوا عليهم الكرة فأثخنوا وأجهزوا. وقتل في تلك المعركة كند كبير، وشيطان لنار شره من سعيره مستعير. وطلبوا بعد انفصال الحرب جثته فأعطوها، والتمسوا هامته فلم يجدوها. وكان رجلا يعد برجال، وسلبه قوم بأموال. ولولا ما اتفق من التياث مزاج السلطان، ما سلك من سلم حزب الشيطان. ولله في كل قضية سر، وفي كل بلية بر. ذكر وقعة الكمين وما زال السلطان موفقا في آرائه، مشرقا بلألاء آلائه، ومن آرائه الراجحة؛ ومساعيه الناجحة؛ ومتاجره الرابحة؛ إنه رأى أن يرتب على العدو كمينا، وعلم ان الله يكون ينجحه ضميعا. فجمع يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال منتخبي رجاله، ومنجبي أبطاله، وخواص اتراكه، وعوام فتاكه. فانتخب منهم كل من عرفت سابقته، وسبقت معرفته، وأحمدت في الجلاد جلادته، وفي لقاء العدا عاداته، وعلمت في الفتك جهالته. وأمرهم بأن يكمنوا على ساحل البحر بقرب المنزلة العادلية القديمة، فمضوا وكمنوا ليلة السبت متنبهي الهمة متيقظي العزيمة. وخرجت منهم عدة يسيرة بعد الصباح، منادية بحي على الفلاح. ودنوا من خندق القوم، ونادوا لا قعود بعد اليوم. ومطروهم سهاما، وأسعروهم ضراما. فطمع الفرنج فيهم، وظنت أنها تلاقيهم. وخالتهم صيدا قد سنح، وسربا قد سرح. فقطعت خنادقها، وبتت علائقها، وحثت سوابقها. وأخاضت بحر الحرب سوابحها، وقد أفاضت سوابغها، وشامت صفائحها. وتجردت عن رجالتها، وتفردت بضلالتها، وحملت بجهالتها، وأقبلت بإدلالها لا بدلالتها. وتطارد اصحابنا أمامها، وانهزموا قدامها. حتى وقفوها على الكمين، وأوقعوها في الهلك المبين. فخرج الكمين عليها، وتبادر إليها. فلم يستطع فارس منها فرارا، ولم يطق من غرته أن يمضي غرارا. وكانت في مائتي قنطارى، من كل مقدم باروني وبطل داوي واسبتاري. فقتل معظمهم، ووقع في الأسر خازن الملك، وعدة من الافرنسيسية ومقدمهم. وملكوا وسلبوا وملك سلبهم، وتقطع بهم سببهم، وما وصلهم أربهم. وجاء الخبر الينا، فركب السلطان وركبنا. وسار ووقف على تل كيسان، فشاهد من الله هنالك الإحسان. وجاءه مماليكه يقودون أولئك الأعزة بخزائم الذل، ويجودون بما استخلصوه من ذلك القل. ويقدمون المقدمن من سراة الاسارى، وتلونا لما شاهدناهم، (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) فقد رضتهم اللتوت، وقضقضتهم الليوث، وبعثتهم إلى مصارعهم الظاهرة من مكامن الآجال البعوث.

فصل من كتاب بشرح الحال ووصف المقام مع الاعتلال

وترك السلطان الأسلاب والخيول لآخذيها. وكانت بأموال عظيمة، فما أعارها نظرة ولا تردد أمره فيها. وفيها حصن كأنها حصون، وزرد موضون، وخوذ منها مذهب ومدهون، وسيوف ذكور تتولد منها المنون. وملابس رائقات تحار فيها العيون. وأبنا بالملوك مصفدينا، وحمدنا الله الذي بإرشاده هدينا. وجلس السلطان في خيمته على دست ملكه، وقد انتظم له عقد النصر في سلكه. فمن كان عنده أسيرا تحضره، فأنعم عليه وشكره. وكنت عند السلطان جالسا؛ ولحبير الحبور لابسا؛ وقد جمع عنده أولئك الأسراء، وما أسعد الله إلا في تلك الساعة أولئك الأشقياء. (ودامت محاورته لهم مشافهة)، وأطعمهم بعد ما آنسهم فاكهة. ثم بسطهم ببسط الخوان وأشبعهم وارواهم، ثم أحضر لهم كسوة وكساهم. والبس المقدم الكبير فروته الخاصة؛ فقد كان الزمان قد برد، وفصل الشتاء قد ورد. وأذن لهم في أن يسيروا غلمانهم لإحضار ما يريدون إحضاره وإعلام من يؤثرون أن تعرف معارفه أخباره. ثم نقلهم إلى دمشق للاعتقال، وحفظهم بالقيود الثقال. فصل من كتاب بشرح الحال ووصف المقام مع الاعتلال ولما كانت ليلة السبت ثالث عشري شوال؛ كانت نوبة اليزك لأخينا الملك العادل؛ فأشار بإنفاذ عدة إليه تكون في الكمين، وتقيم في المكمن إقامة خادرات الأسود في العرين. فأنفذنا إليه من مماليكنا سرية سرية سرت سرا واستسرت وسرت، وقرت في مكمنها إلى أن طابت الأنفس بصنعها وقرت. ولما أصبح الفرنج يوم السبت خرجوا على العادة عادين، وللمنايا إلى ناديهم منادين. فاستطرد من حضر من العرب واليزكية قدامهم، واظهروا أنهم قد ظهروا عليهم وهربوا ورهبوا إقدامهم. وما زالوا ينهزمون وهم وراءهم، يقوون فيهم رجاءهم، حتى أبعدوهم عن المأمن، وعبروا بهم عن المكمن. فخرج عليهم الكمين من خلفهم، وفتح عليهم أبواب حتفهم، واروهم وجوه المنايا في مرايا غرر الجياد، ونزعوا عنهم لباس الجلد الجلاد. فلقوا البيض بالبيض، وفلحوا الحديد بالحديد، وأشعلوا نار الظبا في ماء الوريد. وفضوهم بالفضاء، وعروهم بالعراء، ولتوهم باللتوت، وبتوا أعناقهم من حبل الوتين المبتوت. فلم ينج منهم ناج، ولم يبق منهم للبقاء راج. وأسرت عدة من مقدميهم، ومعروفيهم ومحتشميهم. وكانت هذه بحمد الله نوبة بغير نبوة، وكرة بغير كبوة، وغزوة آنت بأوفر حظوة، ووقعة أدنت بل أجنت كل نصرة نضرة عذبة حلوة. والحمد لله الذي تزكو أنعمه بسقيا الحمد، وتوضح عوارفه لساكريها جدد الجد. ولولا مرضنا في النوبة الأولى التي خرجوا فيها بأجمعهم؛ لما نجوا بحشاشتهم بل تعجل مصيرهم إلى

ذكر هجوم الشتاء ومقام السلطان على الجهاد وعود من سار من العساكر إلى البلاد على رسم الاستراحة والاستعداد

مصرعهم. لكنا ما قدرنا في ذلك اليوم على الركوب، وجلسنا على تلعة قريبة من المعركة ننتظر ما يكون من العسكر المندوب، والآن بحمد الله قد توفرت حصة الصحة، ولزمت منة المنحة. وكذلك مرضنا عام أول شهرين، والحمد له على المهلة في السنتين. فأقمنا مع السقام، وسقمنا في المقام. وصبرنا وصابرنا، وجاهدنا وجاهرنا. ومقامنا في هذه المدة المديدة في بلد الغور، والوخم فيه يقضي على ماء الصحة بالغور. وما منا إلا من التاث، فأعانه الله بغيث فضله المديمة ديمته الالثاث، والحمد لله الذي أعان وأغاث. ذكر هجوم الشتاء ومقام السلطان على الجهاد وعود من سار من العساكر إلى البلاد على رسم الاستراحة والاستعداد ولما تشتت شمل الصيف الرفيق؛ بشمول الشتاء العنيف؛ وانحرف حريف الحريف؛ كانحراف مضيف المصيف؛ واشتعلت رؤوس الجبال شيبا للثلج؛ وحل الوحل جيشه المجر بالمرج، والتحفت كل هضبة يبرد البرد؛ واكتست الغدران من الجليد بالزرد السرد؛ ولبست سود الذرا بيض الفرا؛ وجر السيل الذيل وجرى؛ وطمر المطر هوادي الوهاد؛ وقبض أنامل الأنام عن البسط للجهاد، وجمد الخمر؛ وخمد الجمر؛ وارتعدت الفرائض، وارتدعت الاخامض، وقرست الأيدي، وأمسى الجو بالجوى المسيء يعدو ويعدى؛ وحل الهواء بالوهاد عقود القوى؛ وعقد المترفون على حب الاصطلاء الحبا؛ واشتغل الملوك بملازمة المشاتي؛ ومنادمة المواتي، ومناقلة المناقل، ومعالقة العقائل ومعاقرة العقار؛ ومسامرة السمار؛ ومداناة الدنان؛ واجتناء الجنان؛ ومناغاة الغواني؛ ومناجاة المثالث والمثاني؛ وملابسة السوالف والسلاف وملامسة اللطائف واللطاف: فلت نار عزم السلطان حد الشتاء العاتي؛ ووقف مع عزائمه الماضية وهجر من مشيي إلى المشاتي. وما صده البرد عن مقصده، ولا رده عن مورده. ولم يحتفل باحتفاله، ولم يبال ببلاله. ولم يكترث بكارثه، ولم يحدث أمرا لحادثه. فاعتاض الاصطلاء بحر الحرب عن الاصطلاء بناره، وجرى على عادته في مصابرة الأعداء والجري لها في مضماره. وما لها عن الله ولا رفض فرضه، وسما إلى سماء الآلاء وأرضاه لما طهر بدم أنجاس أعدائه أرضه. واستمر على بذل جهده في الجهاد، ووفى بعهده ولم يثنه جفاء العهاد. وقال: إنما أربأ بهذا الأرب، وأرى راحتي في هذا التعب. ويقيني يقيني في ثلج صدري بلطف الله عنف الثلج، وما يبرد قلبي مع تقلب الحر والبرد إلا برد النصر والفلج. لكنه رأى أن مقام العساكر بجمعها وصرفها عن

فصل من كتاب إلى صاحب الموصل عند عود ولده إليه وينعت بالملك السعيد علاء الدين

العود إلى البلاد ومنعها، يوذن بملالها، واختلال أمورها وانحلالها. والفرنج قد أمنت غائلتها، وتكفي في مداومة قتالها في نوبها مقاتلتها. فأذن للجماعة في الانصراف على المواعدة في المعاودة في الربيع، والرجوع إلى مراد الروع المريع. وليأخذوا أسباب الاستعداد لأوقات الاستدعاء، وليستكثروا من الرجال المحققين في نصرة الحق للرجاء، من أهل الغنى والغناء، والمضارب والمضاء. فسار صاحب سنجار - عماد الدين زنكي - خامس عشرى شوال يوم الاثنين، وتلاه صاحب الجزيرة - ابن أخيه سنجر شاه - ليكونا مصطحبين. وسار بعدهما - ابن صاحب الموصل - علاء الدين غرة ذي القعدة وما انصرفوا إلا بالتشريف والخلع المعدة. وشيعهم السلطان بكل مكرمة شائقة شائعة، وخلعة رائقة رائعة. ومستعملات مصر، ومصوغات تبر. وخيل عتاق، وخير وإطلاق. فصل من كتاب إلى صاحب الموصل عند عود ولده إليه وينعت بالملك السعيد علاء الدين ما كان أسعدنا بقرب الملك السعيد؛ وما أجد بإنارة نوره، وأوفر حبورنا بحضوره، وأصدق شهود صدق ولائه بحكم شهوده! وما أبهج الإسلام بنصرة ناصره؛ ونجده وليه وودوده! ولقد تمت بأيامن أيامه وبركات مقامه في العدو نكايات، وظهرت لأولياء الله من ألطاف كفاياته آيات، ووقعت بالمشركين روعات، وراعت وقعات. وقد أردنا أن نستظهر بمرافقته، ونبني الأمور على موافقته. فما أيمن سعده، وما أسعد يمنه! وما أوقر وزنه، وأغزر مزنه! لكنا عرفنا شوق المجلس إلى اجتلاء سناه، بمقتضى آدابه التي استكمل بها أدوات الارتقاء في مطالع علاه. فقد فاق بسداد رأيه الكهول، وما أزكى الفروع الطيبة إذا أشبهت الأصول. وما أسعد الملك بالملك السعيد علاء الدين، أدام الله علاءه، وسر بفضائله أولياءه. وقد توجه والقلوب معه متوجهة، والنفوس لغيبته متكرهة، والعيون لترقب ورود البشائر عنه متنبهة، والأيام لظلمة الاستيحاش بالليالي متشبهة، والموارد إلى أن يمن الله بعود الأنس بعودته مستنهة، والألسن بذكر أخلاقه الطاهرة والإفاضة في شكر محاسنه الزاهرة متفوهة. والخواطر فيما تمثلته أيام الاستسعاد به من مبهجات آلائه متنزهة. ولا شك إنه يصف بلهجته الفصيحة، ما اقتناه من المتاجر الربيحة، وقدمه من المساعي النجيحة، واستنجحه في الغزاة من مغازيه الصحيحة، وأبداه في البأس من بسالته المشيحة. واطلعه في ليل العجاج من صبيحة بهجته الصبيحة. وله في كل نصرة وهبها الله للإسلام أوفى نصيب، فقد أصمي مقتل الكفر بكل سهم مصيب، وهو لمسترخ الهدى أسبق ملب وأسرع مجيب، وإن الله له بسفور صبح سعادته ووفور نجح إرادته افضل مثيب.

ذكر ما تجدد بعد ذلك في هذه السنة

ذكر ما تجدد بعد ذلك في هذه السنة لما هاج البحر وماج؛ واظهر الارتجاج والانزعاج، نقل الفرنج سفنهم خوفا عليها إلى صور فربطوها بها، وأخلوا ساحل عكاء من إرعابها وإرهابها. وخلا لنا وجه البحر، وغابت عن الساحل مراكب الكفر. فاشتغل السلطان بإنفاذ البدل إلى البلد، من الثابتين في الجلاد على الجلد. فانتقل الملك العادل بمخيمه إلى جانب الرمل، ونزل نهر حنيفا في سفح الجبل، لتسهيل طريق من يسيره إلى البلد من البدل. فإن المقيمين في عكاء شكوا أمراضا معترضة، وأعراضا ممرضة. وكثرة السواد، مع قلة النفقة والزاد. وكان في البلد زهاء عشرين ألف رجل من أمير ومقدم وجندي، وأسطولي وبجري. ومتعيش وتاجر وبطال، وغلمان ونواب وعمال. وقد تعذر عليهم الخروج فسكنوا، وإذا عاينوا خوفا على الموضع موهنا عاونوا وما وهنوا. فرأى السلطان أن يفسح لهم في الخروج رفقا بهم ورأفة، وما أفكر أن في ذلك مخافة وآفة. فقد كان فيه أمراء أمروا الأمر، وألفوا الصبر، وما تعوا الحصر، واجترءوا وتجاسروا، وصبروا وصابروا، وحاربوا وحربوا، وجاروا وجربوا، وزالوا وأزالوا، وحاولوا وأحالوا، وعرفوا مكامن المكايد، وكشفوا كوامن المقاصد. وأخذ كل موضعه في الحرص على الحراسة؛ وشاعوا بالسماحة والحماسة. وكان فيهم من يطعم وينفق، ويجمع الرجال وقلوبهم بما عليهم يفرق، مثل حسام الدين أبي الهيجاء السمين، فإنه أنفق ما ادخره من الألوف والمئين. مستمرا على إنفاق، لا تعتريه فيه خشية إملاق. وهناك ستون أميرا ومقدما، وكلهم يرى المغرم في سبيل الله مغنما. وكانوا ينتفعون بالعوام وكثرة الناس في جذب المجانيق، والإعانة على ما يتفق في الحصر من التضييق. فلما خرج الخواص خرج معهم العوام، وتبدد بتبدد نظمهم النظام. والزم السلطان جماعة من الأمراء بالدخول، فخدموا على أن يعفيهم بالبذول. فلم يقبل منهم بذلا، والزم بنقل الازواد لبعض سنتهم كلا. فلم يدخلوا إلا بعد لاي، وقد بلغوا في غي الرأي إلى أقصى غاي. وأكثرهم صرف رجاله المعروفين المستخلصين، وامتنع بمن استجد استخدامه من المسترخصين. وأذهبوا الأيام بالمدافعة، وأبطئوا عن فرض المسارعة. والملك العادل هناك يحثهم ويحضهم ويحرضم، ويعينهم على تحصيل المراكب لهم وينهضهم. حتى لم يبلغ من دخل عشرين أميرا مقدمهم الأحمد سيف الدين المشطوب على بن أحمد. وأمر السلطان بالمناداة في الأبطال البطالين، ليحضروا لقبض النفقات؛ وكان يحضر الجاووش في كل يوم مئين، ويصبح نواب الديوان في أمرهم مرتبين. لحرصهم على توفير الدرهم، وبخلهم بالنفقة ويعدونها من المغرم. ومعظم من نصارى مصر، ومن هو مصر في نصرة النصارى، وفي تعسير ما يجب تسهيله وتعقيد ما يحب تحليله؛ لا يجارى ولا يبارى.

وكل واحد منهم للقبط قطب، وفي الخبط خطب. وللشر شرك، وفي الحس حسك. وللمشرك مشارك، وللدين تارك فارك. ولهم أخلاق أخلاق، وطباع بالطبع إغلاق. تأوي للبخل والتبخيل إلى التأويل، وتقلي لتكثير السوء في الخير سوى التقليل، وهم جالبون للغي، طالبون للبغي، كاسبون للذم، مناسبون للضم. والمسلم فيهم متولي الخزانة، يرى الشح بما يجود به السلطان من الأمانة. وأصنعهم في الكفاية عندهم امنعهم للاطلاق، وأعذقهم بالحذق أقذعهم، وأعقدهم للحق أقدعهم. وأجودهم ارداهم، وأضلهم أهداهم. وهم متفقون فيما بينهم على الخيانة، مختلفون في الظاهر لإبداء الصيانة. وكان يحضر هؤلاء البطالين واستخدامهم، ويوحشونهم بخطابهم وينفرونهم بكلامهم. ويقابلونهم بالجبة، ويعاملونهم بالنجه. ويواجهونهم بالسوء ويسوءونهم في الوجه. ويشتطون في طلب الضمان. ويشترطون ما ليس في الإمكان ويطردونهم بقبيح الزجرة، ويكسونهم في صحيح الأجرة. والسلطان يجود جود السحاب، ويأمر بالعطاء الحساب، ويجد حث النواب، ويجد في بعث الأصحاب، ويقول: أنفقوا ولا تخشوا إقلالا، وانهضوا الرجال خفاقا وثقالا، ولا تؤخروا شغل اليوم إلى غد إمهالا أو إهمالا. ولا تقدموا على هذا الفرض فرضا ولا نفلا، ولا تعتقدوا أن لنا أهم من هذا الشغل شغلا. ونواب الديوان على عادة جهالتهم، وعادية ضلالتهم. فما قبل العطاء غير مضطر فقير، وما دخل الثغر الا قليل من كثير. وما صح من البدل إلا بعضه، وما قضى حق الواجب المتعين فرضه. وكان هذا من أقوى أسباب الضعف، وأوفق دلائل الخلف. وسيأتي ذكر ذلك في موضعه في سنة سبع، فإنه عاد كل ما دبر بضرر على الثغر لا بنفع. وأقام الملك العادل على البحر لإزاحة علل الداخلين، وإراحة قلوب الواصلين. حتى عاد الفرنج بمراكبهم، وانقطع بوصولهم الطريق من جانبهم. واقتنع البلد بمن إليه تحول، وعلى حفظه من الله بعصمته عول. وبتاريخ يوم الاثنين ثاني ذي الحجة، صلت من مصر بالغلة بطس سبع. وكان لها للحاجة إليها وقع، وقيل قد تم بها للجائعين شبع. وانقلب أهل البلد إلى البحر لمشاهدتها، ومعاونة جماعتها ومساعدتها. ونقل ما فيها من بضائع وحوائج، وسلع روائج. ومأكول ومطعوم، ومشروب ومشموم. فقد طال بذلك كله عهدهم، وانتهى إلى الغاية جهدهم. فلما تسامعوا بالبطس؛ تسارعوا إلى الملتمس. فعلم الفرنج بانقلاب أهل الثغر إلى جانب البحر فزحفوا زحفا شديدا، وحملوا جندلا وحديدا. وأتوا بسلالم لينصبوها على الأسوار، وصارت عكاء وهم حولها كالمعصم في السوار. وترقوا في سلم واحد متزاحمين، وللضيق متصادمين. فاندق بهم السلم المنصوب.

وسطا بعصابتهم المعصوب بها النصب سوط العذاب المصبوب. وتدارك الناس، وتلافوا وتلاقوا، وتعاطوا كؤوس وتساقوا. ورأوا غمرات الموت فزاروها، وداروا حول رحى الحرب وأداروها. واستحلوا شهد الشهادة فشاروه، وألفوا الأجل كامنا فأثاروه. وتواثبوا عليهم تواثب السباع على الضباع، ورفعوا لقرى العواسل الجياع نار القراع، وأطالوا بشبا العوالي للعوافي باع الإشباع. وأنبعوا عيون النجيع من عيون الجميع على جداول البيض، وأفاضوا فيوض الدم القاني بالصارم المفيض. وقتلوا وسفكوا، وفتكوا وهتكوا. وردوهم على أعقابهم ناكصين، ومن حسابهم ناقصين. ولأشغال الناس بكشف ماعرا من الغمة؛ وأظل من الظلمة؛ والتهائهم بثقل الغلة، عن نقل الغلة؛ وتركوا البطس بحالها، مملوءة بغلالها، حتى هاج البحر فضرب بها الحشف، وأذهب بكسرها كل ما فيها واتلف. وغرق من كان فيها، واتى الغرق على الأمتعة التي تحويها. حتى قيل هلك بها زهاء ستين نفسا، عدموا ولم نجد لهم حسا. ناموا والقدر منتبه، وذهلوا وحكم القضاء إليهم متوجه. وفي ليلة السبت سابع ذي الحجة وقعت قطعة عظيمة من سور عكاء على فضيلها فهدمته؛ وثغرت الشغر وثلمته. فبان منها الضوء لأهل الظلمة، فتبادروا إليها طمعا في هجم الثلمة. فجاء أهل البلد وسدوها بصدورهم، وصدوا عنها بنحورهم. وبنوها بأبدانهم إلى أن بنوا ذلك البدن، وعمروا ما خرب وثقوا ما وهن. وقتلوا وجرحوا من العدو خلقا، وأوسعوا بالمضايقة في كل ذي خرقا، فانجلت الحرب عن طريح صريع، وجريح إلى الهزيمة سريع، وطليح للعقير قريع. وعاد الثغر أقوى مما كان وأحكم، وكل ذلك بجد بهاء الدين قراقوش حيث كان المقدام المقدم. وهذا الأمير قراقوش لما ضجر الأمراء وضجوا؛ وطلبوا الخروج ولجوا؛ أقام ولك يرم، ولم ينحل عقد ثباته ولم ينخرم. وفي ثاني عشر ذي الحجة هلك ملك الألمان بمرض الجوف، ولعله من عرض الخوف، وأدرك أباه في الدرك الأسفل من النار، وأبصر في جهنم مصاير أمثاله من الكفار. وزاد بهلاكه ألم الألمانية، وانسدت بموته فرج الفرنجية. وتبعه في السفر إلى سقر؛ كند كبير يقال له - كند تيباط، دافع القدر فما قدر. وهلك منهم بالأمراض المختلفة العدد الكثير، واشتعلت بهم الجحيم واشتعلت عليهم السعير. وفي يوم الاثنين ثاني عشري ذي الحجة عاد المستأمنون من الفرنج الذين أنهضهم السلطان في براكيس، ليغزوا في البحر ويكونوا ايضا لما جواسيس. فرجعوا وقد غنموا وغلبوا، وكسروا وكسبوا، وسروا وأسروا، وقسروا فظفروا. وذكروا أنهم وقعوا بحراقة كبيرة ومعها براكيس، وفيها تجار فرنج ومعهم من المال الجليل النفيس.

وأسر التجار وأخذ المال وحيزت تلك المراكب وجذبت إلى الساحل، فإذا هي مشحونة الكرائم الجلائل. من كل آنية مطبوعة ذهبية، وحلية مصوغة نضارية، وآلة فضية، وأباريق وأكواب وأقداح، وأطباق وموائد وسبائك وصفاح، وكاسات وطاسات، ومرافع وشربات. فوفر السلطان عليهم هذه الاكساب، ولم يحرمهم حيث حرموا لكفرهم الثواب. وأظهروا لهذه النهضة أنهم مناصحون، وليمين الإيمان مصافحون. فلما أكرموا بتلك المكرمة؛ أثنوا على اليد المنعمة. وأسلم منهم شطرهم، وحسن بيننا ذكرهم. وببركات الكرم السلطاني كرموا، وأنسوا وأسلموا وكانوا قد أحضروا برسم الهدية مائدة فضة عظيمة وعليها مكبة عالية، ولها قيمة غالية. ومعها طبق يماثلها في الوزن، ويتعذر وجود ذلك للملوك في الحزن. ولو وزنت تلك الفضيات قاربت قنطارا، فما أعادها السلطان طرفه احتقارا. وقال لهم: خذوها فأنتم بها أولى. وكان أول من أسدى هذا المعروف وأولى. وكنت عنده جالسا، وبلطفه مستأنسا، فقلت له: ما أظن في الوجود ملكا يسمح بمثل هذا المال، خصوصا وقد أغنمه الله من الحلال. فتبسم لقولي غير معجب به، وما قضيت العجب مما قضاه كرمه من أربه. وفي الرابع والعشرين من ذي الحجة أخذ من الفرنج بروكوسان فيهما نيف وخمسون نفرا، فجلا لنا نصرا، وعلا نجحا وحلا ظفرا. وفي الخامس والعشرين منه أخذ أيضا بركوس، فيه من الفرنج مقدمون ورءوس. وهم وعشرون؛ منهم أربعة خيالة، ضمتهم من الأسر حبالة ومعهم ملوطة؛ مكللة باللؤلؤ منطوطة، وبأزرار الجوهر مربوطة. قيل أنها من ثياب ملك الألمان، وأسر فيه رجل كبير قيل إنه ابن اخته؛ وهو كبير الشان. وفي هذا الشهر قدوم القاضي الأجل الفاضل، رب الفضائل والفواضل من مصر؛ فأشرقت المطالع، وأشرفت الصنائع. وبشرت المطالب بنجاحه، وغزرت المواهب بسماحه. وغابت بحضور مكارمه المكاره، ونزع بلبسه أفضاله لباس الخمول ذوي الفضل النابه، وأعاد روح السلطان بإعادة الروح إلى سلطانه، وسر بمكانه، واقترن لحسانه بإحسانه. وظهرت في وجهه به الطلاقة، وفي قلبه العلاقة، وروى رأيه برى رايه، وتلقن آيات النصر من نص آية. وانتعش عثارى بمقدمه، وانتقش خط فخارى بكرمه. وحلى عطلى، وحيا أملى، وقوى عملي. ووضح منهاج مناي، وصح مزاج غناي. ونبه قدري، ونوه بذكري. وسعى في رفع رتبتي وزيادة راتبي، وسن غربي. اقرني وقربني، واستكتب الخطوط بالحظوظ كما كان استكبني. فعشت ونعشت، وفرشت بساط الغنى فرشت. ولولا أنني قويت به لأقويت، ولولا إنه أولاني عارفته لما عرفت ولا توليت، فأنا شاكر نعمه عمري، وعامر كرمه بشكري.

ذكر جماعة من المستشهدين في هذه السنة

ذكر جماعة من المستشهدين في هذه السنة استشهد في عكاء سبعة من الأمراء كل منهم سبع، ما في لقائه للقرن طمع. ومن جملتهم (سوار) من المماليك الخواص، ومن ذوي الاستخلاص وكان هذا (سوار) في كل حرب مياورا. ولكل هول مباشرا، وبكل بوس عبوس باشرا. فجاءه سهم عائر، فإذا هو إلى الجنة سائر. وكذلك عدة من أمراء الأكراد، كانوا من الآساد، فازوا بحظ الاستشهاد. وخرج أسطولنا في هذه السنة، بشوانيه المعجمة المحسنة. ليكبس شواني الفرنج في مواضع الربط، وإحراقها بقوارير النفط. فخرجوا إلى شوانينا بشوانيهم ولقوا بعواديهم. وظفرت أساطيلنا وطالت، ووصلت إليها وصالت، ونالت من الظفر ما نالت. وأحرقت للكفر شواني برجالها، وغرقتها بأبطالها. وكان عند العود تأخر لنا شيني مقدمه أمير مبارز، كالأسد الخادر. لا يصحر إلا للفريسة ولا يبرز. وهو يعرف بجمال الدين محمد بن ارككز. فشين الشيني وشانه، وما أعانه أعوانه، وامتلأت بالأعطاب اعطانه، واضطربت للإنكار أركانه، واضطرمت بأهل النار نيرانه. فتواقع من فيه إلى الماء، واحترزوا من البلاء بالبلاء. ووقف الأمير على قدم جلده بجالد، ويجد ويجاهد، وقد أثقله بلبس البسالة الحديد، وخف به العزم الشديد السديد، وقد دعاه إلى أمنية المنية الذكر الحميد، والأجر العتيد. فما ارتاع للروع ولا استطاع الانقياد بالطوع. ولا مكن العدو من مكانه، وأخذ مع الشانئ بشنآنه. ولولا أن ملاحيه جبنوا وفروا، ومناصحيه خذلوا وما قروا، لجنى بسيفه ثمر النجلة، لكن الأجل قطع عليه طريق الحياة، فاجتمعت على مركبه مراكب الجمع، وسدوا عليه سبل البصر والسمع. وقالوا: خذ منا الأمان واستأسر، وهون الأمر عليك ولا تعسر ويسر. فالعاقل يختار البقاء على الفناء والوجود على العدم. وأنت في عين الهلاك أن لم تعطنا اليد وثبت على هذه القدم. فقال: ما أضع يدي إلا في يد مقدمكم الكبير، ولا يخاطر الخطير إلا مع الخطير. فسموا له كندا أرضاه، وأراد أن يشركه فيما الله قضاه. فلما دنا ليأخذه لزمه وعانقه. وقوى عليه وما فارقه. ووقع إلى البحر وغرقا، وترافقا في الحمام واتفقا، وعلى طريقي الجنة والنار افترقا. فارتوى الشهيد السعيد بماء النعيم، وصلى الكند الكنود بنار الجحيم. واستشهد أيضا في ذلك اليوم الأمير نصير الحميدي، جرح فمضى حميدا، وشهد مقامه في الجنة شهيدا، وسعى دهره حتى قضى سعيدا. ولم تخل وقائع هذه

السنة من استشهاد جماعة من أمراء العسكر، وسعداء المعشر، وكرماء المحشر، وندماء الكوثر، وحلفاء المفخر. واستشهد يوم تاسع جمادى الأولى (القاضي المرتضى ابن قريش الكاتب). وكان صدرا تتجمل به المراتب. وجريا جارى القلم، بليغا بالغ الحكم. مهيبا يخشى، مرهوبا لا يغشى. وهو في أهبة من المهابة، وكتيبة من الكتابة. صوبه في الصواب منتجع، وخطابه في الخطب مستمع. ولرأيه رى وريا، وتدبيره للأمور بتنفيذ الأوامر السلطانية دينا ودنيا. ولم يكن له في الكفاية كفء. ولم يزل لخروق الخطوب بقلمه رفء. وكان رجل دمشقي بنابلس له ملك بدمشق قد تركه، ورغب في ابتياعه (القاضي المرتضى) ليملكه، فتقاضى قاضي نابلس مرارا بإحضاره، فلما حضر رغبه في البيع على إيثاره، بأضعاف الثمن ونقد ديناره. فانفصلا على التراضي، ونجح سعي القاضي للقاضي. وبكر البائع إلى سلام المشتري، ووثب وثوب المجتري. وطعنه بمديته، وهو آمن في خيمته. وفتك به فتك اللعين أبي لؤلؤ بالفاروق، وخرج من الخيمة كالسهم في المروق. فلقي قاضي نابلس فقتله، ومضى يسلك سبله. فأدركه الناس وقتلوه، وكاد يفلت لو لم يعاجلوه، ففجع المنصب بمصابه، وناب عنه أخوه مع نوابه.

دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة

دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة ودخلت سنة سبع وثمانين، والشتاء لم يشمله شتات شمله، وعقد البرد لم يقرب محل حله. وللغيث عيث، ولزور الربيع ريث. وللسحب سح، وللضح شح. ولعين الشمس غض، ولوجه الغيم ومض، ولأيدي العارض بسط وقبض، ولنواظر البرق تنبه وغنض، ولنواجز البرد كشر وعض، ولفص الفصل ختم وفض. وكل صاد في بحر كانون كنون، وكل ماء بالجليد كأنه زرد مسنون. والأوحال أحوال، وللأهواء أهوال. وللشمال شمول، وما للقبول قبول. وللجنوب ذنوب، وللدبور في أدبارها وإقبالها هبوب. وللصبا صبابات وصبُابات، وللندى الندى جنايات وسرايات، وللجو الجوى آيات ونكايات. وللغمائم غماغم؛ ولهام الربا من هامي الرباب عمائم. وللنكباء نكبات، ولشبا شباط شبات. والرواعد رواعف، والهواتن هواتف. وللألواح رواح وغدو، وحركة وهدو. ومحبة وسلو، ونزول وعلو، ونصفة وعتو. وللرعايا العرايا من الرياح الحيارى رذايا اذايا، وخبايا المروج النابتة في زوايا الثلوج النازلة خفايا. والعواصف القواصف عواص غير قواص، والعارض عارض للحب في العراص عراص، والقوارس قوارص، والخوالس خوالص. والبحر في هيجانه، والغيم غي هطلانه. والسلطان مقيم بمخيمه على شفرعم، ولطف الله به قد خص وعم. والملك العادل سيف الدين نازل على الساحل عند نهر حيفا، لتجهيز البدل في المراكب إلى عكا. والسفن تدخل إليها بازواد، وتعود وترجع إليها بالأجند. ويحرص ويحرض، ويرسل إلى السلطان ويستنهض، والسلطان يفاوض النواب في ذلك واليهم يفوض. وفي كل يوم يعرض الرجال، وينفق فيهم الأموال. والأمر مستمر، والقرار مستقر. واليزكية زكية، وسنتهم في المناوبة سنية، ولوافح عزماتهم ذاكية ونوافح مكرماتهم ذكية. والمماليك الخواص، ومن خصهم وعمهم الاستخلاص؛ يغادون القتال ويراوحونه، ويكافئون العدو ويكافحونه، ويجاورونه ويجارحونه، ويبرحون به لا يبارحونه. والعدو على عكاء حاشد، ولضالة ضلاله ناشد. يحتمون ويحمون، ويرامون ويرمون، ويذبون ويشبون، ويخبون إلى الكفرة بسوط العذاب ويصبون. وقد قسموا الأسوار على الأجناد والأبراج على الأمراء، واستقبلوا النعمة في البلاء، والسعادة في المشقة التي تعدها الأشقياء من الشقاء، إن وجدوا غرة اهتبلوها، أو استوعروا كرة استسهلوها، أو صادفوا ملمة صدفوها، أو لقوا غمة كشفوها، أو صرفوا أوجههم إلى نائبة صرفوها.

ذكر ما تجدد من الحوادث وتكرر للعزائم من البواعث

ذكر ما تجدد من الحوادث وتكرر للعزائم من البواعث في يوم الأربعاء تاسع المحرم، سار الملك الظاهر لقصد بلد صافيثا؛ بالعزم المصمم، والرأي المحكم. وفي ثالث صفر؛ عزم من بقي من أصحاب الأطراف السفر. فإن السلطان رخص لهم في ذلك، فانتهجوا في عودهم إلى بلادهم المسالك. وأقام السلطان في أصحابه. وخواصه وملازمي بابه، وملابسي جنابه، ورجال رجائه، وخلص اوليائه، ومقربي أمرائه. وفي هذا اليوم رحل الملك المظفر تقي الدين ليتسلم ما في شرقي الفرات من البلاد التي كانت مع مظفر الدين، مضافة إلى ميافارقين. فصارت معه جبلة واللاذقية والمعرة وحماه وسلمية والرها وحران وسمياط والموزر وميافارقين. وشرط معه أن يحافظ على عهد صاحبي آمد وماردين. والبلاد المظفرية كانت قد بقيت إلى هذه الغاية. مع كثرة الطالبين لتلك الولاية. مضنونا بها على الخطاب، غير مسموح بشيء منها للطلاب. فإنه ما رامها من الملوك، أخي السلطان وأولاده، إلا من بشرط الفسحة له في استضافة ديار بكر إلى بلاده. ويقال له: لا سبيل إلى قصد أحد، ولا انتزاع بلد، ولا إزالة يد. فإن أرباب البلاد أكثرهم لنا معاهد، وعلى ودنا معاقد، وفي شغلنا مساعد. فأما من هو عنا متقاعد؛ ومنا متباعد؛ فما هذا أوان مطافأته، ولا زمان كف آفاته، وهو منا في حصر مخافانه. وهذا العدو الكافر شغلنا به مستغرق، وعزمنا في قمعه متحقق. فلا نثير علينا من المسلم الكاشح؛ والحاسد الحاشد؛ من يشغلنا عن هذا المهم الفرض، والرأي الراشد. فقال تقي الدين: أنا لي في ذلك الجانب ميافارقين، فإذا أخذت حران وسمسياط والرها؛ ادركت من تكثير العساكر وتقويتها المشتهي، وبلغت المنتهى. وأنا أدخل على الشرط وعنه ولا أخرج، وأجمع العساكر وإلى نصركم أعرج. وآتيكم بعد أشهر بأوفى عسكر، وأكرم معشر، من لابسي سنور، وملابسي مورد في الروع ومصدر. وما زال يسعف السلطان عمه، ويسترهف في تخصيصه الولاية عزمه؛ ويسأل ويتوسل، ويرسل ويتوصل؛ حتى أخذ دستوره، وأستكتب منشوره. وسار على إنه يسرع إيابه، وبحكم في العود أسبابه. وإنما يلبث ريثما يقسم تلك البلاد على مقطعيها، ويرسم ترتيب نوابه فيها. ثم يطلع علينا طلوع السحاب، ويأتي بالآتي العباب، ويعرض عساكر لا تدخل في الحساب. وسارع إلى الرحيل وسار، بعد ما استشار، والله استخار. وفي يوم السبت رابع صفر؛ وصل كتاب الملك المجاهد؛ الجواد الماجد؛ أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه؛ وهو الجري الذي إذا جارى أضرابه من الملوك في حلبة المجد لم يدركوه، ولم يشركوه. ومضمون الكتاب: إنه خرج في آخر محرم، على جشير

العدو بطرابلس واستاقه، ولم يطق الكفار لحاقه. واقتطع لخاصة منه أربعمائة رأس، تلف منها في الطريق أربعون، غير ما كان أصحابه منها يقتطعون. وأنه غنم أيضا أبقارا وآب قارا، وسار بالغنيمة سارا. وأهدى لي من ذلك بغلة سرجية، عالية فارهة فرنجية. وقال رسوله: لما أبصرها واستحسنها، قال: تصلح للعماد. فإنه إذا ركبها زينها. وفي ليلة هذا اليوم وهو السبت، كبت الريح سفينة للفرنج على ساحل الزيب وغالها الكبت، وكان فيها من الفرنج خلق، فغرق في بحر الأسر؛ من لم يسر إليه في البحر غرق. وفيهم امرأتان سبيتا، وما هديتا بل أهديتا. وشاهدت الأسارى قدام السلطان وقد أحضروا، فردهم على الذين أسروا. وفي أول ليلة من شهر ربيع الأول، خرج أصحابنا من البلد على العدو بالنائب الأعضل، والناب الأعصل. وكبسوه في مخيمه، وخيموا عليه في مجثمه. فما انتهبوا لهم حتى اسروا من الفرنج وقتلوا جمعا، وأوسعوهم إلى أن ضويقوا قمعا. وعادوا سالمين غانمين، كاسرين كاسبين. ومعهم اثنتا عشرة امرأة في السبي، وعرف الله لهم حق ذلك السعي. وفي الأحد ثالث هذا الشهر، شهر سلاح الحرب أهل الكفر. وخرجوا على اليزك، وكانت النوبة للحلقة المنصورة خواص السلطان مساعير المعترك. وعظمت الوقعة، وفخمت الروعة، وصدمت الصدعة، واحتدمت على الفرنج بنارها الصرعة. وهلك منهم عالم كثير، وقتل منهم مقدم معروف كبير، ولم يفقد منا إلا خادم رومي صغير. عثر به في الحملة فرسه فلم ينتعش، واستشهد ليعيش في الآخرة مع من في الدنيا مات في سبيل الله ولم يعش. وهذا الخصي كان فحلا من الفحول، ناهضا على الكفر للإسلام بحمل الذحول. وانتهى إلينا أن الفرنج على عزم الخروج ليحتشوا ويحتطبوا مما حولهم من المروج. فلا مرعى لدوابهم ولا علف، وأن لم يتلافوها لا لاحتشاش خشوا عليها التلف. فأمر السلطان أخاه الملك العادل أن يذهب ويقصد الساحل. ويكمن بعسكره وراء التل الذي كانت فيه قديما منزلته، وهناك نصرت وقعته ووقعت نصرته. ومضى السلطان بنفسه في خواصه وأجناده، وأقاربه وأولاده، فكمن وراء تل العياضية، في العصبة المنصورة الناصرية. وذلك يوم السبت تاسع شهر ربيع الأول، مستظهرا بصحبة ولده الملك الأفضل. ومعه أيضا أولاده الصغار؛ ليستأنسوا بالحرب، ويدمنوا على مباشرة الطعن والضرب. فعرف العدو الخبر، فما أقدم على الخروج ولا جسر. فضربت للسلطان على التل خيمة حمراء، فبات فيها وحوله الملوك والأمراء. ووصل إليه من بيروت خمسة وأربعون أسيرا من الفرنج، أخذوا بالمراكب في البحر من اللج. وفيهم شيخ هم هرم، عمره في الكفر منصرم. قد طعن في السن، ووهن

ذكر جماعة وصلوا من عسكر الإسلام

كالشن. وانحنى كالحنية، وما أمن من المنية. وتحاماه الحمام، وعامت في بحر لياليه وأيامه الأعوام. وهو ممسوخ الحلية، ممسوح اللحية. قد بلى مما بلى، وقلى من طول ما لقي. وسئم حياته وسئم، وعدم لداته ولذاته وما عدم. وكم جاوز قرنا وعبره إلى قرن، وبارز قرنا ونازله بعد قرن. حتى لم يبق منه إلا إهابه، ولم يرقب منه إلا ذهابه. فتعجب السلطان من مجيئه من البلاد الشاسعة، واختياره الضيق على الأرجاء الواسعة. فسأله كم بينه وبين وطنه، ولأي سبب حركته من سكنه! فقال: أما بلدي فعلى مسافة شهور، وإنما خرجت بقصد كنيسة القيامة لأظفر بالحج المبرور. فرق له ومن عليه بالإطلاق، وأخرجه من ذل الرق إلى عز العتاق. ورده إلى الفرنج راكبا على فرس، ولم ير قتله ولا أسره، حيث رأى نفسا مرتهنة بنفس. وسأله خدام أولاده الصغار؛ أن يأذن لهم في تجريب سيوفهم بجرح الأسارى الكفار. فلم يأذن لهم في ذلك وأباه؛ فأرضى كل منهم - بامتثال الأمر - أباه. فقيل له: لأي سبب منعتهم من ثواب الجهاد المغتنم؟ فقال: لئلا بجترئوا من الصغر على سفك الدم. فانظر ما تحت هذا القول من الرأفة والكرم. ذكر جماعة وصلوا من عسكر الإسلام أول من قدم من العسكر الإسلامية علم الدين سليمان بن جندر، وكان بحلب المقدم المؤمر، وهو شيخ له رأى وتجربة، ومنزلة كبيرة ومرتبة، ومعه حصنا عزاز وبغراس. وللسلطان بقربه ومجاورته الاستئناس. فقدم في شهر ربيع الأول في عسكره، وأبيضه وأسمره، وبيضه ومغفره، وجنى جنده وسنى سنوره. وجلبه ولجبه، وزمره وعصبه، وبيارقه ويليه، وبوارقه وسحبه. وقدم في ذلك التاريخ بقدمه الملك الأمجد مجد الدين يهرام شاه صاحب بعلبك، وقد استصحب معه مماليكه الترك، وقد نوى بالمشركين الفتك، ولسترهم الهتك، ولدمائهم السفك. فوصل بقواطعه وقواضبه، وصوافنه وسلاهبه، وطلائعه ومقانبه، وحضر من المحاسن بكل ما يعرب عن مناقبه. وقد زين ليل القساطل من أسنة العوامل بكواكبه، وأظمأ جواده ليرد به دماء أهل الكفر، فإنه يعدها من مشاربه، فعن ذلك اليوم من القادمين والمستقبلين بذلك القضاء؛ جيش زررت الربا عليه جيوبها وغطته من العجاج بأرداء، وجرى ذلك الوادي من الأجناد والأمراء بسيل خيل ترد دأماء الدماء. وخرق ذلك الخرق أرعن في حافاته الخرق، ومن عاداه بعداته الحرق، ومن آفاته عند موافاته من فرق الكفر الفرق، ومن علاقته عند الظماء أن لا يرويه إلا العلق، ومن صبابته بالسير إلى عناق الأعداء بسواعد سيوفه الخبب والعنق. ومن شيمته عوض التغلف بالعبير التضمخ بالنجيع، ومن ديمته وبل

ذكر وصول ملك افرنسيس لنجدة الفرنج على عكاء واسمه فليب

النبل من الأحداق والنواظر في نواضر حدائق الربيع. ومن صنعته أسماء حنين بسهمه، وأسماع أنين المنية لخصمه. وجلونا في ذلك اليوم فوارس لا عرائس، وقوانس لا عوانس. ذكر وصول ملك افرنسيس لنجدة الفرنج على عكاء واسمه فليب وفي ثاني عشر ربيع الأول وصل ملك افرنسيس إلى القوم وصان حبلهم وشملهم من البت والشت، وكان وصوله في بطس ست، حملت من الفرنج كل ذي شؤم ومقت. وقد كانوا يهددون بوصوله وصوله ويقولون لنا من تهديده ووعيده ما يجري على قوله. وأنه إذا جاء؛ حكم وأحكم، ونقض وابرم، وقدم ما قدم به من المال وأقدم. ونحن منه على مواعدة، فهو يأتينا بكل نجدة مياعدة، وجدة عن الفقر مباعدة. فقلنا لهم: رب صلف تحت راعدة، وما هذه الأراجيف منكم بواحدة. فلما وصل في العدد القليل، والنظر الكليل، أعجبتنا قلته، وتشابهت عندنا عزته وذلته. وقلنا: ما يكاد تصل صولته، أو تدوم دولته. نادرة وكان مع هذا الملك باز أشهب، كأنه عند إرساله نار تتلهب. ففارقه يوم وصوله، بحيث عجز عن حصوله. وأفلت من يده وطار، وحشا حشاه الباز الذي نار النار. ووقع على سور عكا، وحزن الملك يوم سروره بفراقه وأبكى. واستجابه فما استجاب، وأبى وما آب، وثبت وما ثاب. فبصر به أصحابنا فأخذوه، والى السلطان أنفذوه. فأبدى للسرور به الاهتزاز وجمل بتشريفه بزة من بز الباز، وأظهر به احتفالا، وعده للظفر والمنحة فالا. وبذل فيه الملك ألف دينار فما أجيب، ولا وهب له ولا هيب، وما بيع ولا عيب. خبر نادرة في غنيمة وافرة كان المستأمنون من الفرنج الينا، تسلموا براكيس يغزون فيها ويجرون بجواريها، وينهضون بسواريها ورواسيها، وينهشون بعقاربها وأفاعيها. ووصلوا إلى ناحية من جزيرة قبرس يوم عيدهم، وقد جمع القس في كنيسة لأهلها شمل قريبهم وبعيدهم. فصلوا معهم فيها صلاتهم، ثم أغلقوا أبواب الكنيسة عليهم ليأمنوا إفلاتهم. وأسروهم بأسرهم وسبوهم، وبغتوهم من البلاء بما أتوهم وبلوهم. وكنسوا كل ما

خبر وصول ملك الانكتير واسمه ليجرت إلى قبرس واستيلائه عليها

كان في الكنيسة، من الأعلاق النفيسة. وقسوا على قسيسهم وعادوا بها وبهم إلى براكيسهم. ولاذوا باللاذقية وباعوا بهل كل ما أخذوه من لبيعة. ومن الجملة سبع وعشرون نسوة سبايا، وصبيان وصبايا. فباعوها رخصا، واقتسموها خرصا، وزادوا بما نالوه حرصا. واستغنوا بما استغنموه. وأثروا بما أثاروه وأثروه. وفرحوا بما راحوا به من مغنم، وقيل حصل لكل واحد منهم على كثرتهم أربعمائة درهم. وفي سادس شهر ربيع الآخر هجم جماعة من العسكرية السرية فاقتطعوا قطعيا من غنم الفرنج غنيمة، وخالطوهم في خيامهم وأمطروهم من وبل النيل ديمة. وركبوا بأسرهم، بخيلهم ورجلهم في إثرهم، فلم يظفر بطائل، ولم يرجعوا بحاصل. خبر وصول ملك الانكتير واسمه ليجرت إلى قبرس واستيلائه عليها وصل الخبر أن ملك الأنكتير وصل إلى جزيرة قبرص في السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر في الجمع الوافر، حاملا جمعا كالسيل الجارف في البحر الزاخر. وتقدمته إلى الجزيرة، مراكب وشواني على قصد الجريرة. فخرج صاحب قبرس اليها، واستولى عليها، وغنم أموالها، وصدم رجالها. فلما وصل أرهف حد عزمه، وأقضى فيض غيظه إلى غيض حلمه، وهو مغتضب غير مغض، مريض من ألم الحقد ماله سوى التشفي شاف مرض. فلبث مفكرا، ومكث متحيرا، وتروى متخيرا فرأى أن قبرس في يده، فاستن من جده في جدده. وناشب القتال، وواظب النزال، وقارع بالنصال النصال. وحلت المنايا حباها لاحتباء البيض بالأعناق، واعتناق الغلاظ مع الرقاق. ونفذ يطلب من الفرنج على عكاء نجدة، ليجد شدة ويوجد شدة. فنفذوا له جفري أخا الملك العتيق، في جموع مترافقة الرفيق. وامتدت الحروب، واشتدت الكروب. ورأى أن فريضته تعول، وأن حالته تحول، وأن شغله يطول. واتفق أيضا إنه كان رام الروم من الفرنج الفرج، وخطب كل واحد من ضيق الخطب المحرج المخرج. فتراسلوا في الصلح، وخرجوا من ليل الحرب المظلم في سني السلم إلى أسفار الصبح. واجتمع صاحب الجزيرة بملك الأنكتير، واثقا بما تم من التقريب والتقرير. وحمل له هدايا، وتحفا سنايا. ووسع له الازواد، وبذل الإمداد. فأخذه في مأمنه، وابرز له مكره من مكمنه، وغله ثم غله وشده وما حله، وجازاه لما أعزه بأن أذله، وغادره بغدره في القد والقيد، وما بطشت يد عادمة إلا يد كيد الكيد. واستولى بالاستيلاء عليه على تلك الجزيرة، وغرق في جمات أمواله الغزيرة. وسيأتي ذكر وروده وما تم به لأحزاب الشيطان وجنوده. وبتاريخ انسلاخ شهر ربيع الآخر يوم الأحد، وصلت من ثغر بيروت كتب مبشرة

وبالنجح المتجدد، وهو أن أصحابنا أخذوا عند الثغر بمراكبهم الغازية في البحر من مراكب الانكتير خمسة وطرادة، ولم تكن لولا إباء رجالها للضيم معتادة، ولخزام القهر مقتادة. وكان فيها خلق كثير من نساء ورجال، وذخائر أخاير من عدة ومال، وأثقال وأنفال، وأخشاب وآلات وأحمال وأحوال. وفي الطرادة أربعون رأسا من الخيل الجياد، قد جلبوا البلاء بجلبها من البلاد. فحيزت وحيزوا وأجيزت إلى بيروت وأجيزوا. فأما السبايا فقد أخرجن على البيع بالنقود والنسايا، وأما الأسراء فقد عمتنا بخصوص ضرائهم السراء. وفي يوم الخميس رابع جمادى الأولى زحف العدو إلى البلد، بالجد والجلد، والعدد والعدد، والمدى والمدد، والجمع المحتشد، والجمر المتقد. والبيض واليلب، والبيض والقضب، والسمر السلب، واللجب والجلب. والصياح والضجيج، والعجاج والعجيج، والوشيج بالوشيج، والأمر المريج. والقصد بالقصد، والزغف والزرد. والحديد والعديد، والقريب والبعيد، والاتباع والعبيد. والأوباش والأوشاب، والكلاب والذئاب، والسباع والضباع، والضواري الجياع. والأساود والأسود، والزرق والحمر والسود. ودبوا وذبوا، وشبوا وسبوا وصابوا وصبوا، ونابوا ونبوا، وعبوا وعبوا وجابو وجبوا، وزحموا ورجموا، واقدموا وتقدموا. وقدموا سبعة مجانيق وقربوها، ونصبوا فيها ونصبوها. فعلت كأنها قرع، وارتفعت على التلاع كأنها تلاع. وهي في الجو مترامية، وبالجو رامية، وفي السماء سامية، ولأهل النار الحامية حامية. مرتفعة على مرافعها، مقتلعة بمقالعها. منقضة أحجارها لانقضاض الجدار، منفضة اسواؤها لانفضاض الأسوار. حاصرة حاصبة. عاملة ناصبة. قائمة قاعدة، بارقة راعدة. صادمة صادعة، صارمة صارعة. حبالى من الجبال اجنتها، وحنايا للحنين على سهامها من الحجارة رنتها. ومواضع في حجورها الأحجار. ومرابع تنهد بدوائرها الربوع والديار. حوامل على الطلق، صوائل بالفلق على الخلق. مطايا للمنايا، روايا الخباياها البلايا. في كفاتها آفاتها. وفي حركاتها ادراكاتها، وللتعذيب عذباتها، وللترهيب جذباتها، وما أعظم جنايات جنادلها، وأظلم غوايات غوائلها. وهي الروائم الروامي، والحوائم الحوامي. والهوادم بالهوادي، والصوارم للصوادى، ودواعي العوادي، ونواعي النوادي. والنواعب بالنوى، والجوائب بالجوى. والصوائب بالمصائب، والنوائب بالشوائب. إذا جذبت جذت، وإذا قذفت أقذت، وإذا طوحت طرحت، وإذا حلقت حلقت. وإذا اطارت ابارت، وإذا ألقت ألقمت. فشق على أصحابنا بالبلد شقاقها، وكادت تفتح إليه الطرق طوارقها وطراقها. فاستصرخوا بنا واستنهضوا، وحضوا على حظنا وحظهم وحرضوا، واستنفروا واستنصروا. واستعدوا واستدعوا. فأصبح السلطان راكبا في

قصة الرضيع

العساكر، طالبا شغل العدو الكافر، الحاضر الحاصر. وسير من كشف هل للعدو كمين، أو كيد دفين. ثم وقفت العساكر عنه ومر إلى تل الفضول بالقرب، وشاهد المجانيق وكيفية رفعها والنصب، ونكايتها في الضر والضرب. وعرف أماكن القتال، ومكامن الرجال، وكلما شاهد الفرنج عسكرنا قد أطل وأظل، ذل جمعهم وكل، وترك الزحف وانفل. وإذا عاد عادوا وعدوا، وأناروا في الحرب وأسدوا. قصة الرضيع كان لصوصنا في الليل استلبوا طفلا من يد أمه، وفطموه رضيعا له ثلاثة اشهر في غير فطمه، واستحلوا بحكم الجهاد في جنح الظلام جناح ظلمه. وفجعوها بواحدها وساعدها، وكدروا صفو مواردها. وقطعوا عنها كبدها، وأسعروا عليها جذوة كمدها، وحرموه در لبنها فدر دمعها. وأبعدوه عن مناغاتها ومناجاتها، فوقر عن كل حديث سمعها. فخرجت والهمة، وللحياة كارهة، وللخد خادشة، وللوجه خامشة. معواة مولولة، مذهلة مشتعلة. قد شدهت ودهشت، وتلهت واستوحشت. قد سلب عقلها، مذ سلب طفلها. وغاب ذهنها، مذ غاب ابنها. وتكرر بالحنين والأنين ترجيعها، وتردد للقلوب مما فجأها، وفجعها من الكروب تفجيعها. وهي نائحة في كل ناحية، نادبة في كل ناد، نادية لكل فؤاد، عادية في كل واد. فلم يشعر السلطان إلا بامرأة بالباب واقفة، وبالنحيب هاتفة. وللدموع حادرة بتصاعد أنفاسها، ومن الخلق مستوحشة لذهاب استئناسها. قارضة صدرها بتقطيعها، ضارعة لفقد رضيعها، معولة على اطفل معولة على اللطف، متنكرة من النكر متعرفة إلى العرف. فأحضرها السلطان وهي باكية، ونار اكتئابها ذاكية. تتحدر عبراتها، وتتصعد زفراتها، وتتلهب حسراتها. تبكي ببكائها، وتشتكي من دائها، وتنشد ضالتها، وتطلب مهجتها، وتسأل عن حشاشتها، وتشتعل نار قلبها على فراشتها. فلما شاهدها السلطان حربية حزينة، مسكينة مستكينة، متجننة متحننة مولعة مولهة، موجعة متوهة. سمع شكواها وفهمها، ورثى لبلواها ورحمها ورق بلطفه للطفل الرقيق، وسلك بفضله طريق التوفيق، وطلب الرضيع، فقيل له إنه بيع وأضيع. فإن آخذيه باعوه بثمن بخس، ولم يعرضوه في سوق بز، ولا سوق نخس. فما زال يبعث ويبحث عنه؛ وساوم باذله كيف لم يصنه؛ حتى جيء به في قماطه، وقد كاد يلف في عباءة اعتباطه. فلما أبصرت واحدها؛ ضمت عليه ساعدها. ودعت وعدت، وشدت يدها به وشدت. فأعادها وبنواله أفادها، وبرد حرها برد روحها، (وأسا ما أساء الأسى) من جروحها وقروحها، وروحها بروحها، وفرع دحها، واغناها بغنائها، للشكر عن نوحها. وظهر

ذكر انتقال السلطان إلى تل العياضية

سر سرورها عليها ببوحها، وشيع معها من اوسلها إلى موضعها، وقد اجتمع شمل المرضعة بمرضعها. وما رد الطفل إلا بعد ما اشتراه من مشتريه بثمن يرضيه، (وهذه نادرة) من جملة أياديه. ذكر انتقال السلطان إلى تل العياضية لما أصر الفرنج على مضايقة عكاء في كل يوم؛ وخطوا متاع متاعبهم في ابتياعها بكل سوم؛ وواظبوا ركوب بحر الحرب بكل خوض وعوم؛ وداروا حول حمى دارها بكل حوم، ولم يكن بد من ركوب السلطان بالعساكر إليهم في كل بكرة وعشي؛ وإرعاب القوم بكل حد مرهوب وجد مخشي؛ وكانت المسافة نائية؛ والآفة دانية؛ انتقل السلطان إلى تل العياضية، بعساكره وأثقاله بالكلية، بالعزائم والصرائم الماضية المضية، الراضية المرضية. ولم يكن انتقاله دفعة واحدة، بل مهد له قاعدة. فإن يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى بلغه أن القوم قد عاودوا العوادي، ورفعوا من ضلالتهم الهوادي. وضايقوا البلد أشد مضايقة، وعالقوه أجد معالقة. فأمر الجاووش حتى نادى، وباكر الغدو بالعساكر وغادى. ووصل بالفارس والراجل إلى الخروبة وقوى اليزك، والزم المقدمين والأمراء بحفظ نوبهم الدرك. وقدم جماعة من الخيل لعل العدو إذا عاين قلتها خرج بالكثرة، وتورط في العثرة. فلم يشغل بها بالا، ولم يلفت إليها جنانا، بل تصرف على عنادة، ولم يصرف نحوها عنانا. واشتد على البلد زحفه، وامتد عسفه. فساق السلطان بالعساكر وهجم، فترك العدو الحصار وأحجم. فلما جاء الظهر رجع العدو إلى مجثمه، والسلطان على قصد العود إلى مخيمه. ولما وصل إلى تل الخروبة؛ ونزل في خيمة لطيفة لأجله مضروبة، وصل من اليزك من أخبره أن العدو لما علم إنه قد انصرف، عاد إلى أشد ما كان فيه وزحف، وأنه قد أرعب وأرعف، وأرهق وأرهف، وألهى وألهب وألهف. وارهب وأرهج، وأعجز وأزعج. وثار وأثار. وألحم الملحمة بناره وأنار. فبعث السلطان هذا الخبر على أن بعث إلى العساكر بالمخيم فأعادها، واستنهض إلى الفريسة آسادها، وأجرى في حلبة الحمية جيادها. ودعاها إلى طعن يبرح بالذوابل، وضرب يرنح أعطا المناصل، وامرها من الحرب بأمرها، وأدارها من مرى أخلاف الدم بأدرها. ثم سار آخر ليلة الأربعاء عاشر جمادى الأولى إلى تل العياضية قبالة العدو، وضرب خيمته بأعلاه ظاهر العلو. والعد بالحصر والزحف مصر مضر، وعلى عنائه وعناده مستمر. والسلطان في كل يوم يصابح القوم بالقتال ويماسيهم، ويراوحهم ويغاديهم، ويفاتحهم ويباديهم. بضرب كما اشترطته حدود الظبا، وطعن كما اقترحته

ذكر وصول ملك الانكتير

كعوب القنا. وفتك كما تمنته المنية، ورمى كما حنت إليه الحنية. هذا ومجانيق الكفر على الغي مقيمة، وللرمي مديمة. وبالأحجار متقاطرة، وعلى الأقطار حاجرة. وللجلاميد بالجلاميد قارعة، وللصخور بالصخور قالعة. وتمكن الفرنج بها من الخندق، فدنوا منه دنو المحنق. وشرعوا هجمه، وأسرعوا إلى طمه. وداموا يرمون فيه جثث الأموات، وجيف الخنازير والدواب النافقات. حتى صاروا يلقون فيه قتلاهم، ويحملون إليه موتاهم. وأصحابنا في مقابلتهم ومقاتلتهم قد أقسموا فريقين، وافترقوا قسمين. ففريق يلقى من الخندق ما ألقى فيه، وفريق يقارع العدو ويلاقيه. ذكر وصول ملك الانكتير وفي يوم السبت ثالث عشر الشهر المذكور، أشاع أشياع الكفر سر السرور، وعقدوا حبا الحبور. ووصل ملك الانكتير، وأظهروا إنه في الجمع الكثير، والجم الغفير. وكانت معه من الشواني خمس وعشرون قطعة، كل واحدة منها تضاهي تلعة، وتوازي قلعة، واحدث في القلوب روعة، وأرث في النفوس لوعة. ولمعت لنا من خيامهم تلك الليلة نيران زائدة، وأنفاس للشرار متصاعدة. والسنة للشعل نضناضة، واشعة على الجو مفاضة. فإنما أوردت الجحيم لقدوم وارد نارها نارها، وأوصلت لوصول أولئك الشرار شرارها، وأورت لهم أوراها. وشاهدنا تلك البسيطة قد بسكت على أهل الدياجير الأضواء، وهتكت عنها لهتك ستر الظلام ضلالهم الظلماء. فعرفنا كثرتهم بكثرة نيرانهم، ولما كانوا من أهل النار (قامت النار) ببرهانهم، وأتتهم باتيانهم، واضافتهم في مكانهم، وملك الملك بأمره أمرهم، واراهم أن بيده نفعهم وضرهم. وملأ عين الملاعين، وأطال لتطاولهم أشطان الشياطين. وحفر للمكايد آبارا، وأثر في المكر آثارا، وأرث للشر نارا، وأثار لنصرة النصرانية ثارا. وتحدث الناس بحادثه وحديثه، وبما تأثرت القلوب به من تأثيره وتأريثه، وارتابوا وارتاعوا، والتاحوا والتاعوا. وغدت الألسنة ترجف والقلوب تجف. وكاد الباسل يجين، والباطل يخشن. والحق يلين، والدين يدين. والسلطان قوي الجنان، روى الإيمان. صاف يقينه، واف دينه. شاف نصحه، كاف نجحه، مسفر لعين الإسلام ضبحه، مسرف في قلب الكفر جرحه. ماض عزمه، قاض حكمه، مثبت جيشه بثبات جاشه، عامل لمعاده، ونصر الحق في معاشه. متأن في تفكره، متأت في تدبره متوكل على ربه في نصرة دينه، متوسل إليه في تأييده وتمكينه. لا تروعه المخافات، ولا تخيفه الرائعات. ولا تزعزع الخطوب طود وقاره، ولا تفض النوائب ختم ذماره. ولا يلين للشدائد ولا يستكين للروائع الرواعد. وكم سكن الإسلام بحركاته، وأخصبت الأيام ببركاته، ونام الأنام ليقظاته، وأمنت مصر والشام

ذكر غرق البطسة

بنهضاته. فما راعه ما عرا، وما درأ عزمه لما درى. ولا رد وجهه عما قصد. ولا صدف رأيه عما عليه أعتمد، بل ازداد قوة بصيرة، وازدان بسريرة لكشف أسرار الغيب مستنيرة، وعمد إلى السماء فاستعار من أنجمها أسنة الذبل ودلف في الأرض فوهب تربها ببقسطل. واعلم ملك الانكتير أن جمع كفره للتبتير، وأن نشاط سره للتفتير، وأن أسنة أهل التوحيد مولعة من نحور أهل الإشراك بهتك الستير. وركب في مراكب حلت المنايا الحبا في كتائبها، لتحتبي أعناق العدا وطلاها وتتصل بقواطعها وقواضبها. بخيل تأبى الضيم مثل إبائه، وفخر مثار النقع ينوب عن لوائه، ووجه كلمع البرق في ضيائه، وقلب كصدر العضب في مضائه. وأقام السلطان على هذه الحالة، ساميا في مطالع الجلالة، لم ينض سلاحه، ولم يخفض جناحه، ولم يركز رماحه، ولم يردع للروع مراحه. ذكر غرق البطسة كان السلطان قد عمر في بيروت بطسة، وزادها من العدد والآلات بسطة. وأودعها من كل نوع ميرة، وملأها غلة وذخيرة. واركب فيها زهاء سبعمائة رجل مقاتلة لعكا، من كل من طهر وتزكى، وشكره الإسلام إذ الكفر منه تشكى. فلما توسطت اللجة؛ وتورطت على نهج المحجة؛ صادفها ملك الانكتير بحكم قضاء الله والتقدير. وأحدقت بها شوانيه، وعدتها عواديه. وقاتلتها نصف نهار، وهي لا نذعن لاقتسار. فأكبت من العدو مراكب، وجبت لها غوارب. وأحرقت وأغرقت، وهتكت وخرقت، وفرقت وما فرقت. وقتل من الفرنج خلق عليها، وما امتدت يد عدوانهم إليها. فلما يئست من سلامتها، وزلت عن استقامتها؛ وانحلت عرا وثاقها؛ وانحطت ذرا اعتلائها واعتلاقها؛ ومالت إلى الاستسلام، وجالت على الاصطلام، قال مقدمها: علام نسلمها والموت بالعز خير لنا من الحياة بالذل، والشح بالدين أحب إلينا من البذل، فنزل إلى البطسة فخرقها، ومانع عنها حتى أغرقها. وسعد اهلها، وافترقت وسيجتمع في دار النعيم شملها. ووصل إلينا خبرها اليوم السادس عشر من جمادى الأولى فقلنا: الدهر يومان نعمى وبؤسى، وما يزالان على ذلك حتى يزولا وكانت هذه الوقعة أولى حادثة للوهن محدثة، وللهم مورثة، ولنار الأسى مؤرثة. ذكر حريق الدبابة وكان الفرنج قد اتخذوا دبابة عظيمة هائلة، قد أظهرت لها في الشر غائلة. ولها أربع طباق، شدها على الارتباط باق. ولها من الأحكام باس ولباس، وهي خشب

ذكر وقعات في هذا الشهر

ورصاص وحديد ونحاس. وقربوها إلى أن بقيت بينها وبين البلد أذرع خمس، وفي طباقها سباع ضوار وذئاب طلس. وبلى البلد منها بكل بلية، ورزى بكل رزية. وكانت هذه الدبابة على العجل، ليقربوا بتقريبها أسباب الأجل، فباتت القلوب منها على الوجل. وكاد أصحابنا يطلبون الأمان، وخضع كل أبى واستكان، فقارعوا عندها أشد قراع. وما صعوا أجد مصاع. وتوالت عليها من مساعير الرهط؛ قوارير النفط. وهي تضرب في حديد بارد، وتضرب عن كل شيطان مارد. وتنبو عن الإحراق، وتنبي عن الإخفاق. حتى بدرت قارورة انقضت على شيطانها كالشهاب، فأخذت الدبابة وقلوبهم قبل جسومهم في الالتهاب. فعوذناها بسورة (والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى) فجاء من انقلاب القارورة قرار القلوب، ومن حر أنفاسها برد النفوس، وكشف شعاعها ظلم الكروب، ونزعت بشاشتها عن الوجوه لبوس العبوس. وأنارت نارها لنا بكل نور، ولهم ببوار قوم بور. ودبت شعلها في أضلاع الدبابة وجنوبها، فأحرقها الله إحراق أهلها بذنوبها، وكما أضاءت الآفاق بنيرانها؛ أظلمت بدخانها. فجلت لنا بياض النصر في السواد، فكأنه سواد الناظر أو سويداء الفؤاد، بل سواد المداد يأتي من أنواره بالإمداد. فجلا حريق هذه الدبابة صدأ قلوبنا المغتمة بالبطسة الغريقة، وأحمت نارها في حماية الحق حمية حماة الحقيقة. فإنما احترقت الدبابة يوم وصول خبر غرق البطسة، فكان تشميتا لتلك العطسة. ذكر وقعات في هذا الشهر كانت العلامة بيننا وبين أصحابنا في عكاء عند زحف العدو دق الكوس حتى إذا سمعناه جدنا في الزحف إلى العدو بالنفائس. ولما أصبحنا يوم السبت التاسع عشر من الشهر سمعنا من كوس البلد نعراته، ونظرنا من جانب العدو مثار غبراته. فعلمنا بزحفه، وعملنا في حتفه، وضرب الكوس السلطاني اصراخا لصراخ الكوس، فتمايلت أعطاف ذوى الحمية من حميا العزائم لا من حميا الكؤوس. وركب السلطان في كل مشمر للبرد مضمر للجرد، نضفاض السرد، قضقاض كالأسد الورد، مشتاق إلى الطرد، ملتاح من ماء الوريد إلى الورد، من الترك والاكاديش والعرب والكرد. يهوى إلى الأقران هوى المصلتات إلى الرقاب، ويظمأ إلى ارواء الأسل الظماء فيطيل صدى الخيل العراب. وكل ثمل كأنه نزيف الحميا، يعيد السماء من الأرض بركضه شاحبة المحيا. وكل ضرب تكاد تفيض مضارب نصله من خفة الطرب أولا وقاره، وكل طلاع مع النوب لا ينام ثاره، ولا يثبت في الجفن غراره. وكل منصلت ينير في ظلام العجاج بنجوم الأسنة، وكل مطرد يعيم السوابح السوابق

وقعة أخرى

في بحور الأعنة، وكل رام فروج المأزق حتى تفرى بأيدي المذاكي، وكل شاك في السلاح مشكور في إشكاء الحق الشاكي. وكل مصمم مصم درعه محقبة، وسهامه غير مجعبة. وسيوفه غير مقروبة، وقبابه لمداومة إجراء قبه غير مضروبة. وسار السلطان وقد اسودت لوقع السنابك جوانب جحفله، وابيضت بلمع الترائك مذاهب قسطله، واشتبهت في النقع ألوان خيله، وامتدت إلى قرار اللقاء أعناق سيله. فكأنما غارت الشمس من شموس شمسه، فتوارت بالحجاب، وعد النقع في وبل النبل من حساب السحاب. وولجت العساكر عليهم في خيامهم، وحملت ليالي القتام إلى أيامهم، وغلت الصدور بما فيها، حتى وصلوا إلى القدور على أثافيها. وهتكوا وفتكوا، وأدركوا وسفكوا. فتراجع الفرنج، واصطفوا على خنادقهم، ووقفوا بقنطاريتهم وطوارقهم. واجتمع عسكرنا لعلهم يحتمون ويحملون ويعلون من دمائهم وينهاون. ودخل الظهر، وحمى الحر، فافترق الفريقان، وتراجع إلى خيامهم الجمعان. وقعة أخرى وفي يوم الاثنين الثالث والعشرين من الشهر، ضايق أهل الكفر البلد على الحصر. وكانت الوقعة بالوقعة السابقة شبيهة، وكانت من أشدها وأجدها كريهة. غير إنه في هذه النوبة عرضت نبوة، وكادت تتم كبوة. فإن الفرنج لما تراجعوا عن البلد وجدوا فئة من عساكرنا داخل خنادقهم، فحملوا عليها بسباق رجلهم وراكبي سوابقهم. فانتشب الحرب، واشتجر الطعن والضرب. وكثرت الجراحات، وكرثت الاجتراحات. واستشهد ممن عرف من المسلمين اثنان، تسلمهما رضوان إلى الجنان، وقتل من المشركين جماعة أسرع بهم مالك إلى النيران. ومن عجائب هذه الوقعة، أن رجلا من مازندران من أهل الرفعة؛ وصل في تلك الساعة وافدا، واستأذن وقت السلام على السلطان أن يقدم مجاهدا. فحين شهد الوقعة استشهد، فلقي الله بعهده كما عهد. وقعة أخرى وفي يوم السبت الثامن ولعشرين من الشهر خرج العدو فارسا وراجلا، ورامحا ونابلا. وامتدوا من جانب البحر اطلابا، وتحزبوا في ذلك الفضاء أحزابا. وركب السلطان من مجالس عادته، وإلى مجال سعادته، موقنا أن أداء عبادته، في إبارة العدو وإبادته. وتقدمت المقدمة وأقدمت، وجحمت نار أقدامها وما أحجمت. وما

وقعة أخرى

زالت نجوم النصول تنقض، وختوم النحور تنفض، وعيون العيون ترفض، وديون الذحول وحقوق الحقود تقتضى، وأبكار الدروع بحدود الذكور تقتض. في شعواء حضرها التباب الغائب، ونكباء لها من الذوابل ذوائب. وبحر تسبح فيه السوابح، وشرب بكاس المنية منها المهج غوابق صوابح. وغبراء أساود نبالها تتواثب عن عقارب القسي، وثعالب لهاذم صعادها تتلاعب في أراقم السمهري. وذباب ظباها في مسامع الذئاب، وعقبان راياتها تحلق إلى مطالع السحاب. وغدران سوابغها تفيض عليها جداول القواضب، وغران سوابقها تغيض في غطامط الغياهب. وأرواح أغمادها البارية عن الأجسام برية، وقلوب آسادها الضارية على الردى جرية. حتى دخل على ليل النقع الليل، وجرى من ديمة الدم السيل، والتفت لما التفت بالخيل الخيل، وأفرج المأزق عن قتلى جر عليها من السوافي الذيل. واستشهد من المسلمين بدوي وكردي، (ولكم وقع من المشركين رد ردى)، له في الهاوية هوى، وعليه من زفير جهنم دوى. اسر من العدو فارس بفرسه، ولأمته وقونسه. وتفرق الفريقان عن المعترك عند معتكر الدجى، وقد عم من الشجب ماشجا. وقعة أخرى وأصبح العدو يوم الأحد التاسع والعشرين، وقد أخرج من جانب النهر راجلا في عدد رمل يبرين بقواطع يبرين. وقواضب يفرين، وطوالع غروب في الطلى يغربن؛ وبالردى يغرين، وانتشروا ممتدين وامتدوا منتشرين. فلقيهم اليزك بكل من يزكيه عند شهوده مضاء كالقضاء، ويوافقه القضاء في المضاء. وكل معتقل للرديني أخف إلى الوغى من سنانه، وكل مشتمل للمشرفي خضيب الغرا ريانه، وكل ملتثم بعثير حصانه، معتنق لعطف مرانه. وكل صبح كالصباح نضارة وجهه في شحوبه مدفونة، وكل قارح على قارح شرارة عزمه في سكونه مكنونة. وامتد راجلنا امامهم، وأثبتوا قدامهم أقدامهم. وطال القتال، وطارت النبال. وحاضت الذكور، وفاض التامور. وأعمى العثير وعم العثور، وأسروا منا واحدا فأحرقوه فصحب نوره بين يديه إلى دار القرار، وأسرنا منهم واحدا فأحرقناه فشبثت به تلك النار إلى النار. وشاهدنا النارين في حالة واحدة تشتعلان، والصفان واقفان يقتلان. وفي يوم السبت الماضي هرب خادمان ذكرا أنهما لأخت ملك الانكتير وانهما كانا يكتمان أيمانهما في سر الضمير. وأخبرا أنها زوجة صاحب صقلية فلما هلك صادقت في الاجتياز بها اخاها هذا الملك. فألزمها بأن تتبعه واستصحبها معه. وقدرا ما النجاة من تلك الفاجرة لنجاة الآخرة. فأكرم السلطان وفادتهما، واجزل بالإحسان إفادتهما.

ذكر المركيس ومفارقته القوم ووصف السبب في ذلك

ذكر المركيس ومفارقته القوم ووصف السبب في ذلك وفي الاثنتين انسلاخ الشهر، ذكر عن المركيس إنه هرب إلى صور، وأنه كشف للجماعة المستور. ونفذوا وراءه قسوسا، والقوا عليه من الضلالة في الاستمالة دروسا. فنبا قبوله، وانقطع وصوله. وكان سبب نفاره؛ وموجب استشعاره؛ أن (هنفري) كانت زوجته ابنة الملك الذي هلك والقدس في يده، وعادتهم إنه إذا مات ملك ينتقل ملكه إلى ولده. وسواء في هذا الميراث، بين الذكور والإناث. فيكون الملك بعد الابن إذ لم يخلف ابنا للكبرى، فإذا توفيت عن غير عقب كان للصغرى. وكان الملك العتيق (كي) أخذ الملك بسبب زوجته الملكة، فعزلوه عن الملك لما احتوت عليه يد الهلكة. وبقيت هذه زوجة هنفري، فأصبح المركيس عليه بجترى، ويقول: لست من أهل الملك لتكون الملكة لك زوجة، ولا بد لي من تقويم هذا الأمر حتى لا أبقى فيه عوجة. وغصبها منه، وصرفها عنه. واتخذها له عروسا، وأحضر لنكاحها قسوسا. وقيل إنها كانت حبلى ولم تخرج الحبل، فما شغلتهم حرمة الرحم المشتغل. وأدعى المركيس أن الملك انتقل بها غليه، وأن أمر الفرنج بشرعهم في يديه. فلما جاء ملك الانكتير تظلم إليه هنفري والملك العتيق، فانفتح بذلك له إلى مؤاخذة المركيس الطريق. فاستشعر المركيس منه وماقر، وأخذ معه الملكة وفر. ذكر من وصل في هذا التاريخ من العساكر الإسلامية وفي يوم الاثنين انسلاخ جمادى الأولى قدم عسكر سنجار، وقد سد بسواد عديده النهار، وأفاض ببياض حديده الأنوار، ومقدمه مجاهد الدين برنقش الشهم الشديد، والسهم السديد. والألمعي اللوذعي، والكميش الكمي، والنقاب النقي، والعف التقي. وهو ذو همة في الغزو عالية، وعزمة بالمضاء المضيء حالية، وقيمة في سوم السلطان لقربه غالية، وسريرة خالصة صافية من الكدر خالية. وأكرمه السلطان في استقباله بنفسه، وإقباله عليه بأنسه. وسار بعسكره إلى أن وقف تجاه العدو من جانب البحر مما يلي الزيب، وقد أحسن في عرضه التدبير والترتيب. ثم عاد في خدمة السلطان مكرما إلى جنبه، مدما على صحبه. فأنزله في خيمته وخصه بمواكلته. وتقدم إليه بالنزول في ميسرته. وفي يوم الأربعاء ثاني جمادى الآخرة، وصل جماعة من عسكر مصر والقاهرة، بالعدة الوافرة والقوة الظاهرة. مثل: علم الدين كرجي - الذي يسرع إلى لقاء أقرانه ولا يرجى، وكسيف الدين سنقر الدووي، ذي الزند الوري، والسيف الروي، وأمثالهما من المماليك الناصرية، والمساعير الأسدية. أسد العرين، الشم العرانين، الغر الميامين.

ذكر ضعف البلد

وفي عصر هذا اليوم، وصل علاء الدين ابن صاحب الموصل إلى الخروبة ونزل بها، ليصل بكرة إلى المعسكر بالعساكر في أحسن أهبها. فركب السلطان إليه ولقيه وعاد، وكمل لكرامته وضيافته الاستعداد. وأصبح الاستعداد. وأصبح يوم الخميس في خميسه، سائرا بآساده في عريسه، مقبلا بكل فارس من جيشه فارس من خيسه، في غلب كأنهم أجادل والجياد مراقبها، وخيل كأنها الظلماء ولترائك كواكبها. ونقع كأنه الآتي والمقربات قواربه، ومجر تصادم مناكب الآكام مناطبه، وتملأ الوهاد طوالعه وغواربه. عاريات غروبه، عاليات غواربه. ثقال مذاكيه بأعباء عواليه، كأنما نهضت لإذكاء نار الهياح حواطبه. وعبرت علينا كتائبه، وأعربت عن مناقبه مقانبه. وتلقاه من أولاد السلطان الملك المعز فتح الدين إسحاق وهو من جملتهم البحر بل الغيداق. والملك المؤيد نجم الدين مسعود وهو كاسمه مسعود مجدود. وتلقاه الأمراء والعظماء، والخواص والأولياء. وساق على تعبيته، وإجابته دعوة الإسلام وتلبيته، إلى جانب البحر، ليرتب أهل الكفر. وعرض وتعرض، وعلم العدو بأنه إليه نهض واستنهض. ولما انفصل السلطان أخذه معه إلى خيمته؛ وأحضر له أسباب تكرمته، وآنسه بانبساطه، ونظمه مع أصحابه في سمط سماطه. وأجلسه إلى جنبه، وعقد له حبا حبه. وخصه بخلع وثياب، وحصن عراب، وما يليق به من كل باب. وانصرف عنه ونزل على ميمنته، نزوله عام أول في منزلته. وفي يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة وردت من مصر كتيبة ثانية، صارفة أعنة خيلها إلى الجهاد ثانية، ساطية على الكفر ببأسها جانية، وقد علمت الوقائع أنها لثمراتها اليانعة من ورق الحديد الأخضر جانية. فما نزلت حتى عرضت على العدو مقانيها، وأبرزت لعينه قناها وقواضبها. وأرنت برسل المنية إليه قسيها، ثم جاءت وألقت بمضاربها عصيها. وكانت العساكر تتوارد، والجموع تتوافد. ذكر ضعف البلد والفرنج قد ضايقوا البلد مضابقة آيست منه، وأسلت القلوب عنه. والمجانيق قد رمت شرافاته، وسمت إليها بآفاته، وأعادت جوانبه مهدومة، ونواجزه مهتومة. وتنحطت عنه بمقدار قانة، فلم يتمكن أحد عليه من إقامة. وضعف البلد والجلد، وخلا بالهم عليه الجلد. وقد حفظ القوم من جانبنا خنادقهم، ووكلوا فيالقهم. ونحن لا نألوا في الجهاد جهدا ولا نترك جدل، ولا نجد من مضايقتهم بكل نوع بدا. وجاء الخبر أن ملك الانكتير قد أشفى من المرض؛ وأشرف من المضض، حتى حلق رأسه حلق لحيته، واستلقى الانتظار منيته. فتثبط الفرنج ونثبتوا. وسكنوا وسكتوا. إلى

فصل من كتاب إلى صاحب الموصل في شكر وصول ولده ووصف الحال في ضعف البلد

أن يركب فيراكبوا، ويثب فيثبوا. وكان في هذه الفترة للبلد بقاء رمق، وزوال فرق، وانتعاش عثرة، وانجبار كسرة، وانطفاء جمرة، وانسداد ثغرة. فصل من كتاب إلى صاحب الموصل في شكر وصول ولده ووصف الحال في ضعف البلد قدم علاء الدين - دام علاؤه - في مقدمي الجنود الانجاد، ووقف اجتهاده على موقف الجهاد. وما أكرمه قائما في المقام الكريم، وعظيما خاطبا دفاع الخطب العظيم. ووصل فوصل جناح النجاح، وأنشر الصدور بما صدر به لها من نشر الانشراح، وجاء والكريهة ذاهبة بالأرواح، والحرب ساقية طلاء الطلى في صحاف الصفاح، وقد برزت بنات الأغماد الذكور على أكف أكفاء الكفاح، لنكاح الهام بالسفاح، وشارك في الجهاد وشد الأزر، وسدد الأمر. وآزر وعضد، وظاهر وأسعد. ولا خفاء عن العلم بحال الفرنج في هذه السنة؛ واجتماع ملوكهم وكنودهم؛ وتوافد إمداد حشودهم، وقد استشرى شرهم، واستضرى ضرهم، وأعضل خطبهم، واستفحل امرهم. واشتغلوا منذ وصلوا بنصب منجنيقات، وتركيب آلات ودبابت. وزحفوا إلى بلد عكاء بجمعهم، ووقدوا بجمرهم. واخذوا فيه نقوبا، وحكموا في الأسوار من الأسواء بضرب المجانيق ضروبا. والثغر الآن قد أشرف، والعدو قد أسرف. وكلما زحف إلى الثغر زحفت العساكر الإسلامية إليه، والعدو بخندقه محتجز، ولفرصة الغفلة عنه منتهز، ومن جثوم الموت عليه في مجثمه محترز. ولم يبق إلا أن يتدارك الله الثغر بلطفه، ويجريه على المعروف من عادة نصره وعرفه. والمجاهدون فيه قد هانت عليهم المهج، ووضح لهم في ثبات جنابهم المنهج. وفي كل يوم يسدون بأشلاء الهاجمين عليهم الثلم، ويجلون عنهم بما يشبونه من نيران الظبا الظلم. والعدو قد لج، والحديد من قرع الحديد قد ضج. والبلد مشف، والبلاء عليه موف. والمأمول من الله أن يأتي من نصره بما ليس في الحساب، وأن يعيد ما جمح من أمر الأصحاب إلى الأصحاب، ويكفى هذه النوبة الصعبة، فهو كافي النوب الصعاب. فصل في وصف عسكر عماد الدين وصلت العساكر التي وفت بعدتها المناجدة، ووافت بعدتها المنى جده. وأقبلت إقبال الآساد في عرين الوشيج، وماجت موج البحار في غدير الزغف النسيج. واستهلت استهلال الرواعد البوارق، والمت بالعدا إلمام العوادي الطوارق. ولقد جاءت في وقتها منجدة من جدة. موجدة للانتقام من الكفر بكل موجدة. واستظهر الإسلام

فصل في الاستنفار

بظهورها، وسفرت وجوه النصر بسفورها، فأحجم الكفر بإقدامها، وانتظمت أحداق المشركين في عقود سهامها، وخيمت مضارب المضاء بمضارب خيامها، وفض بالفضاء ختام قتامها. وما أشكر الدين والإسلام لعزائم عماده وغياثه، وأبعث إمداد الظفر لاهتزاز نصل نصره وانبعاثه. فصل في الاستنفار قد عرف أن العدو قد احتشد بجميع ملوكه، وغصت مسالكه وطرقه بطوارق سلوكه. وهو حديد الشوكة، شديد الشكة. قد لج في حصر الثغر ونصب آلاته، وركب عليه منجنيقاته. ووالى الضروب من الضرب، وأخذ منه مواضع في النقب. وقد أشفى على خطر عظيم، وخطب جسيم. وإذا لم يصل في هذا الوقت فمتى، ومن أتى في غير الوقت المحتاج إليه فما أتى. وهذا أوان رفض التواني، ونهوض المسلمين من الأقاصي والأداني. والوصول يكل ما يقدر عليه من العسكر، والظهور لمظاهرة المسلمين بالعزم الأظهر والجد الأوفر. وهذا يوم الحاجة واوان الضرورة، والنهوض بعسكره إلى نصرة عساكرنا المنصورة. فلا يجنح إلى عذر فللأعذار أوقات، ولا يلتفت إلى غير هذا المهم الذي ليس للمسلمين إلى سواه التفات. وكيف يتأخر عن هذا الموقف الكريم وهو كريم، ويتقاعد عن هذا المقام العظيم وهو عظيم. ذكر خروج رسل الإفرنج كان قد خرج مذ أيام رسول، وسأل أن يكون له إلى السلطان وصول. فاجتمع به الملكان العادل والأفضل، قالا له: لا يمكن لقاء السلطان لكل من يرسل. وما كل مقصود عليه يعرض، ليعلم في الأول هل هو مما يقبل أو عنه يعرض. فأعلمهما الحال، وعرفهما ما سبب الإرسال. فأحضراه بالنادي السلطاني فمثل بين يديه، وأوصل تحية الانكتير إليه. وقال: هو يؤثر بك الاجتماع، ولخطابك الاستماع. فإن أعطيته أمانا خرج إليك، وأورد مقصوده عليك. أو شئت كان الاجتماع به في المرج، خاليين من مقتضيات المرج. وكلاكما عن عسكره منفرد، ولحديثه في الخلوة مورد فأجابه السلطان وقال: إذا اجتمعنا فهو لا يفهم بلساني وأنا لا أفهم بلسانه، ونحيل بالبيان على ترجما وترجمانه. فيكون ذلك الترجمان رسولا، فلعله يرد بسول ويصدر سولا. فلما لج في الطلب؛ وألح في الأرب؛ أستقر أن يكون الحديث مع الملك العادل. وأن تنجح من عنده وسائل الرسائل. ودخل وقد أخذ أمانا، وانقطع بعد ذلك زمانا. فشاع عندنا أن ملوكهم منعوه، ومن ركوب الخطر فزعوه. فأنفذ ملك الأنكتير رسوله

ذكر ضعف الثغر من قوة الحصر

بعد أيام، ينكر ما شاع من تأمر للفرنج عليه وأحكام. وقال: الأمور مفوضة إلى: وأنا أحكم ولا يحكم علي. وإنما تأخرت بسبب مرض عرض، فأفاتني الغرض. ثم قال الرسول: من عادات الملوك المهاداة، وإن دامت بينهم الحرب والمعاداة. وعند الملك ما يصلح فهل تأذنون في حمله وقبوله، وأخذه من يد رسوله؟. فقال الملك العادل فقبل الهدية بشرط المجازاة، واستدامة المكافأة للموازاة. فقال: عندنا بزاة وجوارح، قد لقيتها في سفر البحر جوائح، وقد ضعفت فهي طلائح روازح، وتريد طيرا ودجاجا تصلح لطعمهما، فإذا استوت حملناها للهدية على رسمها، فقال العادل: لا شك أن الملك مريض وقد احتاج إلى دجاج وفراريج، ونحن نحمل له منها كل ما إليه احتيج، فلا تجعل حاجة طعم البزاة في طلبها حجة واسلك غير هذه المحجة محجة. وانفصل حديث الرسالة على قول الرسول: هل لكم حديث؟ فقلنا: وأنتم طلبتمونا لا نحن طلبناكم، وما لنا معكم حديث قديم ولا حديث. ثم انقطع حديث الرسالة إلى يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة. فخرج من عند الملك في الرسالة مقدم، ومعه أسير مغربي مسلم. وأحضره على سبيل الهدية، وأوصل إلى السلطان ما حمل من التحية. فشرفه بخلعته، واعتدله بهديته. ثم خرج يوم الخميس تاسع الشهر رسل ثلاثة، وما كانت رسالتهم تسفر عن مقصود بل فيها رثاثة وغثاثة. وهؤلاء طلبوا للملك فاكهة وثلجا، ولم يسلكوا في غير هذه الحاجة نهجا. فأكرمهم السلطان بما سألوا، وفر لهم منه فحملوا. وسألوا أن يتفرجوا في الأسواق، ففسح لهم فيه على الإطلاق. ذكر ضعف الثغر من قوة الحصر وكان غرض الفرنج من تكرير الرسالات؛ تفتير العزمات، وهم مشتغلون بموالاة الرمى بالمنجنيقات، وتسوية المنصوبات، وتعبية الآلات وتعديل العرادات، وتثقيل الحجارات. حتى تحلحل السور وحان انهدامه، وتخلخل وبان انثلامه. وتزعزعت أركانه، وتضعضعت ابدانه. وكاد يهى ليهوى، ولا يقي ولا يقوى كي يثوى. وأهل المدينة قد كثر تعبهم؛ لكثرة النوب ولقلة العدد. والحجر هاتك، والسهر ناهك. والعمل دائم، والخلل لازم. والقلوب قلقة، والظنون مخفقة. والمتاعب شاقة، والمشاق متعبة، والأحوال متصعبة، والأهوال مرهبة. وكانت في البلد منجنيقات تنصب، وتفيض بها قوى الرجال وتنصب. فلما اشتد الزحف، وزاد الضعف؛ احتاجوا إلى رجال المنجنيق للمقاتلة، والتناوب على المنازلة. وهناك ظهر أن العدد لا يقي ولا يفي، وأن القليل لا يكف ولا يكفي. وأن خروج من كان في البلد لأجل دخول البدل لم يكن صوابا، وأن تقصير النواب ابتداء في الاعطاء جلب في الانتهاء أعطابا.

ولما علم السلطان سابع جمادي الآخرة يوم الثلاثاء؛ بما عليه البلد من غلبة البلاء؛ زحف بعسكره ولج حتى ولج خنادقهم، وطرق اليهم بوائقهم. ونهب من خيامهم ما تطرف، وأسرف في ارهاقهم بما أشرف. وحمل الملك العادل بنفسه مرارا، وأجرى من الدم أنهارا، واراهم بالنقع النهار ليلا وبالبيض الليل نهرا. وأمسى السلطان تلك الليلة ساهدا لم يذق طعاما ولم يستطب مناما. ثم أمر بدق الكوس سحرا حتى عادت العساكر إلى الركوب، والقساور إلى الوثوب. والفوارس إلى الفرس، والانداب إلى الندوب، واعادت إلى الطلوع غروبها بعد الغروب. بكل من يلقى الجيوش على الجيوش، ويرمي الوحوش على الوحوش. ويرعف الصدور بصدور الرواعف، ويشير بالأمن عن مواقف المخاوف. وكل من للضرب في جبينه شامة، وللطعن في جنبيه علامة. على خيل كأمثال القنا تحمل القنا، وضمر كالحنايا تهوى السهام إلى الوغى. في غداة صباحها في حداد ... نسجتها أيدي المطهمة القب وظلام يجلوه بريق اليمانية القطب فجرى ذلك اليوم من القتال أشد مما كان أمس، واتصل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وفي هذا اليوم وصلت من البلد مطالعة مضمونها: أن العجز بلغ بهم إلى غايته، وانتهى الضعف بهم إلى نهايته، ولم يبق إلا تسليم البلد إن لم تعملوا شيئا: ولم تنجحوا في الذب عنه سعيا فضقنا بهذا الكتاب ذرعا، وقلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا والسلطان من هذا في أمر عظيم، وهم مقعد مقيم. وهو مجتهد في بذل وسعه، سائل من الله لطف صنعه. معاود إلى الحرب في كل صباح، طائر إلى اللقاء بجناح كل نجاح. وفي هذا اليوم الأربعاء بعث العساكر على اللقاء. ودخل راجلنا إلى خنادقهم وخالطوهم، وتقابضوا على بسيطة واحدة وباسطوهم. وذكر إنه وقف في ثغرة من تلك الثغر إفرنجي، كأنه جنى مستشيط للشيطان نحبى. وهو يدافع ويمانع، ويكافح على تلك الثغرة ويقارع. قد أتخذ طارقنه لجسمه صدفا، وصار لسهام المنية هدفا. وهو كأنه مما نشب فيه من النشاب القنفذ، وتلك السهام من لبس الحديد لا تنفذ. فلم يزل واقفا إلى أن أحرقه بقارورة النفط زراق، فأمسى وهو حراق. ووقفت أيضا امرأة بقوس من الخشب ترمى، وتديم اصماءها وتدمى. فلم تزل تقاتل حتى قتلت، وإلى سقر انتقلت.

ذكر خروج سيف الدين على المشطوب إلى ملك الافرنسيس

ذكر خروج سيف الدين على المشطوب إلى ملك الافرنسيس ولما تمكن الفرنج وتكاثروا على عكاء من جانب؛ وعروه بكل نائب؛ ومل أصحابنا فيها لكثرة من استشهد وجرح؛ وقلة البدل الذي كان قد اقترح؛ ونقب العدو الباشورة حتى وقعت منها بدنة؛ وزادت المخافة فلم يبق معها أمنة، خرج المشطوب إلى ملك الإفرنسيس بأمان، وحضر عنده بترجمان. وقال له: قد علمتم ما عاملناكم به عند أخذ بلادكم، من النزول عند طلب أهلها الأمان على مرادكم. وأنا كنا نؤمنهم، ومن المسير إلى مأمنهم نمكنهم. ونحن نسلم إليك البلد على أن تعطينا الأمان ونسلم، وإذا فعلت هذا فقد حزت المغنم، فقال: إن أولئك الملوك كانوا عبيدي، وأنتم اليوم مماليكي وعبيدي، فأرى فيكم رأبب من وعدي ووعيدي. فقام المشطوب من عنده مغتاظا ولم يلبث لحظة، وأغلظ له في القول عملا بقول الله تعالى: (وليجدوا فيكم غلظة). وقال: نحن لا نسلم البلد حتى نقتل بأجمعنا، فيكون مصرعكم قبل مصرعنا. ولا يقتل منا واحد حتى يقتل خمسين، ومتى عرف أن الأسد يسلم العرين!. ذكر هرب جماعة من الأمراء والأجناد من البلد ولما عرف رجوع المشطوب؛ ولم يظفر بالغرض المطلوب؛ قال جماعة من الأمراء قد تضجروا بما هم فيه من التعب والعناء: هذا الأمير الكبير؛ والمستشار والمشير قد أشتغل باله، فسواه ما باله. وعمروا بركوسا ورأوا في هربوهم رأيا منكوسا، وربحا في دار البقاء مبخوسا. وذلك ليلة الخميس التاسع، وقربوا عليهم الأمر الشاسع. وجاءوا إلى العسكر مختفين، ومن رفقائهم في نسب الوفاء والوفاق منتفين. فنمى إلى السلطان الخبر بهرب الجماعة، وأنهم خرجوا لله وله عن الطاعة، وأنهم جبنوا عن بذل الاستطاعة، وخفضوا عنهم صيت الشجاعة، وأبدلوا الإضاءة بالظلمة والحفظ بالإضاعة، وكان فيهم من الأمراء المعروفين وذوى الشهامة الموصوفين، عز الدين أرسل - وهو الذي كان المثل بشهامته يرسل. وحسام الدين تمرتاش بن جاولي - وهو شاب أول ما توفى والده وجا ولى. وسنقر الوشاقي من الأسدية الأكابر، ومقدمي العساكر. وكل منهم محظوظ بالإقطاع الوافر. فقطع السلطان اقطاعاتهم واقطعها، وحبس عنهم عند الرضا بعد مدة مديدة بشاشة وجهه ومنعها. واستعاذ (ارسل) بالأسدية ثم بالملك الأفضل، المفضل المؤمل. وتوسل ابن جاولي بالملك العادل، وكلهم توسل بفضل الأجل الفاضل. فلم تعد معيشتهم، ولم تعذب عيشتهم. وعادوا ممقوتين. وبحدود السن الذم منحوتين، وبضعف القلب وقوة الخور منعوتين. وكان من جملة الهاربين عبد القاهر

فصل من كتاب إلى مظفر الدين صاحب إريل في المعنى ووصف الحال

نقيب الجاندارية الناصرية ومقدمها، فشفع فيه على إنه يضمن على نفسه العودة ويلتزمها. فعاد في ليلته، وأسقط عنه المذمة بأوبته. ووقع بعد ذلك في الإسار، واستفكه السلطان بعد سنة بثمانمائة دينار. فصل من كتاب إلى مظفر الدين صاحب إريل في المعنى ووصف الحال قد سبقت مكاتبتنا إليه بشرح الأحوال، وما نحن عليه من رجاء النصر الذي هو متعلق الآمال. وأن ملوك الفرنج وجموعهم قد وصلوا، ونازلوا الثغر واحتفلوا. والآن فإن منجنيقاتهم هدته بكثرة الضرب، وكثرت ثلم السور في مواضع النقب، وعظم الخطب، واشتدت الحرب. وأشفى البلد وأشرف. واشتفى العدو بما فيه أسرف. ولما لج العدو في الزحف، واستسهل في التطرق إلى البلد طريق الحتف، ركبنا في عسكرنا إليه، وهجمنا عليه. لكنه بسوره وخندقه محتم، وإلى مطمحه البعيد من أمره. ولما عاين أصحابنا بالبلد ما عليه من الخطر؛ وأنهم قد أشفوا على الغرر، فر من جماعة الأمراء من قل بالله وقوفه، وأعمى قلبه فجوره وفسوقه. ولقد خانوا المسلمين في ثغرهم، وباءوا بوبال غدرهم، وما قوى طمع العدو في البلد إلا هربهم، وما أرهب قلوب الباقين من مقاتلته إلا رهبهم. والمقيمون من أصحابنا الكرام، قد استحدوا مر الحمان واجمعوا انهم لا يسلمون حتى يقتلوا من الأعداء أضعاف أعدادهم. وأنهم يبذلون في صون ثغرهم غاية اجتهادهم. وكانوا قد تحدثوا مع الفرنج في التسليم فاشتطوا واشترطوا، فصبروا بعد ذلك وصابروا ومدوا أيديهم في القوم وبسطوا. فتارة بخرجونهم من الباشورة وتارة من النقوب، والله تعالى يسهل تنفيس ما هم فيه من الكروب. ونحن وإن كنا للقوم مضايقين؛ وبهم محدقين وعلى جموعهم من الجوانب متفرقين، فإنهم يقاتلوننا من وراء جدار، ويعلمون أنهم إن خرجوا إلينا في تبار. والهجوم على جمعهم مستصعب ممتنع، والعسكر على مركزهم متألف مجتمع. ولله قدر لا يرد، وقضاء لا يصد. وسر لا يشارك في علمه، وأمر لا يغالب في حكمه. وعلى الله قصد السبيل، ونجح التأميل، وتدقيق الطافه في دفع الخطب الجليل، وما توفيقنا إلا بالله وعليه توكلنا وهو نعم الوكيل. ذكر ما جرى من الحال وفي ذلك اليوم وهو الخميس زحف الخميس، وحمى الوطيس، وتحرك بالضراغم الخيس. واسود الجو، وأنسد الضو. وانقضت القضب انقضاض الشهب، واشتبهت

الدهم والكمت بالشقر والشهب. واختضبت البيض، وتألق من بوارقها الوميض. ورقصت قدود السمر على غناء الصواهل، وحركت رياح السوابق ذوائب الذوابل. فللدروع من الضرب قعاقع، ولعواصف الألوية زعازع. ولغربان الرماح نعيب، ولغران المقربات لتقريب النصر البعيد تقريب. ولحريق الظبا معمعة، ولرحى الحرب الزبون جعجعة. واللاحقيات سابقة ولاحقة، والسريجيات راعدة وبارقة، وشموس الترائك على بدور الأتراك شارقة، ونبال النبل من عيون أعيان الكفر مارقة، (وأيدي الأسنة هاتكة، لحرز النحور سارقة). وثعالب الأسل في لبة الأسد ضابحة، ونشاوي اللدان من نجيع الأقران غابقة صابحة. في رايات يجاذبها ذراع الفلك فتقود عقبانها العقبان، وصفاح يصافحها شعاع الشمس فيكسو لجينها العقيان. وتقدم السلطان إلى الأمراء فترجلوا، ونازلوا حين نزلوا. وهجموا على الضراغم في آجامها، وأحوجوها بحد الإقدام إلى إحجامها. ونصب صارم الدين قايماز النجمي علمه على سور الفرنج بيده، ووقف عنده بجلاده وجلده. ووصل في ذلك اليوم عز الدين جورديك، ومعه من النورية المماليك. فترجل وقاتل وأبلى، وأضرم نار الوغى وأصلى، وما ترك من جهده شيئا ولا خلى. وبات العسكر تلك الليلة على الخيل تحت الحديد، منتظبا لنجح الأمل البعيد. فقد كنا تواعدنا مع أهل البلد أنهم يخرجون تحت الليل رجالة وعلى الخيل، ويسرون بأجمعهم على جانب البحر سرى السيل. ويذبون عن أنفسهم بسيوفهم، وينجون بأنفهم وعز أنوفهم. ولو صح هذا الموعد؛ لنجح المقصد. لكن الفرنج اطلعوا على السر، فاضطلعوا بالشر. وحرسوا الجوانب والأبواب، وارتابوا بما أراب. وكان سبب علمهم اثنان من غلمان الهاربين، خرجا إلى الملاعين. واخبراهم بجلية الحال، وعزيمة الرجال. وأصبح العسكر يوم الجمعة العاشر، وقد جمع من الخيل والرجل المعاشر، واقفة على ترتيبه صفوفه، مرهفة على عدوه أسنته وسيوفه، ودام ذلك اليوم على التعبية وقوفه. ولم يتحرك من القوم ساكن، ولم يظهر من العدو كامن. بل خرج ثلاثة من الرس واجتمعوا بالملك العادل فعادوا بعد ساعات ولم يفصلوا قسما من أقسام الرسائل، وانقضى النهار والعسكر بالعدو المحيط بالبلد محيط، ولأذى مقامه مميط. وبتنا على تلك الحالة، وأهل الهدى مراصدون لأهل الضلالة. وأصبحنا يوم السبت وقد ركبت الإفرنجية وتدرعت، وتحزبت وتجمعت. حتى ظننا أنهم اللقاء، فهاجت العزائم منا إلى الهيجاء. وخرج من بابهم أربعون فارسا ووقفوا واستوقفوا، واستدعوا ببعض المماليك الناصرية، فلما عطف إليهم عطفوا إليه، وأخبروه أن الخارج صاحب صيداء في أصحابه، وهو يستدعي نجيب الدين أبا محمد العدل لخطابه. وهذا العدل

ذكر جماعة من العسكرية وصلوا

من أمناء السلطان، وقد أنس الفرنج به لتردده في الرسالات نحوهم في سالف الأزمان. فلما حضر أرسله إلى السلطان، ليتحدث في خروج من بعكاء بأنفسهم بحكم الأمان، وطلبوا في مقابلة ذلك ما يدخل تحت الإمكان. وزادوا في الاشتطاط وتناهوا في الاشتراط. فأنفذ السلطان الملكين العادل والأفضل، ليفصلا المجمل، وبحملا إذا حزا المفصل. فتردد العدل مرارا، ووجد منهم على الإضرار إصرارا. ولم تتحرر قاعدة، ولم تظهر فائدة. وانفصلوا على غير قرار، وعادوا والأمر بغير إمرار. ذكر جماعة من العسكرية وصلوا في يوم الثلاثاء رابع عشر الشهر وصل سابق الدين - صاحب شيرز. وفي يوم الأربعاء بدر الدين أيوب بن كنان؛ وقد حشد وحشر. وفي يوم الخميس أسد الدين شيرطوه؛ وقد أبهج بقدومه العسكر. وفي هذا التاريخ ضعف البلد وعجز من فيه، ضعفا لا يمكن تلافيه. ووقف كرام أصحابنا وسدوا الثغر بصدورهم، وباشروا الأسنة المشرعة إليهم بنحورهم. وشرعوا في بناء سور يقتطع جانبا، حتى ينتقلوا إليه إذا شاهدوا العدو غالبا. ذكر ما طلبه الفرنج في المصالحة على البلد وكانوا اشترطوا إعادة جميع البلاد، وإطلاق اساراهم من الأقياد. فبذل لهم تسليم عكاء بما فيها دون من فيها فلم يفعلوا، وبذل لهم في مقابلة كل شخص أسير فلم يقبلوا، وسمح لهم برد صليب الصلبوت اليهم فانفصلوا عن الأمر ولم يفصلوا. ذكر استيلاء الفرنج على عكاء وكيفية دخولها وفي يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة، ماجت الفرنج ببحور جموعها الزاخرة، وسالت إلى ثغر البلد سيل الأتي إلى القرار، وطلعت في السور المهدوم طلوع الأوعال في فرج الأوعار. وانحدر عليهم أصحابنا انحدار الصخور المدهدهة، وفرسوهم فرس الآساد المحرجة المكرهة. وردوهم أقبح رد، وصدوهم أفظع صد. وما زالت الكرات تتناوب؛ والحملات تتعاقب، حتى كلت الرجال، وفلت النصال. وعرفوا أن الفرنج يستولون، وعلى أحد منهم لا يبقون ولا يخلون. فخرج سيف الدين علي بن أحمد المشطوب وحسام الدين حسين ابن باريك، وأخذوا أمان الفرنج على أن يخرجوا بأموالهم وأنفسهم على تسليم البلد، ومائتي ألف دينار، وألف وخمسمائة أسير من المجهولين ومائة أسير من المعروفين، وصليب الصلبوت، وعشرة آلاف دينار للمركيس،

وأربعة آلاف دينار لحجابه. فلم نشعر إلا بالرايات الفرنجية على عكاء مركوزة، وأعطاف أعلامها مهزوزة. وما عندنا علم بما جرت عليه الحال، وما أحد منا ألا والبال منه قد عراه الوبال. وعم البلاء، وتم القضاء. وعز العزاء، وقنط الرجاء، ولوت أعناق المسار اللأواء. ونسب السلطان ذلك بعد قضاء الله وقدره إلى تقي الدين وما عن له في سفره، فإنه مضى على أن يعود بأضعاف عسكره. فاشتغل بقصد خلاط وأثار في ديار بكر الاختباط، والاختلال والاختلاط. وتأخرت عساكرها عن القدوم، فنتج تأخر نصف العساكر فوات الغرض المروم. وكذلك لم يكن في البلد عدد يفي بصونه، وما كان يضبطه السلطان إلى هذه الغاية لو لم يكن الله في عونه. ونقل الثقل تلك الليلة إلى منزله الأول بشرعم، وأقام بخيمة لطيفة متلهفا على ما تم، ثم انتقل سحرة ليلة الأحد تاسع عشر الشهر إلى المخيم، صابرا على حكم القضاء المبرم، وحضرنا عنده وهو مغتم، وبالتدبير للمستقبل مهتم. فعزيناه وسليناه. وقلنا: هذه بلدة مما فتحه الله وقد استعادها عداه. وقلت له: إن ذهبت مدينة فما ذهب الدين، ولا ضعف في نصر الله اليقين. وما وعكت بعكاء القلوب إلا ولكربها يوم النصر على الأعداء تنفيس، ولو حشتها بعد هذه الحادثة الموحشة تأنيس، ولهذا الدين وان تداعت قواعد بقعة من بقاعه بالعز ليفاعه تأسيس. وخرج في هذا اليوم (اقوش) - رسولا ندبه بهاء الدين قراقوش. يخبر ما قرروه من القطيعة، ويصف كيفية الملمة الفظيعة. وقال: أدركونا بنصف المال، وجميع الأسارى، وصليب الصلبوت قبل خروج الشهر، وإن تأخر شيء من ذلك بقينا تحت الأسر، ونصف المال يصبرون به إلى شهر آخر. فأحضر السلطان الاكابر، وفاوضهم في ذلك وشاور. فقالوا: إخواننا المؤمنون ورفقاؤنا المسلمون، وهل لنا عذر ونحن لهم مسلمون. فتقبل السلطان بتحصيله، وتعجيله بجملته وتفصيله. وأنشأت في استيلاء الفرنج على عكاء هذه الرسالة وسيرت بها كتبا قد عرف أمر عكاء وأن العدو قصدها ورصدها؛ ونزلها ونازلها؛ وقابلها وقاتلها. وبرك عليها بكلكله، وحفل عندها بجحفله. وتواصلت إليها جموعه أفواجا، وجلب البحر نحوها على اثباجه أمثال أمواجه أمواجا. وجاءت رابضة أمامها، ضاربة خيامها، ملهية بها غرامها، ملهبة فيها ضرامها. وانتهت المدة إلى عامين، كل عام تحمل مدود البحر من إمدادها بحارا ويرد الماء بأهل النار مستصحبين من ماء الحديد الجامد نارا. وتصل مراكبهم كأنها الأعلام السود والأمواج ناشرة بيض أعلامها، مالئة جبالها بآكامها، مازجة إصباحها بإظلامها. وتتنافس ملوكهم الباغية، وطواغيتهم الطاغية، في الورود بنفوسها ونفائسها، والوصول بما نفضت فيه كنائن كنائسها، مستخرجة ضمائر خزائنها، مستفرغة ذخائر مكامنها، موضعة ظعائن ضغائنها. مستبضعة متاع

متاعبها، مسرعة إلى معاطن معاطبها. وترد بقناطير اموالها، وجماهير رجالها، ومساعير مصالها، ومشاهير أبطالها. ويحدقون بها من برها وبحرها، ويجثمون بين سحرها ونحرها. وما زالوا يقاتلون أبراجها بالأبراج، ويسومون جدتها بالإنهاج، ويرومون علاج كرامها بمراماة الاعلاج. ويقارعونها ليلا ونهارا، ويبقمون أفواه خنادقها أحجارا، ويناجونها بألسنة المجانيق الطوال، ويطيرون إليها على حمام الحمام كتب الآجال. ويكافحونها قراعا، ويدبون إليها للمضايقة خطا وساعا. ويناطحونها بالكباش، ويعاقرونها من حرابتهم وحرابهم بكلاب الهراش، وحيات النهاش. ويرامونها بكل منجنيق عظيم الخلق، كأنه حامل على الطلق. لا تلد إلا أمات الدواهي، ولا تدع الراسخ الراسي إذا قابلته غير الواهن الواهي. ويقتل الله منهم العدد الدهم، والجمع الجم. ويهلك ألوفا، حتى يعود نافرهم للمنون ألوفا. وقد تجاوزت عدة القتلى منهم في هذه المدة، سوى من هلك بالضائقة والشدة؛ خمسين ألفا قولا لا يتسمح فيه المعبر بالبيان، بل يتصفحه المحرر بالعيان. إلى هذه السنة والحالة في تحقيق قمعهم وتفريق جمعهم جارية على الوتيرة الحسنة. واشتعلت في قلوب أهل النار نار البواعث، وتحدثوا في الحادث. وثاروا للثار، وزاروا بالزار. وانبرى ملكا افرنسيس وانكلتير، وملوك آخرون دبروات أحكامهم وأحكموا التدبير. وجاءوا في مراكب بحرية حربية، وبطس حمالة فرنجية، واجروا في البحر منها السيول، وجروا من ذوات الشراع عليها الذيول، وحملوا فيها الخبالة والخيول. ووصلت كل قطعة كأنها قلعة، وكل بطسة كأسها تلعة. وكل سفينة فيها مدينة، وكل مجرة على سماء البحر بنجوم الرجوم مزينة. فأحدقت بالثغر من البر والبحر، وأحاطت بمركز الإسلام دائرة الكفر. وأطافت منها الأسواء بالأسوار، والظلماء بالأنوار. ومنعت الداخل والخارج، وسدت على ناقل الميرة وحامل السلاح الموالج والمناهج. وزاحفوه بكل منجنيق كنيق، وكل برج وثيق، وكل دبابة كأنها دابة الأرض التي تقوم عندها القيامة، وكل سلم لا ترجى معه السلامة. وكل آلة آلت أن الفتح منها بالحتف، وأقسمت أنها تقسم سهام سهامها لذوى الحفز بالزحف. هذا والعدو قد حفر من جانبنا وعمق، وسور وخندق. وتدرع بأسواره وخنادقه، وتستر عن طوارق البلاء بستائره وطوارقه. فلا يخرج منه إلى معاركه، ولا يدخل إليه لضيق مسالكه. وهو متحر متحرس، متستر متترس. عاص على الهجم، عاس على العجم. لا يقتحم سده، ولا يلتثم حده. ولم تزل الحالة تتمادى، والواقعة وليدها لا ينادي، والمدى يتطاول، والمدد يتواصل. والقضية تترامى، والرمية تتقاضى، ومقاتلة الثغر صابرون مصابرون، مكابرون مضابرون. فمن مستشهد عدله الجرح، ومن مستنجد عطله القرح، ومن دام بالجرح

رام عنه، ومن نازع في القوس نازع منه، ومن متعرض للموت خوف عار عارض، ومن ناه عن السلم آمر بالحرب ناهض، ومن ندب فيه ندوب، ومن ضرب فيه من أثر الضرب ضروب، حتى ضج الحديد من قرع الحديد، ومجت الشفار الظامئة ورد الوريد. هذا وعدد المقاتلة في كل يوم ينقص، وظل المصابرة يقلص. والعدم يتمكن من الوجود، والقيام للإثخان في زي القعود. وكاد البقاء يودع الباقين والمنون تلاقى الملاقين. فلم يشعروا إلا وبعض المقدمين المشهورين قد تأخر وتستر، واستشعر الذعر؛ فتعذر وتحذر. واستبدل الجبن من الشجاعة، واستملى العجز من الاستطاعة، وقدم العصيان على الطاعة. وظن إنه لا نجاح له في العزيمة، ولا نجاة له إلا في الهزيمة. وجنب أمثاله من الجبناء، وجمع إلى أمره جماعة من الأمراء. فخرج بهم من الثغر فارا، وذهب على وجهه معهم مارا. ورهب فهرب، وحسب فتسحب. فأضعف قلوب البقية استشعارا، وأعدمهم عدم قراره قرارا. لكنهم ثابوا إلى صبرهم، وثبتوا على أمرهم، ودفعوا مكر العدو بمكرهم. وما برحوا على مصابرة ومكابرة، ومقارعة ومعاثرة، ومكافحة وملافحة، ومواقعة ومواقحة، ومطاحنة ومناطحة، وجلد على الخنادق التي طمت، ورمى في خروقها التراب ورمت. وطرقها العدو بالسوء إلى السور، وطرق الظلمة إلى النور، وهجم على السنى بالديجور. وكشف نقاب عروس البلد بالنقب، وأسعر بمساعيره حر الحرب. حتى ثلم حمى الثغر وكلم حاميه، وأشرفت مراميه. وكثرت ندوب نقوبه، وكرثت خطاب خطوبه. ودخل العدو في النقب فلم يجد لكونه مجدلا أو مجرحا مخرجا، وتوغل في الباب الخلاص المرتجى مرتجا. وكل من أصحابنا قد سد الثغرة بنفسه، ولقي الوحشة بأنسه. وفارق لوصال أهل الجنة أهله، وأثبت في مستنقع الموت رجله. ولم يزل النقابون يوسعون ويمشون؛ ويعلقون ويحشون؛ ويخرقون ويحرقون؛ ويجمعون ويفرقون؛ حتى تساقطت الأبدان فعادت تلولا، وتعانقت الأسياف فزادت قلولا. وتكشفت الوجوه لقبل الطعان، وبردت بحرارة الدم قوائم اليمانية في الإيمان، وبردت بمجالدة اجلاد الشرك إيمان انجاد الإيمان. وأصحابنا لا يهولهم الهائل، ولا يميلهم إلى الحذار الجدار المائل، ولا يلزعهم الخطب الوازع، ولا يردعهم الرعب الرادع. يواصلون بالقواطع، يتواقعون على الوقائع، ويردون بغربهم الطالع، ويقدون بحدهم الدارع. إذا انتظموا مع العدو نثروه، وإذا نهضوا له اقعدوه وعثروه، وإذا صعد إليهم حدروه، وإذا بادر اليهم بدروه وندروه. حتى أقاموا منه عوض أبدان السور أبدانا، وكم تركوا على تلك المصارع من جاثميها جثمانا. وما زالوا يقتلون ويقتلون، وينهلون من ورد النجيع وينهلون؛ ويصلون ويقطعون، ويشعبون ويصدعون، ويكيلون بصاع المصاع، ويجيبون للعمر الراحل داعي الوداع، ويتناجون

فصل من كتاب إلى قطب الدين بن نور الدين بن قرا أرسلان

بالسنة المناصل، ويتقابلون بوجوه الصواقل، ويتشاكون بكلام الكلام، ويتلاقون بسلام السلام، ويتساقون بصحاف الصفاح؛ ويتماشون بمراح الرماح؛ ويستحلون ضرب الضراب؛ ويستجلون صفحات الصفائح من قراب الرقاب؛ إلى أن انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن الستائر إلى الستور، ومن الطوارق إلى الطرق والسطوح، ومن المضايق إلى السفاح، ومن المراقب إلى السفوح. حتى لم يبق من المجاهدين إلا سبائك زحوف، وترائك حتوف. وبقايا طرائح، ورذايا طلائح، ومسوقو جرائح، ومشوقو ضرائح. قد فصلتهم المشرفيات، وخاطتهم الخطيات. ورشقتهم القسي القاسية ورشفتهم الظبا الظامية. لا ينهض قويهم من الكلول، ولا يفرى فريهم من الفلول. وقد شغلوا بسد تلك المضايق، ورد أولئك الخلايق. فما شعروا إلا وقد دخلت من اقطارها، وتوغلت من أسوارها. وازدحم العدو في مشارعها وسبلها، (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها). ولما عرف العدو الداخل، والعادي الواغل؛ أن القوم مستقتلون؛ وللموت مستقبلون؛ وأنه لا طاقة له بمقاومتهم؛ ولا قوام له بطاقتهم؛ وأنهم لا يسلمون وهم يسلمون؛ ولا يبقون وهم يبقون؛ أعطاهم أمانا أخطر من المخافة، ودخل على الإغارة باسم الضيافة. وعز أصحابنا بما بذلوه من الوسع وما هانوا، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا. ولا مرد لما فيه لله من المراد، ولا مدفع لحكمه في البلاد والعباد. وإن ذهبت مدينة فلم يذهب الدين، وإن غاض معين فما غاب المعين، وإن ارتاب المبطلون فما فارق الحق اليقين. وإن فتح المرتج فما فات المرتجى. وإن ادلهم الديجور فلا بد أن يسفر عن الصبح الدجي. ولا يشمت عدو الإسلام بما جرى، فعند الصباح يحمد القوم السرى. فصل من كتاب إلى قطب الدين بن نور الدين بن قرا أرسلان قد أحاط علم المجلس بما حشده الكفر في هذه السنة من مدد ملوكه وكثر على نهار الإسلام بإظلام ليل الكفر وحلوكه. فالإسلام ينشد ظهيره. وبطلب الدين لكشف غمته من (ابن نوره) نوره. وهذه عكاء التي كنا عنها ندافع؛ وعن ثغرها نمانع؛ ونجري دماء الواردين في البحر لقصدها في بحرها؛ ونرد للرد عنها مكايد العداة في نحرها؛ قد تمكن منها الكفر على كره من الإسلام، واحتاج من أبى إسلامها بعد أن صابر وصبر إلى الإسلام. وكانت مودودة فعادت مؤودة. وصارت مغصوبة بعد أن كانت عارية من الكفر مردودة. وإذا أفكر من خذلها؛ وما أخذ لها؛ وغاب عنها وما حضرها؛ علم أنها أسيرة إهماله، وأخيذة إغفاله. وحاشى أن يكون المجلس بالغيبة عنا راضيا، وعن النجدة عند تحقق الحاجة إليها متغاضيا. وما بقي للفرنج مع استيلائها

ومن رسالة أخرى في استدعاء مظفر الدين من إربل تشتمل على حادثة عكاء ووصف الحال الجارية فيها

على الموضع، إلا زائد قوة في المطمح والمطمع. وقد عزمنا على المصاف، وصد صدمة الكافر بالجد الكافي الكاف، والله كافل دينه بالنصر، والمردى بمكره أهل المكر. وما هذا أوان الونى، بل هو زمان استنتاج المنى. فإن العدو الخادر قد آن أوان أن يصحر، وليل الهدى قد قرب أن يسفر. ومن رسالة أخرى في استدعاء مظفر الدين من إربل تشتمل على حادثة عكاء ووصف الحال الجارية فيها قد علم ما دهم المسلمون من العدو الكافر؛ والطاغية الحاشد الحاشر، وأنه ورد في البحر بكل من الكفر في البلاد والجزائر؛ وما قصده إلا بيضة الإسلام وحوزته، وأن الله تعالى هو الذي تكفل بذلة أعدائه عزته. ولا شك إنه عرف ما تم منه على عكاء بعد ذبنا عنها في هاتين السنتين، والمضابقة للفرنج ممن بعكاء ومنا بين الحصارين. وأنهم كلما دبروا أمرا دمرناه، وكلما حققوا كيدا أبطلناه، وكلما قدموا منجنيقيا أخرناه وعطلناه، وكلما ركبوا برجا أحرقناه، وكلما كثفوا حجابا خرقناه، و (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله). حتى لم يبق لمكرهم مكر، ولا لكيدهم مجال، ولم يتسق في هذه المدة لهم حال. وقتل منهم في عدة دفعات زهاء خمسين ألف مقاتل، من فارس وراجل ولم نشك في استيعابهم بالردى، وأن حزب الضلال قد أفناه حزب الهدى وحسبنا أنهم بائدون؛ فإذا هم زائدون. وظننا أنهم هالكون، فإذا هم في نهج القتال سالكون. وهم حطب نار الحرب، وطعم الطعن والضرب. وكم بذلوا أرواحهم على حب (المقبرة)، وحصلوا تحت العجز لزعمهم أنهم يأتون بما فوق المقدرة. ولما دخلت هذه السنة أشفقنا على من في عكاء من الأصحاب والأجناد وقلنا: هؤلاء قد بذلوا في الجهاد ما كان في وسعهم من الاجتهاد. ورأينا أن نجدد للبلد البدل، وأن نسد ونسدد بما نستأنفه الخلة والخلل. وكان فيه أكثر من عشرة آلاف رجل، من كل ذمر وكمى بطل. فخرج هؤلاء ولم يدخل إليهم مثل العدة، ولم يكن أيضا من دخل بذلك الجد وبتلك الشدة. فإن البحر قبل استكمالها منع راكبه، وحمى جانبه ووصل العدو وعجل مراكبه. فاكتفى البلد بمن فيه وما فيه كفاية، واتكل على الله الذي عصمته من كل واقعة وقاية. وجاءت ملوك الفرنج خلاف كل عام، في جد واعتزام، وحد واهتمام، وجمع لهام، ونار تعجلها العدو من جهنمه وضرام، وغرام بالواقعة وعرام، واحتداد للحادثة واحتدام، وبأس وإقدام، وناس وأقوام. وحشد ملأت به سفنها، وأخلت منه مدنها. ووصل ملكا افرنسيس وانكتير، وقد أحكما التدبير، وأجلبا بخيلهما ورجلهما، وأناخا بكلكل كلهما، وبركا بثقلهما،

وزحفا بجهدهما وجهلهما. ووافوا بكل برج وثيق، وكل منجنيق كنيقوكل آلة هائلة، ودبابة للبلايا حاملة. ونصبوا ثلاثة عشر منجنيقا هعى موضع واحد، وأهبطوا حجارات السور بكل حجر صاعد. وباشروا الباشورة بالهدم؛ والخندق بالطم، والسور بالنقب والثلم. وخرج من نقابي البلد من ارتد عن الدين، وأعان نقابي الملاعين. حتى وقعت أبدان السور وأبراجه. وتبادر إلى الثلم أعلام الكفر وأعلاجه. وأصحابنا مع ذلك ثابتون، ناكبون كابتون. قد سدوا تلك الثغر بنفوسهم، وجعلوا حجارات الفرنج وجراحاتها مغافر رؤوسهم. وكشفوا وجوههم لقبل السهام، وتلفعوا من وقع بيضها بحمر اللثام. ترشف شفاه الشفار دماءهم، وتشكر ملائكة السماء سماحهم بالمهج وسخاءهم. كلما انتظموا مع العدو انتثر، وكلما نهضوا لتلقيه عثر. وكلما طلع إليهم ردوه بغربهم، وكلما اجتمعوا به فرقوه بطعنهم وضربهم. وهم يواقعون ويولقحون، ويكافحون ويلافحون. وكل قد وقف في موقف الكرام وسل نصله، واثبت في مستنقع الموت رجله، وودع للجنة في لقاء أهل النار أهله. فخانهم بعض الأمراء الجبناء، وأخذ للحياة بترك الحياء، وفر من البلاء إلى البلاء، وحسب النجاة في النجاء. وهرب في بركوس قد أعده لذلك اليوم، وآثر على جراح السيف جراح السب واللوم. واستصحب أمثاله واستتبع، وأبعد في فراره وأبدع. وأضعف بضعف قلبه قلوب الباقين، وأطمع أفاعي الكفر في نهش الراقين. على أن الأصحاب ما آذنوا بالاصحاب، ولم يقابلوا الضراب بالإضراب. وما زالوا يواصلون بالقواطع، ولا يرتاعون للروائع، ولا يريمون مقام المقامع، ويطالبون من الأرواح بالودائع. حتى انتقل القتال من السور إلى الدور، ومن القوارع إلى الشوارع. ودخل العدو المدينة على سلم بالحرب شبيهة، وأمن أخوف وأخطر من كريهة، وقطيعة فظيعة، كل منة لها غير مستطيعة. ولولا ما اتفق بعد قضاء الله من الأسباب الموهنة، لم تكن عكاء بالممكنة للعدو ولا المذعنة. وإن ذهبت المدينة فالدين لم يذهب، وإن عطبت فالإسلام لم يعطب. وإن ملكت واحتلت فما اختل الملك، وإن سلكت ووهت فما وهي السلك. وإنما نبه الله بها العزائم الراقدة، وأجرى مياه الهمم الراكدة. وبعث الحميات الناعسة، وحرك النخوات المتنافسة. وكما أظهر عجزنا عن قدرته وقدره؛ سيظهر عزنا بنصره وظفره. ونحن إلى الآن كما كنا؛ محتدون بخنادقهم، آخذون بمخانقهم، نوسعهم الردى في مضايقهم، ونجذبهم في كل يوم إلى مصارعهم، ونكدر بعلق نجيعهم صفو مشاربهم ومشارعهم. فما خرج منهم من دخل، وما انقطع إلا من وصل. وما أصحر إلا من ندبه عريسه وعرسه، وما برز إلا من واراه من بطون الخوامع رمسه. فهم مقيمون لا يريمون مخيمهم، وأن يرومون أن يهجروا

ذكر لطف من الله في حق خفي

مجثمهم. وما أنسوا بمرابض المضارب، إلا لنفرتهم من مضارب القواضب. وهم مع ذلك يرجفون تارة بالخروج إلى المصاف، وآونة بالنهوض إلى بعض الأطراف. وفي كلا القصدين إن شاء الله دمارهم المعجم، وبوارهم المؤمل. فإنا نعترضهم أين واجهوا. ونواجههم أين اعترضوا، ونعثرهم أين نهضوا، ونثيرهم للموت أين ربضوا. وربما غرتهم عكاء فطمحوا وكمعوا. واتفقوا على المصاف واجتمعوا. ووقعوا على نار الحرب وقوع الفراش، وتعوضوا مصارع أمثالهم والثرى لهم وثير الفراش. فإن برز العدو فالمنون له بارزة، والعزائم له مناجرة، والعساكر الإسلامية إليه وعليه زاحفة حافزة. والمجلس أولى من ينتخي ويحتمي، وإلى هذا المرام من قهر الكفر يرتمي وينتمي. ويصل بجمعه اللهام الملتهم، وبجمهرة الملتهب المضطرم، وبمجره المحتد المحتدم، وبفليقه الفالق ترائك العداء، السافك السابك في نار الوغى سبائك الظبا. الحاص الحاصد بحدود الشفار سنابل الطلى. وهو لا شك ينهض ويستنهض من وراءه، ويستدعى من إذا ناداه أجابه وجاءه. ذكر لطف من الله في حق خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكاء بسنة؛ قد عمل ترجمة تفرد بها القاضي ابن قريش لمكاتبته الأصحاب، ليكتب بها إليهم ويعود بها الجواب. فلم يبق المكاتبة ابتداء وجوابا بخطى، وخرج حكم عكاء في الكتابة عن شرطي. فقلت لأصحابي: ما صرف الله قلمي عن عكاء إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود، وأن النحوس تحلها وترحل وتحل عنها السعود. واستعاذني الله من استعاتها، وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها. ولقد عصم الله قلمي وكلمي، وعرف شيم مخايل الطافه من شيمي. وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري، وما أجراه الله إلا بأجري. فالحمد لله الذي صانه، وعظم شانه، وما ضيع إحسانه. وهو للفقه والفتيا، ومصالح الدين في الدنيا. وما عرف إلا بعرف صرف إلا عن صرف. وما سفارته إلا من نجح، وما إسفاره إلا عن صبح، وما تجارته إلا لربح. فهو يمين الدولة وأمنيها، ومعين الملة بل معينها. بمداده يستمد إمدادها، وبسداده للثغور سدادها. ودواته دواء المعضلات، وبعقده حل المشكلات. وبخطه حط عوادي الخطوب، وبقطه قط هوادي القطوب. وببريه برء الأمراض، وبدره در الأعراض. وبدره انتظام عقود العقول، ولدراريه ابتسام الإقبال والقبول. وبجريه جرى الجياد للجهاد، ويسعيه سعى الأمجاد للانجاد، وبحركته سكون الدهماء، وببركته ركون الرجاء. فما كان الله ليضيعه في صون ما لا يصونه، وعون من لا يعينه. فخفت على عكاء من وقوف قلمي عنها، وكان قد ألهمني الله فإنه صانه ولم يصنها. وشكرت الله على هذه اللطيفة، والعارفة الطريفة.

ذكر ما جرت عليه الحال بعد استيلاء الفرنج على عكاء من الوقائع

ذكر ما جرت عليه الحال بعد استيلاء الفرنج على عكاء من الوقائع وفي يوم الخميس انسلاخ جمادى الآخرة، خرج الفرنج من جانب البحر بالعدة الوافرة. وانتشروا بالمرج إلى الآبار التي كان حفرها العسكر. فضرب الكوس السلطاني، فثار المعشر، وقام المحشر. وأنهض السلطان إلى اليوك من قواه، واتبعه بمدد تلاه. وقد طار غراب الغبار، وتبرقت بالتراب عراب المضمار، وشبت الوغى بكل تمانع سوى فارسها ركابها، وتعير الشمس من نسج حافرها نقابها. في غلب كالقواضب يروون القواصب، وطوالع من الغروب يعدن في الغوارب غوارب. وحمل على إبطال الباطل حماة الحق، فردوا الكفر بذلك الخرق المتسع متسع الخرق. وانهزم الفرنج فجالت العرب دونهم، وحالت بينهم وبين أسوارهم، وأحالت عليهم منونهم. وصرعوا زهاء خمسين رجلا، كروا عليهم بكاسات المنون نهلا وعلا. وردوهم إلى مراكزهم، ولم يبن لقادرهم فضل على عاجزهم. ثم كر الفرنج على المسلمين كرة عظيمة، كادت تحدث هزيمة. فوقف أصحابنا وثبتوا ثم وثبوا، واسعروا نار الحديد والهبوا. ونظموهم بالقنا ونثروهم بالظبا، وفرشوا منهم قتلى على الربا. واحتبت سيوفهم بالأعناق والطلى، وحلت من حياة العدا الحبا. ودخل القوم إلى خنادقهم ووقفوا وراء اسوارهم بإثارة عثيرهم وآثار عثارهم. وانتصف الإسلام من الكفر في ذلك اليوم بعض الانتصاف، وأخذ يد النصر على المصافاة بمصافحة المصاف. وفي يوم الجمعة ثامن رجب جاءت الرسل في تقرير القطيعة المقلالاة، لخلاص الجماعة المستأسرة. وأخبروا أن ملك أفرنسيس صار إلى صور. ورتب الدوك نائبة وولاه الأمور. وأنه قد عزم على العود إلى بلاده بعد ما جرى الأمر بعكاء على مراده. وأنه وكل المركيس في قبض نصيبه، ورضى بتدبيره وترتيبه. فأنهض إليه السلطان وراءه رسولا بتحف تليق به، يستخرج ضمائره فيما هو من أربه، ونقل خيمته يوم السبت العاشر إلى تل بازاء شفرعم وراء التل الذي عليه نازلا، وحلى الموضع الذي حله وخلى الذي أخلاه عاطلا. وما زالت الرسل تردد، والرسالات تجدد، والآراء والآراب تجتمع وتبدد، حتى أحضر مائة ألف دينار والأسارى المطلوبين وصليب الصلبوت، ليوصل ذلك كله إلى الفرنج في الأجل المضروب والوقت الموقوت. ووقع الخلف في كيفية التسليم والتسلم، وكيف يحصل الوثوق بالكفار مع تحمل هذا المغرم. فقال السلطان: أسلمه إليكم على أن تطلقوا أصحابنا أجمعين، وتأخذوا بباقي المال على سبيل الرهن قوما معينين، فأبوا إلا أخذ الجميع، في الزمان السريع. والوثوق بأمانهم وأمانتهم، والتفويض في أصحابنا إلى خيرتهم. فقلنا لهم: يضمنكم الداوية. فما دخلوا في الضمان، وساء فيهم ظن السلطان. وقال: إذا سلم إليهم من غير شرط الاحتياط عليهم؛ كان فيه على الإسلام غبن عظيم، وعار إلى الأبد مقيم، فلو أيقنا

ذكر غدر ملك الانكتير وقتل المسلمين المأخوذين بعكاء

خلاص أصحابنا، وعرفنا بنجاتهم انتظام أسبابها؛ سمحنا لهم في الحال، بصليب الصلبوت والأسارى والمال. وبقي الأمر واقفا إلى أن انقضى الأجل، وانتهى الترم الأول. وجاء الرسل وأبصروا الأسارى حضورا، والمال موزونا موفورا. وظنوا أن صليب الصلبوت قد أرسل إلى دار الخلافة فليس له وجود، فسألوا إحضاره وهم شهود. فلما أحضر، خروا له ساجدين، وأقروا به شاهين. وعرفوا أن الشرط بالوفاء مقرون، وأن الأداء بخلاص أسارنا مرهون. وظهرت علامات مكرهم، ولاحت أمارات غدرهم. وفي يوم الأربعاء العشرين من رجب أخرج الفرنج إلى ظاهر المرج خياما ضربوها. وخرج ملك الانكتير إلى خيمته. ومعه خلق من خيالته ورجالته. ذكر غدر ملك الانكتير وقتل المسلمين المأخوذين بعكاء وفي عصر يوم الثلاثاء سادس عشر رجب ركبت الفرنجية بأسرها، وخرجت من مستقرها، وسارت بخيلها ورجلها، وجحفلها وحفلها. وجاءت إلى المرج الذي تل العياضية وتل كيسان، ونفذ اليزك وأخبر السلطان، وركبت العساكر نحوها متسابقة متلاحقة، وشامت صوارم صادفة، وعزائم صادقة. وكان الملاعين قد أحضروا أسارى المسلمين في الحبال واقفين. وحملوا عليهم وقتلوهم بأجمعهم، والقوهم على مصرعهم. فحمل عليهم العسكر وهامهم، وضرب بأمواجه أمواجهم. وقتل منهم خلقا، وأوسع فيهم خرقا. واستشهد منا كردى حميدي وبدوي، وكلاهما من الموصوفين بالشجاعة وهو من ماء الرحمة على الكوثر روى. فلما انصرف العدو إلى خيامه، وركد الروع بمثار قتامه، شوهد المستشهدون بالعراء عريا، وإنما عروا ليكتسوا من حلل الجنان التي اكرمهم الله بها وشيا. ومضى الناس اليهم فعرفوا معارفهم، ووصفوا في سبيل الله مواقفهم. وما اكرمهم رجالا، أحسنهم في الشهادة والسعادة حالا. ولما غدر الفرنج بسفك الدماء، وهتك ستر الوفاء، تصرف السلطان في ذلك المال، وبسط فيه يد النوال. وأعاد أسارى الفرنج إلى دمشق لتعاد إلى أربابها، وترجع إلى أيدي أصحابها، فإنهم جمعوا من أهل البلد للحاجة اليهم، فلما استغنى عنهم ردوا عليهم. وأعيد صليب الصلبوت إلى الخزانة، لا لإعزاز؛ بل لإهانة. فإن غيظ الكفار بحفظنا للصليب شديد، والمصاب به عندهم على مر الجديدين جديد. وقد بذل فيه الروم ثم الكرج بذولا، وأنفذوا بعد رسول رسولا، فما وجدوا قبولا، ولا صادفوا سولا. وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب قوضت الفرنج خيمها وعبرت النهر، وقاربت البحر. وضربت بينهم الخيام، وأنبتت من الرماح المركوزة على سباعها وضباعها الآجام. فقيل للسلطان ما حركة القوم إلا لقصد عسقلان. فجاشت همومه، وعب عبابه، واجتمع بناديه لإجاله قداح الرأي أصاحبه، وسح سحابه، وصح حسابه.

ذكر رحيل الفرنج صوب عسقلان ورحيلنا للقاهم

وحكم فأحكم، وبرى فأبرم. واستشار وأسار، واستثار وأثار، واستورى زناد الآراء، وامترى مراد الأمراء. وقال: هذا العدو طغى واستكبر، وأصحى له الأفق وأفاق وأصحر. وقد تحرك بعد سكونه، وظهر بعد كمونه، وغرته عكاء فطمع في عسقلان، واسترق جانبنا الخشن الشديد عليه واستلان. وهذه جموعه بارزة، وكعوبه راكزة. وعوراته بادية، وثوراته عادية. ونكراته معروفة، وغدراته موصوفة. وكنا نقول إذا برز نبارزه، وإذا خرج نناجزه. وإذا فارق مكانه نتمكن من تفريقه، وإذا رطب الطريق نركب إلى طريقه. وإذا توجه إلى موضع أوضعنا إلى مواجهته، وأغرينا ألسنة الأسنة بمشافهته ومشافهته. والآن ألان الله لنا الشديد، وأدنى علينا البعيد، وأخرج العدو من الضيق إلى السعة، وأبرزه من وراء الأسوار والخنادق الممتنعة، وإن لم نلقه في طريق مسيره؛ ونجد في التدبير لتدميره؛ وصل إلى عسقلان فصار لنا منها شغل عكاء وأصعب، وحينئذ نتعب، وصدعنا بها لا يشعب. فقالوا: هو يسير بالبحر محتميا، وعن النهج منئيا، ويقصد الساحل الساحل، ويقتصر المراحل. والذي يلي الساحل في الطرق إما آجام وغياض غبقة متأشبة، وإما رمال وتلال ضيقة متكثبة. وهناك مواضع يمكن فيها مضايقته على المضايق، ومواقعته بالعوائق. فتقدم السلطان إلى علم الدين سليمان بن جندر، وأمير من أهل الخبرة آخر بالمسير إلى تلك المناهج، ومشاهدة ما لها من المخارج والموالج. وكشف المواضع التي يلقي فيها العدو، ويؤمل بمقاتلته فيها من الله النصر المرجو. فسارا ينفضان تلك المسالك، ويكشفان الأماكن التي تكون معارك، ونتخذها لمبار المرام مبارك، ولمدار المراد مدارك. وعادا وقد ظفرا بقاع وبقاع. وعينا على أماكن ومكامن، ومواطئ ومواطن. ووقع الإجماع على الاجتماع، على اللقاء والقراع. في مذاهب تعينت، ومسارب تبينت. وسهول عرفت، ومروت وصفت. وصمم العزم على أن الفرنج إذا ساروا سرنا على عراضهم، واستقمنا على جدد الجد في اعترائهم واعتراضهم. ذكر رحيل الفرنج صوب عسقلان ورحيلنا للقاهم وفي سحرة الأحد غرة شعبان، أضرم الفرنج في منازلهم النيران. واصبحوا على الرحيل والأصوات مختلطة بالصهيل. والأرض مضطربة، والسماء محتجبة. والقباب تقوض، والعياب تنفض. والجعاب تنثل، والهضاب تنقل، والذئاب تعسل. والزغف يفاض، والحتف يخاض. والخيل ترج، والسيل يمرج. وذوائب الذوابل تنشر، وأنياب النوائب تكثر. ولواء اللاواء يعقد، وضرام الضراء يوقد. والبيارق تخفق، والبوارق تأتلق. والدودو، والجوجو. وللحديد يتبوج، وللعديد تموج. وقد ثارت الجواء، وفارت الجأواء، ودجت الأضواء، ورجت الضوضاء. وسال الوادي، وعدت العوادي، وسار الأعادي. وعلم السلطان تدبيرهم، وعرف مسرهم، فرعدت كوساته، وغردت

بوقاته. وصاحت طبوله، وساحت سيوله، وانحبت ذيوله، واصطخبت خيوله. وبرقت لوامعه. وأشرقت طوالعه. ومضت عزائمه، وومضت صوارمه. وحلقت العقبان إلى مطار مطارده، وتألقت الخرصان في معاقل معاقده. وسار وأرضه جرد الضوامر، وسماؤه نسج الحوافر. في بحار سوابح يموج على شكائمها اللعاب، وغدران سوابغ كالزلال لمعه الحباب. ومجر ملتهب الجوانب، مشتعل القواضب، وقب معقودة السبائب، مقودة الجنائب، معصوبة الهوادي هادية العصائب. وعرب ملوية العمائم بالشهب، ملوثة البرود بالقضب. وترك كالأقمار في هالات التروك، ومماليك في حالات الملوك. وعتاق الوجوه على الوجيهيات العتاق، قد خلقوا للثبات مع قلق الأخلاق. وأعاجم على العراب، عضاب على هضاب. وكرد بحصون الدروع محتمين، وبقباب اليلب مستعصمين. في مسردة الحدق. تقهقر عنها اللهاذم. وتقهقه إذا فلت بها الصوارم. وجيش يصيب العدو ولا يصاب، ويعيب الأقران ولا يعاب. من كل ناصر للحق، على ضامر للسبق، خرق للنقع راقع لخرق، فاتق للرتق، راتق للفتق. معنق إلى الضرب ضارب للعنق. وفيلق همه فلق الهام، وجحفل ملتهم للجخفل اللهام. يحوي كل أغلب عبل الذراع، وأشم رحب الباع. خواض الكتائب، فياض القواضب. رواض الرعان، نضناض السنان، موار العنان، فوار الجنان. قائد الخيل، زائد السيل، رائد الليل. وهاجت العساكر، وماجت الزواخر، فزأرت القساور وأزهرت الزواهر. وتناحت جذبات الحديد وعذبات الحرير، واشبه سهك الماذي بعبيق العبير. وكانت نوبة اليزك في ذلك اليوم للملك الأفضل، وهو في نخبة الجحفل بدور ليل القسطل، وشموس يوم المحفل. فوقف لهم وقفا اثرهم، والهبهم بنيران النصال واسعرهم. وقطع طريقهم، وقصد تفريقهم وسطا على أوساطهم (ونادى بإيراد زناد ايراطهم). فانقطعت أواخرهم عن أوائلهم، وسدد سهام المنون إلى مقاتلهم. وأرهق إليهم الأجل. وأحرق عليهم العجل، وطرق نحوهم الوجل، وانهزم من تقدم ولحق الأول، وتعكس من تأخر وانخذل وانخزل. وأوقد نارا على أهلها مشعلة، وترك تلك الوقعة للمجاهدين الحاضرين مشغلة. ونفذ إلى والده يستنجده، حتى يسرع إليه مدده. ويقول: إن أمددت بالألإ ما أبقيت من هؤلاء واحدا، ومتى يتفق مثل هذه الفرصة لو أرى لي مساعدا. وترددت إلى السلطان رسل استنجاده واستمداده، وهو متحقق إنه لو ساعده القدر بالقدر لمرى در النصر على مراده، فسار من كان حاضرا من العسكر على عزم أنجاده وإسعاده. ثم قيل للسلطان ما كنا ركبنا بنية المصاف في هذه المرحلة، والناس قد سبقوا إلى المنزلة. وهناك عند قيسارية الحرب أمكن، والقلب إلى انهاز الفرصة أسطن. وأبطئوا عن الاصراخ، فآذن روع الفرنج بالأفراخ. وعرف ملك الانكتير بما تم على ساقته، وأن الذي وراءه في عاتقه. فصرف عنانه صرف عناده وعاد عاديا

فصل من كتاب إلى مظفر الدين بذكر ما جرى بعد الرحيل من عكاء إلى هذه الغابة لاستدعائه

بحماته، فحمى بمدده إمداده. والملك الأفضل قد بذل وسعه، وأوضح في الجد شرعه. وقتل من وصلت إليه يده، ولقد كان يضعف عدد الأعداء لو تضاعف عدده. وبقي يلتهف على ما فاته من الفرصة، وأعوزه من حصة تلك الحصة. فقد إنهاض بانتهاضه جناح الكفر، وكاد يفتح لارتجائه رتاج النجاح في النصر. ومن جملة من كان مع الملك الأفضل من خواص الأمراء والمماليك؛ سيف الدين يازكوج وعز الدين جوديك. واتفق قولهم على أن العدو كان قد أنكسر، وتبدد وتبتر. وأنه لو أتصل بهم مدد لم يبق من الأعداء أحد. ونزلنا تلك الليلة بلقيمون في الوقت الميمون. وعلى الساقة المنصورة لحفظ الأثقال لتؤمن على ما تخلف فيها من العدو الغارة؛ علم الدين سليمان وحسام الدين بشارة. ورحلنا يوم الاثنين ثاني شعبان ونزلنا بقرية يقال لها الصباغين، وبتنا بمنزلة يقال لها عيون الاساود. وأمر السلطان للمشورة بحضور أوليائه وأمرائه الاماجد الأجاود. والفرنج لما وصلوا إلى حيفا وقد وصل إليهم الحيف، وساق ساقتهم السيف؛ وخلصوا من نواجذ النصال؛ وانياب النبال؛ أقاموا بها حتى يندمل جريحهم، ويسريح طليحهم، وتهب بعد الركود ريحهم. وركب السلطان على الملاحة وهي بعد حيفا منزلة القوم، وكشف ما حولها بالحوم. وعرف هل عليهم منها مدخل، وهل يصاب منهم فيها مقتل. ثم عاد إلى منزلته وأقام بها يوم الثلاثاء وسير الأثقال إلى مجدل يابا ليلة الأربعاء. وأصبح راحلا، فما حل حباه بأرض إلا أحيا ماحلا. ونزل على النهر الذي يجري إلى قيسارية، وعسكره قد طبق تلك البرية. وكان العدو قد تحول إلى الملاحة، ومكث بها للاستراحة. وأقام السلطان بتلك الناحية، يتحول من رابية إلى رابية، ويرهف لقاء الفرنج بحضه وحثه كل عزيمة نابية. وأتى مرارا بأسارى خطفوا من مواقفهم، وقطفوا من منابتهم، وطرق الانكدار إلى ثواقب ثوابتهم. فأمر بإراقة دمهم، وإطاحة رممهم. وأخبره بعض الاسارى أنهم يوم رحلوا وصلوا إلى حيفا حيارى. وطرح منهم وجرح كثير، سوى من أخذ فهو الآن أسير. وهلكت بين عكاء وحيفا أربعمائة فرس، ونجوا منكم بأنفسهم على آخر نفس. ولو أنكم كبستم كسبتم، وأعريتموهم من الحياة لو أنكم بهم التبستم. فصل من كتاب إلى مظفر الدين بذكر ما جرى بعد الرحيل من عكاء إلى هذه الغابة لاستدعائه ولما فرغ العدو من شغل عكاء حسب أن (كل بيضاء شحمة)، وأن (كل سوداء فحمة). فرحل على صوب حيفا واقعا في حيفه، باحثا عن حتفه بظلمه. زاعما إنه على قصد عسقلان - خذله الله وخيبه - في قصده وزعمه، وهو حاصل منا على صده ورغمه.

وقعة قيسارية

وكان رحيلهم مستهل شعبان وملك انكتير قائدهم إلى البوار، ووافد أهل النار إلى النار، ولقيناهم من بواترنا بواتر التبار. وقد رحلنا في عراضهم اعتراضهم، وتعثيرهم في طريق انتهاضهم. ولقوا يوم رحيلهم من اليزكية الزكية كل نكاية فيهم شديد، وكل روعة لهم مبيدة. فإنهم قطعوا ساقة العدو عن اللحاق بمقدمته، وقلوا عن الحدة حد عزمته. وقتلوا خيلا وخيالة، وفوارس ورجالة. وقدروا وتمكنوا، وجرحوا فأثخنوا. وتهبوا وسلبوا وأخذوا رءوسا قطعوها، ووقذوا نفوسا قلعوها، وغنموا أقمشة وأسلحة، وحصوا من اللاحقين بهم قوادم وأجنحة. ونزلوا على نهر حيفا وقد تم عليهم الحيف، وتحكم في فلهم السيف. فأقاموا إلى هذه الغاية لمداواة جريحهم، ومواراة طريحهم، وإراحة طلبحهم وإثارة ما ركد من ريحهم، وقد رحلنا وسبقناهم إلى طريقهم، عازمين على تبديدهم وتفريقهم، وتشتيتهم أيدي سبا وتمزيقهم. فقد تمكنت بتأييد الله أيدي الأيد من سبيهم وقتلهم، والله يجمع شملنا لتفريق شملهم. وما يجدده الله لنا بعد هذا اليوم من غبطة؛ ولأعدائنا من عبطة، وإلا ونبادر ببشراه إلى المجلس لتقوى في نصرتنا عزيمته، وتشيم بارق التوفيق في مواقفنا شيمته، وتروض مواحل الآمال مع أوان الديمة الربيعية ديمته، ويغلو في سوق رواجه من الدين ما ظن إنه رخصت قيمته. وكيف لا يأخذ ذلك الكريم بثار الإسلام وقد سبيت من عكاء كريمته. وإذا تأمل عرف أن الخطب عظيم، وما لدفعه إلا العظيم، والهم مقيم، وما لرفعه إلا بأسه المقعد المقيم، وسيقضي دين الغريم الزعيم. وقعة قيسارية وفي غدوة الاثنين تاسع شعبان، جاء من أخبر برحيل الفرنج السلطان. وأنهم سائرون ثائرون، وعلى أجنحة الجرد طائرون، وحول رجالتهم بخيلهم دائرون. وهم في جمع لهام، وقد انقسموا ثلاثة أقسام. كل قسم راجله بخيله محفوظ، وبأعين القسمين الآخرين من خلفه وقدامه ملحوظ. وكان السلطان تقدم من الليل، بركوب الخيل. فركب في كل خواض للغمرات؛ فياض بالعومات، رواض لجامحات، نهاض بالجانحات. ملتثم في حومة أوغى، مضطرم بجمرة الظبا. على نزائع ينقلن الردى على صهواتها، وصواهل يقذفن الحمام من لهواتها، ويكشف الظلام بجبهاتها، ويبارين الصفاح بصفحاتها، وتعاسل الرماح بأعناقها وطلائها. وفيهم من رجال الحلقة المنصورة كل سابق إلى المنون على سابق، وكل نائق إلى المازق مازق. وكل طائر في الغبار على سابح وكل غابق بالنجيع صابح. في عراب متمطية بالعراب، ورقاق متخطية إلى الرقاب. وسار العدو وسرنا نبريه ونباريه، ونجتري عليه ونجاريه. والجالشية ترمى وتدمى، وتصمم وتصمى. وطيور السهام تقصد من الأحداق أوكارها، والأوتار تنشد بالأنان

مقتل إياز الطويل

أوتارها. وهم في لباس حديد سد على السهام المنافذ، واشتك النشاب فيهم فأشبهوا قنافذ. وكانت هناك بركة كبيرة، ومياهها غزيرة. وهم على عزم ورودها، والإحاطة بحدودها. فحلأناهم عنها، وأبعدناهم منها. وكان الحزم تركهم حتى يخرجوا إلى الفضاء، فيدخلوا من تمكننا منهم تحت حكم القضاء. لكنهم ارتابوا وارتاعوا، وطلبوا النزول بها فما استطاعوا. فانحرفوا إلى الساحل، وانصرفوا بالفارس والراجل. واجتمعوا سائرين، وساروا مجتمعين. وما زلنا نلزهم ونهزهم، ونحفزهم ونحزهم، حتى تمت مرحلتهم، وعمت مقتلتهم. وتثلمت لصفاح، وتحطمت الرماح، وأجرت الأنهار الجراح، وجرى بالارواح السماح. وحضر السلطان مع الجالشية، ناجح الإرادة نافذ المشية، ونزلوا على نهر يقال له: نهر القصب. وقد انصبوا إلى النصب. وما كانوا يرجون، وما كادوا ينجون. ولما نزلت بهم في مسيرهم النوازل نزلوا، وحين وليتهم نصالنا ومناصلنا انعزلوا. مقتل إياز الطويل واستشهد في ذلك اليوم؛ الهمام المقدام، الأسد الضرغام، الطاعن الضارب، الباسل السالب. الغضنفر الهرماس، الفارس الفراس، أياز الطويل. وطالما عرض في سوق الشهادة، وأقدم أقدام الساعي إلى السعادة، وكان إلى الصريخ أسمع منتصت، ولعطاس النقع أسرع مشمت، والى ضيف الحمام أسبق متلفت، ولسيف الإقدام أرشق مصلط. لا يروعه الروع إذا حفزته عزمته، ولا يهوله الهول إذا همت به همته. وهو أول من يركب وآخر من ينزل، ويدبر سواه وهو يقبل، ويسابق إلى المضار ولا يمهل. وهو أبدا يدعو إلى المبارزة، ويعود على المناجرة. ويقف بين الصفين علا صافته؛ ويرحل على مطايا الحنايا من بنات كنائنه؛ إلى مقاتل المقاتلين ظعائن ظغائنه. فما برز إليه إلا من برزت إليه منونه، وفاضت بالدم من عيونه. فكم كف للكفر كفها، وبكر للنصر زفها. وأنف للشرك جدعه، وذي أنف للفتك صرعه. ولبة للغضنفر ضبحت لثعالب رماحه، وطلية للمتغشمر طنت فيها أذبة صفاحه. وأجفان للأقران نبتت فيها أهداب سهامه، ووجوه للشجعان تفصلت في حساب حسامه. فلما جاءه الأجل ما أجل، ولكن إلى الجنة به عجل. فإن حصانه خانه وما صانه. فعثر به في حالة الإقدام، وجلا قمره في هالة الحمام، ولم يخف لثقل الحديد للقيام. وطعن وضرب، واتاه من الكوثر سلسبيله فشرب. ولما أدركه الأصحاب ألفوه وقد فات، ورافق في عليين الأحياء في سبيل الله لا الأموات. ونزلنا نحن بعد انقضاء الحرب على البركة، شديدي الشوكة، حديدي الشكة. ثم رحلنا ونزلنا على أعلى نهر القصب في أوله، وهو الذي نزل العدو في أسفله. وتقاربت ما بيننا تلك الليلة المسافة، وعندنا الأمن وعند العدو المخافة. ولما أصبح

وقعة لعز الدين بن المقدم

السلطان يوم الثلاثاء مكث على الثبات والهدو، ينتظر ما يكون من خبر العدو. وأقام الفرنج على حالهم، لتعبهم وكلالهم، ولأسباب منها جراحاتهم، عدموا منها منهاج راحاتهم. وكذلك ما ملكهم من رعب الهلاك، والابتراك في الارتباك. وقعة لعز الدين بن المقدم وكان عز الدين بن المقدم في ساقة اليرك، مستيقظا للحفظ والدرك. فبصر بجماعة من الفرنج مقبلين، ركبوا بغير عدة مسترسلين، ولأخبار عسكرنا مستشرفين، وهم مما تم عليهم غير متخوفين. فعبر إليهم النهر من ورائهم، واستظهر عليهم في لقائهم. فقتل منهم عدة، ولقوا منهم شدة وأسر ثلاثة قبل أن ينالوا إغاثة. ثم ركب الفرنج إليه، وحملوا عليه. وكانت وقعة عظيمة، جلبت لنا غنيمة وعليهم هزيمة. وأحضر الأسارى عند السلطان، بحزام الذل والهوان. فأخبروا إنه جرح بالأمس منهم ألف، وسرى فيهم وهن وضعف. وقد جرى عليهم أمر عظيم، وبلاء مقعد مقيم. ورحلنا وقت الظهر، وعبرنا شعراء ارسوف في الطريق الوعر. ونزلنا وقت غروب الشمس بعد الخروج من تلك المذاهب، على قرية يقال لها دير الراهب. ومضى السلطان حريدة، إلى قرب ارسوف، وأطال هناك الوقوف. حتى رأى أرضا في طريق العدو تصلح للقائه، والاحداق به من أمامه وورائه. وأقام يوم الأربعاء في ذلك المنزل، والعدو في منزله الأول. ذكر اجتماع الملك العادل وملك الانكتير كان في اليزك علم الدين سليمان بن جندر، قد ظهر فيه وستظهر. فراسله العدو على أن يتحدث مع الملك العادل ويجتمع به، وينزل على أربه ويعرب عن مطلبه. فاجتمعا يوم الخميس على التأسيس. ثم تحدثا في الحوادث وعوادي الحروب العوائث. وأن السلم متعينة، والسلام فيها متبينة. والمصالحة مصلحة، والفئدة مترجحة. قال: وما جئنا إلا لإصراخ أهل الساحل، فوقعنا في الشغل الشاغل. فإن أصلحتموهم واصطلحتم استرحنا واسترحتم. فقال له الملك العادل: ما الذي فيه تحاور وله تحاول. فقال: رد البلاء برد البلاد، وسلوك مسلك الإسعاف والإسعاد. فقال العادل: هذا لا مطمع فيه، وهذا رسم باطل حقنا معفيه. ودون حدود البلاد حدود الحداد، وخلط القتام وخرط القتاد، وصرف عنان صرف العناء إلى المتصرفين بالعناد. وأدركه حكم الحمية والحفيظة، وغلى مرجل غيرته في الكلمات الكالمات الغليظة. وكان الترجمان بينهما هنفري بن هنفري، فلما سمع ملك الانكتير ما راعه، ما استطاع سماعه. وثار ثورة المحنق المحرق، وآل اجتماعهما إلى التفرق.

وقعة أرسوف

وقعة أرسوف لما عرف السلطان من أخيه الملك العادل ما جرى بينه وبين ذلك الطاغية، وأنه مصر على تلك المباغي الباغية، جمع يوم الجمعة وقت الإصباح الأصحاب واستحضر من أسد غابه من غاب. وأمر برحيل الاثقال، وأقام في رعيل الرجال. وركب في عجم أنجاب، وعرب على عراب، وكرد على جرد، وكل سابق على سابق ورد. على خيل من سماتها آثار الطعن، وعلى جبهاتها أنوار اليمن. بأكباد غلاظ على العدا، ورقاق حداد على الطلى. ونبال مصمية لبان المصمم، ورماح لدن لدنها ضغم الضيغم المعلم. فأقام العدو بسواد قومه بياض يومه، وبات وقد فارق جفنيه غرار نصله ونومه. فلما أسفر صباح السبت رابع عشر شعبان، ركب العدو على صوب ارسوف؛ وقد ضم الرجال والفرسان. وهو سائر في ليل حالك، وسيل سالك، وخيل عالك، وحزب الشيطان، وحرب الإيمان، وأصحاب الجحيم، وأقطاب الضلال البهيم. وخطاب الخطوب، وانداب الندوب. وكفاة الكفاح، وصفاة الصفاح. وأجناس الكفار، وأنجاس الداوية وأرجاس الاسبتار. وكل غيران غير وان وأفعوان معتقل أفعوان، وكل ارققم في جلد أرقم، وكل أزرق أشقر على أدم. فأحدقت به أحلاف عساكرنا إحداق النار بالحلفاء، ونقلت بنسور ضوامرها الأرض إلى السماء. وخاضت الغمرات، وأفاضت الجمرات، وأفاظت المهجات. وشبت نيران الهنديات، وأهبت رياح العربيات. وألهبت شعل اليمانية، وألهت بها مقل الفرنجية. وجال عليهم في الجاليش، الترك على الاكاديش. وأحدقت سهامها كالأهداب بالأحداق، وبرزت بيضها لمعانقة الأعناق. ولمع شرار النصال في دخان العجاج، وخرقت بنات الحنايا الخرق حجاب الحجاج، وأفضى فيض بنابيع النبع إلى اعجال الاعلاج. فإن الفرنج أغذوا في سيرهم وجدوا، واحتدموا واحتدوا وامتدوا. وقربت منهم الاطلاب، واختلط بهم الأصحاب، وتعانقت الرقاق والرقاب، وأحرج القوم وتقطعت بهم الأسباب. وقربوا من ارسوف وقد لاقوا منا الحتوف والخسوف. وضاق خناقهم، وحاق بهم إرهاقهم. ونشبت الجاليشية فيهم بالنشاب، وشبت نيران المرهفة في أولئك الاوشاب. فاحتملوا في جلودهم الجرح، ومن اجلادهم الطرح. ووجدوا الموت الغالي مسترخصا، وأيقنوا بالدمار ولم يجدوا مخلصا. وعرفوا أن البلايا عليهم متصلة غير منفصلة، وأن قواهم لما فوق ما لقوه من النكاية غير محتملة. فحملوا على الاطلاب المنصورة حملة زحزحتها عن مواضعها وكادت تحتلها شوارع القنطاريات عن مشارعها. لكنها تحيزت إلى القلب المنصور، وفازت من وجوه النصر بالسفور. واستشهد في تلك الفورة الثائرة، والثورة الفائزة، سعداء استقبلوا بالأسنة الأسنة، وأجابوا دعوة الله بأن لهم الجنة. فما صرعوا حتى صرعوا، ولما أشرعت إليهم الرماح أشرعوا. ثم كرت عليهم نخب الرجال كرة أردتهم وردتهم، وصدفتهم عن الاستنان في جدد تلك الحملة

فصل من كتاب السلطان إلى الديوان العزيز يشتمل على ذكر الوقائع المذكورة بعد الرحيل من عكاء

وصدتهم. وفرست منهم فوارس، وأتعست معاطس. وفرشت بالعراء لهم أشلاء، وأثخنوهم طعانا ورماء. فنزلوا في ارسوف وقد كسروا وخسروا، وقتل قوم منهم وأسروا. وفي ذلك اليوم ثبت على صدمة القوم الملك العادل - سيف الدين، وحمل في أصحابه أسد العرين. وسدد إلى نحورهم الشوارع، وقلع منهم قلائع. وثبت عسكر الموصل، وكذلك قايماز النجمي في موضعه الأول. وكانت العساكر في شعراء اشبة، وشجراء منتشبة. فلما رأى العدو اندفاع المسلمين قدامهم، لم يأمن رجعتهم وإقدامهم. فعاد وعبر ارسوف ونزل قريبا من الماء. وبات السلطان تلك الليلة على نهر العوجاء، وأقام العدو يوم الأحد في موضعه، منكوبا بتعب تبعه. ثم رحل يوم الاثنين سائرا إلى يافا، ليستدرك بها فارطه ويتلافى. ونازلتهم العساكر بالنوازل إلى أن نزلوا، وقطعوا طرقاتهم حتى وصلوا. فصل من كتاب السلطان إلى الديوان العزيز يشتمل على ذكر الوقائع المذكورة بعد الرحيل من عكاء ساروا في مواضع ما لليزك عليهم فيها سبيل، ولا لقداح القراع في مجالها مجيل. وعساكرنا تضايقهم في كل مضيق، وتطرقهم بالبلاء بل المنايا في كل طريق. وهم على البحر لا يفارقونه ومن المورد إلى المورد في كل مرحلة لا يتجاوزونه. فإن المياه قريب بعضها من بعض ومسيرهم بمقدار مسافة ما بين المنهلين، وإذا لزوا لم يبعدوا بين المنزلتين. وكانت لنا إلى هذه الغاية معهم في كل بقعة وقعة، وفي كل مرحلة مقتلة، وفي كل منزلة منازلة. وأولدناهم الردى في كل مورد، وقصدناهم بالشدائد في كل مقصد. وسبلنا حماهم للحمام في كل سبيل، وساء صباحهم منا في كل مغدى ومقيل. وطريقهم على البحر كلها مضايق وأجم ورمال، ومواضع لا يتسع فيها مجال ولا يتهيأ قتال. وكلما وجدنا فسحة ضايقناهم، وأرهفنا حدود العزائم والصوارم وأرهقناهم. وجرت معهم عدة وقعات كاد الكفر فيها يبور، ودائرة السوء على أهله بنا تدور، وماء أهل النار بفيض بأسنا عليهم يغور. ولولا إن الله تعالى قد أخر موعده في نصر أوليائه. وقهر أعدائه، لوقع الفرار من شغلهم، وشملت نعمته لنا بتبديد شملهم. فمنها: يوم رحيلهم عن عكاء أرهقتهم اليزكية، ونكأت فيها منهم الرمية بل المنية. وكان الود الأفضل يومئذ متولي اليزك، فتولى إسعار لهب المعترك. ووقف لهم في المضيق على الطريق، وباشر جمعهم بالتفريق. وقطع آخرهم عن أولهم، وعاق الساقة عن الوصول إلى منزلهم. وبتر وبتك، وفتك وهتك، وقتل وسفك، وطلب وأدرك. وعبر الفرنج نهر حيفا لما دهمهم من الأمر، واحتموا بالمنزل الوعر. ووصل عسكرنا وقد تمنعوا بالنزول، وتجمعوا في الوعور عن السهول، ولم يبق اليهم نهج للوصول. وأقام الفرنج في تلك المنزلة أياما، وقد نالت معاطسهم إرغاما. حتى

استجدوا عددا، واستنجدوا مددا، واستجدوا ممن وراءهم عددا. وأحكموا التدبير، واستأنفوا المسير. ومنها يوم انفصالهم عن قيسارية، وبرتهم الرماة، وبرتهم بالمبرية، وأنفذت إليهم رسل المنية. وقتلن منهم مقتلة جيدة، ولم تزل السهام إلى مقاتلهم مصوبة مسددة، إلى أن احتموا بالنزول، وحلوا عقد تلك البلية عنهم بالحلول. وقد قتلت من خيلهم عدة ألف رأس، لم ينفصل راكبها ألا وهو من ثوب النجيع كاس. ثم كانت المياه في طريقهم متقاربة المناهل، والمسافات غير متباعدة المنازل. فإذا لزوا بالمنازلة، ارتزوا إلى المنزلة. ولاذوا وهم أهل النار بالماء، وقادهم العجز عن الاحتمال إلى الاحتماء. ثم استقلوا منتصف شعبان سائرين على البحر بعادتهم وعاديتهم، شاكين في منعتهم، ممتنعين بشوكتهم وشكيتهم. والخيل تجري بهم جريان السيل، والراجل يلتف عليهم في مثل سواد الليل. العساكر الإسلامية جائلة في عراضهم، مائلة إلى اعتراضهم. موفقة في مرامها، مفوقة لسهامها، محرقة أهل الجحيم بضرامها. ولما نشب فيهم النشاب وأعجزهم؛ وأزعجهم وأحرجهم بكثرة النكاية فيهم وأرهجهم؛ كابروا وصابروا إلى أن وصلوا ارسوف، وقد شارفوا الخسوف، وقاربوا الحتوف. فحملوا بجمتهم حملة واحدة، وجاءوا كالسحاب بارقة وراعدة. واندفعت الاطلاب الإسلامية أمامها. ولم تثبت قدامها. حتى ابعدوا بجملتهم في حملتهم، وتفردوا بحركتهم في معركتهم. وظنها السلطان هزيمة، وبانت بالعاقبة إنها كانت عزيمة. فإن القلب المنصور ثبت فئة للمتحيز، وموئلا للمتفزز المتحرز. ووقف الأخ العادل ثابتا قلبه، نابتا طلبه. وكر عليهم في حزبه ذوي الحمية، والأنف والابية، والهمم العلية؛ كرة ردتهم وأردتهم، وصدفتهم عن بلوغ الغاية وصدتهم. فاستدركت ما فرط في النوبة من النبوة واستمسكت بما استأنفته في العزمة من القوة. وقتلت منهم كندا كبيرا، وعددا كثيرا، وعاد نظيم هامهم بالعراء نثيرا. ونزلوا بأرسوف، راغمي الأنوف. قد فل جندهم، وقتل كندهم. وهذا طاغوتهم الهالك بسيف سيف الدين، كان مطاع أولئك الملاعين، وإبليس تلك الشياطين والمعروف بسير جاك، واستمر حكمه، قبل وصول ملوك الإشراك. وتحت حكمه عدة كثيرة من القوامص والبارونية. ونفذ أمره على الداوية والاسبتارية. وكان من عظم شأنه، وفخامة مكانه؛ إنه يوم صرع قاتل دونه جماعة من المقدمين المحتشمين، فما قتل حتى قتلوا، ولا بذل روحه حتى بذلوا. وجزع ملك الانكتير لمصرعه، وفزع من ورود مشرعه. ونزلت العساكر الإسلامية على الماء وهو بعيد من مخيم الكفار، وخيمت عليه بحكم الاضطرار. ثم رحلوا وقصدهم العسكر فصادفهم بقرب يافا، وكل منهم استدرك بقصده إياها تلفه وتلافى. فجال دونهم لقدح منونهم مجيلا، ومن جمعهم بقمعهم مديلا، وعلى قومهم بوقمهم محيلا. حتى باسطهم في ميادينها، وخالطهم في بساتينها، ورابطهم بالأسود في عرينها وأسرى الحين إلى سراحينها. فما وصلوا المدينة إلا وقد تخطفوا من حولها، واستولى الرعب على قلوبهم من بأس الحرب وهولها، وخافوا من فريضة مسألة النكاية

ذكر ما اعتمده السلطان بعد دخول الفرنج إلى يافا

وعولها. وما صدقوا كيف نجوا وافلتوا، وسكنوا فيها بنية الاستيطان ونثبتوا. وعلموا أنهم إن خرجوا أخرجوا، وان سلكوت هلكوا، وزعموا أنهم إذا صبروا ملكوا. ذكر ما اعتمده السلطان بعد دخول الفرنج إلى يافا رحل السلطان يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان ونزل بالرملة، واجتمعت الأثقال كلها به في تلك الرحلة. ورحل ليلا واصبح على (يبنى)، وجاوزها إلى نهر أمر أن الخيام به تبنى. وزرنا بيبنى قبر أبي هريرة رضوان الله عليه، وتبادر الناس للتيمن به إليه. ورحل ونزل بظاهر عسقلان بعد العصر، وشرع فيما عزم عليه من الأمر. ذكر خراب عسقلان لما نزل بالرملة أحضر عنده أخاه العادل وأكابر الأمراء، وشاور في أمر عسقلان ذوي الآراء. فأشار علم الدين سليمان بن جندر بخرابها للعجز عن حفظها على ما بها. ووافقه الجماعة، وقالوا: قد ضاقت عن صونها الاستطاعة. فإن هذه يافا وقد نزلوا بها وسكنوا فيها، مدينة بين القدس وعسقلان متوسطة، ولا سبيل إلى حفظ المدينتين، ولا تفي الحال بحماية البلدين، فإن كل واحد منهما يحتاج في حفظه إلى عشرين ألف مقاتل، والى الاستكثار لأجل ذخائره من كل حاصل. فانظر إلى أصوب الرأيين فقدمه، وأبصر أخطر الداءين فاحسمه، واعمد إلى أشرف الموضعين فحصنه وأحكمه، وتيقن أن عسقلان إذا وصلوا إليها وهي سالمة تسلموها، واستظهروا بها وأحكموها. وتقووا بها على سواها، وبلغوا من بغيتهم وبغيهم إلى منتهاها. واقتضت الآراء، إقامة الملك العادل بقرب يافا مع عشرة من الأمراء. حتى إذا تحرك العدو كانوا منه على علم، ومن قصده على عزم. ووصل السلطان إلى عسقلان، وشرع في هدمها بكرة يوم الخميس تاسع عشر شعبان. ولو حفظت لكان حفظها متيقنا، وصونها ممكنا، لكن وجد كل له متجنبا متجبنا. وقد راعتهم نوبة عكاء وحفظها ثلاث سنين. وعادت بعد ذلك بمضرة المسلمين. وقال من تعلل واعتذر عن دخولها؛ وحل عقد عزمه عن حلولها: تدخلها أنت أو أحد أولادك؛ فندخلها اتباعا لمرادك. فحينئذ لم يجد بدا من نقض أسوارها، وغض أنوارها، وفض سوارها، وتعفية آثارها، وتطفية نارها. ولو كان وقع الاعتناء بابتنائها؛ مذ يوم فتحها واقتنائها؛ لما تطرق إلى أيدها خلل، ولا إلى يدها شلل، ولا إلى حدها فلل، ولا إلى ودها ملل. وقد كنت ركبت إليها وطفتها، واستحسنتها واستلطفتها. ورأيت سورها قبل فصم سواره، ونورها قبل ذبول نواره. فما رأيت أحسن منها ولا أحصن، ولا أحكم من مكانها ولا أمكن. وسكانها كانوا في رفاهية، فانتقلوا منها على كراهية. وباعوا أنفس الاعلاق بأبخس الأثمان، وفجعوا بالأوطار والأوطان. وساءت اسواؤها، ونأت أنواؤها، وأناخت لأواؤها، وباخت أضواؤها. وسمع غناء المعاول في مغانيها المعولة، ورئيت دائرة الزلزال في دورها المتزلزلة.

وناحت تلك النواحي، ومسحتها المساحي. وجرفتها المجارف، وأخافتها المخاوف، ونكرتها المعارف، وبهرجتها الصياف، ونعتها النواعب، ونابتها النوائب، ونزلتها النوازل، وغالتها الغوائل. وسفتها السوافي، وعفتها العوافي. وخلت مدارس آياتها من التلاوة، وتخلت مجالس مكرماتها عن الطلاوة. وصوحت مجاني مبانيها، وطوحت معاني مغانيها، ودجت مجالي معاليها، وعادت مقاوي مقاربها. ووقفت على طلولها واستوقفت، وأسيت عليها وأسفت، وتلهبت وتلهفت، وشاهدتها وقد حسرت وحفيت، ومحى سني محاسنها وخفيت. وبكيت تلك الربوع، وأهديت لسقياها الدموع. فلقد أصيب الإسلام بعروسها، وعبست الوجوه لعبوسها، حين ثار نقع بوسها. فلما خلت مساكنها من سكانها؛ وتخلف بالبيوت رماد نيرانها، رحل السلطان يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان ونزل على يبنى، بعد أن ترك سور عسقلان وقد تعذر أن يبني. ونزل يوم الأربعاء ثالث الشهر بالرملة، وتفضيل جميلة باد على التفصيل والجملة. وأمر بتخريب حصنها وتخريب (لد)، وبذل في ذل كل في ذلك الجهد. وركب جريدة إلى البيت المقدس، واتاه يوم الخميس، وأعاد إليه رسم التأنيس وخرج منه يوم الاثنين ثامن شهر رمضان بعد الظهر، وبات في بيت نوبة، وقد نال بما رتبه من مصالح القدس المثوبة. وعاد إلى المخيم يوم الثلاثاء ضحوة، وقد أكمل من كل ما رامه حظوة. وفي يوم الاثنين ثامن شهر رمضان، وصل صاحب ملطية معز الدين قيصر شاه بن قليج ارسلان، ملتجئا من أخيه وأبيه إلى السلطان. فتلقاه الملك العادل، وجاءته منه الفواضل. وأقام في الخدمة السلطانية مدة، واستجد بها جدة، وقوة وشدة. واستظهر بالمصاهرة، وقوى منها بالمضافرة. فإنه تزوج بابنة العادل، وعاد بتاريخ مستهل ذي القعدة ناجح الوسائل. وفي هذا التاريخ وهو الاثنين خرج ملك الانكتير في خيالته متنكرا، ليكون لحشاشة لهم وحطابة مخفرا. فخرج عليه الكمين، ونشب به اللعين. وجرى قتال عظيم، وكان لأصحابنا موقف كريم. وكاد الملك يؤخذ ويوقذ والطعن في لبته ينفذ. ففداه فارس من أصحابه بنفسه، وشغل طاعته بما عليه من حسن لبسه. فاشتغل به وأسره، وأفلت اللعين وأخفى أثره. وقتل وأسر من خيالته جماعة، وانهزموا من أمر تلك الكرة الخاسرة وقلوبهم مرتاعة. وجرت أيضا يوم الجمعة ثاني عشر الشهر، حرب بين اليزكية وبين أهل الكفر، سفرت لنا بها وجوه النصر. وقتل مقدم لهم معروف، بالشجاعة موصوف. ورحل السلطان يوم السبت ثالث عشرة، ونزل على تل عال عند النطرون، وهي قلعة منيعة معجبة للظنون والعيون. فأمر بهدها وهدمها، وفل غربها وثلمها. وأشاع بها الاقامة، وأفاض فيها على العسكر الكرم والكرامة. وتمكن الناس هناك من الاحتياط على الأثقال، وإنفاذ الجمال لنقل الأزواد والغلال.

فصل من كتاب إلى الديوان العزيز في وصف مطاولة الحروب والجراح وفناء الخيل والعدد والسلاح

فصل من كتاب إلى الديوان العزيز في وصف مطاولة الحروب والجراح وفناء الخيل والعدد والسلاح قد نهك العسكر طول البيكار، وأنضاه قتال الكفار بالليل والنهار. لاسيما في هذه السنين الأربع، فإنه لم يعرج فيها عن مباشرة الحروب ومغامرة الكروب على مصيف ولا مربع. ولاشتا ولا صاف، إلا حيث صف العدو وصاف. وقد تكررت عليه الزحوف، وتعثرت به الحتوف، وتفللت منه السيوف، وتحلحلت به الصفوف، وتمخضت بآحاده الألوف، وتمحضت لجني بيضه وسمره من ورق الحديد الأخضر القطوف. حتى سئم ومل، وضجر وكل، وكم عقد عزمه وحل، وأنهل نصله من دم الكفار وعلى، وأمل النصر فقال عسى ولعل. وأما خيوله فقد أجهدها الجهاد، وأنضاها الطراد، وفرى جلودها الجلاد، وعزت منها لكثرة الجراح الجياد، وأعادت شهبها كمتا حدود البيض الحداد. وحيث داخلها الرعب من خروج الجروخ للجروح؛ وتفريق السهام منها بين الجسم والروح، صارت تنفر من رنة الحنية، وأنة المبرية. كأن عندها للأوتار أوتارا، ولطائرات النصال في لباتها أوكارا. أو كأنها لما رأت أنها تباريها في المطار؛ وتجاريها في المضمار؛ ثارت لإدراك الثار، وهذا سبب ما حدث من النفار، وما عادت الآن تدخل على راجل الكفار. وأما العدد فقد فقدت بالكلية وعدمت، وتكسرت وتحطمت، وتقصفت وتقصبت وتقصمت، وقلت قبل المقاتل بها وفي يد من استشهد استشهدت. وأما النشاب فإنه قد فنى، بعد أن اتخذ من أخشابه جميع ما وجد واقتنى. وقد عدمت أشجاره في منابتها، وأعوزت أخشابه من مناحتها. ونفضت الكنائن، وانفضت منه ومن كل ما يذخر الخزائن. وما تبرح الصناع في الممالك بمصر والشام؛ وما يجري معها من بلاد الإسلام، يبرون ويريشون، وينصلون ويعملون، ويكلمون ويحملون. واحتيج في هذه السنين التي استمر فيها القتال، إلى أحمال كثيرة لا يفي بها الصناع ولا يرفعها العمال. وحسبها أن نصولها أعدمت من حديدها المعادن، وخلت من ذخائرها الأماكن. هذا والخادم قائم بأداء هذا الفرض وحده، مسترهف في قطع دابر المشركين غرب عزمه وحده. وما استمر على مساعدته، وموازرته ومعاقدته، إلا صاحبا الموصل وسنجار، وكلاهما عن سنن الإسعاف والإسعاد ما جار. فهو يحضر تارة بنفسه وآونة بولده، ويستمر من جد المؤازرة على جدده، ويواظب بعدده وعدده، ومدده في مطاولة مدده. ذكر ما تجدد لملك الانكتير من المراسلة والرغبة في المواصلة وصلت رسل ملك الانكتير إلى العادل بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة، والأخذ بالمهاداة، والترك للمعاداة. والمظاهرة بالمصاهرة. وترددت الرسل أياما، وقصدت التئاما، وكادت تحدث انتظاما. واستقر تزوج

الملك العادل بأخت ملك الانكتير، وأن يعول عليهما من الجانبين في التدبير. على أن يحكم العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد. وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها، وشمسها من قبوله في اوجها. ويرضى العادل مقدمي الفرنج والداوية والاسبتار ببعض القرى، ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا. ولا يقيم معها في القدس إلا قسيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان. واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد؛ وجماعة من الأمراء من أهل الرأي والسداد؛ وهم: علم الدين سليمان بن جندر وسابق الدين عثمان وعز الدين بن المقدم وحسام الدين بشارة، وقال لنا: تمضون إلى السلطان، وتخبرونه عن هذا الشأن. وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد، وأنا أبذل فيها ما في وسع الاجتهاد. فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب، وما أخر الجواب. وشهدنا عليه بالرضى، وحسبنا إنه كمل الغرض وانقضى. وذلك في يوم الاثنين تاسع عشري رمضان. وعاد الرسول إلى ملك الانكتير لفصل أمر الوصلة، وإراحة الجملة وإزاحة العلة. واعتقدنا أن هذا لمر قد تم، ونشر انضم، وصلاح عم، وصلح اذم، وحكم مضى، واستحكم به الرضى. وإن الأنثى تميل إلى الذكر، وتزيل وساوس الفكر. وأن بركوب الفحل، النزول على الذحل وأن الشَكر يجلب الشُكر، ويبدل بالعرف النكر. وأن الوقاع يؤمن من الوقائع. وأن القراع ينقضي بانقضاض القارح القارع. وأن الحرب بكسر الحاء وحذف الباء سلم. وأن عزم العرس في العسر يسر وغنم. وأن هذا الأخ لتلك الأخت كفو. وأن هذا العقد للخرق المتسع رفو، وأن الكدر يعقبه صفو. وأن التزويج ترويج، وتقويم لما فيه تعويج. وشاع الذكر، وضاع النشر، وذاع السر. وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورءوسهم، فقصوه على قسوسهم، وعسروا على عروسهم. فجبهوها بالعذل واللذع، (وأنجهوها بالقدع) والقذع. وقالوا لها: كيف تفجئيننا بأفجع ملم مؤلم، وتسلمين بضعك لمباضعة مسلم. فإن تنصر تبصر، وأن تسرع فما تعسر. وإن أبى أبيناه، وإن أتى أتيناه، وأن خالف خالفناه، وإن حالف حالفناه. وأي وجه هاهنا للائتلاف، ونحن لاختلاف الدين ندين بالخلاف. فرهبت بعد ما رغبت، وبطلت بعد ما طلبت، وسلت بعد ما سألت، ونزت بعدما نزلت، وكرهت وكانت شرهت، وكانت اكتحلت فودت إنها مرهت. فأرسلت إلى الرسول، وأقبلت عليه بالقبول. ثم تصلبت في القسم وأقسمت بالصليب، أنها مجيبة إلى التقرير والتقريب. وأنها مسارعة إلى التمكين، لكن بشرك الموافقة في الدين. فأنف العادل وعدل عن استئناف الحديث، وأبى الله أن يجمع بين الطيب والخبيث. اعتذر الملك بامتناع أخته، وأنه في معالجتها وتعرف رضاها في وقته. وكان قد استقر مع تمام العهد؛ وانتظام العقد؛ مفاداة كل أسير بأسير، كبير بكبير، وصغير بصغير. وبشر أولياء الطاغوت، بصليب الصلبوت. فبطل التدبير، وعطل التقدير، وذلك ثاني يوم العيد.

ذكر نزول السلطان جريدة بالرملة ليقرب من العدو ومواقعته له في كل يوم

وفي يوم العيد وهو الثلاثاء؛ أعد السلطان من الليل خلع الأكابر حتى سارت إليهم بكرة، واحدث بحسن احتبائه لكل عين وقلب قرة ومسرة. ثم استدعاهم إلى سماطه، ونشر لهم بساط نشاطه. وجلس الملك معز الدين قيصر شاه بن قليج ارسلان عن يمينه، وأعزه بتقريبه وتمكينه. ويليه حسام الدين خضر أخو صاحب الموصل، ولسمو منزلته دنو المنزل. وعلاء الدين - ابن أتابك الموصل - عن يساره، وهو يؤثره باختصاصه ويخصه بإيثاره. ومجاهد الدين يرنقش مقدم عسكر سنجار جالس، والأكابر كلهم هناك في منزلته منافس. ثم تفرق الناس بأنس جامع، وعرف شائع، وعرف ضائع. ذكر نزول السلطان جريدة بالرملة ليقرب من العدو ومواقعته له في كل يوم تواتر الخبر بأن الفرنج على عزم الخروج، وانهم على الاجتماع في تلك المروج. فسار يوم الاثنين سابع شوال، وقد أركب العسكر للقتال. فلما بلغ قبلي كنيسة الرملة، جميل الحال حالي الجملة؛ خيم وبات، ونوى البيات والثبات. وجاء الخبر في غد؛ بأنه خرج العدو إلى يازور في أوفر مدد. وتسارع العسكر اليهم، وتكاثروا عليهم، وقربوا من خيامهم، واخذوا عليهم من ورائهم وأمامهم. وناشبوهم بالنشاب، وكاثروهم بالأوباش والأوشاب. فركب الفرنج اليهم ركبة، أوجبت رهبة. وحملوا على الناس حملة واحدة، وحلت عجاجة عليهم عاقدة. فاندفعوا بين أيديهم، فأدركوا ضعافا طمعوا فيهم. وفقد من المسلمين ثلاثة بالشهادة، وكانت مسعاتهم إلى السعادة. وكذلك في كل يوم يركب السلطان ما يخلو من وقعة، ولابد للكفار فيها من صرعة. ذكر وقعة الكمين وفي ليلة الأربعاء سادس عشر شوال أمر السلطان رجال الحلقة المنصورة بأن يكمنوا في جهة عينها في المواضع المستورة. فكمنوا وأمنوا، وصبروا وانتظروا. وخرجت الفرنج للاحتشاش، وباشروا عثار انحصارهم في الاصحار بالانتعاش. ولقيتهم إعراب على عراب، بصوارم في أيمانهم كأنها بروق في سحاب. فركبت إليها من الخيام، ورحبت في ترحيب صدورها بصدور الحمام، فاندفعت العرب أمامها، وحققت انهزامها. وما قدرت على قصد موضع الكمين، لانسداد الطريق. بالآساد الشم العرانين دون العرين. فمرت العرب في جانب، والكمين في جانب. والخيل تركض بسالب من سالب، وناهب من ناهب. ونجا العرب، وفاتهم الطلب. وحضروا بأسارى ونهاب، وأفراس وأسلاب. فأما أصحابنا في الكمين؛ فإنهم ابصروا الفرنج ناهضين، وفي المعترك راكضين، فخرجوا على ظن انهم على قصدهم، فلما بصروا بهم نشبوا بردهم عن وردهم. وركضوا إليهم على بعد، فأتعبوا الخيل بما جدوا فيه من إحضار وشد.

ذكر اجتماع العادل بملك الانكتير

ووصلوا إلى الفرنج والجياد قد رزحت، والقوى قد نزحت. فاضطروا إلى القتال وقاتلوا على الاضطرار، وقتلوا جماعة من كفاة الكفار، واستشهد ثلاثة من المماليك الخواص الكبار، وهم: (إياز المهراني)، و (جاولي الغيدي)، و (صارو)، وسروا في جنات النعيم بما إليه صاروا. وأسر من الفرنج فارسان معروفان، وأحضرا عند السلطان. وانفصلت الحرب وقت الظهر، وعاد حزب الإسلام عن حزب الكفر. وجلس السلطان والقلائع تعرض عليه، والخيل تقاد إليه، والأسارى يحضرون بين يديه. وأخوه العادل عنده جالس، وكلاهما لأخيه مؤانس. ذكر اجتماع العادل بملك الانكتير وفي يوم الجمعة ثامن عشر شوال، ضرب الملك العادل بقرب اليزك لأجل ملك الانكتير ثلاث خيام. وأعد فيها كل ما يراد من فاكهة وحلاوة وطعام. وحضر ملك الانكتير وطالت بينهما المحادثة، ودامت المثافنة والمنافثة. ثم افترقا عن موافقة اظهراها، ومصادقة قرراها. ومضى الملك واستصحب معه الكاتب العادلي المعروف بالصنيعة، ليتفقد الأسارى الذين بيافا، ويتدارك أمرهم ويتلافى. وكان قد وصل صاحب صيداء من صور برسالة المركيس، وأنه يرغب في سلوك نهج التأنيس. وأن يكون لسلطان مصالحا، وله على الطاعة مصافحا. حتى يقوي يده على ملك الانكتير، ويتفرد هو بالملك والتدبير. وعرف ملك الانكتير بالحال، فوصل رسوله أيضا بالاحفاء بالسؤال. ومضى العدل مع صاحب صيداء إلى المركيس على شرائط قررت، ونسخ أيمان حررت. وأما مراسلة الملك فلم تسفر عن المقصود، ولم يجر من تلونه إلا على المعهود. وكلما ابرم عهدا نقضه ونكثه، وكلما قوم أمرا عكسه وعلثه وكلما قال قولا رجع عنه، وكلما استودع سرا لم يصنه. وكلما قلنا يفي؛ خان، وإذا خلنا إنه يزين، شان، وعن كل خزي أبان. وفي يوم الأحد سابع عشر شوال عاد السلطان إلى المخيم بالنطرون، وأقام على الثبات والسكون. وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة سار ابن قليج ارسلان صاحب ملطية مودعا، وركب السلطان وسار معه مشيعا. وعقد له على ابنة الملك العادل بصداق مائة ألف دينار، ومضى وقد حصل على ذخائر من استبشار وافتخار، واستنصار، ويسر ويسار. ورحل الفرنج يوم السبت ثالث ذي القعدة وتقدموا إلى الرملة ونزلوا بها، وخيموا في أقطارها وسهوبها. ولم نشك في أنهم على قصد القدس بأهل الرجز والرجس. وأقام السلطان في كل يوم له سرايا، للكفر منها رزايا. ولنا كل يوم وقعة شديدة، وفتكة بالكفر مبيدة. وما يخلو يوم من أسرى تقاد، وغنائم تستفاد. ثم توالت الأمطار، وتوعرت السهول وتوحلت الأوعار. فعزم على الرحيل، وأمر بالتحويل.

ذكر الرحيل إلى القدس يوم الجمعة الثالث والعشرين ذي القعدة

ذكر الرحيل إلى القدس يوم الجمعة الثالث والعشرين ذي القعدة وركب السلطان يوم الجمعة والغيث نازل، والنصر شامل، وفضل الله متواصل. ونحن معه سائرون، ومن بركة الجهاد إلى بركة القدس صائرون. والقاضي بهاء الدين بن شداد يسايرني وفي مسألة من الخلاف يباحثي ويناظرني؛ حتى وصلنا إلى القدس قبل العصر. وقد نشر للسلطان لواء النصر. ونزل بدار الاقساء المجاورة لكنيسة قمامة، ونوي بها الإقامة. وشرع تحصين المدينة، لتحصيل السكينة. وصلى يوم الجمعة مستهل ذي الحجة في قبة الصخرة. وضجت الألسنة في الدعاء له بالنصرة. وفي يوم الأحد ثالث ذي الحجة؛ وصل حسام الدين أبو الهيجاء من مصر؛ بعسكر مجر. وتبعه بعد ذلك العساكر المصرية. ووصل الخبر ينزول الفرنج بالنطرون، وآذن ذلك بتزاحم الأفكار، وتراجم الظنون؛ وتزايل السكون. وجرت يوم الخميس سابع الشهر وقعة، تم على العدو بها صرعة. فإن السلطان نفذ تلك الليلة إلى اليزك قريب بيت نوبة؛ عدة من الفرسان مجردة لم يستصحبوا إلا حصنهم المجنوبة. فوقعوا على سرية للفرنج فاستأصلوها، وأسروها وقتلوها. ووصلوا بزهاء خمسين أسيرا إلى القدس، وعاد ذلك منا ببرد القلب وطيب النفس. وكانت بشرى عظيمة، ونعمى كريمة، وحسنى عميمة. وكذلك سابق الدين صاحب شيرز، ومن معه من العسكر. واقعهم يوم العيد فقتل من مقدميهم ستة وأسر أربعة، وترك بالمعركة منهم مصرعة. وكسب منهم خيلا، وكسبهم ويلا. يوم عيد الأضحى بالقدس كانت الوقفة بمكة يوم الجمعة في هذه السنة، وتضاعفت للحجيج الحسنة على الحسنة. غير أن العيد بالقدس كان يوم الأحد، فلم ير ليلة الخميس الهلال أحد. ونصب السلطان خارج قبة الصخرة الخركاة الخاص، وصلى الناس في القبة العيد وملئوا حواليها العراض. ثم أنصرف السلطان وقد بر عمله، ودر أمله، ووفر أجره، وأسفر فجره. وقعة في يوم الجمعة خامس عشر ذي الحجة؛ أغار على طريق الفرنج بالرملة سيف الدين يازكوج وعلم الدين قيصر، وكلاهما يجد في الجهاد ولا يقصر. وأخذا غنائم وأموالا، وساقا خيلا وبغالا، وكسبا أحمالا وأثقالا. وأسرا ممن كان مع القافلة ثلاثين، ووقفوا بين يدي السلطان على ركب الذل جاثين؛ وتوالى على الفرنج النهوض والنهوب، وكثرت منهم الكسوب، واستعرت فيهم الحروب، وزادت الكروب. وضاقت عليهم الأرض، واستولى على عقود عزائمهم النقص. ورأوا أنهم قهروا فقهقروا، وأحاط بهم البلاء من الجوانب فما صبروا. ورحلوا إلى الرملة عائدين،

ذكر ما اعتمده السلطان في عمارة القدس وحفر خندقه وتجديد سوره وإعادة رونقه

وبالسهول من الحزن عائذين. فإن الثلوج دامت على أولئك العلوج. وصدتهم عن الدخول والخروج ونزلت بهم النوازل في تلك المنازل، فنفروا راحلين إلى السواحل. وذلك في يوم الخميس الثامن والعشرين من ذي الحجة؛ فطابت قلوبنا بما وضح في النصر من المحجة، وثبت للحق على الباطل من الحجة. ذكر ما اعتمده السلطان في عمارة القدس وحفر خندقه وتجديد سوره وإعادة رونقه وفي هذا اليوم وصل من الموصل جماعة من الحجارين، وعدتهم خمسون رجلا، إذا اجتمعوا قطعوا جبلا. وقد سيرهم صاحب الموصل إلى القدس، للعمل في الخندق وتعميق الحفر، والقطع في الصخر. وقد سفرهم بنفقة، وجعلهم من الإحسان على ثقة. وأصحبهم بعض حجابه، ونداهم بندى سحابه. وسير مع المندوب مالا يفرقه عليهم في رأس كل شهر، ويتعاهدهم في كل يوم بتفقد بر. فأقاموا نصف سنة، وأتوا في صنعتهم بكل حسنة. وصمم السلطان على حفر خندق جديد عميق، وإنشاء سور وثيق. وأحضر من أسارى الفرنج قريب الفين، ورتبهم في العمارتين. وجدد أبراجا حربية من باب العمود إلى باب المحراب، وانفق عليها من المال ما خرج عن الحساب. وبناها بالأحجار الكبار الثقال، فجاءت أرسى وأرسخ من الجبال. وكان الحجر الذي يقطع من الخندق يستعمل في بناء السور، وإذا تكملت العمارة على ما رتبه للقدس من المعمور؛ كان آمنا من قصد العدو المدحور، وفي عصمة الله من المخوف المحذور. وقسم بناء السور في مواضعه على أولاده؛ وأخيه الملك العادل وأمرائه وصار يركب كل يوم ويحض على بنائه. ويخرج الناس لموافقته على حمل الحجر إلى مواضع البناء، ويتولى ذلك بنفسه وبجماعة خواصه والأمراء. ويجتمع لذلك العلماء والقضاة والصوفية، وحواشي العسكر والاتباع والرعية والسوقية. وكنت اركب في غلماني واتباعي، واحفظ قلب السلطان في نقل الحجر وأراعي. فبنى في اقرب مدة ما تعذر بناؤه في سنين وبذل جهده في التحصين لتأمين المؤمنين. ذكر من توفي من الأكابر والمعروفين في هذه السنة وفاة تقي الدين توفي الملك المظفر تقي الدين عمر ين شاهنشاه بن أيوب ابن أخي السلطان، يوم الجمعة تاسع عشر شهر رمضان. وهو على حصار ميلاز كرد من عمل أرمينية؛ وقد سبق ذكر مسيره إلى بلاد الجزيرة، لاستمداد الإمداد الكثيرة. واستنجاد الانجاد، والاستنجاد بالأجناد، والجمع من جميع الجهات للجهاد. والعود سريعا بالحشود الجامعة والجموع الحاشدة، والجيوش المترادفة المترافدة، والجنود المتوافرة المتوافدة. والقواضب القاصلة، والهواضب الهاطلة، والمصافحين بالصفاح، والمختالين في أعطاف المراح بأطراف الرماح،

والحاملين الجبال على الرياح، والمتعطشين إلى انتجاع النجيع لإرواء الأرواح. ومكث السلطان على انتظاره، متوجسا لأخباره. مستوحشا من إبطائه، متعطشا إلى أنبائه، منتظرا لوفائه. فلما لأخذ الفرنج عكاء نسب ذلك إليه، واحتسب الله عليه. فأما تقي الدين فإنه عن له أن يمضي إلى ميافارقين؛ واستصحب إليها عسكر ماردين. ونفذ إلى السويداء وانتزعها من أيدي أصحابها، واستحوذ على جميع ما بها. وحاصر مدينة حاني فتملكها، وكانت له مقاصد في ديار بكر فأدركها. واقتطع بلادا من ولاية ابن قرا ارسلان وأقطعها، وأرعب القلوب بما ابتدأ به وابتدعه وروعها. وتأخرت عنا بسبب ذلك عساكر ديار بكر، وحصلت منه على عذر وذعر. وراعت هيبته، وهبت روعته. ودبت إلى الخواطر مخافة أخطاره، وشبت في القلوب لوافح ناره. وارتجت تلك الآجام من زاره، وازورت من مزاره. وبليت تلك البلاد ببلائه، وهابت الأعداء هبة أعدائه. وزلت الأقدام لإقدامه، وانخفضت الأعلام لإعلاء أعلامه. ونفي عدله من جبلجور جبلة الجور، وأذهب بذهابه إليها فوران الفتنة على الفور. ودخل قلب قلب، وحكم في عداتها الغلب القضب. وقصد عسكره عسكر بكتمر فكسره، ثم سرح بإحسان وأطلق من أسره، فغار بكتمر واشتعل بنار الأنف لأنفه، واعتلق بأذن الشنف شنفه، وانتخت حميته، وحميت تخوته، وغيرته غيرته، وعيرته رعيته، وأودعته الهم همته، وحركته عزمته فاجتمعت جماعته وأمته أمته. وما أرجأ له نجح رجائه رجاله، وما أبطأ له عن إعانته أبطاله. وأجناه ثمر الطاعة أجناده، وانجاه بجهد الاستطاعة انجاده. وجر عسكرا مجرا، وساق إلى الحرب بحرا، وأوقد بالجمع جمرا، وجلب بيضا وسمرا، ودهما وشقرا، وصوارم بترا، وصواهل ضمرا. ونهض كمته وكماته، وحشد رعيته ورعاته، وذوي حميته وحماته، وساكني ولايته وولاته، ونسورخ وبغاثه، وسماتهوغثاثه، ومتانه ورثائه، وشباعه وغراثه. وجاء في سواد اسود منه الجو، وانسد بظلامه الضو، وتحلى بنجومه ليل العجاج، وتجلى بسفوره صبح الهياج، وابرق وأرعد، وتحدر وتصعد. وسار بين الآكام بالآكام، وضاهى الأعلام بالأعلام وأذكى مذاكيه الجياد، وأجرى ضوامره وهواديها قد ملأت الوهاد، وأدنى إلى الآساد الآساد. وأغرى بالجلاد الأجلاد. وجذب الجماح عرانه، وجلب الكفاح رعانه. وأشرع المراح رماحه، واطلع في سني الصفاح صفاحه، وماجت غدران دروعه، وهاجت غران جموعه. ومالت المران؛ وجالت الأقران. وسال المرت ومرت السيول، وتسهلت الوعور وتوعرت السهول. وانفض الفضاء، وانقض القضاء. واشتكت الأرض من الحوافر الحوافر وقعا، فأثارت لفرط تألمها على شرط تظلمها إلى السماء نقعا. وحثت في وجه الفلك ترابا وحثت لأتراب الأتراب طعانا وضرابا. وخاف على خلاط واختلط من المخافة، فقصر إلى الملك المظفر طول المسافة. فلما عرف اصحار خادره؛ وانتشار بوادره؛ وانتهاض قوادمه؛ وارتكاض صلادمه؛ وانقضاض شهب قواضبه،

وانفضاض دهم سلاهبه؛ اصطف له بمن اصطفاه من الأنجاد الانجاب، وفض على الفضاء سحاب الصحاب. وبسط على البسيطة رداء الردى، وأعدى بعلوه على العدا. وركب في كل ضرب يعد الضرب ضربا من الضرب، وكل بطل لمحق المبطل محق الطلب، وكل باسل سالب من كباش الأقران القرون، وكل عاسل بعاسل يمين بالمنى ويمون المنون. وكل شجاع أشاجعه وصائل القواطع، وكل مقدام قوادمه عوائق الوقائع، وكل طائر بأدنحة السوابق، زائر بأسلحة البوائق، محلق بخوافي الخوانق، مطرق لطوارئ الطوارق. وكل ذمر مشيح، بالذمار شحيح، وكل قاس قوسه عاطف، وكل راع نصله راعف. وكل صاد عزمه صادق، وكل رام لحظ سهمه إلى المقاتل رامق. وأيد رجاء الرجال بأياديه وقوى عزائم أوليائه لإضعاف أعاديه، ورغب بالرغائب وأملى ضيوف الآمال، بفيوض أمواه المواهب ونخى المنتخين، وانتخب المنتخبين. وأقدم في كل مقدم مقدام، وضيغم ضرغام، وهمام همام. ومعتقل أسمر يرشف ظلم القلوب، ومشتمل أبيض يكشف ظلم الحروب. وكل من يخال الطعن ضرب القداح والضرب بحد السوام، وكل من ينال اعتزاز الجد بجد الاعتزام. وكل من يعيد أفاحي البيض شقائق، ويصل بها إذا فارقت أغمادها المرافق. وكل من عنانه في يمين الجماح، وسنانه مردود عيون الجراح. وكل من ذبال سمهريه يلتهب، وذباب مشرفيه يضطرب. ووجوه صوارمه تبكي وتضحك، وعيون لهاذمه تفتك وتبتك. ولحاظ سهامه عن حواجب قسه ترمى، وسواعد سيوفه من أيدي الأيد تمد وتدمى. وكل أشعث الهامة ذي همة، تشعب صدع كل ملمة. وكل شهم شيظمى، أباء حمى. مجرب محرب، مقرب على مقرب، مطهر على مطهر، جار بمرجم، بار بمخذم، ضار بأقرقم. جواد حليم، تحمد في الوغى جهلاته على جواد كريم تدعو إلى الردى صهلاته. وكل بحر مستلئم بغدير، وكل من عنده إذا لبس الحديد إنه لابس حرير. فلما بصر عسكر خلاط بعسكره اختلط، وود لو استدرك الغلط. وجاش وطاش، ورام من عثرته الانتعاش. وولى هزيما، ولوى هشيما. وأغنم العسكر التقوى سلاحه وخيله، وجر تراب الذلة ذيله. وظفر الملك المظفر بالملك، وأسلم العدا إلى الهلك. وقيد إليه أمراء أسروا، واصاء كسروا، فأطلق سراحهم، وأنهض بتشريفاته جناحهم. ثم حل من صحراء موش، وساق إلى خلاط الجيوش. ثم بدا له من حصارها فأقرها بسلب قرارها. وعرج على قلعة شميران فتشمر لها، وفتح مقفلها، وكان مجد الدين بن الموفق - وزير خلاط بها محبوسا، ومن حياته يئوسا. فخلصه واستخلصه، وكسر حتى طار منه قفصه، وأنه لمن اعجب القصص لو شرحت قصصه. ثم راح إلى ميلازكرد، ونازلها بالتضييق، وقاتلها بالمنجنيق. وحشد إليها الأمداد، وأورى فيها من عزائمه الزناد. وجاءته عساكر (أرز الروم) منجدة من جدة، موجدة لما لها من موجدة. تقدمها الملكة ماما خاتون بنت سلدق كأنها في الأهبة والأبهة من ملوك سلجق. ووفد إلى

وتوفي في هذه السنة حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت السلطان

تقي الدين الجنود، ووافقته السعود، وخافته في غاباتها الأسرد. وغريت به العقول وعلقت به العقود، وتوطدت له البلاد وتوطأت، وتهيبت وتهيأت. واستدنته الممالك القاصية، وأطاعته المقاصد العاصية. وتشنفت له مسامع الأقطار بأقراط السمع والطاعة، وعم الامحال تلك المحال، ففض بما أفاضه من فواضله مجاعة الجماعة. ورجى وخشى، واعتفى وغشى. وامتلأت الطرق بالوفود والجنود، وتوالت إليه إمداد البأس والجود. فبينا هو في غفلة من القدر؛ وغفوة من الكدر، وغرة من الغير؛ وقد ألهاه حديث الدنيا عن الحادث الداني؛ وجنى الحياة عن الموت الجاني؛ وزيادة الأمل عن زيادة الأجل؛ ونزل المنى عن نوازل المنون؛ وسكن الأتراب عن التراب المسكون، ظهر له سر الغيب المكتوم، وأدركه القضاء المحتوم. ومرض أياما ثم قضى، وانقرض عهده وانقضى. وكتم ولده الملك المنصور ناصر الدين محمد وفاته، إلى أن خرج من ذلك الإقليم وجاوزه وفاته. وفتحت ملازكرد بابها، وسلم الرب أربابها وخرج ولد تقي الدين بعسكره وماله سالما، وجد في مقام والده بإظهار شعاره قائما. وجاءت رسله إلى السلطان تسأله، في إبقاء بلاد أبيه بيده حتى يبقى مستمرا على جدده. وطلب من السلطان؛ الميثاق له بأغلظ الأيمان. فلم يقبل الشرط؛ واشتط فشط، وجلب له الشطط السخط، وأقام على التباعد ولم يتدارك بالوصول ما منه فرط، ونسبوه في استيحاشه إلى العصيان، وسعوا له في أسباب الحرمان. حتى انتخى له الملك العادل فمضى لإحضاره، وجرى الأمر على إيثاره. وسيأتي ذكر ذلك في حوادث سنة ثمان. وتوفي في هذه السنة حسام الدين محمد بن عمر بن لاجين ابن أخت السلطان توفي بدمشق ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان يوم وفاة تقي الدين فأصيب السلطان بابن أخيه وأخته في يوم واحد. وكلاهما له أقوى ساعد، وأوفى مساعد، فيا لله من حسام أغمد، وهمام ألحد. وركن وهن. وكنز دفن. وبحر غاض، ورزء هاض. وصبح كسف، وبدر خسف. لقد غامت الأيام لغمه، وثكلته الدولة ثكل أمه. فإنه كان واحدها وعضدها ومعاضدها. وهو الذي فتح نابلس وأبقاها السلطان معه، وأبقى فيها من سنن العدل ما شرعه، وقد سبق في الكرماء ذكره. وذكر في المكارم سبقه، وقرظ حذقه. ووصفت مقدماته، وقمت بصفاته. فإن له مواقف في الجهاد مشكورة، ومقاطف لجنى النصر مشهورة. فقطع الأجل عليه طريق الأمل، وأعاد حلية الزمان به إلى العطل. وأوهن عقد شبابه الطرى وحله، وثلم حد شباه الطرير وفله، وما زال في غزواته مثيرا للترب إلى أن سكن عليه التراب وسكنه، وطالبه الثرى بحق خلقه معه فاسترهنه، وغارت عليه الأرض بانطلاق سموه إلى السماء فاعتقلته، ووجدته في أوج الفلك في النيرات فنقلته. وما كان أذكاه وازكاه، وأصحه وأصحاه،

وأبهجه وأبهاه، وأضوعه وأضواه، وأوعاه للفضائل وأحواه. ولقد فجعت به صديقا صدوقا، وشقيقا شفيقا، ورفيقا رفيقا. فهفى عليه من شهم توطن التراب، وسهم أصيب بعد ما اصاب، وجواد بلا حساب، لم يخطر بالبال من رزئه حساب، (لكل أجل كتاب). وتوفي في هذه السنة علم الدين سليمان بن جندر، وقد سبق ذكره في غزواته، ومواقفه ومقاماته. وكان في الخدم مقيما، والسلطان إلى الأنس به مستنيما. فعرض له مرض استأذن لأجله في العود إلى وطنه بحلب، وسمح له السلطان بجميع ما طلب. وتوجه من القدس سادس عشر ذي الحجة، واستقام على المحجة. وقضى نحبه عند قربه من دمشق في قرية غباغب، وستر التراب منه المناقب. ووصل الخبر بوفاته إلينا يوم الخميس ثامن عشري الشهر. وفي هذه السنة فتك بأتابك مظفر الدين قزل ارسلان بن ايلدكز في همذان؛ ليلة الأحد مستهل شعبان. كان تولى الملك بعد وفاة أخيه المعروف ببهلوان في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة ونجحت ارادته، ورجحت سعادته، وصلحت عاداته. وكان السلطان السلجقي طغرل ابن ارسلان تحت حكمه، وهو ابن أخيه لأمه. وله اسم السلطنة ولقزل حكمها، وله سموها ووسمها. فأنف السلطان من كونه تحت حجره، وبحكم نهيه وأمره، فإنه لم يكن له صاحب ولا غلام إلا من عنده، ولم ينفرد منذ تولى بحله وعقده. فهرب وحده تحت الليل، واتصل به بعد ذلك من انضم إليه من الخيل. ودام غائبا في نواحي دامغان مدة، واشتد مصابه وأصاب شدة. فاتصل به عدة من مماليك بهلوان الخواص وسلكوا معه نهج الإخلاص. وأعادوه إلى سرير ملكه، وانتسق أمره في سلكه. وقويت يده، وتأيدت قوته، واجتمعت كلمته، وتكلمت في الأمر والنهي جماعته. ورهبه قزل ارسلان ولازم ذعره، وأخذ منه حذره. وتنافس الأمراء ومماليك بهلوان الذين تبعوه، واعلوا شأنه ورفعوه. وسعى بعضهم ببعض، وقابلوا كل إبرام من مكرهم بنقص. وقالوا له: هؤلاء البهلوانية بغتالونك، وبالسوء ينالونك. فابطش بهم قبل أن يبطشوا وعثرهم قبل أن ينتعشوا، فسمع مقالهم، وتبع محالهم. وقتلهم بحضرته وهم غارون، وساءهم باغتيالهم وهم بالمغاة فيه سارون. فنفر منه كل آنس، وحفظ نفسه كل منافس، وزال بشره وبقى بوجه عابس. وفارقه بنو البهلوان بجنايته على مماليك أبيهم، ولقوة بتأبيهم. وقصده قزل ارسلان فأزعجه، وأخرجه من دار ملكه وأحرجه. وأجلس سلطانه آخر موضعه، وكدر عليه بالشوائب والنوائب مشرعه، وخطب لمعز الدين سنجر بن سليمان شاه وأطعمه وأطمعه. وأرضاه بالاسم، وأجراه على الرسم. وكاتب سلطاننا وعقد له الصداقة بصدق الاعتقاد، وانتظمت بينهما أسباب الاتحاد.

وكان السلطان طغرل إذا خلت همذان من قزل ارسلان يعود اليها، ويستولى عليها. ثم إذا عرف قربه بعد، وإذا علم بعده قعد. وشرع يقتل أصحابه بالتهم، ويشتد في النهب لشدة النهم. فقتل فخر الدين رئيس همذان، وبث العدوان. وقتل وزيره العزيز ابن رضى الدين المستوفي لأمر توهمه، ولخاطر لم يكشف مبهمه. فالجأ الزمان إلى الوصول إلى الأمير حسن بن قفجاق، وشكى إليه من أهله وأصحابه الشقاق. فخرج معه وآزره وظافره، وظاهره بعد أن صاهره. وزوج أخته منه، وحمى جانبه وذب عنه. وراسل سلطاننا قزل اسلان حتى يصافحه على الوفاء ويسامحه وكاد أن يتم الصلح، ويسفر بعد ليل الفتنة الصبح. فلما تقاربا للمصالحة تحاربا، واتهم كل واحد منهما الآخر فتواثبا. وأوقع تزل ارسلان به وبالتركمان، وعادت الفتن ملتهبة النيران. وساق السلطان طغرل إلى همذان، فمضى وراءه قزل ارسلان، فخرج إليه ثقة بما سبق من الأيمان. فصرف عنانه وقبضه، وأعرض عنه واعتره. وحبسه في بعض القلاع وأبعد عينه وأثره عن الأبصار والأسماع. فاتسقت له الملكة، واستقر منه السكون والحركة. وكانت أصفهان منذ توفي البهلوان؛ قد اضطربت واحتربت، واقتربت الساعة بها وخرجت. وقتل في ثلاث أربع سنين منها في محاربة العوام الوف، وتوالت بها حتوف وزحوف. وكانت الشحن من جانب قزل على الشافعية، وقووا أيدي الترابية في تخريب المدرسة النظامية. فأحوجت الضوة إلى أن أصحابنا دعوا بشعار السلطان، ووجدوا القوة به أمام قوته والإمكان. فلما اعتقل طغرل، واستمر أمر قزل؛ مضى إلى اصفهان؛ فأخذ رؤساء الأصحاب في المحال، وأجرى عليهم حكم القتل والاغتيال ثم عاد إلى همذان وقد قوى وروى، ونال ما هوى، ونشر من أمره ما كان طوى، وجلس على سرير الملك وضرب النوب الخمس، ووجد بعدم من يوحشه الأنس، ولها ولعب، وشرب وطرب. وغفل عن القضاء المشتبه، ونام عن القدر المنبه، واغتر بالعيش الرفه، وحلم عن الخطب السفه. وبات في قصره، وقد غاب في سكره، وهو بين خدمه وحشمه، وعسه وحرسه، وعتقائه وارقائه، ومستخصبه ومستخلصيه، فوجد على فراشه وهو قتيل، ولم يدر كيف قتل ولم يكن عليه سبيل. فنسب قتله إلى الإسماعيلية تارة وإلى الخاتون الاينانجية أخرى، والله أعلم بما به حكمه أجرى. ولما أصبحوا قتلوا صاحب بابه، وحل العقاب به دون أربابه، وجلس قتلغ اينانج بن بهلوان موضعه، وجمع له ملكه ومنعه، ومضى أخره نصرة الدين أبو بكر إلى أذربيجان وارانية سائقا إليها واستولى عليها. وأما السلطان فإنه أيس منه، وسلا من كان يواليه عنه. فتعصبت له امرأة متولي القلعة ودبرت في خلاصه، وهونت على زوجها أمر استصعابه واعتياضه، واستعانت بمن أعانها، وأعلت بإعلاء شأنه شأنها. ولما برز دخل مدينة تبريز وكأنما الكير أخرج الإبريز. ثم جمع ومضى على سمت همذان. فلقي قتلغ ابنانج وعسكره بين أوه وزنجان فكسره وهزمه، وفل حده وثلمه.

ومضى إلى همذان وجلس على سرير ملكه وذلك في سنة ثمان. سيأتي ذكر ذلك إن شاء الله. وتوفي في هذه السنة بدمشق من المعروفين من أصحاب السلطان صفي الدين أبو الفتح بن القابض، وكانت وفاته في الثالث والعشرين من رجب. ولقد كان سريا، وبالحمد حريا، وفي حلبة المكارم جريا، ومن الخيانة في ولايته بريا، ومن العار عريا، ولم يزل زند مضائه وريا. وكانت له سياسة ورياسة، ونفس ونفاسة، ورأى وفراسة، وفطنة وكياسة. ومروة وفتوة، وثبات جنان وقوة. وكان قد خدم السلطان أيام عدمه، وهو في كفالة أبيه وعمه. فلما ملك مصر امرجه في أموالها، وحكمه في أعمالها. حتى نال المنى، ووجد الغنى. فقال له: قد اكتفيت واستغنيت، وإن صرفت الآن ما باليت، فاصرفني عن العمل. فقد نلت غاية الأمل، فعاش غنيا، ومات جشريا. وورث السلطان بعض ماله، وذلك ما فضل عن افضاله، فإنه فرق على مماليكه أملاكه وماله. وأخفى بعد وفاته بما بذله حاله. وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول توفي الحكيم الموفق ابن مطران، وكان بارعا ظريفا، نظيفا عفيفا. وفقه الله في بدايته لهداية الإسلام، ونال أسباب الاحترام. وتقدم عند السلطان، وما شأنه كبر وهو كبير الشان. وكانت له دراية ودراسة، وذكاء وفراسة. ولم يزل متلطفا في طبه، متعطفا بحبه. متحببا إلى القلوب، متقلبا من قبوله في المحبوب. صبيح البهجة، فصيح اللهجة، صحيح الحجة بوضوح المحجة. ولم يزل عند السلطان وذوي الجاه جاه، ولجده انتباه، ولمداواته بالشفاء شفاه. حتى حان أجله، وخان أمله وبان عنه حلى حاله، وبان عطله. وكانت له عندي يد اذكرها وأشكرها، وعارفة أعرفها ولا أنكرها. وذلك أنني في ذي القعدة سنة ثمانين كنت متوجها في خدمة السلطان، وفي صحبته، متوليا للإنشاء منفردا بمرتبته. فلما وصلنا إلى بعلبك انقطعت عنه بها لمرض عرض، وشكا جوهري العرض. وانتهى إليه بدمشق ما ألم بي من الألم، فكره. من خبر السقم. وركب ووصل في يومه حتى أدركني، ومرضني وما تركني. وداواني حتى أبللت، وأزال الله انحراف مزاجي بطبه فاعتدلت. وصحبني إلى دمشق وسبق إلى أوليائي بالبشرى، وشكرت الله على النعمى. وكذلك كان يطلب مرضاتي، في جميع مرضاتي. فلما مرض الطبيب لم ينجح في مرضه الطب، وتوفاه الرب. وفي آخر هذه السنة؛ توفي الفقيه العالم الزاهد نجم الدين الخبوشاني بمصر وهو الذي بنى المدرسة عند ضريح الإمام الشافعي رضوان الله عليه، وأحيا شعار التوحيد، وبنى أمره على التشديد والتسديد، وحفظ شمل الشافعية من التبديد. وكان السلطان مجيبا له إلى كل ما يستدعيه، ويقضي له من الحوائج ما يقتضيه. ووقف على المدرسة التي بناها وقوفا، وأعطاه في بنائها ألوفا. فلما توفي طلب المدرسة جماعة من العلماء، فلقوا بالإباء. ثم شفع الملك العادل في صدر الدين على بن حمويه وهو

فصل كتب إلى بعض الأكابر في الدخول إلى القدس

شيخ الشيوخ، ويعرف في العلم والعمل بالرسوخ. فكتب بها له، ورتب بوقفها وتدريسها استقلاله، وذلك في أواخر سنة ثمان وثمانين. ثم صرف بعد السلطان عن المدرسة، وبدلت الوحشة من الأنسة. فصل كتب إلى بعض الأكابر في الدخول إلى القدس اتفق دخول الشتاء، وتواتر الانداء، وتوافر الأنواء، وشح الأرض وسح السماء. وانقطاع الجلب واتصال الغلاء، وبعد الراحة لقرب الأعداء، وملل العساكر لدوام الهيجاء، والمقارعة واللقاء. وكانت مدينة القدس محتاجة إلى توفر الهمم على شحنها بالرجال، والميرة والقوة، والعدة والذخيرة. ورأيناها من أحسن المدن وأحصنها وأحكمها وأوجدنا بها جدتها بعد عدمها. ورتبنا بناء سورها على جوانب أودية وسفوح، متى تم لم يبق فيها لطمع من طموح. وهذا أمر لله وفي طاعته، ولحفظ بيته ولنصرة دينه ولإعلاء كلمته، ولحماية أمته. وما لنا فيه إلا السمرة، وما جاءونا إلا الأجر والمغفرة. وما نصيب إلا نصيب واحد من المسلمين المجدين، والمؤمنين المعدين للدين. فما أسعد من ساعد فيه، ووفى بإسعاف عافيه. هذا والكفر قد أناخ بكلكله، وحفل بجحفله. وبرز إلى الإسلام بكليته، وعراه ببليته، وقامت قيامته لقيامته، وثار لثار قمامته. ورمى مهجته على الموت لمقبرته، والبيت المقدس الذي شرفه الله وكرمه وعصمه كما عصم وحرم حرمه مقام الأنبياء المرسلين، ومقر الأولياء والصديقين، وموضع معراج سيد المرسلين، ورسول رب العالمين. وفيه نزل جبريل بالبراق وصعد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى السبع الطباق، وأهدى الله ليلة الإسراء بحلول السراج المنير فيه الإشراق إلى الإنفاق. وهؤلاء الملاعين قد أغذوا لقصده، وأعدوا لورود ورده. وقد فرض في هذا الأوان رفض التواني، واستدعاء ذوي الحمية من الأقاصي والأداني. وإن لم يتساعدوا في الربيع القابل، على إنهاض الجحافل؛ صعب الأمر واشتد، واحتدم الخطب واحتد. فصل في شكر صاحب الموصل على إنفاذ الجصاصين لحفر الخندق قد أصبح البيت المقدس يقدس ويسبح، ويعرب عن فضيلة منجده ويفصح. فقد وصل الرجال الواصلون بالنجح رجاءه، الحامون بحفر خندقه أرجاءه. وما فيهم إلا من أبان عن جده، وأبان بحده، والآن الشديد بشده، وثلم الحديد بثلم الصخر وهده. وهذه لا شك مقدمه لما وراءها من نتائج النجدات، وجدوى سابقة للواحق في مناهج الجدات، وعرفة معرفة في قمع العداة بإجراء العادات في إنجاز العدات. وللعدو انتظار لنجدات بحرية وارتقاب، وومضات جمر تحت رماد كيده يوشك أن يكون لها التهاب. والهمة السامية لا تفتقر في هذا الباعث إلى باعث، وعند عزائمه حديث كل حادث.

وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنة؛ كتبت منشور حسام الدين سياروخ النجمي بولاية القدس. وكانت ولاية القدس مذ يسر الله فتحه؛ وحقق للأمل فيه نجحه؛ واطلع لليل النصر صبحه؛ إلى الفقيه ضياء الدين عيسى مفوضة، وصعاب أعماله وشعاب أحواله بندرة آرائه ونصرة آلائه مروضة. وقد استناب فيه أخاه (الظهير) ظهيرا، ولم يزل رواؤه وبهاؤه به شهيا شهيرا؛ إلى أن استشهد في شعبان سنة خمس وثمانين، وتوفي الفقيه عيسى في ذي القعدة منها وانتقل إلى عليين. فأبقى السلطان نوابه من بعده، محافظة على عهده. وكان الأمير سياروخ بالقدس مقيما، وللنظر في مصالحه مستديما. ويضم من أمره ما يراه منشورا، وكتبت له في التاريخ المذكور باستقلاله منشورا. الحمد لله الذي أقصى من المسجد الأقصى من داناه من الكفر ودنسه، ونزه البيت المقدس من رجس أعدائه المشركين بأيدي أوليائه الموحدين وطهره وقدسه، وأنطق محرابه ومنبره بتلاوة الذكر المبين وأسكت الناقوس وأخرسه، نحمده على ما عصمه من الحوزة وحرسه، وفرجه من الشدة ونفيه. ونسأله أن يصلي على نبيه محمد المصطفى الذي شرع الدين وشرحه؛ ومهد الشرع وأسسه، وبطل الكفر وعطله؛ وأرغم الشرك وأتعسه، وعلى آله وأصحابه الذين أعلى الله بهم منار الحق وأضفى ملبسه، وأصفى مورده؛ وأزكى مغرسه. وبعد: فإنا منذ فتح الله لنا بيته المقدس، وخفض بإعلاء أعلامنا راية الكفر ونكس؛ وكسا بأيامن أيامنا وجه الدين البشر من بعد ما كان تعبس؛ وخصنا بفضيلة فتحه؛ وجعل لنا به الحظ الأجزل؛ الأفضل الأكرم الأنفس؛ ما نزال نطلب وليا لله يكون له وليا، ويعود عاطله بتأثير إحسانه وحسن آثاره وإيثاره حاليا، ويرجع بنظره الشافي وتدبيره الكافي ما انخفض من منار الهدى عاليا. ولا يزال على بال منا أن نحيي به من رسوم الإيمان، ونجدد من معالمه ما ظل بمقام أهل الضلال فيه دارسا باليا. وقد اختبرنا الأمير حسام الدين فألفيناه لأهلية هذه الولاية جامعا؛ وإلى مضمار السبق في هذه المكرمة مسارعا. ووجدناه بأعباء الأمانة ناهضا، ولزبد المناصحة والصحة فيه ماخضا ماحضا. فاستخرنا الله تعالى وعولنا عليه في ولاية مدينة القدس وأعمالها، وعذقنا برأيه الراجح وسعيه الناجح مهام أشغالها، وحكمناه في تحصيل مصالحها، وتسهيل مناجحها، وسداد ثغرها، وسداد أمرها. ورعاية أمورها، وعمارة حريمها وسورها. وتطويل باع ساكنها، وتأهيل رباع أماكنها، وإسكان مواطنها، وتوطين مساكنها، وتطهيرها من ادناس أدنى الناس، وتعميرها بالعدة والعمدة والشدة والقوة والبأس. فليتول ذلك بقوة ناهضة ونهضة قوية، وروية مبصرة وبصيرة روية. وليستشعر تقوي العل التي تقوى بها العزائم، وتتوفر منها المحامد وتكمل المكارم. جاريا على مقتضى الشرع في كل ما يحله ويعقده، ويقدره ويمده، ويصدره ويورده، والله عز وجل يوفقه ويسعده ويعضده.

دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة

دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ودخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة والسلطان مقيم بالقدس في دار الاقساء جوار (قمامة)، وأظهر بها لتقوية البلد الإقامة. وقد قسم سور البلد على أولاده، وأخيه وأجناده. فشرعوا في إنشاء سور جديد، محدق به مديد. وكان يركب كل يوم مصح، مشمس مضح، فينقل الصخر على قربوس سرجه، فيستن الأكابر والأمراء في نقل الحجارات بنهجه، فلو رأيته وهو يحمل حجرا في ججره؛ لعرفت أن له قلبا كم حمل جبلا في فكره. ولقد جد في حماية الصخرة المقدسة حتى حمل لها الصخور، وانشرح صدره لانضمامها إلى صدره، حتى باشر صدور ممالكه بها الصدور. وما تغلو دار يبنيها في الجنة بنقل حجارتها، ليكون ملكا في دارها وقمرا في دارتها. وكل بناء قلت حجارته، ووقفت عمارته؛ ركب وبكر اليه، وجمع الحجر بنفسه وأجناده عليه، فإذا اكتفى انتقل إلى موضع آخر ونقل إليه الحجر، ولقد بنى به في غرفات الجنات الحجر، وأثر رواة سيرته الحسنة منه الأثر، وما أعمر إحسانه وأحسن ما عمر! وداوم البكور بالركوب، وعرض وجهه الكريم للشحوب، والتزم الأمر التزام الوجوب. ولأن له الصخر لين الحديد لداود، وجد في فض جدته وأفاض الجود. وكان حجر الخندق صلدا لا يتأتى قطعه، ولا يتهيأ بكل آلة صدعه. فاتخذ من الفولاذ قطاعات واخترع على الحدادين آلات. فأمكن الصلد، ووهن الجلد. وتيسر الصعب، ولأن الصلب. وصرخ الصخر، لما حاف الحفر. وضج الحديد لجلد الجلمود، وصفا قلب الصفا لإصاخة الصيخود وأعولت المعاول، وجدلت الجنادل. وسمعت الصماء صوت السطو، وخرج جرح الإساءة إليها عن الأسو. وفلقت القطع وقطعت الفلق، واتسع الضيق وتعمق الخندق. وطاب العمل، وطال الأمل. وحز الحزم وحزن الحزن، وركنت القوة وقوى الركن. فلا ترى إلا سورا يعلو وخندقا يسفل، وبناء يسمو وحفرا ينزل. وبرجا يسقف، وبدنا يشرف، وبدنا يشرف. وحجارة تبني، وعمارة تثنى. وكلسا يحرق، وأسا يوثق. وطاقا يعقد، ورواقا يمهد. وطلاقات تطلق، ومرامي تخرق. وستائر تحجر، وحفائر تقعر. ومصاعد تهندس وقواعد تؤسس. ومعارج تسفح، ومخارج تفسح. وموالج تسرب، ومدارج ترقب. حتى أحكم المكان بكل ما في الامكان، واتصلت الأبراج بالأبدان، مشيدة الأركان. والسلطان يشرف في كل يوم على عمل قوم. فيمدحهم بإحسانهم، ويجازيهم بإحسانه، ويعير جنان المتولي من قوة جنانه. ويدركه بما يستأنفه من عمله، ويحلى بالفضل ما يبدو له من عطله. وكان ذلك دأبه مدة إقامته، وقد جد غرامه بغرامته. بل يرى أن كل مال ينفقه باق، وأنه إن فاق كريم فبانفاق، وما عنده خشية إملاق، بل يده جارية بإطلاق جوائز وأرزاق، وأنه تتجلى له أعماله الصالحة يوم يكشف عن ساق. وإن وفق الله واستمر ما دبره في حفر الخندق وبناء السور؛ بقي بيت

ذكر الحوادث مع الفرنج في هذه السنة

الله المقدس مع الإسلام على ممر الدهور. ولا يبقى عليه لمسلم فزع، ولا فيه لكافر طمع. ولو عاش (بخت نصر) لعرف عجزه، وسلب عز الإسلام عزه. ورأى من المعجزات ما حيره، وقهقر عن البأس الذي إن ثبت له قهره. فسبحان الذي أقدر السلطان على ما أعجز عنه الملوك، وهداه من الفضل إلى نهج ضلوا فيه السلوك. ذكر الحوادث مع الفرنج في هذه السنة رحل الفرنج يوم الثلاثاء ثالث المحرم من الرملة إلى عسقلان، ونزلوا يوم الأربعاء بظاهرها، وتشاوروا في إعادة عمائرها، وكان سيف الدين يازكوج وعلم الدين قيصر والأسدية نازلين في بعض أعمالها، مجدين في نقل غلالها. وركب ملك الانكتير عصر يوم الخميس، ومعه حزبه من جند ابليس. فشاهد دخانا على البعد، وما عرف ما عنده من العسكر المعد فساق متوجها إلى تلك الجهة وجد، وتبعه عسكره وامتد. فما شعر أصحابنا إلا بالكبسة وقد بغتت فما ارتاعت قلوبهم بل ثبتت. وذلك وقت المغرب وهم مجتمعون على الإفطار، فارغة الأفكار من شغل الكفار. وكانوا نازلين في موضعين، مقيمين في منزلين، فلم ير العدو إلا أحد القسمين. فقصده بحزبه، وأطلق عنانه لحربه. فعرف القسم الآخر هجوم العدو؛ فهجروا مهاد الهدو، وركبوا إلى العدو. فدفعوه حتى ركب رفقاؤهم المقصودون، واجتمعوا وهم المسعودون. وردوا العدو شوطا، وصبوا عليه من عذاب القراع سوطا. ثم تكتثر الفرنج عليهم وتواصلوا وسبقوا إليهم، فاندفعوا من بين أيديهم، والفرنج تباريهم. وساقوا أثقالهم قدامهم، وقد ثبت حفظهما على الأقدام أقدامهم. وما فقد من أصحابنا ممن عرف إلا أربعة، ونجا الباقون وخواطرهم لأجل أولئك متوزعة، وكانت نوبة عظيمة دفع الله خطرها، وهون ضررها. وبتاريخ الثلاثاء عاشر المحرم، ركب السلطان على عادته في نقل الحجارة والجد في العمارة. ومعه الملوك أولاده والأمراء، والقضاة والعلماء، والصوفية والزهاد والأولياء. وخرج كل من بالبلد، وجاء المدد بعد المدد. وهو قد حمل على سرجه، واستوى في نهجه. والناس ينقلون معه على خيواهم في قفافهم وذيولهم. ولما دخل الظهر نزل في خيمة ضربها ولده الملك الظافر بالصحراء، وأحضر فيها السماط لمن يدعوه من الأمراء. فحضر على ذلك السماط، وأحضر طعام مطابخه وبسطه على ذلك البساط. وكنت قد مضيت فردني، وبتقريبه أمدني. فلما فرغ وفرغنا، وبلغ مراده وبلغنا، صلى هناك الظهر وركب عائدا إلى داره، آيبا بإيثاره وحسن آثاره، فائزا بسرور أسراره وخير اختياره.

ذكر ثلاث سرايا سرت وبرت وبرت

ذكر ثلاث سرايا سرت وبرت وبرت كان عز الدين جرديك تجرد في سرية سرية، بارية رقاب ذوي الغلول من الغل برية. فأغارت يوم الأربعاء الحادي عشر من المحرم على يبني، وفيها الفرنج بنية السكنى. فغنمت أثني عشر اسيرا، وخيلا ودواب وأثاثا كثيرا. وفي يوم الثلاثاء ثاني صفر، أغارت السرية وفيها جرديك، وعسكر القدس وجماعة من المماليك؛ على ظاهر عسقلان، واوفدت بتناصرها على الكفر الخذلان. وغنمت ثلاثين أسيرا قيدت في الأغلال، سوى ما كسبته من الخيل والبغال. سرية فارس الدين ميمون القصري باتت ليلة الأحد رابع عشر صفر بتل الجزر، وسرت حتى أصبحت على يبنى وكمنت، وصبرت إلى أن استرسلت الفرنج إلى الطريق وأمنت، ثم ظهرت على قافلة للفرنج عبرت. فكبست وكسبت، وكسرت وأسرت. وأخذتها بأسرها مع رجالها، وبغالها وأحمالها وأثقالها. ثم أغارت على يافا فقتلت وفتكت، وسفكت دماء وهتكت. وعادت بالغنيمة والسبايا، واستغنت بنقودها عن النسايا. وعجز جماعة من الأسارى عن المشي فضربت أعناقهم، وأوجب ذلك للباقين في المسير أعناقهم وعادت سالمة سالبة، غانمة غالبة. ذكر خروج سيف الدين علي بن أحمد المعروف بالمشطوب من الأسر قرر على نفسه قطيعة خمسين ألف دينار فأدى منها ثلاثين، وأعطى رهائن على عشرين. ووصل إلى القدس واجتمع بالسلطان يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، فقام إليه واعتنقه وتلقاه بالوجه الباشر. وأقطعه نابلس وأعمالها، وحلى بإيالته لها أحوالها. وعاش إلى آخر شوال من هذه السنة، وتوفي إلى رحمة الله بأعماله الحسنة. فعين السلطان ثلث نابلس وأعمالها لمصالح البيت المقدس، وتشيد ركن سوره المؤسس. وأبقى باقيها على ولده وتركه في تصرفه ويده. نكتة لما خرج المشطوب من الأسر؛ تلقاه ولده روى السرى قوي الأزر. فوجده على زي أولاده الأتراك مضفور الشعر. فبدا منه الإنكار والإكبار، وقال: ما للأكراد في شعورهم هذا الشعار. فقطع ضفيرته، وقصر وفرته. فتطير الناس من قطع شعره على أبيه. وقالوا: هذا دليل مصابه الذي يأتيه.

هلاك المركيس بصور

هلاك المركيس بصور أضافه الأسقف بصور يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر فاستوفى رزقه لموافاة أجله، ووصل إلى الباب قاطع أمله. وقد دعي إلى جهنمه، ومالك على انتظار مقدمه، والجحيم في ترقبه، والدرك الأسفل من النار ي تلهبه، والسعير في تسعره، ولظى في تلظيها لتنظره. وقد قرب أن تكون الهاوية له حاوية، والحامية عليه حامية، والزبانية في إيقاع العذاب به لمنزل الرجز بانية. وقد فتحت النار له أبوابها السبعة، وهي جائعة إلى التهامه وهو ملته بالأكل يستوفي الشبعة. فأكل وتغدى، وما درى إنه يتردى. وأكل وشرب، وشبع وطرب، وخرج وركب. فوثب عليه رجلان بل ذئبان أمعطان. وسكنا حركته بالسكاكين، ودكاه عند تلك الدكاكين. وهرب أحدهما ودخل الكنيسة، وقد أخرج النفس الخسيسة. وقال المركيس وهو مجروح، وفيه بقية روح: احملوني إلى الكنيسة فحملوه، وظنوا أنهم حاطوه لما نقلوه. فلما أبصره أحد الجارحين، وثب إليه للحين. وزاده جرحا على جرح، وقرحا على قرح. فأخذ الفرنج الرقيقين، فألفوها من الفدائية الإسماعيلية مرتدين. فسالوهما: من وضعكما على تدبير هذا التدمير؛ فقال: ملك الانكتير وذكر عنهما أنهما تنصرا منذ ستة أشهر، ودخلا في ترهب وتطهر. ولزما البيع، والتزما الورع. وخدم أحدهما ابن بارزان، والآخر صاحب صيداء لقربهما من المركيس. واستحكما بملازمتهما أسباب التأنيس. ثم علقا بركابه، وفتكا به. فقتلا شر قتلة، وجهل عليهما اشد جهلة. فيا لله من كافرين سفكا دم كافر، وفاجرين فتكا بفاجر. فلما ظل المركيس مركسا؛ تحكم ملك الانكتير في صور، وولاها الكند هرى وعذق به الأمور. ودخل بالملكة زوجة المركيس في ليلته، وادعى إنه أحق بزوجته. وكانت حاملا فما منع الحمل من نكاحها، وذلك افظع من سفاحها. فقلت لبعض رسلهم: إلى من ينسب الولد؟ فقال: يكون ولد الملكة، فانظر إلى استباحة هذه الطائفة المشركة. ولم يعجبنا قتل المركيس في هذه الحالة، وإن كان من طواغيت الضلالة. لأنه كان عدو ملك الانكتير، ومنازعه على الملك والسرير، ومنافسه في القليل والكثير. وهو يراسلنا حتى نساعده عليه، وتنزع ما أخذه من يديه. وكلما سمع ملك الانكتير أن رسول المركيس عند السلطان، مال إلى المراسلة بالاستكانة والإذعان. وأعاد الحديث في قرار الصلح، وطمع في ليل ضلاله بإسفار الصبح. فلما قتل المركيس سكن روعه وروعه. وذهب ضوره وضوعه، وطاب قلبه، وآب لبه. واستوى أمره، واستشرى شره. وكان قد تعصب لمضادة المركيس الملك العتيق، فأظهر له ود الشفيق الشقيق. وولاه جزيرة قبرس وأعمالها، وسدد بسداده اختلالها. فلما هلك المركيس عرف إنه قد أخطأ في تقويته، وخشي إنه لا يسلم من عاديته، ولا يأمن من غائلته. فلما عدم عدوه، وجد هدوه. وآب سكونه، وثاب جنونه. وغاض غيظه، وحضه حظه، وفاض من منبع

ذكر استيلاء الفرنج على قلعة الداروم

الشرك فظه. ومع هذا لم يقطع محادثته، ولم يحدث مقاطعته، ومرى رسل مراسلته، ورمى سهم مخادعته ومخاتلته. ولم ينزل عن ادعاء صداقة الملك العادل، وتصديق دعوته، وراسل في طلب المناصفة على البلاد سوى القدس فإنه يبقى لنا بمدينته وقلعته. سوى كنيستهم المعروفة بقمامة فإنهم يعقدونها لملتهم الدعامة. فأبى السلطات أن يقبل هذاالقرار، وأبدى لهم الإنكار. وسامهم أن ينزلوا عن يافا وعسقلان؛ ويأخذوا على ما يبقى في أيديهم الأمان. ذكر استيلاء الفرنج على قلعة الداروم وهذه قلعة الداروم على حد مصر، وكانت منها مضرة كبيرة لما كانت مع الكفر. فلما فتحت حفظت، وتركت وأبقيت، وبالميرة والذخائر والرجال مليت. وخربت عسقلان وغزة دونها، وتسلمها علم الدين قيصر على أن يصونها. فلما شرع الفرنج في إعادة عمارة عمارة عسقلان ترددوا مرارا إليها، وداروا حولها وأشرفوا عليها. وأنفق السلطان في جماعة وقواها بها، وشد بالنجدة قلوب أربابها. ثم نزل الفرنج عليها بقضم وقضيضهم، وسمرهم وبيضهم. وفارسهم وراجلهم، وصارمهم وذابلهم، وصارمهم وذابلهم، ورامحهم ونابلهم. واشتد زحفهم عليها، ونهوضهم اليها؛ عشية السبت تاسع جمادى الأولى بعد أن أخذوا فيها نقبا وخرقوه، وحشوه واحرقوه. وطلب أهلها الأمان فلم يجدوا، وطلبوا من قيصر وجماعته النجدة فلم ينجدوا. ولما عرف الوالي أنهم مأخوذون، وأنهم موقومون موقوذون؛ عمد إلى الخيل والجمال والدواب فعرقبها، وإلى الذخائر فأضرمها وألهبها. وفتحوها بالسيف، وعرضوا أهلها على الحيف. وأسروا منهم عدة يسيرة، وكانت هذه النوبة على الإسلام كبيرة. ثم لم يلبثوا بها ولم يغربوا فيها، ورحلوا عنها وتنحوا عن نواحيها. ونزلوا على ما يقال له: الحسى، وقد طاش بهم الغي والبغي. وذلك في يوم الخميس رابع عشر الشهر، وقد أنسوا بما ظنوه من أسباب الغلبة والقهر. ثم تركوا خيامهم وساروا على قصد قلعة يقال لها: مجدل الحباب، فخرجت عليهم أسد اليزكية المكمنة من الغاب. فقاتلتهم قتالا شديدا وتركتهم بحد الحديد بديدا، وغادرت حبل قصدهم الجديد جديدا، وكرت عليهم وكرت عليهم فكررت في ردهم عن جهتهم ترديدا. وقتل منهم في جملة من قتل كند كبير. وأتاهم من مباريها مبير. وعادوا مفلولين مثلومين، مخذولين مهزومين، مثلولين مهضومين. ثم رحل الفرنج من الحسى يوم الأحد سابع عشر الشهر وتفرقوا فريقين، وبعضهم عاد إلى عسقلان، وبعضهم جاء إلى بيت جبرين، فتقدم السلطان إلى العساكر والأمراء بأن يكونوا لهم مبارين. وفي يوم السبت الثالث والعشرين نزلوا بتل الصافية، بجموعهم الوافرة الوافية. ونزلوا يوم الثلاثاء السادس والعشرين بالنظرون، فأرجفت الألسنة بأنهم على قصد

ذكر كبسة الفرنج عسكر مصر الواصل

القدس على حسب تراجم الظنون. ثم ضربوا خيامهم يوم الأربعاء على بيت نوبة، واجتلينا نيرانهم المشبوبة. وسرت منا إليهم السرايا، وتوالت عليهم البلايا. وأظهر السلطان مقامه بالقدس، لتبعد وحشة المقيم فيه من قربه بالأنس. وفرق الأبراج والأبدان على الأمراء والأجناد، وذوى القوة والاستعداد، وأمرهم بنقل الازواد. ثم زال الرعب وطاب القلب. وخرج الناس إلى خيامهم يتخطفونهم، ويعسفونهم ويتحيفونهم. وجرت وقعة بعد وقعة، وكبسناهم دفعة بعد دفعة. ومن ذلك أن بدر الدين دلدرم كان في اليزك ليلة الجمعة التاسع والعشرين فبعث من أصحابه والعسكر إلى طريقهم من يافا من لزم الكمين. فجازت بهم فرسان من الفرنج، مستقيمون على النهج. فخرجوا عليهم وقتلوا واسروا وفازوا ونصروا. وفي يوم السبت نزل الناس اليهم، واتلوهم في خيامهم، والهبوهم بضرامهم. وركب العدو وساق إلى قلونية وهي ضيعة من القدس على فرسخين ثم عاد بائد الشأن بادي الشين. وعساكرنا قد ركبت أكتافه، وهي تقطع أطرافه، وتهز أعطاف البيض لتحز أعطافه. وفي يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة، خرج كمينا في طريق يافا على السابلة العابرة. فظفروا وفازوا، وحووا وحازوا، وكسروا وأسروا. ذكر كبسة الفرنج عسكر مصر الواصل كان السلطان يستحث عسكر مصر بكتبه ورسله، ويدعوه نجدة لأهل القدس على الكفر وأهله. فضرب العسكر خيامه على بلبيس مدة حتى اجتمع الرفاق، وتهيأ لمن تأخر عن السابق اللحاق. وانضم إليهم التجار، وحصل لهم لكثرتهم الاغترار، وللعدو لقدومهم الانتظار، وعنده بجواسيسه الاخبار. فجاء الخبر من اليزكية إلى السلطان، ليلة الاثنين التاسع من جمادى الآخرة؛ أن العدو - ملك الانكتير - ركب في سبعمائة فارس وألف تركبولي ومعه ألف راجل، وسار عصر يوم الأحد سير مخادع مخاتل. ولا يدري أي جانب قصد، ولأي نائب رصد. فجرد السلطان أمير (آخر أسلم)، خوفا على الواصل ليسلم. وندب معه الطنية وعدة من العادلية، وأمرهم بأن يأخذوا بالناس في طريق البرية. فعبروا على ماء الحسى، قبل وصول العدو اليه، واتصلوا بالقوم وخبروهم بأنهم كشفوا الماء وليس أحد عليه. وكان مقدم العسكر المصري فلك الدين أخو العادل، ولم يسأل عن المراحل والمنازل. وقصد أقرب الطرق، وغفل عما يعرو من الفرق والفرق. وترك الأحمال على طرق أخرى سائرة، ورأى الأمنة ظاهرة، وأوجه السلامة سافرة. وجاء ونزل على ماء يعرف بالخويلفة، والأماني تغره بالمواعيد المخلفة. ونادى تلك الليلة: إنا جزنا مظان المخافة، وفزنا بالسلامة من الآفة، فلا رحيل إلى الصباح. فاغتر الناس بالنداء الصراح. وناموا مسترسلين، وباتوا متغفلين. فصبحهم العدو عند انشقاق الصبح بالصدمة الشاقة، والخدمة الحاقة. وعاق ابن ذكاء بإذكاء بنت

ذكر سبب غيبة العادل والأفضل وما جرى لهما من الأول

الداهية العاقة. فجاءهم فجاءة، والصبح لم يبد إضاءة. والخيط الأبيض من الخيط الأسود لم يتبين، وهبوب الأعين من هبوة الغفوة لم يتعين. وكل غرار في جفنه قار، وكل قلب بأمنه سار. وكل جنب على فراش، وكل عاش له النعاس غاش. فلما بغتوا بهتوا، وطلبوا أن يفلتوا فما التفتوا. وركب كل منهم على وجهه، وربما كر بكرهه. وفيهم من ركب بغير عدة حصانه، وأسلم إخوانه وغلمانه. وانهزموا نحو الأثقال، فأوقعوا العدو وهو وراءهم على الجمال والأحمال. فوقع العدو في سوابقها، واشتغل بها عن لواحقها. فتفرقت في البرية. وعاد معظمها إلى الديار المصرية، ومنهم من عاج إلى طريق الكرك، فلم يقع في الشرك، ولم يحصل في الدرك. فأخذ الكفار جمالا لا تعد، وأحمالا لا تحد. وكانت هذه نكبة عظيمة، ونائبة عميمة. ونوبة ذات نبوة، وكبة ذات كبوة. ووقعة ذات روعة، وعولة ذات لوعة. فظنت الظنون، وأرجف المرجفون. وقالوا: قد حصل للفرنج من الظهر ما يحملهم وينهضهم، ومن المال يبطرهم ويحرضهم. ومن الآن يقابلهم وبأي عسكر وعدة نقاتلهم!. ووصل الجند مسلوبين، منكوبين منهوبين. فسلاهم السلطان عن أموالهم، بما قوى من آمالهم. وحضهم على الحظ من الأخذ بثأرهم، والجد في دمار القوم وبوارهم. ولهى الملاعين بما ملأ العين من المال، عن القيل والقال، والقتل والقتال، وحلا لهم ما حاولوه من الحال. وجرى هذا كله والملك الأفضل والملك العادل غائبان، وعساكره الموصل وسنجار وديار بكر متباطئة في الإتيان. ذكر سبب غيبة العادل والأفضل وما جرى لهما من الأول كان الملك الأفضل طلب من والده البلاد قاطع الفرات، ونزل عن جميع ما له من الولايات. وأنه إذا عبر إلى الرها وحران ملك تلك البلدان، وعنا له من بها من ملوك الأطراف ودان. ورحل من القدس في ثالث صفر وقد أزمع السفر، ووجه عزمه الماضي المضيء قد سفر. وأقام في دمشق حتى استعد، واستجدى من أبيه ما كمل به الخزانة واستجد. وأطلق له السلطان عشرين ألف دينار، سوى ما أصحبه برسم الخلع والتشريفات؛ من مستعملات ثياب ومصوغات نضار. ثم سار في مجر سيل خيله جار ذيل نقعه على المجرة، شاغل بالسير والسرى أسرار ذوي الأسرة. بادية على صفحات صفاحه نضرة النصرة. ووصل إلى حلب، وقد مرى افاويق التوفيق وحلب. واحتفل أخوه الملك الظاهر لقدومه، وقام له بسنن الكرم ورسومه. ورحب للترحيب به صدره وجنابه، وسحب على روضه سحابه، وأصحب فيض فضله صحابه. ووقف لخدمته مائلا، وهز عطف الابتهاج إليه مائلا. وأحضر له مفاتيح بلده، وقدم له كل ما في يده. ولم يبق من الجميل شيئا إلا عمله، ولا نوعا من الفضيلة إلا كمله. وعرض عليه الحصن العراب، والتحف والثياب. وخلع على خواص أصحابه وعوام أجناده،

ذكر رحيل ملك الانكتير صوب عكاء مظهرا إنه على قصد ثغر بيروت

وخصهم وعمهم من الجود بإمداده. وعول أن يسير معه إلى الجهة التي يقصدها، ويساعده على الضالة التي سنشدها. وسمع ناصر الدين بن تقي الدين بما اقلقه، ودفع منه إلى ما أرهجه وأرهقه. ووصل رسوله إلى الملك العادل وهو بالقدس لاجئا إلى ظله، راجيا لفضله. لائذا بجنابه، عائذا ببابه، مستجيزا بإرعائه، مستجيبا لدعائه. مفوضا ما حل به إلى أوار آرائه، مروضا ما حل أمره بأنواء آلائه. فاحتمى له واحتمله، وقوى على تقويته أمله. وخاطب السلطان في حقه واستعطفه، وشفع في أمره واستشفعه. وقال: أمضي إليه وأستحضره، وأومنه مما يحذره، وتبقى هذه السنة عليه حران والرها، وتشد من رجائه بذلك ما وهي. وتعطيه في السنة الأخرى حماة والمعرة، وكفى المضرة والمعرة. ثم قرر السلطان مع أخيه العادل أن يأخذ تلك البلاد ويحويها، ويملك حوزتها ويحميها، ويكف عنها ويكفيها. واستقر أن ينزل عن اقطاعاته بمصر ونصف خاصه، وإذا أخذ تلك البلاد - فما يجاوره - يجتهد في استخلاصه. فأبدى على الرضى بذلك وجه كراهيته واعتياضه، واستزاد قلعة جعبر فتمنع الملك الظاهر من تسليمها حتى استظهر من أبيه بأضعافها واستظهر. وتقرر مسير الملك العادل في العشر الأول من جمادى الأولى، وكتب السلطان بعود الملك الأفضل فجاء هذا راجعا، وذهب ذاك مسارعا. ووصل إلى حران والرها، ففاز من تدبيره بالنجح المشتهي، وبلغ من مراده. إلى أمد الامل المنتهى. وعاد في آخر جمادى الآخرة وقد استصحب ابن تقي الدين، ووصل في هذا الشهر إلى دمشق ابن صاحب الموصل علاء الدين. وصاحب آمد - ابن قرا أرسلان قطب الدين، وعسكر صاحب سنجار ومقدمه - مجاهد الدين يرنقش. واجتمعت بدمشق في هذا الشهر عساكر بها الإسلام يأنس، والكفر يستوحش. وأقامت تنظر مسير الملك العادل لتسير في خدمته؛ وتتجلى راياتها في مطالع رايته. ذكر رحيل ملك الانكتير صوب عكاء مظهرا إنه على قصد ثغر بيروت لما تعذر على الفرنج قصد القدس، وعرفوا أن مرضهم به في النكس؛ ورأوا أن ثغر بيروت قد براهم؛ وعراهم من القوة ما منه عراهم. وأنه قد قطع عليهم طريق البحر بمراكبه؛ وقد فجعوا بمصائبه ونوائبه؛ فقالوا: أخذ هذا البلد هين، وقصده متعين، وإذا حاصرناه جذبنا السلطان وعساكره إلى جانبه، وخلا القدس من جمة كتائبه، وجمرة مضاربه، فتبادر إليه من يافا وعسقلان من يجد في تملكه الإمكان، فلما عرف السلطان ما عزموت عليه من القصد؛ ودبروه من الكيد؛ أمر الملك الأفضل بمباراة القوم في الرحيل، وقطعهم بكل سبيل عن تلك السبيل. وسبقهم إلى مرج عيون، حتى إذا تيقن من قصدهم المظنون، سبقت العساكر إلى بيروت ودخلتها، ونكت الفرنج

ذكر نزول السلطان على مدينة يافا وفتحها

ونكبتها وحولتها. وكتب السلطان إلى العساكر الواصلة إلى دمشق أن يكونوا مع ولده، وأن يضموا إمدادهم إلى مدده ونزل بمرج عيون والفرنج بعكاء بعد، تجاوز ولم تعد. ذكر نزول السلطان على مدينة يافا وفتحها ولما رحل ملك الانكتير وسار؛ وخلى وراءه الديار، ترك في مدينتي يافا وعسقلان، جمعا من منتخبي الرجال والفرسان، ووصاهم بالجلد؛ في حماية البلد؛ فانتهز السلطان فرصة الغيبة؛ وأوفد إلى مساغ رجائهم غصة الخيبة. ونهض بعسكره الحاضر، ولم يتمهل لانتظار العساكر. ووافى يافا ووفاها بكيل المنجنيق أحجارا، واراق دماء وساق دمارا. وزحف الناس وحفز البأس. وفرعت المدينة، ورفعت منها السكينة. وقتل من بها ومسح، وأخذ ما بها وكسح. ووجدت الأحمال المأخوذة من قافلة مصر فأخذت وحملت، وعلت الأيدي والسيوف من الدماء والأموال ونهلت. ونفضت كنائن، ونظفت خزائن، واستخرجت دفائن، وولجت مكامن. وحصل استمتاعنا بأمته، وانتفاعنا بكل منفعة. وامتلأ البلد الكافر بالمسلمين، وبقيت القلعة وطلب حماتها الأمان ليكونوا لها مسلمين، وكان الناس قد سبقوا إليها، وقرب أن يستولوا عليها، وذلك يوم الجمعة العشرين من رجب، وقد شارف من فيها الشجب، فلما طلبوا الأمان رد الناس وكفوا، فظن أن الغنيمة تصفو. فإنه خرج البطرك الكبير ومعه جماعة من المقدمين الأكابر، على أن يدخلوا تحت حكم الإسار؛ ويسلموا جميع المال والعدة والذخائر. على أن يطلق كل واحد منهم بأسير، ويفدى صغير بصغير، وكبير بكبير. وشرعوا في الخروج آحادا وعشرات، وعصبا متفرقات في ساعات حتى دخل الليل فاستمهلوا إلى الصباح، وطلبوا واقترحوا من يقف لحفظهم؛ فبذلنا لهم ما عينوه من الاقتراح، وما زال يخرج منهم من يستدعي زيادة التوثقة: وتنفيس خناقهم بالمضايقات المرهقة، حتى وصل ملك الانكتير في البحر، في مراكب في سواد الليل بل ظلمة الكفر، ودخل هو القلعة من الجانب البحري ونادوا بشعائر الغدر، فاكتفينا منهم بمن حصل في الأسر. وندمنا كيف خرجت اللقمة من الفم، ولا نفع بعد فوات الفرصة للندم. ولو أن السلطان توقف في تأمينهم، واستمر على توهينهم. لقلعت أساس تلك القلعة. ونفضت رقعة تلك البقعة. ولقد كان ذلك فتحا عظيما، وفضلا من الله عميما. فقد امتلأت الأيدي بغنائم المدينة، ووهت أسباب قواهم المتينة. واستعيد ما نهبوه من الكبسة المصرية، وفزنا بالغنائم السنية. وقتل من أقام بالبلد وأسر، وكشط جلد تلك المدرة وبشر. وحصل في اليد من مقدمي القلعة نيف وسبعون، وتركوا وهم بالثبور يدعون. وكان القصد في الأول رجوعهم عن قصد بيروت، وخشي على فرصة حفظها أن تفوت، فمن الله تعالى بحصول المقصود، وفزنا بجنى الجهاد بغير بذل

فصل في وصف الحال من كتاب إلى الديوان العزيز

المجهود، وجرى الأمر على الوجه المحمود. وإنما وقع التندم، كيف لم يقع في أخذ القلعة التسرع والتقدم. فتعاصت بعد الإذعان، وتعذرت بعد الإمكان، وجمحت بعد الأصحاب، وجنحت بعد الاكثاب. وأفلتت وقد وقعت في الحبالة، واستقلت العثرة والاستقالة. وضعف الفرنج من تلك الكرة، وآذن نشاطهم بالفترة وما انتعشوا ولا انجبروا من تلك العثرة والكسرة. وعاد السلطان وخيم على النطرون، والعسكر قار القلوب قرير العيون وجاء إليه الملك الأفضل ولده، والملك العادل أخوه، وأسفرت بالمسار الوجوه، وكان ولده الملك الظاهر أيضا قد وصل، وفي الغزاة حضر وبيمنها حصل. وكذلك كان قطب الدين سكمان بن محمد بن قرا ارسلان حاضرا، وأخذ من السعادة حظا وافرا، وحصل بيده جرح يئس أن يؤسى، وظن تلك النعمة بؤسى. ثم اندمل جرحه، وفازت قداحه وحاز السنى قدحه. وأقام السلطان حتى اجتمعت العساكر، ولحقت أوائلها الأواخر. ووصل الملك المنصور ناصر الدين ابن تقيه في بيضه وسمره ومشرفيه وسمهريه. هذا والملك العادل متأخر في المخيم. بسبب عارض السقم، وملم الألم. ورحل السلطان ونزل بالرملة والعساكر في عدد الرمل، والإسلام قرير العين من أهله بجمع الشمل، والفضاء قد امتلأ، والقضاء قد اجترأ، والقدر قد أسعد والسعيد قد قدر، والنصر قد أبدى الصفو وأذهب الكدر وتلك البرية قد حوت البرية، وجمعت العسكرية، والكمت الجارية والكماة الجرية. والأعراب والعراب، والمحارب والحراب، والأجاود والجياد، والاساود والآساد. والبياض والسواد، والعدد والأعداد. فصل في وصف الحال من كتاب إلى الديوان العزيز الخادم حاله على ما أنهاه غير مرة في مرابطة أهل الكفر مستمرة، وأفاويق النصر على حفولها تارة وبكئها أخرى مستدرة. والحرب سجال، وللإسلام في مضمار الظفر مجال. وقد تجاوزت القصة عن حد الإنهاء، وكلما شارفت القضية الانتهاء، عادت إلى الابتداء. والحادثة متصلة والواقعة مستقبلة، والنعمة من الله في إجراء أوليائه على أجمل عاداته بإنجاز عداته في قمع عداته مؤملة. وما ينقضي يوم إلا عن نصرة تتجدد، ونعمة تتمهد، وجمع للعدو يتبدد، وجمر لنكاية فيه يتوقد، وخد للسيف من حده بدم الشرك يتورد وفتح بكر من الحرب العوان بلقاح البيض الذكور يتولد. وآخر ما تم في هذه الأيام من مرهجات الكفر ومبهجات الإسلام، حظوة حلوة، ونوبة ما لها نبوة. وهي أن الفرنج لما أعجزهم قصد البيت المقدس، ولم يستقم لهم ما سولوه ي الأنفس، عكسوا زعمهم، ونكسوا عزمهم. وعادوا خائبين، ونكصوا هائبين. واستأنفوا مكيدة أخرى وشرعوا في شر خلف الشرك به يمرى. واجمعوا على قصد مدينة بيروت، وتآمر على الاتجاه نحوها أعداء الله أولياء الطاغوت. فسارت العساكر الإسلامية على مباراتهم، لمضايقتهم في مضايق طرقاتهم وتجرد الخادم في

ذكر الهدنة العامة

خواصه ووافى يافا، موقنا من الله تعالى أن مدد نصره إليه يتوافى. وحمل إليها من معتقلي نبات الأسل ومشتملي بنات الخلل الأسد والعرين. فإذا نزل بساحتهم، فساء صباح المنذرين. فأخذها بالسيف عنوة وأعاد ضرام النيران بها جنح ضحوة، وأتى القتل والنهب على من وجد فيها من الكفار، واستخرج ما بها من الأموال والعدد والاذخار. وخلص من المسلمين من كان بها في الإسار، وأضحت الفرنج فيها تبارى بالتبار. وطلب من بالقلعة الأمان على أن يسلموا من القتل ويستسلموا للأسر. ونزل البطرق والقسطلان والمرشان وجماعة من المقدمين خرجوا ودخلوا تحت القهر. قبيناهم مشتغلون بالنزول، ومنقطعون إلى الوصول، جاءهم الغوث في البحر، وظهرت منهم إمارة الغدر. ورجع العدو عن مقصده ورده الله وخذله، ونصر الإسلام وأخذ له، وسره بما يسره له وأجذله، ونال سيف الدمار من سيب دمائهم عله ونهله. وكان المقصود ردهم عن موردهم، وصدهم عن مقصدهم. فأبى ما قيضه الله من فتح الهدى وحتف العدا على الأرب. واهتزت أعطاف البيض والسمر المنتشية من كأس نجيعها للطرب. والقوم الآن قد اشتغلوا بمصابهم، واجتمعوا لضم ما انتشر من أسبابهم. وراسلوا في الصلح على أن نخلي لهم عسقلان ما أجيبوا، وعلموا بجهلهم أنهم ما أصابوا فيها دبروه لإدبارهم فأصيبوا. والعساكر الإسلامية اليوم عليهم مجتمعة، ومسالك المهالك لضائقتهم ومضايقتهم متسعة، وقد آن أن تحل معاقد معاقلهم التي هي ممتنعة. وكل ما يجده الله من علو يظهر، وعدو يقهر، ونصر يزهر، ونصل بالظفر يشهر؛ فهو ببركات الاستمساك بطاعة المواقف الشريفة الامامية المنتصرية، وبحمد الله ويمن أيامها وفضل إنعامها دلائل النصر ظاهرة، وأسباب الظهور متناصرة، ووجوه الآمال بنشر نجاحها ويسر ما في اقتراحها سافرة. ذكر الهدنة العامة لما عرف ملك الانكتير أن العساكر قد اجتمع؛ والخرق عليه قد اتسع؛ وأن القدس قد امتنع، وأن العذاب به وقع، خضع وخشع، وقصر الطمع. علم إنه لا قبل له بمن اقبل، ولا ثبات مع الجحفل وقد حفل، فأظهر إنه إن لم يهادن أقام واستقتل، وللشر استقبل. وأنه عازم على العودة إلى بلاده، لأمور مردها يعود إلى مراده. والبحر قد آن أن يمنع راكبه، ويسنم بالأمواج غواربه. فإن هادنتم وطاوعتم تبعت هواي، وإن حاربتم وعصيتم ألقيت هاهنا عصاي، واستقرت نواي. وقد كل الفريقان، ومل الرفيقان. وقد نزلت عن القدس وأنزل عن عسقلان. ولا تغتروا بهذه العساكر المجتمعة من الجهات، فإن جمعها في الشتاء إلى الشتات، ونحن إذا أقمنا على الشقاق والشقاء؛ رمينا أنفسنا على البلاء. فأجيبوا رغبتي، وأصيبوا محبتي. وأودعوني العهد ودعوني، ووادعوني وودعوني.

فأحضر السلطان أمراءه المشاورين وشاورهم في الأمر وأظهرهم على السر. واستطلع ما عندهم من الرأي، وسرد لهم الحديث من المبادئ إلى الغاي، وقال لهم: نحن بحمد الله في قوة، وفي ترقب نصرة مرجوة، فأنصارنا المهاجرون إلينا ذوو دين وكرم ومروة. وقد ألفنا الجهاد، وألفينا به المراد. والفطام عن المألوف صعب، وما تصدع إلى اليوم بتأييد الله لنا شعب. وما لنا شغل ولا مغزى إلا الغزو. وما نحن ممن يشوقه اللعب ويسوقه اللهو. وإذا تركنا هذا العمل فما العمل؟ وإذا صرفنا عنهم الأمل ففيم الأمل، وأخشى أن يأتيني - في حالة بطالتي - الأجل، ومن ألف الحلية كيف يألفه العطل، رأيي أن أخلف رأي الهدنة ورائي، واقدم بتقديم الجهاد اعتزازي وإليه اعتزائي. وما أنا بطالب البطالة، فارغب عن استحالة هذه الحالة. وقد رزقت من هذا الشيء فأنا الزمه، ولي بتأييد الله من الأمر أجزمه وأحزمه. فقالوا له: الأمر على ما تذكره، والتدبير ما تراه والرأي ما تدبره، ولا يستمر ألا ما تمره من الأمر، ولا يستقر إلا ما تقرره؛ وإن التوفيق معك في كل ما تعقده وتحله وتورده وتصدره. غير انك نظرت في حق نفسك من عادة لسعادة، وإرادة العبادة. واقتناء الفضيلة الراجحة، والاعتناء بالوسيلة الناجحة. والأنف من العطلة، والعزوف للعزلة. وإنك تجد من نفسك القوة والاستمساك، ويقينك يعرفك بالأماني الإدراك. فانظر إلى أحوال البلاد فإنها خربت وتشعثت. والرعايا فإنها أعكست وتعلثت. والأجناد فإنها نصبت ووصبت، والجياد فإنها عطلت وعطبت، وقد أعوزت العلوفات، وعزت الأقوات، وبعدت عنا العمارات، وغلت الغلات. ولا جلب إلا من الديار المصرية. مع ركوب الأخطار المهلكة في البرية. وهذا الاجتماع مظنة التفريق، ولا يدوم هذا الاتساع مع هذا الضيق. فإن المواد منقطعة، والجواد ممتنعة. والمترب قد ترب، والمعدم قد عطب. والتبن أعز من التبر، والشعير ليته وجد وإن كان غالي السعر. وهؤلاء الفرنج إذا يئسوا من الهدنة؛ بذلوا وسعهم في استفراغ المكنة واستنفاد المنة. وصبروا على المنية في طريق الأمنية، وأبوا في الإقبال على دينهم قبول الدنية. والصواب أن نقبل من الله الآية التي أنزلها وهي قوله (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، وحينئذ تعود إلى البلاد سكانها وعمارها، وتكثر في مدة الهدنة غلاتها وأثمارها. وتستجد الأجناد عدتها، وتستريح زمان السم ومدتها. فإذا عادت أيام الحرب عدنا، وقد استظهرنا وزدنا. ووجدنا القوت والعلف، وعدمنا المشاق والكلف. ففي أيام السلم نستعد للحرب، ونستجد أدوات الطعن والضرب، وليس ذلك تركا للعبادة، وإنما هو الاستجداد والاستجادة. على أن الفرنج لا يفون، وعلى عهدهم لا يقفون. فاعقد الهدنة لجماعتهم لينحلوا ويتفرقوا، وقد شقوا بما لقوا. وما يقيم لهم بالساحل من يقدر على المقاومة، ويستقل بالملازمة. وما زال الجماعة بالسلطان حتى رضي، وأجاب إلى ما اقتضى. وكانت قد بقيت

فصل من كتاب إلى الديوان العزيز في شرح نوبة يافا ثم إفضاء الأمر إلى عقد الهدنة

بين العسكرين منزلة واحدة، والعجاجات على الطلائع متعاقدة. فلو رحلنا رحلناهم، وعلى الهلك احلناهم، لكن مراد الله غلب، وأجيب ملك الانكتير من الصلح إلى ما طلب. فحضرت لإنشاء عقد الهدنة وكنت نسختها، وعينت مدتها وبينت قضيتها وذلك في يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين الموافق لأول أيلول لمدة ثلاث سنين وثمانية أشهر. وحسبوا أن وفت الانقضاء يوافق وصولهم من البحر، وتتصل إمدادهم على الحشد والحشر، وعقدت هدنة عامة في البر والبحر، والسهل والوعر، والبدو والحضر. وجعل لهم منيافا إلى قيسارية إلى عكاء إلى صور، وأبدوا بما تركوه من البلاد التي كانت معهم الغبطة والسرور. وأدخلوا في الصلح طرابلس وإنطاكية، والأعمال الدانية والنائية. فصل من كتاب إلى الديوان العزيز في شرح نوبة يافا ثم إفضاء الأمر إلى عقد الهدنة قد سبقت مطالعة الخادم بإنهاء حاله، وما هو لا يزال مستمرا عليه من جهاد العدو وقتاله. وما كان عليه الكفر من الجمع الملتهم والجمر الملتهب والحشر والحشد المضطرم المضطرب. وانهم قد اجتمعوا على قصد البيت المقدس، وعزموا على بذل المصونين من النفائس والأنفس. وسلكوا في القصد كل طريق، وتوافوا من كل فج عميق. ودنوا على ظن أن جنى الفتح لهم دان، وأن شبا الحتف عنهم وأن. ولما عرفوا أن المرمى بعيد المرام، وأنهم لا يستطيعون مقاومة عسكر الإسلام. فنكصوا على أعقابهم، ونكسوا ما ضربوه من آرائهم وآرابهم. وعلموا عقبى ما جهلوه وقطعوا من أسباب العزم ما وصلوه. ونكثوا من عقد القصد ما أبرموه، وشرعوا في أمر آخر توهموه. ومضوا واستأنفوا الاستعداد، واستنهضوا الإمداد. وحصنوا بلادهم وجمعوا طرافهم وتلادهم. وشحنوا عسقلان ويافا بالقوة الجامعة، والعدة النافعة، والشوكة الرادعة، والشكة القاطعة. واستظهروا فيهما بكل ما قدروا عليه من المنعة الحامية، ورجال الصبر على النار الحامية. ثم ساروا بحشودهم المجموعة وجموعهم المحشودة، وظلال الضلال الممدودة، وصلال الصلادم المقودة. مستمطري شآبيب الأنابيب، مستنفري سراحين السراحيب. وتوجهوا على سمت ثغر بيروت بنية الحصر وغفلوا عما أجراه الله لأوليائه على أعدائه من عوائد النصر. ولما نمى خبرهم، وطار شررهم، وخيف ضررهم، أنهض الخادم العساكر المنصورة إلى مقابلتهم، ومباراتهم ومقاتلتهم. ونزل في مماليكه وخواصه، ورجال الإقدام ذوي استخلاصه، على مدينة يافا فأخذها بالسيف عنوة، وجب بها من سنام الكفر ذروة، وحل منه بغزوته إليها عروة، واستكمل للإسلام بتملكها حظوة.

وقتل كل من حوته وسبى، وناب المشركين بما بنى مجده ومضى حده فيه وما نبا. وغنم من أموالها المسلمون ما خف وثقل، وأسر من وجد فيها وقتل. ونهب من آلات الحصر ما خرج عن الحصر، وابتذل كل ما صين من الغلال والعدد والمال الدثر للذخر. وطلب أهل القلعة الأمان من القتل خاصة دون الأسر، وشرطوا أنهم لا يمكنون من الدخول إليهم من جاءهم للنجدة من البحر. وأخرجوا على سبيل الرهينة مائة رجل من محتشميهم، وكنودهم ومقدميهم. مثل البطرك الكبير والقسطلان والمرشان؛ ومن يجري مجراهم من الفرسان. فلما أصبحوا جاءهم ملكهم في البحر فغدروا، وامتنعوا بعج انقيادهم للعجز حين قدروا. وخيم العدو هناك في جموعه، وندب إلى عسكره من يأمره برجوعه. ووافت في البر جحافله حافلة، وتواردت في الإسراع إلى الصريخ ظلمانا جافلة. فأجرى الخادم على الرهائن حكم الاسترقاق، وسيرهم إلى دمشق في أقياد الوثاق، ورجع إلى القوم فهزمهم وردهم إلى عكا، بعد ما نكى فيهم وأضحك من دمائهم البيض وأيكى. وعاد إلى العدو ونزل عليه، وكدر الموارد لديه حين زحف إليه. واجتمعت من أهل الإسلام العساكر. واتسعت على المشركين في المضايقة الدوائر. ورجا المؤمن وخاب الكافر، وجالت بأوجالها الضمائر لما جالت عليهم الضوامر. وعاينوا العذاب الواقع، وعدموا الدافع، وشاهدوا المصارع. فما زالت رسلهم تتردد بالضراعة؛ وبذل الطاعة؛ والنزول عن الاشتطاط، والدخول تحت الاشتراط؛ والغبطة بما هزله الإسلام عطف الاغتباط؛ واحتوى عليه بيد الاحتياط. وكانوا لا يجابون إلا بالآباء، ولا تلقى رسلهم إلا بتصميم عزم اللقاء. حتى حضر أكابر الدولة وأمراؤها، وأولياء الطاعة وألباؤها. وأشاروا بعقد الهدنة، والانتهاز فيها لفرصة المكنة. واستقرت المهانة على ما اعز للإسلام الأنوف وأذل من الكفر الرقاب، ورجح وانجح من أهل الإيمان الآراء والآراب. بعد أن نزلوا عن البلاد والمعاقل التي تملكوها، وبعدوا الطرق التي سلكوها، وسألوا الأمان على الأماني التي استدركوها وما أدركوها، وسلموا عسقلان وغزة والداروم ويبنى ولد وتل الصافية، وغير ذلك من الأعمال والأماكن الوافرة الوافية. واقتنعوا بيافا وصور، واستبدلوا من تطاولهم وقدرتهم العجز والقصور. ورأوا عزهم في ذلهم، وصونهم في بذلهم، وسلامتهم في سلمهم، وغناهم في عدمهم، ولانوا بعد الاشتداد. ودانوا للانقياد. وهانوا بعد الاعتزاز، وهابوا بعد الاغترار، وأقروا بعد الإنكار لتعود جفونهم إلى الغرار؛ وأمورهم إلى القرار. وخلوا ديارهم وأخلوها، وما سألوا عن حب الأوطان والأوطار وسلوها. ومدة الهدنة التي اخذوا بها اليد وأعطوا اليمين؛ ثلاث سنين وثمانية أشهر أولها أول أيلول يوم الثلاثاء الحادي والعشرين، من شعبان سنة ثمان وثمانين. ووضعت لحرب أوزارها ورحضت بماء السلم أوضارها، وأخذت من أهل النار

ذكر ما جرى بعد الصلح

ثأرها، وقصدت الفرنج من وراء البحر ديارها. ولا شك أنهم يستعدون في هذه المدة، ويستمدون ما يستطيعونه من القوة والعدة، ويستجدون عزمة العودة. وقد شرع الخادم في تحصين الثغور، وإمرار الأمور. وإبرام معاقد المعاقل، وأحكام قواعد الحق بتعقية آثار الباطل. وإتمام أسوار القدس وخندقه حتى يبقى على الدهر أمنا من طروق العدو وطوارقه. وإعادة الأعمال والأحوال إلى عادة عمارتها، وحلية نضارتها، وإجمام العساكر وإراحتها، ليوم تعبها الذي هو عين راحتها. ولقد كان الخادم للسلم منكرها، ولا يرى أن يكون كشيمة ملوك العصر عن الغزو مترفها. ولكنه أجمع من عنده من الأمراء وذوي الآراء على أن المصلحة في للصالحة راجحة، وإن صفقة الكفر فيها خاسرة وصفقة الإسلام رابحة. وإن في إطفاء هذه الجمرة وقد وقدت سكونا عاما، وأمنا تاما، وتفريقا لجمع الكفار لشمل النصر عليهم ضاما. فهي سلم أنكى من الحرب فيهم، وإنها تقصيهم من هذه الديار بل تنفيهم، وإلى متى تجتمع هذه الأعداد الهائلة لهؤلاء الأعداء، وتتفق هذه الإمداد المتواصلة من أهل النار في الماء. وما صح لهم هذا الجمع على التكسير إلا في خمس سنين، وما وافى إليهم مددهم من ألوفه سوى مئين. وكل ما كان لهم من أموالهم من بلادهم نقلوه وأنفقوه، وأيقنوا أن مرامهم صعب وتحققوه. فمتى انفضوا انفضوا، وقد آن أن يرفُضوا ويرفضّوا، وإلى أن يتفق مثل هذه الجموع، ويعزم ذاهبهم على الرجوع؛ يكون الإسلام قد استظهر بقوته، واستكثر من نجدته ومن جدته. فرأى موافقة الإجماع، وقبل مناصحة الأشياع. وتفرق جمع الكفر وباخ جمره، وأمن نكره ومكره، وانشرح صدر الإسلام وتضوع نشره، وتوضح بسنى النصر فجره. ذكر ما جرى بعد الصلح عاد السلطان إلى القدس وعادت عادة سعادته، واشتغل بإتمام السور والخندق وتكميل عمارته، وفسح للفرنج كافة في زيارة قمامة. فجاءوا ووجدوا الأمن والسلامة. وزاروا ورازوا، ولما عجزوا أن يحتازوا سألوا أن يجتازوا. ففسح لفريق من بعد فريق، وتوافوا في طريق وراء طريق، وقالوا: إنما كنا نقاتل على هذا الذي وجدناه مع الصلح، وما زلنا سائرين في ليل القصد حتى وصلنا إلى الصبح. وكان ملك الانكتير راسل السلطان وسأل منع الفرنج من الزيارة إلا لمن وصل معه كتابه أو رسوله، ورغب في أن يجاب سؤاله في ذلك ويصاب سوله. فقيل: مقصوده أنهم يرجعون إلى بلادهم على حسرة الزيارة، فيبقون على الاستنفار والاستثارة. ومن زار برد قلبه، وتنفس كربه، ولم يبق له من مشقة العود أرب، ولم يتصل له بهذه الديار سبب، فكان الأمر كما حسب، فاعتذر إليه في الجواب الذي كتب. وقيل له: أنت أولى بمنعهم، وردهم بردعهم.

ذكر ما عزم عليه السلطان

فإنهم يصلون إلينا وافدين، ولزيارة الكنيسة قاصدين. وما يقتضي كرمنا أن نر الوفود، ولا نبلغ من يقصدنا المقصود. ومرض ملك الانكتير مرضا ألهاه عما اشتهاه، ولم يبلغ في هذا الغرض إلى منتهاه. وركب البحر واقلع، وعجل في مفارقته وأسرع. وسلم الأمر إلى من يليه، وهو الكندهري ابن أخيه من أمه، وهو ابن أخت ملك افرنسيس من أبيه. وتبعه فرنج الجزائر، ولم يقف الأول منهم على الآخر. ذكر ما عزم عليه السلطان عزم على الحج وصمم، وكتب إلى مصر واليمن بما عليه عزم. وأمر بأن يحمل له في المراكب كل ما يحتاج إليه من الأزواد والنفقات، والثياب والكسوات. فقيل له: لو كتبت إلى أمير المؤمنين وأعلمته بحجك وعرفته بنهجك. حتى لا يظن بك أمر أنت منه برئ، ويعلم أن قصدك في المضي مضيء. والوقت قد ضاق، ويبلغ الخبر الآفاق. ثم هذه البلاد إذا تركتها على ما بها من الشعث، لم تبرم مرر حبلها المنتكث. وهذه المعاقل التي في الثغور، حفظها من أهم الأمور. ولا يغتر بعقد الهدنة، فإن القوم على ترقب المكنة. والغدر دأبهم، ملء البغي أهابهم. فما زال الجماعة بالسلطان حتى حلوا من العزم ما عقده، وأطفئوا من ثار جده فيه ما أوقده، فشرع في ترتيب قاعدة القدس في ولايته وعمارته، وتهذيب عمله ومعاملته. وكان الوالي بالقدس حسام الدين سياروخ، وهو تركي يقتدى به في زهادته وحسن سيرته الشيوخ. وكان فيه دين ولين، وحبله في الخبر متين. ولم يزل مستوفيا لحق الامانة، مستعفيا من الولاية لطلب الصيانة. فانصرع حميدا أثره، كريما مورده ومصدره. وفوض السلطان ولاية القدس إلى عز الدين جرديك، وقال: تهديك في الأمور بغنيك عن أن نهديك. وإنما اعتمدنا عليك لاجتماع خلال الكفاية والشهامة والديانة فيك. فتول آخذا بالحزم في ثبتك وتأنيك، وترويك وتأتيك. وولى علم الدين قيصر أعمال الخليل وعسقلان وغزة والداروم وما والاها؛ فخرج إليها وتولاها. وأمر بنقل الغلات من البلقاء لتقوية الفلاحين، وإعانة المقطعين. وكذلك أمر بنقل الغلات من مصر إلى أعمال عسقلان، ليعيد إليها الزراعة والعمران. وسأل الصوفية عن أحوالهم، وآذن سؤاله عنها بإجابة سؤلهم. فإنه كان وقف دار البطرك - مجاورة قمامة - لهم رباطا، وجعل لهم كل يوم فيه سماطا. وزاد في الوقوف، وحكمهم في الإنفاق بالمعروف. وكان قد جعل كنيسة صندحنا - عند باب الأسباط - للفقهاء الشافعية مدرسة، وردها بنية على التقوى مؤسسة. وزاد في أوقافها، ووفر مواد تلادها وطرافها. وأمر بأن تجعل الكنيسة - المجاورة لدار الاسبتار بقرب قمامة بيمارستانا للمرضى. وأتخذ فيها بيوتا فيها حاجات أصحاب الأمراض على اختلافها تقضي. ووقف مواضع عليها، وسير أدوية وعقاقير عزيزة الوجود إليها. وفوض القضاء والنظر في هذه الوقوف إلى القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم. وعول منه على أمين كريم.

ذكر خروج السلطان على عزم دمشق من القدس وعبوره على الحصون

ذكر خروج السلطان على عزم دمشق من القدس وعبوره على الحصون خرج السلطان من القدس ضحوة الخميس خامس شوال، وقد دبر الأحوال، وأقام بعدله الاعتدال، وأفاض والأفضال. وجاوز ناحية البيرة، وقد جلا جلاله سنى راياته المنيرة. وبات على بركة للداوية، بالهمة الروية والعزمة القوية. ونزل على نابلس ضحوة يوم الجمعة، وجمع شتات مصالحها المتوزعة. وكثرت الاستغاثات على سيف الدين على المشطوب صاحبها، وأنه قد طرق الرنق إلى مشاربها، وزاد في رسومها ونوائبها. وأقام بها إلى ظهر يوم السبت حتى كشف مظالمها، وأضحك بالعدل والإحسان مباسمها. وأسقط رسومها الجائرة، وأمات سننها الضائرة، وأصفى بها شرعة الشريعة، وأضفى ظلال للرعاية للرعية في مراعيها المريعة. ورحلنا بعد الظهر، وبتنا ليلة الأحد عند ظهر حمار بموضع يعرف بالفريديسة، ورتعنا في مروجها الانبسة. وأصبحنا راحلين، ونزلنا ضحوة على جينين. وهناك ودعنا المشطوب وداع الأبد، فإنه انتقل بعد أيام إلى رحمة الواحد الصمد. وكانت وفاته يوم الخميس السادس والعشرين من شوال. ورحلنا يوم الاثنين وجئنا إلى بيسان، وأزال حلول السلطان عنها البؤس وأشاع الإحسان. وصعد إلى قلعتها المهجورة الخالية. فأبصر قللها العالية، وقال: هذه إذا عمرت دامت في حضانة الحصانة، وكان جبلها لوثوقه مستودع الأمانة، والصواب بناء هذه وتخريب قلعة كوكب. ولم يزل حتى بين كيفية بنائها ورتب. ووعد بإحكامها، وإعلاء أعلامها. ثم ظهر ظهرا وبات على قلعة كوكب، وشاهدها وصعد نظر رأيه فيها وصوب. ورحل عنها ضحوة الثلاثاء، ونزل بظاهر طبرية وقت العشاء. وهناك لقينا بهاء الدين قراقوش وقد خرج من الأسر، وتلقيناه بالبشر والبر. وأقمنا بها يوم الأربعاء لتوافر الأنداء، وتواتر الأنواء. ورحلنا بكرة الخميس ونزلنا بقرب قلعة صفد تحت الجبل، وصعد السلطان إليها وأمر بتسديد ما فيها من الخلل. ثم سار يوم الجمعة على طريق جبل عاملة ونزل ضحوة بضية يقال لها: الجش، وهي عامرة محتوية على سكانها كأنها العش. وسرنا منها وخمينا على مرج تبنين، وبتنا بأحوال قلعتها معتنين. وأصبح السلطان حوالي حيطانها بأحوالها محيطا، ممتطيا قرا قلعتها وأسباب اختلالها مميطا. ووصى الوالي بعمارتها وجعل مصالحها بكفايته منوطة؛ وسدادها بسداده منوطا. ثم رحلنا بكرة السبت وجزنا على قلعة هونين، ونزلنا من الجبل، وبتنا على عين الذهب؛ واجتمعنا بالثقل. ورحلنا يوم الأحد وخيمنا بمرج عيون، وجلس السلطان على عادته معنا في تدبير الممالك تلك الليلة وسهرت العيون. ورحلنا عصر يوم الاثنين ووصلنا السير

ذكر وصول السلطان إلى بيروت ودخول بيمند الابرنس صاحب إنطاكية عليه والاستجارة به وذكر أسامة

بالسرى، وقطعنا في الطريق الوعر الوهاد والذرا، وعبرنا بين عمل يسرة وعمل وادي التيم يمنة على الضياع والقرى. وعرسنا على مرج تلفياثا مقابل مر القنعبة، ودفعنا إلى سلوك الميالك الصعبة. ثم أصبحنا يوم الثلاثاء على الرحيل إلى البقاع من تلفياثا فخيمنا على جسر كامد، والسلطان مشغول في طريقه من تقرير العمارات وتحرير سنن الحسنات باقتناء المحامد. ثم غدونا يوم الأربعاء وخيمنا بناحية قب الياس، وقد أصحرنا إلى الفضاء. وأقمنا ذلك النهار راتعين من الفواضل السلطانية في النعماء. ولما جن الليل جمعتنا بالحضرة السلطانية الأنوار، وسرت أسماعنا منه أسماء رجال الفضل والكرم وسنتهم لا الأسمار. ودخل السلطان يوم الخميس إلى بيروت، وأنجز بالوصول إليها وعده الموقوف. ونزلت الأثقال على مرج قلميطية بالبقاع، وأقامت خمسة أيام على الاستراحة والإيداع. ذكر وصول السلطان إلى بيروت ودخول بيمند الابرنس صاحب إنطاكية عليه والاستجارة به وذكر أسامة ولما وصل السلطان إلى بيروت تلقاه عز الدين أسامة، بكل ما وقوفرت به الكرامة، واستقبل الأصحاب بصدر رحيب، وظل خصيب، وسماحة أريب، وسجاحة لبيب، وفتحت الاهراء - على غلاء الغلات بالثغر - ورفع أغلاقها، وسبلها وما قيد إطلاقها. وقرى وأضاف، وأدنى القطاف، وأصفى النطاف وتلطف في الهدايا وأهدى الألطاف. وفرق على الصغير والكبير التحف، وأحضر للسلطان ولكل من معه الطرف. وأغنى وأقنى، وأعدم في الجود الموجود وأفنى وأعطى الخيل والمماليك والجواري والملابس، وبذل النفائس، وزف على أكفاء المحامد في أبكار المناقب العرائس. واظهر في مكان الشدة الرخاء، وفي مظنة الضن السخاء، وأهب في إعصار الإعسار لرجال الرجاء من سماء الرخاء. وأحضر كل ما عنده مما كسبه في الغنيمة؛ جريا على كرم الشيمة؛ من الجوخ الإفرنجية، والثياب البندقية، والهنابات الفضية، والأكواب اللجينية. والسروج واللجم، والأكسية والجزم. والمهاميز والملاليط والغفافير، والعروض والدراهم والدنانير. ففرق من ذلك ما جمعه، ورفع إلى كل منهم ما أسمى قدره ورفعه، وما انفصل عنه إلا كل مواصل بشكره، مساجل أمثاله بذكره، مضوع كل ناد للكرام بنشره. وقام بالسلطان وبكل من صحبه مدة مقامه، وأعجب وأعجز ما صدق من اهتمامه.

ذكر وصول الابرنس بيمند ودخوله على السلطان

ذكر وصول الابرنس بيمند ودخوله على السلطان ولما أراد السلطان عن بيروت الانفصال؛ وذلك في يوم السبت الحادي والعشرين من شوال؛ قيل له: إن الابرنس الانطاكي قد وصل إلى الخدمة، مستمسكا بحبل العصمة، داخلا حكم الذمة. فثنى عنانه ونزل، وأقام وما ارتحل، وأذن للابرنس في الدخول، وشرفه في حضرته بالمثول. وقربه وآنسه، ورفع مجلسه. واظهر له البشاشة والهشاشة، وسكن من روع روعه الحشاشة. وكان معه من مقدمي فرسانه أربعة عشر بارونيا، ووهب كلا منهم تشريفا سريا. وأجزل له ولهم العطاء، وأبدى بهم الاعتناء. وكتب له من مناصفات إنطاكية معيشة بمبلغ عشرين ألف دينار، وخص أصحابه بمبار، وأعجبه استرساله إليه ودخوله عليه بغير أمان، فلا جرم تلقاه بكل إحسان. وودعه يوم الأحد وفارقه، ووافق مراد السلطان إنه بمراده وافقه. وانصرف المذكور مسرورا، بين أسرته مذكورا، محبوا بالمنح والمنن محبورا. ذكر وصول السلطان إلى دمشق لما خرج السلطان من بيروت يوم الأحد بات بالمخيم على البقاع، وأحضرنا تلك الليلة في نادي فضله للمؤانسة والإمتاع. وتجاذبنا أطراف الآراء، وهززنا منه أعطاف الآلاء. واستدنينا قطاف النعماء. وقد قرب الدخول إلى البلد، والوصول إلى الأهل والولد. وكل يقترح مقصودا ويقصد اقتراحا، ويظهر إلى سكنه ومسكنه ارتياحا والتياحا. ورحلنا يوم الاثنين وعبرنا عين الجر وبتنا على مرج يبوس، وقد شرح الله الصدر وأطاب النفوس. ووصل إلينا من أعيان دمشق من سبق للتلقي والاستقبال. وأظهروا بقدومنا أسباب الاحتفاء والاحتفال. وجاءتنا فواكه دمشق وأطايبها، واغتصت بالواصلين إلينا مسالكها ومذاهبها. ورحلنا يوم الثلاثاء وبتنا بالعرادة، وجرى المتلقون في التحفي بالتحف على العادة. وأصبحنا يوم الأربعاء ودخلنا إلى دمشق وقد أخرجت أثقالها، وأبرزت نساءها ورجالها. وكان يوم الزينة، وخرج كل من بالمدينة. وحشر الناس ضحى، وأشاعوا استبشارا وفرحا. وكانت غيبة السلطان عن دمشق أربع سنين في الجهاد طالت، فاهتزت بقدومه واختالت. وقرت بفضائله الأعين، وأقرت بفواضله الالسن، وذاعت أسرار السرور، وراقت حبرات الحبور. وطابت الأنفس، وغابت الأبؤس. وانجلت المكاره، وتجلت المكارم، وأفرت المباسم، وهنيت بموسمه المواسم. وتهوديت التهاني، وهديت الأماني، وغنت المغاني، ولذت المجاني، وسفرت المجالي، وظفرت المعالي. وتحلت الأحوال، وتملت الآمال. وراج الرجاء، وأرجت الأرجاء. وفاض الجود، واستفاضت السعود. وعم العدل، وتم الفضل. وأشرقت الآفاق، وأفاق الإشراق. وكرم الفضلاء، وفضل الكرماء. وحل في القلعة حلول الشمس في برجها، وقد جلت اوجه السعود بأوجها، وأخذت بحار سماحه في موجها، وسلكت المناجح في نهجها، وجاءت المنائح في فجها بفوجها. وصفت شرعة الشرع لواردها، وضفت حلة الكرامة على وافدها. وفتحت مرتجات أبواب الآلاء

لمرتجيها، واستجدت عادات إنجاز عدات الجوائز لمستجديها. ويسر اليسار لإسعاف العافي، ونمت على ألسن الأنام أوصاف الصافي. وجلس السلطان في دار العدل فأعدى المستعدى، ولبى المستدهى. وأجاب وأجار، وأنال وأنار. وجاد وأجاد. وبدأ وأعاد. وفي هذا الشهر خلص بهاء الدين قراقوش من الأسر؛ واجتمع بنا يوم وصلنا إلى طبرية، ولقي من السلطان الألطاف الخفية. ووصل معه إلى دمشق وأقام إلى أن خلص أصحابه من الأسر، وتوجه إلى مصر. وقد صان نفسه ببذل ماله، وأخرج ثروته ودخل في إقلاله. وخرجت السنة والسلطان في أسنى سنائه، وأبهى جلاله وأجلى بهائه، والناس راتعون في رياض نعمائه. ورسل المماليك الغربية والشرقية عنده يخطبونه ويطلبونه، وينتظرون عزمه ويرقبونه. وهو يعدهم بانحسار وانكساره، وابتسام ثغر الربيع وافتراره، والتهاب زهر ازهاره، وانتهاب سرح اسحاره، وانتباه عيون بهاره، واندلاق غرار عراره، وائتلاق أنواء نواره، وانطباق نواظر ثماره، واصطفاق أوراق أشجاره، وانفتاق كمامه، واتساق نظامه. وانتثار منظومه، وانتظام منثوره، وانفجار صبح أسفاره. وانفراج وجه سفوره، واجتماع لفيف أعشابه، واستماع حفيف أقصابه، والتماع بريق سحابه، واتساع طريق صحابه. وانشقاق شقائقه، وانعقاق عقائقه. واشتمال شمائله، واقتبال قبائله. وتأرج صبا صباحه، وتبلج صبا صباحه. وتورد وجنات جناته، وتوقد جمرات ثمراته، ولتبسم ثغور أقحوانه، وتنسم ضمير ضيمرانه وتصور خدود تفاحه، وتدور نهود رمانه، واخضرار آس عذاره، واحمرار خد جلناره. وتشنف أقطار النادي بأقراط قطار الندى، وتفوف حافات الوادي بالوشي الوشيع من حوك الرباب حول الربا. فإذا طاب النسيم ونسم الطيب؛ ودعا البلبل ولبى العندليب؛ وتعطر عبير الربيع، وتصور الشقيق كأنه تخمر من عجين النجيع؛ ووافق مراد المرعى من المراد المريع؛ وحلا الجنى اللجيني؛ وحلى النضير النضارى؛ وبقل العذار البنفسجي؛ واشتعل الخد الجلناري الناري؛ ونجم في الروض النجم السمائي المائي؛ وابتسم الثغر الأقاحي، وتنسم الضوع الصباحي؛ وتحرك العرف السحري الشجري، وتأرج النشر الروضي؛ وتبلج البشر الوضي؛ وانتشى النشأ الشمالي الشمولي؛ وانتعشت عاثرات أعشاب الشعاب؛ وقابلت القبول خطبة الفضل الخطاب؛ وصبت الصبا في محل خطيئة المحل بصوب الصواب؛ فحينئذ آل جماح الأصحاب إلى الأصحاب، وصرفت أشاجيع الشجان؛ وأيمان أهل الإيمان؛ كل مواج العنان؛ رواج السنان. ونزعت إلى الحلاب، ورشفت القواطع بشفاه الشفار ضرب الضراب. واجتمعت العساكر وعسكرت الجموع، وسرت الطلائع وسر الطلوع. ونهض أهل الجد وجد النهوض، وفاضت المنابع ونبعت الفيوض وضرب السرادق السلطاني حيث النصر ينزل، والسعد يقبل، واليمن يشمل والنجح يسهل، والظفر يمثل، والأمر يمتثل. والجد يسمن والهزل يهزل، والعزم يولي والوني يعزل. ويعم العدل مع اعتدال الزمان كل مكان، ولا يتنفس إلا بحديث الطاعة من يحدث نفسه بعصيان.

وأقمنا على هذا العزم إلى آخر السنة، والأجفان مغضوضة على طيب السنة. وظل البرد الشديد مديد، والجلد واه ولهواه جبسد. وحد الشتاء في التشتيت حديد، والجبال قد اشتعلت رؤوسها شيبا، والثلوج قد زرت على أعناق أطوادها جيبا. والجو في نظم ونثر، والثرى من الثرات مثر. والهتون ناكب ناكت، والهتوف ساكن. والمزن مزين، والحزن حزين. وللسماء سماط، وللنشاص نشاط. وللسحاب حساب، وللبرق والرعد انتحاء وانتحاب. وللبرد من ثلجه برد، وللمطر في نهجه طرد. وللغيث عيث، وللوحل ريث. وكانون قد أكن الربا، وشباط قد شب الشبا. والنار محبوبة مشبوبة، وحدود النكب مذروبة، وخدود الترب مضروبة. والسلطان مشغول بالصيد والقنص، ومنتهز في العمر للفرص. مبتز بالبزاة والصقور، حشاشات الوحوش والطيور. بكل جار جارج، وطائر طارح. يدنى أجل الحجل وحمام الحمام، كأنه غريم لها لاهي الغرام. وكل شهم ينقض انقضاض السهم، ويبط بطن البط بالحزم. وأكثر الجلوس بدمشق في دار العدل، وأغزر لمنتجعيه در الفضل. وحكم وقضى، وأسخط بالحق وأرضى، ووقف وأمضى. وما منع بل أعطى، وأصاب وما أخطأ. وجاد وأجاد، وأبدى وأعاد، وأوفد وافاد، وأحسن وزاد. وأغنى وأقنى، وأجدى وأسدى، وأولى وولى. وأجار وأجاز، وحاز وناز. وقرب العلماء، وأكرم الفضلاء، وفضل الكرماء. وتكلموا عنده في المسائل الشرعية، وظفروا من جوده بالوسائل المرعية. وما كان أحسن إلى الحق إصغاءه، وأسرع للباطل الفاءه. ولكل ذي فضل منه حظ، ولكل ذي حفظ منه حفظ. ولكل محروم منه رزق، ولكل مرزوق إلى حمده سبق. ولكل فهم عنده سوق، ولكل سهم عنده فوق. ولكل أدب لديه داب، ولكل عاتب عدم من جوده اعتاب، ولكل مكرمة عنده باب، ولكل دعوة عاف من إسعافه جواب. ولكل مستجد اجداء، ولكل مستهد إهداء. ولكل سائل نائل، ولكل ماحل وابل. ولكل ظام ريّ، ولكل حائم ورد هنى. فما أسح مزنه؛ وما أصح وزنه؛ وما اسمح يده؛ وما أوضح جدده؛ وما أعلى جده!. وما أجد علاه. وما أجدى كفه؛ وما أكفى جداه؛ وما أكثر حياءه؛ وأغزر حياه؛ وآرج رياه؛ وأبلج محياه!. وممن توفي في هذه السنة من الملوك؛ سلطان الروم قليج ارسلان بن مسعود ابن قليح ارسلان؛ وكانت وفاته يوم الخميس منتصف شعبان. وكان له عشرة من النينين، فولى كلا منهم إقليما، وقصد به لمناد أمر ذلك الجانب تقويما. فقوى كل منهم في ثغره، واستقل بأمره. ودب في طبعه حب الاستيلاء والاستبداد، ومد عينه إلى ما في يد صاحبه من البلاد. وكان أكبر بنيه قطب الدين ملكله؛ قد استحكمت قواه؛ واستطال هواه؛ وهو حينئذ متولي سيواس؛ فأطاع في التملك على أبيه ملكه الوسواس. وسعى إلى أن أبعد من والده اختيار الدين حسن بن غفراس. وصور له إنه يريد أن يستولي على الملك، وينفرد بانتهاج المسلك وانتظام السلك.

وساعده صاحب أرزنكان وأمن اختيار الدين إلى المذكور واختاره، واستأذن السلطان أن يقصد دياره، ويقيم عنده إلى أن يصلح أمره مع أولاده. ويأذن له في العود إلى بلاده. فاستصحبه صاحب ارزنكان، واوقع عليه في الطريق التركمان. فقتلوه شر قتلة، ومثلوا به وبولده أقبح مثلة. فلما عرف ملكشاه أن وجه والده خلا؛ وأنه عن حسن بن غفراس سلا؛ ساق إليه؛ وأخنى عليه. ودخل قونية دار مملكته، واستبد بحوز حوزته، وقوى بعزته، وعز بقوته. وقال لوالده: أنا بين يديك، أشفق عليك. وأنفذ أوامرك، وأوفر مآثرك. وقتل أمراء كانوا لأبيه، وألزم خدمته من لا يشتهيه. فبقى معه كالمعتقل، يظن حاليا وهو العطل. واستكتبه إنه ولى عهده، والقائم بالسلطنة معه ومن بعده. وتصرف في خزانته وملك اقسرا، وفرع وفرى، وقرع وقرا، وقطع وبرى. وقد مضى حديث ملك الألمان؛ في ذلك الأوان. وكيف وصل وعبر إلى الشام، وكيف قوى بهم في وهن الإسلام. واستصحب معه والده إلى قيسارية؛ لقسر أخيه نور الدين سلطان شاه وحصره، واظهر إنه بأمر والده وأنه شاد ظهره. وخرج عسكر البلد وصف، ووقف وكف. ورأى قليج ارسلان أن ولده عنه مشغول؛ وأن عقد حراسته له محلول. فخرج من الصف مفارقا للولد، وساق ودخل إلى البلد. فأضافه الولد الآخر وأكرمه، وبره واحترمه. وانفصل ملكشاه إلى قونية وملك تلك الأمكنة، وقد استبد بالسلطنة. وبقي قليج أرسلان يتردد في بلاده، وفي ضيافة أولاده. ينتقل من بلد إلى بلد، ومن ولد إلى ولد. وكلهم يضجر منه، ويعرض عنه. حتى حصل عند ولده غياث الدين كيخسرو - صاحب برغلو - فقواه وآزره، وضافره وظاهره. وجمع وحشد له، واخذله وما خذله. وجاء به إلى قوني فدخلها. وحلى به عطلها. وخرج ليأخذ اقسرا فتعذرت، وتمنعت عليه وتعسرت. واسترغب الاوجية، وجمع العسكرية. فمرض فجاءه به، وقد توفى، إلى قونية في محفة، ونزل يمشي قدامه ويظهر إنه من المرض الثقيل في خفة. حتى دخل المدينة وقلعتها، واجتازها واحتاز مملكتها. واستدعى الأعيان فاستحلفهم، واستمالهم وتألفهم. ثم اظهر لهم وفاة أبيه، وأنه وارث ملكه ومتوليه، وقوى على قطب الدين ملكشاه أخيه. وتوفي في هذه السنة القاضي شمس الدين محمد بن محمد بن موسى المعروف بابن الفراش. كان من أهل الفضل، والرياسة والنبل. وهو قاضي العسكر الحاكم المحكم، والكريم المكرم. والسلطان يعول عليه في المهام، وفي الأمور العظام. ويؤهله للرسائل وأخذ المواثيق والعهود، وتولى الولايات والعقود. ولما أخذ شهرزور سلمها اليه، وعول فيها عليه. وما برح بها حتى انعم بها على صاحب اربل مظفر الدين؛ فعاد القاضي شمس الدين. فأرسله السلطان إلى قليج ارسلان وأولاده، ليصلح بينهم ويعيد أمرهم إلى سداده. فتردد بينهم سنة، ولم تزل مساعيه مستنجحة مستحسنة. وعاد ووصل إلى ملطية، وقد استكمل من عمره لله العطية. وتوفي بها في شهر ربيه الآخر من السنة، وانتقل إلى الله بأعماله الحسنة.

دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة

دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة ودخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة والسلطان مقيم بدمشق في داره، وممالك الآفاق في انتظاره، والأيام مشرقة بمطالع انواره، والليالي مترقبة صباحها لإسفاره. ورسل الأمصار مجتمعون على بابه، منتظرون لجوابه، والوافدون قاطفو جني جنابه. والضيوف في فيوض إنعامه عائمون، وبفروض حقوقه قائمون. والفقراء في رياض صدقاته راتعون، وفي كلأ كلاءته راعون وادعون. ودار العدل بالفضل دارة، وأسرار المنى بالمنائح سارة. والسلطان يجلس في كل يوم وليلة لإسداء الجود، وإبداء السعود. وبث المكارم، وكسف المظالم، وتنفيذ المراسم، وإمضاء العزائم، وتشيد الدعائم، وتقرير العظائم. والاهتمام بمصالح الإسلام، ومناجح الأنام. والاغتنام للمسلمين بما يتم في بلادهم من الخطوب، وينم من الكروب. ولمجالسة العلماء، ومساجلة الفضلاء وموالاة الأولياء، ومصافاة الأصفياء. وأعداء الملهوف، وإسداء المعروف. ومل ملازمة البلد، وخرج عن حكم الجلد. وبرز إلى الصيد شرقي بزاد خمسة عشر يوما، وأوسع من لم يوافقه على الخروج لوما. واستصحب معه أخاه العادل وأبعدوا في البرية، وظهروا عن ضمير (ضمير) إلى الجهة الشرقية. وطابت له الفرص، ووافق مراده القنص. ثم عاد يوم الاثنين حادي عشر صفر، ووجه بشره قد سفر؛ ووافق ذلك عود الحاج الشامي فخرج للتلقي، وسعاداته في الترقي ولما لقي الحجاج استعبرت عيناه، كيف فاته من الحج ما تمناه. وسألهم عن أحوال مكة وأميرها وأهلها، وخصبها ومحلها، وكم وصلهم من غلات مصر وصدقاتها، وعن المجاورين والفقراء ورواتبها وإداراتها، وسر بسلامة الحاج، ووضوح ذلك المنهاج. ووصل من اليمن ولد أخيه سيف الإسلام، فتلقاه بالإكرام، وأنزله في كنف الاهتمام. ذكر وفاة السلطان رحمه الله بدمشق جلس ليلة السبت سادس عشر صفر في مجلس عادته، ومجلي سعادته. ونحن عنده في أتم اغتباط، وأتم نشاط. حتى مضى من الليل ثلثه، وهو يحدثنا ونحن حدثه. ثم صلى به وبنا إمامه، وحان قيامه. وانفصلنا بإحسانه مغتبطين، وبامتنانه مرتبطين. وأصبحنا يوم السبت وجلسنا في الإيوان، ننتظر خروجه لوضع الخوان. فخرج بعض الخدام، وأمر الملك الأفضل أن يجلس موضعه على الطعام. فحاء وتصدر وتربع في دسته، وجلس يسمته وسمته. وتطيرنا من تلك الحال، وتفللنا بحد ذلك الفال. ودخلنا إليه ليلة الأحد للعيادة، ومرضه في الزيادة. وتوفي بكرة الأربعاء السابع

ذكر الملوك من أولاد السلطان وذويه بعده

والعشرين؛ ونقله الله من دسته العالي إلى أعلى عليين. ومات بموته رجاء الرجال، واظلم بغروب شمسه فضاء الافضال. وغاضت الأيادي، وفاضت الأعادي. وانقطعت الارزاق، وادلهت الآفاق. وخاب الراجون، وغاب اللاجون. وخاف الآمن، وخاب الآمل، وقنط السائل، وشحط النتئل. وطردت الضيوف، ونكر المعروف. ودفن بالقلعة في داره، وفجع الزمان بأنواره. وعدمت الأيام صباحها والآمال نجاحها، ودفن معه الكرم، وغلب بعد وجوده وجوده العدم والعدم. وبقيت تلك الأيام لا افرق بين الدجى والضحى، ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا. وحالت حالي، وزال ادلالي وزاد بلبالي. وبطل حقي، واتسع خرقي. وتنازل جاهي، وتنازق اشباهي، واعضلت أدواء الواهي. وبقيت المعارف متنكرة، والمطالع مكفهرة. والعيون شاخصة، والظلال قالصة، والأيدي يابسة، والوجوه عابسة، وعادت أبكار خواطري عانسة، ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة. وبقى باب كل مرتجى مرتجا، ومنهج كل معروف منهجا. وظن الغنى عنى، وأخلف في ضن الاخلاف بي ظني. حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه، وقام بالأمر بعزم تأنيه، وحزم تأتيه، وعز تأبيه. فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري، وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب درى، ونضارة حلى درى. فكتبت له، وحليت من الملك عطله. ووشيت الكتب ووسعتها، وجليت الرتب ووسعتها. وهززت اليراعة، واغزرت البراعة وهجرت الجماعة، ولزمت القناعة. ذكر الملوك من أولاد السلطان وذويه بعده خلف السلطان صلاح الدين - رحمه الله - سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة صغيرة، وأبقى له مآثره أثيرة، ومحاسن كثيرة، ولم يخلف في خزانته سوى دينار واحدة وستة وثلاثين درهما، فإنه كان بإخراج ما يدخل من الأموال في المكرمات والغرامات مغرما. وكان يجود بالمال قبل الحصول، ويقطعه عن خزانته بالحوالات عن الوصول. فإذا عرف بوصول حمل وقع عليه بأضعافه، وخص الآحاد من ذوي الغناء في الجهاد باللآفه. ولا جبه أحدا بالرد إذا سأله، بل يلطف له كأنه استمهله. فإنه يقول: ما عندنا شيء الساعة ومفهومه: إنه يعطى وإن كان يبطئ، وأنه سصيبه بالنوال ولا يخطي. وكان ولى عهده بالشام الملك الأفضل نور الدين علي، وأنه كاسمه سام علي، ونور فضله كسمته جلى، وهو الذي حضر وفاته، وفاز بملكه فما يقال حضر وفاته. وقام بسنة العزاء، وفرض الاقتداء بأبيه في إيلاء لآلاء، وإدناء الأولياء. وخلع على الأماثل والأمراء، والأفاضل والعلماء. وكان لباب رسل ووفود وملوك، ورجال لهم في مسالك الرجاء سلوك. فخابوا وغابوا، وذهبوا وما آبوا.

ذكر من تولي ممالكه بعده من أهله

ذكر من تولي ممالكه بعده من أهله تولي ولده العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان مصر وجميع أعمالها، وأبقاها على اعتدالها، ونقاها من شوائب اختلالها واعتلالها. وأحيا سنتي الجود والبأس، وثبت القواعد من حسن السياسة على الأساس. وأطلق كل ما كان يؤخذ من التجار وغيرهم باسم الزكاة، وضاعف ما كان يطلق برسم العفاة. وجاد وأجاد، وأبدى الكرم وأعاد. وبسط وقبض، وابرم ونقض. وحل وعقد، وبر وافتقد. ووضع ورفع، ومنح ومنع، وأبصر وسمع، وضر ونفع، وقطع وأقطع، واصل وفرع. ووعد وأنجز، وأوعز بغنى من أعوز، وبرز وأبرز، وجاهد وجهز. وعرض الكتائب، وفرض المواهب. وأجرى الصدقات، وتصدق بالجرايات. وأدر وأدار، وأجاز وأجار. وأغنى وأسعد، وأدنى وأبعد. وقدم أمر بيت الله المقدس، واعتمد في اعتماد الاشوس الاسوس. وعجل له بعشرة آلاف دينار مصرية، لتصرف في وجوه ضرورية. ثم أمده بالحمل، وأفاض عليه من الفضل. وقرر واليه عز الدين جرديك على ولايته، وقوى يده برعايته. ووالى حمل الغلات من مصر إلى القدس، وأبدل وحشته بوفاة السلطان من وفائه بالأنس. وجلس في دار العدل ففصل ووصل، وأحسن وعدل. وقضى وحكم، وأمضى وأحكم. وأحضر نواب ديوانه في إيوانه، واستعرض منهم قوانين سلطانه. واستقرى الضياع والإقطاع، وعمم الاصطفاء والاصطناع. وحل إقطاع من أقام بالشام، الزم جند مصر بالخدمة والمقام. وما أبقى إلا ما في يدي من الضياع، وصان حقوقي من الضياع. وأمر بتخليده، وأجد جدى بتجديده. فجاءني كتابه الكريم بكل كرم مكتوب، ومحبوبه من الرفد محبوب. ورعى في عهد الوالد، وأضاف الطارف عندي من العرف إلى التالد. هذا وأنا غائب، وبرأيي رائب، ولسواه كاتب ونائب. وما أحوجني في النوال إلى السؤال، وأغناني استرساله في إغنائي عن الإرسال. ولم تفتقر مقاصدي ووسائلي إلى تسيير القصائد والرسائل، وما أغرب بدار فواضله للحلول بدار الأفاضل. ثم أشفق غدر الفرنج في فسخ الهدنة، فأتى من تجهيز العساكر إلى البيت المقدس بكل ما في المكنة. ثم سمع بحركة المواصلة ومن بايعهم، وتابعهم وشايعهم. قد خرجوا في إيمانهم حانثين ولعقد إيمانهم ناكثين. فخيم ببركة الجب، واستشار أمراءه أهل الرأي واللب. وجهز جيشا جائشا، وبعثا لعثار الدولة ناعشا؛ في كل مقدم مقدام؛ وهمام همام، وضيغم ضرغام، وقرم قمقام. فوصلوا إلى دمشق وقد فرغ العادل من حرب القوم وسلمهم، وهز منهم أعطاف الاستكانة له بعد هزمهم. فرأى أن الحمد أعود، والعود أحمد. وسيأتي ذكر ذلك في مكانه، عند ذكر الملك العادل وما رفع الله من شأنه.

ذكر دمشق وما يجري معها ومن تولاها

ذكر دمشق وما يجري معها ومن تولاها وتولى الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن على - ولد السلطان - دمشق والساحل وما يجري مع ذلك من البلاد. ونفذت في البلاد أوامره، ونفدت في الرجال ذخائره. ورتب الأمور أجمل ترتيب، وهذب الشئون أكمل تهذيب. وجلا السرير السلطاني بنوره، وأسفر صباح الإقبال بإقبال سفوره. وهدى وهدأ، وملأ بالبشر المتبلج والنشر المتأرج الملأ. وهذب وأذهب، ورغب وأرهب. ورتب وربت، وأصلى وأصلت. وأثر وأرث، ولم الشعث. وأبهى وأبهج، وأجد المنهج المنهج، ورجح ونجح، ومن ومنح. وأرسى وأرسخ، وبذ وبذخ. ووعد واوعد، وجدد الجدد. وأذاع بحميته سر حمايته واعاذ، ووجد الملاذ من وجد منه الملاذ. وأمر وأمر، ونضر ونظر، وعز وأعز، وحاز وحز. وساس وراس، وملك الباس والناس. وأشاع البر وأعاش، وأشبع الجياع وروى العطاش. واستخلص ذوي الاختصاص، واختص أهل الإخلاص، ونهض واستنهض وعرض واستعرض. وربط عزمه الرباط، وأحاط علمه وحاط. وحفظ أولي الحفائظ، ولاحظ العرف وعرف إنه لاحظ لغير اللاحظ. وصنع واصطنع، وأبدى وأبدع. ومد الظل واسبغ، وسوى الفضل وسوغ. وأهمى العوارف، وأمهى الرواعف. وحقق الحقوق، ورتق الفتوق. وضم الملك، ونظم السلك. وجلس في دار العدل، وأتى بالحكم الفصل. وحزم وجزم، وعزم والتزم. وزاد وزان، وأغاث وأعان. وابر أرباب الهوى، وأمر من أرباب التقوى القوى. وحمى النابه، ومحا المكاره. وفاض بغزارة العطايا، واستفاض بطهارة السجايا. وآوى إليه اخوته، وضم جماعته. وجهز أخاه الملك الظافر مظفر الدين خضرا، واصحبه عسكرا مجرا. وأنهضه لإنجاد عمه الملك العادل، فأنار في فضاء الفضائل، وسار بجحفله إلى الجحفل الحافل. فالتزم الشروع، وهزم الجموع. وقارع القروم، وكان الهازم والعدو المهزوم. وكانت حمص والمناظر والرحبة وبعلبك وما يجري معها في المملكة الانضلية داخلة، وإمداد طاعات الولاة والأولياء بها متواصلة. وصاحب حمص والرحبة الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن محمد ابن شيركوه ابن ابن عم السلطان، وهو أثير الشان، أثيل المكان. فوصل إلى دمشق مطيعا، ولسر صدقه ونشر صداقته مذيعا مشيعا، فأحلى له الملك الأفضل جنى شهيا، وأحله وسيعا. وعقد له حبا الحب، وحباه بكل ما سفر عن سفور مودة القلب، ووفور مواد القرب. وكذلك وصل صاحب بعلبك الملك الأنجد مجد الدين بهرامشاه ابن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب طائعا، وللأمر الأفضلي تابعا. فأدناه وأجناه، وأحبه وحباه، وأسناه وأسماه، وآواه وآساه. فتأكدت بينهم القرابة المتشجة، وتشبكت اللحمة

ذكر حلب وما يجري معها

المنتسجة، وتمهدت الآصري الممترجة، وتفتحت أبواب الألفة المرتتجة. وتوافوا على التوافق، وتصادقوا على التصادق. وتعاضدوا على الأخذ بالتساعد، وتعاقدوا على ترك التقاعد. ذكر حلب وما يجري معها وتولى حلب واعمالها، وحصونها ومعاقلها؛ وكرائم البلاد وعقائلها؛ الملك الظاهر غياث الدين أبو الفتح غازي. وهو برجاحته وسماحته للطود والجود الموازن الموازي. وتلك مملكة أقطارها واسعة، وأنصارها شاسعة. فحواها وحملها، وبماء العدل رواها وقواها، وأعز رجال الرجاء، وهز أعطاف العطاء. ورحب لوراءه ورواده رحابه، وسحب بحيا الأحباء سحابه. وأبرت مبراته، وأثرت مأثراته، وسح وصح غيثه وغياثه، ورعى رعيته فشبعت ورويت ظماؤه وغراثه. وزخرت أمواجه، وزهرت بثواقب المناقب أبراجه. وصابت سماء سماحه، وطابت صبا صباحه. وعزت بسيرته كتب التواريخ، وعزى قلمه وسيفه إلى عطارد والمريخ. وسعدت وفوده، ووفدت سعوده. وأثر من أمره النفاذ، وكثر بظله اللياذ. وأدنى الأبرار، وأقصى الأشرار. وخص الأعزة الخواص بالإعزاز وأوعز بما يعود به إلى نضارة الغني الذي ذوى لذوى الاعواز. وتمهد لسلطانه الأساس، واطرد لإحسانه القياس. ووجد من عثر من أيد يده الانتعاش، وعشا إلى جدواه الكجتدي وعاش. وفرض الفرص، ورفض الرخص. وأدى الفروض، وقضى القروض. واستدنى من المناجح شاحطها، واستدرك من المصالح فارطها. وملك خلق التحفظ، وسلك طرق التيقظ. وفرق وجمع، وخرق ورقع. وغلب وبلغ، ودمر أهل الكفر والنفاق ودمغ. وشفى واشتفى، وكفى واكتفى، وراع وراق، وفات وفاق. وطلب وأدرك، وأخذ وترك. وفاض بالفضل، وراض بالعدل. وقدم الحزم، وصمم العزم. وأحيا السنن، وأولى المنن. ولها بالجد عن اللهو، وانتهى بالعدو إلى البأس المر وبالولي إلى النائل الحلو. وأمر ونهى، وأوهن معاقد ذوي المكايد وأوهى. ووفى للوفى، وصفا للصفي. وأقر البيرة واعمالها، وما يجري معها على أخيه الملك الزاهر مجير الدين داود، ولم يزل مقبولا أمره مردود، ودخل في أمره صاحب حماه؛ وأعزه وحماه وهو ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين. واتسع الملك، واتسق السلك. وكاتب الجوانب وراسل، وفارق من رأى وواصل، وطال باعه، وأطاع أشياعه. وهمت همته بالزيادة، وسمت لسمت السيادة.

ذكر الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أخي السلطان وما جرى له بعد وفاة أخيه

ذكر الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أخي السلطان وما جرى له بعد وفاة أخيه كان الملك العادل مع السلطان في الصيد قبل وفاته، وكان موافقه ومرافقه في مقتنصاته. فلما عاد السلطان إلى دمشق ودعه ومضى إلى حصنه بالكرك للاستراحة، غير مطلع على سر الغيب في الأقضية المتاحة. فنابه النائب، ولم يحضر وقت احتضاره الأخ الغائب. فلما عرف وصل إلى دمشق بعد أيام، ولم يقم لتنفيس كرب الحادث ولم يحدث نفسه بمقام، ولم يرم ثلاثا، ولم يرم لباثا. ورحل طالبا لبلاده بالجزيرة، حذرا عليها من أهل الجزيرة. وكان السلطان جعل له كل ما في شرقي الفرات من البلاد والولايات. ومضى كما ومض بارق، وتخوف أن يطرق بلده طارق. فلما وصل إلى الفرات؛ وجد مما خافه دلائل الفترات. فأقام بقلعة جعبر، ولم يحشد ولم يستحضر العسكر؛ رغبة في السلم والسلامة، ومحبة للدعة المستدامة. وسير إلى الولايات الولاة، ووصى برعاياه الرعاة. واستناب في ميافارقين وحاني وسمياط وحران والرها، وشحنها بالشحن واستقام أمرها. وحسب أن الأعداء إذا سمعوا بسمعه، جمعوا لجمعه، وتدافعوا لدفعه. وسكن وسكت، وتبين وتثبت. وعلم العدا إنه في خف قخفوا، وعرضوا وصفوا. وما كفاهم ما هم فيه فهموا وما كفوا. وسافوا تراب الطمع وأسفوا، فجرت حركتهم هلكنهم، وأذهب الله عند مجيئهم بركتهم. ذكر أهل الشمات وما قدر الله لجمعهم من الشتات كان الأمير بكتمر صاحب خلاط، قد هجر الاحتياط، ووصل النشاط. وضرب البشائر أرزء صلاح الدين، وظهر في النوب الخمس بشعار السلاطين. وتلقب بالملك الناصر، وحدث أمله بجر العساكر. وراسل صاحبي الموصل وسنجار، وطير إليهم كتب الاستنفار. وضم إليه من ماردين ماردين. وطار وطاش، وارتاش وانتاش. وخلط من خلاط الاوشاب والأوباش. فبينا في أتم غرور؛ وأنم سرور؛ وأحب حبور، وأشب سور؛ وأرقد عين، وأركد عين؛ وأغفل قلب؛ وأذهل لب؛ وأطول أمل في أقصر أمد؛ وأكثر مدد في أقل مدد؛ وقد خرج من الحمام؛ ولم يدر إنه داخل إلى مغتسل الحمام، استشهد على أيدي الإسماعيلية. ولعل الله غفر له ونقله بشهادته إلى جنته العلية. وذلك بخلاط يوم الاثنين رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وكأن أيامه كانت أحلامنا رئيت في السنة. وأول بادئ بالخروج متولي ماردين - فإنه مرد، وحشد المدد، ونزل على حصن الموزر بالعزم المزور والجد المزور. وهذا الحصن كان السلطان اقتطعه عن

أعمال ماردين حين كان أهله عليه ماردين. فلما صالحهم استبقاه واستثناه، وأضافه إلى نائبه بالرها وأعطاه. ثم تحرك عز الدين أتابك مسعود بن مورود بن زنكي - صاحب الموصل، وخرج في الجحفل الحفل وأضافه أخوه عماد الدين زنكي بنصيبين، وخرجوا لنداء اللقاء مجيبين. وقدموا الرسل إلى الملك العادل سيف الدين، وقالوا: تخرج بلادنا، وتدخل في مرادنا فكتب إلى بني أخيه يستنجدهم ويستنفرهم، ويستصرخهم ويستنصرهم. فأنجدوه بالأمداد، وأمدوه بالأنجاد. فجاءوه من كل فج ووافوه فوجا بعد فوج. وكان أنجاد حلب أقرب، ولدر الإسعاف أحلب. ولما عرف الملك الأفضل أغتم واهتم، وجمع عسكره وضم، وخص وعم، وكتب إلى صاحبي حمص وبعلبك، واستدعى عسكرهما الترك. فسار أخوه الملك الظافر الدين خضر، وروض عسكره بورق الحديد الأخضر نضر، والملك العادل لقدومه منتظر. وأما لمواصلة فإنهم ما أسرعوا بل أبطئوا، وما أصابوا بل أخطئوا. وسمعوا أن الأمداد العادلية الوافية متوافية، وأن فئته كافة كافية مكافية. فتجنبوا وتجنبوا، وكانوا قد وصلوا إلى رأس عين فأقاموا وسكنوا. والملك العادل مخيم بظاهر حران في جموعه وجنوده، وأعلامه وبنوده، ومساعديه وسعوده. وعزمه على اللقاء مصمم، وقلبه بحب الظفر متيم. وجده غالب، وحده سالب، وجده لظباء النصر حالب، ولطيب الذكر جالب. وسيف سيف الدين باتر واتر، ولحظ الشمس من غبار خيله الساتر فاتر. وتقارب العسكران حتى أن الطلائع تتواجه وتتجابه، ورجال اليزك تتناجى وتتناجه. وكان من قضاء الله المحتوم؛ وسر قدره لبمكتوم؛ تفليل غروب القوم وتقليلهم، وحار تأملهم وخار تأميلهم، وجحفل رألهم ورتع رعيلهم. وذلك بما قدره الله من فرض اتابك صاحب الموصل، ولم يطق الإقامة بالمنزل. وأشفى على الخطر، وأشرف صفو حياته على الكدر. فعاد إلى الموصل في محفة، ورجا أن يتبدل ما ألم به من ثقل ألم بخفه. وقهقر عماد الدين راجعا، ولمن وثق به من أشياعه فاجعا، وتضرع صاحب ماردين وتذرع، وتشفع بالأمراء والأكابر وخضع. حتى وقع عنه الرضا، وصفح له عما مضى. وأجرى على القاعدة السلطانية معه، وكان قد ضاق به الفضاء الرحب لولا العفو عنه وما وسعه، ورأى عماد الدين أن القوم خانوا واستكانوا، وما رعوا له العهد كما كانوا. فاضطر إلى الانكفاء، وكف عن اللقاء، فخلا الجو، وجلا الضو، وعلا النو. وأتى الملك العادل الخبر بوصول ابن أخيه الملك الظافر إلى الفرات، في عسكر دمشق لأهل الثبات. فكاتبه بمنازلة سروج وهي من أعمال عماد الدين، وأمده بابن تقي الدين، وابن المقدم عز الدين ليث العرين. فنزلوا على سروج يوم السبت ثامن رجب وفتحوها يوم الأحد تاسعه، واستولوا على البلد واماكنه ومواضعه. ورحل الملك العادل منتصف

فصل في المعنى أنشأته إلى الديوان العزيز في آخر رجب عن الملك الأفضل

رجب إلى الرقة وتسلمها في العشرين منه، وكانت اليد البيضاء فيها للملك الظافر على ما ذكر عنه. ثم رحل وتملك بلد الخابور ميعه، وعاد كل من عصاه من مقطعيه مطيعه. وجاء إلى نصيبين ونزل بظاهرها، وشرع في ضم ذخائرها. فجاءت الرسل العمادية في طلب الصلح، وأسفر ليل الحرب بسنى السلم عن الصبح. ورحل ونزل (دارا) وكان صاحبه دار مع القوم وما دارى. فبسط عذره، وقبض ذعره، وأتاه خبر صاحب الموصل وتسليم بلده من بعده؛ إلى نور الدين ارسلان شاه ولده. وجرى بينه وبينهم صلح، وكان له في كل سفرة تجارة وربح. وكتب إلينا إن أهل خلاط كاتبوه، وعلى تأخره عنهم عاتبوه. وأن كل صاحب حصن قد ضبط موضعه، وانتظر مطلعه. فإنه تولاهم بعد بكتمر المعروف بالهزاز ديناري. فلم يرضوا بإيالته الخلاط؛ ولم يروه كفوا لتلك الهدى. ثم أشرف العادل على خلاط، فوجد أهلها قد كملوا الاحتياط. ورأى أن البرد يشتد، وأمد الحصر يمتد، فعاد إلى حران والرها، وأعرض عن مخالطة خلاط؛ وتأخر إلى الربيع أمرها. فصل في المعنى أنشأته إلى الديوان العزيز في آخر رجب عن الملك الأفضل لا شك في إحاطة العلم الأشرف بحال الذين حالوا عن الاتصاف بالإنصاف، ومردوا ومروا أخلاف الخلاف، وعادوا عن خلق التلافي إلى الإتلاف، وبددا بالانتظام في سلك الغدر شمل الائتلاف. ونكثوا بعد ايمانهم، حتى قيل كفروا بعد أيمانهم. وباءوا في بغيهم بغيهم، وأبدوا قوتهم في وهيهم. وزعموا أنهم إذا عزموا نالوا فرصة، ووجدوا إذا جدوا في العزيمة رخصة. وجاءوا إلى البلاد التي للخدم من إنعام أميرا المؤمنين - صلوات الله عليه - ليتملكوها، واستسهلوا سبل الضلالة بعد الهدى فسلكوها. واغتروا باعتزازهم واعتزوا باغترارهم، وأصيبوا إذ لم يصيبوا ببصائرهم وأبصارهم، ودخلوا في دائرة السوء وخرجوا من ديارهم. واجتمع صاحب الموصل وأخوه صاحب سنجار وصاحب ماردين وحسدوا وحشدوا، وما الظن بشر الحاسدين الحاشدين! ووعدهم الشيطان وأحزابه فصدقوا كذب الواعدين. وكان العم الملك العادل سيف الدين قد توجه إلى تلك البلاد لإبقاء أمورها على السداد؛ واثقا منهم بالمواثيق؛ محتفلا بالوفاق الحافل الافاويق. وهو في خواصه وذوي استخلاصه، لم ينتظم عسكره، ولم ينضم إليه معشره، ولم يصف لدفع الشوائب وردع النوائب مورده ومصدره. فلما عرف نكرهم؛ وعلم في مكرهم مكرهم؛ توافت إليه الجموع، وحنت على قلبه الضلوع، وحنت إلى أصله الفروع.

ذكر سيف الإسلام باليمن

وتوافد إليه بنو أخيه في الجنود، وتوافوا نجدة ساعات بالسعود. وأمد الأخ الملك الظاهر من حلب بالإمداد المتظاهرة، والأنصار المتناصرة. وندب الخادم أخاه الظافر خضرا وأنهضه، وسار معه عسكره الذي بدمشق عرضه. وسمع الأخ الملك العزيز خبر القوم؛ وأنهم من حول ورد الردى على الحوم؛ فأخرج المضارب وأبرزها، وانفق في العساكر وجهزها، وذكر عدة النجدة فانجزها، واهتبل فرصة الفريضة وانتهزها، وأقبل على ذخيرة الفضيلة فاحرزها، وتحركت السواكن، وثارت الكوامن. وهاجت الأقطار وماجت البحار، وشابت الاكدار، وأصابت الأقدار. وأظهر الله قبل الاجتماع معجز آياته في أهل الشمات، وخص جمعهم بالشتات، وحبلهم بالبتات، وحص من تلك الثبات أجنحة الثبات. وشغل كلا منهم بوباله وباله، وحطه من يفاع اعتلائه إلى حضيض اعتلاله. وأعادهم على أعقابهم ناكصين، وبعقابهم ناكسين، وفي آرائهم وآرابهم ناقصين. وأظهر الله في كل واحد من إعداد الأعداء آية للعادة خارقة، وقدرة لإقدار الأولياء للسعادة خالقة. وقتلهم وما قاتلوا، وقابلهم وما قابلوا. وغادر الغادرين عبرة للمعتبرين، وعظة للمتفكرين. وعلم صاحب ماردين إنه أخطأ وما أصاب، فأبان عن ندمه وأناب. وتعرض للعفو عنه وتضرع، وتشفع بالأمراء في أمره وتذرع. فأبديت له صفحة الصفح، وعادت له بعد عادية الخسر عادة الربح، وأجرى على القاعدة المستقرة له في عهد الوالد رحمة الله عليه، فرضوا بما فرضوه من الطاعة وثابوا إليه. وكان الأخ الملك الظافر خضر قد وصل إلى الفرات، حين حكم الله لجموع أولئك بالشتات. فعبر إلى سروج يوم السبت ثامن رجب، وقلب العدو من الفتح الذي وجب وجب. وفتحها يوم الأحد ضحوة، وجاءت هذه المنحة من الله حظوة. ورحل الملك العادل بالعساكر إلى الرقة، لاسترجاع وديعتها المستحقة. وهذه ببركات استمرار العبيد على طاعة المواقف المقدسة، وبيمن الائتمار بأوامرها، وسفور الوجوه لمواجهة سوافرها. وما السعادة إلا لمن شملته سعودها، وما الجد إلا لمن وصله جودها، وما الكرامة إلا لمن كرمت عنده بالوفاء عهودها؛ وما العصمة إلا لمن لزمت في حمده النعماء عقودها. ذكر سيف الإسلام باليمن وإقليم اليمن مستقر للملك ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن أيوب أخي السلطان. وهو هناك سلطان عظيم الشان، مستول على جميع البلدان، مختص في مكانه بالإمكان. وكان قد وصل ولده مع الحاج قبل وناة السلطان بأيام، فلم يظفر بمرام. ووصل كتابه إلى أخيه، وهو غير عالم بتوفيه. فلما استقر الملك الأفضل على سرير أبيه كاتب عمه سيف الإسلام بغمه، وهم في كتابه بما كتب الله من همه. والكتاب بإنشائي عن الملك الأفضل يشتمل على شرح ما ألم، وخص به الرزء وعم.

وهذا كتاب يشتمل على سيرته وكتبته جميعه وهو: صدرت هذه المكاتبة عن النبأ العظيم، والخطب الجسيم، والرزء العميم، والحادث الاليم، والكارث المقعد المقيم. والنائب الباغت، والمصاب الساحت. والفجيعة الفاجية، والنكبة الناكية، والطارقة الطارية، والملمة المؤلمة والبلية البارية. والواقعة الرائعة، الصدمة الصادعة، والحدمة اللافحة، والروعة الفادحة. والغمة التي غامت بها الأيام، وغم لها الأنام، واعتل منها الإسلام، واختل النظام. فقد عدمت المطالع ضياءها، والمشارع صفاءها، والثغور سدادها، والأمور سدادها، والعيون قرتها والنفوس قرارها، والقلوب ثباتها؛ والجفون غرارها، والأيدي ايدها؛ والوجوه سفورها، والصدور انشراحها؛ الأسرار سرورها. فقد فقدت الدنيا بهجتها، وضلت العلياء محجتها. واهتدى الضلال إلى الهدى، وأقوى نادي الندى. وأقفرت مغائي الغنى، واكفهرت مجالي السنى، وأمرت مجاني المنى. وخفيت مناهج المناجح، وعطلت مناهل المنائح. وعميت مذاهب المواهب، وأظلمت مطالع المطالب، وارتجت أبواب الفتوح، ودجت أضواء الوضوح. ودرست معالم المعالي، وطمست زواهر الليالي. واضطربت الدهماء، واضطرمت الدهياء. وبطلت مواسم الحق، وأبهمت مظالم الخلق. وانقطعت مسالك الجهاد، وتفجعت ممالك البلاد. وأخلفت عدات الأعداء على الاعداء، وانكسفت أنوار آمال الأولياء. وذلك بما أجراه الله من قضائه المحتوم، وأظهره من سر قدره المكتوم. بمصاب مولانا الملك الناصر - روح الله روحه، وروض في جنان رضوانه وغرفات غفرانه ضريحه. فقد عظم الخطب وجل، وحل عرا الجلد حين حل، وثلم غرب الصبر وفل. وأجرى غرب الدموع، وأزكى كرب الضلوع. وبت حبل اللاجين، وشت شمل الراجين. وأعلمنا أن الدنيا الدنية حبالها رثاث، وحباؤها غثاث، وعقودها انكاث، وسهولها أوعاث، وقصورها أجداث، وسرورها غرور ومواهبها أحداث. وسكونها قلق، وأمنها فرق. وصحتها سقم، وأملها ألم، وغبطتها ندم، ووجودها عدم. وبقاؤها فناء، ونعيمها بلاء، وراحتها عناء. وملكها هلك، وسترها هتك، وأخذها ترك، وسلمها حرب وصلحها فتك. ووفاؤها غدر، ووفاقها مكر، وعرفها نكر، ووصلها هجر، وخيرها شر، ونفعها ضر، وجبرها كسر. ومتاعها قليل، وباعها في التطاول طويل، وما لعثارها مقيل، ولا في ظلها مقيل. ولا أرب فيها لأريب. ولا الباب فيها للبيب. فإن ظلها قالص، وفضلها ناقص. وعمرها قصير، وغنيها فقير. وريها جرع، وزيها خدع. وحليها عطل، وسعيها زلل. وإجداؤها إجداب، وإعطاؤها إعطاب. وإصباحها إظلام، وإرغابها إرغام. وسماحتها بخل، وسجاحتها ختل. وعقدها مفسوخ، وعهدها منسوخ. وربحها خسار، وجرحها جبار، ويسارها إعسار. وخصبها إمحال، وحبها محال. وعمارتها شعث، وشيمتها عيث وعبث. وترابها

تراث، ولا لمسكنها أساس ولا لساكنها أثاث. ولأكيدها في كيدها يد، ولا لمكرها في جد مكرها جدد. والسعيد من استعد في معاشه للمعاد، واستكثر مدة مقامه في الدنيا لسفر الآخرة من الأزواد. ومن نظر إليها بعين القلى، وعرف أنها دار البلاء والبلى، وتقوى فيها بالتقوى؛ وجد في الأعراض عن جداواها للفوز يوم العرض بالجدوى. ولقد كان السلطان السعيد - قدس الله روحه - بحقيقتها عارفا، ولطريقتها عازفا، ولزخرفها عائفا، ومن ملكها آنفا، وعن مالها متعففا. فاشتغل عن الدنيا بالدين، وخصه الله بتأييده في علم اليقين. واقتدى بسنة النبي - صلوات الله عليه - فما زاغ بصره وما طغى، (ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى). ووقف حياته على إحياء معالم الهدى، والإعلان بشعار التقى. وإعلاء منار الجهاد، وإشاعة سنن العدل والإحسان في البلاد والعباد. وإفاضة سجال الفضل والأفضال، حتى كفل جوده بفيض الأرزاق ووفى بنجح الآمال. وأخلص لله عمله، ولا ملك ملكا ولا تمول إلا في سبيل الله أنفقه وبذله. وكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان لله كان الله له)، فلا جرم أذل الله له الملوك الأعزة، ووهب لأعطاف الدولة للتباهي بملكه الهزة. وملكه الأقاليم والأمصار، وأجرى بأقداره الأقدار، فأزال عن مشارع الشريعة الأكدار. وعطل البدعة بمصر واليمن والشام، وقمع أعداء الإسلام. ومد الله في عمره حتى بلغ المراد، وفتح البلاد، ووفى في حق الجهاد؛ الجد والاجتهاد. وقدر على ما أعجز عنه الملوك، ونهج في نصرة الدين نهجا أعوز من قبله فيه السلوك. وأخرج الفرنج عن الساحل وأبادها، وملك عليها ديارها وبلادها. وأوهى على الكفرة معاقد معاقلها، وطال بحقه على باطلها. وأقصى عن المسجد الأقصى مدنسيه، وأزال عنه أيدي غاصبيه. واصرخ الصخرة المطهرة وطهرها من الأرجاس، وأبعد عنها أجناس الأنجاس. وقهر الكفر وخذله، ونصر الإيمان وأخذ له، وأحيا للكرم كل سنة حسنة. واستمرت محاسن أيامه سنة بعد سنة. وتعدلت بعذله الجوانح، وتذللت ببأسه الجوامح. ودانت ودنت له الممالك القاصية، وأذعنت إذ عنت لحكمه الأماني العاصية. وملكت القلوب والقبول مهابته ومحبته، وعمت الخواص والعوام عارفته وعاطفته. ونفذت في الشرق والغر بمراسمه، وقامت بالحمد والشكر مواسمه، ووفت بأمل الداني والقاصي، والطائع والعاصي مكارمه. وأسعده الله وأمهله، حتى حقق في ذويه أمله، وولى في كل إقليم من يعمل لله في العدل والإحسان عمله. ثم توفاه حميد الأثر، كريم الورد والصدر، ظافر الرجاء رائج الظفر. صالح العمل، ناجح الأمل. طاهر الفطرة، ظاهر النصرة. كاسيا من الفخار، عاريا من العار. مرتديا بثوب الثواب، مرتويا

من صوب الصواب. مبتهجا بنضرة النعيم، متأرجا بعرف نسيم التسنيم. وما كان أبهج الأيام بأيامنه، والأعصار بمزاينه، والامصار بمحاسنه. والإسلام بسلطانه، والآفاق بسنى إحسانه. وما كان أسعدنا بدوده، وأجدنا بسعوده، وأغنانا بعدله وجوده. فقد الصباح فلا سنى، ودفن السماح فلا جدى ولا جنى، وغاض البحر فلا غنى. وهوى الطود فلا ثبات، وذوى الروض فلا نبات. ووهى الركن فلا سند، وتنتهي اليمن فلا جدد وغلب الكمد فلا جلد، وعز العزاء فلا عزو ولا قوة ولا عضد. (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ولأمره تابعون، ولحكمه طائعون. لا راد لإرادته، ولا صاد لمشيئته. ولا صادف لمصاد قضائه، ولا صارف لصرف بلائه. ولقد كادت الأنوار تغرب، والأنواء تعزب، والمنابع تغور، والصنائع تبور. والأحوال تحول، والأهوال تهول. وأضواء المعارف لا تضيء، وأفياء العواطف لا تفئ. وزهر السماء لا تشرق، وأزهار الروض لا تؤنق. ومعاقد الإسلام تهي، وميامن الأيام تنتهي. لولا أن الله تدارك الارماق بألطافه، وتلافي الآمال بإسعافه، وجلا وجخ النعمى من خلال البوس، وأهدى البشر يعد العبوس، وأنزل السكينة عند الزلزال على النفوس. وأجرى الدولة على أحسن العوائد، وأرشد المقاصد، وأثبت القواعد. من استمرارها على الالتئام، واستقرارها في النظام. واستدارها بأفاريق الوفاق، وإهلال بدورها غب المحاق، وطلوع شموسها من الآفاق. وارتفاع فروعها في سماء السمو، واكتداد أصولها في منابت النمو، وانفتاح احداقها النواظر عن نور الأبصار، وانفتاق حجائقها النواضر عن نوار الأزهار. حتى اجتمعت الكلمة المتفرقة واتحدت، وانتظمت الأفلة المتبددة وتأكدت، وسكنت القلوب الراجفة وأنست، وسكتت الألسنة المرجفة وخرست. وأنارت الخواطر المظلمة، وأفاقت الظنون الراجمة والأفكار المتقسمة. وزاد الرونق، وزال الرنق، وأنجلى الغسق، وتجلى الفلق. واستقامت الامور، واستنامت إلى حفظها الثغور. ووصلت الكتب العزيزية والظاهرية من مصر وحلب، بكل ما أنجح الارب، ووصل السبب، ومرى در النصر وحلب. وبكل ما أظهر القوة وقوى الظهر، وشد الازر، وأمر الأمر، وسر السر، ونصر الحق وحقق النصر. من الموافقة والموافاة، والموالاة القاضية من الجدة المنجدة بالموالاة والمتابعة والمشايعة في كل أمر يبرم، وكل حكم يحكم، وكل عزم في قمع العدا يصمم، وكل عقد في نصر الهدى يلزم ويتمم. ووصل المولى الملك العادل فتولى أمر المملوك بكل ما وافق إيثاره، وأشاع على عادة الوالد - رحمه الله تعالى - شعاره، ورفع مناره، وأخلى من كل شاغل باله، ورفه أسراره، وأراح أفكاره. وما في الجماعة إلا من خطب الجمعية وخطب في الجمع، وأعرض عن الهوى للحق المتبع. فالكلمة متحدة وإن كانت الأنفس متعددة، وما أخلقت هذه

ذكر ما افترضه الملك الأفضل من خدمة دار الخلافة المعظمة وإنفاذ رسوله بعدة والده مع هدايا وتحف سنايا

الدولة بل استمرت على تجدد الأيام متجددة. وإنما أشفقت في حال الصدمة الأولى؛ وبدء الرزية الطولى؛ على بيت الله المقدس، ومن غدر الفرنج بقصدها، فإن الغدر شيمة لهم في الأنفس. فوقى الله شرهم، ودفع مكرهم، وأوهى أمرهم. ولم يزل من قلوبهم الرعب، ولم يؤثروا على الصلح الحرب. بل طلبوا بقاء السلامة بإبقاء السلك. وخطبوا أجراءهم في الوفاء بعقد الهدنة على الرسم. وبركات نية المرحوم شملت، ووصاياه نفذت وكملت. وتوجه الملك العادل إلى بلاده الجزرية شرقي الفرات، لإصلاح تلك الولايات، وإخراس شقائق الهادرين بالإرجاف من أهل الشمات، ليؤذن بهيبة الأسد جمع النقاد بالشتات. وليعيد إلى الأنس شارد الولي الراشد، ويرد بالبأس مكايد الحاسد الحاشد. والحمد لله الذي أجد الأمن وقد عرت النخافة، وأنزل الرأفة وقد فجأت الآفة. وأبقى الإسلام بعزه والكفر بذله، وثبت قواعد الملك الناصري بجميع شمل أهله، وأحيا بهم سنى إحسانه وعدله، وشيمي أفضاله وفضله. وفي دوام إقبال المجلس السامي دوام إقبالهم، ونظام أحوالهم، وسبوغ ظلالهم، وبلوغ آمالهم. ذكر ما افترضه الملك الأفضل من خدمة دار الخلافة المعظمة وإنفاذ رسوله بعدة والده مع هدايا وتحف سنايا لما استقر الملك الأفضل بدمشق في مقام والده؛ وشفع طارف ملكه بتالده؛ وأضاف موروث الفضل إلى مكتسبه؛ وأكرم نسبه بكرم حسبه؛ بدأ بالأهم الأفرض، والأتم الأمحض. فقدم إلى الديوان العزيز النبوي نجابين بالكتب، وأنهى الحال فيما ألم من الخطب. ثم ندب ضياء الدين القاسم بن الشهرزوري في الرسالة، إلى منزل الرسالة وموقف الجلالة. وأصحبه عدة والده في الغزاة، أو أن لقاء العداة، سيفه ودرعه وحصانه، وأضاف إلى ذلك من الهدايا والتحف والخيل والعراب؛ ما استنفد وسعه وإمكانه. فما تهيأ مسير الرسول إلا في أواخر جمادى الآخرة، حتى حصل كل ما أراده من الهدايا الفاخرة. وحتى كاتب مصر وحلب وأعلم بمسير رسوله، حتى لا يظن إنه بسوله. وقصد مداراة اخوته، وفضل بفضل نخوته. وذلك بعد أن جدد نقش الدينار والدرهم بسمتي أمير المؤمنين، وولى العهد عدة الدين. وأمرني بإنشاء الكتب وتحريرها، وتقريب المقاصد فيها وتقريرها. فصل من الكتاب إلى الديوان العزيز بعد ذكر الدعاء أصدر العبد هذه الخدمة وصدره مشروح بالولاء، وقلبه معمور بالصفاء، ويده

مرفوعة إلى السماء للابتهال بالدعاء، ولسانه ناطق بشكر النعماء، وجنانه ثابت من المهابة والمحبة عن الخوف والرجاء، وطرفه مغض من الحياء، ووجهه مقبل نحو قبلة الاستجداء، وهمته في العبودية فارعة ذروة العلاء. وهو للأرض مقبل، وللفرض متقبل، وبالطاعة ماثل، وللاستطاعة باذل. وللجهد والإخلاص عارض ضارع، وفجر فخره من الصحة والمناصحة صادق صادع. وهو يمت بما قدمه من الموات، وأسلفه من الخدمات، وذخره ذخر الأقوات لهذه الأوقات، واتخذه عصمة من النائبات، وعوذة من الطارقات، وعدة عند الملمان، وعمدة لدى الخطوب الكارثات، ومصرفا لصروف الحادثات، ومؤلفا للشمل عند شمول الشتات، وعروة للاعتصام بها في أزمن الأزمات، وسلوة من الأسى وأسوأ لجراح المصيبات. ولا خفاء بما أخافه، وفاض له من بحر البرح وضافه، وأغاض نطافه، وعاق أوان رجاء جنى النجاح قطافه، لولا ان الله تداركه بفضله وأولاه ألطافه. فإنه دهمه ما هدمه، وفجأة ما فجعه، وبغته من الرزء ما صد عنه العيش وصدعه. ونابه ما رابه، وجرعه مصابه صابه. ووافاه من وفاة والده رجمه الله ما كدر صفو الحياة، ومحا عن صفحة صبحه آية الإياه وألم بألم الأمل، وأحال إلى العطل، وحلأ عن النهل والعلل. وأذهب بهجة الايام، وأشمت الكفر بالإسلام. وسر الشرك منه ما ساء التوحيد، وقرب من إشفاق القلوب وإشفاء الكروب البعيد، وعطل الجهاد وأراح الحديد. وشب حقود العداة على أنها ما شبت إلا لتخمد، وشام حدود العتاة على أنها ما شيمت إلا لتغمد. وهذا الحادث أرجف المرجفون بحديثه وأثاروا كوامن الثار، وحركوا الأوتار بتأثيره وتأريثه. وأخرج أهل النفاق رءوسهم من كل نفق، وعاد ثبات ثباتهم إلى نفار وقلق. ومن مان مستمسكا من ولاء الدار العزيزة بالعروة الوثقى، مستلئما من عدد أيامها ومدد إنعامها بالدرع الأقوى الأوقى، فإنه لا يحتفل يحفول أخلاق أهل الخلاف، ولا يتحلحل طود حجارة الراسي وحصاة الراسخ لعواصف ذوي الإجحاف. وقد أحاطت العلوم الشريفة - مجدها الله - بأن الوالد السعيد، الشديد السديد؛ المبير للشرك المبيد، لم يزل أيام حياته، وإلى ساعة وفاته؛ مستقيما على جدد الجد، مستنيما في صون فريضة الجهاد إلى بذل الجهد. مستنفدا في كل ما يحوز به المراضي الشريفة وسعه، مستفرغا طاقته في الشغل الديني الذي يهدي بصره وسمعه. فكم قبض يدا بسطتها بالفتنة الفئة العادية. وكم فرض سنة أعلت سناها للمجتلين، وأحلت جناها للمجتدين الدعوة الهادية. ولكم أخرس دعاة الأدعياء، وحرس ولايات الأولياء. وكانت بكتائبه وكتبه سيوفه وأقلامه للأقاليم أقاليد، ولم تزل جنود الشيطان وجموع الطغيان في الممالك بمماليك الدار العزيزة وعبيدها عباديد. وامطر بلاد الكفر من دماء أهلها شآبيب، وأقام بها منار الإسلام ومنابره لما أناب عن

أعوادها أنابيب. واسعرها من كماة الوغى وحماة الورى بمساعير، وأنجدها بضوامره ضوامر الظفر بمضامير. وهذه فتوحه بنشر النصر وتضوع، وعقوده تروق في سلك الملك وتروع. ومصر بل الأمصار باجتهاده في الجهاد شاهدة، والاتحاد والأغوار في نظر عزمه واحدة. والبيت المقدس في فتوحاته، والملك العقيم من نتائج عزماته، وتوفره على العبودية لمالك رقه سيدنا أمير المؤمنين اوفر حسناته، وكل ذلك في طاعته ومناصحته وبركاته. وما زال ظاهرا على العدا، ناصرا للهدى، معليا معالم العلى، محييا مواسم التقى. مسنيا سنن الشرع وفروضه، مديما بأعباء الطاعة بقدر الطاقة نهوضه. وهو الذي ملك ملوك الشرك وغل أعناقها، وأسر طواغيت الكفر وشد وثاقها. وقمع عبدة الصلبان وقصم أصلابها، وجمع كلمة الإيمان وعصم جنابها، ونظم أسبابها. وسد الثغور، وسدد الأمور. وأذل للدار العزيزة كل عدو، وأخذ لها على يد كل ذي عتو، واستمرت على أيام مساعيه في الخدمة ناجحة، ومعانيه على موازين الموازين راجحة. وسيرته حسنه وحسناته سائرة، ومحاسنه ظاهرة، وسريرته طاهرة. وختم الله له بالسعادة، وتوفاه على الوفاء بالعبودية والعبادة، وقضى وقد قضى من آرائه آرابه، وقدم بين يديه أعماله الصالحة ووفاه حسابه. وقبض وعدله مبسوط، وأمره محوط، ووزره محطوط، وعمله بالصلاح منزط، وأمله بالنجاح مشروط، وملكه بحفظ الله وكلاءته مضبوط. والمذاهب مهذبة، والمراتب مرتبة، والأسباب محكمة والأحكام مسببة. والأحوال حالية، والأعمال راضية. والمصالح مصونة؛ والمناجح مضمونة. والرعية مرعية، والعوائد مرضية. والقواعد متأثلة، والمقاصد متحصلة. والثغور مسدودة، والخطوب مصدودة. وأصول الدولة ثابتة، وفروع الدوحة نابتة. وما ترك أمرا بعده غير مستقيم، ولا نهجا غير قويم. ولا خلف لمن خلفه ما يحتاج إلى تقريبه وتقريره، ولا أبقى لمن بقى له ما يفتقر إلى ترتيبه وتدبيره. وما خرج من الدنيا إلا وهو في حكم الطاعة الامامية داخل، وبمتجرها الرابح إلى دار المقامة راحل. ولم تكن له وصية إلا بالاستمرار على جادتها، والاستكثار من مادتها، والاستسعاد بسعادتها، والاستعداد لعبادتها. والاستجارة بضلالها، والاستنارة بجلالها، والاستعاذة بفضلها، والاستزادة من أفضالها. وما بنيت القواعد إلا على أساس وصاياه، ولا أمضيت العوائد إلا على قياس سجاياه. ولا أبرم إلا ما عقده، ولا أحكم إلا ما أكده. واقتفيت آثاره، واجتليت انواره، واتبع إيثاره، وأثمرت في ائتمار الأوامر الشريفة أوامره، ومن كان في نصرة الدولة الامامية الناصرية فإن الله ناصره. وما يفتخر العبد إلا بما ورثه في ولائها من الفخار، وبعثه من آلائها الغزار، ونعشه برفعه من

ذكر مناقب السلطان رحمه الله

العثار، وعرفه بعرفه المبر المبار. ولا يتسم بالملك إلا من يتسامى بأنه لها ملوك، ولا يوصل إلى السعادة الأبدية إلا مسلك إلى رضاها مساوك. ولئن مضى الوالد على طاعة امامه؛ فالمماليك أولاده وأخوه في مقامه، والأمر في كل مكان بالأمن والسكون جار على نظامه، والكفر مفلول الغرب، مخلول الحزب، مجبول على الرعب، مغلول بقيد السلم عن الحرب، فإن الله أجرى المشركين مع كثرتهم على حكم القلة، وخصهم لإبقاء عزة الثغور الإسلامية بالذلة. وقد استمرت الحال إلى الآن على الهدنة، وهم لا يؤمنون إذا أحسوا بالمكنة. فإن الغدر في طباعهم مركوز، والسوء في غزائرهم مغروز. والعبد آخذ بالحزم، عائذ بتأييد الله في العزم. متيقظ لمخوف غدرهم، متحفظ من مكر مكرهم. مستعد بكل أمكان، مستجد كل ما يفتقر إليه من نجدة وقوة بكل مكان. مستظهرا بما تأكد من مظاهرة المواقف المقدسة في أموره، مستبشر وج وجاهته منها بسفوره. ظاهر بقوته من أيدها وأياديها قوي بظهوره. مدل بما له من الموات الأكيدة، والسوابق الحميدة. والشوافع المقبولة، والذرائع الموصولة. موقن أن الرعاية تدركه، وأن العناية تملكه. وأن اختصاصه بفضيلة الماتة القديمة يجد له فضل الاختصاص، وأن فاتحة الحمد منه والإخلاص، تفتح له باب الاحماد والاستخلاص. ولما قصر رجاءه على طوله بذلك الطول؛ وأنه يزداد بما يزدان به من الاصطفاء والاصطناع حسن الحلية وقوة النصرة والحول؛ عول على القاضي ضياء الدين في المثول بالخدمة الشريفة وانهاء حاله، والانتهاء إلى مناجح آماله. والسفارة فيما يسفر عن صبح المراشد، ونجح المقاصد، ونصح العقائد، وشرح الأحوال في المصادر والموارد. وأن برغته وقية بالابلاغ، ملية بإشباع القول؛ في اعتفاء الطول الملي بالإسباغ. وقد فاوضه فيما فوضه إليه، واعتمد في استنجازه واستنجاحه عليه. لا زالت أيادي الدار العزيزة دارة غزيرة، سارة أولياءها وبإحياء موات مواتها جديرة إن شاء الله تعالى. ذكر مناقب السلطان رحمه الله كان مشغوفا في سبيل الله بالإنفاق، موقوفا عزمه في الأعداء بإدناء الآجال، وفي الأولياء بإجراء الأرزاق. وما عقر في سبيل الله فرس أو جرح؛ إلا وعوض مالكه بمثله، وزاده من فضله. وحسب ما وهبه من الخيل العراب والاكاديش الجياد للحاضرين معه في صف الجهاد؛ مدة ثلاث سنين؛ مذ نزل الفرنج على عكاء في رجب سنة خمس وثمانين، إلى يوم انفصالهم بالسلم في شعبان سنة ثمان وثمانين، فكان تقديره أثني عشر ألف رأس من حصان وحجر، واكديش طمر. وذلك غير ما أطلقه من المال، في أثمان الخيل المصابة في القتال. ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به،

وصاحبه ملازم في طلبه، وما حضر اللقاء إلا استعار فرسا فركبه وهجر جياده، فإذا نزل جاء صاحبه فاستعاده. فكلهم يركب خيله، ويطلب خيره. وهو يستعير جوادا، ويستعر في الجهاد اجتهادا. وكان لا يلبس إلا ما يحل لبسه، وتطيب به نفسه؛ كالكتان والقطن والصوف، وكسرته يخرجها في إسداء المعروف. وكانت محاضرة مصونة من الحظر، وخلواته مقدسة بالطهر. ومجالسه منزهة من الهزء والهزل، ومحافله حافلة آهلة بأهل الفضل. وما سمعت له قط كلمة تسقط، ولا لفظة فظة تسخط. يغلظ على الكافرين الفاجرين، ويلين للمؤمنين المتقين. ويؤثر سماع الحديث بالأسانيد، وتكلم العلماء عنده في العلم الشرعي المفيد. وكان لمداومة الكلام مع الفقهاء؛ ومشاركة القضاة، اعلم منهم بالأحكام الشرعية، والأسباب المرضية، والأدلة المرعية. وكان من جالسه لا يعلم إنه جليس السلطان، بل يعتقد إنه جليس أخ من الأخوان. وكان حليما مقيلا للعثرات، متجاوزا عن الهفوات، نقيا تقيا، وفيا صفيا. يغضي ولا يغضب، ويبشر ولا يتقطب ما رد سائلا، ولا صد نائلا، ولا أخجل قائلا، ولا خيب آملا. ومن جملة مناقبه، إنه تأخر عنه في بعض سفراته الأمير أيوب بن كنان مشتغلا بمهماته؛ فلما وصل سأله عن سبب تخلفه، وما الذي وقفه عن موقفه. فذكران غرماءه لجوا وألحوا، وضنوا بإطلاقه وشحوا. فأحضر غرماءه وتقبل بالدين، وتكفل بالعين. وأمرني بأن أحيلهم على مصر فحسبتها وهي اثنا عشر ألف دينار مصرية وكسر. فقدم نوابه وفاءها على الحمل، لما عرفوا فيه من بغض صون المال وحب البذل للفضل. ولما كنا بالقدس في سنة ثمان وثمانين، كتب إليه سيف الدولة ابن منقذ من مصر وهو بها نائبه، وقد وضحت في الكفاية مذاهبه؛ ان واحدا ضمن معاملة بمبلغ فاستنض منها ألفي دينار وتسحب، وربما وصل إلى الباب وتحيل وتمحل، وخيل وكذب، فجاء إلى السلطان من أخبره أن الرجل على الباب وخال إنه إليه به تقرب. فقال: قل له إن ابن منقذ يطلبك فاجتهد ألا تقع في عينه، فعجبنا من حلمه وكرمه، بعد أن قلنا قدم الرجل بقدمه إلى حينه. ومما أذكره له في أول سفري معه إلى مصر سنة اثنتين وسبعين؛ ووردت بها من فضله العذب المعين؛ إنه حوسب صاحب ديوانه عما تولاه في زمانه؛ فكانت سياقه الحساب عليه سبعين ألف دينار باقية عليه. فما طلبها ولا ذكرها، واراه كأنه ما عرفها. على أن صاحب الديوان ما أنكرها. وكان يرضى من الأعمال بما يحمل عفوا صفوا، ويحصل عذبا حلوا. وكله يخرج في الجود والجهاد، ورعاية الوفاد والقصاد. ثم لم يرض لصاحب ديوانه المذكور بالعطلة؛ ولم ير انزواءه في بيت العزلة؛ فولاه ديوان جيشه، وأولاه ما دنت له به مجاني جاهه وعيشه. ولما كنا بظاهر حران في سنة إحدى وثمانين. عم بصدقاته الفقراء والمساكين،

وكتب إلى نوابه في الولايات، بإخراج الصدقات وقال لي: أكتب إلى الصفي بدمشق أن يتصدق بخمسة آلاف دينار صورية. فقلت له: الذهب الذي عنده مصري، قال: فيتصدق بخمسة آلاف مصرية، وأشفق من صرف المصري بالصوري فيكون حراما، ويرتكب في كسب الأجر آثاما. فسمح ومنح، وتاجر (مع) الله وربح. وسمعت بعد ذلك اصفي - وكان في الخبر مجلي كل مضمار - يقول: قد أحصيت فقهاء المدارس بدمشق - وكانوا ستمائة - فأطلقت لهم ستمائة دينار. ولما عزم على الرحيل من حران؛ أفاض بها الفضل وبث الإحسان. وقال لي يوم الرحيل: انظر كم بقي بالباب من الوافدين أبناء السبيل، وهذه ثلاثمائة دينار أقسمها عليهم بالقلم، وفضل على أقدارهم في القسم، وكانوا عدة يسرة لم تبلغ عشرة، ولم تجد ميسرة، فعينت لكل اسم قسما، وعنيت بهم خلقا منى وريما. فبلغ أربعمائة دينار. ثم وقفت أفكر وأردد النظر إليه وأكرر. فسألني: ما الذي عملت، وهل قسمت المبلغ وكملت، فقلت: جرى قلمي بقسمة أربعمائة دينار، فهل انقص من كل اسم ربعا؟. فقال أجر ما جرى به القلم، وأحسن صنعا. وكان رحاه إذا أطلق لعارف عارفه. وقلت له: هذه ما تكفيه ردها مضاعفة، وكان أصحاب المظالم، وأرباب المطالب، والراغبون في الرغائب، والذاهبون في المذاهب، يحضرون عندي، ويعرفون في إنجاز أمرهم وإنجاح قصدهم بذل جهدي. فأكتب لهم توقيعات بمتوقعاتهم، وأنتهى في الإملاء بنهاية مأمولاتهم. فيجريها ويمضيها، ويضع علاماته فيها ويرتضيها، وإذا ألفى توقيعا بخطى علم فيه، ولم يقف بنشره على سر مطاويه. ألفا بما ألفه من صحبتي ومناصحتي، وكفاء للملمات وكفاية للمهمات لكفايتي. وكان يأمرني بكتابة كتب الملوك وأصحاب الأطراف عن كتبهم في حالتي سلمهم وحربهم. وهي تشتمل على أسباب متنوعة، وآراب متفرعة، بحسب الحوادث المتجددة، والبواعث المتمهدة. فإذا قلت له: بماذا اكتب، وما أخطب؟ فيقول: أنت أعرف وبحسب ما تعلم من حالنا تتصرف. فاكتب من عندي بالإجابة، وتوافق منه الإصابة. فقد كنت مطلعا على سره، مضطلعا بأمره. ما يخفى عني مراده، وأنا متيقن لمن ولاؤه ووداده. فآتى بمداناة الأعراض، ومداواة الأمراض، وموازنة الجواهر والأعراض، والتمييز بين أهل القبول وأهل الإعراض. فكم أصلح قلمي بينه وبين من عاداه، وراض الجامح من سخطه وقاده إلى مدى رضاه. وكان يغضب للكبائر، ولا يغضى عن الصغائر. ويرشد إلى الهدى ويهدي إلا الرشاد، ويسدد الأمر ويأمر بالسداد. فكان مماليكه وخواصه، بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد والعباد. ورأى يوم لي دواة؛ بالفضة محلاة، فأنكر حل الحلية، وأدعى حظر القنية. فقلت على سبيل المدافعة؛ وطريق المناظرة والممانعة؛ أو ليس تحل حلية السلاح، واستصحابه

في الكفاح فدواء دواتي أنجع، ومدد مدادي أنفع، ويراع براعتي القصير أطول، وسلاح قلمي أجذ واحد وافتك وأقتل، وما اجتمعت هذه العساكر الإسلامية الا بقلمي، ولا تفرقت جموع الكفر إلا بكلمها من جوامع كلمي. فقال: ما هذا بدليل، ولا يعيد تحريما إلى تحليل. حتى فلت له: أن الشيخ أبا محمد - والد الإمام أبي المعالي - قد ذكر وجها في جوازه ونحن نتبعه، فلا وجه مع هذا الوجه المحلل لمن يحظره ويمنعه، فلم أكتب بعدها عنده إلا من الشبه، وتجنبت طرق الشبه. وتركت المحلاة - مخلاة، وعادت الشبهية مجتباة مجتناه. وكان محافظا على الصلوات الخمس في أوائل أوقاتها، مواظبا على أداء مفروضاتها ومسنوناتها، فما رأيته صلى إلا في جماعة، ولم يؤخر له صلاة من ساعة إلى ساعة. وكان له إمام راتب، ملازم مواظب. فإن غاب يوما صلى به من حضره من أهل العلم، إذا عرفه متقيا متجنبا للإثن. وكانت لملازمتي إياه إماما في الصلوات ومستشارا في المشورات. وكان يأخذ بالشرع ويعطي به، وينفق من حل المال وطيبه. ويجود بالموجود، وبالمعدوم في الحال رجاء الوجود، فما تتجدد إلا ويستوعبها إنجاز الوعود. ولم يكن إلى المنجم مصغيا، ولم يزل لقوله ملغيا. فما عنده منجي لمن جاء بمين المنجمين، ولا قبول لمنطق المنطقيين. فلا يفضل يوما على يوم، ولا زمانا على زمان، إلا بتفضيل الشرع واستقصاء الدين في كل قاص ودان. ولا يتعيف ولا يتطير، ولا يعين وقتا ولا يتخير. بل إذا عزم نوكل على الله، وأقبل على محكم أمره وأعرض عن مظان الاشتباه. فكم فل سفه الفلسفة، ودل بمعروفه على المعرفة. وما زال ناصرا للتوحيد؛ قامعا جمع أهل البدع بالتبديد، مستجليا سنى السنة، مستحليا جنى الجنة. شافعي المذهب أصولا وفروعا، معتقدا له معقولا ومسموعا. يدني أهل التنزيل، ويقصى أهل التشبيه، ويديم استفادة فقه الفقيه، واستزادته بنباهة النبيه، ووجاهة الوجيه. فالعللون في عدله، والعللون في فضله، والبلاد في أمنه، والعباد في منه، والبرية في بر سعيه. والإسلام في حماية حميته، والدين في ادالة دولته. وشرعة الشريفة صافية بصفائه، ومادة المودة المودة له وافية لوفائه. وقامت بعده طريرة طرية، من العار عرية، وببر البرية من الشائبات والشائنات برية، وبالحرية حرية. وبسرور السريرية. فقد عزت وفضلت وظهرت بعزيزها، وأفضلها وظاهرها، وفخرت بمفاخرها، ورويت بروائهم آثار مآثرها، وتبلجت الآفاق وتأرجت بحسن تباشيرها وطيب بشائرها، وبرزت الأرض في أزهارها والسماء في زواهرها. والحمد لله مجرى الأقدار، ومصفى الاكدار، ومدبر الليل والنهار، ومدبر الإيراد والإصدار. وسلم تسليما كثيرا آمين.

§1/1